فإن قيل: إذا كانت الآية غير منسوخة فكيف الجمع بين الآيتين، وما وجه الأمر باتقائه حق تقاته مطلقاً من غير تخصيص ولا مشروطاً بشرط، والأمر باتقائه بشرط الاستطاعة؟ أجيب: بأن قوله تعالى: ﴿فاتقوا الله ما استطعتم﴾ معناه: فاتقوا الله أيها الناس وراقبوه فيما جعله فتنة لكم من أموالكم وأولادكم أن تغلبكم فتنتهم وتصدكم عن الواجب لله عليكم من الهجرة من أرض الكفر إلى أرض الإسلام فتتركوا الهجرة وأنتم مستطيعون، وذلك أن الله تعالى قد عذر من لم يقدر على الهجرة بتركها بقوله تعالى: ﴿إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم﴾ إلى قوله تعالى: ﴿فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم﴾ (النساء: ٩٩)
فأخبر تعالى أنه قد عفا عمن لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلاً بالإقامة في دار الشرك، فكذلك معنى قوله تعالى: ﴿ما استطعتم﴾ في الهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام أن تتركوها فتنة أموالكم وأولادكم، ويدل على صحة هذا أن قوله تعالى: ﴿فاتقوا الله ما استطعتم﴾ عقب قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم﴾ ولا خلاف بين علماء التأويل في أن هذه الآيات نزلت بسبب قوم كفار تأخروا عن الهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام بتثبيط أولادهم إياهم عن ذلك كما تقدم، وهذا اختيار الطبري.
وقال ابن جبير: قوله تعالى: ﴿فاتقوا الله ما استطعتم﴾ أي: فيما يتطوع به من نافلة أو صدقة، فإنه لما نزل قوله تعالى: ﴿اتقوا الله حق تقاته﴾ اشتدت على القوم فقاموا حتى ورمت وقرحت جباههم فأنزل الله تعالى تخفيفاً فيهم ﴿فاتقوا الله ما استطعتم﴾ فنسخت الأولى.
(١٢/١٩٣)


الصفحة التالية
Icon