قال الرازي: حضرت في مجلس وفيه بعض الأكابر فكان يريد أن يتعصب لتقرير ذلك القول الفاسد والقصة الخبيثة بسبب اقتضى ذلك فقلت له: لا شك أن داود عليه السلام كان من أكابر الأنبياء والرسل، وقال الله تعالى: ﴿الله أعلم حيث يجعل رسالاته﴾ (الأنعام: ١٢٤)
ومن مدحه الله تعالى بمثل هذا المدح العظيم لم يجز لنا أن نبالغ في الطعن فيه وأيضاً بتقدير أنه ما كان نبياً فلا شك أنه كان مسلماً وقال ﷺ «لا تذكروا موتاكم إلا بخير» وذكرت له أشياء أخر قال: سكت ولم يذكر شيئاً.
فإن قيل: قد ذكر هذه القصة كثير من المحدثين والمفسرين. أجيب: بأنه لما وقع التعارض بين الدلائل القاطعة وبين خبر واحد من أخبار الآحاد كان الرجوع إلى الدلائل القطعية واجباً والمحققون يردون هذا القول ويحكمون عليه بالكذب، وأما القول الثاني: فقالوا: تحمل هذه القصة على حصول الصغيرة لا على حصول الكبيرة وذلك من وجوه: الأول: أن هذه المرأة خطبها أوريا فأجابوه ثم خطبها داود عليه السلام فآثره أهلها فكان ذنبه أن خطب على خطبة أخيه المؤمن مع كثرة نسائه. الثاني: قالوا: إنه وقع بصره عليها فمال قلبه إليها وليس له في هذا ذنب البتة أما وقوع بصره عليها بغير قصد فليس بذنب وأما حصول الميل عقب النظر فليس أيضاً ذنباً لأن الميل ليس في وسعه فليس مكلفاً به بل لما اتفق أنه قتل زوجها تزوج بها. الثالث: أنه كان أهل زمان داود عليه السلام يسأل بعضهم بعضاً أن يطلق زوجته حتى يتزوجها وكانت عادة مألوفة معهودة في هذا المعنى فاتفق أن عين داود عليه السلام وقعت على تلك المرأة فأحبها فسأله النزول عنها فاستحيا أن يرده ففعل وهي أم سليمان، فقيل له ذلك، وإن كان جائزاً في ظاهر الشريعة إلا أنه لا يليق بك فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين، فهذه وجوه ثلاثة لو حملت هذه القصة على واحد منها لم يلزم في حق داود عليه السلام إلا ترك الأفضل والأولى.
(٩/٢٩٥)


الصفحة التالية
Icon