المعنى؛ لأن هناك سياقا قرآنيا في مكان آخر قد جاء ليكون نصاً في معنى، ولذلك نستطيع من سياقه أن نفهم المعنى المقصود بكلمة «المس» هنا، فقد قالت السيدة مريم: ﴿قَالَتْ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً﴾ [مريم: ٢٠]
إن القرآن الكريم يوضح على لسان سيدتنا مريم أن أحداً من البشر لم يتصل بها ذلك الاتصال الذي ينشأ عنه غلام، والتعبير في منتهى الدقة، ولأن الأمر فيه تعرض لعورة وأسرار؛ لذلك جاء القرآن بأخف لفظ في وصف تلك المسألة وهو المس، وكأن الله سبحانه وتعالى يريد أن يثبت لها إعفافاً حتى في اللفظ، فنفى مجرد مس البشر لها، وليس الملامسة أو المباشرة برغم أن المقصود باللفظ هو المباشرة؛ لأن الآية بصدد إثبات عفة مريم.
ولنتأمل أدب القرآن في تناول المسألة في الآية التي نحن بصددها؛ فكأن الحق سبحانه وتعالى يعبر عن اللفظ بنهاية مدلوله وبأخف التعبير.
والحق يقول: ﴿أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ وتعرف أن «أَوْ» عندما ترد في الكلام بين شيئين فهي تعني «إما هذا وإما ذاك»، فهل تفرض لهن فريضة مقابل المس؟.
إن الأصل المقابل في ﴿مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ هو أن تمسوهن. ومقابل ﴿تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ هو: أن لا تفرضوا لهن فريضة. كأن الحق عَزَّ وَجَلَّ يقول: لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن سواء فرضتم لهن فريضة أو لم تفرضوا لهن فريضة. وهكذا يحرص الأسلوب القرآني على تنبيه الذهن في ملاحظة المعاني.
ولنا أن نلاحظ أن الحق قد جاء بكلمة «إن» في احتمال وقوع الطلاق، و «إن» كما نعرف تستخدم للشك، فكأن الله عَزَّ وَجَلَّ لا يريد أن يكون الطلاق مجترءاً عليه ومحققاً، فلم يأت ب «إذا»، بل جعلها في مقام الشك حتى تعزز الآية قول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أبغض الحلال إلى الله الطلاق».