الْمُقدمَات
الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى فِي التَّفْسِيرِ وَالتَّأْوِيلِ وَكَوْنِ التَّفْسِيرِ عِلْمًا
التَّفْسِيرُ مَصْدَرُ فَسَّرَ بِتَشْدِيدِ السِّينِ الَّذِي هُوَ مُضَاعَفُ فَسَرَ بِالتَّخْفِيفِ، مِنْ بَابَيْ نَصَرَ وَضَرَبَ الَّذِي مَصْدُرُهُ الْفَسْرُ، وَكِلَاهُمَا فِعْلٌ مُتَعَدٍّ فَالتَّضْعِيفُ لَيْسَ لِلتَّعْدِيَةِ. وَالْفَسْرُ الْإِبَانَةُ وَالْكَشْفُ لِمَدْلُولِ كَلَامٍ أَوْ لَفْظٍ بِكَلَامٍ آخَرَ هُوَ أَوْضَحُ لِمَعْنَى الْمُفَسَّرِ عِنْدَ السَّامِعِ، ثُمَّ قِيلَ الْمَصْدَرَانِ وَالْفِعْلَانِ مُتَسَاوِيَانِ فِي الْمَعْنَى، وَقِيلَ يَخْتَصُّ الْمُضَاعَفُ بِإِبَانَةِ الْمَعْقُولَاتِ، قَالَهُ الرَّاغِبُ وَصَاحِبُ «الْبَصَائِرِ»، وَكَأَنَّ وَجْهَهُ أَن بَيَان المعقولان يُكَلِّفُ الَّذِي يُبَيِّنُهُ كَثْرَةُ الْقَوْلِ، كَقَوْلِ أَوْسِ بْنِ حُجْرٍ (١) :

الْأَلْمَعِيُّ الَّذِي يَظُنُّ بِكَ الظَّ نَ كَأَنْ قَدْ رَأَى وَقَدْ سَمِعَا
فَكَانَ تَمَامُ الْبَيْتِ تَفْسِيرًا لِمَعْنَى الْأَلْمَعِيِّ، وَكَذَلِكَ الْحُدُودُ الْمَنْطِقِيَّةُ الْمُفَسِّرَةُ لِلْمَوَاهِي وَالْأَجْنَاسِ، لَا سِيمَا الْأَجْنَاس الْعَالِيَة الْمُلَقَّبَةِ بِالْمَقُولَاتِ، فَنَاسَبَ أَنْ يُخَصَّ هَذَا الْبَيَانُ بِصِيغَةِ الْمُضَاعَفَةِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ فَعَّلَ الْمُضَاعَفَ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلتَّعْدِيَةِ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الدَّلَالَةَ عَلَى التَّكْثِيرِ مِنَ الْمَصْدَرِ، قَالَ فِي «الشَّافِيَةِ» :«وَفَعَّلَ لِلتَّكْثِيرِ غَالِبًا» وَقَدْ يَكُونُ التَّكْثِيرُ فِي ذَلِكَ مَجَازِيًّا وَاعْتِبَارِيًّا بِأَنْ يَنْزِلَ كَدُّ الْفِكْرِ فِي تَحْصِيلِ الْمَعَانِي الدَّقِيقَةِ، ثُمَّ فِي اخْتِيَارِ أَضْبَطِ الْأَقْوَالِ لِإِبَانَتِهَا مَنْزِلَةَ الْعَمَلِ الْكَثِيرِ كَتَفْسِيرِ صُحَارٍ الْعَبْدِيِّ (٢) وَقَدْ سَأَلَهُ مُعَاوِيَةُ عَنِ الْبَلَاغَةِ فَقَالَ: «أَنْ تَقول فَلَا تخطىء، وَتُجِيبَ فَلَا تُبْطِئَ» ثُمَّ قَالَ لِسَائِلِهِ أَقلنِي: «لَا تخطىء وَلَا تُبْطِئُ».
_________
(١) كَمَا فِي «الصِّحَاح» و «التَّهْذِيب»، ويروى لبشر بن أبي خازم يرثي فضَالة بن كلدة كَمَا فِي «الْعباب».
(٢) صحار بِضَم الصَّاد وَتَخْفِيف الْحَاء الْمُهْمَلَتَيْنِ، وَهُوَ ابْن عَيَّاش، بليغ من بلغاء قَبيلَة عبد الْقَيْس فِي صدر الدولة الأموية.
عَلَى الْجَزْمِ بِأَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَسْتَقْبِلُونَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ بِنَاءً عَلَى كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ، وَلَمْ يَثْبُتْ هَذَا مِنْ دِينِ الْيَهُودِ، كَمَا عَلِمْتَ، وَذَكَرَ الْفَخْرُ عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ مَا فِيهِ أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَسْتَقْبِلُونَ جِهَةَ الْمَغْرِبِ وَأَنَّ النَّصَارَى يَسْتَقْبِلُونَ الْمَشْرِقَ، وَقَدْ عَلِمْتَ آنِفًا أَنَّ الْيَهُودَ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ فِي صَلَاتِهِمْ جِهَةٌ مُعَيَّنَةٌ يَسْتَقْبِلُونَهَا وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَيَمَّنُونَ فِي دُعَائِهِمْ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى صَوْبِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ عَلَى اخْتِلَافِ مَوْقِعِ جِهَتِهِ مِنَ الْبِلَادِ الَّتِي هُمْ بِهَا فَلَيْسَ لَهُمْ جِهَةٌ مُعَيَّنَةٌ مِنْ جِهَاتِ مَطْلَعِ الشَّمْسِ وَمَغْرِبِهَا وَمَا بَيْنَهُمَا فَلَمَّا تَقَرَّرَ ذَلِكَ عَادَةً عِنْدَهُمْ تَوَهَّمُوهُ مِنَ الدِّينِ وَتَعَجَّبُوا مِنْ مُخَالَفَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ. وَأَمَّا النَّصَارَى فَإِنَّهُمْ لَمْ يَقَعْ فِي إِنْجِيلِهِمْ تَغْيِيرٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ الْيَهُودُ فِي أَمْرِ الِاسْتِقْبَالِ فِي الصَّلَاةِ وَلَا تَعْيِينُ جِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا وَجَدُوا الرُّومَ يَجْعَلُونَ أَبْوَابَ هَيَاكِلِهِمْ مُسْتَقْبِلَةً لِمَشْرِقِ الشَّمْسِ بِحَيْثُ تَدْخُلُ أَشِعَّةَ الشَّمْسِ عِنْدَ طُلُوعِهَا مِنْ بَاب الهيكل وَتَقَع عَلَى الصَّنَمِ صَاحِبِ الْهَيْكَلِ الْمَوْضُوعِ فِي مُنْتَهَى الْهَيْكَلِ عَكَسُوا ذَلِكَ فَجَعَلُوا أَبْوَابَ الْكَنَائِسِ إِلَى الْغَرْبِ وَبِذَلِكَ يَكُونُ الْمَذْبَحُ إِلَى الْغَرْبِ وَالْمُصَلُّونَ مُسْتَقْبِلِينَ الشَّرْقَ، وَذَكَرَ الْخَفَاجِيُّ أَن بولس هُوَ الَّذِي أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ، فَهَذِهِ حَالَةُ النَّصَارَى فِي وَقْتِ نُزُولِ الْآيَةِ ثُمَّ إِنَّ النَّصَارَى مِنَ الْعُصُورِ الْوُسْطَى إِلَى الْآنَ تَوَسَّعُوا فَتَرَكُوا اسْتِقْبَالَ جِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ فَلِذَلِكَ تَكُونُ كَنَائِسُهُمْ مُخْتَلِفَةَ الِاتِّجَاهِ وَكَذَلِكَ الْمَذَابِحُ الْمُتَعَدِّدَةُ فِي الْكَنِيسَةِ الْوَاحِدَةِ.
وَأَمَّا اسْتِقْبَالُ الْكَعْبَةِ فِي الْحَنِيفِيَّةِ فَالظَّاهِرُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا بَنَى الْكَعْبَةَ اسْتَقْبَلَهَا عِنْدَ الدُّعَاءِ وَعند الصَّلَاة وَأَنه بَنَاهَا لِلصَّلَاةِ حَوْلَهَا فَإِنَّ دَاخِلَهَا لَا يَسَعُ الْجَمَاهِيرَ مِنَ النَّاسِ وَإِذَا كَانَ بِنَاؤُهَا لِلصَّلَاةِ حَوْلَهَا فَهِيَ أَوَّلُ قِبْلَةٍ وُضِعَتْ لِلْمُصَلِّي تُجَاهَهَا وَبِذَلِكَ اشْتَهَرَتْ عِنْدَ الْعَرَبِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ:
عُذْتُ بِمَا عاذ بِهِ إبراهم مُسْتَقْبل المعبة وَهُوَ قَائِمٌ
أَمَّا تَوَجُّهُهُ إِلَى جِهَتِهَا مِنْ بَلَدٍ بَعِيدٍ عَنْهَا فَلَا دَلِيلَ عَلَى وُقُوعِهِ فَيَكُونُ الْأَمْرُ بِالْتِزَامِ الِاسْتِقْبَالِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ وَمِنْ جُمْلَةِ مَعَانِي إِكْمَالِ الدِّينِ بِهَا كَمَا سَنُبَيِّنُهُ.
وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَسْتَقْبِلُونَ جِهَةً ثمَّ تحولوا عَنْهَا إِلَى جِهَةٍ
أُخْرَى وَلَيْسَتِ الَّتِي تَحَوَّلَ إِلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ إِلَّا جِهَةَ الْكَعْبَةِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَقْبِلُونَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَبِذَلِكَ جَاءَتِ الْآثَارُ. وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي هَذَا ثَلَاثَة، أَوَّلُهَا وَأَصَحُّهَا
حَدِيثُ «الْمُوَطَّأِ» عَنِ ابْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ «بَيْنَمَا النَّاسُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ بِقُبَاءٍ إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِثْلَ اقْتِتَالِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي الْيَمَنِ فِي قِصَّةِ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ، وَمُقَاتَلَةِ الْفِلَسْطِينِيِّينَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ انْتِصَارًا لِأَصْنَامِهِمْ، وَمُقَاتَلَةِ الْحَبَشَةِ لِمُشْرِكِي الْعَرَبِ انْتِصَارًا لِبَيْعَةِ الْقُلَّيْسِ الَّتِي بَنَاهَا الْحَبَشَةُ فِي الْيَمَنِ، وَالْأُمَمِ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ الْإِسْلَامِ وَنَاوَوُهُ وَقَاتَلُوا الْمُسْلِمِينَ أَهْلَهُ، وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْبَيِّنَاتِ دَلَائِلَ صِدْقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتكون الْآيَة بإنحاء عَلَى الَّذِينَ عَانَدُوا النَّبِيءَ وَنَاوَوُا الْمُسْلِمِينَ وَقَاتَلُوهُمْ، وَتَكُونُ الْآيَةُ عَلَى هَذَا ظَاهِرَةَ التَّفَرُّعِ عَلَى قَوْلِهِ: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا [الْبَقَرَة: ٢٤٤] إِلَخ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ «مِنْ بَعْدِهِمْ» ضَمِيرَ الرُّسُلِ عَلَى إِرَادَةِ التَّوْزِيعِ، أَيِ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِ كُلِّ رَسُولٍ مِنَ الرُّسُلِ، فَيَكُونُ مُفِيدًا أَنَّ أُمَّةَ كُلِّ رَسُولٍ مِنَ الرُّسُلِ اخْتَلَفُوا وَاقْتَتَلُوا اخْتِلَافًا وَاقْتِتَالًا نَشَآ مِنْ تَكْفِيرِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا كَمَا وَقَعَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فِي عُصُورٍ كَثِيرَةٍ بَلَغَتْ فِيهَا طَوَائِفُ مِنْهُمْ فِي الْخُرُوجِ مِنَ الدِّينِ إِلَى حَدِّ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَكَمَا وَقَعَ لِلنَّصَارَى فِي
عُصُورٍ بَلَغَ فِيهَا اخْتِلَافُهُمْ إِلَى حَدِّ أَنْ كَفَّرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَتَقَاتَلَتِ الْيَهُودُ غَيْرَ مَرَّةٍ قِتَالًا جَرَى بَيْنَ مَمْلَكَةِ يَهُوذَا وَمَمْلَكَةِ إِسْرَائِيلَ، وَتَقَاتَلَتِ النَّصَارَى كَذَلِكَ مِنْ جَرَّاءِ الْخِلَافِ بَيْنَ الْيَعَاقِبَةِ وَالْمَلَكِيَّةِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَأَشْهَرُ مُقَاتَلَاتِ النَّصَارَى الْحُرُوبُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي نَشَأَتْ فِي الْقَرْنِ السَّادِسِ عَشَرَ مِنَ التَّارِيخِ الْمَسِيحِيِّ بَيْنَ أَشْيَاعِ الْكَاثُولِيكِ وَبَيْنَ أَشْيَاعِ مَذْهَبِ لُوثِيرَ الرَّاهِبِ الْجِرْمَانِيِّ الَّذِي دَعَا النَّاسَ إِلَى إِصْلَاحِ الْمَسِيحِيَّةِ وَاعْتِبَارِ أَتْبَاعِ الْكَنِيسَةِ الْكَاثُولِيكِيَّةِ كُفَّارًا لِادِّعَائِهِمْ أُلُوهِيَّةِ الْمَسِيحِ، فَعَظُمَتْ بِذَلِكَ حروب بَين فرانسا وَأَسْبَانْيَا وَجِرْمَانْيَا وَانْكِلْتِرَا وَغَيْرِهَا مِنْ دُوَلِ أُورُوبَّا.
وَالْمَقْصُودُ تَحْذِيرُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْوُقُوعِ فِي مِثْلِ مَا وَقَعَ فِيهِ أُولَئِكَ، وَقَدْ حَذَّرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ تَحْذِيرًا مُتَوَاتِرًا
بِقَوْلِهِ فِي خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «فَلَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ»
، يُحَذِّرُهُمْ مَا يَقَعُ مِنْ حُرُوبِ الرِّدَّةِ وَحُرُوبِ الْخَوَارِجِ بِدَعْوَى التَّكْفِيرِ، وَهَذِهِ الْوَصِيَّةُ من دَلَائِل النبوءة الْعَظِيمَةِ.
وَوَرَدَ فِي «الصَّحِيحِ» قَوْلُهُ: «إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ»، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ، فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ، قَالَ: «أَمَا إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ أَخِيهِ»
، وَذَلِكَ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا أَنَّهُ الْقِتَالُ عَلَى اخْتِلَافِ الْعَقِيدَةِ.
وَقَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ شَرْطٌ حُذِفَ جَوَابُهُ لِدَلَالَةِ التَّفْرِيعِ الَّذِي قَبْلَهُ عَلَيْهِ.
وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ.
وَقَوْلُهُ: فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
نِهَايَةٌ لِتَسْجِيلِ كَذِبِهِمْ أَيْ مَنِ اسْتَمَرَّ عَلَى الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ، أَيْ فَمَنِ افْتَرَى مِنْكُمْ بَعْدَ أَنْ جَعَلْنَا
التَّوْرَاةَ فَيْصَلًا بَيْنَنَا، إِذْ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ مَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَدَّعُوهُ شُبْهَةً لَهُمْ فِي الِاخْتِلَاقِ، وَجُعِلَ الِافْتِرَاءُ عَلَى اللَّهِ لِتَعَلُّقِهِ بِدِينِ اللَّهِ. وَالْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى الْأَمْرِ.
وَالِافْتِرَاءُ: الْكَذِبُ، وَهُوَ مُرَادِفُ الِاخْتِلَاقِ. وَالِافْتِرَاءُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْفَرْيِ، وَهُوَ قَطْعُ الْجِلْدِ قِطَعًا لِيُصْلَحَ بِهِ مِثْلَ أَنْ يُحْذَى النَّعْلَ وَيُصْنَعَ النَّطْعُ أَوِ الْقِرْبَةُ. وَافْتَرَى افْتِعَالٌ مِنْ فَرَى لَعَلَّهُ لِإِفَادَةِ الْمُبَالِغَةِ فِي الْفَرْيِ، يُقَالُ: افْتَرَى الْجِلْدَ كَأَنَّهُ اشْتَدَّ فِي تَقْطِيعِهِ أَوْ قَطَّعَهُ تَقْطِيعَ إِفْسَادٍ، وَهُوَ أَكْثَرُ إِطْلَاقِ افْتَرَى. فَأَطْلَقُوا عَلَى الْإِخْبَارِ عَنْ شَيْءٍ بِأَنَّهُ وَقَعَ وَلَمْ يَقَعِ اسْمُ الِافْتِرَاءِ بِمَعْنَى الْكَذِبِ، كَأَنَّ أَصْلَهُ كِنَايَةٌ عَنِ الْكَذِبِ وَتَلْمِيحٌ، وَشَاعَ ذَلِكَ حَتَّى صَارَ مُرَادِفًا لِلْكَذِبِ، وَنَظِيرُهُ إِطْلَاقُ اسْمِ الِاخْتِلَاقِ عَلَى الْكَذِبِ، فَالِافْتِرَاءُ مُرَادِفٌ لِلْكَذِبِ، وَإِرْدَافُهُ بِقَوْلِهِ هُنَا: «الْكَذِبَ» تَأْكِيدٌ لِلِافْتِرَاءِ، وَتَكَرَّرَتْ نَظَائِرُ هَذَا الْإِرْدَافِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ.
فَانْتَصَبَ «الْكَذِبُ» عَلَى الْمَفْعُول الْمُطلق الموكّد لِفِعْلِهِ. وَاللَّامُ فِي الْكَذِبِ لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ: أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ [سبأ: ٨].
وَالْكَذِبُ: الْخَبَرُ الْمُخَالِفُ لِمَا هُوَ حَاصِلٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى كَوْنِ الْخَبَرِ مُوَافِقًا لِاعْتِقَادِ الْمُخْبِرِ أَوْ هُوَ عَلَى خِلَافِ مَا يَعْتَقِدُهُ، وَلَكِنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ فِي الْخَبَرِ الْمُخَالَفَةُ لِلْوَاقِعِ وَالْمُخَالَفَةُ لِاعْتِقَادِ الْمُخْبِرِ كَانَ ذَلِكَ مَذْمُومًا وَمَسَبَّةً وَإِنْ كَانَ مُعْتَقَدًا وُقُوعُهُ لِشُبْهَةٍ أَوْ سُوءِ تَأَمُّلٍ فَهُوَ مَذْمُومٌ وَلَكِنَّهُ لَا يُحَقَّرُ الْمُخْبِرُ بِهِ، وَالْأَكْثَرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنْ يُعْنَى بِالْكَذِبِ مَا هُوَ مَذْمُومٌ.
ثُمَّ أَعْلَنَ أَنَّ الْمُتَعَيِّنَ فِي جَانِبِهِ الصِّدْقُ هُوَ خَبَرُ اللَّهِ تَعَالَى لِلْجَزْمِ بِأَنَّهُمْ لَا يَأْتُونَ
وَذَهَبُ جَمْعٌ: مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَابْنُ جُبَيْرٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ لِمَا وَقَعَ فِيهَا مِنْ قَوْلِهِ: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ. وَنِكَاحُ الْمُتْعَةِ: هُوَ الَّذِي تَعَاقَدَ الزَّوْجَانِ عَلَى أَنْ تَكُونَ الْعِصْمَةُ بَيْنَهُمَا مُؤَجَلَةً بِزَمَانٍ أَوْ بِحَالَةٍ، فَإِذَا انْقَضَى ذَلِكَ الْأَجَلُ ارْتَفَعَتِ الْعِصْمَةُ، وَهُوَ نِكَاحٌ قَدْ أُبِيحَ فِي الْإِسْلَامِ لَا مَحَالَةَ، وَوَقَعَ النَّهْيُ عَنْهُ يَوْمَ خَيْبَرَ، أَوْ يَوْمَ حُنَيْنٍ عَلَى الْأَصَحِّ. وَالَّذِينَ قَالُوا: حُرِّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ قَالُوا: ثُمَّ أُبِيحَ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ، ثُمَّ نُهِيَ عَنْهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ. وَقِيلَ: نُهِيَ عَنْهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ:
وَهُوَ أَصَحُّ. وَالَّذِي اسْتَخْلَصْنَاهُ أَنَّ الرِّوَايَاتِ فِيهَا مُضْطَرِبَةٌ اضْطِرَابًا كَبِيرًا.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْأَخِيرِ مِنْ شَأْنِهِ: فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ اسْتَقَرَّ عَلَى تَحْرِيمِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: نَسَخَتْهُ آيَةُ الْمَوَارِيثِ لِأَنَّ فِيهَا وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْواجُكُمْ...
وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ [النِّسَاء: ١٢] فَجَعَلَ لِلْأَزْوَاجِ حَظًّا مِنَ الْمِيرَاثِ، وَقَدْ كَانَتِ الْمُتْعَةُ لَا مِيرَاثَ فِيهَا. وَقِيلَ: نَسَخَهَا مَا
مُسْلِمٌ عَنْ سَبْرَةَ الْجُهَنِيِّ، أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ ثَالِثَ يَوْمٍ مِنَ الْفَتْحِ يَقُولُ: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُ أَذِنْتُ لَكُمْ فِي الِاسْتِمْتَاعِ مِنْ هَذِهِ النِّسَاءِ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ ذَلِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»
. وَانْفِرَادُ سَبْرَةَ بِهِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مَغْمَزٌ فِي رِوَايَتِهِ، عَلَى أَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ النَّاسَ اسْتَمْتَعُوا. وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ وَالصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ قَالُوا بِجَوَازِهِ. قِيلَ: مُطْلَقًا، وَهُوَ قَوْلُ الْإِمَامِيَّةِ، وَقِيلَ: فِي حَالِ الضَّرُورَةِ عِنْدَ أَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَالْيَمَنِ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَوْلَا أَنَّ عُمَرَ نَهَى عَنِ الْمُتْعَةِ مَا زَنَى إِلَّا شَفًى (١).
وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فِي «الصَّحِيحِ» أَنَّهُ قَالَ: «نَزَلَتْ آيَّةُ الْمُتْعَةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَمْ يَنْزِلْ
بَعْدَهَا آيَةٌ تَنْسَخُهَا، وَأَمَرَنَا بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ رَجُلٌ بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ»

يَعْنِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حِينَ نَهَى عَنْهَا فِي زَمَنٍ مِنْ خِلَافَتِهِ بَعْدَ أَنْ عَمِلُوا بِهَا فِي مُعْظَمِ خِلَافَتِهِ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُفْتِي بِهَا، فَلَمَّا قَالَ لَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَتَدْرِي مَا صَنَعْتَ بِفَتْوَاكَ فَقَدْ سَارَتْ بِهَا الرُّكْبَانُ حَتَّى قَالَ الْقَائِلُ:
_________
(١) بفاء بعد الشين، أَي إلّا قَلِيل، وَأَصله من قَوْلهم: شفيت الشَّمْس إِذا غربت وَفِي بعض الْكتب شقي.
وَفِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [آل عمرَان: ٨٤] إِلَّا أَنَّ تِلْكَ الْآيَاتِ فِي التَّحْذِيرِ مِنَ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الرُّسُلِ، وَالْآيَةُ هَذِهِ فِي التَّحْذِيرِ مِنَ التَّفْرِيقِ بَيْنَ اللَّهِ وَبَعْضِ رُسُلِهِ، وَمَآلُ الْجَمِيعِ وَاحِدٌ: لِأَنَّ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الرُّسُلِ يَسْتَلْزِمُ التَّفْرِيقَ بَيْنَ اللَّهِ وَبَعْضِ رُسُلِهِ.
وَإِضَافَةُ الْجَمْعِ إِلَى الضَّمِيرِ هُنَا لِلْعَهْدِ لَا لِلْعُمُومِ بِالْقَرِينَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ.
وَجُمْلَةُ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَاقِعَةٌ فِي مَعْنَى الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ لِلتَّفْرِيقِ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَلَكِنَّهَا عُطِفَتْ لِأَنَّهَا شَأْنٌ خاصّ من شؤونهم، إِذْ مَدْلُولُهَا قَوْلٌ مِنْ أَقْوَالِهِمُ الشَّنِيعَةِ، وَمَدْلُولُ يُرِيدُونَ هَيْئَةٌ حَاصِلَةٌ مِنْ كُفْرِهِمْ، فَلِذَلِكَ حَسُنَ الْعَطْفُ بِاعْتِبَارِ الْمُغَايَرَةِ وَلَوْ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَوْ فُصِلَتْ لَكَانَ صَحِيحًا.
وَمَعْنَى يَقُولُونَ نُؤْمِنُ الْخَ أَنَّ الْيَهُودَ يَقُولُونَ: نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَبِمُوسَى وَنَكْفُرُ بِعِيسَى
وَمُحَمَّدٍ، وَالنَّصَارَى يَقُولُونَ: نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَبِمُوسَى وَعِيسَى وَنَكْفُرُ بِمُحَمَّدٍ، فَآمَنُوا بِاللَّهِ وَبَعْضِ رُسُلِهِ ظَاهِرًا وَفَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَعْضِ رُسُلِهِ.
وَالْإِرَادَةُ فِي قَوْلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا إِرَادَةٌ حَقِيقِيَّةٌ. وَالسَّبِيلُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ سَبِيلَ النَّجَاةِ مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْآخِرَةِ تَوَهُّمًا أَنَّ تِلْكَ حِيلَةٌ تُحَقِّقُ لَهُمُ السَّلَامَةَ عَلَى تَقْدِيرِ سَلَامَةِ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ سَبِيلَ التَّنَصُّلِ مِنَ الْكُفْرِ بِبَعْضِ الرُّسُلِ، أَوْ سَبِيلًا بَيْنَ دِينَيْنِ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ الْأَخِيرَانِ يُنَاسِبَانِ انْتِقَالَهُمْ مِنَ الْكُفْرِ الظَّاهِرِ إِلَى النِّفَاقِ، فَكَأَنَّهُمَا تَهْيِئَةٌ لِلنِّفَاقِ.
وَهَذَا التَّفْسِيرُ جَارٍ عَلَى ظَاهِرِ نَظْمِ الْكَلَامِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ حَرْفُ الْعَطْفِ مُشَرِّكًا بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَاتِ فِي حُكْمِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَإِذْ قَدْ كَانَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ الأول صلَة للَّذين، كَانَ مَا عُطِفَ عَلَيْهِ صِلَاتٍ لِذَلِكَ الْمَوْصُولِ وَكَانَ ذَلِكَ الْمَوْصُولُ صَاحِبَ تِلْكَ الصِّلَاتِ كُلِّهَا.
وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ تَرى أَعْيُنَهُمْ للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. إِنْ كَانَ قَدْ رَأَى مِنْهُمْ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ، أَوْ هُوَ خِطَابٌ لِكُلِّ مَنْ يَصِحُّ أَنْ يَرَى. فَهُوَ خِطَابٌ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ لِيَعُمَّ كُلَّ مَنْ يُخَاطَبُ.
وَقَوْلُهُ: تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مَعْنَاهُ يَفِيضُ مِنْهَا الدَّمْعُ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْفَيْضِ أَنْ يُسْنَدَ إِلَى الْمَائِعِ الْمُتَجَاوِزِ حَاوِيَهُ فَيَسِيلُ خَارِجًا عَنْهُ. يُقَالُ: فَاضَ الْمَاءُ، إِذَا تَجَاوَزَ ظَرْفَهُ. وَفَاضَ الدَّمْعُ إِذَا تَجَاوَزَ مَا يَغْرَوْرَقُ بِالْعَيْنِ. وَقَدْ يُسْنَدُ الْفَيْضُ إِلَى الظَّرْفِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ، فَيُقَالُ: فَاضَ الْوَادِي، أَيْ فَاضَ مَاؤُهُ، كَمَا يُقَالُ: جَرَى الْوَادِي، أَيْ جَرَى مَاؤُهُ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ».
وَقَدْ يُقْرِنُونَ هَذَا الْإِسْنَادَ بِتَمْيِيزٍ يَكُونُ قَرِينَةً لِلْإِسْنَادِ الْمَجَازِيِّ فَيَقُولُونَ: فَاضَتْ عَيْنُهُ دَمْعًا، بِتَحْوِيلِ الْإِسْنَادِ الْمُسَمَّى تَمْيِيزَ النِّسْبَةِ، أَيْ قَرِينَةَ النِّسْبَةِ الْمَجَازِيَّةِ. فَأَمَّا مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَإِجْرَاؤُهُ عَلَى قَوْلِ نُحَاةِ الْبَصْرَةِ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ (مِنْ) الدَّاخِلَةُ عَلَى الدَّمْعِ هِيَ الْبَيَانِيَّةُ الَّتِي يُجَرُّ بِهَا اسْمُ التَّمْيِيزِ، لِأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ
مُمْتَنِعٌ فِي تَمْيِيزِ النِّسْبَةِ، فَتَكُونُ الْآيَةُ مَنْسُوجَةً عَلَى مِنْوَالِ الْقَلْبِ لِلْمُبَالَغَةِ، قُلِبَ قَوْلُ النَّاسِ الْمُتَعَارَفُ: فَاضَ الدَّمْعُ مِنْ عَيْنِ فُلَانٍ، فَقِيلَ: أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ، فَحَرْفُ (مِنْ) حَرْفُ ابْتِدَاءٍ. وَإِذَا أُجْرِيَ عَلَى قَوْلِ نُحَاةِ الْكُوفَةِ كَانَتْ (مِنْ) بَيَانِيَّةً جَارَّةً لِاسْمِ التَّمْيِيزِ.
وَتَعْرِيفُ الدَّمْعِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، مِثْلَ: طِبْتَ النَّفْسَ.
وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ مِمَّا عَرَفُوا تَعْلِيلِيَّةٌ، أَيْ سَبَبُ فَيْضِهَا مَا عَرَفُوا عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ مِنْ أَنَّهُ الْحَقُّ الْمَوْعُود بِهِ. فَمن قَائِمَةٌ مَقَامَ الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً [التَّوْبَة: ٩٢]، أَيْ فَفَاضَتْ أَعْيُنُهُمْ مِنِ انْفِعَالِ الْبَهْجَةِ بِأَنْ حَضَرُوا مَشْهَدَ تَصْدِيقِ عِيسَى فِيمَا بَشَّرَ بِهِ، وَأَنْ حَضَرُوا الرَّسُولَ الْمَوْعُودَ بِهِ فَفَازُوا بِالْفَضِيلَتَيْنِ. وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ
وَجُمْلَةُ يُوحِي فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، يَتَقَيَّدُ بِهَا الْجَعْلُ الْمَأْخُوذُ مِنْ جَعَلْنا فَهَذَا الْوَحْيُ مِنْ تَمَامِ الْمَجْعُولِ.
وَالْوَحْيُ: الْكَلَامُ الْخَفِيُّ، كَالْوَسْوَسَةِ، وَأُرِيدُ بِهِ مَا يَشْمَلُ إِلْقَاءَ الْوَسْوَسَةِ فِي النَّفْسِ مِنْ حَدِيثٍ يُزَوَّرُ فِي صُورَةِ الْكَلَامِ. وَالْبَعْضُ الْمُوحِي: هُوَ شَيَاطِينُ الْجِنِّ، يُلْقُونَ خَوَاطِرَ الْمَقْدِرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الشَّرِّ إِلَى شَيَاطِينِ الْإِنْسِ، فَيَكُونُونَ زُعَمَاءَ لِأَهْلِ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ.
وَالزُّخْرُفُ: الزِّينَةُ، وَسُمِّيَ الذَّهَبُ زُخْرُفًا لِأَنَّهُ يُتَزَيَّنُ بِهِ حُلِيًّا، وَإِضَافَةُ الزُّخْرُفِ إِلَى الْقَوْلِ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ، أَيِ الْقَوْلِ الزُّخْرُفِ: أَيِ الْمُزَخْرَفِ، وَهُوَ مِنَ الْوَصْفِ بِالْجَامِدِ الَّذِي فِي مَعْنَى الْمُشْتَقِّ، إِذْ كَانَ بِمَعْنَى الزَّيْنِ. وَأَفْهَمَ وَصْفُ الْقَوْلِ
بِالزُّخْرُفِ أَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَى التَّحْسِينِ وَالزَّخْرَفَةِ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ الْقَوْلُ إِلَى ذَلِكَ إِذَا كَانَ غَيْرَ مُشْتَمِلٍ عَلَى مَا يُكْسِبُهُ الْقَبُولَ فِي حَدِّ ذَاتِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يُفْضِي إِلَى ضُرٍّ يَحْتَاجُ قَائِلُهُ إِلَى تَزْيِينِهِ وَتَحْسِينِهِ لِإِخْفَاءِ مَا فِيهِ مِنَ الضُّرِّ، خَشْيَةَ أَنْ يَنْفِرَ عَنْهُ مَنْ يُسَوِّلُهُ لَهُمْ، فَذَلِكَ التَّزْيِينُ تَرْوِيجٌ يَسْتَهْوُونَ بِهِ النُّفُوسَ، كَمَا تُمَوِّهُ لِلصِّبْيَانِ اللَّعِبَ بِالْأَلْوَانِ وَالتَّذْهِيبِ.
وَانْتَصَبَ زُخْرُفَ الْقَوْلِ عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ مِنْ فِعْلِ يُوحِي لِأَنَّ إِضَافَةَ الزُّخْرُفِ إِلَى الْقَوْلِ، الَّذِي هُوَ مِنْ نَوْعِ الْوَحْيِ، تجْعَل زُخْرُفَ نَائِيا عَنِ الْمَصْدَرِ الْمُبَيِّنِ لِنَوْعِ الْوَحْيِ.
وَالْغُرُورُ: الْخِدَاعُ وَالْإِطْمَاعُ بِالنَّفْعِ لِقَصْدِ الْإِضْرَارِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٩٦]. وَانْتَصَبَ غُرُوراً عَلَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ لِفِعْلِ يُوحِي، أَي يرحون زُخْرُفَ الْقَوْلِ لِيَغُرُّوهُمْ.
وَإِنَّمَا رَسَمُوهَا فِي الْمَصَاحِفِ بِصُوَرِ الْحُرُوفِ دُونَ أَسْمَائِهَا، أَيْ بِمُسَمَّيَاتِ الْحُرُوفِ الَّتِي يُنْطَقُ بِأَسْمَائِهَا وَلَمْ يَرْسُمُوهَا بِمَا تُقْرَأُ بِهِ أَسْمَاؤُهَا، مُرَاعَاةً لِحَالَةِ التَّهَجِّي (فِيمَا أَحْسَبُ)، أَنَّهُمْ لَوْ رَسَمُوهَا بِالْحُرُوفِ الَّتِي يُنْطَقُ بِهَا عِنْدَ ذِكْرِ أَسْمَائِهَا خَشُوا أَنْ يَلْتَبِسَ مَجْمُوعُ حُرُوفِ الْأَسْمَاءِ بِكَلِمَاتٍ مِثْلَ (ياسين)، لَوْ رُسِمَتْ بِأَسْمَاءِ حُرُوفِهَا أَنْ تَلْتَبِسَ بِنِدَاءِ مَنِ اسْمُهُ سِينٌ.
فَعَدَلُوا إِلَى رَسْمِ الْحُرُوفِ عِلْمًا بِأَنَّ الْقَارِئَ فِي الْمُصْحَفِ إِذَا وَجَدَ صُورَةَ الْحَرْفِ نَطَقَ بِاسْمِ تِلْكَ الصُّورَةِ. عَلَى مُعْتَادِهِمْ فِي التَّهَجِّي طَرْدًا لِلرَّسْمِ عَلَى وَتِيرَةٍ وَاحِدَةٍ.
عَلَى أَنَّ رَسْمَ الْمُصْحَفِ سُنَّةٌ سَنَّهَا كُتَّابُ الْمَصَاحِفِ فَأُقِرَّتْ. وَإِنَّمَا الْعُمْدَةُ فِي النُّطْقِ بِالْقُرْآنِ عَلَى الرِّوَايَةِ وَالتَّلَقِّي، وَمَا جُعِلَتْ كِتَابَةُ الْمُصْحَفِ إِلَّا تَذْكِرَةً وَعَوْنًا لِلْمُتَلَقِّي.
وَتَقَدَّمَ هَذَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَفِيمَا هُنَا زِيَادَة عَلَيْهِ.
[٢]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : آيَة ٢]
كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢)
ذَكَرْنَا فِي طَالِعَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّ الْحُرُوفَ الْمُقَطَّعَةَ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ أُعْقِبَتْ بِذِكْرِ الْقُرْآنِ أَوِ الْوَحْي أَو مَا فِي مَعْنَى ذَلِكَ، وَذَلِكَ يُرَجِّحُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ التَّهَجِّي، إِبْلَاغًا فِي التَّحَدِّي لِلْعَرَبِ بِالْعَجْزِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ الْقُرْآنِ وَتَخْفِيفًا لِلْعِبْءِ عَن النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتِلْكَ جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ وَهِيَ هُنَا مَعْدُودَةٌ آيَةً وَلَمْ تُعَدَّ فِي بَعْضِ السُّوَرِ.
فَقَوْلُهُ: كِتابٌ مُبْتَدَأٌ وَوَقَعَ الِابْتِدَاءُ، بِالنَّكِرَةِ أَمَّا لِأَنَّهَا أُرِيدَ
الْمَالِكِيُّ الْجَلِيلُ أَنَّ الْمُسْلِمَ يَقُولُ: أَنَا مُؤْمِنٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ مَا يُخْتَمُ لَهُ بِهِ، وَيَضْعُفُ قَوْلُ الْمَاتُرِيدِيِّ وَطَائِفَةٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْقَيْرَوَانِ عَلَى رَأْسِهِمْ مُحَمَّدُ بْنُ سَحْنُونٍ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَقُولُ: أَنَا مُؤْمِنٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لِأَنَّهُ مُتَحَقِّقٌ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ فَلَا يَقُول كلمة تنبىء عَنِ الشَّكِّ فِي إِيمَانِهِ.
وَقَدْ تَطَايَرَ شَرَرُ الْخِلَافِ بَيْنَ ابْنِ عَبْدُوسٍ وَأَصْحَابِهِ مِنْ جِهَةٍ، وَابْنِ سَحْنُونٍ وَأَصْحَابِهِ مِنْ جِهَةٍ، فِي الْقَيْرَوَانِ زَمَانًا طَوِيلًا وَرَمَى كُلُّ فَرِيقٍ الْفَرِيقَ الْآخَرَ بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِمَا، وَكَانَ أَصْحَابُ ابْنِ سَحْنُونٍ يَدْعُونَ ابْنَ عَبْدُوسٍ وَأَصْحَابَهُ الشَّكُوكِيَّةَ وَتَلَقَّفَتِ الْعَامَّةُ بِالْقَيْرَوَانِ هَذَا الْخِلَافَ عَلَى غَيْرِ فهم فَرُبمَا اجترءوا عَلَى ابْنِ عَبْدُوسٍ وَأَصْحَابِهِ اجْتِرَاءً وَافْتِرَاءً، كَمَا ذَكَرَهُ مُفَصَّلًا عِيَاضٌ فِي «الْمَدَارِكِ» فِي تَرْجَمَةِ مُحَمَّدِ بْنِ سَحْنُونٍ، وترجمة ابْن النبّان، وَالَّذِي حَقَّقَهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ وَعِيَاضٌ أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ: فَإِنْ كَانَ يَقُولُ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَسَرِيرَتُهُ فِي الْإِيمَانِ مِثْلُ عَلَانِيَتِهِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ شَكًّا فَهُوَ شَكٌّ فِي الْإِيمَانِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مَا يُرِيدُهُ ابْنُ عَبْدُوسٍ، وَقَدْ قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: أَنَّ الْخِلَافَ بَيْنَ الْأَشْعَرِيِّ وَالْمَاتُرِيدِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنَ الْخِلَافِ اللَّفْظِيِّ، كَمَا حَقَّقَهُ تَاجُ الدِّينِ السُّبْكِيِّ فِي
«مَنْظُومَتِهِ النُّونِيَّةِ»، وَتَبِعَهُ تِلْمِيذُهُ نُورُ الدِّينِ الشِّيرَازِيُّ فِي «شَرْحِهِ». وَمِمَّا يَجِبُ التَّنْبِيهُ لَهُ أَنَّ الْخِلَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ إِنَّمَا هُوَ مَفْرُوضٌ فِي صِحَّةِ قَوْلِ الْمُؤْمِنِ: أَنَا مُؤْمِنٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَأَنَّ قَوْلَهُ ذَلِك هَل ينبىء عَنْ شَكِّهِ فِي إِيمَانِهِ، وَلَيْسَ الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ أَنَا مُؤْمِنٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ، بِدَلِيلِ أَنَّهُمْ كَثِيرًا مَا يُقَابِلُونَ قَوْلَ الْقَائِلِينَ بِالْمَشِيئَةِ بِقَوْلِ الْآخَرِينَ: أَنَا مُؤْمِنٌ عِنْدَ اللَّهِ، فَرَجَعَتِ الْمَسْأَلَةُ إِلَى اخْتِلَافِ النَّظَرِ فِي حَالَةِ عَقْدِ الْقَلْبِ مَعَ مَا هُوَ فِي عِلْمِ اللَّهِ مِنْ خَاتِمَتِهِ، وَبِذَلِكَ سَهُلَ إِرْجَاعُ الْخِلَافِ إِلَى الْخِلَافِ اللَّفْظِيِّ.
وَالْإِتْيَانُ بِوَصْفِ الرَّبِّ وَإِضَافَتُهُ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُشَارِكِ: إِظْهَارٌ لِحَضْرَةِ الْإِطْلَاقِ، وَتَعْرِيضٌ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا.
وَالْخِلَافُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُعْتَزِلَةِ فِي جَوَازِ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى الْكُفْرَ والمعاصي خلاف ناشىء عَنِ الْخِلَافِ فِي تَحْقِيقِ مَعْنَى الْمَشِيئَةِ وَالْإِرَادَةِ، وَلِكِلَا الْفَرِيقَيْنِ اصْطِلَاحٌ فِي
وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عَنْهُ، الَّتِي جَرَى عَلَيْهَا أَصْحَابُهُ، وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ: أَنَّ الْقُرْبَى هُنَا: هُمْ بَنُو
هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ، دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ. وَمَالَ إِلَيْهِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَمُتَمَسَّكُ هَؤُلَاءِ مَا
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ: أَنَّهُ قَالَ: أَتَيْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَسُولَ اللَّهِ نُكَلِّمُهُ فِيمَا قَسَّمَ مِنَ الْخُمُسِ بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: قَسَمْتَ لِإِخْوَانِنَا بَنِي الْمُطَّلِبِ وَلَمْ تُعْطِنَا شَيْئًا، وَقَرَابَتُنَا وَقَرَابَتُهُمْ وَاحِدَةٌ فَقَالَ: «إِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ»
. وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ لَا نِزَاعَ فِيهِ، وَلَا فِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ دُونَ غَيْرِهِمْ. وَلَكِنَّ فِعْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ يَحْتَمِلُ الْعُمُومَ فِي الْأَمْوَالِ الْمُعْطَاةِ وَيَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ لِأُمُورٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ سَهْمًا مِنَ الْخُمُسِ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَعْطَى بَنِي الْمُطَّلِبِ عَطَاءً مِنْ سَهْمِهِ الْخَاصِّ، جَزَاءً لَهُمْ عَلَى وَفَائِهِمْ لَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَانْتِصَارِهِمْ لَهُ، وَتِلْكَ مَنْقَبَةٌ شَرِيفَةٌ أَيَّدُوا بِهَا دَعْوَةَ الدِّينِ وَهُمْ مُشْرِكُونَ، فَلَمْ يُضِعْهَا اللَّهُ لَهُمْ، وَأَمَرَ رَسُولَهُ بِمُوَاسَاتِهِمْ، وَذَلِكَ لَا يُكْسِبُهُمْ حَقًّا مُسْتَمِرًّا.
ثَانِيهَا: أَنَّ الْحُقُوقَ الشَّرْعِيَّةَ تَسْتَنِدُ لِلْأَوْصَافِ الْمُنْضَبِطَةِ، فَالْقُرْبَى هِيَ النَّسَبُ، وَنَسَبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهَاشِمٍ، وَأَمَّا بَنُو الْمُطَّلِبِ فَهُمْ وَبَنُو عَبْدِ شَمْسٍ وَبَنُو نَوْفَلٍ فِي رُتْبَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ قَرَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ آبَاءَهُمْ هُمْ أَبْنَاءُ عَبْدِ مَنَافٍ، وَإِخْوَةٌ لِهَاشِمٍ، فَالَّذِينَ نَصَرُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَظَاهَرُوهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَتْ لَهُمُ الْمَزِيَّةُ، وَهُمُ الَّذِينَ أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ أَعْيَانَهُمْ وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ أَعْطَى مَنْ نَشَأَ بَعْدَهُمْ مِنْ أَبْنَائِهِمُ الَّذِينَ لَمْ يَحْضُرُوا ذَلِكَ النَّصْرَ، فَمَنْ نَشَأَ بَعْدَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ يُسَاوُونَ أَبْنَاءَ نَوْفَلٍ وَأَبْنَاءَ عَبْدِ شَمْسٍ، فَلَا يَكُونُ فِي عَطَائِهِ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى تَأْوِيلِ ذِي الْقُرْبَى فِي الْآيَةِ بِبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ.
أَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَقَالَ الْجَصَّاصُ فِي «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي «الْجَامِعِ الصَّغِيرِ» : يُقَسَّمُ الْخُمُسُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ (أَيْ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِسَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى) وَرَوَى
وَالرِّجْسُ: الْخُبْثُ. وَالْمُرَادُ تَشْبِيهُهُمْ بِالرِّجْسِ فِي الدَّنَاءَةِ وَدَنَسِ النُّفُوسِ. فَهُوَ رِجْسٌ مَعْنَوِيٌّ. كَقَوْلِهِ: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ [الْمَائِدَة: ٩٠].
وَالْمَأْوَى: الْمَصِيرُ وَالْمَرْجِعُ.
وجَزاءً حَالٌ مِنْ جَهَنَّمُ، أَيْ مُجَازَاةً لَهُمْ عَلَى مَا كَانُوا يعْملُونَ.
[٩٦]
[سُورَة التَّوْبَة (٩) : آيَة ٩٦]
يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٩٦)
هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ [التَّوْبَة:
٩٥] لِأَنَّهُمْ إِذَا حَلَفُوا لِأَجْلِ أَنْ يُعْرِضَ عَنْهُمُ الْمُسلمُونَ فَلَا يلوموهم، فَإِنَّ ذَلِكَ يَتَضَمَّنُ طَلَبَهُمْ رِضَى الْمُسْلِمِينَ.
وَقَدْ فَرَّعَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ إِنْ رَضِيَ الْمُسْلِمُونَ عَنْهُمْ وَأَعْرَضُوا عَنْ لَوْمِهِمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْمُنَافِقِينَ. وَهَذَا تَحْذِيرٌ لِلْمُسْلِمِينَ مِنَ الرِّضَى عَنِ الْمُنَافِقِينَ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ إِذْ قَدْ
عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ مَا لَا يُرْضِي اللَّهَ لَا يَكُونُ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَرْضَوْا بِهِ.
وَالْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ هُمْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ. وَالْعُدُولُ عَنِ الْإِتْيَانِ بِضَمِيرِ (هُمْ) إِلَى التَّعْبِيرِ بِصِفَتِهِمْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى ذَمِّهِمْ وَتَعْلِيلِ عَدَمِ الرِّضَى عَنْهُمْ، فَالْكَلَامُ مُشْتَمِلٌ عَلَى خَبَرٍ وَعَلَى دَلِيلِهِ فَأَفَادَ مُفَادَ كَلَامَيْنِ لِأَنَّهُ يَنْحَلُّ إِلَى: فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنْهُمْ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْم الْفَاسِقين.
[٩٧]
[سُورَة التَّوْبَة (٩) : آيَة ٩٧]
الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٩٧)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ رَجَعَ بِهِ الْكَلَامُ إِلَى أَحْوَالِ الْمُعَذِّرِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ وَالَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْهُمْ، وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ اسْتِطْرَادٌ دَعَا إِلَيْهِ قَرْنُ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ فِي

[٨]

[سُورَة هود (١١) : آيَة ٨]
وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨)
وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ.
مُنَاسَبَتُهُ لِمَا قَبْلَهُ أَنَّ فِي كِلَيْهِمَا وَصْفُ فَنٍّ مِنْ أَفَانِينِ عِنَادِ الْمُشْرِكِينَ وَتَهَكُّمِهِمْ بِالدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، فَإِذَا خَبَّرَهُمُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَعْثِ وَأَنَّ شِرْكَهُمْ سَبَبٌ لِتَعْذِيبِهِمْ جَعَلُوا كَلَامَهُ سِحْرًا، وَإِذَا أَنْذَرَهُمْ بِعُقُوبَةِ الْعَذَابِ عَلَى الْإِشْرَاكِ اسْتَعْجَلُوهُ، فَإِذَا تَأَخَّرَ عَنْهُمْ إِلَى أَجَلٍ اقْتَضَتْهُ الْحِكْمَةُ الرَّبَّانِيَّةُ اسْتَفْهَمُوا عَنْ سَبَبِ حَبْسِهِ عَنْهُمُ اسْتِفْهَامَ تَهَكُّمٍ ظَنًّا أَنَّ تَأَخُّرَهُ عَجْزٌ.
وَاللَّامُ مُوَطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ. وَجُمْلَةُ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ جَوَابُ الْقَسَمِ مغنية من جَوَابِ الشَّرْطِ.
وَالْأُمَّةُ: حَقِيقَتُهَا الْجَمَاعَةُ الْكَثِيرَةُ مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ أَمْرُهُمْ وَاحِدٌ، وَتُطْلَقُ عَلَى الْمُدَّةِ كَأَنَّهُمْ رَاعَوْا أَنَّهَا الْأَمَدُ الَّذِي يَظْهَرُ فِيهِ جِيلٌ فَأُطْلِقَتْ عَلَى مُطْلَقِ الْمُدَّةِ، أَيْ بَعْدَ مُدَّةٍ.
ومَعْدُودَةٍ مَعْنَاهُ مُقَدَّرَةٌ، أَيْ مُؤَجَّلَةٌ. وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مَدِيدَةً لِأَنَّهُ شَاعَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِطْلَاقُ الْعَدِّ وَالْحِسَابِ وَنَحْوِهِمَا عَلَى التَّقْلِيلِ، لِأَنَّ الشَّيْءَ الْقَلِيلَ يُمْكِنُ ضَبْطُهُ بِالْعَدَدِ، وَلِذَلِكَ يَقُولُونَ فِي عَكْسِهِ: بِغَيْرِ حِسَابٍ، مِثْلُ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ [الْبَقَرَة: ٢١٢].
وَالْحَبْسُ: إِلْزَامُ الشَّيْءِ مَكَانًا لَا يَتَجَاوَزُهُ. وَلِذَلِكَ يُسْتَعْمَلُ فِي مَعْنَى الْمَنْعِ كَمَا هُنَا، أَيْ مَا يَمْنَعُ أَنْ يَصِلَ إِلَيْنَا وَيَحِلَّ بِنَا وَهُمْ يُرِيدُونَ التَّهَكُّمَ.
أَوْ وَلِيَهُ مَنْ لَا يَحِلُّ أَنْ يُوَلَّى. وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ وَلِيَهُ مَنْ لَا تَحِلُّ تَوْلِيَتُهُ وَلَا سَبِيلَ لِعَزْلِهِ إِلَّا بِطَلَبِ أَهْلِهِ».
وَقَالَ ابْنُ مَرْزُوقٍ: لَمْ أَقِفْ عَلَى هَذَا لِأَحَدٍ مِنْ قُدَمَاءِ أَهْلِ الْمَذْهَبِ غَيْرِ الْمَازِرِيِّ.
وَقَالَ عِيَاضٌ فِي كِتَابِ الْإِمَارَةِ، أَيْ مِنْ «شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ»، مَا ظَاهِرُهُ الِاتِّفَاقُ عَلَى جَوَازِ الطَّلَبِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ رُشْدٍ فِي «الْمُقَدِّمَاتِ» حُرْمَةُ الطَّلَبِ مُطْلَقًا. قَالَ ابْنُ مَرْزُوقٍ: وَإِنَّمَا رَأَيْتُ مِثْلَ مَا نَقَلَ الْمَازِرِيُّ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ لِلْغَزَّالِيِّ فِي «الْوَجِيز».
[٥٦، ٥٧]
[سُورَة يُوسُف (١٢) : الْآيَات ٥٦ إِلَى ٥٧]
وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٧)
تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ آيَةِ وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ آنِفا.
والتبوؤ: اتِّخَاذُ مَكَانٍ لِلْبَوْءِ، أَيِ الرُّجُوع، فَمَعْنَى التبوؤ النُّزُولُ وَالْإِقَامَةُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً فِي [سُورَةِ يُونُسَ: ٨٧].
وَقَوْلُهُ: يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ كِنَايَةٌ عَنْ تَصَرُّفِهِ فِي جَمِيعِ مَمْلَكَةِ مِصْرَ فَهُوَ عِنْدَ حُلُولِهِ بِمَكَانٍ مِنَ الْمَمْلَكَةِ لَوْ شَاءَ أَنْ يَحِلَّ بِغَيْرِهِ لَفَعَلَ، فَجُمْلَةُ يَتَبَوَّأُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالًا من لِيُوسُفَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَيَانًا لِجُمْلَةِ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ حَيْثُ يَشاءُ- بِيَاءِ الْغَيْبَةِ- وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ حَيْثُ نَشاءُ- بِنُونِ الْعَظَمَةِ-، أَيْ حَيْثُ يَشَاءُ اللَّهُ، أَيْ حَيْثُ نَأْمُرُهُ أَوْ نُلْهِمُهُ. وَالْمَعْنَى مُتَّحِدٌ لِأَنَّهُ لَا يَشَاءُ إِلَّا مَا شَاءَهُ اللَّهُ.
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعُنْوَانِهِ الْأَعَمِّ وَهُوَ كَوْنُهُ كِتَابًا، لِأَنَّهُمْ
حِينَ جادلوا مَا جالوا إِلَّا فِي كِتَابٍ فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ [الْأَنْعَام: ١٥٧] وَلِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ مَا عِنْدَ الْأُمَمِ الْآخَرِينَ بِعُنْوَانِ «كِتَابٍ»، وَيَعْرِفُونَهُمْ بِعُنْوَانِ «أَهْلِ الْكِتَابِ».
فَأَمَّا عُنْوَانُ «الْقُرْآنِ» فَهُوَ مُنَاسِبٌ لِكَوْنِ الْكِتَابِ مَقْرُوءًا مدروسا وَإِنَّمَا يقرأه وَيَدْرُسُهُ الْمُؤْمِنُونَ بِهِ. وَلِذَلِكَ قُدِّمَ عُنْوَانُ «الْقُرْآنِ» فِي سُورَةِ النَّمْلِ كَمَا سَيَأْتِي.
والمبين: اسْم فَاعل مِنْ أَبَانَ الْقَاصِرُ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى بَانَ مُبَالَغَةً فِي ظُهُورِهِ، أَيْ ظُهُورِ قُرْآنِيَّتِهِ الْعَظِيمَةِ، أَيْ ظُهُورِ إِعْجَازِهِ الَّذِي تَحَقَّقَهُ الْمُعَانِدُونَ وَغَيْرُهُمْ.
وَإِنَّمَا لَمْ نَجْعَلِ الْمُبِينَ بِمَعْنَى أَبَانَ الْمُتَعَدِّي لِأَنَّ كَوْنَهُ بَيِّنًا فِي نَفْسِهِ أَشَدُّ فِي تَوْبِيخِ مُنْكِرِيهِ مِنْ وَصْفِهِ بِأَنَّهُ مُظْهِرٌ لِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ. وَسَيَجِيءُ قَرِيبٌ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ فِي أَوَّلِ سُورَة النَّمْل.
[٢]
[سُورَة الْحجر (١٥) : آيَة ٢]
رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (٢)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ وَهُوَ مُفْتَتَحُ الْغَرَضِ وَمَا قَبْلَهُ كَالتَّنْبِيهِ وَالْإِنْذَارِ.
ورُبَما مُرَكَّبَةٌ مِنْ (رُبَ). وَهُوَ حَرْفٌ يَدُلُّ عَلَى تَنْكِيرِ مَدْخُولِهِ وَيَجُرُّ وَيَخْتَصُّ بِالْأَسْمَاءِ. وَهُوَ بِتَخْفِيفِ الْبَاءِ وَتَشْدِيدِهَا فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ. وَفِيهَا عِدَّةُ لُغَاتٍ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِتَخْفِيفِ الْبَاءِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِتَشْدِيدِهَا.
وَاقْتَرَنَتْ بِهَا (مَا) الْكَافَّةُ لِ (رُبَّ) عَنِ الْعَمَلِ. وَدُخُولُ (مَا) بَعْدَ (رُبَّ) يَكُفُّ عَمَلَهَا غَالِبًا. وَبِذَلِكَ يَصِحُّ دُخُولُهَا عَلَى الْأَفْعَالِ. فَإِذَا دَخَلَتْ عَلَى الْفِعْلِ فَالْغَالِبُ أَنْ يُرَادَ بِهَا التَّقْلِيلُ.
فَإِنَّ جُمْلَةَ التَّسْبِيحِ فِي الْكَلَامِ الَّذِي لَمْ يَقَعْ فِيهِ مَا يُوهِمُ تَشْبِيهًا أَوْ تَنْقِيصًا لَا يَلِيقَانِ بِجَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى مِثْلُ سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ [الصافّات: ١٨٠] يَتَعَيَّنُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَعْمَلَةً فِي أَكثر من التَّنْزِيه، وَذَلِكَ هُوَ التَّعْجِيبُ مِنَ الْخَبَرِ الْمُتَحَدَّثِ بِهِ كَقَوْلِهِ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هَذَا بُهْتانٌ عَظِيمٌ [النُّور: ١٦]، وَقَوْلِ الْأَعْشَى:
قَدْ قُلْتُ لَمَّا جَاءَنِي فَخْرُهُ سُبْحَانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الْفَاخِرِ
وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْكَلَامُ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّسْبِيحُ صَادِرًا مِنْهُ كَانَ الْمَعْنَى تَعْجِيبَ السامعين، لِأَن التَّعَجُّب مُسْتَحِيلَةٌ حَقِيقَتُهُ عَلَى اللَّهِ لَا لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ فِي مَحَامِلِ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ لِإِمْكَانِ الرُّجُوعِ إِلَى التَّمْثِيلِ، مِثْلُ مَجِيءِ الرَّجَاءِ فِي كَلَامِهِ تَعَالَى نَحْوُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الْبَقَرَة: ١٨٩]، بَلْ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ تَعَجُّبُ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ فِعْلِ نَفْسِهِ، فَيَكُونُ مَعْنَى التَّعْجِيبِ فِيهِ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِمْ أَتَعْجَبُ مِنْ قَوْلِ فُلَانٍ كَيْتَ وَكَيْتَ.
وَوَجْهُ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ التَّسْبِيحُ عِنْدَ ظُهُورِ مَا يَدُلُّ عَلَى إِبْطَالِ مَا لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ تَعَالَى. وَلَمَّا كَانَ ظُهُورُ مَا يَدُلُّ عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ مُزِيلًا لِلشَّكِّ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ وَلِلْإِشْرَاكِ بِهِ كَانَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَنْطِقَ الْمُتَأَمِّلُ بِتَسْبِيحِ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ تَنْزِيهِهِ عَنِ الْعَجْزِ.
وَأَصْلُ صِيَغِ التَّسْبِيحِ هُوَ كَلِمَةُ «سُبْحَانَ اللَّهِ» الَّتِي نُحِتْ مِنْهَا السَّبْحَلَةُ. وَوَقَعَ التَّصَرُّفُ فِي صِيَغِهَا بِالْإِضْمَارِ نَحْوُ سُبْحَانَكَ وَسُبْحَانَهُ، وَبِالْمَوْصُولِ نَحْوُ سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها [يس: ٣٦] وَمِنْهُ هَذِهِ الْآيَةُ.
وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الذَّاتِ الْعَلِيَّةِ بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِ دُونَ الِاسْمِ الْعَلَمِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى مَا تُفِيدُهُ صِلَةُ الْمَوْصُولِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ هَذَا التَّعْجِيبِ وَالتَّنْوِيهِ وَسَبَبِهِ، وَهُوَ ذَلِكَ الْحَادِثُ الْعَظِيمُ وَالْعِنَايَةُ الْكُبْرَى. وَيُفِيدُ أَنَّ حَدِيثَ الْإِسْرَاءِ أَمْرٌ فَشَا بَيْنَ الْقَوْمِ، فَقَدْ آمَنُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ وَأَكْبَرَهُ الْمُشْرِكُونَ.
(٨٢)
الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِلَفْظِ هَذَا مُقَدَّرٌ فِي الذِّهْنِ حَاصِلٌ مِنِ اشْتِرَاطِ مُوسَى عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ إِنْ سَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَ سُؤَالِهِ الثَّانِي فَقَدِ انْقَطَعَتِ الصُّحْبَةُ بَيْنَهُمَا، أَيْ هَذَا الَّذِي حَصَلَ الْآنَ هُوَ فِرَاقُ بَيْنِنَا، كَمَا يُقَالُ: الشَّرْطُ أَمْلَكُ عَلَيْكَ أَمْ لَكَ. وَكَثِيرًا مَا يَكُونُ الْمشَار إِلَيْهِ مِقْدَار فِي الذِّهْنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ [الْقَصَص: ٨٣]. وَإِضَافَةُ فِراقُ إِلَى بَيْنِي مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ. وَأَصْلُهُ: فِرَاقٌ بَيْنِي، أَيْ حَاصِلٌ بَيْنَنَا، أَوْ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ الْعَامِلِ فِي الظَّرْفِ إِلَى مَعْمُولِهِ، كَمَا يُضَافُ الْمَصْدَرُ إِلَى مَفْعُولِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ خُرُوجُ (بَيْنَ) عَنِ الظَّرْفِيَّةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما [الْكَهْف: ٦١].
وَجُمْلَةُ سَأُنَبِّئُكَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا، تَقَعُ جَوَابًا لِسُؤَالٍ يَهْجِسُ فِي خَاطِرِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ أَسْبَابِ الْأَفْعَالِ الَّتِي فَعَلَهَا الْخَضِرُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَسَأَلَهُ عَنْهَا مُوسَى فَإِنَّهُ قَدْ وَعَدَهُ أَنْ يُحْدِثَ لَهُ ذِكْرًا مِمَّا يَفْعَلُهُ.
وَالتَّأْوِيلُ: تَفْسِيرٌ لِشَيْءٍ غَيْرِ وَاضِحٍ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْأَوَّلِ وَهُوَ الرُّجُوعُ. شَبَّهَ تَحْصِيلُ الْمَعْنَى عَلَى تَكَلُّفٍ بِالرُّجُوعِ إِلَى الْمَكَانِ بَعْدَ السَّيْرِ إِلَيْهِ. وَقَدْ مَضَى فِي الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ، وَأَيْضًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي
الْعِلْمِ يَقُولُونَ
إِلَخْ.. مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٧].
وَفِي صِلَةِ الْمَوْصُولِ مِنْ قَوْلِهِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً تَعْرِيضٌ
وَالْمَجْرُورِ مِنَ الِاهْتِمَامِ بِأَنَّ الِاقْتِرَابَ لِلنَّاسِ لِيَعْلَمَ السَّامِعُ أَنَّ الْمُرَادَ تَهْدِيدُ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يُكَنَّى عَنْهُمْ بِالنَّاسِ كَثِيرًا فِي الْقُرْآنِ، وَعِنْدَ التَّقْدِيمِ احْتِيجَ إِلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ فَصَارَ مِثْلَ: اقْتَرَبَ حِسَابٌ لِلنَّاسِ الْحِسَابِ، وَحُذِفَ الْمُضَافُ لِدَلَالَةِ مُفَسِّرِهِ عَلَيْهِ. وَلَمَّا كَانَ الْحِسَابُ حِسَابَ النَّاسِ الْمَذْكُورِينَ جِيءَ بِضَمِيرِ النَّاسِ لِيَعُودَ إِلَى لَفْظِ النَّاسِ فَيَحْصُلَ تَأْكِيدٌ آخَرُ وَهَذَا نَمَطٌ بَدِيعٌ مِنْ نَسْجِ الْكَلَامِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ بِمَعْنَى (مِنْ) أَوْ بِمَعْنَى (إِلَى) مُتَعَلِّقَةٌ بِ اقْتَرَبَ فَيَكُونُ الْمَجْرُورُ ظَرْفًا
لَغْوًا، وَعَنِ ابْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ مَثَّلَ لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ بِقَوْلِهِمْ: «تَقَرَّبْتُ مِنْكَ».
وَجُمْلَةُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ حَالٌ مِنَ النَّاسِ، أَيِ اقْتَرَبَ مِنْهُمُ الْحِسَابُ فِي حَالِ غَفْلَتِهِمْ وَإِعْرَاضِهِمْ. وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ الْمُشْرِكُونَ لِأَنَّهُمُ الْمَقْصُودُ بِهَذَا الْكَلَامِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ.
وَالْغَفْلَةُ: الذُّهُولُ عَنِ الشَّيْءِ وَعَنْ طُرُقِ عِلْمِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ فِي سُورَةِ [الْأَنْعَامِ: ١٥٦]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ فِي [سُورَةِ الْأَعْرَافِ: ١٤٦].
وَالْإِعْرَاضُ: صَرْفُ الْعَقْلِ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِالشَّيْءِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ فِي سُورَةِ [النِّسَاءِ: ٦٣]، وَقَوْلِهِ: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ فِي سُورَةِ [الْأَنْعَامِ: ٦٨].
وَدَلَّتْ (فِي) عَلَى الظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ الَّتِي هِيَ شِدَّةُ تَمَكُّنِ الْوَصْفِ مِنْهُمْ، أَيْ وَهُمْ غَافِلُونَ أَشَدَّ الْغَفْلَةِ حَتَّى كَأَنَّهُمْ مُنْغَمِسُونَ فِيهَا أَوْ مَظْرُوفُونَ فِي مُحِيطِهَا، ذَلِكَ أَنَّ غَفْلَتَهُمْ عَنْ يَوْمِ الْحِسَابِ مُتَأَصِّلَةٌ فِيهِمْ بِسَبَبِ سَابِقِ كُفْرِهِمْ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ غَافِلُونَ عَنِ الْحِسَابِ وَعَنِ اقْتِرَابِهِ.
وَإِعْرَاضُهُمْ هُوَ إِبَايَتُهُمُ التَّأَمُّلَ فِي آيَاتِ الْقُرْآنِ الَّتِي تُذَكِّرُهُمْ بِالْبَعْثِ وَتَسْتَدِلُّ لَهُمْ عَلَيْهِ، فَمُتَعَلِّقُ الْإِعْرَاضِ غَيْرُ مُتَعَلِّقِ الْغَفْلَةِ لِأَنَّ الْمُعْرِضَ عَنِ الشَّيْءِ
وَلِهَذَا الِاعْتِبَارِ قُدِّمَ هَذَا الْوَصْفُ عَلَى بَقِيَّةِ أَوْصَافِ الْمُؤْمِنِينَ وَجُعِلَ مُوَالِيًا لِلْإِيمَانِ فَقَدْ حَصَلَ الثَّنَاءُ عَلَيْهِمْ بِوَصْفَيْنِ.
وَتَقْدِيمُ فِي صَلاتِهِمْ عَلَى خاشِعُونَ لِلِاهْتِمَامِ بِالصَّلَاةِ لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ لَهُمْ تَعَلُّقًا شَدِيدًا بِالصَّلَاةِ لِأَنَّ شَأْنَ الْإِضَافَةِ أَنْ تُفِيدَ شِدَّةَ الِاتِّصَالِ بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ لِأَنَّهَا عَلَى مَعْنَى لَامِ الِاخْتِصَاصِ. فَلَوْ قِيلَ: الَّذِينَ إِذَا صَلَّوْا خَشَعُوا، فَاتَ هَذَا الْمَعْنَى، وَأَيْضًا لَمْ يَتَأَتَّ وَصْفُهُمْ بِكَوْنِهِمْ خَاشِعِينَ إِلَّا بِوَاسِطَةِ كَلِمَةٍ أُخْرَى نَحْوَ: كَانُوا خَاشِعِينَ. وَإِلَّا يَفُتْ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ مِنْ ثَبَاتِ الْخُشُوعِ لَهُمْ وَدَوَامِهِ، أَيْ كَوْنُ الْخُشُوعِ خُلُقًا لَهُمْ بِخِلَافِ نَحْوِ: الَّذِينَ خَشَعُوا، فَحَصَلَ الْإِيجَازُ، وَلَمْ يفت الإعجاز.
[٣]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : آيَة ٣]
وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣)
الْعَطْفُ مِنْ عَطْفِ الصِّفَاتِ لِمَوْصُوفٍ وَاحِدٍ كَقَوْلِ بَعْضِ الشُّعَرَاءِ وَهُوَ مِنْ شَوَاهِدِ النَّحْوِ:
إِلَى الْمَلِكِ القرم وَابْن الْهمام وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ فِي الْمُزْدَحِمِ
وَتَكْرِيرُ الصِّفَاتِ تَقْوِيَةٌ لِلثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ.
وَالْقَوْلُ فِي تَرْكِيبِ جُمْلَةِ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ كَالْقَوْلِ فِي هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٢]، وَكَذَلِكَ تَقْدِيمُ عَنِ اللَّغْوِ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ.
وَإِعَادَةُ اسْمُ الْمَوْصُولِ دُونَ اكْتِفَاءٍ بِعَطْفِ صِلَةٍ عَلَى صِلَةٍ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ كُلَّ صِفَةٍ مِنَ الصِّفَاتِ مُوجِبَةٌ لِلْفَلَاحِ فَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُمْ لَا يُفْلِحُونَ حَتَّى يَجْمَعُوا بَيْنَ مَضَامِينِ الصَّلَاةِ كُلِّهَا، وَلِمَا فِي الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ مِنْ زِيَادَةِ تَقْرِيرٍ لِلْخَبَرِ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ.
وَاللَّغْوُ: الْكَلَامُ الْبَاطِلُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ فِي الْبَقَرَةِ [٢٢٥]، وَقَوْلِهِ: لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً فِي سُورَةِ مَرْيَمَ
فَانْشَقَّ عَنْهَا عَمُودُ الصُّبْحِ جَافِلَةً عَدْوَ النَّحُوصِ تَخَافُ الْقَانِصَ اللَّحِمَا
وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: أَنَّ هُنَالِكَ انْبِثَاقًا وَانْتِفَاقًا يُقَارِنُهُ نُزُولُ الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ الِانْشِقَاقَ إِذْنٌ لِلْمَلَائِكَةِ بِالْحُضُورِ إِلَى مَوْقِعِ الْحَشْرِ وَالْحِسَابِ.
وَالتَّعْبِيرُ بِالتَّنْزِيلِ يَقْتَضِي أَن السَّمَوَات الَّتِي تَنْشَقُّ عَنِ الْمَلَائِكَةِ أَعْلَى مِنْ مَكَانِ حُضُورِ الْمَلَائِكَةِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَشَقَّقُ بِتَشْدِيدِ الشِّينِ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِتَخْفِيفِ الشِّينِ.
وَالْغَمَامُ: السَّحَابُ الرَّقِيقُ. وَهُوَ مَا يَغْشَى مَكَانَ الْحِسَابِ، قَالَ تَعَالَى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢١٠].
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِالْغَمامِ قِيلَ بِمَعْنَى (عَنْ) أَيْ تَشَقَّقَ عَنْ غَمَامٍ يَحُفُّ بِالْمَلَائِكَةِ.
وَقِيلَ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ يَكُونُ غَمَامٌ يَخْلُقُهُ اللَّهُ فِيهِ قُوَّةٌ تَنْشَقُّ بِهَا السَّمَاءُ لِيَنْزِلَ الْمَلَائِكَةُ مِثْلُ قُوَّةِ الْبَرْقِ الَّتِي تَشُقُّ السَّحَابَ. وَقِيلَ الْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ تَشَقَّقُ مُلَابِسَةً لِغَمَامٍ يَظْهَرُ حِينَئِذٍ.
وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَقْتَضِي مُقَارَنَةَ التَّشَقُّقِ لِنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ وَلَا مُقَارَنَةَ الْغَمَام الْمَلَائِكَة، فَدَعِ الْفَهْمَ يَذْهَبْ فِي تَرْتِيبِ ذَلِكَ كُلَّ مَذْهَبٍ مُمْكِنٍ.
وَأَكَّدَ نُزِّلَ الْمَلائِكَةُ بِالْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ لِإِفَادَةِ أَنَّهُ نُزُولٌ بِالذَّاتِ لَا بِمُجَرَّدِ الِاتِّصَالِ النُّورَانِيِّ مِثْلِ الْخَوَاطِرِ الْمَلَكِيَّةِ الَّتِي تُشَعْشِعُ فِي نُفُوسِ أَهْلِ الْكَمَالِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ بِنُونٍ وَاحِدَةٍ وَتَشْدِيدِ الزَّايِ وَفَتْحِ اللَّامِ وَرَفْعِ الْمَلائِكَةُ مَبْنِيًّا لِلنَّائِبِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَنُنَزِّلُ بِنُونَيْنِ أُولَاهُمَا مَضْمُومَةٌ وَالثَّانِيَةُ سَاكِنَةٌ وَبِضَمِّ اللَّامِ وَنَصْبِ الْمَلائِكَةُ.
وَقَوْلُهُ: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ هُوَ صَدْرُ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ، وَإِنَّمَا قُدِّمَ عَلَيْهِ لِلْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فِي تَقْدِيمِ قَوْلِهِ: يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ [الْفرْقَان:
٢٢] وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي تَكْرِيرِ يَوْمَئِذٍ.
بِيَاءِ الْغَيْبَةِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ الَّذِي أُمِرَ بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَحْكِيًّا بِالْمَعْنَى رُوعِيَ فِيهِ غَيْبَةُ الْمُشْرِكِينَ فِي مَقَامِ الْخِطَابِ بِالْأَمْرِ.
وَمَا مَوْصُولَةٌ وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ. وَالتَّقْدِيرُ: مَا يُشْرِكُونَهَا إِيَّاهُ، أَي أصنامكم.
[٦٠]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : آيَة ٦٠]
أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ مَا كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (٦٠)
أَمْ مُنْقَطِعَةٌ بِمَعْنَى (بَلْ) لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ مِنْ غَرَضٍ إِلَى غَرَضٍ مَعَ مُرَاعَاةِ وُجُودِ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ أَوْ لَفْظِهِ بَعْدَهَا لِأَنَّ (أَمْ) لَا تُفَارِقُ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ. انْتَقَلَ بِهَذَا الْإِضْرَابِ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ الْحَقِيقِيِّ التَّهَكُّمِيِّ إِلَى الِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ، وَمِنَ الْمُقَدِّمَةِ الْإِجْمَالِيَّةِ وَهِيَ قَوْلُهُ آللَّهُ خَيْرٌ أما تشركون [النَّمْل: ٥٩]، إِلَى الْغَرَضِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ الِاسْتِدْلَالُ. عَدَّدَ اللَّهُ الْخَيْرَاتِ وَالْمَنَافِعَ مِنْ آثَارِ رَحْمَتِهِ وَمِنْ آثَارِ قُدْرَتِهِ. فَهُوَ اسْتِدْلَالٌ مَشُوبٌ بِامْتِنَانٍ لِأَنَّهُ ذكرهم بِخلق السَّمَوَات وَالْأَرْضِ فَشَمِلَ ذَلِكَ كُلَّ الْخَلَائِقِ الَّتِي تَحْتَوِي عَلَيْهَا الْأَرْضُ مِنَ النَّاسِ وَالْعَجْمَاوَاتِ، فَهُوَ امْتِنَانٌ بِنِعْمَةِ إِيجَادِهِمْ وَإِيجَادِ مَا بِهِ قوام شؤونهم فِي الْحَيَاةِ، وَبِسَابِقِ رَحْمَتِهِ، كَمَا عَدَّدَهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الرّوم:
٤٠].
وَمن لِلِاسْتِفْهَامِ. وَهِيَ مُبْتَدَأٌ وَالْخَبَرُ جُمْلَةٌ خَلَقَ السَّماواتِ.. إِلَخْ وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ تَقْرِيرِيٌّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَا تَقْدِيرَ فِي الْكَلَامِ. وَذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَجَمِيعُ مُتَابِعِيهِ إِلَى أَنَّ (مَنْ) مَوْصُولَةٌ وَأَنَّ خَبَرَهَا مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِيمَا تَقَدَّمَ آللَّهُ خَيْرٌ [النَّمْل: ٥٩] وَأَنَّ بَعْدَ (أَمْ) هَمْزَةَ اسْتِفْهَامٍ مَحْذُوفَةً، وَالتَّقْدِيرُ: بَلْ أمّن خلق السَّمَوَات إِلَخْ خَيْرٌ أَمْ مَا تُشْرِكُونَ. وَهُوَ تَفْسِيرٌ لَا دَاعِيَ إِلَيْهِ وَلَا يُنَاسِبُ مَعْنَى الْإِضْرَابِ لِأَنَّهُ يكون من جُمْلَةِ الْغَرَضِ الْأَوَّلِ عَلَى مَا فَسَّرَ بِهِ فِي «الْكَشَّافِ» فَلَا يَجْدُرُ بِهِ إِضْرَابُ الِانْتِقَالِ.
فَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٌ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي نِهَايَتِهِ فِي أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ، فَهُوَ تَقْرِيرٌ

[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ٤٨]

وَما كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨)
هَذَا اسْتِدْلَالٌ بِصِفَةِ الْأُمِّيَّةِ الْمَعْرُوفِ بِهَا الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَلَالَتُهَا عَلَى أَنَّهُ مُوحًى إِلَيْهِ مِنَ اللَّهِ أَعْظَمُ دَلَالَةٍ وَقَدْ وَرَدَ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا فِي الْقُرْآنِ فِي مَوَاضِعَ كَقَوْلِهِ: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ [الشورى: ٥٢] وَقَوْلِهِ: فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ.
[يُونُس: ١٦].
وَمَعْنَى: مَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ أَنَّكَ لَمْ تَكُنْ تَقْرَأُ كِتَابًا حَتَّى يَقُولَ أَحَدٌ:
هَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي جَاءَ بِهِ هُوَ مِمَّا كَانَ يَتْلُوهُ مِنْ قَبْلُ.
وَلَا تَخُطُّهُ أَيْ لَا تَكْتُبُ كِتَابًا وَلَوْ كُنْتَ لَا تَتْلُوهُ، فَالْمَقْصُودُ نَفْيُ حَالَتَيِ التَّعَلُّمِ، وَهَمَا التَّعَلُّمُ بِالْقِرَاءَةِ وَالتَّعَلُّمُ بِالْكِتَابَةِ اسْتِقْصَاءً فِي تَحْقِيقِ وَصْفِ الْأُمِّيَّةِ فَإِنَّ الَّذِي يَحْفَظُ كِتَابًا وَلَا يَعْرِفُ يَكْتُبُ لَا يُعَدُّ أُمِّيًّا كَالْعُلَمَاءِ الْعُمْيِ، وَالَّذِي يَسْتَطِيعُ أَنْ يَكْتُبَ مَا يُلْقَى إِلَيْهِ وَلَا يَحْفَظُ عِلْمًا لَا يُعَدُّ أُمِّيًّا مِثْلَ النُّسَّاخِ فَبِانْتِفَاءِ التِّلَاوَةِ وَالْخَطِّ تَحَقَّقَ وصف الأمية.
وإِذاً جَوَابٌ وَجَزَاءٌ لِشَرْطٍ مُقَدَّرٍ بِ (لَوْ) لِأَنَّهُ مَفْرُوضٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَما كُنْتَ تَتْلُوا وَلا تَخُطُّهُ. وَالتَّقْدِيرُ: لَوْ كُنْتَ تَتْلُو قَبْلَهُ كِتَابًا أَوْ تَخُطُّهُ لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ.
ومجيء جَوَاب إِذاً مُقْتَرِنًا بِاللَّامِ الَّتِي يَغْلِبُ اقْتِرَانُ جَوَابِ (لَوْ) بِهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُقَدَّرَ شَرْطٌ بِ (لَوْ) كَمَا فِي قَول قريظ الْعَنْبَرِيِّ:
لَوْ كُنْتُ مِنْ مَازِنٍ لَمْ تَسْتَبِحْ إِبِلِي بَنُو اللَّقِيطَةِ مَنْ ذُهْلِ ابْنِ شَيْبَانَا
إِذَنْ لَقَامَ بِنَصْرِي مَعْشَرٌ خُشُنٌ عِنْدَ الْحَفِيظَةِ إِنْ ذُو لُوثَةٍ لَانَا
قَالَ الْمَرْزُوقِيُّ فِي «شَرْحِ الْحَمَاسَةِ» :(إِذَنْ) هُوَ أَنَّهُ أَخْرَجَ الْبَيْتَ الثَّانِيَ مَخْرَجَ جَوَابِ قَائِلٍ قَالَ لَهُ: وَلَوِ اسْتَبَاحُوا إِبِلَكَ مَاذَا كَانَ يَفْعَلُ بَنُو مَازِنٍ؟ فَقَالَ:
إِذَنْ لَقَامَ بِنَصْرِي مَعْشَرٌ خُشُنٌ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَيْضًا: إِذَنْ لَقَامَ، جَوَابَ (لَوْ) كَأَنَّهُ أُجِيبَ بِجَوَابَيْنِ. وَهَذَا كَمَا

[٣٣]

[سُورَة الْأَحْزَاب (٣٣) : آيَة ٣٣]
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣٣)
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ.
هَذَا أَمْرٌ خُصِّصْنَ بِهِ وَهُوَ وُجُوبُ مُلَازَمَتِهِنَّ بُيُوتَهُنَّ تَوْقِيرًا لَهُنَّ، وَتَقْوِيَةً فِي حُرْمَتِهِنَّ، فَقَرَارُهُنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ عِبَادَةٌ، وَأَنَّ نُزُولَ الْوَحْيِ فِيهَا وَتَرَدُّدَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خِلَالِهَا يُكْسِبُهَا حُرْمَةً. وَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ لَمَّا ضَاقَ عَلَيْهِمُ الْمَسْجِدُ النَّبَوِيُّ يُصَلُّونَ الْجُمُعَةَ فِي بيُوت أَزوَاج النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِي حَدِيثِ «الْمُوَطَّأِ». وَهَذَا الْحُكْمُ وُجُوبٌ عَلَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ كَمَالٌ لِسَائِرِ النِّسَاءِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِفَتْحِ الْقَافِ. وَوَجَّهَهَا أَبُو عُبَيْدَةَ عَنْ الْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ وَالزَّجَّاجِ بِأَنَّهَا لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ فِي قَرَّ بِمَعْنَى: أَقَامَ وَاسْتَقَرَّ، يَقُولُونَ: قَرِرْتُ فِي الْمَكَانِ بِكَسْرِ الرَّاءِ مِنْ بَابِ عَلِمَ فَيَجِيءُ مُضَارِعُهُ بِفَتْحِ الرَّاءِ فَأَصْلُ قَرْنَ اقْرَرْنَ فَحُذِفَتِ الرَّاءُ الْأُولَى لِلتَّخْفِيفِ مِنَ التَّضْعِيفِ وَأُلْقِيَتْ حَرَكَتُهَا عَلَى الْقَافِ نَظِيرَ قَوْلِهِمْ: أَحَسْنَ بِمَعْنى أحسن فِي قَوْلِ أَبِي زُبَيْدٍ:
سِوَى أَنَّ الْجِيَادَ مِنَ الْمَطَايَا أَحَسْنَ بِهِ فَهُنَّ إِلَيْهِ شُوسُ
وَأَنْكَرَ الْمَازِنِيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ لُغَةً، وَزَعَمَ أَنَّ قَرِرْتُ بِكَسْرِ الرَّاءِ فِي الْمَاضِي لَا يَرِدُ إِلَّا فِي مَعْنَى قُرَّةِ الْعَيْنِ، وَالْقِرَاءَةُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمَا. وَالْتَزَمَ النَّحَّاسُ قَوْلَهُمَا وَزَعَمَ أَنَّ تَفْسِيرَ الْآيَةِ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنَّهَا مِنْ قُرَّةِ الْعَيْنِ وَأَنَّ الْمَعْنَى: وَاقْرَرْنَ عُيُونًا فِي بُيُوتِكُنَّ، أَيْ لَكُنَّ فِي بيوتكن قرّة عين فَلَا تَتَطَلَّعْنَ إِلَى مَا جَاوَزَ ذَلِكَ، أَيْ فَيَكُونُ كِنَايَةً عَنْ مُلَازَمَةِ بُيُوتِهِنَّ.
وَقَرَأَ بَقِيَّةُ الْعَشَرَةِ وَقَرْنَ بِكَسْرِ الْقَافِ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: هُوَ مِنَ الْقَرَارِ، أَصْلُهُ: اقْرِرْنَ بِكَسْرِ الرَّاءِ الْأُولَى فَحُذِفَتْ تَخْفِيفًا، وَأُلْقِيَتْ حَرَكَتُهَا عَلَى الْقَافِ كَمَا قَالُوا: ظَلْتَ وَمَسْتَ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةِ: يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ قِرْنَ، أَيْ بِكَسْرِ الْقَافِ أَمْرًا مِنَ الْوَقَارِ، يُقَالُ: وَقِرَ فُلَانٌ يَقِرُّ، وَالْأَمْرُ مِنْهُ قِرْ لِلْوَاحِدِ، وَلِلنِّسَاءِ قِرْنَ مِثْلَ عِدْنَ، أَيْ فَيَكُونُ كِنَايَةً عَنْ مُلَازَمَةِ بُيُوتِهِنَّ
مَعَ الْإِيمَاءِ إِلَى عِلَّةٍ ذَلِكَ بِأَنَّهُ وَقَارٌ لَهُنَّ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بُيُوتِكُنَّ بِكَسْرِ الْبَاءِ. وَقَرَأَهُ وَرَشٌ عَنْ نَافِعٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِضَمِّ الْبَاءِ.
وَلَا مُلْجِئَ إِلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ فِي الْمُعَادِ، وَقَدْ عَلِمْتَ تَوْجِيهَ الِاعْتِبَارِ الْأَوَّلِ لِتَصْحِيحِ الْعُمُومِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِنْكَارِيًّا نَزَلَتْ غَفْلَتُهُمْ عَنْ إِهْلَاكِ الْقُرُونِ مَنْزِلَةَ عَدَمِ الْعِلْمِ فَأُنْكِرَ عَلَيْهِمْ عَدَمُ الْعِلْمِ بِذَلِكَ وَهُوَ أَمْرٌ مَعْلُومٌ مَشْهُورٌ، وَيَجُوزُ كَوْنُ الِاسْتِفْهَامِ تَقْرِيرِيًّا بُنِيَ التَّقْرِيرُ عَلَى نَفْيِ الْعلم بإهلاك الْقُرْآن اسْتِقْصَاءً لِمَعْذِرَتِهِمْ حَتَّى لَا يَسَعَهُمْ إِلَّا الْإِقْرَار بِأَنَّهُم عالمون فَيَكُونُ إِقْرَارُهُمْ أَشَدَّ لُزُومًا لَهُمْ لِأَنَّهُمُ اسْتَفْهَمُوا عَلَى النَّفْيِ فَكَانَ يَسَعُهُمْ أَنْ يَنْفُوا ذَلِكَ.
وَالرُّؤْيَةُ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ عِلْمِيَّةٌ وَلَيْسَتْ بَصَرِيَّةً لِأَنَّ إِهْلَاكَ الْقُرُونِ لَمْ يَكُنْ مَشْهُودًا لِأُمَّةٍ جَاءَتْ بَعْدَ الْأُمَّةِ الَّتِي أُهْلِكَتْ قَبْلَهَا. وَفَعَلُ الرُّؤْيَةِ مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ بِوُرُودِ كَمْ لِأَنَّ كَمْ لَهَا صَدْرُ الْكَلَامِ سَوَاءً كَانَتِ اسْتِفْهَامًا أَمْ خَبَرًا، فَإِنَّ كَمْ الْخَبَرِيَّةَ مَنْقُولَةٌ مِنَ الِاسْتِفْهَامِيَّةِ وَمَا لَهُ صَدْرُ الْكَلَامِ لَا يَعْمَلُ مَا قَبْلَهُ فِيمَا بَعْدَهُ.
وكَمْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِ أَهْلَكْنا: وَمُفَادُهَا كَثْرَةٌ مُبْهَمَةٌ فُسِّرَتْ بِقَوْلِهِ: مِنَ الْقُرُونِ وَوَقَعَتْ كَمْ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ لِقَوْلِهِ: أَهْلَكْنا.
وقَبْلَهُمْ ظَرْفٌ لِ أَهْلَكْنا وَمَعْنَى قَبْلَهُمْ: قَبْلَ وُجُودِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ أَهْلَكْنا لِأَنَّ الْإِهْلَاكَ يَشْتَمِلُ عَلَى عَدَمِ الرُّجُوعِ أُبَدِلَ الْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مِنْ «أَنْ» وَمَا بَعْدَهَا مِنْ مَعْنَى جُمْلَةِ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ لِأَنَّ مَعْنَى تِلْكَ الْجُمْلَةِ كَثْرَة الإهلاك أَو كَثْرَةُ الْمُهْلَكِينَ. وَفِعْلُ الرُّؤْيَةِ عَامِلٌ فِي أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ بِالتَّبَعِيَّةِ لِتَسَلُّطِ مَعْنَى الْفِعْلِ عَلَى جُمْلَةِ كَمْ أَهْلَكْنا لِأَنَّ التَّعْلِيقَ يُبْطِلُ الْعَمَلَ فِي اللَّفْظِ لَا فِي الْمَحَلِّ.
وَفَائِدَةُ هَذَا الْبَدَلِ تَقْرِيرُ تَصْوِيرِ الْإِهْلَاكِ لِزِيَادَةِ التَّخْوِيفِ، وَلِاسْتِحْضَارِ تِلْكَ الصُّورَةِ فِي الْإِهْلَاكِ أَيْ إِهْلَاكًا لَا طماعية مَعَه لرجوع إِلَى الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْإِهْلَاكُ مِنْ عَدَمِ الرُّجُوعِ إِلَى الْأَهْلِ وَالْأَحْبَابِ مِمَّا يَزِيدُ الْحَسْرَةَ اتِّضَاحًا.
وَقَوْلُهُ: لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا اللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ وَهِيَ تَتَعَلَّقُ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لَهُمْ مَا يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَالتَّقْدِيرُ: وَعَدَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ وَالْتَزَمَ لَهُمْ ذَلِكَ لِيُكَفِّرَ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ وَعَدَهُمْ وَعْدًا مُطْلَقًا لِيُكَفِّرَ عَنْهُمْ أَسْوَأَ مَا عَمِلُوهُ، أَيْ مَا وَعَدَهُمْ بِذَلِكَ الْجَزَاءِ إِلَّا لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِ مَا عَمِلُوا.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ إِعْلَامُهُمْ بِهِ لِيَطْمَئِنُّوا مِنْ عَدَمِ مُؤَاخَذَتِهِمْ عَلَى مَا فَرَطَ مِنْهُمْ مِنَ الشِّرْكِ وَأَحْوَالِهِ.
وأَسْوَأَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا عَلَى ظَاهِرِ اسْمِ التَّفْضِيلِ مِنِ اقْتِضَاءِ مُفَضَّلٍ عَلَيْهِ، فَالْمُرَادُ بِأَسْوَأِ عَمَلِهِمْ هُوَ أَعْظَمُهُ سُوءًا وَهُوَ الشِّرْكُ،
سُئِلَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟
فَقَالَ: «أَنْ تَدْعُوَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ»
. وَإِضَافَتُهُ إِلَى الَّذِي عَمِلُوا إِضَافَةٌ حَقِيقِيَّةٌ، وَمَعْنَى كَوْنِ الشِّرْكِ مِمَّا عَمِلُوا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الشِّرْكَ عَمَلٌ قَلْبِيٌّ أَوْ بِاعْتِبَارِ مَا يَسْتَتْبِعُهُ مِنَ السُّجُودِ لِلصَّنَمِ، وَإِذَا كَفَّرَ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا كَفَّرَ عَنْهُمْ مَا دونه من سيّىء أَعْمَالِهِمْ بِدَلَالَةِ الْفَحْوَى، فَأَفَادَ أَنَّهُ يُكَفِّرُ عَنْهُمْ جَمِيعَ مَا عَمِلُوا مِنْ سَيِّئَاتٍ، فَإِنْ أُرِيدَ بِذَلِكَ مَا سَبَقَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ فَالْآيَةُ تَعُمُّ كُلَّ مَنْ صَدَّقَ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنِ بَعْدَ أَنْ كَانَ كَافِرًا فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ، وَإِنْ أُرِيدَ بِذَلِكَ مَا عَسَى أَنْ يَعْمَلَهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ مِنَ الْكَبَائِرِ فِي الْإِسْلَامِ كَانَ هَذَا التَّكْفِيرُ خُصُوصِيَّةً لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ فَضْلَ الصُّحْبَةِ عَظِيمٌ.
رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تسبّوا أَصْحَابِي فو الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ».
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَسْوَأَ مَسْلُوبَ الْمُفَاضَلَةِ وَإِنَّمَا هُوَ مُجَازٌ فِي السُّوءِ الْعَظِيمِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [يُوسُف: ٣٣] أَيِ الْعَمَلُ الشَّدِيدُ السُّوءِ، وَهُوَ الْكَبَائِرُ، وَتَكُونُ إِضَافَتُهُ بَيَانِيَّةً. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ رُتْبَةَ صُحْبَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَظِيمَةٌ.
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي لَا تَتَّخِذُوهُمْ
وَيَنْسَى مَا عَسَى أَنْ يَطْرَأَ عَلَيْهِ مِنَ الضُّرِّ
فَلَا يَسْتَعِدُّ لِدَفْعِهِ عَنْ نَفْسِهِ بِسُؤَالِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ أَنْ يَدْفَعَهُ عَنْهُ وَيُعِيذَهُ مِنْهُ. فَأَمَّا أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَسْأَمُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ فَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَا يَكْتَفِي، فَأَطْلَقَ عَلَى الِاكْتِفَاءِ وَالِاقْتِنَاعِ السَّآمَةَ، وَهِيَ الْمَلَلُ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ بِتَشْبِيهِ اسْتِرْسَالِ الْإِنْسَانِ فِي طَلَبِ الْخَيْرِ عَلَى الدَّوَامِ بِالْعَمَلِ الدَّائِمِ الَّذِي شَأْنُهُ أَنْ يَسْأَمَ مِنْهُ عَامِلُهُ فَنَفْيُ السَّآمَةِ عَنْهُ رَمْزٌ لِلِاسْتِعَارَةِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَيْنِ مَنْ ذَهَبٍ لَأَحَبَّ لَهُمَا ثَالِثًا، وَلَوْ أَنَّ لَهُ ثَلَاثَةً لَأَحَبَّ لَهُمَا رَابِعًا، وَلَا يَمْلَأُ عَيْنَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ»
، وَقَالَ تَعَالَى: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات: ٨].
وَالدُّعَاءُ: أَصْلُهُ الطَّلَبُ بِالْقَوْلِ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي الطَّلَبِ مُطْلَقًا فَتَكُونُ إِضَافَتُهُ إِلَى الْخَيْرِ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَا فِي مَعْنَى الْمَفْعُولِ، أَيِ الدُّعَاءُ بِالْخَيْرِ أَوْ طَلَبُ الْخَيْرِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ اسْتِعَارَةً مَكْنِيَّةً، شَبَّهَ الْخَيْرَ بِعَاقِلٍ يَسْأَلُهُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُقْبِلَ عَلَيْهِ، فَإِضَافَةُ الدُّعَاءِ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ.
وَأَمَّا أَن الْإِنْسَان يؤوس قُنُوطٌ إِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَذَلِكَ مِنْ خُلُقِ قِلَّةِ صَبْرِ الْإِنْسَانِ عَلَى مَا يُتْعِبُهُ وَيَشُقُّ عَلَيْهِ فَيَضْجَرُ إِنْ لَحِقَهُ شَرٌّ وَلَا يُوَازِي بَيْنَ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ خَيْرٍ فَيَقُولُ: لَئِنْ مَسَّنِيَ الشَّرُّ زَمَنًا لَقَدْ حَلَّ بِيَ الْخَيْرُ أَزْمَانًا، فَمِنَ الْحَقِّ أَنْ أَتَحَمَّلَ مَا أَصَابَنِي كَمَا نَعِمْتُ بِمَا كَانَ لِي مِنْ خَيْرٍ، ثُمَّ لَا يَنْتَظِرُ إِلَى حِينِ انْفِرَاجِ الشَّرِّ عَنْهُ وَيَنْسَى الْإِقْبَالَ عَلَى سُؤَالِ اللَّهِ أَنْ يَكْشِفَ عَنْهُ الضُّرَّ بَلْ يَيْأَسُ وَيَقْنَطُ غَضَبًا وَكِبْرًا وَلَا يَنْتَظِرُ مُعَاوَدَةَ الْخَيْرِ ظَاهِرًا عَلَيْهِ أَثَرُ الْيَأْسِ بِانْكِسَارٍ وَحُزْنٍ. وَالْيَأْسُ فِعْلٌ قَلْبِيٌّ هُوَ: اعْتِقَاد عدم حُصُوله الميئوس مِنْهُ.
وَالْقُنُوطُ: انْفِعَالٌ يُدْنِي مِنْ أَثَرِ الْيَأْسِ وَهُوَ انْكِسَارٌ وَتَضَاؤُلٌ. وَلَمْ يَذْكُرْ هُنَا أَنَّهُ ذُو دُعَاءٍ لِلَّهِ كَمَا ذَكَرَ فِي قَوْلِهِ الْآتِي: وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ [فصلت: ٥١]. لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَهْلُ الشِّرْكِ وَهُمْ إِنَّمَا يَنْصَرِفُونَ إِلَى أَصْنَامِهِمْ.
جُمْلَةِ أَرُونِي وَفِعْلُ الرُّؤْيَةِ مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ بِوُرُودِ مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةِ بَعْدَهُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنَ الْأَرْضِ مَخْلُوقًا لَهُمْ بَطَلَ أَنْ يَكُونُوا آلِهَةً لِخُرُوجِ الْمَخْلُوقَاتِ عَنْ خَلْقِهِمْ، وَإِذَا بَطَلَ أَنْ يَكُونَ لَهَا خَلْقٌ بَطَلَ أَنْ يَكُونَ لَهَا تَصَرُّفٌ فِي الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَيُشْرِكُونَ مَا لَا
يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ
فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٩١، ١٩٢].
وأَمْ حَرْفُ إِضْرَابٍ انْتِقَالِيٍّ. وَالِاسْتِفْهَامُ الْمُقَدَّرُ بَعْدَ أَمْ الْمُنْقَطِعَةِ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ أَيْ لَيْسَ لَهُمْ شِرْكٌ مَعَ اللَّهِ فِي السَّمَاوَاتِ. وَإِنَّمَا أُوثِرَ انْتِفَاءُ الشَّرِكَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلشَّرِكَةِ فِي السَّمَاوَاتِ دُونَ انْتِفَاءِ الْخَلْقِ كَمَا أُوثِرَ انْتِفَاءُ الْخَلْقِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَرْضِ لِأَنَّ مَخْلُوقَاتِ الْأَرْضِ مُشَاهَدَةٌ لِلنَّاسِ ظَاهِرٌ تَطَوُّرُهَا وَحُدُوثُهَا وَأَنْ لَيْسَ لِمَا يَدْعُونَهُمْ دُونَ اللَّهِ أَدْنَى عَمَلٍ فِي إِيجَادِهَا، وَأَمَّا الْمَوْجُودَاتُ السَّمَاوِيَّةُ فَهِيَ مَحْجُوبَةٌ عَنِ الْعُيُونِ لَا عَهْدَ لِلنَّاسِ بِظُهُورِ وَجُودِهَا وَلَا تَطَوُّرِهَا فَلَا يَحْسُنُ الِاسْتِدْلَالُ بِعَدَمِ تَأْثِيرِ الْأَصْنَامِ فِي إِيجَادِ شَيْءٍ مِنْهَا وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ يَدَعِ الْمُشْرِكُونَ تَصَرُّفًا لِلْأَصْنَامِ إِلَّا فِي أَحْوَالِ النَّاسِ فِي الْأَرْضِ مِنْ جَلْبِ نَفَّعٍ أَوْ دَفَعِ ضُرٍّ اقْتَصَرَ فِي نَفْيِ تَصَرُّفِهِمْ فِي السَّمَاوَاتِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِنَفْيِ أَنْ يَكُونَ لِلْأَصْنَامِ شَرِكَةٌ فِي أُمُورِ السَّمَاوَاتِ لِأَنَّ انْتِفَاءَ ذَلِكَ لَا يُنَازِعُونَ فِيهِ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ فَاطِرٍ [٤٠] قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الْآيَةَ فَانْظُرْ ذَلِكَ.
ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِالْمُشَاهَدَةِ وَبِالْإِقْرَارِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِالْأَخْبَارِ الصَّادِقَةِ بِقَوْلِهِ:
ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَجُمْلَةُ ائْتُونِي بِكِتابٍ فِي مَوْقِعِ مَفْعُولٍ ثَانٍ لِفِعْلِ أَرَأَيْتُمْ، كُرِّرَ كَمَا يَتَعَدَّدُ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ. وَمَنَاطُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ عَلَى إِبْطَالِ دَعْوَى الْمُدَّعِي بِانْعِدَامِ الْحُجَّةِ عَلَى دَعْوَاهُ وَيُسَمَّى الْإِفْحَامَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالْمَعْنَى: نَفْيُ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ حُجَّةٌ عَلَى إِلَهِيَّةِ الْأَصْنَامِ لَا بِتَأْثِيرِهَا فِي الْمَخْلُوقَاتِ، وَلَا بِأَقْوَالِ الْكُتُبِ، فَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ فَاطِرٍ [٤٠] أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ. وَالْمُرَادُ بِ (كِتَابٍ) أَيْ كِتَابٌ مِنَ الْكُتُبِ الْمَقْرُوءَةِ. وَهَذَا قَاطِعٌ لَهُمْ فَإِنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ ادِّعَاءَ أَنَّ لِأَصْنَامِهِمْ فِي الْكُتُبِ السَّابِقَةِ ذِكْرًا غَيْرَ الْإِبْطَالِ وَالتَّحْذِيرِ مِنْ عِبَادَتِهَا، فَلَا يُوجَدُ فِي الْكُتُبِ إِلَّا أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إِمَّا إِبْطَالُ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ كَمَا فِي
أُعَوِّدُ مِثْلَهَا الْحُكَمَاءَ بَعْدِي إِذَا مَا الْحَقُّ فِي الْحَدَثَانِ نَابَا
إِذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بِأْرِضِ قَوْمٍ رَعَيْنَاهُ وَإِنْ كَانُوا غِضَابَا
وَالْمَعْنَى: أَنَّ قِصَّةَ مُوسَى آيَةٌ دَائِمَةٌ. وَعُقِّبَتْ قِصَّةُ قَوْمِ لُوطٍ بِقِصَّةِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ تَنَاسُبٍ فِي أَنَّ الْعَذَابَ الَّذِي عُذِّبَ بِهِ الْأُمَّتَانِ عَذَابٌ أَرْضِيٌّ إِذْ عُذِّبَ قَوْمُ لُوطٍ بِالْحِجَارَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ طِينٍ، وَعُذِّبَ قَوْمُ فِرْعَوْنَ بِالْغَرَقِ فِي الْبَحْرِ، ثُمَّ ذُكِرَ عَادٌ وَثَمُودُ وَكَانَ عَذَابُهُمَا سَمَاوِيًّا إِذْ عُذِّبَتْ عَادٌ بِالرِّيحِ وَثَمُودُ بِالصَّاعِقَةِ.
وَالسُّلْطَانُ الْمُبِينُ: الْحُجَّةُ الْوَاضِحَةُ وَهِيَ الْمُعْجِزَاتُ الَّتِي أَظْهَرَهَا لِفِرْعَوْنَ مِنِ انْقِلَابِ الْعَصَا حَيَّةً، وَمَا تَلَاهَا مِنَ الْآيَاتِ الثَّمَانِ.
وَالتَّوَلِّي حَقِيقَتُهُ: الِانْصِرَافُ عَنِ الْمَكَانِ. وَالرُّكْنُ حَقِيقَتُهُ: مَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ مِنْ بِنَاءٍ وَنَحْوِهِ، وَيُسَمَّى الْجَسَدُ رُكْنًا لِأَنَّهُ عِمَادُ عَمَلِ الْإِنْسَانِ.
وَقَوْلُهُ: فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ تَمْثِيلٌ لِهَيْئَةِ رَفْضِهِ دَعْوَةَ مُوسَى بِهَيْئَةِ الْمُنْصَرِفِ عَنْ شَخْصٍ.
وَبِإِيرَادِ قَوْلِهِ: بِرُكْنِهِ تَمَّ التَّمْثِيلُ وَلَوْلَاهُ لَكَانَ قَوْله: فَتَوَلَّى مُجَرَّدَ اسْتِعَارَةٍ.
وَالْبَاءُ لَلْمُلَابَسَةِ، أَيْ مُلَابِسًا رُكْنَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ [الْإِسْرَاء:
٨٣].
وَالْمُلِيمُ: الَّذِي يَجْعَلُ غَيْرَهُ لَائِمًا عَلَيْهِ، أَيْ وَهُوَ مُذْنِبٌ ذَنْبًا يَلُومُهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، أَيْ
يُؤَاخِذُهُ بِهِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ مُسْتَوْجِبٌ الْعِقَابَ كَمَا قَالَ: فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ [إِبْرَاهِيم: ٢٢].
وَالْمعْنَى: أَن فِي قِصَّةَ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ آيَةٌ لَلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ فَيَجْتَنِبُونَ مِثْلَ أَسْبَابِ مَا حَلَّ بِفِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ مِنَ الْعَذَابِ وَهِيَ الْأَسْبَابُ الَّتِي ظَهَرَتْ فِي مُكَابَرَةِ فِرْعَوْنَ عَنْ تَصْدِيقِ الرَّسُولِ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْهِ، وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يَخَافُونَ الْعَذَابَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ لَا يَتَّعِظُونَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَا يُصَدِّقُونَ بِالنَّوَامِيسِ الْإِلَهِيَّةِ وَلَا يَتَدَبَّرُونَ فِي دَعْوَةِ أَهْلِ الْحَقِّ فَهُمْ لَا يَزَالُونَ مُعْرِضِينَ سَاخِرِينَ عَنْ
(٢)
تَتَنَزَّلُ جُمْلَةُ الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ وَمَا يُتِمُّ أَحْكَامَهَا مَنْزِلَةَ الْبَيَانِ لِجُمْلَةِ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها [المجادلة: ١] الْآيَةَ لِأَنَّ فِيهَا مَخْرَجًا مِمَّا لَحِقَ بِالْمُجَادِلَةِ مِنْ ضُرٍّ بِظِهَارِ زَوْجِهَا، وَإِبْطَالًا لَهُ، وَلَهَا أَيْضًا مَوْقِعُ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ لِجُمْلَةِ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ يُثِيرُ سُؤَالًا فِي النَّفْسِ أَنْ تَقُولَ: فَمَاذَا نَشَأَ عَنِ اسْتِجَابَةِ اللَّهِ لِشَكْوَى الْمُجَادِلَةِ فَيُجَابُ بِمَا فِيهِ الْمَخْرَجُ لَهَا مِنْهُ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ يَظَّهَّرُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَتَشْدِيدِ الظَّاءِ وَالْهَاءِ مَفْتُوحَتَيْنِ بِدُونِ أَلِفٍ بَعْدَ الظَّاءِ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ: يَتَظَهَّرُونَ، فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الظَّاءِ لِقُرْبِ مَخْرَجَيْهِمَا، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَخَلَفٌ يُظاهِرُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَتَشْديد الظَّاء وَألف بَعْدَهَا عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ: يَتَظَاهَرُونَ، فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ يُظاهِرُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَتَخْفِيفِ الظَّاءِ وَأَلِفٍ وَكَسْرِ الْهَاءِ عَلَى أَنَّهُ مُضَارِعُ ظَاهَرَ.
وَلَمْ يَأْتِ مَصْدَرُهُ إِلَّا عَلَى وَزْنِ الْفِعَالِ وَوَزْنِ الْمُفَاعَلَةِ. يُقَالُ: صَدَرَ مِنْهُ ظِهَارٌ
وَمُظَاهَرَةٌ، وَلَمْ يَقُولُوا فِي مَصْدَرِهِ بِوَزْنِ التَّظَهُّرِ، فَقِرَاءَةُ نَافِعٍ قَدِ اسْتُغْنِيَ فِيهَا عَنْ مَصْدَرِهِ بِمَصْدَرِ مُرَادِفِهِ.
وَمَعْنَاهُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلَ لِزَوْجِهِ: أَنْتَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي. وَكَانَ هَذَا قَوْلًا يَقُولُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُرِيدُونَ بِهِ تَأْبِيدَ تَحْرِيمِ نِكَاحِهَا وَبَتِّ عِصْمَتِهِ. وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الظَّهْرِ ضِدِّ الْبَطْنِ لِأَنَّ الَّذِي يَقُولُ لْامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، يُرِيد بذلك أَنَّهُ حَرَّمَهَا عَلَى نَفْسِهِ. كَمَا أَنَّ أُمَّهُ حَرَامٌ عَلَيْهِ، فَإِسْنَادُ تَرْكِيبِ التَّشْبِيهِ إِلَى ضَمِيرِ الْمَرْأَةِ عَلَى تَقْدِيرِ حَالَةٍ مِنْ حَالَاتِهَا، وَهِيَ حَالَةُ الِاسْتِمْتَاعِ الْمَعْرُوفِ، سَلَكُوا فِي هَذَا التَّحْرِيمِ مَسْلَكَ الِاسْتِعَارَةِ الْمَكْنِيَّةِ بِتَشْبِيهِ الزَّوْجَةِ حِينَ يَقْرَبُهَا زَوْجُهَا بِالرَّاحِلَةِ، وَإِثْبَاتُ الظَّهْرِ لَهَا تَخَيُّلٌ لِلِاسْتِعَارَةِ، ثُمَّ تَشْبِيهِ ظَهْرِ زَوْجَتِهِ بِظَهْرِ أُمِّهِ، أَيْ فِي حَالَةٍ مِنْ أَحْوَالِهِ، وَهِيَ حَالَةُ الِاسْتِمْتَاعِ الْمَعْرُوفِ. وَجُعِلَ الْمُشَبَّهُ ذَاتُ الزَّوْجَةِ. وَالْمَقْصُودُ أَخَصُّ أَحْوَالِ الزَّوْجَةِ وَهُوَ حَالُ قُرْبَانِهَا فَآلَ إِلَى إِضَافَةِ الْأَحْكَامِ إِلَى الْأَعْيَانِ.
فَالتَّقْدِيرُ: قُرْبَانُكِ كَقُرْبَانِ ظَهْرِ أُمِّي، أَيِ اعْتِلَائِهَا الْخَاصِّ. فَفِي هَذِهِ الصِّيغَةِ حَذْفٌ وَمَجِيءُ حُرُوفِ لَفْظِ ظَهْرٍ فِي صِيغَةِ ظِهَارٍ أَوْ مُظَاهَرَةٍ يُشِيرُ إِلَى صِيغَةِ التَّحْرِيمِ الَّتِي هِيَ «أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي» إِيمَاءٌ إِلَى تِلْكَ الصِّيغَةِ عَلَى نَحْوِ
وَذِكْرُ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ هُنَا نَظِيرُ ذِكْرِ مِثْلِهِ عَقِبَ نَظِيرِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ إِلَى قَوْلِهِ: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْفرْقَان: ١- ٢].
وَالْبَاءُ فِي بِيَدِهِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى (فِي) مِثْلُ الْبَاءِ الَّتِي تَدْخُلُ عَلَى أَسْمَاءِ الْأَمْكِنَةِ نَحْوُ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ [آل عمرَان: ١٢٣] وَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
بِسِقْطِ اللِّوَى فَالظَّرْفِيَّةُ هُنَا مَجَازِيَّةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَى إِحَاطَةِ قُدْرَتِهِ بِحَقِيقَةِ الْمُلْكِ، وَالْملك عَلَى هَذَا اسْمٌ لِلْحَالَةِ الَّتِي يَكُونُ صَاحِبُهَا مَلِكًا.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْمُلْكُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ الَّذِي يَشْمَلُ جَمِيعَ أَفْرَادِ الْجِنْسِ، وَهُوَ الْاسْتِغْرَاقُ فَمَا يُوجَدُ مِنْ أَفْرَادِهِ فَرْدٌ إِلَّا وَهُوَ مِمَّا فِي قُدْرَةِ اللَّهِ فَهُوَ يُعْطِيهِ وَهُوَ يَمْنَعُهُ.
وَالْيَدُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ اسْتِعَارَةٌ لِلْقُدْرَةِ وَالتَّصَرُّفِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ [الذاريات: ٤٧] وَقَوْلِ الْعَرَبِ: مَا لِي بِهَذَا الْأَمْرِ يَدَانِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَيَكُونُ الْمُلْكُ اسْمًا فَيَأْتِي فِي مَعْنَاهُ مَا قُرِّرَ فِي الْوَجْهِ الْمُتَقَدِّمِ.
وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ وَهُوَ بِيَدِهِ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ لِإِفَادَةِ الْاِخْتِصَاصِ، أَيِ الْمُلْكُ بِيَدِهِ لَا
بَيْدِ غَيْرِهِ.
وَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌ مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِ الْاِعْتِدَادِ بِمُلْكِ غَيْرِهِ، وَلَا بِمَا يَتَرَاءَى مِنْ إِعْطَاءِ الْخُلَفَاءِ وَالْمُلُوكِ الْأَصْقَاعَ لِلْأُمَرَاءِ وَالسَّلَاطِينِ وَوُلَاةِ الْعَهْدِ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مُلْكٌ غَيْرُ تَامٍّ لِأَنَّهُ لَا يَعُمُّ الْمَمْلُوكَاتِ كُلَّهَا، وَلِأَنَّهُ مُعَرَّضٌ لِلزَّوَالِ، وَمُلْكُ اللَّهِ هُوَ الْمُلْكُ الْحَقِيقِيُّ، قَالَ:
فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ [طه: ١١٤].
فَالنَّاسُ يَتَوَهَّمُونَ أَمْثَالَ ذَلِكَ مُلْكًا وَلَيْسَ كَمَا يَتَوَهَّمُونَ.
وَالْيَدُ: تَمْثِيلٌ بِأَنْ شُبِّهَتِ الْهَيْئَةُ الْمَعْقُولَةُ الْمُرَكَّبَةُ مِنَ التَّصَرُّفِ الْمُطْلَقِ فِي الْمُمْكِنَاتِ الْمَوْجُودَةِ وَالْمَعْدُومَةِ بِالْإِمْدَادِ وَالتَّغْيِيرِ وَالْإِعْدَامِ وَالْإِيجَادِ بِهَيْئَةِ إِمْسَاكِ الْيَدِ بِالشَّيْءِ الْمَمْلُوكِ تَشْبِيهُ مَعْقُولٍ بِمَحْسُوسٍ فِي الْمُرَكَّبَاتِ.
تَسَامُحٍ بِإِطْلَاقِ النَّبَأِ بِمَعْنَى مُطْلَقِ الْخَبَرِ لِضَرْبٍ مِنَ التَّأْوِيلِ أَوِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ بِالْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ، فَكَثُرَ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ كَثْرَةً عَسُرَ مَعَهَا تَحْدِيدُ مَوَاقِعِ الْكَلِمَتَيْنِ وَلَكِنَّ أَبْلَغَ الْكَلَامِ لَا يَلِيقُ تَخْرِيجُهُ إِلَّا عَلَى أَدَقِّ مَوَاقِعِ الِاسْتِعْمَالِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٣٤] وَقَوْلِهِ: قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ [ص: ٦٧، ٦٨].
وَالْعَظِيمُ حَقِيقَتُهُ: كَبِيرُ الْجِسْمِ وَيُسْتَعَارُ لِلْأَمْرِ الْمُهِمِّ لِأَنَّ أَهَمِّيَّةَ الْمَعْنَى تُتَخَيَّلُ بِكِبَرِ الْجِسْمِ فِي أَنَّهَا تقع عِنْد مدركها كَمَرْأَى الْجِسْمِ الْكَبِيرِ فِي مَرْأَى الْعَيْنِ وَشَاعَتْ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةُ حَتَّى سَاوَتِ الْحَقِيقَةَ.
وَوصف النَّبَإِ ب الْعَظِيمِ هُنَا زِيَادَةٌ فِي التَّنْوِيهِ بِهِ لِأَنَّ كَوْنَهُ وَارِدًا مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ زَادَهُ عِظَمَ أَوْصَافٍ وَأَهْوَالٍ، فَوُصِفَ النَّبَأُ بِالْعَظِيمِ بِاعْتِبَارِ مَا وُصِفَ فِيهِ مِنْ أَحْوَال الْبَعْث فِي مَا نَزَلَ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ قَبْلَ هَذَا. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ فِي سُورَةِ ص [٦٧، ٦٨].
وَالتَّعْرِيفُ فِي النَّبَإِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ فَيَشْمَلُ كُلَّ نَبَأٍ عَظِيمٍ أَنْبَأَهُمُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ،
وَأَوَّلُ ذَلِكَ إِنْبَاؤُهُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ، وَمَا تَضَمَّنَهُ الْقُرْآنُ مِنْ إِبْطَالِ الشِّرْكِ، وَمِنْ إِثْبَاتِ بَعْثِ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَمَا يُرْوَى عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ مِنْ تَعْيِينِ نَبَأٍ خَاصٍّ يُحْمَلُ عَلَى التَّمْثِيلِ. فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ الْقُرْآنُ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ: هُوَ الْبَعْثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَسَوْقُ الِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِهِ: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً إِلَى قَوْلِهِ: وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً [النبأ: ١٦] يَدُلُّ دِلَالَةً بَيِّنَةً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الْإِنْبَاءُ بِأَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ.
وَضَمِيرُ هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ يَجْرِي فِيهِ الْوَجْهَانِ الْمُتَقَدِّمَانِ فِي قَوْلِهِ: يَتَساءَلُونَ.
وَاخْتِلَافُهُمْ فِي النَّبَأِ اخْتِلَافُهُمْ فِيمَا يَصِفُونَهُ بِهِ، كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الْأَنْعَام: ٢٥] وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: هَذَا كَلَامُ مَجْنُونٍ، وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: هَذَا كَذِبٌ، وَبَعْضِهِمْ: هَذَا سِحْرٌ، وَهُمْ أَيْضًا مُخْتَلِفُونَ فِي مَرَاتِبِ إِنْكَارِهِ. فَمِنْهُمْ مَنْ يَقْطَعُ بِإِنْكَارِ الْبَعْثِ مِثْلَ الَّذِينَ حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ:


الصفحة التالية
Icon