فإن قيل: الدعاء على الإنسان إنما يليق بالعاجز فالقادر على الكل كيف يليق به ذلك، والتعجب أيضاً إنما يليق بالجاهل بسبب الشيء، فالعالم به كيف يليق به ذلك؟ أجيب: بأنّ ذلك ورد على أسلوب كلام العرب لبيان استحقاقهم لأعظم العقاب حيث أتوا بأعظم القبائح. كقولهم إذا تعجبوا من شيء: قاتله الله ما أحسنه، وأخزاه الله ما أظلمه، والمعنى: اعجبوا من كفر الإنسان بجميع ما ذكرنا بعد هذا.
وقيل: الاستفهام استفهام تحقير له فذكر أوّل مراتبه وهو قوله تعالى: ﴿من نطفة خلقه﴾ ولا شك أنّ النطفة شيء حقير مهين، ومن كان أصله ذلك كيف يتكبر وقوله تعالى: ﴿فقدّره﴾ أي: أطواراً وقيل: سوّاه كقوله تعالى: ﴿ثم سوّاك رجلاً﴾ (الكهف: ٣٧)
أو قدّر كل عضو في الكيفية والكمية بالقدر اللائق لمصلحته كقوله تعالى: ﴿وخلق كل شيء فقدّره تقديراً﴾ (الفرقان: ٢)
ثم ذكر المرتبة الوسطى بقوله تعالى: ﴿ثم﴾ بعد انتهاء المدّة ﴿السبيل﴾ أي: طريق خروجه من بطن أمّه ﴿يسره﴾ أي: سهل له أمره في خروجه بأن فتح له الرحم وألهمه الخروج منه، ولا شك أنّ خروجه من أضيق المسالك من أعجب العجائب يقال: إنه كان رأسه في بطن أمّه من فوق ورجلاه من تحت، فإذا جاء وقت الخروج انقلب فمن الذي أعطاه ذلك الإلهام المراد، ومنه قوله تعالى: ﴿وهديناه النجدين﴾ (البلد: ١٠)
أي: التمييز بين الخير والشرّ.
(١٣/٣٦٠)
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سبيل الشقاء والسعادة. وقال ابن زيد: سبيل الإسلام. قال أبو بكر بن طاهر: يسر على كل أحد ما خلقه له وقدر عليه لقوله ﷺ «كل ميسر لما خلق له». ثم ذكر المرتبة الأخيرة بقوله تعالى: ﴿ثم أماته﴾ وأشار إلى إيجاب المبادرة بالتجهيز بالفاء المعقبة في قوله تعالى: ﴿فأقبره﴾ أي: جعله في قبر يستره إكراماً له، ولم يجعله ممن يلقى على وجه الأرض تأكله الطير وغيرها.