فإن قيل: كيف يطابق هذا قوله تعالى: ﴿إنه كان﴾ أي: أزلاً وأبداً ﴿غفوراً رحيماً﴾؟ أجيب: بأنه لما كان ما يقدمه في معنى الوعيد عقبه بما يدل على القدرة عليه؛ لأنه لا يوصف بالرحمة والمغفرة إلا القادر على العقوبة، أو هو تنبيه على أنهم استوجبوا بمكابرتهم هذه أن يصب عليهم العذاب صباً، ولكن صرف ذلك عنهم؛ لأنه غفور رحيم يمهل ولا يعاجل.
الشبهة الثالثة: قوله تعالى:
﴿وقالوا ما لهذا الرسول﴾ أي: ما لهذا الذي يزعم الرسالة، وفيه استهانة وتهكم وتصغير لشأنه، وتسميته بالرسول سخرية منه كأنهم قالوا: ما لهذا الزاعم أنه رسول، ونحوه قول فرعون: ﴿إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون﴾ (الشعراء، ٢٧)، أي: إن صح أنه رسول الله فما باله حاله مثل حالنا ﴿يأكل الطعام﴾ أي: كما نأكله ﴿ويمشي﴾ أي: ويتردد ﴿في الأسواق﴾ لطلب المعاش كما نمشي، فلا يجوز أن يمتاز عنا بالنبوة يعنون: أنه يجب أن يكون ملكاً مستغنياً عن الأكل والشرب والتعيش، وكذلك كانوا يقولون له: لست أنت بملك؛ لأنك تأكل الطعام، والملك لا يأكل، ولأن الملك لا يتسوق وأنت تتسوق، وما قالوه فاسد؛ لأن أكله الطعام لكونه آدمياً ومشيه في الأسواق لتواضعه، وكان ذلك صفته في التوراة، ولم يكن صخاباً في الأسواق، وليس شيء من ذلك ينافي النبوة، ولأنه لم يدع أنه ملك من الملوك، ثم نزلوا عن اقتراحهم أن يكون ملكاً إلى اقتراح أن يكون إنساناً معه ملك حتى يسانده في الإنذار والتخويف، فقالوا: ﴿لولا﴾ أي: هلا ﴿أنزل إليه ملك﴾ أي: يصدقه ويشهد له ﴿فيكون معه نذيراً﴾ أي: داعياً، ثم نزلوا أيضاً إلى أنه لم يكن مرفوداً بملك، فليكن مرفوداً بكنز، فقالوا:
(٦/١٩٦)