ولما كان استقرار شيء في البحر دون غرق أمراً غريباً لكنه صار لشدة ألفه لا يقوم بأنه من أكبر الآيات دلالة على القادر المختار إلا أهل البصائر خص بالخطاب فقال ﴿وترى الفلك﴾ أي: السفن سمى فلكاً لدورانه وسفينة لقشره الماء، وقدم الظرف في قوله تعالى ﴿فيه﴾ لأنه أشد دلالة على ذلك ﴿مواخر﴾ أي: جواري مستدبرة الريح شاقة للماء بجريها هذه مقبلة وهذه مدبرة وجهها إلى ظهر هذه بريح واحدة يقال: مخرت السفينة الماء ويقال للسحاب: بنات مخر؛ لأنها تمخر الهواء، والسفن الذي اشتقت منه السفينة قريب من المخر؛ لأنها تسفن الماء كأنها تقشره كما تمخره ثم علق بالمخر معللاً قوله تعالى ﴿لتبتغوا﴾ أي: تطلبوا طلباً شديداً ﴿من فضله﴾ أي: الله بالتوصل بذلك إلى البلاد الشاسعة للمتاجر وغيرها، ولو جعلها ساكنة لم يترتب عليها ذلك ولم يجر به ذكر في الآية ولكن فيما قبلها، ولو لم يجر لم يشكل لدلالة المعنى عليه ﴿ولعلكم تشكرون﴾ أي: وليكون حالكم بهذه الدالة على عظيم قدرة الله تعالى ولطفه حال من يرجى شكره.
تنبيه: حرف الرجاء مستعار لمعنى الإرادة ألا ترى كيف سلك به مسلك لام التعليل؟ كأنما قيل: لتبتغوا ولتشكروا.
ولما ذكر تعالى اختلاف الذوات الدالة على بديع صنعه أتبعه اختلاف الأزمنة الدالة على بديع قدرته بقوله تعالى:
﴿يولج﴾ أي: يدخل الله ﴿الليل في النهار﴾ فيصير الظلام ضياء.
ولما كان هذا الفعل في غاية الإعجاب وكان لكثرة تكراره قد صار مألوفاً فغفل عما فيه من الدلالة على تمام القدرة نبه عليه بإعادة الفعل بقوله تعالى: ﴿ويولج النهار في الليل﴾ فيصير ما كان ضياء ظلاماً، وتارة يكون التوالج بقصر هذا وطول هذا فدل كل ذلك على أنه تعالى فاعل بالاختيار.
(٩/٩٤)