أي: لا يبغي أحدهما على صاحبه بالملوحة أو العذوبة، فانتقاء البغي كالتعوذ ههنا، ثم جعل كل واحد منهما في صورة الباغي على صاحبه فهو يتعوذ منه وهو من أحسن الإستعارات وأشهدها على البلاغة فإن قيل: لا وجود للبحر العذب فكيف ذكره الله تعالى هنا؟ أجيب: بأن المراد منه الأودية العظام كالنيل وجيحون ومن البحر الأجاج البحار الكبار. ثم ذكر النوع الخامس بقوله تعالى:
﴿وهو﴾ أي: وحده ﴿الذي خلق من الماء﴾ أي: المني من الرجل والمرأة ﴿بشراً﴾ أي: إنساناً ﴿فجعله﴾ أي: بعد ذلك بالتطوير في أطوار الخلقة والتدوير في أدوار التربية ﴿نسباً﴾ أي: ذكراً ينسب إليه ﴿وصهراً﴾ أي: أنثى يصاهر بها فيقسم هذا الماء بعد التطوير إلى ذكر وأنثى كما جعل ذلك الماء قسمين عذباً وملحاً ونحو هذا قوله تعالى: ﴿فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى﴾ (القيامة، ٣٩)، وقيل: النسب ما لا يحل نكاحه، والصهر ما يحل نكاحه، فالنسب ما يوجب الحرمة، والصهر ما لا يوجبها، قال البغوي: وقيل وهو الصحيح: النسب من القرابة والصهر الخلطة التي تشبه القرابة وهو النسب المحرم للنكاح، وقد ذكر الله تعالى أنه حرم للنسب سبعاً في قوله تعالى في النساء: ﴿حرمت عليكم أمهاتكم﴾ (النساء، ٢٣)
﴿وكان ربك﴾ أي: المحسن إليك بإرسالك وإنزال هذا الذكر إليك ﴿قديراً﴾ حيث خلق من مادة واحدة بشراً ذا أعضاء مختلفة وطبائع متباعدة، وجعله قسمين ذكراً وأنثى، وربما يخلق من نطفة واحدة نوعين ذكراً وأنثى فهو يوفق من يشاء فيجعله عذب المذاق سهل الأخلاق، ويخذل من يشاء فيجعله مر الأخلاق كثير الشقاق غريقاً في النفاق، ولما ذكر تعالى دلائل التوحيد عاد إلى تهجين سيرتهم، فقال تعالى:
(٦/٢٤٠)