وأما في عذاب الآخرة فالذي يصلح للتخويف به هو العظيم والكبير لا البعيد؛ لما ذكر. فقال في عذاب الدنيا: العذاب الأدنى ليحترز العاقل ولو قال تعالى: ولنذيقنهم من العذاب الأصغر ما كان ليحترز عنه لصغره وعدم فهم كونه عاجلاً، وقال في عذاب الآخرة: الأكبر لذلك المعنى، ولو قال: من العذاب الأبعد الأقصى لما حصل التخويف به مثل ما يحصل بوصفه من الكبر ﴿لعلهم يرجعون﴾ إلى الإيمان أي: من بقي منهم بعد بدر، فإن قيل: ما الحكمة في هذا الترجي وهو على الله تعالى محال، أجيب بوجهين: أحدهما: معناه لنذيقنهم إذاقة الراجي كقوله تعالى ﴿إنا نسيناكم﴾ يعني تركناكم كما يترك الناسي حيث لا يلتفت إليه أصلاً كذلك هنا، والثاني: نذيقنهم العذاب، إذاقة يقول القائل: لعلهم يرجعون بسببه.
﴿ومن﴾ أي: لا أحد ﴿أظلم ممن ذكر بآيات ربه﴾ أي: القرآن ﴿ثم أعرض عنها﴾ فلم يتفكر فيها، وثم لاستبعاد الإعراض عنها مع فرط وضوحها وإرشادها إلى أسباب السعادة بعد التذكر بها عقلاً كما في بيت الحماسة:
*وما يكشف الغماء إلا ابن حرة | يرى غمرات الموت ثم يزورها* |
أي: لا يكشف الأمر العظيم إلا رجل كريم موصوف بما ذكر، والغماء بتشديد الميم والمد أي: في مدة اقتحام الحرب، والشاهد في قوله: ثم يزورها، إذ المعنى أنه استبعد أن يزور غمرات الموت بعد أن رآها واستيقنها واطلع على شدتها ﴿إنا من المجرمين﴾ أي: الكافرين ﴿منتقمون﴾ وعبر بصيغة العظمة تنبيهاً على أن الذي يحصل لهم من العذاب لا يدخل تحت الوصف على مجرد العداد في الظالمين فكيف إذا كانوا أظلم الظالمين، والجملة الاسمية تدل على دوام ذلك عليهم في الدنيا أما باطناً بالاستدراج بالنعم، وأما ظاهراً بإحلال النقم وفي الآخرة بدوام العذاب على ممر الآباد.
ولما قرر الأصول الثلاثة وعاد إلى الأصل الذي بدأ به وهو الرسالة المذكورة في قوله تعالى ﴿لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير﴾ (القصص: ٤٦)