وسبحانه قال من قبل: ﴿تِلْكَ حُدُودُ الله﴾ والحدود إما أن تبين الأوامر وحدها وإما أن تبين النواهي وحدها. فهي شاملة أن يطيعها الطائع أو يعصيها العاصي.
فإن كنت تطيع فلك جزاء الطاعة وتأخذ الجنات والخلود والفوز العظيم. لكن ماذا عمن يعصي؟ إن له المقابل، وهذا هو موقفه وجزاؤه أن له العذاب. ﴿وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ هنا نجد ﴿نَاراً﴾ واحدة، وهناك نجد ﴿جَنَّاتٍ﴾. هذا ملحظ أول، وإذا كنا منتبهين ونقبل على كتاب الله، ونعرف أن المتكلم هو الله، فإننا نجد الملحظ الثاني وهو خلود للمؤمنين في الجنات، أما الكافر فسيدخل النار. ولم يقل الحق نيرانا، ولم يقل الحق أيضا: «خالدين» لماذا؟ لأن المؤمنين سيكونون في الجنة على سرر متقابلين، ويتزاورون، وكل واحد يستمتع بكل الجنان، وأيضا إن المرء إذا كان له من عمله الصالح الكثير وقصر أولاده الذين اشتركوا معه في الإيمان، فإن الحق - سبحانه - يلحق به ذريته ويكون هو وذريته في النعيم والجنان كرامة له. فتكون الجنات مع بعضها وهذا أدعى للإنس.
ولكن الموقف يختلف مع الكافر، فلن يلحق الله به أحدا وكل واحد سيأخذ ناره، وحتى لا يأنسوا مع بعضهم وهم في النار، فالأنس لن يطولوه أيضا، فكل واحد في ناره تماما مثل الحبس المنفرد في زنزانة. ولن يأنس واحد منهم بمعذب الآخر. إذن فهناك ﴿جَنَّاتٍ﴾ و ﴿نَار﴾ و ﴿خَالِدِينَ﴾ و ﴿خَالِداً﴾، وكل استخدام للكلمة له معنى. والطائع له جنات يأتنس فيها بذريته وإخوته أهل الإيمان ويكونون خالدين جميعا في الجنات، أما العاصي فهو في النار وحده خالدا ﴿وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾.
إن العذاب يكون مرة أليما، ومثال ذلك أن يؤلم واحد عدوه فيتجلد عدوه حتى لا يرى شماتة الذي يعذبه. ويقول الشاعر:
وتجلدي للشامتين أريهمو | أني لريب الدهر لا أتضعضع |