ولما كان ذلك أمراً إلا يكاد يحيط به الوهم بقوله تعالى مهوّلاً له بالتأكيد والإظهار في موضع الإضمار: ﴿إن الله﴾ أي: المحيط بكل كمال المنزه عن كل شائبة نقص ﴿بالغ أمره﴾ أي: جميع ما يريده فلا بد من نفوذه سواء حصل توكل أم لا، قال مسروق: يعني قاضٍ أمره فيمن توكل عليه وفيمن لم يتوكل عليه، إلا أن من توكل عليه يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجراً. وقرأ حفص: بالغ، بغير تنوين وأمره بالجر مضاف إليه على التخفيف، والباقون بالتنوين، وأمره بنصب الراء وضم الهاء. قال ابن عادل: وهو الأصل خلافاً لأبي حيان ﴿قد جعل الله﴾ أي: الملك الذي لا كفء له ولا معقب لحكمه جعلاً مطلقاً من غير تقييد بجهة ولا حيثية ﴿لكل شيء﴾ كرخاء وشدة ﴿قدراً﴾ أي: تقديراً لا يتعداه في مقداره وزمانه وجميع عوارضه وأحواله، وإن اجتهد جميع الخلائق في أن يتعداه. فمن توكل استفاد الأجر، وخفف عنه الألم، وقذف في قلبه السكينة، ومن لم يتوكل لم ينفعه ذلك، وزاد ألمه وطال غمه بشدة وخيبة أسبابه التي يعتقد أنها هي المنجية. فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط جف القلم فلا يزاد في المقادير شيء، ولا ينقص منها شيء.
ويحكى أن رجلاً أتى عمر فقال: أولني مما أولاك الله، فقال: أتقرأ القرآن، قال: لا، قال: إنا لا نولي من لا يقرأ القرآن، فانصرف الرجل واجتهد حتى تعلم القرآن رجاء أن يعود إلى عمر فيوليه فلما تعلم القرآن تخلف عن عمر فرآه ذات يوم فقال: يا هذا أهجرتنا؟ فقال: يا أمير المؤمنين لست ممن يهجر، ولكني تعلمت القرآن فأغناني الله عن عمر وعن باب عمر، قال: فأي آية أغنتك قال: قوله تعالى: ﴿ومن يتق الله يجعل له مخرجاً﴾ فمن توكل على غيره سبحانه ضاع، لأنه لا يعلم المصالح وإن علم لا يعلم كيف يستعملها، وهو سبحانه المنفرد بعلم ذلك كله ولا يعلمه حق علمه غيره.
(١٢/٢٠٩)