فكأن نبي الله زكريا عليه السلام يقول: يا رب ضعف عظمي، ولم يَعُدْ لديَّ إلا المصدر الأخير لاستقباء الحياة.
ولما كان العظم شيئاً باطناً مدفوناً تحت الجلد، فهوحيثية باطنة، فأراد زكريا عليه السلام أنْ يأتيَ بحيثية أخرى ظاهرة بينة، فأتى بأمر واضح: ﴿واشتعل الرأس شَيْباً﴾ [مريم: ٤] فشبّه انتشار الشيب في رَأْسه باشتعال النار، فالشعر الأبيض الذي يعلوه واضح كالنار.
والمتأمل في هذا التشبيه يجد أن النار أيضاً تتغذى على الحطب وتظل مشتعلة لها لهب يعلو طالما في الحطب الحيوية النباتية التي تمد النار، فإذا ما انتهتْ هذه الحيوية النباتية في الحطب أخذت النار في التضاؤل، حتى تصير جَذْوة لا لَهبَ لها ثم تنطفىء.
واشتعال الرأس بالشيب أيضاً دليل على ضعف الجسم ووَهَن قُوته؛ لأن الشعر يكتسب لونه من مادة مُلوّنة سوداء أو حمراء أو صفراء توجد في بُصَيْلة الشعرة، وتُمد الشعرة بهذا اللون، وضعْفُ الجسم يُضعِف هذه المادة تدريجياً، حتى تختفي، وبالتالي تخرج الشعرة بيضاء، والبياض ليس لوناً، إنما البياض عدم اللون نتيجة ضَعْف الجسم وضَعْف الغُدَد التي تفرز هذا اللون.
لذلك، نجد المترفين الذين يعنون كثيراً بشعرهم ويضعُون عليه المواد المختلفة أول ما يظهر الشيب عندهم تبيض سوالفهم؛ لأن السوالف عادة بعد أنْ يُهذِّبها الحلاق تأخذ أكبر قدر من المواد الكاوية التي تؤثر على بُصيْلات الشعر وعلى هذه المادة الملونة، والشعرة مثل الأنبوبة يسهل توصيل هذه المواد منها خاصة بعد الحلاقة مباشرة وما تزال الشعرة مفتوحة.


الصفحة التالية
Icon