فَعَلُوا وَلَا قَدَرُوا، وَمَنْ تَعَاطَى ذَلِكَ مِنْ سُخَفَائِهِمْ كَمُسَيْلِمَةَ كُشِفَ عَوَارُهُ لِجَمِيعِهِمْ. وَلَمَّا سَمِعَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةَ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ [النَّحْل: ٩٠] الْآيَةَ قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ لَهُ لَحَلَاوَةً وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً، وَإِنَّ أَسْفَلَهُ لَمُغْدِقٌ وَإِنَّ أَعْلَاهُ لَمُثْمِرٌ وَمَا هُوَ بِكَلَامِ بَشَرٍ. وَذَكَرَ
أَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ [الْحجر: ٩٤] فَسَجَدَ وَقَالَ: سَجَدْتُ لِفَصَاحَتِهِ، (وَكَانَ مَوْضِعُ التَّأْثِيرِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ هُوَ كَلِمَةَ اصْدَعْ فِي إِبَانَتِهَا عَنِ الدَّعْوَةِ وَالْجَهْرِ بِهَا وَالشَّجَاعَةِ فِيهَا، وَكَلِمَةَ بِما تُؤْمَرُ فِي إِيجَازِهَا وَجَمْعِهَا) (١). وَسَمِعَ آخَرُ رَجُلًا يَقْرَأُ: فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا [يُوسُف: ٨٠] فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مَخْلُوقًا لَا يَقْدِرُ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ. وَكَوْنُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحَدَّى بِهِ وَأَنَّ الْعَرَبَ عَجَزُوا عَنْ مُعَارَضَتِهِ مِمَّا عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ إِجْمَالًا وَتَصَدَّى أَهْلُ عِلْمِ الْبَلَاغَةِ لِتَفْصِيلِهِ.
قَالَ السَّكَّاكِيُّ فِي «الْمِفْتَاحِ» :«وَاعْلَمْ أَنَّ شَأْنَ الْإِعْجَازِ عَجِيبٌ يُدْرَكُ وَلَا يُمْكِنُ وَصْفُهُ، كَاسْتِقَامَةِ الْوَزْنِ تُدْرَكُ وَلَا يُمْكِنُ وَصْفُهَا، أَوْ كَالْمَلَاحَةِ، وَمُدْرِكُ الْإِعْجَازِ عِنْدِي هُوَ الذَّوْقُ لَيْسَ إِلَّا، وَطَرِيقُ اكْتِسَابِ الذَّوْقِ طُولُ خِدْمَةِ هَذَيْنِ الْعِلْمَيْنِ (الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ) نَعَمْ لِلْبَلَاغَةِ وُجُوهٌ مُتَلَثِّمَةٌ رُبَّمَا تَيَسَّرَتْ إِمَاطَةُ اللِّثَامِ عَنْهَا لَتُجْلَى عَلَيْكَ، أَمَّا نَفْسُ وَجْهِ الْإِعْجَازِ فَلَا» اهـ.
قَالَ التفتازانيّ: «يَعْنِي أَنَّ كُلَّ مَا نُدْرِكُهُ بِعُقُولِنَا فَفِي غَالِبِ الْأَمْرِ نَتَمَكَّنُ مِنَ التَّعْبِيرِ عَنْهُ، وَالْإِعْجَازُ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّا نَعْلَمُ قَطْعًا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ أَنَّهُ بِحَيْثُ لَا تُمْكِنُ لِلْبَشَرِ مُعَارَضَتُهُ وَالْإِتْيَانُ بِمِثْلِهِ وَلَا يُمَاثِلُهُ شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ فُصَحَاءِ الْعَرَبِ مَعَ أَنَّ كَلِمَاتِهِ كَلِمَاتُ كَلَامِهِمْ، وَكَذَا هَيْئَاتُ تَرَاكِيبِهِ، كَمَا أَنَّا نَجِدُ كَلَامًا نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ مُسْتَقِيمُ الْوَزْنِ دُونَ آخَرَ، وَكَمَا أَنَّا نُدْرِكُ مِنْ أَحَدٍ كَوْنَ كُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ كَمَا يَنْبَغِي وَآخَرُ كَذَلِكَ أَوْ دُونَ ذَلِكَ، لَكِنْ فِيهِ شَيْءٌ نُسَمِّيهِ الْمَلَاحَةَ وَلَا نَعْرِفُ أَنَّهُ مَا هُوَ، وَلَيْسَ مُدْرِكُ الْإِعْجَازِ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ سِوَى الذَّوْقِ وَهُوَ قُوَّةٌ إِدْرَاكِيَّةٌ لَهَا اخْتِصَاصٌ بِإِدْرَاكِ لَطَائِفِ الْكَلَامِ وَوُجُوهِ مَحَاسِنِهِ الْخَفِيَّةِ، فَإِنْ كَانَ حَاصِلًا بِالْفِطْرَةِ فَذَاكَ وَإِنْ أُرِيدَ اكْتِسَابُهُ فَلَا طَرِيقَ إِلَيْهِ سِوَى الِاعْتِنَاءِ بِعِلْمَيِ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ وَطُولِ مُمَارَسَتِهِمَا وَالِاشْتِغَالِ بِهِمَا، وَإِنْ جَمَعَ بَيْنَ الذَّوْقِ الْفِطْرِيِّ وَطُولِ خِدْمَةِ الْعِلْمَيْنِ فَلَا غَايَةَ وَرَاءَهُ، فَوَجْهُ الْإِعْجَازِ أَمْرٌ مِنْ جِنْسِ الْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ لَا كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ النِّظَّامُ وَجَمْعٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ إِعْجَازَهُ بِالصَّرْفَةِ بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ صَرَفَ الْعَرَبَ عَنْ مُعَارَضَتِهِ وَسَلَبَ قُدْرَتَهُمْ عَلَيْهَا، وَلَا كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَنَّ إِعْجَازَهُ بِمُخَالَفَةِ أُسْلُوبِهِ لِأَسَالِيبِ كَلَامِهِمْ مِنَ الْأَشْعَارِ وَالْخُطَبِ وَالرَّسَائِلِ لَا سِيَّمَا فِي الْمَقَاطِعِ
_________
(١) مَا بَين الهلالين كَلَام للْمُصَنف. [.....]
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ إِنَّهَا لِلْحَالِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ جِنِّي وَالْمَرْزُوقِيُّ وَصَاحِبُ «الْكَشَّافِ» قَالَ ابْنُ جِنِّي فِي «شَرْحِ الْحَمَاسَةِ» عِنْدَ قَوْلِ عَمْرو بن معديكرب:
لَيْسَ الْجَمَالُ بِمِئْزَرٍ | فَاعْلَمْ وَإِنْ رُدِّيتَ بُرْدَا |
عَاوِدْ هَرَاةَ وَإِنْ مَعْمُورُهَا خَرِبَا (١) وَذَلِكَ أَنَّ الْوَاوَ وَمَا بَعْدَهَا مَنْصُوبَةُ الْمَوْضِعِ بِعَاوِدْ كَمَا أَنَّهَا وَمَا بَعْدَهَا فِي قَوْلِهِ وَإِنْ رُدِّيتَ بُرْدًا مَنْصُوبَةُ الْمَوْضِعِ بِمَا قَبْلَهَا وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا: أَزُورُكَ رَاغِبًا فِيَّ وَأُحْسِنُ إِلَيْكَ شَاكِرًا إِلَيَّ، فَرَاغِبًا وَشَاكِرًا مَنْصُوبَانِ عَلَى الْحَالِ بِمَا قَبْلَهُمَا وَهُمَا فِي مَعْنَى الشَّرْطِ وَمَا قَبْلَهُمَا نَائِبٌ عَنِ الْجَوَابِ الْمُقَدَّرِ لَهُمَا أَلَا تَرَى أَنَّ مَعْنَاهُ إِنْ رَغِبْتَ فِيَّ زُرْتُكَ وَإِنْ شَكَرْتَنِي أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ، وَسَأَلْتُ مَرَّةً أَبَا عَلِيٍّ عَنْ قَوْلِهِ:
عَاوِدْ هَرَاةَ وَإِنْ مَعْمُورُهَا خَرِبًا
كَيْفَ مَوْقِعُ الْوَاوِ هُنَا وَأَوْمَأْتُ فِي ذَلِكَ لَهُ إِلَى مَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ فَرَأَيْتُهُ كَالْمُصَانِعِ فِي الْجَوَابِ لَا قُصُورًا بِحَمْدِ اللَّهِ عَنْهُ وَلَكِنْ فُتُورًا عَنْ تَكَلُّفِهِ فَأَجْمَمْتُهُ، وَقَالَ الْمَرْزُوقِيُّ هُنَالِكَ:
قَوْلُهُ: «وَإِنْ رُدِّيتَ بُرْدًا» فِي مَوْضِعِ الْحَالِ كَأَنَّهُ قَالَ لَيْسَ جَمَالُكَ بِمِئْزَرٍ مُرَدًّى مَعَهُ بُرْدٌ وَالْحَالُ قَدْ يَكُونُ فِيهِ مَعْنَى الشَّرْطِ كَمَا أَنَّ الشَّرْطَ فِيهِ مَعْنَى الْحَالِ فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِكَ لَأَفْعَلَنَّهُ كَائِنًا مَا كَانَ أَيْ إِنْ كَانَ هَذَا أَوْ إِنْ كَانَ ذَاكَ، وَالثَّانِي كَبَيْتِ «الْكِتَابِ» :
عَاوِدْ هراة وَإِن معمورا خَرِبًا
لِأَنَّ الْوَاوَ مِنْهُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ كَمَا هُوَ فِي بَيْتِ عَمْرٍو وَفِيهِ لَفْظُ الشَّرْطِ وَمَعْنَاهُ وَمَا قَبْلَهُ نَائِبٌ عَنِ الْجَوَابِ، وَتَقْدِيرُهُ: إِنْ مَعْمُورُهَا خَرِبَا فَعَاوِدْهَا وَإِنْ رُدِّيتَ بُرْدًا عَلَى مِئْزَرٍ فَلَيْسَ الْجَمَالُ بِذَلِكَ» اه.
وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي نَظِيرَتِهَا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ: «الْوَاوُ
_________
(١) هُوَ لرجل من ربيعَة قَالَه يرثي زوجه فِي وَاقعَة فتح عبد الله بن خازم هراة سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَبعده قَوْله:
وأسعد الْيَوْم مشغوفا إِذا طَربا
وارجع بطرفك نَحْو الخندقين ترى | رزءا جَلِيلًا وأمرا مفظعا عجبا |
هاما تزقّى وأوصالا مفرّقة | ومنزلا مقفرا من أَهله خربا |
سَقَيْنَاهُمْ كَأْسًا سَقَوْنَا بِمِثْلِهَا | وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْمَوْتِ أَصْبَرَا |
[١٤٣]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ١٤٣]
وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (١٤٣)
كَلَامٌ أُلْقِيَ إِلَيْهِمْ بِإِجْمَالٍ بَالِغٍ غَايَةَ الْإِيجَازِ، لِيَكُونَ جَامِعًا بَيْنَ الْمَوْعِظَةِ، وَالْمَعْذِرَةِ، وَالْمَلَامِ، وَالْوَاوُ عَاطِفَةٌ أَوْ حَالِيَّةٌ.
وَالْخِطَابُ لِلْأَحْيَاءِ، لَا مَحَالَةَ، الَّذِينَ لَمْ يَذُوقُوا الْمَوْتَ، وَلَمْ يَنَالُوا الشَّهَادَةَ، وَالَّذِينَ كَانَ حَظُّهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ هُوَ الْهَزِيمَةُ، فَقَوْلُهُ: كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ أُرِيدَ بِهِ تَمَنِّي لِقَاءَ الْعَدُوِّ يَوْمَ أُحُدٍ، وَعَدَمُ رِضَاهُمْ بِأَنْ يَتَحَصَّنُوا بِالْمَدِينَةِ، وَيَقِفُوا مَوْقِفَ الدِّفَاعِ، كَمَا أَشَارَ بِهِ الرَّسُولُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَلَكِنَّهُمْ أَظْهَرُوا الشُّجَاعَةَ وَحُبَّ اللِّقَاءِ، وَلَوْ كَانَ فِيهِ الْمَوْتُ، نَظَرًا لِقُوَّةِ الْعَدُوِّ وَكَثْرَتِهِ،
[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ٦٢ إِلَى ٦٣]
فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (٦٢) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (٦٣)تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ [النِّسَاء: ٦١] الْآيَةَ، لِأَنَّ الصُّدُودَ عَنْ ذَلِكَ يُوجِبُ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، فَيُوشِكُ أَنْ يُصِيبَهُمُ اللَّهُ بِمُصِيبَةٍ مِنْ غَيْرِ فِعْلِ أَحَدٍ، مِثْلَ انْكِشَافِ حَالِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ فَيُعْرَفُوا بِالْكُفْرِ فَيُصْبِحُوا مُهَدَّدِينَ، أَوْ مُصِيبَةٌ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يُظْهِرُوا لَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَأَنْ يَقْتُلُوهُمْ لِنِفَاقِهِمْ فَيَجِيئُوا يَعْتَذِرُونَ بِأَنَّهُمْ مَا أَرَادُوا بِالتَّحَاكُمِ إِلَى أَهْلِ الطَّاغُوتِ إِلَّا قَصْدَ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ وَتَأْلِيفِهِمْ إِلَى الْإِيمَانِ وَالتَّوْفِيقِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَهَذَا وَعِيد لَهُم لِأَنَّ إِذا لِلْمُسْتَقْبَلِ، فَالْفِعْلَانِ بَعْدَهَا:
وهما أَصابَتْهُمْ وجاؤُكَ مُسْتَقْبَلَانِ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: «لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقتلُوا تقتيلا».
وفَكَيْفَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ مَعْلُومٍ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ: أَيْ كَيْفَ حَالُهُمْ حِينَ تُصِيبُهُمْ مُصِيبَةٌ بِسَبَبِ مَا فَعَلُوا فَيَجِيئُونَكَ مُعْتَذِرِينَ.
وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهْوِيلِ، كَمَا تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى آنِفًا: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ.
وَتَرْكِيبُ «كَيْفَ بِكَ» يُقَالُ إِذَا أُرِيدَتْ بِشَارَةٌ أَوْ وَعِيدٌ تَعْجِيبًا أَوْ تَهْوِيلًا. فَمِنَ الْأَوَّلِ
قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسُرَاقَةَ بْنِ مَالِكٍ: «كَيفَ بك إِذْ لَبِسْتَ سِوَارَيْ كِسْرَى»
بِشَارَةً بِأَنَّ سِوَارَيْ كِسْرَى سَيَقَعَانِ بِيَدِ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا أُتِيَ بِسِوَارَيْ كِسْرَى فِي غَنَائِمِ فتح فَارس ألبسهما عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ سُرَاقَةَ بْنَ مَالِكٍ تَحْقِيقًا لِمُعْجِزَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَهِيَ نِعْمَةُ النَّصْرِ، وَالْأُخُوَّةِ، وَمَا نَالُوهُ مِنَ الْمَغَانِمِ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا إِكْمَالُ الدِّينِ، فَهُوَ عَطْفٌ عَامٌّ عَلَى خَاصٍّ. وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ النِّعْمَةِ الدِّينَ، وَإِتْمَامُهَا هُوَ إِكْمَالُ الدِّينِ، فَيَكُونُ مُفَادُ الْجُمْلَتَيْنِ وَاحِدًا، وَيَكُونُ الْعَطْفُ لِمُجَرَّدِ الْمُغَايَرَةِ فِي صِفَاتِ الذَّاتِ، لِيُفِيدَ أَنَّ الدِّينَ نِعْمَةٌ وَأَنَّ إِكْمَالَهُ إِتْمَامٌ لِلنِّعْمَةِ فَهَذَا الْعَطْفُ كَالَّذِي فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ أَنْشَدَهُ الْفَرَّاءُ فِي «مَعَانِي الْقُرْآنِ» :
إِلَى الْمَلِكِ الْقَرَمِ وَابْنِ الْهُمَا | مِ وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ فِي الْمُزْدَحَمْ |
وَفِي الْحَدِيثِ «إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا»
، وَكَذَلِكَ هُنَا، فَلِذَلِكَ ذَكَرَ قَوْلَهُ: لَكُمْ وَعُدِّيَ رَضِيتُ إِلَى الْإِسْلَامِ بِدُونِ الْبَاءِ. وَظَاهِرُ تَنَاسُقِ الْمَعْطُوفَاتِ: أَنَّ جُمْلَةَ رَضِيتُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمْلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَهَا، وَأَنَّ تَعَلُّقَ الظَّرْفِ بِالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ الْأَوَّلِ سَارَ إِلَى الْمَعْطُوفَيْنِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا الْيَوْمَ. وَإِذْ قَدْ كَانَ رِضَى الْإِسْلَامِ دِينًا لِلْمُسْلِمِينَ ثَابِتًا فِي عِلْمِ اللَّهِ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَقَبْلَهُ، تَعَيَّنَ التَّأْوِيلُ فِي تَعْلِيقِ ذَلِكَ الظَّرْفِ بِ رَضِيتُ فَتَأَوَّلَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» بِأَنَّ الْمَعْنَى: آذَنْتُكُمْ بِذَلِكَ فِي هَذَا الْيَوْمِ، أَيْ أَعْلَمْتُكُمْ: يَعْنِي أَيْ هَذَا التَّأْوِيلُ مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوْلِهِ الْيَوْمَ، لِأَنَّ الَّذِي حَصَلَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ هُوَ إِعْلَانُ ذَلِكَ، وَالْإِيذَانُ بِهِ، لَا حُصُولَ رِضَى اللَّهِ بِهِ دِينًا لَهُمْ يَوْمَئِذٍ، لِأَنَّ الرِّضَى بِهِ حَاصِلٌ مِنْ قَبْلُ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ سَابِقَةٌ لِهَذِهِ الْآيَةِ. فَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ «رَضِيتُ» مَجَازٌ فِي مَعْنَى «أَذَنْتُ» لِعَدَمِ اسْتِقَامَةِ ذَلِكَ: لِأَنَّهُ يَزُولُ مِنْهُ مَعْنَى اخْتِيَارِ الْإِسْلَامِ لَهُمْ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ، وَلِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلتَّعَدِّي إِلَى قَوْلِهِ: الْإِسْلامَ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَدَلَالَةُ الْخَبَرِ عَلَى مَعْنَى الْإِيذَانِ مِنْ دَلَالَتِهِ عَلَى لَازِمٍ مِنْ لَوَازِمِ مَعْنَاهُ بِالْقَرِينَةِ الْمُعَيَّنَةِ، فَيَكُونُ مِنَ الْكِنَايَةِ فِي التَّرْكِيبِ. وَلَوْ شَاءَ أَحَدٌ أَنْ يَجْعَلَ
أَيْ أَلَمْ تَكُنْ غَنِيًّا عَنْ طَلَبِ الدَّلِيلِ الْمَحْسُوسِ. فَالْمُرَادُ بِالتَّقْوَى فِي كَلَامِ عِيسَى مَا يَشْمَلُ الْإِيمَانَ وَفُرُوعَهُ. وَقِيلَ: نَهَاهُمْ عَنْ طَلَبِ الْمُعْجِزَاتِ، أَيْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَقَدْ حَصَلَ إِيمَانُكُمْ فَمَا الْحَاجَةُ إِلَى الْمُعْجِزَةِ. فَأَجَابُوهُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ مَا أَرَادُوا ذَلِكَ لِضَعْفٍ فِي إِيمَانِهِمْ إِنَّمَا أَرَادُوا التَّيَمُّنَ بِأَكْلِ طَعَامٍ نَزَلَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِكْرَامًا لَهُمْ، وَلِذَلِكَ زَادُوا مِنْها وَلَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى أَنْ نَأْكُلَ إِذْ لَيْسَ غَرَضُهُمْ مِنَ الْأَكْلِ دَفْعَ الْجُوعِ بَلِ الْغَرَضُ التَّشَرُّفُ بِأَكْلٍ مِنْ شَيْءٍ نَازِلٍ مِنَ السَّمَاءِ. وَهَذَا مِثْلُ أَكْلِ أَبِي بَكْرٍ مِنَ الطَّعَامِ الَّذِي أَكَلَ مِنْهُ ضَيْفُهُ فِي بَيْتِهِ حِينَ انْتَظَرُوهُ بِالْعَشَاءِ إِلَى أَنْ ذَهَبَ جُزْءٌ مِنَ اللَّيْل، وَحضر أبوبكر وَغَضِبَ مِنْ تَرْكِهِمُ الطَّعَامَ، فَلَمَّا أَخَذُوا يَطْعَمُونَ جُعِلَ الطَّعَامُ يَرْبُو فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِزَوْجِهِ: مَا هَذَا يَا أُخْتَ بَنِي فِرَاسٍ. وَحَمَلَ مِنَ الْغَدِ بَعْضَ ذَلِكَ الطَّعَامِ إِلَى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَكَلَ مِنْهُ.
وَلِذَلِكَ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ: وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا أَيْ بِمُشَاهَدَةِ هَذِهِ الْمُعْجِزَةِ فَإِنَّ الدَّلِيلَ الْحِسِّيَّ أَظْهَرُ فِي النَّفْسِ، وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا، أَيْ نَعْلَمُ عِلْمَ ضَرُورَةٍ لَا عِلْمَ اسْتِدْلَالٍ
فَيَحْصُلُ لَهُمُ الْعِلْمَانِ، وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ، أَيْ مِنَ الشَّاهِدِينَ عَلَى رُؤْيَةِ هَذِهِ الْمُعْجِزَةِ فَنُبَلِّغُهَا مَنْ لَمْ يَشْهَدْهَا. فَهَذِهِ أَرْبَعُ فَوَائِدَ لِسُؤَالِ إِنْزَالِ الْمَائِدَةِ، كُلُّهَا دَرَجَاتٍ مِنَ الْفَضْلِ الَّذِي يَرْغَبُ فِيهِ أَمْثَالُهُمْ.
وَتَقْدِيمُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ لِلرِّعَايَةِ على الفاصلة.
[١١٤، ١١٥]
[سُورَة الْمَائِدَة (٥) : الْآيَات ١١٤ إِلَى ١١٥]
قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١٤) قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لَا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (١١٥)
إِنْ كَانَ قَوْلُهُ: إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ [الْمَائِدَة: ١١٢]
وَالْحجر: اسْمٌ لِلْمُحْجَرِ الْمَمْنُوعِ، مِثْلُ ذَبْحٍ لِلْمَذْبُوحِ، فَمَنْعُ الْأَنْعَامِ مَنْعُ أَكْلِ لُحُومِهَا، وَمَنْعُ الْحَرْثِ مَنْعُ أَكْلِ الْحَبِّ وَالتَّمْرِ وَالثِّمَارِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: لَا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ.
وَقَوْلُهُ: بِزَعْمِهِمْ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ لَا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ وَبَيْنَ: وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها. وَالْبَاءُ فِي: بِزَعْمِهِمْ بِمَعْنَى (عَنْ)، أَوْ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ يَقُولُونَ ذَلِكَ بِاعْتِقَادِهِمُ الْبَاطِلِ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا: لَا يَطْعَمُها لَمْ يُرِيدُوا أَنَّهُمْ مَنَعُوا النَّاسَ أَكْلَهَا إِلَّا مَنْ شَاءُوهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِمْ وَلَيْسَ مِنْ زَعْمِهِمْ. وَإِنَّمَا أَرَادُوا بِالنَّفْيِ نَفْيَ الْإِبَاحَةِ، أَيْ لَا يَحِلُّ أَنْ
يَطْعَمَهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ، فَالْمَعْنَى: اعْتَقَدُوهَا حَرَامًا لِغَيْرِ مَنْ عَيَّنُوهُ، حَتَّى أَنْفُسَهُمْ، وَمَا هِيَ بِحَرَامٍ، فَهَذَا مَوْقِعُ قَوْلِهِ: بِزَعْمِهِمْ. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ عَلَى الْبَاءِ مِنْ قَوْلِهِ: بِزَعْمِهِمْ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ [الْأَنْعَام: ١٣٦].
وَالصِّنْفُ الثَّانِي: أَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا، أَيْ حُرِّمَ رُكُوبُهَا، مِنْهَا الْحَامِي: لَا يَرْكَبُهُ أَحَدٌ، وَلَهُ ضَابِطٌ مُتَّبَعٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَمِنْهَا أَنْعَامٌ يُحَرِّمُونَ ظُهُورَهَا، بِالنَّذْرِ، يَقُولُ أَحَدُهُمْ: إِذَا فَعَلَتِ النَّاقَةُ كَذَا مِنْ نَسْلٍ أَوْ مُوَاصَلَةٍ بَيْنَ عِدَّةٍ مِنْ إِنَاثٍ، وَإِذَا فَعَلَ الْفَحْلُ كَذَا وَكَذَا، حَرُمَ ظَهْرُهُ. وَهَذَا أَشَارَ إِلَيْهِ أَبُو نُوَاسٍ فِي قَوْلِهِ مَادِحًا الْأَمِينَ:
وَإِذَا الْمَطِيُّ بِنَا بلّغن مُحَمَّدًا | فظهور هن عَلَى الرِّجَالِ حَرَامٌ |
وَأَمَرَهَمْ بِأَنْ يُبَلِّغَ الشَّاهِدُ مِنْهُمُ الْغَائِبَ، حَتَّى نَزَلَ فِي الْقُرْآنِ على محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلِمَتْ أُمَّتُهُ أَنَّهَا مَشْمُولَةٌ فِي عُمُومِ بَنِي آدَمَ.
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مُتَعَيِّنًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَوْ كَالْمُتَعَيِّنِ تَعَيَّنَ اعْتِبَارُ مِثْلِهِ فِي نَظَائِرِهَا الثَّلَاثِ الْمَاضِيَةِ، فَشُدَّ بِهِ يَدَكَ. وَلَا تَعْبَأْ بِمَنْ حَرَدَكَ.
فَأَمَّا إِذَا جُعِلَ الْخِطَابُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُوَجَّهًا إِلَى الْمُشْرِكِينَ فِي زَمَنِ النُّزُولِ، بِعُنْوَانِ كَوْنِهِمْ مِنْ بَنِي آدَمَ، فَهُنَالِكَ يَتَعَيَّنُ صَرْفُ مَعْنَى الشَّرْطِ إِلَى مَا يَأْتِي مِنَ الزَّمَانِ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ لِأَنَّ الشَّرْطَ يَقْتَضِي الِاسْتِقْبَالَ غَالِبًا. كَأَنَّهُ قِيلَ إِنْ فَاتَكُمُ اتِّبَاعُ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ فِيمَا مَضَى لَا يَفُتْكُمْ فِيمَا بَقِيَ، وَيَتَعَيَّنُ تَأْوِيلُ يَأْتِيَنَّكُمْ بِمَعْنَى يَدْعُوَنَّكُمْ، وَيَتَعَيَّنُ جَعْلُ جَمْعِ الرُّسُلِ عَلَى إِرَادَةِ رَسُولٍ وَاحِدٍ، تَعْظِيمًا لَهُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ [الْفرْقَان: ٣٧] أَيْ كَذَّبُوا رَسُولَهُ نُوحًا، وَقَوْلِهِ: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [الشُّعَرَاء: ١٠٥] وَلَهُ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ، وَالَّتِي بَعْدَهَا مُتَّصِلَتَا الْمَعْنَى بِمَضْمُونِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ السُّورَةِ:
وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها [الْأَعْرَاف: ٤] الْآيَةَ اتِّصَالَ التَّفْصِيلِ بِإِجْمَالِهِ.
أَكَّدَ بِهِ تَحْذِيرَهُمْ مِنْ كَيْدِ الشَّيْطَانِ وَفُتُونِهِ، وَأَرَاهُمْ بِهِ مَنَاهِجَ الرُّشْدِ الَّتِي تُعِينُ عَلَى تَجَنُّبِ كَيْدِهِ، بِدَعْوَةِ الرُّسُلِ إِيَّاهُمْ إِلَى التَّقْوَى وَالْإِصْلَاحِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ، فِي الْخِطَابِ السَّابِقِ: يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ [الْأَعْرَاف:
٢٧] وَأَنْبَأَهُمْ بِأَنَّ الشَّيْطَانَ تَوَعَّدَ نَوْعَ الْإِنْسَانِ فِيمَا حكى الله فِي قَوْلِهِ: قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ [الْأَعْرَاف: ١٦] الْآيَةَ فَلِذَلِكَ حَذَّرَ اللَّهُ بَنِي آدَمَ مِنْ كَيْدِ الشَّيْطَانِ، وَأَشْعَرَهُمْ بِقُوَّةِ الشَّيْطَانِ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ [الْأَعْرَاف: ٢٧] عَسَى أَنْ يَتَّخِذُوا الْعُدَّةَ لِلنَّجَاةِ مِنْ مَخَالِبِ فِتْنَتِهِ، وَأَرْدَفَ ذَلِكَ بِالتَّحْذِيرِ مِنْ حِزْبِهِ وَدُعَاتِهِ الَّذِينَ يَفْتِنُونَ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ عَزَّزَ ذَلِكَ بِإِعْلَامِهِ إِيَّاهُمْ أَنَّهُ أَعَانَهُمْ عَلَى الِاحْتِرَازِ
وَجُعِلَ الْمُسْنَدُ فِعْلًا مَاضِيًا، لِإِفَادَةِ أَنَّ وَصْفَ التَّكْذِيبِ قَدِيمٌ رَاسِخٌ فِيهِمْ، فَكَانَ رُسُوخُ ذَلِكَ فِيهِمْ سَبَبًا فِي أَنْ خَلَقَ الطَّبْعَ وَالْخَتْمَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يَشْعُرُونَ بِنَقَائِصِهِمْ، وَلَا يُصْلِحُونَ أَنْفُسَهُمْ، فَلَا يَزَالُونَ مُتَكَبِّرِينَ مُعْرِضِينَ غَاوِينَ.
وَمَعْنَى كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُم ابتدأوا بِالتَّكْذِيبِ، وَلَمْ يَنْظُرُوا، وَلَمْ يَهْتَمُّوا بِالتَّأَمُّلِ فِي الْآيَاتِ فَدَامُوا عَلَى الْكِبْرِ وَمَا مَعَهُ، فَصَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ عَنِ الِانْتِفَاعِ بِالْآيَاتِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْإِخْبَارَ بِأَنَّهُمْ حَصَلَ مِنْهُمُ التَّكْذِيبُ، لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِها.
وَالْغَفْلَةُ انْصِرَافُ الْعَقْلِ وَالذِّهْنِ عَنْ تَذَكُّرِ شَيْءٍ بِقَصْدٍ أَوْ بِغَيْرِ قَصْدٍ، وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْقُرْآنِ فِيمَا كَانَ عَنْ قَصْدٍ بِإِعْرَاضٍ وَتَشَاغُلٍ، وَالْمَذْمُومُ مِنْهَا مَا كَانَ عَنْ قَصْدٍ، وَهُوَ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ وَالْمُؤَاخَذَةِ، فَأَمَّا الْغَفْلَةُ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ فَلَا مُؤَاخَذَةَ عَلَيْهَا، وَهِيَ الْمَقْصُودُ مِنْ
قَوْلِ عُلَمَاءِ أُصُولِ الْفِقْهِ: يُمْتَنَعُ تَكْلِيفُ الْغَافِلِ.
وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ غَفْلَتَهُمْ عَنْ قَصْدٍ صِيغَ الْإِخْبَارُ عَنْهُمْ بِصِيغَةِ كانُوا عَنْها غافِلِينَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى اسْتِمْرَارِ غَفْلَتِهِمْ. وَكَوْنِهَا دَأْبًا لَهُمْ، وَإِنَّمَا تَكُونُ كَذَلِكَ إِذَا كَانُوا قَدِ الْتَزَمُوهَا، فَأَمَّا لَوْ كَانَتْ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ. فَإِنَّهَا قَدْ تَعْتَرِيهِمْ وَقد تفارقهم.
[١٤٧]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : آيَة ١٤٧]
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤٧)
يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ [الْأَعْرَاف: ١٤٦] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ السَّابِقَيْنِ وَيجوز أَن يكون مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا
[الْأَعْرَاف: ١٤٦]، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تَذْيِيلًا مُعْتَرِضًا بَيْنَ الْقِصَّتَيْنِ وَتَكُونَ الْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةً، وَأَيًّا مَا كَانَ فَهِيَ آثَارُهَا الْإِخْبَارُ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا، فَإِنَّ ذَلِكَ لَمَّا كَانَ هُوَ الْغَالِبَ عَلَى الْمُتَكَبِّرِينَ الْجَاحِدِينَ لِلْآيَاتِ، وَكَانَ لَا تَخْلُو جَمَاعَةُ الْمُتَكَبِّرِينَ مِنْ فَرِيقٍ قَلِيلٍ يَتَّخِذُ سَبِيلَ الرُّشْدِ عَنْ حِلْمٍ وَحُبٍّ لِلْمَحْمَدَةِ، وَهُمْ بَعْضُ سَادَةِ الْمُشْرِكِينَ وَعُظَمَاؤُهُمْ فِي كُلِّ عَصْرٍ، كَانُوا قَدْ يَحْسَبُ السَّامِعُ أَنْ سَتَنْفَعُهُمْ أَعْمَالُهُمْ، أُزِيلَ هَذَا التَّوَهُّمُ بِأَنَّ أَعْمَالَهُمْ لَا تَنْفَعُهُمْ مَعَ التَّكْذِيبِ بِآيَاتِ اللَّهِ
يَطْمَئِنُّوا مِنْ أَنْ يُسَلِّطَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ فِي غَيْرِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَإِنْ قَبَعُوا فِي دِيَارِهِمْ.
وَافْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِ وَاعْلَمُوا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ مِمَّا يَحِقُّ وَعْيُهُ، وَالتَّدَبُّرُ فِيهِ، كَقَوْلِهِ:
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [٢٤]، وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ.
وَالْمُعْجِزُ اسْمُ فَاعِلٍ، مِنْ أَعْجَزَ فُلَانًا إِذَا جَعَلَهُ عَاجِزًا عَنْ عَمَلٍ مَا، فَلِذَلِكَ كَانَ بِمَعْنَى الْغَالِبِ وَالْفَائِتِ، الْخَارِجِ عَنْ قُدْرَةِ أَحَدٍ، فَالْمَعْنَى: أَنَّكُمْ غَيْرُ خَارِجِينَ عَنْ قُدْرَةِ اللَّهِ، وَلَكِنَّهُ أَمَّنَكُمْ وَإِذَا شَاءَ أَوْقَعَكُمْ فِي الْخَوْفِ وَالْبَأْسِ.
وَعُطِفَ قَوْلُهُ: وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ عَلَى قَوْلِهِ: أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ
فَهُوَ دَاخِلٌ فِي عَمَلِ وَاعْلَمُوا فَمَقْصُودٌ مِنْهُ وَعْيُهُ وَالْعِلْمُ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.
وَكَانَ ذِكْرُ الْكافِرِينَ إِخْرَاجًا عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ: لِأَنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَقُولَ: وَإِنَّ اللَّهَ مُخْزِيكُمْ، وَوَجْهُ تَخْرِيجِهِ عَلَى الْإِظْهَارِ الدّلَالَة على سبيبة الْكُفْرِ فِي الْخِزْيِ.
وَالْإِخْزَاءُ: الْإِذْلَالُ. وَالْخِزْيُ- بِكَسْرِ الْخَاءِ- الذُّلُّ وَالْهَوَانُ، أَيْ مُقَدِّرٌ لِلْكَافِرِينَ الْإِذْلَالَ: بِالْقَتْلِ، وَالْأَسْرِ، وَعَذَابِ الْآخِرَةِ، مَا دَامُوا مُتَلَبِّسِينَ بِوَصْفِ الْكُفْرِ.
[٣]
[سُورَة التَّوْبَة (٩) : آيَة ٣]
وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣)
وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ.
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [التَّوْبَة: ١] وَمَوْقِعُ لَفْظِ أَذانٌ كَمَوْقِعِ لفظ بَراءَةٌ [التَّوْبَة: ١] فِي التَّقْدِيرِ، وَهَذَا إِعْلَامٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَهُمْ عَهْدٌ بِأَنَّ عَهْدَهُمُ انْتُقِضَ.
وَالْأَذَانُ اسْمُ مَصْدَرِ آذَنَهُ، إِذَا أَعْلَمَهُ بِإِعْلَانٍ، مِثْلَ الْعَطَاءِ بِمَعْنَى الْإِعْطَاءِ، وَالْأَمَانِ بِمَعْنَى الْإِيمَانِ، فَهُوَ بِمَعْنَى الْإِيذَانِ.
وَقَدْ جَاءَ نَظْمُ الْآيَةِ عَلَى إِيجَازٍ مُحْكَمٍ بَدِيعٍ، فَذُكِرَ فِي جَانِبِ الشَّرِّ يُعَجِّلُ الدَّالُّ عَلَى أَصْلِ جِنْسِ التَّعْجِيلِ وَلَوْ بِأَقَلِّ مَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ مَعْنَاهُ، وَعُبِّرَ عَنْ تَعْجِيلِ اللَّهِ الْخَيْرَ لَهُمْ بِلَفْظِ اسْتِعْجالَهُمْ الدَّالِّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي التَّعْجِيلِ بِمَا تفيده زِيَاد السِّينِ وَالتَّاءِ لِغَيْرِ الطَّلَبِ إِذْ لَا يَظْهَرُ الطَّلَبُ هُنَا، وَهُوَ نَحْوُ قَوْلِهِمُ: اسْتَأْخَرَ وَاسْتَقْدَمَ وَاسْتَجْلَبَ وَاسْتَقَامَ وَاسْتَبَانَ وَاسْتَجَابَ وَاسْتَمْتَعَ وَاسْتَكْبَرَ وَاسْتَخْفَى وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ [نوح:
٧]. وَمَعْنَاهُ: تَعَجُّلَهُمُ الْخَيْرَ، كَمَا حَمَلَهُ عَلَيْهِ فِي «الْكَشَّافِ» لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ تَعْجِيلَ الْخَيْرِ مِنْ لَدُنْهِ.
فَلَيْسَ الِاسْتِعْجَالُ هُنَا بِمَعْنَى طَلَبِ التَّعْجِيلِ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَسْأَلُوا تَعْجِيلَ الْخَيْرِ وَلَا سَأَلُوهُ فَحَصَلَ، بَلْ هُوَ بِمَعْنى التَّعْجِيل الْكَثِيرِ، كَمَا فِي قَوْلِ سُلْمِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ:
وَإِذَا الْعَذَارَى بِالدُّخَانِ تَقَنَّعَتْ | وَاسْتَعْجَلَتْ نَصْبَ الْقُدُورِ فَمَلَّتِ |
فِي الْحَدِيثِ «فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ»
. وَانْتَصَبَ اسْتِعْجالَهُمْ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ الْمُفِيدَةِ لِلتَّشْبِيهِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ يُعَجِّلُ.
وَالْمَعْنَى: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرّ كَمَا يَجْعَل لَهُمُ الْخَيْرَ كَثِيرًا، فَقَوْلُهُ:
اسْتِعْجالَهُمْ مَصْدَرٌ مُضَافٌ إِلَى مَفْعُولِهِ لَا إِلَى فَاعِلِهِ، وَفَاعِلُ الِاسْتِعْجَالِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ.
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِالْخَيْرِ لِتَأْكِيدِ اللُّصُوقِ، كَالَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [الْمَائِدَة: ٦]. وَأَصْلُهُ: اسْتِعْجَالَهُمُ الْخَيْرَ، فَدَلَّتِ الْمُبَالَغَةُ بِالسِّينِ وَالتَّاءِ وَتَأْكِيدُ اللُّصُوقِ عَلَى الِامْتِنَانِ بِأَنَّ الْخَيْرَ لَهُمْ كَثِيرٌ وَمَكِينٌ. وَقَدْ كَثُرَ اقْتِرَانُ مَفْعُولِ فِعْلِ الِاسْتِعْجَالِ بِهَذِهِ الْبَاءِ وَلَمْ يُنَبِّهُوا عَلَيْهِ فِي مَوَاقِعِهِ الْمُتَعَدِّدَةِ. وَسَيَجِيءُ فِي النَّحْلِ.
وَقَدْ جُعِلَ جَوَابُ (لَوْ) قَوْلَهُ: لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ، وَشَأْنُ جَوَابِ (لَوْ) أَنْ يَكُونَ فِي حَيِّزِ الِامْتِنَاعِ، أَيْ وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ لِأَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ لِآجَالِ انْقِرَاضِهِمْ مِيقَاتًا مُعَيَّنًا مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ [الْحجر: ٥].
وَعُدِّيَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ بِدُونِ حَرْفِ الْجَرِّ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى عَصَوْا فِي مُقَابَلَةِ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، أَوْ لِأَنَّ الْمُرَادَ تَقْدِيرُ مُضَافٍ، أَيْ نِعْمَةُ رَبِّهِمْ لِأَنَّ مَادَّةَ الْكُفْرِ لَا تَتَعَدَّى إِلَى الذَّاتِ وَإِنَّمَا تَتَعَدَّى إِلَى أَمْرٍ مَعْنَوِيٍّ.
وَجُمْلَةُ أَلا بُعْداً لِعادٍ ابْتِدَائِيَّةٌ لِإِنْشَاءِ ذَمٍّ لَهُمْ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى بُعْداً عِنْدَ قَوْلِهِ فِي قِصَّةِ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [هود: ٤٤].
وقَوْمِ هُودٍ بَيَانٌ لِ (عَادٍ) أَوْ وَصْفٌ لِ (عَادٍ) بِاعْتِبَارِ مَا فِي لَفْظِ قَوْمِ مِنْ مَعْنَى الْوَصْفِيَّةِ. وَفَائِدَةُ ذِكْرِهِ الْإِيمَاءُ إِلَى أَنَّ لَهُ أَثَرًا فِي الذَّمِّ بِإِعْرَاضِهِمْ عَنْ طَاعَةِ رَسُولِهِمْ، فَيَكُونُ تَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ، وَلَيْسَ ذِكْرُهُ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ عَادٍ أُخْرَى وَهُمْ إِرَمُ كَمَا جَوَّزَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ فِي الْعَرَبِ عَادٌ غَيْرُ قَوْمِ هُودٍ وَهُمْ إِرَمُ، قَالَ تَعَالَى:
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ [الْفجْر: ٦، ٧].
[٦١]
[سُورَة هود (١١) : آيَة ٦١]
وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (٦١)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً- إِلَى قَوْلِهِ- غَيْرُهُ الْكَلَامُ فِيهِ كَالَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً [هود: ٥٠] إِلَخْ.
وَذِكْرُ ثَمُودَ وَصَالِحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
وَثَمُودُ: اسْمُ جَدٍّ سُمِّيَتْ بِهِ الْقَبِيلَةُ، فَلِذَلِكَ مُنِعَ مِنَ الصَّرْفِ بِتَأْوِيلِ الْقَبِيلَةِ.
وَجُمْلَةُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ فِي مَوْضِعِ التَّعْلِيلِ لِلْأَمْرِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَنَفْيِ إِلَهِيَّةِ غَيْرِهِ، وَكَأَنَّهُمْ كَانُوا مِثْلَ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ لَا يَدَّعُونَ لِأَصْنَامِهِمْ خَلْقًا وَلَا رِزْقًا، فَلِذَلِكَ كَانَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ نَاهِضَةً وَاضِحَةً.
وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ عَنْ صُحَارٍ الْعَبْدِيِّ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي جَبَّارٍ آخَرَ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي يَهُودِيٍّ جَادَلَ فِي اللَّهِ فَأَصَابَتْهُ صَاعِقَةٌ.
وَلَمَّا كَانَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ إِنَّمَا جَاءَ الْمَدِينَةَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ وَكَانَ جِدَالُ الْيَهُودِ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الْهِجْرَةِ أَقْدَمَ أَصْحَابُ هَذِهِ الْأَخْبَارِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ السُّورَةَ مَدَنِيَّةٌ أَوْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْهَا مَدَنِيَّةٌ، وَهِيَ أَخْبَارٌ تَرْجِعُ إِلَى قَوْلِ بَعْضِ النَّاسِ بِالرَّأْيِ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ. وَلَمْ يَثْبُتْ فِي ذَلِكَ خَبَرٌ صَحِيحٌ صَرِيحٌ فَلَا اعْتِدَادَ بِمَا قَالُوهُ فِيهَا وَلَا يُخْرِجُ السُّورَةَ عَنْ عِدَادِ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ. وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَرْسَلَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ قَوْلَهُ: «أَغُدَّةٌ كَغُدَّةِ الْبَعِيرِ وَمَوْتٌ فِي بَيْتِ سَلُولِيَّةٍ» مَثَلًا. وَرَثَى لَبِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ أَخَاهُ أَرْبَدَ بِأَبْيَاتٍ مِنْهَا:
أَخْشَى عَلَى أَرْبَدَ الْحُتُوفَ وَلَا | أَرْهَبُ نَوْءَ السِّمَاكِ وَالْأَسَدِ (١) |
فَجَّعَنِي الرَّعْدُ وَالصَّوَاعِقُ بِالْفَ | ارِسِ يَوْمَ الكريهة النّجد |
[سُورَة الرَّعْد (١٣) : آيَة ١٤]
لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (١٤)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ بِمَنْزِلَةِ النَّتِيجَةِ وَنُهُوضِ الْمُدَلَّلِ عَلَيْهِ بِالْآيَاتِ السَّالِفَةِ الَّتِي هِيَ بَرَاهِينُ الِانْفِرَادِ بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ الْخَلْقِ الثَّانِي، وَبِالْقُدْرَةِ التَّامَّةِ الَّتِي لَا تُدَانِيهَا قُدْرَةُ قَدِيرٍ، وَبِالْعِلْمِ الْعَامِّ، فَلَا جَرَمَ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ تِلْكَ الصِّفَاتِ هُوَ الْمَعْبُودَ بِالْحَقِّ وَأَنَّ عِبَادَةَ غَيْرِهِ ضَلَالٌ.
وَالدَّعْوَةُ: طَلَبُ الْإِقْبَالِ، وَكَثُرَ إِطْلَاقُهَا عَلَى طَلَبِ الْإِقْبَالِ لِلنَّجْدَةِ أَوْ لِلْبَذْلِ. وَذَلِكَ مُتَعَيِّنٌ فِيهَا إِذَا أُطْلِقَتْ فِي جَانِبِ اللَّهِ لِاسْتِحَالَةِ الْإِقْبَالِ الْحَقِيقِيِّ فَالْمُرَادُ طَلَبُ الْإِغَاثَةِ أَوِ النِّعْمَةِ.
_________
(١) السماك- بِكَسْر السِّين- اسْم لنجوم.
وَجُمْلَةُ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ وَالْأَنْعامَ خَلَقَها، أَيْ خَلَقَهَا لِهَذِهِ الْمَنَافِع لِأَنَّهُ رؤوف رَحِيم بكم.
[٨]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٨]
وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٨)
وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً.
وَالْخَيْلَ مَعْطُوفٌ عَلَى وَالْأَنْعامَ خَلَقَها [سُورَة النَّحْل: ٥]. فَالتَّقْدِيرُ: وَخَلَقَ الْخَيْلَ.
وَالْقَوْلُ فِي مَنَاطِ الِاسْتِدْلَالِ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ الِامْتِنَانِ وَالْعِبْرَةُ فِي كُلٍّ كَالْقَوْلِ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ الْآيَةَ.
وَالْفِعْلُ الْمَحْذُوفُ يَتَعَلَّقُ بِهِ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً، أَيْ خَلَقَهَا اللَّهُ لِتَكُونَ مَرَاكِبَ لِلْبَشَرِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ تَكُنْ فِي وُجُودِهَا فَائِدَةٌ لِعُمْرَانِ الْعَالَمِ.
وَعَطْفُ وَزِينَةً بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى شِبْهِ الْجُمْلَةِ فِي لِتَرْكَبُوها، فَجُنِّبَ قَرْنُهُ بِلَامِ التَّعْلِيلِ مِنْ أَجْلِ تَوَفُّرِ شَرْطِ انْتِصَابِهِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لِأَجْلِهِ، لِأَنَّ فَاعِلَهُ وَفَاعِلَ عَامِلِهِ وَاحِدٌ، فَإِنَّ عَامِلَهُ فِعْلُ خَلَقَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ فَذَلِكَ كُلُّهُ مَفْعُولٌ بِهِ لِفِعْلِ خَلَقَها.
وَلَا مِرْيَةَ فِي أَنَّ فَاعِلَ جَعَلَهَا زِينَةً هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّهَا فِي ذَاتِهَا زِينَةً، أَيْ خَلَقَهَا تُزَيِّنُ الْأَرْضَ، أَوْ زَيَّنَ بِهَا الْأَرْضَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ [سُورَة الْملك: ٥].
وَهَذَا النَّصْبُ أَوْضَحُ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ مَنْصُوبٌ عَلَى تَقْدِيرِ لَامِ التَّعْلِيلِ.
وَهَذَا وَاقِعٌ مَوْقِعَ الِامْتِنَانِ فَكَانَ مُقْتَصِرًا عَلَى مَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُخَاطَبُونَ الْأَوَّلُونَ فِي عَادَتِهِمْ.
وَقَدِ اقْتَصَرَ عَلَى مِنَّةِ الرُّكُوبِ عَلَى الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَالزِّينَةِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْحَمْلَ عَلَيْهَا كَمَا قَالَ فِي شَأْنِ الْأَنْعَامِ وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ [سُورَة النَّحْل: ٧]، لِأَنَّهُمْ لَمْ تَكُنْ مِنْ
[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧) : آيَة ٤٠]
أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (٤٠)تَفْرِيعٌ عَلَى مُقَدَّرٍ يَدُلُّ عَلَى تَقْدِيرِهِ الْمُفَرَّعِ عَلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: أَفَضَّلَكُمُ اللَّهُ فَأَعْطَاكُمُ الْبَنِينَ وَجَعَلَ لِنَفْسِهِ الْبَنَاتِ. وَمُنَاسَبَتُهُ لِمَا قَبْلَهُ أَنَّ نِسْبَةَ الْبَنَاتِ إِلَى اللَّهِ ادِّعَاءُ آلِهَةٍ تَنْتَسِبُ إِلَى الله بِالنُّبُوَّةِ، إِذْ عَبَدَ فَرِيقٌ مِنَ الْعَرَبِ الْمَلَائِكَةَ كَمَا عَبَدُوا الْأَصْنَامَ، وَاعْتَلُّوا لِعِبَادَتِهِمْ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا حَكَى عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً إِلَى قَوْلِهِ: وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ [الزخرف: ١٩- ٢٠].
فَلَمَّا نُهُوا عَنْ أَنْ يَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ خَصَّصَ بِالتَّحْذِيرِ عِبَادَةَ الْمَلَائِكَةِ لِئَلَّا يَتَوَهَّمُوا أَنَّ عِبَادَةَ الْمَلَائِكَةِ لَيْسَتْ كَعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ لِيَتَوَهَّمُوا أَنَّ اللَّهَ يَرْضَى بِأَنْ يَعْبُدُوا أَبْنَاءَهُ.
وَقَدْ جَاءَ إِبْطَالُ عِبَادَةِ الْمَلَائِكَةِ بِإِبْطَالِ أَصْلِهَا فِي مُعْتَقَدِهِمْ، وَهُوَ أَنَّهُمْ بَنَاتُ اللَّهِ، فَإِذَا تَبَيَّنَّ بُطْلَانُ ذَلِكَ عَلِمُوا أَنَّ جَعْلَهُمُ الْمَلَائِكَةَ آلِهَةً يُسَاوِي جَعْلَهُمُ الْأَصْنَامَ آلِهَةً.
فَجُمْلَةُ أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ إِلَى آخِرِهَا مُتَفَرِّعَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ [الْإِسْرَاء: ٣٩] تَفْرِيعًا عَلَى النَّهْيِ كَمَا بَيَّنَّاهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ مُشْتَمِلٌ عُمُومُهُ عَلَى هَذَا النَّوْعِ الْخَاصِّ الْجَدِيرِ بِتَخْصِيصِهِ بِالْإِنْكَارِ وَهُوَ شَبِيهٌ بِبَدَلِ الْبَعْضِ. فَالْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ وَحَقُّهَا أَنْ تَقَعَ فِي أَوَّلِ جُمْلَتِهَا وَلَكِنْ أَخَّرَهَا أَنَّ لِلِاسْتِفْهَامِ الصَّدْرَ فِي أُسْلُوبِ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ. وَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ الْحَسَنُ فِي مَوْقِعِ حُرُوفِ الْعَطْفِ مَعَ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَام.
وَبَعض الْأَئِمَّة يَجْعَلُ الِاسْتِفْهَامَ فِي مِثْلِ هَذَا اسْتِفْهَامًا عَلَى الْمَعْطُوفِ وَالْعَاطِفِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارٌ وَتَهَكُّمٌ.
الشُّهُودِ، ثُمَّ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا مِيمِيًّا فِي الْمَعْنَيَيْنِ أَوِ اسْمَ مَكَانٍ لَهُمَا أَوِ اسْمَ زَمَانٍ لَهُمَا، أَيْ يَوْمٍ فِيهِ
ذَلِكَ وَغَيْرُهُ.
وَالْوَيْلُ حَاصِلٌ لَهُمْ فِي الِاحْتِمَالَاتِ كُلِّهَا وَقَدْ دَخَلُوا فِي عُمُومِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاللَّهِ، أَيْ نَفَوْا وَحْدَانِيَّتَهُ، فَدَخَلُوا فِي زُمْرَةِ الْمُشْرِكِينَ لَا مَحَالَةَ، وَلَكِنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ دون الْمُشْركين.
[٣٨]
[سُورَة مَرْيَم (١٩) : آيَة ٣٨]
أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٨)
أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ صِيغَتَا تَعَجُّبٍ، وَهُوَ تَعَجُّبٌ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ، أَوْ هُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ، وَالْمَعْنَيَانِ مُتَقَارِبَانِ، وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً أَيْضًا عَنْ تَهْدِيدِهِمْ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ التَّعْجِيبَ مِنْ بُلُوغِ حَالِهِمْ فِي السُّوءِ مَبْلَغًا يُتَعَجَّبُ مِنْ طَاقَتِهِمْ عَلَى مُشَاهَدَةِ مَنَاظِرِهِ وَسَمَاعِ مَكَارِهِهِ. وَالْمَعْنَى مَا أَسْمَعَهُمْ وَمَا أَبْصَرَهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، أَيْ مَا أَقْدَرَهُمْ عَلَى السَّمْعِ وَالْبَصَرِ بِمَا يَكْرَهُونَهُ. وَقَرِيبٌ هُوَ مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ [الْبَقَرَة: ١٧٥].
وَجُوِّزَ أَنْ يَكُونَ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ غَيْرَ مُسْتَعْمَلٍ فِي التَّعَجُّبِ بَلْ صَادَفَ أَنْ جَاءَ عَلَى صُورَةِ فِعْلِ التَّعَجُّبِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى أَصْلِ وَضْعِهِ أَمْرٌ لِلْمُخَاطَبِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ بِأَنْ يَسْمَعَ وَيُبْصِرَ بِسَبَبِهِمْ، وَمَعْمُولُ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ مَحْذُوفٌ لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ لِيَشْمَلَ كُلَّ مَا يَصِحُّ أَنْ يُسْمَعَ وَأَنْ يُبْصَرَ. وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنِ التَّهْدِيدِ.
وَضَمِيرُ الْغَائِبِينَ عَائِدٌ إِلَى (الَّذِينَ كَفَرُوا)، أَيْ أَعْجِبْ بِحَالِهِمْ يَوْمَئِذٍ مِنْ نَصَارَى وَعَبَدَةِ الْأَصْنَامِ.
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : آيَة ٧٠]
وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (٧٠)تَسْمِيَةُ عَزْمِهِمْ عَلَى إِحْرَاقِهِ كَيْدًا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ دَبَّرُوا ذَلِكَ خُفْيَةً مِنْهُ. وَلَعَلَّ قَصْدَهُمْ مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا يَفِرَّ مِنَ الْبَلَدِ فَلَا يَتِمُّ الِانْتِصَارُ لِآلِهَتِهِمْ.
وَالْأَخْسَرُ: مُبَالَغَةٌ فِي الْخَاسِرِ، فَهُوَ اسْمُ تَفْضِيلٍ مَسْلُوبُ الْمُفَاضَلَةِ.
وَتَعْرِيفُ جُزْأَيِ الْجُمْلَةِ يُفِيدُ الْقَصْرَ، وَهُوَ قَصْرٌ لِلْمُبَالَغَةِ كَأَنَّ خَسَارَتَهُمْ لَا تُدَانِيهَا خَسَارَةٌ وَكَأَنَّهُمُ انْفَرَدُوا بِوَصْفِ الْأَخْسَرِينَ فَلَا يَصْدُقُ هَذَا الْوَصْفُ عَلَى غَيْرِهِمْ. وَالْمُرَادُ بِالْخَسَارَةِ الْخَيْبَةُ. وَسُمِّيَتْ خَيْبَتُهُمْ خَسَارَةً عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ تَشْبِيهًا لِخَيْبَةِ قَصْدِهِمْ إِحْرَاقَهُ بِخَيْبَةِ التَّاجِرِ فِي تِجَارَتِهِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً، أَيْ فَخَابُوا خَيْبَةً عَظِيمَةً. وَذَلِكَ أَنَّ خَيْبَتَهُمْ جُمِعَ لَهُمْ بِهَا سَلَامَةُ إِبْرَاهِيمَ مِنْ أَثَرِ عِقَابِهِمْ وَإِنْ صَارَ مَا أَعَدُّوهُ لِلْعِقَابِ مُعْجِزَةً وَتَأْيِيدًا لِإِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-.
وَأَمَّا شِدَّةُ الْخَسَارَةِ الَّتِي اقْتَضَاهَا اسْمُ التَّفْضِيلِ فَهِيَ بِمَا لَحِقَهُمْ عَقِبَ ذَلِكَ مِنَ الْعَذَابِ إِذْ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَذَابًا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي [سُورَةِ الْحَجِّ: ٤٤] فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ. وَقَدْ عُدَّ فِيهِمْ قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ، وَلَمْ أَرَ مَنْ فَسَّرَ ذَلِكَ الْأَخْذَ بِوَجْهٍ مَقْبُولٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ اللَّهَ سَلَّطَ عَلَيْهِمُ الْآشُورِيِّينَ فَأَخَذُوا بِلَادَهُمْ، وَانْقَرَضَ مُلْكُهُمْ وَخَلَفَهُمُ الْأَشُورِيُّونَ، وَقَدْ أَثْبَتَ التَّارِيخُ أَنَّ الْعِيلَامِيِّينَ مِنْ أَهْلِ السُّوسِ تَسَلَّطُوا عَلَى بِلَادِ الْكَلْدَانِ فِي حَيَاةِ إِبْرَاهِيمَ فِي حُدُودِ سَنَةِ ٢٢٨٦ قبل الْمَسِيح.
[٧١- ٧٣]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : الْآيَات ٧١ إِلَى ٧٣]
وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (٧١) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (٧٢) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ
وَالْقَوْلُ هُنَا مُرَادٌ بِهِ مَا طَابَقَ الِاعْتِقَادَ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْكَلَامِ مُطَابَقَةُ اعْتِقَادِ قَائِلِهِ، فَالْمَعْنَى: بَلْ ظَنُّوا مِثْلَ مَا ظَنَّ الْأَوَّلُونَ.
وَالْأَوَّلُونَ: أَسْلَافُهُمْ فِي النَّسَبِ أَوْ أَسْلَافُهُمْ فِي الدِّينِ مِنَ الْأُمَمِ الْمُشْرِكِينَ.
وَجُمْلَةُ قالُوا أَإِذا مِتْنا إِلَخْ بَدَلٌ مُطَابِقٌ مِنْ جُمْلَةِ قالُوا مِثْلَ مَا قالَ الْأَوَّلُونَ تَفْصِيلٌ لِإِجْمَالِ الْمُمَاثَلَةِ، فَالضَّمِيرُ الَّذِي مَعَ قالُوا الثَّانِي عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ قالُوا الْأَوَّلُ وَلَيْسَ عَائِدًا عَلَى الْأَوَّلُونَ. وَيَجُوزُ جَعْلُ قالُوا الثَّانِي استئنافا بَيَانا لِبَيَانِ مَا قالَ الْأَوَّلُونَ وَيَكُونُ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى الْأَوَّلُونَ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ. وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَإِعَادَةُ فِعْلِ (قَالُوا) مِنْ قَبِيلِ إِعَادَةِ الَّذِي عُمِلَ فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ. وَنُكْتَتُهُ هُنَا التَّعْجِيبُ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَإِذا مِتْنا بِهَمْزَتَيْنِ عَلَى أَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ عَنِ الشَّرْطِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى صُورَةِ الْخَبَرِ وَالِاسْتِفْهَامُ مُقَدَّرٌ فِي جُمْلَةِ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ بِهَمْزَتَيْنِ عَلَى تَأْكِيدِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ الْأُولَى بِإِدْخَالِ مِثْلِهَا عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ. وَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِدُونِ هَمْزَةِ اسْتِفْهَامٍ وَوُجُودُ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ دَاخِلَةً عَلَى الشَّرْطِ كَافٍ فِي إِفَادَةِ الِاسْتِفْهَامِ عَنْ جَوَابِهِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ، وإِذا ظَرْفٌ لِقَوْلِهِ لَمَبْعُوثُونَ.
وَالْجَمْعُ بَيْنَ ذِكْرِ الْمَوْتِ وَالْكَوْنِ تُرَابًا وَعِظَامًا لِقَصْدِ تَقْوِيَةِ الْإِنْكَارِ بِتَفْظِيعِ إِخْبَارِ الْقُرْآنِ بِوُقُوعِ الْبَعْثِ، أَيِ الْإِحْيَاءُ بَعْدَ ذَلِكَ التَّلَاشِي الْقَوِيِّ.
وَأَمَّا ذِكْرُ حَرْفِ (إِنَّ) فِي قَوْلهم أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ حِكَايَةُ دَعْوَى الْبَعْثِ
بِأَنَّ الرَّسُولَ الَّذِي يَدَّعِيهَا بِتَحْقِيقٍ وَتَوْكِيدٍ مَعَ كَوْنِهَا شَدِيدَةَ الِاسْتِحَالَةِ، فَفِي حِكَايَةِ تَوْكِيدِ مُدَّعِيهَا زِيَادَةٌ فِي تَفْظِيعِ الدَّعْوَى فِي وَهْمِهِمْ.
وَجُمْلَةُ لَقَدْ وُعِدْنا إِلَخْ تَعْلِيلٌ لِلْإِنْكَارِ وَتَقْوِيَةٌ لَهُ. وَقَدْ جَعَلُوا مُسْتَنَدَ تَكْذِيبِهِمْ بِالْبَعْثِ أَنَّهُ تَكَرَّرَ الْوَعْدُ بِهِ فِي أَزْمَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ فَلَمْ يَقَعْ وَلَمْ يُبْعَثْ وَاحِدٌ مِنْ آبَائِهِمْ.
وَقَرَأَ يَعْقُوبُ وَيَضِيقُ... وَلَا يَنْطَلِقُ بِنَصْبِ الْفِعْلَيْنِ عَطْفًا عَلَى يُكَذِّبُونِ، أَيْ يَتَوَقَّعُ أَنْ يَضِيقَ صَدْرُهُ وَلَا يَنْطَلِقَ لِسَانُهُ. قِيلَ كَانَتْ بِمُوسَى حُبْسَةٌ فِي لِسَانِهِ إِذَا تَكَلَّمَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ طه وَسَيَجِيءُ فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ. وَلَيْسَ الْقَصْدُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ التَّنَصُّلَ مِنَ الِاضْطِلَاعِ بِهَذَا التَّكْلِيفِ الْعَظِيمِ وَلَكِنَّ الْقَصْدَ تَمْهِيدُ مَا فَرَّعَهُ عَلَيْهِ مِنْ طَلَبِ تَشْرِيكِ أَخِيهِ هَارُونَ مَعَهُ لِأَنَّهُ أَقْدَرُ مِنْهُ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ وَالْخَطَابَةِ كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي [الْقَصَص: ٣٤]. فَقَوْلُهُ هُنَا فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ مُجْمَلٌ يُبَيِّنُهُ مَا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى فَيُعْلَمُ أَنَّ فِي الْكَلَامِ هُنَا إِيجَازًا. وَأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ: فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ عِوَضًا عَنِّي.
وَإِنَّمَا سَأَلَ اللَّهَ الْإِرْسَالَ إِلَى هَارُونَ وَلَمْ يَسْأَلْهُ أَنْ يُكَلِّمَ هَارُونَ كَمَا كَلَّمَهُ هُوَ لِأَنَّ هَارُونَ كَانَ بَعِيدًا عَنْ مَكَانِ الْمُنَاجَاةِ. وَالْمَعْنَى: فَأَرْسِلْ مَلَكًا بِالْوَحْيِ إِلَى هَارُونَ أَنْ يَكُونَ مَعِي.
وَقَوْلُهُ: وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ تَعْرِيضٌ بِسُؤَالِ النَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ وَأَنْ يَكْفِيَهُ شَرَّ عَدُوِّهِ حَتَّى يُؤَدِّيَ مَا عَهِدَ اللَّهُ إِلَيْهِ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ. وَهَذَا
كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ نَصْرَكَ وَوَعْدَكَ اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ لَمْ تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ»
. وَالذَّنْبُ: الْجُرْمُ وَمُخَالَفَةُ الْوَاجِبِ فِي قَوَانِينِهِمْ. وَأُطْلِقَ الذَّنْبُ عَلَى الْمُؤَاخَذَةِ فَإِنَّ الَّذِي لَهُمْ عَلَيْهِ هُوَ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِدَمِ الْقَتِيلِ الَّذِي وَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ، وَتَوَعَّدَهُ الْقِبْطُ إِنْ ظَفِرُوا بِهِ لِيَقْتُلُوهُ فَخَرَجَ مِنْ مِصْرَ خَائِفًا، وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ تَوَجُّهِهِ إِلَى بِلَادِ مَدْيَنَ. وَسَمَّاهُ ذَنْبًا بِحَسَبِ مَا فِي شَرْعِ الْقِبْطِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ شَرْعٌ إِلَهِيٌّ فِي أَحْكَامِ قَتْلِ النَّفْسِ.
وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ سَمَّاهُ ذَنْبًا لِأَنَّ قَتْلَ أَحَدٍ فِي غَيْرِ قِصَاصٍ وَلَا دِفَاعٍ عَنْ نَفْسِ الْمُدَافِعِ يُعْتَبَرُ جُرْمًا فِي قَوَانِينِ جَمَاعَاتِ الْبَشَرِ مِنْ عَهْدِ قَتْلِ أَحَدِ ابْنَيْ آدَمَ أَخَاهُ، وَقَدْ قَالَ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ [١٥، ١٦] قالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي. وَأَيًّا مَا كَانَ فَهُوَ جَعَلَهُ ذَنْبًا لَهُمْ عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ لَيْسَ هَلَعًا وَفَرَقًا مِنَ الْمَوْتِ فَإِنَّهُ لَمَّا أَصْبَحَ فِي مَقَامِ الرِّسَالَةِ مَا كَانَ بِالَّذِي يُبَالِي أَنْ يَمُوتَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكِنَّهُ خَشِيَ الْعَائِقَ مِنْ
جَمْعُ حِجَّةٍ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَهِيَ السَّنَةُ، مُشْتَقَّةٌ مِنِ اسْمِ الْحَجِّ لِأَنَّ الْحَجَّ يَقَعُ كُلَّ سَنَةٍ وَمَوْسِمُ الْحَجِّ يَقَعُ فِي آخِرِ شَهْرٍ مِنَ السَّنَةِ الْعَرَبِيَّةِ.
وَالْتِزَامُ جَعْلِ تَزْوِيجِهِ مَشْرُوطًا بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ بَيْنَهُمَا عَرْضٌ مِنْهُ عَلَى مُوسَى وَلَيْسَ بِعَقْدِ نِكَاحٍ وَلَا إِجَارَةٍ حَتَّى يَرْضَى مُوسَى. وَفِي هَذَا الْعَرْضِ دَلِيلٌ لِمَسْأَلَةِ جَمْعِ عَقْدِ النِّكَاحِ مَعَ عَقْدِ الْإِجَارَةِ. وَالْمَسْأَلَةُ أَصْلُهَا مِنَ السُّنَّةِ حَدِيثُ الْمَرْأَةِ الَّتِي عَرَضَتْ نَفْسَهَا عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَتَزَوَّجْهَا وَزَوَّجَهَا مِنْ رَجُلٍ كَانَ حَاضِرًا مَجْلِسَهُ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يُصْدِقُهَا فَزَوَّجَهُ إِيَّاهَا بِمَا مَعَهُ مِنَ الْقُرْآنِ، أَيْ عَلَى أَنْ يُعَلِّمَهَا إِيَّاهُ.
وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّ الشَّرْطَ الْمُقَارِنَ لِعَقْدِ النِّكَاحِ إِنْ كَانَ مِمَّا يُنَافِي عَقْدَ النِّكَاحِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَيُفْسَخُ النِّكَاحُ قَبْلَ الْبِنَاءِ وَيَثْبُتُ بَعْدَهُ بِصَدَاقِ الْمِثْلِ. وَأَمَّا غَيْرُ الْمُنَافِي لِعَقْدِ النِّكَاحِ فَلَا يُفْسَخُ النِّكَاحُ لِأَجْلِهِ وَلَكِنْ يُلْغَى الشَّرْطُ. وَعَنْ مَالِكٍ أَيْضًا: تُكْرَهُ الشُّرُوطُ كُلُّهَا ابْتِدَاءً فَإِنْ وَقَعَ مَضَى. وَقَالَ أَشْهَبُ وَأَصْبَغُ: الشَّرْطُ جَائِزٌ وَاخْتَارَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ وَهُوَ الْحَقُّ لِلْآيَةِ،
وَلِقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَحَقُّ الشُّرُوطِ أَنْ يُوَفَّى بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ عَلَيْهِ الْفُرُوجَ»
. وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَيْضًا أَنَّ الْإِجَارَةَ الْمَذْكُورَةَ جُعِلَتْ مَهْرًا لِلْبِنْتِ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمَشْرُوطَ الْتِزَامُ الْإِجَارَةِ لَا غَيْرُ، وَأَمَّا الْمَهْرُ فَتَابِعٌ لِمَا يُعْتَبَرُ فِي شَرْعِهِمْ رُكْنًا فِي النِّكَاحِ، وَالشَّرَائِعُ قَدْ تَخْتَلِفُ فِي مَعَانِي الْمَاهِيَّاتِ الشَّرْعِيَّةِ. وَإِذَا أَخَذْنَا بِظَاهِرِ الْآيَةِ كَانَتْ دَالَّةً عَلَى أَنَّهُمَا جَعَلَا الْمَهْرَ مَنَافِعَ إِجَارَةِ الزَّوْجِ لِشُعَيْبٍ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِرِضَاهَا لِأَنَّهَا سَمِعَتْ وَسَكَتَتْ بِنَاءً عَلَى عَوَائِدَ مَرْعِيَّةٍ عِنْدَهُمْ بِأَنْ يَنْتَفِعَ بِتِلْكَ الْمَنَافِعِ أَبُوهَا.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِوَلِيِّ الْمَرْأَةِ بِالْأَصَالَةِ إِنْ كَانَ هُوَ الْمُسْتَحِقَّ لِلْمَهْرِ فِي تِلْكَ الشَّرِيعَةِ، فَإِنَّ عَوَائِدَ الْأُمَمِ مُخْتَلِفَةٌ فِي تَزْوِيجِ وَلَايَاهُمْ. وَإِذْ قَدْ كَانَ فِي الْآيَةِ إِجْمَالٌ لَمْ تَكُنْ كَافِيَةً فِي الِاحْتِجَاجِ عَلَى جَوَازِ جَعْلِ مَهْرِ الْمَرْأَةِ مَنَافِعَ مِنْ إِجَارَةِ زَوْجِهَا فَيَرْجِعُ النَّظَرُ فِي صِحَّةِ جَعْلِ الْمَهْرِ إِجَارَةً إِلَى التَّخْرِيجِ عَلَى قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ وَالدُّخُولِ تَحْتَ عُمُومِ مَعْنَى الْمَهْرِ، فَإِنَّ مَنَافِعَ الْإِجَارَةِ ذَاتُ قِيمَةٍ فَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ تُجْعَلَ مَهْرًا.
وَالتَّحْقِيقُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ وَيَمْضِي. وَأَجَازَهُ الشَّافِعِيُّ وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ
أَنَّهُمْ أَحْرِيَاءُ بِالْفَلَاحِ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ اقْتَضَاهُ مَقَامُ اجْتِلَابِ اسْمِ الْإِشَارَةِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ آتَيْتُمْ بِهَمْزَتَيْنِ، أَيْ أَعْطَيْتُمْ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ آتَيْتُمْ بِهَمْزَةٍ
وَاحِدَةٍ، أَيْ قَصَدْتُمْ، أَيْ فَعَلْتُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُور لِيَرْبُوَا بِتَحْتِيَّةٍ مَفْتُوحَةٍ وَفَتْحَةِ إِعْرَابٍ على وَاو لِيَرْبُوَا. وَكُتِبَ فِي الْمَصَاحِفِ بِأَلِفٍ بَعْدَ الْوَاوِ وَلَيْسَ وَاوَ جَمَاعَةٍ بِالِاتِّفَاقِ، وَرَسْمُ الْمُصْحَفِ سُنَّةٌ. وَقَرَأَ نَافِعٌ لِتُرْبُوا بِتَاءِ الْخِطَابِ مَضْمُومَةً وَوَاوٍ سَاكِنَةٍ هِيَ وَاو الْجَمَاعَة.
[٤٠]
[سُورَة الرّوم (٣٠) : آيَة ٤٠]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٠)
هَذَا الِاسْتِئْنَافُ الثَّانِي مِنَ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي أُقِيمَتْ عَلَيْهَا دَلَائِلُ انْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّصَرُّفِ فِي النَّاسِ وَإِبْطَالِ مَا زَعَمُوهُ مِنَ الْإِشْرَاكِ فِي الْإِلَهِيَّةِ كَمَا أَنْبَأَ عَنْهُ قَوْلُهُ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ، وَإِدْمَاجًا لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى وُقُوعِ الْبَعْثِ. وَقَدْ جَاءَ هَذَا الِاسْتِئْنَافُ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْله: اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [يُونُس: ٣٤] وَاطَّرَدَ الِافْتِتَاحُ بِمِثْلِهِ فِي الْآيَاتِ الَّتِي أُرِيدَ بِهَا إِثْبَاتُ الْبَعْثِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَسَيَأْتِي فِي الْآيَتَيْنِ بَعْدَ هَذِهِ.
وثُمَّ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَيَيِ التَّرَاخِي الزَّمَنِيِّ وَالرُّتْبِيِّ.
وهَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ فِي مَعْنَى النَّفْيِ وَلِذَلِكَ زِيدَتْ مِنْ الدَّالَّةُ عَلَى تَحْقِيقِ نَفْيِ الْجِنْسِ كُلِّهِ فِي قَوْلِهِ مِنْ شَيْءٍ. وَالْمَعْنَى:
مَا مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكُمْ. فَ مِنْ الْأُولَى بَيَانِيَّةٌ هِيَ بَيَان الْإِبْهَام الَّذِي فِي مَنْ يَفْعَلُ، فَيَكُونُ مَنْ
وَهَيْئَاتُ لِبْسِ الْجَلَابِيبِ مُخْتَلِفَةٌ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النِّسَاءِ تُبَيِّنُهَا الْعَادَاتُ. وَالْمَقْصُودُ هُوَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ.
وَالْإِدْنَاءُ: التَّقْرِيبُ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ اللِّبْسِ وَالْوَضْعِ، أَيْ يَضَعْنَ عَلَيْهِنَّ جَلَابِيبَهُنَّ، قَالَ بِشَّارٌ:
لَيْلَةٌ تَلْبَسُ الْبَيَاضَ مِنَ الشَّهْرِ | وَأُخْرَى تُدْنِي جَلَابِيبَ سُودًا |
وَكَانَ لِبْسُ الْجِلْبَابِ مِنْ شِعَارِ الْحَرَائِرِ فَكَانَتِ الْإِمَاءُ لَا يَلْبَسْنَ الْجَلَابِيبَ. وَكَانَتِ الْحَرَائِرُ يَلْبَسْنَ الْجَلَابِيبَ عِنْدَ الْخُرُوجِ إِلَى الزِّيَارَاتِ وَنَحْوِهَا فَكُنَّ لَا يَلْبَسْنَهَا فِي اللَّيْلِ وَعِنْدَ الْخُرُوجِ إِلَى الْمَنَاصِعِ، وَمَا كُنَّ يَخْرُجْنَ إِلَيْهَا إِلَّا لَيْلًا فَأُمِرْنَ بِلَبْسِ الْجَلَابِيبِ فِي كل خُرُوج
لِيُعْرَفَ أَنَّهُنَّ حَرَائِرُ فَلَا يَتَعَرَّضُ إِلَيْهِنَّ شَبَابُ الدُّعَّارِ يَحْسَبُهُنَّ إِمَاءً أَوْ يَتَعَرَّضُ إِلَيْهِنَّ الْمُنَافِقُونَ اسْتِخْفَافًا بِهِنَّ بِالْأَقْوَالِ الَّتِي تُخْجِلُهُنَّ فَيَتَأَذَّيْنَ مِنْ ذَلِكَ وَرُبَّمَا يَسْبُبْنَ الَّذِينَ يُؤْذُونَهُنَّ فَيَحْصُلُ أَذًى مِنَ الْجَانِبَيْنِ. فَهَذَا مِنْ سَدِّ الذَّرِيعَةِ.
وَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكَ إِلَى الْإِدْنَاءِ الْمَفْهُومِ مِنْ يُدْنِينَ، أَيْ ذَلِكَ اللِّبَاسُ أقرب إِلَى أَن يُعْرَفُ أَنَّهُنَّ حَرَائِرٌ بِشِعَارِ الْحَرَائِرِ فَيَتَجَنَّبُ الرِّجَالُ إِيذَاءَهُنَّ فَيَسْلَمُوا وَتَسْلَمْنَ. وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مُدَّةَ خِلَافَتِهِ يَمْنَعُ الْإِمَاءَ مِنَ التَّقَنُّعِ كَيْ لَا يَلْتَبِسْنَ بِالْحَرَائِرِ وَيَضْرِبُ مَنْ تَتَقَنَّعُ مِنْهُنَّ بِالدِّرَّةِ ثُمَّ زَالَ ذَلِكَ بَعْدَهُ، فَذَلِكَ قَوْلُ كُثَيْرٍ:
هُنَّ الْحَرَائِرُ لَا رَبَّاتَ أَخْمِرَةٍ | سُودُ الْمَحَاجِرِ لَا يَقْرَأْنَ بِالسُّوَرِ |
[٦٠، ٦١]
[سُورَة الْأَحْزَاب (٣٣) : الْآيَات ٦٠ إِلَى ٦١]
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (٦٠) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (٦١)
انْتِقَالٌ مِنْ زَجْرِ قَوْمٍ عُرِفُوا بِأَذَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَمِنْ تَوَعُّدِهِمْ
الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ أَيْ فَإِنَّ جَزَاءَ الْمُجْرِمِينَ يَكُونُ مِثْلَ ذَلِكَ الْجَزَاءِ فِي مُؤَاخَذَةِ التَّابِعِ الْمَتْبُوعِ.
وَالْمُرَادُ بِالْمُجْرِمِينَ: الْمُشْرِكُونَ، أَيِ الْمُجْرِمِينَ مِثْلَ جُرْمِهِمْ، وَقَدْ بَيَّنَتْهُ جُمْلَةُ إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ [الصافات: ٣٥].
[٣٥- ٣٦]
[سُورَة الصافات (٣٧) : الْآيَات ٣٥ إِلَى ٣٦]
إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦)
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ أَفَادَ تَعْلِيلَ جَزَائِهِمْ وَبَيَانَ إِجْرَامِهِمْ بِذِكْرِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ التَّكَبُّرِ عَنِ الِاعْتِرَافِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ لِلَّهِ وَمِنْ وصف الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا هُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ وَصْفًا يَرْمُونَ بِهِ إِلَى تَكْذِيبِهِ فِيمَا جَاءَ بِهِ. فَحَرْفُ (إِنَّ) هُنَا لَيْسَ لِلتَّأْكِيدِ لِأَنَّ كَوْنَهُمْ كَذَلِكَ مِمَّا لَا مُنَازِعَ فِيهِ وَإِنَّمَا هُوَ لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ فَلِذَلِكَ تُفِيدُ التَّعْلِيلَ وَالرَّبْطَ وَتُغْنِي غَنَاءَ فَاءِ التَّفْرِيعِ.
وَذُكِرَ فِعَلُ الْكَوْنِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ مَا تَضَمَّنَهُ الْخَبَرُ وَصْفٌ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُمْ فَهُوَ غَيْرُ مُنْقَطِعٍ وَلَا هُمْ حَائِدُونَ عَنْهُ.
وَمَعْنَى قِيلَ لَهُمْ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ أَنَّهُ يُقَالُ لَهُمْ عَلَى سَبِيلِ الدَّعْوَةِ وَالتَّعْلِيمِ.
وَفَاعِلُ الْقَوْلِ الْمَبْنِيُّ فِعْلُهُ للنائب هُوَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحُذِفَ لِلْعِلْمِ بِهِ.
وَالِاسْتِكْبَارُ: شِدَّةُ الْكِبْرِ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ، أَيْ يَتَعَاظَمُونَ عَنْ أَنْ يَقْبَلُوا ذَلِكَ مِنْ رَجُلٍ مِثْلِهِمْ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ السِّينَ وَالتَّاءَ لِلطَّلَبِ، أَيْ إِظْهَارِ التَّكَبُّرِ، أَيْ يَبْدُو عَلَيْهِمُ التَّكَبُّرُ وَالِاشْمِئْزَازُ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ.
وَيُقَارِنُ اسْتِكْبَارَهُمْ أَنْ يَقُولَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لَا نَتْرُكُ آلِهَتَنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ، وَأَتَوْا بِالنَّفْيِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ إِظْهَارًا لِكَوْنِ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمر مُنكر لَا يَطْمَعُ فِي قَبُولِهِمْ إِيَّاهُ، تَحْذِيرًا لِمَنْ يَسْمَعُ مَقَالَتَهُمْ مِنْ أَنْ يَجُولَ فِي خَاطِرِهِ تَأَمُّلٌ فِي قَول الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقَوَّوْا هَذَا التَّحْذِيرَ بِجَعْلِ حَرْفِ الْإِنْكَارِ مُسَلَّطًا على الْجُمْلَة الموكّدة بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ إِذَا أَتَوْا مَا أَنْكَرُوهُ كَانُوا قَدْ تَحَقَّقَ تَرْكُهُمْ آلِهَتَهِمْ تَنْزِيلًا لِبَعْضِ الْمُخَاطَبِينَ مَنْزِلَةَ مَنْ يَشُكُّ فِي أَنَّ
رَفْعِ اللَّهِ دَرَجَاتِهِمْ كَقَوْلِهِ: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ فِي سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ [١١].
وذُو الْعَرْشِ خَبَرٌ ثَانٍ وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ رَفْعَ الدَّرَجَاتِ مِنْهُ مُتَفَاوِتٌ.
كَمَا أَنَّ مَخْلُوقَاتِهِ الْعُلْيَا مُتَفَاوِتَةٌ فِي الْعِظَمِ وَالشَّرَفِ إِلَى أَنْ تَنْتَهِيَ إِلَى الْعَرْشِ وَهُوَ أَعْلَى الْمَخْلُوقَاتِ كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ وَرَفَعَ الْعَرْشَ مَاذَا تُقَدِّرُونَ رَفْعَهُ دَرَجَاتِ عَابِدِيهِ عَلَى مَرَاتِبِ عِبَادَتِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ.
وَجُمْلَةُ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ خَبَرٌ ثَالِثٌ، أَوْ بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ جُمْلَةِ رَفِيعُ الدَّرَجاتِ فَإِنَّ مِنْ رَفْعِ الدَّرَجَاتِ أَنْ يَرْفَعَ بَعْضَ عِبَادِهِ إِلَى دَرَجَةِ النُّبُوءَةِ وَذَلِكَ أَعْظَمُ رَفْعِ الدَّرَجَاتِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِبَادِهِ، فَبَدَلُ الْبَعْضِ هُوَ هُنَا أَهَمُّ أَفْرَادِ الْمُبَدَلِ مِنْهُ.
وَالْإِلْقَاءُ: حَقِيقَتُهُ رَمْيُ الشَّيْءِ مِنَ الْيَدِ إِلَى الْأَرْضِ، وَيُسْتَعَارُ لِلْإِعْطَاءِ إِذَا كَانَ غَيْرَ مُتَرَقَّبٍ، وَكَثُرَ هَذَا فِي الْقُرْآنِ، قَالَ: فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ [النَّحْل: ٨٦، ٨٧]. وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِلْوَحْيِ لِأَنَّهُ يَجِيءُ فَجْأَةً عَلَى غَيْرِ تَرَقُّبٍ كَإِلْقَاءِ الشَّيْءِ إِلَى الْأَرْضِ.
وَالرُّوحُ: الشَّرِيعَةُ، وَحَقِيقَةُ الرُّوحِ: مَا بِهِ حَيَاةُ الْحَيِّ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَيُسْتَعَارُ لِلنَّفِيسِ مِنَ الْأُمُورِ وَلِلْوَحْيِ لِأَنَّهُ بِهِ حَيَاةُ النَّاسِ الْمَعْنَوِيَّةُ وَهِيَ كَمَالُهُمْ وَانْتِظَامُ أُمُورِهِمْ، فَكَمَا تُسْتَعَارُ الْحَيَاةُ لِلْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ، كَذَلِكَ يُسْتَعَارُ الرُّوحُ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْحَيَاةِ لِكَمَالِ النُّفُوسِ وَسَلَامَتِهَا مِنَ الطَّوَايَا السَّيِّئَةِ، وَيُطْلَقُ الرُّوحُ عَلَى الْمَلَكِ قَالَ: فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا
[مَرْيَم: ١٧].
ومِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ فِي مِنْ أَمْرِهِ أَيْ بِأَمْرِهِ، فَالْأَمْرُ عَلَى ظَاهِرِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ تَبْعِيضِيَّةً ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا صِفَةَ الرُّوحَ أَي بعض شؤونه الَّتِي لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا غَيْرُهُ إِلَّا مَنِ ارْتَضَى فَيَكُونُ الْأَمْرُ بِمَعْنَى الشَّأْن، أَي الشؤون الْعَجِيبَةِ، وَقِيلَ: مِنْ بَيَانِيَّةٌ وَأَنَّ الْأَمْرَ هُوَ الرُّوحُ وَهَذَا بِعِيدٌ.
وَهَذَهِ الْآيَةُ تُشِيرُ إِلَى أَنَّ النُّبُوءَةَ غَيْرُ مُكْتَسَبَةٍ لِأَنَّهَا ابْتُدِئَتْ بِقَوْلِهِ:
هُنَا الْغَرَقُ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ جَمَاعَةِ الْإِنَاثِ عَائِدًا إِلَى الْجَوارِ عَلَى أَنْ يُسْتَعَارَ الْإِيبَاقِ لِلْإِغْرَاقِ لِأَنَّ الْإِغْرَاقَ إِتْلَافٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى الرَّاكِبِينَ عَلَى تَأْوِيلِ مُعَادِ الضَّمِيرِ بِالْجَمَاعَاتِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: بِما كَسَبُوا فَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ [الْحَج: ٢٧].
وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ وَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى: ٣٠].
ويَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ عَطْفٌ عَلَى يُوبِقْهُنَّ فَهُوَ فِي مَعْنَى جَزَاءٍ لِلشَّرْطِ الْمُقَدَّرِ، أَيْ وَإِنْ يَشَأْ يَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ فَلَا يُوبِقُهُمْ مَعَ اسْتِحْقَاقِهِمْ أَنْ يُوبَقُوا. وَهَذَا الْعَطف اعْتِرَاض.
[٣٥]
[سُورَة الشورى (٤٢) : آيَة ٣٥]
وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٥)
قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ بِرَفْعِ وَيَعْلَمَ عَلَى أَنَّهُ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ.
فَأَمَّا الِاسْتِئْنَافُ عَلَى قِرَاءَةِ نَافِعٍ وَابْنِ عَامِرٍ وَيَعْقُوبَ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ كَلَامٌ آنِفٌ لَا ارْتِبَاطَ لَهُ بِمَا قَبْلَهُ، وَذَلِكَ تَهْدِيدٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمْ لَا مَحِيصَ لَهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ [الشورى: ٣٢] صَارَ الْمَعْنَى: وَمِنْ آيَاتِ انْفِرَادِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ. وَالْمُشْرِكُونَ يُجَادِلُونَ فِي دَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ بِالْإِعْرَاضِ وَالِانْصِرَافِ عَنْ سَمَاعِهَا فَهَدَّدَهُمُ اللَّهُ بِأَنْ أَعْلَمَهُمْ أَنَّهُمْ لَا مَحِيصَ لَهُمْ، أَيْ مِنْ عَذَابِهِ، فَحَذَفَ مُتَعَلِّقَ الْمَحِيصِ إِبْهَامًا لَهُ تَهْوِيلًا لِلتَّهْدِيدِ لِتَذْهَبَ النَّفْسُ كُلَّ مَذْهَبٍ مُمْكِنٍ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ خَبَرًا مُرَادًا بِهِ الْإِنْشَاءُ وَالطَّلَبُ فَهُوَ فِي قُوَّةِ: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ، أَوِ اعْلَمُوا يَا مَنْ يُجَادِلُونَ، وَلَيْسَ خَبَرًا عَنْهُمْ لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ حَتَّى يَعْلَمُوهُ.
وَأَمَّا قِرَاءَةُ النَّصْبِ فَهِيَ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ وَجُمْهُورُ النُّحَاةِ عَلَى الْعَطْفِ عَلَى فِعْلٍ
أَيْضًا تَنْوِيهًا بِشَأْنِ الَّذِينَ آمَنُوا، وَأَفَادَ ذِكْرُهُ مُقَابَلَةً بَيْنَ حَالَيِ الْفَرِيقَيْنِ جَرْيًا عَلَى سُنَنِ هَذِهِ السُّورَةِ.
وَمَقَالُ الَّذِينَ آمَنُوا هَذَا كَانَ سَبَبًا فِي نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ [مُحَمَّد: ٤]، وَلِذَلِكَ فَالْمَقْصُودُ مِنَ السُّورَةِ الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ هَذِهِ السُّورَةُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَ الْمُؤمنِينَ هَذَا وَقع قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فَالتَّعْبِيرُ عَنْهُ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ:
إِمَّا لِقَصْدِ اسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ مِثْلَ وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ [هود: ٣٨]، وَإِمَّا لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ مُسْتَمِرُّونَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ. وَتَبَعًا لِذَلِكَ تَكُونُ إِذَا فِي قَوْلِهِ: فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ ظَرْفًا مُسْتَعْمَلًا فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي لِأَنَّ نُزُولَ السُّورَةِ قَدْ وَقَعَ، وَنَظَرُ الْمُنَافِقِينَ إِلَى الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا النَّظَرَ قَدْ وَقَعَ إِذْ لَا يَكُونُ ذَمُّهُمْ وَزَجْرُهُمْ قَبْلَ حُصُولِ مَا يُوجِبُهُ فَالْمَقَامُ دَالٌّ وَالْقَرِينَةُ وَاضِحَةٌ.
ولَوْلا حَرْفٌ مُسْتَعْمَلٌ هُنَا فِي التَّمَنِّي، وَأَصْلُ مَعْنَاهُ التَّخْصِيصُ فَأُطْلِقَ وَأُرِيدَ بِهِ التَّمَنِّي لِأَنَّ التَّمَنِّيَ يَسْتَلْزِمُ الْحِرْصَ وَالْحِرْصُ يَدْعُو إِلَى التَّحْضِيضِ.
وَحُذِفَ وُصْفُ سُورَةٌ فِي حِكَايَةِ قَوْلِهِمْ: لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ: وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ لِأَنَّ قَوْلَهُ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ، أَيْ كَمَا تَمَنَّوُا اقْتَضَى أَنَّ الْمَسْئُولَ سُورَةٌ يُشَرَّعُ فِيهَا قِتَالُ الْمُشْرِكِينَ. فَالْمَعْنَى: لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ يُذْكَرُ فِيهَا الْقِتَالُ وَفَرْضُهُ، فَحُذِفَ الْوَصْفُ إِيجَازًا. وَوَصْفُ السُّورَةِ بِ مُحْكَمَةٌ بِاعْتِبَارِ وَصْفِ آيَاتِهَا بِالْإِحْكَامِ، أَيْ عَدَمِ التَّشَابُهِ وَانْتِفَاءِ الِاحْتِمَالِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مُقَابَلَةُ الْمُحْكَمَاتِ بِالْمُتَشَابِهَاتِ
فِي قَوْلِهِ: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٧]، أَيْ لَا تَحْتَمِلُ آيَاتُ تِلْكَ السُّورَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْقِتَالِ إِلَّا وُجُوبَ الْقِتَالِ وَعَدَمَ الْهَوَادَةِ فِيهِ مِثْلُ قَوْلِهِ: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ [مُحَمَّد: ٤] الْآيَاتَ، فَلَا جَرَمَ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ هِيَ الَّتِي نَزَلَتْ إِجَابَةً عَنْ تَمَنِّي الَّذِينَ آمَنُوا. وَإِنَّمَا قَالَ: وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ لِأَنَّ السُّورَةَ لَيْسَتْ كُلُّهَا مُتَمَحِّضَةٌ لِذِكْرِ الْقِتَالِ فَإِنَّ سُوَرَ الْقُرْآنِ ذَوَاتُ أَغْرَاضٍ شَتَّى.
أَنْ تُلْحِقَهُ بِالْوَاوِ أَوِ الْيَاءِ، لَكِنَّ الْأَكْثَرَ فِي كَلَامِهِمُ اعْتِبَارُ الْعَيْنِ يَاءً فَقَالُوا: ضَازَهُ حَقَّهُ ضَيْزًا وَلَمْ يَقُولُوا ضَوْزًا لِأَنَّ الضَّوْزَ لَوْكُ التَّمْرِ فِي الْفَمِ، فَأَرَادُوا التَّفْرِقَةَ بَيْنَ الْمَصْدَرَيْنِ، وَهَذَا مِنْ مَحَاسِنِ الِاسْتِعْمَالِ وَعَنِ الْمُؤَرِّجِ السَّدُوسِيِّ كَرِهُوا ضَمَّ الضَّادِ فِي ضُوزَى فَقَالُوا: ضِيزَى. كَأَنَّهُ يُرِيدُ اسْتَثْقَلُوا ضَمَّ الضَّادِ، أَيْ فِي أَوَّلِ الْكَلِمَةِ مَعَ أَنَّ لَهُمْ مَنْدُوحَةً عَنْهُ بِالزِّنَةِ الْأُخْرَى.
وَوَزْنُ ضِيزى: فعلى اسْم تَفْضِيل (مِثْلَ كُبْرَى وَطُوبَى) أَيْ شَدِيدَةُ الضَّيْزِ فَلَمَّا وَقَعَتِ الْيَاءُ السَّاكِنَةُ بَعْدَ الضَّمَّةِ حَرَّكُوهُ بِالْكَسْرِ مُحَافَظَةً عَلَى الْيَاءِ لِئَلَّا يَقْلِبُوهَا وَاوًا فَتَصِيرَ ضُوزَى وَهُوَ مَا كَرِهُوهُ كَمَا قَالَ الْمُؤَرِّجُ. وَهَذَا كَمَا فَعَلُوا فِي بِيضٍ جَمْعُ أَبْيَضَ وَلَوِ اعْتَبَرُوهُ تَفْضِيلًا مِنْ ضَازَ يَضُوزُ لَقَالُوا: ضَوْزَى وَلَكِنَّهُمْ أَهْمَلُوهُ.
وَقِيلَ: وَزْنُ ضِيزى فِعْلَى بِكَسْرِ الْفَاءِ عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ مِثْلُ دِفْلَى وَشِعْرَى، وَيُبَعِّدُ هَذَا أَنَّهُ مُشْتَقٌّ فَهُوَ بِالْوَصْفِيَّةِ أَجْدَرُ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: لَا يُوجَدُ فِعْلَى بِكَسْرِ الْفَاءِ فِي الصِّفَاتِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مِثْلُ ذِكْرَى وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ كَسْرَتُهُ أَصْلِيَّةٌ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ ضِيزى بِيَاءٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَ الضَّادِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَ الضَّادِ مُرَاعَاةً لِأَصْلِ الْفِعْلِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. وَهَذَا وَسْمٌ لَهُمْ بِالْجَوْرِ زِيَادَةٌ عَلَى الْكُفْرِ لِأَنَّ التَّفْكِيرَ فِي الْجَوْرِ كَفِعْلِهِ فَإِنَّ تَخَيُّلَاتِ الْإِنْسَانِ وَمُعْتَقَدَاتِهِ عُنْوَانٌ عَلَى أَفْكَارِهِ وَتَصَرُّفَاتِهِ.
وَجُمْلَةُ إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها اسْتِئْنَافٌ يَكُرُّ بِالْإِبْطَالِ عَلَى مُعْتَقَدِهِمْ مِنْ أَصْلِهِ بَعْدَ إِبْطَالِهِ بِمَا هُوَ مِنْ لَوَازِمِهِ عَلَى مُجَارَاتِهِمْ فِيهِ لِإِظْهَارِ اخْتِلَالِ مُعْتَقَدِهِمْ وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ احْتِرَاسٌ لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ إِنْكَارَ نِسْبَتِهِمُ الْبَنَاتِ لِلَّهِ أَنَّهُ إِنْكَارٌ لِتَخْصِيصِهِمُ اللَّهَ بِالْبَنَاتِ وَأَنَّ لَهُ أَوْلَادًا ذُكُورًا وَإِنَاثًا أَوْ أَنَّ مَصَبَّ الْإِنْكَارِ عَلَى زَعْمِهِمْ أَنَّهَا بَنَاتٌ وَلَيْسَتْ بِبَنَاتٍ فَيَكُونُ كَالْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ فِي زَعْمِهِمُ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتٍ. وَالضَّمِيرُ هِيَ عَائِدٌ إِلَى اللَّاتِ والعزى وَمَنَاة. وَمَا صدق الضَّمِيرِ الذَّاتُ وَالْحَقِيقَةُ، أَيْ لَيْسَتْ هَذِهِ الْأَصْنَامُ إِلَّا أَسْمَاءً لَا مُسَمَّيَاتِ لَهَا وَلَا حَقَائِقَ ثَابِتَةً وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها [يُوسُف: ٤٠].
وَالْقَصْرُ إِضَافِيٌّ، أَيْ هِيَ أَسْمَاءٌ لَا حَقَائِقُ عَاقِلَةٌ مُتَصَرِّفَةٌ كَمَا تَزْعُمُونَ، وَلَيْسَ
وَلِذَلِكَ أَقْحَمَ لَفْظَ الْقَوْمِ فِي قَوْلِهِ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ آثَارِ ضَعْفِ عُقُولِهِمْ حَتَّى صَارَتْ عُقُولُهُمْ كَالْمَعْدُومَةِ فَالْمُرَادُ: أَنَّهُمْ لَا يَعْقِلُونَ الْمَعْقِلَ الصَّحِيحَ.
وَأُوثِرَ هُنَا لَا يَعْقِلُونَ. وَفِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا لَا يَفْقَهُونَ [الْحَشْر: ١٣] لِأَنَّ مَعْرِفَةَ مَآلِ التَّشَتُّتِ فِي الرَّأْيِ وَصَرْفِ الْبَأْسِ إِلَى الْمُشَارِكِ فِي الْمَصْلَحَةِ مِنَ الْوَهْنِ وَالْفَتِّ فِي سَاعِدِ الْأُمَّةِ مَعْرِفَةٌ «مَشْهُورَةٌ» بَيْنَ الْعُقَلَاءِ. قَالَ أَحَدُ بَنِي نَبْهَانَ يُخَاطِبُ قَوْمَهُ إِذْ أَزْمَعُوا عَلَى حَرْبِ بَعْضِهِمْ:
وَأَنَّ الْحَزَامَةَ أَنْ تَصْرِفُوا | لِحَيٍ سِوَانَا صُدُورَ الْأَسَلْ |
وَقَدْ تَقَدَّمَ غَيْرُ مَرَّةٍ أَنَّ إِسْنَادَ الْحُكْمِ إِلَى عُنْوَانِ قَوْمٍ يُؤْذِنُ بِأَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ كَالْجِبِلَّةِ
الْمُقَوِّمَةِ لِلْقَوْمِيَّةِ وَقَدْ ذكرته آنِفا.
[١٥]
[سُورَة الْحَشْر (٥٩) : آيَة ١٥]
كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٥)
خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا الْخَبَرُ، فَالتَّقْدِيرُ: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا، أَيْ حَالُ أَهْلِ الْكِتَابِ الْمَوْعُودِ بِنَصْرِ الْمُنَافِقِينَ كَحَالِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا.
وَالْمُرَادُ: أَنَّ حَالَهُمُ الْمُرَكَّبَةَ مِنَ التَّظَاهُرِ بِالْبَأْسِ مَعَ إِضْمَارِ الْخَوْفِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَمِنَ التَّفَرُّقِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ إِخْوَانِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَمِنْ خِذْلَانِ الْمُنَافِقِينَ إِيَّاهُمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَمِنْ أَنَّهُمْ لَا يُقَاتِلُونَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ، كَحَالِ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ فِي زَمَنٍ قَرِيبٍ وَهُمْ بَنُو النَّضِيرِ فَإِنَّهُمْ أَظْهَرُوا الِاسْتِعْدَادَ لِلْحَرْبِ وَأَبَوُا الْجَلَاءَ، فَلَمْ يُحَارِبُوا إِلَّا فِي قَرْيَتِهِمْ إِذْ حَصَّنُوهَا وَقَبَعُوا فِيهَا حَتَّى أَعْيَاهُمُ الْحِصَارُ فَاضْطُرُّوا إِلَى الْجَلَاءِ وَلَمْ يَنْفَعْهُمُ الْمُنَافِقُونَ وَلَا إِخْوَانُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ.
فَالْتَقَمَهُ
الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ
وَإِمَّا بِمَعْنَى الْعَيْبِ وَهُوَ كَوْنُهُ عَارِيًا جَائِعًا فَيَكُونُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ:
فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ [الصافات: ١٤٥] فَإِنَّ السُّقْمَ عَيْبٌ أَيْضًا.
وَتَنْكِيرُ نِعْمَةٌ لِلتَّعْظِيمِ لِأَنَّهَا نِعْمَةٌ مُضَاعَفَةٌ مُكَرَّرَةٌ.
وَفُرِّعَ عَلَى هَذَا النَّفْيِ الْإِخْبَارُ بِأَنَّ اللَّهَ اجْتَبَاهُ وَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ.
وَالْمُرَادُ بِ الصَّالِحِينَ الْمُفَضَّلُونَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَدْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [الشُّعَرَاء: ٨٣] وَذَلِكَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الصَّلَاحَ هُوَ أَصْلُ الْخَيْرِ وَرَفْعُ الدَّرَجَاتِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ [١٠].
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: رَدَّ اللَّهُ إِلَى يُونُسَ الْوَحْيَ وَشَفَّعَهُ فِي نَفْسِهِ وَفِي قومه.
[٥١- ٥٢]
[سُورَة الْقَلَم (٦٨) : الْآيَات ٥١ إِلَى ٥٢]
وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (٥١) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٥٢)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ [الْقَلَم: ٤٤]، عَرَّفَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضَ مَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ نُفُوسُ الْمُشْرِكِينَ نَحْوَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْحِقْدِ وَالْغَيْظِ وإضمار الشَّرّ عِنْد مَا يَسْمَعُونَ الْقُرْآنَ.
وَالزَّلَقُ: بِفَتْحَتَيْنِ زَلَلُ الرِّجْلِ مِنْ مُلَاسَةِ الْأَرْضِ مِنْ طِينِ عَليْهَا أَوْ دُهْنٍ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [٤٠].
وَلَمَّا كَانَ الزَّلَقُ يُفْضِي إِلَى السُّقُوطِ غَالِبًا أُطْلِقَ الزَّلَقُ وَمَا يُشْتَقُّ مِنْهُ عَلَى السُّقُوطِ وَالْانْدِحَاضِ عَلَى وَجْهِ الْكِنَايَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ هُنَا لَيُزْلِقُونَكَ، أَيْ يُسْقِطُونَكَ وَيَصْرَعُونَكَ.
وَعَن مُجَاهِد: أَي يَنْفِذُونَكَ بِنَظَرِهِمْ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: يُقَالُ زَلَقَ السَّهْمُ وَزَهَقَ، إِذَا نَفِذَ، وَلَمْ أَرَاهُ لِغَيْرِهِ، قَالَ الرَّاغِبُ قَالَ يُونُسُ: لَمْ يُسْمَعِ الزَّلَقُ وَالْإِزْلَاقُ إِلَّا فِي الْقُرْآنِ اهـ.
وَجُمْلَةُ أَوْ يَذَّكَّرُ عَطْفٌ عَلَى يَزَّكَّى، أَيْ مَا يُدْرِيكَ أَنْ يَحْصُلَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ وَكِلَاهُمَا مُهِمٌّ، أَيْ تَحْصُلُ الذِّكْرَى فِي نَفْسِهِ بِالْإِرْشَادِ لِمَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ أَوْ تَذَكُّرٌ لِمَا كَانَ فِي غَفْلَةٍ عَنْهُ.
وَالذِّكْرَى: اسْمُ مَصْدَرِ التَّذْكِيرِ.
وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى اكْتِفَاءٌ عَنْ أَنْ يَقُولَ: فَيَنْفَعُهُ التَّزَكِّي وَتَنْفَعُهُ الذِّكْرَى لِظُهُورِ أَنَّ كِلَيْهِمَا نَفْعٌ لَهُ.
وَالذِّكْرَى: هُوَ الْقُرْآنُ لِأَنَّهُ يُذَكِّرُ النَّاسَ بِمَا يَغْفُلُونَ عَنْهُ قَالَ تَعَالَى: وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ [الْقَلَم: ٥٢] فَقَدْ كَانَ فِيمَا سَأَلَ عَنْهُ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ آيَاتٌ مِنَ الْقُرْآنِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَتَنْفَعَهُ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى «يَذَّكَّرُ». وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ بِالنَّصْبِ فِي جَوَابِ: لَعَلَّهُ يَزَّكَّى [٥، ٦]
[سُورَة عبس (٨٠) : الْآيَات ٥ إِلَى ٦]
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦)
تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى أَمَّا فِي سُورَةِ النَّازِعَاتِ أَنَّهَا بِمَعْنَى: مَهْمَا يَكُنْ شَيْءٌ، فَقَوْلُهُ:
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى تَفْسِيرُهُ مَهْمَا يَكُنِ الَّذِي اسْتَغْنَى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى، أَيْ مَهْمَا يَكُنْ شَيْءٌ فَالَّذِي اسْتَغْنَى تَتَصَدَّى لَهُ، وَالْمَقْصُودُ: أَنْتَ تَحْرِصُ عَلَى التَّصَدِّي لَهُ، فَجُعِلَ مَضْمُونُ الْجَوَابِ وَهُوَ التَّصَدِّي لَهُ مُعَلَّقًا عَلَى وُجُودِ مَنِ اسْتَغْنَى وَمُلَازِمًا لَهُ مُلَازَمَةَ التَّعْلِيقِ الشَّرْطِيِّ
عَلَى طَرِيقَةِ الْمُبَالَغَةِ.
وَالِاسْتِغْنَاءُ: عَدُّ الشَّخْصِ نَفْسَهُ غَنِيًّا فِي أَمْرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ قَوْلٌ، أَوْ فِعْلٌ أَوْ عِلْمٌ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلْحُسْبَانِ، أَيْ حَسِبَ نَفْسَهُ غَنِيًّا، وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ الِاسْتِغْنَاءُ فِي التَّكَبُّرِ وَالِاعْتِزَازِ بِالْقُوَّةِ.
فَالْمُرَادُ بِ مَنِ اسْتَغْنى هُنَا: مَنْ عَدَّ نَفْسَهُ غَنِيًّا عَنْ هَدْيِكَ بِأَنْ أَعْرَضَ عَنْ قَبُولِهِ لِأَنَّهُ أَجَابَ
قَوْلَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ: «هَلْ تَرَى بِمَا أَقُولُ بَأْسًا، بِقَوْلِهِ: لَا والدماء... »
كِنَايَة عَن أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ يُرِيدُ وَلَكِنِّي غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ.
وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِ مَنِ اسْتَغْنى مَنِ اسْتَغْنَى بِالْمَالِ إِذْ لَيْسَ الْمَقَامُ فِي إِيثَارِ صَاحِبِ مَالٍ عَلَى فَقِيرٍ.
الصفحة التالية