إذن فقد أخرجنا من كلام في نظام الأسرة إلى الصلاة، ثم عاد بنا مرة أخرى إلى نظام الأسرة حتى تتداخل كل الأمور لتكون عبادة متماسكة متحدة فلا تقول: «هذه عبادة وتلك ليست عبادة»، وأيضا؛ لأن الكلام في الصلاة وسط كلامه عن أمور الأسرة ينبهنا: إذا ذهبت إلى الصلاة فربما هدَّأت الصلاة من شِرة غضبك وحماسك ونزلت عليك سكينة تعينك ألا تنسى الفضل بينك وبين زوجك.
في هذه السورة - سورة المائدة - صنع الحق معنا مثلما صنع في سورة البقرة؛ فبعد أن تكلم في أشياء وقص علينا أمر النعمة، ها هوذا يدخل بنا إلى رحاب المنعم، إلا إنه سبحانه لم يدخلنا على المنعم إلا بتهيئة طهورية. طهارة أبعاض؛ كالوضوء بأن نغسل الوجه ونغسل اليدين إلى المرفقين ونمسح على الرأس ونغسل الرجلين إلى الكعبين. وأحكم في أشياء وترك للاجتهاد مدخلا في أشياء، أحكمها في ثلاثة؛ غسل الوجه، وغسل اليدين إلى المرفقين، وغسل الرجلين إلى الكعبين، لكنه حينما تكلم عن الرءوس لم يقل: «امسحوا رءوسكم» ولا: «امسحوا ربع رءوسكم»، ولا «امسحوا بعض رءوسكم» مما يدل على أن للمجتهد أن يفهم في «الباء» ما تُتيحهُ اللغة من «الباء». إذن أعطانا الحق أشياء محكمة وأشياء للاجتهاد. وبعد طهارة الأبعاض يذكرنا بطهارة البدن من الجنابة.
ونلتفت إلى الكلام الذي تقدم حيث أورد الحق فيه ما أحل لنا من بهيمة الأنعام من طعام وشراب، ثم تكلم في النكاح حتى أنه وسع لنا دائرة الاستمتاع ودائرة الإنسال بأن أباح لنا أن نتزوج الكتابيات، وفي هذا توسيع لرقعة الزواج فلم يقصر الزواج على المسلمات.
ولما كان الطعام الذي أحله الله ينشأ عنه ما يخرج منا من بول وغائط، والنكاح الذي أحله الله يغير كيماوية الجسد؛ لذلك جعل الله الوضوء لشيء، والجنابة لها شيء آخر؛ فعن الطعام ينشأ الأخبثان، وعن الجماع أو خروج المني ينشأ الحدث الأكبر؛ فكان ولا بد بعد أن يتكلم عن طهارة الأبعاض في الحدث الأصغر أن يتكلم عن التطهير الكلي في الحدث الأكبر؛ فقال: ﴿وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فاطهروا﴾.
الله سبحانه وتعالى يريد لنا أن نستديم اتصالاتنا به ولم يشأ أن يجعل الوسيلة للصلاة بأمر الماء فقط؛ لأننا قد نفقد الماء وقد يوجد الماء ولا نقدر على استعماله؛