ومن رحمة الله تعالى بالخَلْق أنْ يقذف الإخلاص وحُبّ العمل ويزرع الرحمة بالخلق في بعض القلوب؛ لذلك ترى في كل مصلحة أو في كل مكتب موظفاً متواضعاً يحب الناس ويحرص على قضاء مصالحهم، تراه يرتدي نظارة سميكة يرى من خلالها بصعوبة، وهو دائماً مُنكبٌّ على الأوراق والملفات، ويقصده الخَلْق لقضاء مصالحهم: يا فلان أفندي، أعطني كذا، واكتب لي كذا، وقد وسَّع الله صَدْره للناس فلا يرد أحداً.
هذه المسائل كلها نفهمها من الواو والألف في ﴿فاجلدوا..﴾ [النور: ٢] أما الجَلْد فهو الضرب، نقول: جلَده: يعني ضرب جِلْدَه، ورأسه: يعني ضرب رِأسه، وظهَره: ضرب ظهره.
والجلد ضَرْبٌ بكيفية خاصة، بحيث لا يقطع لحماً ولا يكسر عظماً؛ لأن الضربة حسب قوتها وحسب الآلة المستخدمة في الضرب، فمن الضرب ما يكسر العظم ولا يقطع الجلد، ومنه ما يقطع الجلد ولا يكسر العظم، ومنه ما يؤلم دون هذا أو ذاك.
ثم يقول سبحانه: ﴿وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله..﴾ [النور: ٢] تحذير من الرحمة الحمقاء، الرحمة في غير محلها، وعلى حَدِّ قول الشاعر:

فَقَسَا لِيزدْجِرُوا ومَنْ يَكُ حَازِماً فَلْيَقْسُ أحْيَاناً على مَنْ يَرحَمُ
فالرأفة لا تكون في حدود الله، ارأفوا بهم في مسائلكم الخاصة فيما بينكم، وعجيب أن تدعوا الرأفة في مسائل الحدود وأنتم من ناحية أخرى تضربون وتسرقون أموال الناس، وتنتهكون حرماتهم، وتثيرون بينهم الفتنة والحروب، فأين الرأفة إذن؟
إذن: لا مجالَ للرحمة وللرأفَة في حدود الله، فلسنا أرحم بالخَلْق


الصفحة التالية
Icon