﴿ولقد مننا عليك مرّة أخرى﴾ أي: أنعمنا عليك في وقت آخر وفي ذلك تنبيه على أمور أحدها: كأنه تعالى قال: إني راعيت مصلحتك قبل سؤالك فكيف لا أعطيك مرادك بعد السؤال ثانيها: إني كنت ربيتك فلو منعتك الآن كان ذلك ردّاً بعد القبول وإساءة بعد الإحسان فكيف يليق بكرمي ثالثها: إنّا أعطيناك في الأزمنة السالفة كل ما احتجت إليه ورقيناك الدرجة العالية وهي منصب النبوّة فكيف يليق بمثل هذه التربية المنع عن المطلوب فإن قيل: لم ذكر تلك النعم بلفظ المنة مع أنّ هذه اللفظة مؤذية والمقام مقام تلطف؟ أجيب: بأنه إنما ذكر ذلك ليعرف موسى عليه السلام أنّ هذه النعم التي وصل إليها ما كان مستحقاً لشيء منها بل إنما خصه الله تعالى بها لمحض فضله وإحسانه، فإن قيل: لم قال مرّة أخرى مع أنه تعالى ذكر منناً كثيرة؟ أجيب: بأنه لم يعن بمرّة أخرى واحدة من المنن لأنّ ذلك قد يقال في القليل والكثير، ثم بيّن تلك المنة وهي ثمانية أولها قوله تعالى:
(٥/٢٥٥)
﴿إذ أوحينا إلى أمّك﴾ وحياً لا على وجه النبوّة إذ المرأة لا تصلح للقضاء ولا للإمامة ولا تلي عند أكثر العلماء تزويج نفسها فكيف تصلح للنبوّة ويدل على ذلك قوله تعالى: ﴿وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً نوحى إليهم﴾ (النحل، ٤٣)
والوحي جاء لا بمعنى النبوّة في القرآن كثيراً قال تعالى: ﴿وأوحى ربك إلى النحل﴾ (النحل، ٦٨)
﴿وإذا أوحيت إلى الحواريين﴾ (المائدة، ١١١)
ثم اختلفوا في المراد بهذا الوحي على وجوه:
أحدها: أنه رؤيا رأتها أمّ موسى وكان تأويلها وضع موسى في التابوت وقذفه في البحر وأنّ الله تعالى يردّه عليها.
ثانيها: أنه عزيمة جازمة وقعت في قلبها دفعة واحدة.
(٥/٢٥٦)


الصفحة التالية
Icon