قلت : لا يخلو إمّا أن ينزل بجميع الألسنة أو بواحد منها، فلا حاجة إلى نزوله بجميع الألسنة، لأن الترجمة تنوب عن ذلك وتكفي التطويل فبقي أن ينزل بلسان واحد، فكان أولى الألسنة لسان قوم الرسول ؛ لأنهم أقرب إليه، فإذا فهموا عنه وتبينوه وتنوقل عنهم وانتشر. قامت التراجم ببيانه وتفهيمه، كما ترى الحال وتشاهدها من نيابة التراجم في كل أمّة من أمم العجم، مع ما في ذلك من اتفاق أهل البلاد المتباعدة، والأقطار المتنازحة والأمم المختلفة والأجيال المتفاوتة، على كتاب واحد، واجتهادهم في تعلم لفظه وتعلم معانيه، وما يتشعب من ذلك من جلائل الفوائد، وما يتكاثر في إتعاب النفوس وكدّ القرائح فيه، من القرب والطاعات المفضية إلى جزيل الثواب، ولأنه أبعد من التحريف والتبديل، وأسلم من التنازع والاختلاف، ولأنه لو نزل بألسنة الثقلين كلها مع اختلافها وكثرتها، وكان مستقلاً بصفة الإعجاز في كل واحد منها، وكلم الرسول العربي كل أمّة بلسانها كما كلم أمّته التي هو منها يتلوه عليهم معجزاً لكان ذلك أمراً قريباً من الإلجاء. ومعنى ﴿ بِلِسَانِ قَوْمِهِ ﴾ بلغة قومه. وقرىء :( بلسن قومه ). واللسن واللسان : كالريش والرياش، بمعنى اللغة. وقرىء :( بلُسن قومه ) بضم اللام والسين مضمومة أو ساكنة، وهو جمع لسان، كعماد وعمد وعمد على التخفيف. وقيل : الضمير في قومه لمحمد ﷺ، ورووه عن الضحاك. وأن الكتب كلها نزلت بالعربية، ثم أدّاها كل نبيّ بلغة قومه، وليس بصحيح ؛ لأنّ قوله ليبين لهم ضمير القوم وهم العرب، فيؤدّي إلى أن الله أنزل التوراة من السماء بالعربية ليبين للعرب، وهذا معنى فاسد ﴿ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء ﴾ كقوله ﴿ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ ﴾ ( التغابن : ٢ ) لأنّ الله لا يضلّ إلا من يعلم أنه لن يؤمن. ولا يهدي إلا من يعلم أنه يؤمن. والمراد بالإضلال التخلية ومنع الألطاف، وبالهداية : التوفيق واللطف، فكان ذلك كناية عن الكفر والإيمان ﴿ وَهُوَ الْعَزِيزُ ﴾ فلا يغلب على مشيئته ﴿ الْحَكِيمُ ﴾ فلا يخذل إلا أهل الخذلان، ولا يلطف إلا بأهل اللطف.
! ٧ < ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِأايَاتِنَآ أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ﴾ > ٧ !
< < إبراهيم :( ٥ ) ولقد أرسلنا موسى..... > > ﴿أَنْ أَخْرِجْ ﴾ بمعنى أي أخرج ؛ لأنّ الإرسال فيه معنى القول، كأنه قيل : أرسلناه وقلنا له أخرج. ويجوز أن تكون أن الناصبة للفعل، وإنما صلح أن توصل بفعل الأمر، لأنّ الغرض وصلها بما تكون معه في تأويل المصدر وهو الفعل والأمر، وغيره سواء في الفعلية. والدليل على جواز أن تكون الناصبة للفعل : قولهم أوعز إليه بأن أفعل، فأدخلوا