﴿وما بينهما﴾ من المعاني التي بها كمال منافعهما ﴿إلا﴾ خلقاً متلبساً ﴿بالحق﴾ أي: الأمر الثابت الذي يطابقه الواقع، فإذا ذكر البعث الذي هو مبدأ الآخرة التي هذا أسلوبها وجد الواقع في تصوير النطف ونفخ الروح وتمييز الصالح منهما للتصوير من الفاسد يطابق ذلك، وإذا تدبر النبات بعد أن كان هشيماً قد نزل عليه الماء فزها واهتز وربا وجده مطابقاً لأمر البعث، وإذا ذكر القدرة فرأى اختلاف الليل والنهار وسير الكواكب الصغار والكبار، وإمطار الأمطار وإجراء الأنهار، ونحو ذلك من الأسرار رآه مطابقاً لكل ما يخطر بالبال، ولما كان عندهم أن هذا الوجود حياة وموت لا إلى نفاد قال تعالى ﴿وأجل﴾ لا بد أن ينتهي إليه ﴿مسمى﴾ أي: في العلم من الأزل، لذلك يفنى عند انتهائه وبعده البعث، ولما كانوا ينكرون أنهم على كفر أكد قوله تعالى ﴿وإن كثيراً من الناس﴾ مع ذلك على وضوحه ﴿بلقاء ربهم﴾ أي: الذي ملأهم إحساناً برجوعهم في الآخرة إلى العرض عليه للثواب والعقاب ﴿لكافرون﴾ أي: لا يؤمنون بالبعث بعد الموت.
فإن قيل: ما الفائدة في قوله تعالى ههنا ﴿وإن كثيراً من الناس﴾ وقال من قبل ﴿ولكن أكثر الناس﴾؟ أجيب: بأن فائدته أنه من قبل لم يذكر دليلاً على الأصلين وههنا قد ذكر الدلائل الراسخة والبراهين اللائحة، ولا شك في أن الإيمان بعد الدليل أكثر من الإيمان قبل الدليل. فبعد الدليل لا بد أن يؤمن من ذلك جمع فلا يبقى الأكثر كما هو، فقال بعد إقامة الدليل: و﴿إن كثيراً﴾ وقال قبله: ﴿ولكن أكثر الناس﴾ لأنه بعد الدليل لا يمكن الذهول عنه وهو السموات والأرض لأن من البعيد أن يذهل الإنسان عن السماء التي فوقه والأرض التي تحته، فلهذا ذكر ما يقع الذهول عنه وهو أمثالهم وحكاية أشكالهم فقال:
(٧/٣٥٥)