﴿ نَزَّلَ ﴾ ههنا بمعنى أنزل لا غير، كخبر بمعنى أخبر، وإلاّ كان متدفعاً. وهذا أيضاً من اعتراضاتهم واقتراحاتهم الدالة على شرادهم عن الحق وتجافيهم عن اتباعه. قالوا : هلا أنزل عليه دفعة واحدة في وقت واحد كما أنزلت الكتب الثلاثة، وما له أنزل على التفاريق. والقائلون : قريش. وقيل : اليهود. وهذا فضول من القول ومماراة بما لا طائل تحته ؛ لأنّ أمر الإعجاز والاحتجاج به لا يختلف بنزوله جملة واحدة أو مفرّقاً. وقوله :﴿ كَذالِكَ ﴾ جواب لهم، أي : كذلك أنزل مفرّقاً. والحكمة فيه : أن نقوّي بتفريقه فؤادك حتى تعيه وتحفظه ؛ لأنّ المتلقن إنما يقوى قبله على حفظ العلم شيئاً بعد شيء، وجزأ عقيب جزء. ولو ألقى عليه جملة واحدة لبعل به وتعيا بحفظه، والرسول ﷺ فارقت حاله حال موسى وداود وعيسى عليهم السلام، حيث كان أمّياً لا يقرأ ولا يكتب وهم كانوا قارئين كاتبين، فلم يكن له بدّ من التلقن والتحفظ، فأنزل عليه منجماً في عشرين سنة. وقيل : في ثلاث وعشرين. وأيضاً : فكان ينزل على حسب الحوادث وجوابات السائلين، ولأن بعضه منسوخ وبعضه ناسخ، ولا يتأتى ذلك إلاّ فيما أنزل مفرّقاً. فإن قلت : ذلك في كذلك يجب أن يكون إشارة إلى شيء تقدّمه، والذي تقدّم هو إنزاله جملة واحدة، فكيف فسرته بكذلك أنزلناه مفرّقاً ؟ قلت : لأنّ قولهم : لولا أنزل عليه جملة : معناه : لم أنزل مفرّقاً ؟ والدليل على فساد هذا الاعتراض : أنهم عجزوا عن أن يأتوا بنجم واحد من نجومه، وتحدّوا بسورة واحدة أصغر السور، فأبرزوا صفحة عجزهم وسجلوا به على أنفسهم حين لاذوا بالمناصبة وفزعوا إلى المحاربة، ثم قالوا : هلا نزل جملة واحدة، كأنهم قدروا على تفاريقه حتى يقدروا على جملته ﴿ وَرَتَّلْنَاهُ ﴾ معطوف على الفعل الذي تعلق به كذلك، كأنه قال : كذلك فرّقناه ورتلناه. ومعنى ترتيله : أن قدره آية بعد آية، ووقفه عقيب وقفه، ويجوز أن يكون المعنى : وأمرنا بترتيل قراءته، وذلك قوله :﴿ وَرَتّلِ الْقُرْءانَ تَرْتِيلاً ﴾ ( المزمل : ٤ ) أي اقرأه بترسل وتثبت. ومنه حديث عائشة رضي الله عنها في صفة قراءته ﷺ :
( ٧٧٤ ) ( لا كسردكم هذا، لو أراد السامع أن يعدّ حروفه يعدّها ) وأصله : الترتيل

__________


الصفحة التالية
Icon