بالعقود} والحق يخاطب المؤمنين بالاسم الموصول، ولم يقل: يا أيها المؤمنون «، وهذا يدل على أن الإيمان ليس أمراً عابراً يمر بالإنسان فترة من الزمن؛ ولكن الإيمان يتجدد بتجدد الفعل حتى ينفذ المؤمن الأحكام التي جاء بها العقد الإيماني. وحين يتوجه الحق بخطابه للذين آمنوا، إنما يؤكد لنا أنه لا يقتحم على أحد حياته ليكلفه، وإن كان سبحانه كرب للعالمين قد خلق الخلق وأوجد الوجود وسخّره للخلق.
الله - سبحانه وتعالى - لم يستخدم هذا الحق ليأمر البشر بالإيمان، بل دعا الناس جميعاً أولاً إلى الإيمان، فمن آمن ينزل إليه التشريف بالتكليف ويكون القول الحق: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ﴾ أي يا من آمنتم بالله إلهاً. والإله لابد له من صفات تناسب الألوهية، كطلاقة القدرة والجاه والحكمة والقهر. وسبحانه لا يكلف مَن لم يؤمن به، بل يدعو من لم يؤمن إلى الإيمان، ولذلك نجد أن كل آيات الأحكام تبدأ بالقول الحق: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ﴾ ؛ لأن لكل إيمان تبعة.
﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود﴾ ونعرف أن اللغة بها أسرة ألفاظ؛ ف» أوفوا «على سبيل المثال فيها» وفى «. والمصارع هو» يفي «، وفي أفعالها» أوفى «و» وَفَّى «، حسب المراحل المختلفة قوة وضعفاً وكثرة وقلة، مثال ذلك قوله الحق: ﴿وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى﴾ [النجم: ٣٧]
وقد قام سيدنا إبراهيم عليه السلام بالكثير من الإنجاز: ﴿وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ﴾ [البقرة: ١٢٤]
ولا بد أن يكون قوله الحق: ﴿وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى﴾ شرحاً لما قام به إبراهيم من مواجهة الابتلاء، فالتوفية هي الإتمام. والحق يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود﴾ أي عليكم يا من آمنتم بالله أن تتموا العقود.
والتمام إما أن ينطلق إلى الأفراد ويشملها فلا ينقص فرد، وإما أن يلتفت إلى الكيفيات فلا تختل كيفية، هذا هو التمام. وقد يأتي إنسان بكل فصول الكتاب ويقرأها، فيكون قد وفى قراءة كل الأجزاء، ولكن الحق يريد أن يتقن الإنسان تنفيذ كل جزئية في كتاب التكليف.