بابه، ولو لم ينزل إلاّ هذه الثلاث لكفى بها، حيث جعل القذفة ملعونين في الدارين جميعاً، وتوعدهم بالعذاب العظيم في الآخرة، وبأن ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم تشهد عليهم بما أفكوا وبهتوا، وأنه يوفيهم جزاءهم الحق الواجب الذي هم أهله، حتى يعلموا عند ذلك ﴿ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ﴾ فأوجز في ذلك وأشبع، وفصل وأجمل، وأكد وكرّر، وجاء بما لم يقع في وعيد المشركين عبدة الأوثان إلاّ ما هو دونه في الفظاعة، وما ذاك إلا الأمر. وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أنه كان بالبصرة يوم عرفة، وكان يسأل عن تفسير القرآن، حتى سئل عن هذه الآيات فقال : من أذنب ذنباً ثم تاب منه قبلت توبته إلاّ من خاض في أمر عائشة، وهذه منه مبالغة وتعظيم لأمر الإفك. ولقد برَّأ الله تعالى أربعة بأربعة : برأ يوسف بلسان الشاهد ﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّنْ أَهْلِهَا ﴾ ( يوسف : ٢٦ ). وبرأ موسى من قول اليهود فيه بالحجر الذي ذهب بثوبه. وبرّأ مريم بإنطاق ولدها حين نادى من حجرها : إني عبد الله. وبرَّأ عائشة بهذه الآيات العظام في كتابه المعجز المتلوّ على وجه الدهر، مثل هذه التبرئة بهذه المبالغات. فانظر، كم بينها وبين تبرئة أولئك ؟ وما ذاك إلاّ لإظهار علوّ منزلة رسول الله ﷺ، والتنبيه على إنافة محلّ سيد ولد آدم، وخيرة الأوّلين والآخرين، وحجة الله على العالمين. ومن أراد أن يتحقق عظمة شأنه ﷺ وتقدّم قدمه وإحرازه لقصب السبق دون كل سابق، فليتلق ذلك من آيات الإفك، وليتأمّل كيف غضب الله في حرمته، وكيف بالغ في نفي التهمة عن حجابه. فإن قلت : إن كانت عائشة هي المرادة فكيف قيل المحصنات ؟ قلت : فيه وجهان، أحدهما : أن يراد بالمحصنات أزواج رسول الله ﷺ، وأن يخصصن بأن من قذفهنّ فهذا الوعيد لاحق به، وإذا أردن عائشة كبراهنّ منزلة وقربة عند رسول الله ﷺ، كانت المرادة أوّلاً، والثاني : أنها أمّ المؤمنين فجمعت إرادة لها ولبناتها من نساء الأمّة الموصوفات بالإحصان والغفلة والإيمان، كما قال :