قلت : من حيث أنه تضمن معنى العلم، فكأنه قيل : ليعلمكم أيكم أحسن عملا ؛ وإذا قلت : علمته أزيد أحسن عملا أم هو ؟ كانت هذه الجملة واقعة موقع الثاني من مفعوليه، كما تقول : علمته هو أحسن عملا. فإن قلت : أتسمى هذا تعليقاً ؟ قلت : لا، إنما التعليق أن توقع بعده ما يسدّ مسدّ المفعولين جميعاً، كقولك : علمت أيهما عمرو، وعلمت أزيد منطلق. ألا ترى أنه لا فصل بعد سبق أحد المفعولين بين أن يقع ما بعده مصدراً بحرف الإستفهام وغير مصدر به، ولو كان تعليقاً لافترقت الحالتان كما افترقتا في قولك : علمت أزيد منطلق. وعلمت زيداً منطلقاً :﴿ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾. قيل : أخلصه وأصوبه ؛ لأنه إذا كان خالصاً غير صواب لم يقبل، وكذلك إذا كان صواباً غير خالص ؛ فالخالص : أن يكون لوجه الله تعالى ؛ والصواب : أن يكون على السنة. وعن النبي ﷺ أنه تلاها، فلما بلغ قوله :﴿ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾ قال :
( ١٢١٥ ) ( أيكم أحسن عقلاً وأورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله ) يعني : أيكم أتم عقلا عن الله وفهما لأغراضه ؛ والمراد : أنه أعطاكم الحياة التي تقدرون بها على العمل وتستمكنون منه، وسلط علكم الموت الذي هو داعيكم إلى اختيار العمل الحسن على القبيح، لأن وراءه البعث والجزاء الذي لا بد منه. وقدم الموت على الحياة، لأنّ أقوى الناس داعياً إلى العمل من نصب موته بين عينيه فقدم لأنه فيما يرجع إلى الغرض المسوق له الآية أهم ﴿ وَهُوَ الْعَزِيزُ ﴾ الغالب الذي لا يعجزه من أساء العمل ﴿ الْغَفُورُ ﴾ لمن تاب من أهل الإساءة ﴿ طِبَاقاً ﴾ مطابقة بعضها فوق بعض، من طابق النعل : إذا خصفها طبقاً على طبق، وهذا وصف بالمصدر. أو على ذات طباق، أو على : طوبقت طباقاً ﴿ مِن تَفَاوُتٍ ﴾ وقرىء :( من تفوت )، ومعنى البناءين واحد، كقولهم : تظاهروا من نسائهم. وتظهروا. وتعاهدته وتعهدته، أي : من اختلاف واضطراب في الخلقة ولا تناقض ؛ إنما هي مستوية مستقيمة. وحقيقة التفاوت : عدم التناسب، كأن بعض الشيء يفوت بعضاً ولا يلائمه. ومنه قولهم : خلق متفاوت. وفي نقيضه : متناصف. فإن قلت : كيف موقع هذه الجملة مما قبلها ؟ قلت : هي صفة مشايعة لقوله :﴿ طِبَاقاً ﴾ وأصلها : ما ترى فيهنّ من تفاوت، فوضع مكان الضمير قوله :﴿ خَلْقِ الرَّحْمَانِ ﴾ تعظيماً لخلقهنّ،

__________


الصفحة التالية
Icon