ولذلك قال الحق: ﴿فَمَنِ اضطر فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ﴾، أي أنه كاره للإثم وإن ذهب إليه. ولذلك يباح للمضطر على قدر الضرورة. لدرجة أن رجال الشريعة قالوا: إن على الإنسان المضطر ألا يأكل من الميتة أو ما في حكمها بالقدر الذي يشبع، بل يأخذ أقل الطعام الذي يمسك عليه رمقه ويبقى حياته فقط. فإذا كان يسير في الصحراء فعليه ألا يأخذ من الميتة أو ما في حكمها إلاَّ قدراً يسيراً لأنه لا يجد شيئاً يتقوت به.
إذن فمعنى اضطر في مخمصة شرط أن يكون غير متجانف لإثم، أي لا يكون مائلاً إلى الإثم فرحا به، فعليه ألا يأخذ إلا على قدر الضرورة. ومادام على قدر الضرورة فهو لن يحمل معه من هذه الأشياء المحرمة إلا ما يقيم أوده ويمسك روحه. والمضطر هو من فقد الأسباب البشرية. وسبحانه وتعالى قد بسط أسبابه في الكون ومد بها يديه إلى خلقه، وأمر الأسباب: استجيبي لهم مؤمنين كانوا أو كافرين، فالذي يزرع ويحسن الزراعة والري والبذر والحرث فالله يعطيه، والذي يتقن عمله كتاجر تتسع تجارته وتزيد أرباحه. ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾ [الشورى: ٢٠]
إن عطاء الأسباب هو عطاء الربوبية. والمضطر هو من فقد أسبابه. ولذلك فالحق يجيب المضطر إذا دعاه. وقد يقول قائل: إنني أدعو الله ولا يجيبني. ونقول: إنك غير مضطر لأنك تدعو - على سبيل المثال - بأن تسكن في قصر بدلاً من الشقة التي تسكنها، وأنت تدعو بأن يعطيك الله سيارة فارهة وأنت تملك وسيلة مواصلات عادية.
فالمضطر - إذن - هو الذي فقد الأسباب ومقومات الحياة. ﴿أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السواء﴾ [النمل: ٦٢]
وقد ضربنا من قبل المثل - ولله المثل الأعلى - بتاجر يستورد بضائع تصله من الخارج في صناديق ثقيلة. تحملها السيارات الضخمة، ويقوم أحد العمال أمامه بحمل صندوق ضخم، فغلب الصندوقُ العامل. وهنا يقفز التاجر ليسند العامل.