وَفِيهِ التَّنْبِيه على محسّن الْمُطَابَقَةِ كَقَوْلِهِ: فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ
[الْحَج: ٤].
وَالتَّنْبِيهُ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ تَمْثِيلٍ كَقَوْلِه تَعَالَى: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها (١) لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ [العنكبوت: ٤٣] وَقَوْلِهِ: وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [إِبْرَاهِيم: ٢٥].
وَلِذَا فَنَحْنُ نُحَاوِلُ تَفْصِيلَ شَيْءٍ مِمَّا أَحَاطَ بِهِ عِلْمُنَا مِنْ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ:
نَرَى مِنْ أَفَانِينِ الْكَلَامِ الِالْتِفَاتَ وَهُوَ نَقْلُ الْكَلَامِ مِنْ أَحَدِ طُرُقِ التَّكَلُّمِ أَوِ الْخِطَابِ أَوِ الْغَيْبَةِ إِلَى طَرِيقٍ آخَرَ مِنْهَا، وَهُوَ بِمُجَرَّدِهِ مَعْدُودٌ مِنَ الْفَصَاحَةِ، وَسَمَّاهُ ابْنُ جِنِّي شَجَاعَةَ الْعَرَبِيَّةِ لِأَنَّ ذَلِكَ التَّغْيِيرَ يُجَدِّدُ نَشَاطَ السَّامِعِ فَإِذَا انْضَمَّ إِلَيْهِ اعْتِبَارٌ لَطِيفٌ يُنَاسِبُ الِانْتِقَالَ إِلَى مَا انْتُقِلَ إِلَيْهِ صَارَ مِنْ أَفَانِينِ الْبَلَاغَةِ وَكَانَ مَعْدُودًا عِنْدَ بُلَغَاءِ الْعَرَبِ مِنَ النَّفَائِسِ، وَقَدْ جَاءَ مِنْهُ فِي الْقُرْآنِ مَا لَا يُحْصَى كَثْرَةً مَعَ دِقَّةِ الْمُنَاسَبَةِ فِي الِانْتِقَالِ.
وَكَانَ لِلتَّشْبِيهِ وَالِاسْتِعَارَةِ عِنْدَ الْقَوْمِ الْمَكَانُ الْقَصِيُّ وَالْقَدْرُ الْعَلِيُّ فِي بَابِ الْبَلَاغَةِ، وَبِهِ فَاقَ امْرُؤُ الْقَيْسِ وَنَبَهَتْ سُمْعَتُهُ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ التَّشْبِيهِ وَالِاسْتِعَارَةِ مَا أَعْجَزَ الْعَرَبَ كَقَوْلِهِ: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً [مَرْيَم: ٤] وَقَوْلِهِ: وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ [الْإِسْرَاء: ٢٤] وَقَوْلِهِ: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ [يس: ٣٧] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ابْلَعِي ماءَكِ [هود: ٤٤] وَقَوْلِهِ: صِبْغَةَ اللَّهِ [الْبَقَرَة: ١٣٨] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الْبَدِيعِ.
وَرَأَيْتُ مِنْ مَحَاسِنِ التَّشْبِيهِ عِنْدَهُمْ كَمَالَ الشَّبَهِ، وَرَأَيْتُ وَسِيلَةَ ذَلِكَ الِاحْتِرَاسَ وَأَحْسَنُهُ مَا وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ [مُحَمَّد: ١٥] احْتِرَاسٌ عَنْ كَرَاهَةِ الطَّعَامِ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى [مُحَمَّد: ١٥] احْتِرَاسٌ عَنْ أَنْ تَتَخَلَّلَهُ أَقْذَاءٌ مِنْ بَقَايَا نَحْلِهِ.
وَانْظُرِ التَّمْثِيلِيَّةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ [الْبَقَرَة: ٢٦٦] الْآيَةَ فَفِيهِ إِتْمَامُ جِهَاتِ كَمَالِ تَحْسِينِ التَّشْبِيهِ لِإِظْهَارِ أَنَّ الْحَسْرَةَ عَلَى تَلَفِهَا أَشَدُّ. وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ- إِلَى قَوْلِهِ- يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ [النُّور: ٣٥] فَقَدْ ذَكَرَ مِنَ الصِّفَاتِ، وَالْأَحْوَالِ مَا فِيهِ مَزِيدُ وُضُوحِ الْمَقْصُودِ مِنْ شِدَّةِ الضِّيَاءِ، وَمَا فِيهِ تَحْسِينُ الْمُشَبَّهِ وَتَزْيِينُهُ بِتَحْسِينِ شِبْهِهِ، وَأَيْنَ مِنَ الْآيَتَيْنِ قَوْلُ كَعْبٍ:
شُجَّتْ بِذِي شَبَمٍ مِنْ مَاءِ مَحْنِيَةٍ... صَافٍ بِأَبْطَحَ أَضْحَى وَهُوَ مَشْمُولُ
تَنْفِي الرِّيَاحُ الْقَذَى عَنْهُ وَأَفْرَطَهُ... مِنْ صَوْبِ سَارِيَةٍ بِيضٌ يَعَالِيلُُ
_________
(١) فِي المطبوعة: وَيضْرب الله الْأَمْثَال... وَهُوَ خطأ.
حَالِيَّةً وَكَوْنِهَا شَرْطِيَّةً، وَإِلَيْهِ مَالَ الْبَيْضَاوِيُّ هُنَا وَحُسَّنَهُ عَبْدُ الْحَكِيمِ وَهُوَ الْحَقُّ، وَوَجْهُ مَعْنَى الشَّرْطِيَّةِ فِيهِ أَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي قَبْلَهُ إِذَا ذُكِرَ فِيهِ حُكْمٌ وَذُكِرَ مَعَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ سَبَبٍ لِذَلِكَ الْحُكْمِ وَكَانَ لِذَلِكَ السَّبَبِ أَفْرَادٌ أَوْ أَحْوَالٌ مُتَعَدِّدَةٌ مِنْهَا مَا هُوَ مَظِنَّةٌ لِأَنْ تَتَخَلَّفَ السَّبَبِيَّةُ عِنْدَهُ لِوُجُودِ مَا يُنَافِيهَا مَعَهُ فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ بِجُمْلَةٍ شَرْطِيَّةٍ مُقْتَرِنَةٍ بِإِنْ أَوْ لَوْ دَلَالَةً عَلَى الرَّبْطِ وَالتَّعْلِيقِ بَيْنَ الْحَالَةِ الْمَظْنُونِ فِيهَا تَخَلُّفُ التَّسَبُّبِ وَبَيْنَ الْفِعْلِ الْمُسَبَّبِ عَنْ تِلْكَ الْحَالَةِ، لِأَنَّ جُمْلَةَ الشَّرْطِ تَدُلُّ عَلَى السَّبَبِ وَجُمْلَةَ الْجَزَاءِ تَدُلُّ عَلَى الْمُسَبَّبِ وَيَسْتَغْنُونَ حِينَئِذٍ عَنْ ذِكْرِ الْجَزَاءِ لِأَنَّهُ يُعْلَمُ مِنْ أَصْلِ الْكَلَامِ الَّذِي عُقِّبَ بِجُمْلَةِ الشَّرْطِ.
وَإِنَّمَا خُصَّ هَذَا النَّوْعُ بِحَرْفَيْ (إِنْ- وَلَوْ) فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِدَلَالَتِهِمَا عَلَى نُدْرَةِ حُصُولِ الشَّرْطِ أَوِ امْتِنَاعِهِ، إِلَّا أَنَّهُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ الشَّرْطُ نَادِرَ الْحُصُولِ جَاءُوا مَعَهُ بِإِنْ كَبَيْتِ عَمْرٍو، وَإِذَا كَانَ مُمْتَنِعَ الْحُصُولِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ جَاءُوا مَعَهُ بِلَوْ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَرُبَّمَا أَتَوْا بِلَوْ لِشَرْطٍ شَدِيدِ النُّدْرَةِ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ قَرِيبٌ مِنَ الْمُمْتَنِعِ، فَيَكُونُ اسْتِعْمَالُ لَوْ مَعَهُ مَجَازًا مُرْسَلًا تَبَعِيًّا.
وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ (إِنْ- وَلَوْ) فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ خَرَجَتَا عَنِ الشُّرْطِيَّةِ إِلَى مَعْنًى جَدِيدٍ، وَظَاهِرُ كَلَامِ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ [الْأَحْزَاب: ٥٢] أَنَّ لَوْ فِيهِ لِلْفَرْضِ إِذْ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: مَفْرُوضًا إِعْجَابَكَ حُسْنُهُنَّ، وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» هُنَا إِنَّ الشَّرْطَ فِي مِثْلِهِ لِمُجَرَّدِ التَّسْوِيَةِ وَهِيَ لَا تَقْتَضِي جَوَابًا عَلَى الصَّحِيحِ لِخُرُوجِهَا عَنْ مَعْنَى الشَّرْطِيَّةِ وَإِنَّمَا يُقَدِّرُونَ الْجَوَابَ تَوْضِيحًا لِلْمَعْنَى وَتَصْوِيرًا لَهُ اه. وَسَمَّى الْمُتَأَخِّرُونَ مِنَ النُّحَاةِ (إِنْ- وَلَوْ) هَاتَيْنِ وَصْلِيَّتَيْنِ، وَفَسَّرَهُ التَّفْتَازَانِيُّ فِي «الْمُطَوَّلِ» بِأَنَّهُمَا لِمُجَرَّدِ الْوَصْلِ وَالرَّبْطِ فِي مَقَامِ التَّأْكِيدِ.
وَإِذْ قَدْ تَحَقَّقْتَ مَعْنَى هَذَا الشَّرْطِ فَقَدْ حَانَ أَنْ نُبَيِّنَ لَكَ وَجْهَ الْحَقِّ فِي الْوَاوِ الْمُقَارِنَةِ لَهُ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا ذَلِكَ الِاخْتِلَافَ الَّذِي سَمِعْتَهُ، فَإِنْ كَانَ مَا بَعْدَ الْوَاوِ مُعْتَبَرًا مِنْ جُمْلَةِ
الْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهَا فَلَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ الْوَاوَ لِلْحَالِ وَأَنَّهُ الْمَعْنَى الْمُرَادُ وَهُوَ الْغَالِبُ، وَإِنْ كَانَ مَا بَعْدَهَا مِنْ كَلَامٍ آخَرَ فَهِيَ وَاوُ الْعَطْفِ لَا مَحَالَةَ عَطَفَتْ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَضْمُونِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ عَلَى مَعْنَى التَّلْقِينِ، وَذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (١) [الزمر: ٤٣] وَكَذَلِكَ الْآيَةُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا، فَإِنَّ مَجِيءَ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَلَامٌ آخَرُ، وَكَذَلِكَ
_________
(١) فِي المطبوعة (قل أَو لَو كَانُوا لَا يعْقلُونَ شَيْئا وَلَا يَهْتَدُونَ) وَلم أَجدهَا فِي «مُعْجم عبد الْبَاقِي» مَادَّة يعْقلُونَ ويهتدون.
جَوَابُ الشَّرْطِ، وَهُوَ جُزْءُ جُمْلَةٍ حُذِفَ خَبَرُهَا لِأَنَّ الْمُقَدَّرَ أَنْسَبُ بِالْخَبَرِيَّةِ- وَدَلِيلُ الْمَحْذُوفِ قَوْلُهُ: وَاسْتَشْهِدُوا- وَقَدْ فُهِمَ الْمَحْذُوفُ فَكَيْفَمَا قَدَّرْتَهُ سَاغَ لَكَ.
وَجِيءَ فِي الْآيَة بكان النَّاقِصَةِ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْ أَنْ يُقَالَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَجُلَانِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ مِنْهُ أَنَّ شَهَادَةَ الْمَرْأَتَيْنِ لَا تُقْبَلُ إِلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ الرَّجُلَيْنِ كَمَا تَوَهَّمَهُ قَوْمٌ، وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِ الْجُمْهُورِ لِأَنَّ مَقْصُودَ الشَّارِعِ التَّوْسِعَةُ عَلَى الْمُتَعَامِلِينَ. وَفِيهِ مَرْمًى آخَرُ وَهُوَ تَعْوِيدُهُمْ بِإِدْخَالِ الْمَرْأَة فِي شؤون الْحَيَاةِ إِذْ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا تَشْتَرِكُ فِي هَذِه الشؤون، فَجَعَلَ اللَّهُ الْمَرْأَتَيْنِ مَقَامَ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى، وَهَذِهِ حَيْطَةٌ أُخْرَى مِنْ تَحْرِيفِ الشَّهَادَةِ وَهِيَ خَشْيَةُ الِاشْتِبَاهِ وَالنِّسْيَانِ لأنّ الْمَرْأَة أَضْعَف مِنَ الرَّجُلِ بِأَصْلِ الْجِبِلَّةِ بِحَسَبِ الْغَالِبِ، وَالضَّلَالُ هُنَا بِمَعْنَى النِّسْيَانِ.
وَقَوْلُهُ: أَنْ تَضِلَّ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ هَمْزَةِ أَنْ عَلَى أَنَّهُ مَحْذُوفٌ مِنْهُ لَامُ التَّعْلِيلِ كَمَا هُوَ الْغَالِبُ فِي الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ مَعَ أَنْ، وَالتَّعْلِيلُ فِي هَذَا الْكَلَامِ يَنْصَرِفُ إِلَى مَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى أَنْ يُعَلَّلَ لِقَصْدِ إِقْنَاعِ الْمُكَلَّفِينَ، إِذْ لَا نَجِدُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ حُكْمًا قَدْ لَا تَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ النُّفُوسُ إِلَّا جَعْلَ عِوَضِ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ بِامْرَأَتَيْنِ اثْنَتَيْنِ فَصُرِّحَ بِتَعْلِيلِهِ. وَاللَّامُ الْمُقَدَّرَةُ قَبْلَ أَنْ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْخَبَرِ الْمَحْذُوفِ فِي جُمْلَةِ جَوَابِ الشَّرْطِ إِذِ التَّقْدِيرُ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ يَشْهَدَانِ أَوْ فَلْيَشْهَدْ رجل وَامْرَأَتَانِ، وقرأوه بِنَصْبِ فَتُذَكِّرَ عَطْفًا عَلَى أَنْ تَضِلَّ، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى اعْتِبَارِ إِنْ شَرْطِيَّةً وتضلّ فِعْلَ الشَّرْطِ، وَبِرَفْعِ تُذَكِّرُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ بَعْدَ الْفَاءِ لِأَنَّ الْفَاءَ تُؤْذِنُ بِأَنَّ مَا بَعْدَهَا غَيْرُ مَجْزُومٍ وَالتَّقْدِيرُ فَهِيَ تُذَكِّرُهَا الْأُخْرَى عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ [الْمَائِدَة: ٩٥].
وَلَمَّا كَانَ «أَنْ تَضِلَّ» فِي مَعْنَى لِضَلَالِ إِحْدَاهُمَا صَارَتِ الْعِلَّةُ فِي الظَّاهِرِ هِيَ الضَّلَالَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بل العلّة هِيَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الضَّلَالِ مِنْ إِضَاعَةِ الْمَشْهُودِ بِهِ، فَتَفَرَّعَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى لِأَنَّ فَتُذَكِّرَ مَعْطُوفٌ عَلَى تَضِلَّ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ فَهُوَ مِنْ تَكْمِلَتِهِ، وَالْعِبْرَةُ بِآخِرِ الْكَلَامِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ [الْبَقَرَة: ٢٦٦]، وَنَظِيرُهُ كَمَا فِي «الْكَشَّافِ» أَنْ تَقُولَ: أَعْدَدْتُ الْخَشَبَةَ أَنْ
يَمِيلَ الْحَائِطُ فَأُدَعِّمَهُ، وَأَعْدَدْتُ السِّلَاحَ أَنْ يَجِيءَ عَدُوٌّ فَأَدْفَعَهُ. وَفِي هَذَا الِاسْتِعْمَالِ عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: أَنْ تُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى عِنْدَ نِسْيَانِهَا. وَوَجَّهَهُ صَاحِبُ
مَبْهُوتُونَ. وَمَحَلُّ الْمَوْعِظَةِ مِنَ الْآيَةِ: أَنَّ الْمَرْءَ لَا يَطْلُبُ أَمْرًا حَتَّى يُفَكِّرَ فِي عَوَاقِبِهِ، وَيَسْبُرَ مِقْدَارَ تَحَمُّلِهِ لِمَصَائِبِهِ. وَمَحَلُّ الْمَعْذِرَةِ فِي قَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ وَقَوله: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ وَقَوْلِهِ: فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَمَحَلُّ الْمُلَامِ فِي قَوْلِهِ: وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ بِمَعْنَى تَتَمَنَّوْنَ مَوْتَ الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدْ رَأَيْتُمْ مُشَارَفَةَ الْمَوْتِ إِيَّاكُمْ، وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ مَنْ مَاتَ مِنْ إِخْوَانِكُمْ، أَيْ فَكَيْفَ وَجَدْتُمْ أَنْفُسَكُمْ حِينَ رَأَيْتُمُ الْمَوْتَ، وَكَأَنَّهُ تَعْرِيضٌ بِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمَقَامِ مَنْ يَتَمَنَّى الشَّهَادَةَ. إِذْ قَدْ جَبُنُوا وَقْتَ الْحَاجَةِ، وَخَفُّوا إِلَى الْغَنِيمَةِ، فَالْكَلَامُ مَلَامٌ مَحْضٌ عَلَى هَذَا، وَلَيْسَ تَمَنِّي الشَّهَادَةِ بِمَلُومٍ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ اللَّوْمَ على تمنّي مَا لَا يَسْتَطِيعُ كَمَا قيل: (إِذْ لَمْ تَسْتَطِعْ شَيْئًا فَدَعْهُ). كَيْفَ وَقَدْ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ أَحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أَحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ»
. وَقَالَ عُمَرُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ شَهَادَةً فِي سَبِيلِكَ» وَقَالَ ابْنُ رَوَاحَةَ:
لكنّني أسأَل الرّحمان مَغْفِرَةً | وَضَرْبَةً ذَاتَ فَرْغٍ تَقْذِفُ الزَّبَدَا |
حَتَّى يَقُولُوا إِذَا مَرُّوا عَلَى جَدَثِي | أَرْشَدَكَ اللَّهُ مِنْ غَازٍ وَقَدْ رَشَدَا |
[١٤٤]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ١٤٤]
وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (١٤٤)
عُطِفَ الْإِنْكَارُ عَلَى الْمَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ [آل عمرَان: ١٤٢] وَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ [آل عمرَان: ١٤٣] وَكُلُّ هَاتِهِ
[٦٤]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٦٤]وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (٦٤)
وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ.
جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ فِي خِلَالِ الْخَبَرِ عَنْ قَضِيَّةِ الْمُنَافِقِ الَّذِي تَحَاكَمَ إِلَى الطَّاغُوتِ. وَهُوَ رُجُوعٌ إِلَى الْغَرَضِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ الْإِنْحَاءُ عَلَيْهِمْ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنِ التَّحَاكُمِ إِلَى الرَّسُولِ، وَأَنَّ إِعْرَاضَهُمْ ذَلِكَ مُؤْذِنٌ بِنِفَاقِهِمْ: بِبَيَانِ أَنَّ مَعْنَى الْإِيمَانِ الرِّضَا بِحُكْمِ الرَّسُولِ إِذْ مَا جَاءَ الرَّسُولُ إِلَّا لِيُطَاعَ فَكَيْفَ يُعْرَضُ عَنْهُ.
وَقَوْلُهُ: بِإِذْنِ اللَّهِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي (يُطَاعَ) أَيْ مُتَلَبِّسًا فِي ذَلِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ أَيْ بِأَمْرِهِ وَوِصَايَتِهِ، إِذْ لَا تَظْهَرُ فَائِدَةُ الشَّرَائِعِ بِدُونِ امْتِثَالِهَا. فَمِنَ الرُّسُلِ مَنْ أُطِيعَ، وَمِنْهُمْ مَنْ عُصِيَ تَارَةً أَوْ دَائِمًا، وَقَدْ عُصِيَ مُوسَى فِي مَوَاقِعَ، وَعُصِيَ عِيسَى فِي مُعْظَمِ أَمْرِهِ، وَلَمْ يُعْصَ مُحَمَّدٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ الْمُحِقِّينَ إِلَّا بِتَأَوُّلٍ، مِثْلِ مَا وَقَعَ فِي يَوْمِ أُحُدٍ إِذْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَعَصَيْتُمْ [آل عمرَان: ١٥٢]، وَإِنَّمَا هُوَ عِصْيَانٌ بِتَأَوُّلٍ، وَلَكِنَّهُ اعْتُبِرَ عِصْيَانًا لِكَوْنِهِ فِي الْوَاقِعِ مُخَالَفَةً لِأَمْرِ الرَّسُولِ، وَلِذَلِكَ كَانَ أَكْمَلُ مَظَاهِرِ الرِّسَالَةِ تَأْيِيدَ الرَّسُولِ بِالسُّلْطَانِ، وَكَوْنَ السُّلْطَانِ فِي شَخْصِهِ لِكَيْلَا يَكُونَ فِي حَاجَةٍ إِلَى غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا تَمَّ هَذَا الْمَظْهَرُ فِي رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِذَلِكَ وُصِفَ بِأَنَّهُ نَبِيءُ الْمَلَاحِمِ، وَقَدِ ابْتَدَأَتْ بَوَارِقُ
ذَلِكَ فِي رِسَالَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَمْ تُسْتَكْمَلْ، وَكَمُلَتْ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ [الْحَدِيد: ٢٥] وَلَا أَحْسَبُهُ أَرَادَ بِرُسُلِهِ إِلَّا رَسُوله مُحَمَّدًا- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام- وَكَانَ هُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْجَمْعِ لِأَنَّهُ الْأَكْمَلُ فِيهِمْ.
وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (٦٤).
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ [النِّسَاء: ٦٢] تَوْبِيخًا لَهُمْ عَلَى تَحَاكُمِهِمْ إِذْ كَانَ ذَلِكَ عِصْيَانًا عَلَى عِصْيَانٍ، فَإِنَّهُمْ مَا كَفَاهُمْ أَنْ أَعْرَضُوا عَنْ تَحْكِيمِ الرَّسُولِ حَتَّى زَادُوا فَصَدُّوا عَمَّنْ قَالَ لَهُمْ: تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ.
فَلَوِ
يُفْصِحَ عَنْ هَذَا الشَّرْطِ الْمُعْرِبِ عَنْ أَحْوَالِهِمْ بِتَقْدِيرِ: فَإِنْ خَشِيتُمُ الْهَلَاكَ فِي مَخْمَصَةٍ فَمَنُ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ الْخَ. وَلَا تَصْلُحُ الْفَاءُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِلْعَطْفِ: إِذْ لَيْسَ فِي الْجُمَلِ السَّابِقَةِ مِنْ جُمَلِ التَّحْرِيمِ مَا يَصْلُحُ لِعَطْفِ «مَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ» عَلَيْهِ.
وَالْأَحْسَنُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ مَوْقِعُ فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ: وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً، اتِّصَالَ الْمَعْطُوفِ بِالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَالْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ: تَفْرِيعِ مِنَّةٍ جُزْئِيَّةٍ عَلَى مِنَّةٍ كُلِّيَّةٍ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ امْتَنَّ فِي هَذِهِ الْجُمَلِ الثَّلَاثِ بِالْإِسْلَامِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: مَرَّةً بِوَصْفِهِ فِي قَوْلِهِ دِينِكُمْ، وَمَرَّةً بِالْعُمُومِ الشَّامِلِ لَهُ فِي قَوْلِهِ: نِعْمَتِي، وَمَرَّةً بِاسْمِهِ فِي قَوْلِهِ: الْإِسْلامَ فَقَدْ تَقَرَّرَ بَيْنَهُمْ: أَنَّ الْإِسْلَامَ أَفْضَلُ صِفَاتِهِ السَّمَاحَةُ وَالرِّفْقُ، مِنْ آيَاتٍ كَثِيرَةٍ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ، فَلَمَّا عَلَّمَهُمْ يُوجَسُونَ خِيفَةَ الْحَاجَةِ فِي الْأَزَمَاتِ بَعْدَ تَحْرِيمِ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمَطْعُومَاتِ، وَأَعْقَبَ ذَلِكَ بِالْمِنَّةِ ثُمَّ أَزَالَ عَقِبَ ذَلِكَ مَا أَوْجَسُوهُ مِنْ نُفُوسِهِمْ بِقَوْلِهِ: فَمَنِ اضْطُرَّ الْخَ فَنَاسَبَ أَنْ تُعْطَفَ هَاتِهِ التَّوْسِعَةُ، وَتُفَرَّعَ عَلَى قَوْلِهِ: وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً وَتُعَقَّبَ الْمِنَّةُ الْعَامَّةُ بِالْمِنَّةِ الْخَاصَّةِ.
وَالِاضْطِرَارُ: الْوُقُوعُ فِي الضَّرُورَةِ، وَفِعْلُهُ غَلَبَ عَلَيْهِ الْبِنَاءُ لِلْمَجْهُولِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٢٦].
وَالْمَخْمَصَةُ: الْمَجَاعَةُ، اشْتُقَّتْ مِنَ الْخَمْصِ وَهُوَ ضُمُورُ الْبَطْنِ، لِأَنَّ الْجُوعَ يُضْمِرُ الْبُطُونَ،
وَفِي الْحَدِيثِ «تَغْدُو خماصا فتروح بِطَانًا»
. وَالتَّجَانُفُ: التَّمَايُلُ، وَالْجَنَفُ: الْمَيْلُ، قَالَ تَعَالَى: فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً [الْبَقَرَة: ١٨٢] الْآيَةَ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ اضْطُرَّ غَيْرَ مَائِلٍ إِلَى الْحَرَامِ مِنْ أَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ، أَوْ مِنْ مُخَالَفَةِ الدِّينِ. وَهَذِهِ حَالٌ قُصِدَ بِهَا ضَبْطُ حَالَةِ الِاضْطِرَارِ فِي الْإِقْدَامِ وَالْإِحْجَامِ، فَلَا يُقْدِمُ عَلَى أَكْلِ الْمُحَرَّمَاتِ إِذَا كَانَ رَائِمًا بِذَلِكَ تَنَاوَلَهَا مَعَ ضَعْفِ الِاحْتِيَاجِ، وَلَا يَحْجِمُ عَنْ تَنَاوُلِهَا إِذَا خَشِيَ أَنْ
وَأَشْهَرُ مَا كَانَتِ الْأَعْيَادُ فِي الْعَرَبِ عِنْدَ النَّصَارَى مِنْهُمْ، قَالَ الْعَجَّاجُ:
كَمَا يَعُودُ الْعِيدَ نَصْرَانِيٌّ مثل يَوْمِ السَّبَاسِبِ فِي قَوْلِ النَّابِغَةَ:
يُحَيَّوْنَ بِالرَّيْحَانِ يَوْمَ السَّبَاسِبِ وَهُوَ عِيدُ الشَّعَانِينَ عِنْدَ النَّصَارَى.
وَقَدْ سمّى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفِطْرِ عِيدًا فِي قَوْلِهِ لِأَبِي بَكْرٍ لَمَّا نَهَى الْجَوَارِيَ اللَّاءِ كُنَّ يُغَنِّينَ عِنْدَ عَائِشَةَ «إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا وَهَذَا عِيدُنَا»
وَسَمَّى يَوْمَ النَّحْرِ عِيدًا
فِي قَوْلِهِ: «شَهْرَا عِيدٍ لَا يَنْقُصَانِ رَمَضَانُ وَذُو الْحَجَّةِ».
وَالْعِيدُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعَوْدِ، وَهُوَ اسْمٌ عَلَى زِنَةِ فِعْلٍ، فَجُعِلَتْ وَاوُهُ يَاءً لِوُقُوعِهَا إِثْرَ كَسْرَةٍ لَازِمَةٍ. وَجَمَعُوهُ عَلَى أَعْيَادٍ بِالْيَاءِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، لِأَنَّ قِيَاسَ الْجَمْعِ أَنَّهُ يَرُدُّ الْأَشْيَاءَ إِلَى أُصُولِهَا، فَقِيَاسُ، جَمْعِهِ أَعْوَادٌ لَكِنَّهُمْ جَمَعُوهُ عَلَى أَعْيَادٍ، وَصَغَّرُوهُ عَلَى عُيَيْدٍ، تَفْرِقَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ جَمْعِ عُودٍ وَتَصْغِيرِهِ.
وَقَوْلُهُ: لِأَوَّلِنا بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ لَنا بَدَلُ بَعْضِ مِنْ كُلٍّ، وَعَطْفُ وَآخِرِنا عَلَيْهِ يُصِيِّرُ الْجَمِيعَ فِي قُوَّةِ الْبَدَلِ الْمُطَابِقِ. وَقَدْ أَظْهَرَ لَامَ الْجَرِّ فِي الْبَدَلِ، وَشَأْنُ الْبَدَلِ أَنْ لَا يَظْهَرَ فِيهِ الْعَامِلُ الَّذِي عَمِلَ فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ لِأَنَّ كَوْنَ الْبَدَلِ تَابِعًا لِلْمُبْدَلِ مِنْهُ فِي الْإِعْرَابِ مُنَافٍ لِذِكْرِ الْعَامِلِ الَّذِي عَمِلَ فِي الْمَتْبُوعِ، وَلِهَذَا قَالَ النُّحَاةُ: إِنَّ الْبَدَلَ عَلَى نِيَّةِ تِكْرَارِ الْعَامِلِ، أَيِ الْعَامِلُ مَنْوِيٌّ غَيْرُ مُصَرَّحٍ بِهِ. وَقَدْ ذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْمُفَصَّلِ» أَنَّ عَامِلَ الْبَدَلِ قَدْ يُصَرَّحُ بِهِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ مَنْوِيٌّ فِي الْغَالِبِ وَلَمْ يُقَيِّدْ ذَلِكَ بِنَوْعٍ مِنَ الْعَوَامِلِ، وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ [الزخرف: ٣٣]، وَبِقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٧٥] قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا..
لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ. وَقَالَ فِي «الْكَشَّافِ» فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا بَدَلٌ مِنْ لَنا بِتَكْرِيرِ الْعَامِلِ. وَجَوَّزَ الْبَدَلَ أَيْضًا فِي آيَةِ الزُّخْرُفِ ثُمَّ قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
اللَّامَانِ بِمَنْزِلَةِ اللَّامَيْنِ فِي قَوْلِكَ: وَهَبْتُ لَهُ ثَوْبًا لِقَمِيصِهِ. يُرِيدُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ الْأُولَى مُتَعَلِّقَةً بِ تَكُونُ وَالثَّانِيَةُ مُتَعَلِّقَةً بِ عِيداً.
وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَهُوَ عَطْفُ صِنْفٍ عَلَى صِنْفٍ، بِقَرِينَةِ اسْتِيفَاءِ أَوْصَافِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي نَظِيرِهِ.
وَانْتَصَبَ: افْتِراءً عَلَيْهِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ لِ قالُوا، أَيْ قَالُوا ذَلِكَ قَوْلَ افْتِرَاءٍ، لِأَنَّ الِافْتِرَاءَ بَعْضُ أَنْوَاعِ الْقَوْلِ، فَصَحَّ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْمُبَيِّنِ لِنَوْعِ الْقَوْلِ، وَالِافْتِرَاءُ الْكَذِبُ الَّذِي لَا شُبْهَةَ لِقَائِلِهِ فِيهِ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٩٤]، وَعِنْدَ قَوْلِهِ:
وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [١٠٣]. وَإِنَّمَا كَانَ قَوْلُهُمِ افْتِرَاءً: لِأَنَّهُمُ اسْتَنَدُوا فِيهِ لِشَيْءٍ لَيْسَ وَارِدًا لَهُمْ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ، بَلْ هُوَ مِنْ ضَلَالِ كُبَرَائِهِمْ.
وَجُمْلَةُ: سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، لِأَنَّ الِافْتِرَاءَ عَلَى الْخَالِقِ أَمْرٌ شَنِيعٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْخَلْقِ، فَالْإِخْبَارُ بِهِ يُثِيرُ سُؤَالَ مَنْ يَسْأَلُ عَمَّا سَيَلْقَوْنَهُ مِنْ جَزَاءِ افْتِرَائِهِمْ، فَأُجِيبَ بِأَنَّ اللَّهَ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ. وَقَدْ أُبْهِمَ الْجَزَاءُ لِلتَّهْوِيلِ لِتَذْهَبَ النُّفُوسُ كُلَّ مَذْهَبٍ مُمْكِنٍ فِي أَنْوَاعِ الْجَزَاءِ عَلَى الْإِثْمِ، وَالْبَاءُ بِمَعْنَى (عَنْ)، أَوْ للبدلية والعوض.
[١٣٩]
[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : آيَة ١٣٩]
وَقالُوا مَا فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٣٩)
عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ [الْأَنْعَام: ١٣٨]. وَأُعِيدَ فِعْلُ:
قالُوا لِاخْتِلَافِ غَرَضِ الْمَقُولِ.
الْآيَةُ أَصْلُهَا الْعَلَامَةُ الدَّالَّةُ عَلَى شَيْءٍ، مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَآيَاتُ اللَّهِ الدَّلَائِلُ الَّتِي جَعَلَهَا دَالَّةً عَلَى وُجُودِهِ، أَوْ عَلَى صِفَاتِهِ، أَوْ عَلَى صِدْقِ رُسُلِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣٩]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٣٧]، وَمِنْهُ آيَاتُ الْقُرْآنِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ دَلَالَةً عَلَى مُرَادِهِ لِلنَّاسِ، لِلتَّعْرِيضِ بِالْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ، الَّذِينَ أَنْكَرُوا رِسَالَة محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَوَجْهُ دَلَالَةِ الْآيَاتِ عَلَى ذَلِكَ إِمَّا لِأَنَّهَا جَاءَتْ عَلَى نَظْمٍ يَعْجِزُ الْبَشَرُ عَنْ تَأْلِيفِ مِثْلِهِ، وَذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِ الْقُرْآنِ، وَإِمَّا لِأَنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى أَحْكَامٍ وَمَعَانٍ لَا قِبَلَ لِغَيْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِإِدْرَاكِ مِثْلِهَا، أَوْ لِأَنَّهَا تَدْعُو إِلَى صَلَاحٍ لَمْ يَعْهَدْهُ النَّاسُ. فَيَدُلُّ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ مِمَّا أَرَادَهُ اللَّهُ لِلنَّاسِ، مِثْلَ بَقِيَّةِ الْكُتُبِ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الرُّسُلُ، وَإِمَّا لِأَنَّهَا قَارَنَتْهَا أُمُورٌ خَارِقَةٌ
لِلْعَادَةِ تَحَدَّى بِهَا الرَّسُولُ الْمُرْسَلُ بِتِلْكَ الْأَقْوَالِ أُمَّتَهُ، فَهَذَا مَعْنَى تَسْمِيَتِهَا آيَاتٍ، وَمَعْنَى إِضَافَتِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْآيَاتِ مَا يَشْمَلُ الْمُعْجِزَاتِ غَيْرَ الْقَوْلِيَّةِ، مِثْلَ نَبْعِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِع محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِثْلَ قَلْبِ الْعَصَا حَيَّةً لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَإِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَعْنَى التَّكْذِيبِ بِهَا الْعِنَادُ بِإِنْكَارِهَا وَجَحْدِهَا.
وَجُمْلَةُ: فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ جَوَابُ الشَّرْطِ وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ جُمْلَةِ: إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَاتَّقَى مِنْكُمْ فَرِيقٌ وَكَذَّبَ فَرِيقٌ فَمَنِ اتَّقى إِلَخْ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ شَرْطِيَّةٌ أَيْضًا، وَجَوَابُهَا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ، أَيْ فَمَنِ اتَّبَعَ رُسُلِي فَاتَّقَانِي وَأَصْلَحَ نَفْسَهُ وَعَمَلَهُ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، وَلَمَّا كَانَ إِتْيَانُ الرُّسُلِ فَائِدَتُهُ لِإِصْلَاحِ النَّاسِ، لَا لِنَفْعِ الرُّسُلِ، عَدَلَ عَنْ جَعْلِ الْجَوَابِ اتِّبَاعَ الرُّسُلِ إِلَى جَعْلِهِ التَّقْوَى وَالصَّلَاحَ. إِيمَاءً إِلَى حِكْمَةِ إِرْسَالِ الرُّسُلِ، وَتَحْرِيضًا عَلَى اتِّبَاعِهِمْ بِأَنَّ فَائِدَتَهُ لِلْأُمَمِ لَا لِلرُّسُلِ، كَمَا قَالَ شُعَيْبٌ: وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى مَا أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ [هود: ٨٨]، أَيْ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ مِنْ عُقُوبَةِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ مِنْ شَيْءٍ
الْأَنْعَامِ [١٣٩] سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ.
[١٤٨]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : آيَة ١٤٨]
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (١٤٨)
عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ: وَواعَدْنا مُوسى [الْأَعْرَاف: ١٤٢] عَطْفَ قِصَّةٍ عَلَى قِصَّةٍ، فَذُكِرَ فِيمَا تَقَدَّمَ قِصَّةُ الْمُنَاجَاةِ، وَمَا حَصَلَ فِيهَا مِنَ الْآيَاتِ وَالْعِبَرِ، وَذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى، فِي مُدَّةِ مَغِيبِهِ فِي الْمُنَاجَاةِ، مِنَ الْإِشْرَاكِ.
فَقَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِهِ أَيْ مِنْ بَعْدِ مَغِيبِهِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا [الْأَعْرَاف: ١٤٣] وَمِنْ قَوْلِهِ: وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي [الْأَعْرَاف:
١٤٢].
وَحَذْفُ الْمُضَافِ مَعَ «بَعْدِ» الْمُضَافَةِ إِلَى اسْمِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُ شَائِعٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي نَظِيرِهَا مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَ (مِنْ) فِي مِثْلِهِ لِلِابْتِدَاءِ، وَهُوَ أَصْلُ مَعَانِي (مِنْ) وَأَمَّا (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ حُلِيِّهِمْ فَهِيَ لِلتَّبْعِيضِ.
وَالْحُلِيُّ بِضَمِّ الْحَاءِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ، جَمْعُ حَلْيٍ، بِفَتْحِ الْحَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ التَّحْتِيَّةِ، وَوَزْنُ هَذَا الْجَمْعِ فُعُولٌ كَمَا جُمِعَ ثُدِيُّ، وَيَجْمَعُ أَيْضًا عَلَى
حِلِيٍّ، بِكَسْرِ الْحَاءِ مَعَ اللَّامِ، مِثْلَ عِصِيٍّ وَقِسِيٍّ اتْبَاعًا لِحَرَكَةِ الْعَيْنِ، وَبِالْأَوَّلِ قَرَأَ جُمْهُورُ الْعَشَرَةِ، وَبِالثَّانِي حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَقَرَأَ يَعْقُوبُ حَلْيِهِمْ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ عَلَى صِيغَةِ الْإِفْرَادِ، أَيِ اتَّخَذُوا مِنْ مَصُوغِهِمْ وَفِي التَّوْرَاةِ أَنَّهُمُ اتَّخَذُوهُ مِنْ ذَهَبٍ، نَزَعُوا أَقْرَاطَ الذَّهَبِ الَّتِي فِي آذَانِ نِسَائِهِمْ وَبَنَاتِهِمْ وَبَنِيهِمْ.
وَالْعِجْلُ وَلَدُ الْبَقَرَةِ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ ثَوْرًا، وَذُكِرَ فِي سُورَةِ طه أَنَّ صَانِعَ الْعِجْلِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ السَّامِرِيُّ، وَفِي التَّوْرَاةِ أَنَّ صَانِعَهُ هُوَ هَارُونُ، وَهَذَا مِنْ تَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ الْوَاقِعِ فِي التَّوْرَاةِ بَعْدَ مُوسَى، وَلَمْ يَكُنْ هَارُونُ صَائِغًا، وَنُسِبَ الِاتِّخَاذُ إِلَى قَوْمِ مُوسَى كُلِّهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ، لِأَنَّهُمُ الْآمِرُونَ بِاتِّخَاذِهِ وَالْحَرِيصُونَ عَلَيْهِ، وَهَذَا مَجَازٌ شَائِعٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ.
وَمَعْنَى اتَّخَذُوا عِجْلًا صُورَةَ عِجْلٍ، وَهَذَا مِنْ مَجَازِ الصُّورَةِ، وَهُوَ شَائِعٌ فِي الْكَلَامِ.
وَالْمُرَادُ بِ النَّاسِ جَمِيعُ النَّاسِ الَّذِينَ ضَمَّهُمُ الْمَوْسِمُ، وَمَنْ يَبْلُغُهُ ذَلِكَ مِنْهُمْ:
مُؤْمِنُهُمْ وَمُشْرِكُهُمْ، لِأَنَّ هَذَا الْأَذَانَ مِمَّا يَجِبُ أَنْ يَعْلَمَهُ الْمُسْلِمُ وَالْمُشْرِكُ، إِذْ كَانَ حُكْمُهُ يَلْزَمُ الْفَرِيقَيْنِ.
وَقَوْلُهُ: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَتَعَلَّقُ بِ أَذانٌ بِحَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ- وَهُوَ بَاءُ التَّعْدِيَةِ- أَيْ إِعْلَامُ بِهَذِهِ الْبَرَاءَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي قَوْلِهِ: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [التَّوْبَة: ١] فَإِعَادَتُهَا هُنَا لِأَنَّ هَذَا الْإِعْلَامَ لِلْمُشْرِكِينَ الْمُعَاهِدِينَ وَغَيْرِهِمْ، تَقْرِيرًا لِعَدَمِ غَدْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْآيَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ إِعْلَامٌ لِلْمُسْلِمِينَ.
وَجَاءَ التَّصْرِيحُ بِفِعْلِ الْبَرَاءَةِ مَرَّةً ثَانِيَةً دُونَ إِضْمَارٍ وَلَا اخْتِصَارٍ بِأَنْ يُقَالَ: وَأَذَانٌ إِلَى النَّاسِ بِذَلِكَ، أَوْ بِهَا، أَوْ بِالْبَرَاءَةِ، لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ بَيَانٍ وَإِطْنَابٍ لِأَجْلِ اخْتِلَافِ أَفْهَامِ السَّامِعِينَ فِيمَا يَسْمَعُونَهُ، فَفِيهِمُ الذَّكِيُّ وَالْغَبِيُّ، فَفِي الْإِطْنَابِ وَالْإِيضَاحِ قَطْعٌ لِمَعَاذِيرِهِمْ وَاسْتِقْصَاءٌ فِي الْإِبْلَاغِ لَهُمْ.
وَعُطِفَ وَرَسُولِهِ بِالرَّفْعِ، عِنْدَ الْقُرَّاءِ كُلِّهِمْ: لِأَنَّهُ مِنْ عَطْفِ الْجُمْلَةِ، لِأَنَّ السَّامِعَ يَعْلَمُ مِنَ الرَّفْعِ أَنَّ تَقْدِيرَهُ: وَرَسُولُهُ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَفِي هَذَا الرَّفْعِ مَعْنًى بَلِيغٌ مِنَ الْإِيضَاحِ لِلْمَعْنَى مَعَ الْإِيجَازِ فِي اللَّفْظِ، وَهَذِهِ نُكْتَةٌ قُرْآنِيَّةٌ بَلِيغَةٌ، وَقَدِ اهْتَدَى بهَا ضابىء بْنُ الْحَارِثِ فِي قَوْلِهِ:
وَمَنْ يَكُ أَمْسَى بِالْمَدِينَةِ رَحْلُهُ | فَإِنِّي وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ |
وَمِمَّا يَجِبُ التَّنْبِيهُ لَهُ: مَا فِي بَعْضِ التَّفَاسِيرِ أَنَّهُ رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ قِرَاءَةُ وَرَسُولِهِ- بالجرّ- وَلم يصحّ نِسْبَتُهَا إِلَى الْحَسَنِ، وَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ جَرُّ وَرَسُولِهِ وَلَا عَامل بمقتضي جَرَّهُ، وَلَكِنَّهَا ذَاتُ قِصَّةٍ طَرِيفَةٍ: أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَمِعَ رَجُلًا قَرَأَ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ- بِجَرِّ وَرَسُولِهِ- فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: إِنْ كَانَ اللَّهُ بَرِيئًا مِنْ رَسُولِهِ فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ.
وَإِنَّمَا أَرَادَ التَّوَرُّكَ عَلَى الْقَارِئِ، فَلَبَّبَهُ الرَّجُلُ إِلَى عُمَرَ، فَحَكَى الْأَعْرَابِيُّ قِرَاءَتَهُ فَعِنْدَهَا أَمَرَ عُمَرُ بِتَعَلُّمِ الْعَرَبِيَّةِ، وَرُوِيَ- أَيْضًا- أَنَّ أَبَا الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيَّ سَمِعَ ذَلِكَ فَرَفَعَ
وَالْإِتْيَانُ بِالْمَوْصُولِيَّةِ فِي تَعْرِيفِ الْكَافِرِينَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الطُّغْيَانَ أَشَدُّهُ إِنْكَارُهُمُ الْبَعْثَ، وَلِأَنَّهُ صَارَ كَالْعَلَّامَةِ عَلَيْهِمْ كَمَا تقدم آنِفا.
[١٢]
[سُورَة يُونُس (١٠) : آيَة ١٢]
وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ [يُونُس: ١١] الْآيَةَ، لِأَنَّ الْغَرَضَ الْأَهَمَّ مِنْ كِلْتَيْهِمَا هُوَ الِاعْتِبَارُ بِذَمِيمِ أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ تَفْظِيعًا لِحَالِهِمْ وَتَحْذِيرًا مِنَ الْوُقُوعِ فِي أَمْثَالِهَا بِقَرِينَةِ تَنْهِيَةِ هَذِهِ الْآيَةِ بِجُمْلَةِ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ. فَلَمَّا بُيِّنَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ وَجْهُ تَأْخِيرِ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ عَنْهُمْ وَإِرْجَاءِ جَزَائِهِمْ إِلَى الْآخِرَةِ بُيِّنَ فِي هَذِهِ الْآيَة حَالهم عِنْد مَا يَمَسُّهُمْ شَيْءٌ من الضّر وَعند مَا يُكْشَفُ الضُّرُّ عَنْهُمْ.
فَالْإِنْسَانُ مُرَادٌ بِهِ الْجِنْسُ، وَالتَّعْرِيفُ بِاللَّامِ يُفِيدُ الِاسْتِغْرَاقَ الْعُرْفِيَّ، أَيِ الْإِنْسَانَ الْكَافِرَ، لِأَنَّ جُمْهُورَ النَّاسِ حِينَئِذٍ كَافِرُونَ، إِذْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ لَا يُعَدُّونَ بِضْعَةً وَسَبْعِينَ رَجُلًا مَعَ نِسَائِهِمْ وَأَبْنَائِهِمُ الَّذِينَ هُمْ تَبَعٌ لَهُمْ. وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَكُونُ الْمَنْظُورُ إِلَيْهِمْ فِي هَذَا الْحُكْمِ هُمُ الْكَافِرُونَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا [مَرْيَم: ٦٦]- وَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ [الانفطار: ٦، ٧]. وَيَأْخُذُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ مَا يُنَاسِبُ مِقْدَارَ مَا فِي آحَادِهِمْ مِنْ بَقَايَا هَذِهِ الْحَالِ الْجَاهِلِيَّةِ فَيُفِيقُ كُلٌّ مِنْ غَفْلَتِهِ.
وَعُدِلَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِالضَّمِيرِ الرَّاجِعِ إِلَى (النَّاسِ) مِنْ قَوْلِهِ: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ [يُونُس: ١١] لِأَنَّ فِي ذِكْرِ لَفْظِ الْإِنْسَانِ إِيمَاءً إِلَى التَّذْكِيرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ إِذْ جَعَلَهُمْ، مِنْ أَشْرَفِ الْأَنْوَاعِ الْمَوْجُودَةِ عَلَى الْأَرْضِ. وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ جَعَلَ اللَّامَ فِي الْإِنْسَانِ لِلْعَهْدِ وَجَعَلَ الْمُرَادَ بِهِ أَبَا حُذَيْفَةَ بْنَ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيَّ، وَاسْمُهُ مُهَشِّمٌ، وَكَانَ مُشْرِكًا،
وَكَانَ أَصَابَهُ مَرَضٌ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ كَأَنَّهُمُ اسْتَعْظَمُوا أَنْ يَكُونَ جُرْمُهُمْ مِمَّا يُقْبَلُ الاسْتِغْفَار عَنهُ، فأجيبوا بأنّ اللَّهَ قَرِيبٌ مُجِيبٌ، وَبِذَلِكَ ظَهَرَ أَنَّ الْجُمْلَةَ لَيْسَتْ بِتَعْلِيلٍ.
وَحَرْفُ إِنَّ فِيهَا لِلتَّأْكِيدِ تَنْزِيلًا لَهُمْ فِي تَعْظِيمِ جُرْمِهِمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يَشُكُّ فِي قَبُولِ اسْتِغْفَارِهِ.
وَالْقُرْبُ: هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلرَّأْفَةِ وَالْإِكْرَامِ، لِأَنَّ الْبُعْدَ يُسْتَعَارُ لِلْجَفَاءِ وَالْإِعْرَاضِ. قَالَ جُبَيْرُ بْنُ الْأَضْبَطِ:
تَبَاعَدَ عَنِّي مِطْحَلٌ إِذْ دَعَوْتُهُ | أَمِينَ فَزَادَ اللَّهُ مَا بَيْنَنَا بُعْدًا |
إِعْطَاء السَّائِل مسؤوله.
[٦٢]
[سُورَة هود (١١) : آيَة ٦٢]
قالُوا يَا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٦٢)
هَذَا جَوَابُهُمْ عَنْ دَعْوَتِهِ الْبَلِيغَةِ الْوَجِيزَةِ الْمَلْأَى إِرْشَادًا وَهَدْيًا. وَهُوَ جَوَابٌ مَلِيءٌ بِالضَّلَالِ وَالْمُكَابَرَةِ وَضَعْفِ الْحُجَّةِ.
وَافْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِالنِّدَاءِ لِقَصْدِ التَّوْبِيخِ أَوِ الْمَلَامِ وَالتَّنْبِيهِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: قالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ [هود: ٥٣]. وَقَرِينَةُ التَّوْبِيخِ هُنَا أَظْهَرُ، وَهِيَ قَوْلُهُمْ: قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا فَإِنَّهُ تَعْرِيضٌ بِخَيْبَةِ رَجَائِهِمْ فِيهِ فَهُوَ تَعْنِيفٌ.
وقَدْ لِتَأْكِيدِ الْخَبَرِ.
وَتَنْكِيرُ «شَيْءٍ» لِلتَّحْقِيرِ. وَالْمُرَادُ أَقَلُّ مَا يُجَابُ بِهِ مِنَ الْكَلَامِ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ مِنْ عُمُومِ أَحْوَالِ الدَّاعِينَ وَالْمُسْتَجِيبِينَ وَالدَّعْوَةِ وَالِاسْتِجَابَةِ، لِأَنَّهُ تَشْبِيهُ هَيْئَةٍ فَهُوَ يَسْرِي إِلَى جَمِيعِ أَجْزَائِهَا فَلَكَ أَنْ تُقَدِّرَ الْكَلَامَ إِلَّا كَدَاعٍ بَاسِطٍ أَوْ إِلَّا كَحَالِ بَاسِطٍ. وَالْمَعْنَى: لَا يَسْتَجِيبُونَهُمْ فِي حَالٍ مِنْ أَحْوَالِ الدُّعَاءِ وَالِاسْتِجَابَةِ إِلَّا فِي حَالٍ لِدَاعٍ وَمُسْتَجِيبٍ كَحَالِ بَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ. وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ فَيَؤُولُ إِلَى نَفْيِ الِاسْتِجَابَةِ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ بِطَرِيقِ التَّمْلِيحِ وَالْكِنَايَةِ.
وَالْمُرَادُ بِ (بَاسِطِ كَفَّيْهِ) مَنْ يَغْتَرِفُ مَاءً بِكَفَّيْنِ مَبْسُوطَتَيْنِ غَيْرِ مَقْبُوضَتَيْنِ إِذِ الْمَاءُ لَا يَسْتَقِرُّ فِيهِمَا. وَهَذَا كَمَا يُقَالُ: هُوَ كَالْقَابِضِ عَلَى الْمَاءِ، فِي تَمْثِيلِ إِضَاعَةِ الْمَطْلُوبِ.
وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ:
فَأَصْبَحْتُ فِيمَا كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا | مِنَ الْوُدِّ مِثْلَ الْقَابِضِ الْمَاءَ بِالْيَدِ |
وَاللَّامُ فِي لِيَبْلُغَ لِلْعِلَّةِ. وَضمير لِيَبْلُغَ عَائِدٌ إِلَى الْمَاءِ. وَكَذَلِكَ ضَمِيرُ هُوَ وَالضَّمِيرُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ فِي (بَالِغِهِ) لِلْفَمِ.
وَالْكَلَامُ تَمْثِيلِيَّةٌ. شُبِّهَ حَالُ الْمُشْرِكِينَ فِي دُعَائِهِمُ الْأَصْنَامَ وَجَلْبِ نَفْعِهِمْ وَعَدَمِ اسْتِجَابَةِ الْأَصْنَامِ لَهُمْ بِشَيْءٍ بِحَالِ الظَّمْآنِ يَبْسُطُ كَفَّيْهِ يَبْتَغِي أَنْ يَرْتَفِعَ الْمَاءُ فِي كَفَّيْهِ الْمَبْسُوطَتَيْنِ إِلَى فَمِهِ لِيَرْوِيَهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغٍ إِلَى فَمِهِ بِذَلِكَ الطَّلَبِ فَيَذْهَبُ سَعْيُهُ وَتَعَبُهُ بَاطِلًا مَعَ مَا فِيهِ مِنْ كِنَايَةٍ وَتَمْلِيحٍ كَمَا ذَكَرْنَاهُ.
وَجُمْلَةُ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لِاسْتِيعَابِ حَالِ الْمَدْعُوِّ وَحَالِ الدَّاعِي. فَبَيَّنَتِ الْجُمْلَةُ السَّابِقَةُ حَالَ عَجْزِ الْمَدْعُوِّ عَنِ الْإِجَابَةِ وَأُعْقِبَتْ بِالتَّمْثِيلِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى كِنَايَةٍ وَتَمْلِيحٍ. وَاشْتَمَلَ ذَلِكَ أَيْضًا بِالْكِنَايَةِ عَلَى خَيْبَةِ الدَّاعِي.
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ. فَأُهْرِقَتِ الْقُدُورُ
. وَأَنَّ الْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ سَوَاءٌ فِي أَنَّ الْآيَةَ لَا تَشْمَلُ حُكْمَ أَكْلِهَا. فَالْمَصِيرُ فِي جَوَازِ أَكْلِهَا وَمَنْعِهِ إِلَى أَدِلَّةٍ أُخْرَى.
فَأَمَّا الْخَيْلُ وَالْبِغَالُ فَفِي جَوَازِ أَكْلِهَا خِلَافٌ قَوِيٌّ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَجُمْهُورُهُمْ أَبَاحُوا أَكْلَهَا. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَالظَّاهِرِيِّ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ وَعَطَاءٍ وَالزُّهْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَابْنِ جُبَيْرٍ.
وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: يَحْرُمُ أَكْلُ لُحُومِ الْخَيْلِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً، وَلَوْ كَانَتْ مُبَاحَةَ الْأَكْلِ لَامْتَنَّ بِأَكْلِهَا كَمَا امْتَنَّ فِي الْأَنْعَامِ بِقَوْلِهِ: وَمِنْها تَأْكُلُونَ [سُورَة النَّحْل: ٥]. وَهُوَ دَلِيلٌ لَا يَنْهَضُ بِمُفْرَدِهِ. فَيُجَابُ عَنْهُ بِمَا قَرَّرْنَا مِنْ جَرَيَانِ الْكَلَامِ عَلَى مُرَاعَاةِ عَادَةِ الْمُخَاطَبِينَ بِهِ. وَقَدْ ثَبَتَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَكَلُوا لُحُومَ الْخَيْلِ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلِمَهُ. وَلَكِنَّهُ كَانَ نَادِرًا فِي عَادَتِهِمْ.
وَعَنْ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رِوَايَةٌ بِكَرَاهَةِ لُحُومِ الْخَيْلِ وَاخْتَارَ ذَلِكَ الْقُرْطُبِيُّ.
وَأَمَّا الْحَمِيرُ فَقَدْ ثَبَتَ أَكْلُ الْمُسْلِمِينَ لُحُومَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ. ثُمَّ نُهُوا عَنْ ذَلِكَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ. وَاخْتُلِفَ فِي مَحْمَلِ ذَلِكَ، فَحَمَلَهُ الْجُمْهُورُ عَلَى التَّحْرِيمِ لِذَاتِ الْحَمِيرِ.
وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى تَأْوِيلِ أَنَّهَا كَانَتْ حُمُولَتُهُمْ يَوْمَئِذٍ فَلَوِ اسْتَرْسَلُوا عَلَى أَكْلِهَا لَانْقَطَعُوا بِذَلِكَ الْمَكَانِ فَآبُوا رِجَالًا وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا حَمْلَ أَمْتِعَتِهِمْ. وَهَذَا رَأْيُ فَرِيقٍ مِنَ السَّلَفِ. وَأَخَذَ فَرِيقٌ مِنَ السَّلَفِ بِظَاهِرِ النَّهْيِ فَقَالُوا بِتَحْرِيمِ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ لِأَنَّهَا مَوْرِدُ النَّهْيِ وَأَبْقَوُا الْوَحْشِيَّةَ عَلَى الْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ. وَهُوَ قَول جُمْهُور الْأَئِمَّة مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ
وَالشَّافِعِيِّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- وَغَيْرِهِمْ.
ذَلِكَ مَعَ قَوْلِهِمُ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ مِنْ سَرَوَاتِ الْجِنِّ، وَكَيْفَ يَخْلُقُ الشَّيْءَ ثُمَّ يَكُونُ ابْنًا لَهُ فَذَلِكَ فِي الْبُطْلَانِ ضِغْثٌ على إبّالة.
[٤١]
[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧) : آيَة ٤١]
وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤١)
لَمَّا ذَكَرَ فَظَاعَةَ قَوْلِهِمْ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِأَنَّ فِي الْقُرْآنِ هَدْيًا كَافِيًا، وَلَكِنَّهُمْ يَزْدَادُونَ نُفُورًا مِنْ تَدَبُّرِهِ.
فَجُمْلَةُ وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ مُعْتَرِضَةٌ مُقْتَرِنَةٌ بِوَاوِ الِاعْتِرَاضِ.
وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ عَبَدُوا الْمَلَائِكَةَ وَزَعَمُوهُمْ بَنَاتِ اللَّهِ.
وَالتَّصْرِيفُ: أَصْلُهُ تَعَدُّدُ الصَّرْفِ، وَهُوَ النَّقْلُ مِنْ جِهَةٍ إِلَى أُخْرَى. وَمِنْهُ تَصْرِيفُ الرِّيَاحِ، وَهُوَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ التَّبْيِينِ بِمُخْتَلِفِ الْبَيَانِ وَمُتَنَوِّعِهِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٤٦].
وَحُذِفَ مَفْعُولُ صَرَّفْنا لِأَنَّ الْفِعْلَ نَزَلَ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ فَلَمْ يُقَدَّرْ لَهُ مَفْعُولٌ، أَيْ، بَيَّنَّا الْبَيَانَ، أَيْ لِيَذَّكَّرُوا بِبَيَانِهِ. وَيَذَّكَّرُوا: أَصْلُهُ يَتَذَكَّرُوا، فَأُدْغِمَ التَّاءُ فِي الذَّالِ لِتَقَارُبِ مَخْرَجَيْهِمَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ يُونُسَ، وَهُوَ مِنَ الذُّكْرِ الْمَضْمُومِ الذَّالِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ النِّسْيَانِ.
وَضَمِيرُ لِيَذَّكَّرُوا عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ [الْإِسْرَاء: ٤٠] أَيْ لِيَذَّكَّرَ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِالتَّوْبِيخِ فِي قَوْلِهِ: أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ [الْإِسْرَاء: ٤٠]، فَهُوَ الْتِفَاتٌ مِنِ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ، أَوْ مِنْ خِطَابِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَقَوْلُهُ: وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً تَعَجُّبٌ مِنْ حَالِهِمْ.
تَحَسُّرِ الْمُجْرِمِينَ عَلَى مَا فَرَّطُوا فِيهِ مِنْ أَسْبَابِ النَّجَاةِ، فَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ كَأَنَّهُ مِمَّا اخْتَصَّتْ بِهِ الْحَسْرَةُ، فَهُوَ يَوْمُ حَسْرَةٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَ يَوْمَ فَرَحٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الصَّالِحِينَ.
وَاللَّامُ فِي الْحَسْرَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَامُ الْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّامُ عِوَضًا عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ يَوْمَ حَسْرَةِ الظَّالِمِينَ.
وَمَعْنَى قُضِيَ الْأَمْرُ: تُمِّمَ أَمْرُ اللَّهِ بِزَجِّهِمْ فِي الْعَذَابِ فَلَا مُعَقِّبَ لَهُ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ أَمْرَ اللَّهِ بِمَجِيءِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَي إِذْ حُشِرُوا. وَ (إِذْ) اسْمُ زَمَانٍ، بَدَلٌ مِنْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ.
وَجُمْلَةُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ حَالٌ مِنَ الْأَمْرُ وَهِيَ حَالٌ سَبَبِيَّةٌ، إِذِ التَّقْدِيرُ: إِذْ قُضِيَ أَمْرُهُمْ.
وَالْغَفْلَةُ: الذُّهُولُ عَنْ شَيْءٍ شَأْنُهُ أَنْ يُعْلَمَ.
وَمَعْنَى جُمْلَةِ الْحَالِ عَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ الْكِنَايَةُ عَنْ سُرْعَةِ صُدُورِ الْأَمْرِ بِتَعْذِيبِهِمْ، أَيْ قُضِيَ أَمْرُهُمْ عَلَى حِينِ أَنَّهُمْ فِي غَفْلَةٍ، أَيْ بَهْتٍ. وَعَلَى الِاحْتِمَالِ الثَّانِي تَحْذِيرٌ مِنْ حُلُولِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِهِمْ قَبْلَ أَنْ يُؤْمِنُوا كَقَوْلِهِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً [الْأَعْرَاف:
١٨٧]، وَهَذَا أَلْيَقُ بِقَوْلِهِ: وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ.
وَمَعْنَى وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ اسْتِمْرَارُ عَدَمِ إِيمَانِهِمْ إِلَى حُلُولِ قَضَاءِ الْأَمْرِ يَوْمَ الْحَسْرَةِ.
فَاخْتِيَارُ صِيغَةِ الْمُضَارِعِ فِيهِ دُونَ صِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمُضَارِعُ مِنِ اسْتِمْرَارِ الْفِعْلِ وَقْتًا فَوَقْتًا اسْتِحْضَارًا لِذَلِكَ الِاسْتِمْرَارِ الْعَجِيبِ فِي طوله وتمكنه.
وَهِبَةُ يَعْقُوبَ ازْدِيَاده لِإِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ فِي حَيَاةِ إِبْرَاهِيمَ وَرُؤْيَتُهُ إِيَّاهُ كَهْلًا صَالِحًا.
وَالنَّافِلَةُ: الزِّيَادَةُ غَيْرُ الْمَوْعُودَةِ، فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ سَأَلَ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ أَرَادَ الْوَلَدَ فَوُلِدَ لَهُ إِسْمَاعِيلُ كَمَا فِي [سُورَةِ الصَّافَّاتِ: ١٠٠]، ثُمَّ وُلِدَ لَهُ إِسْحَاقُ عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ كَمَا فِي سُورَةِ هُودٍ فَكَانَ نَافِلَةً، وَوُلِدَ لِإِسْحَاقَ يَعْقُوبُ فَكَانَ أَيْضًا نَافِلَةً.
وَانْتَصَبَ نافِلَةً عَلَى الْحَالِ الَّتِي عَامِلُهَا وَهَبْنا فَتَكُونُ حَالًا مِنْ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ شَأْنُ الْحَالِ الْوَارِدَةِ بَعْدَ الْمُفْرَدَاتِ أَنْ تَعُودَ إِلَى جَمِيعِهَا.
وَتَنْوِينُ كُلًّا عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ. وَالْمَعْنَى: وَكُلُّهُمْ جَعَلْنَا صَالِحِينَ، أَيْ أَصْلَحْنَا نُفُوسَهُمْ. وَالْمُرَادُ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْحَاقُ وَيَعْقُوبُ، لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ كَانَ الْحَدِيثُ الْأَخِيرُ عَنْهُمْ. وَأَمَّا لُوطٌ فَإِنَّمَا ذُكِرَ عَلَى طَرِيقِ الْمَعِيَّةِ وَسَيُخَصُّ بِالذِّكْرِ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ.
وَإِعَادَةُ فِعْلِ «جَعَلَ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا دُونَ أَن يُقَال:
وأيمة يَهْدُونَ، بِعَطْفِ أَئِمَّةً على صالِحِينَ، اهْتِمَامًا بِهَذَا الْجَعْلِ الشَّرِيفِ، وَهُوَ جَعْلُهُمْ هَادِينَ لِلنَّاسِ بَعْدَ أَنْ جَعَلَهُمْ صَالِحِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ فَأُعِيدَ الْفِعْلُ لِيَكُونَ لَهُ مَزِيدَ اسْتِقْرَارٍ.
وَلِأَنَّ فِي إِعَادَةِ الْفِعْلِ إِعَادَةَ ذِكْرِ الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ فَكَانَتْ إِعَادَتُهُ وَسِيلَةً إِلَى إِعَادَةِ ذِكْرِ الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ.
وَفِي تِلْكَ الْإِعَادَةِ مِنَ الِاعْتِنَاءِ مَا فِي الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ كَمَا يَظْهَرُ بِالذَّوْقِ.
وَالْأَئِمَّةُ: جَمْعُ إِمَامٍ وَهُوَ الْقُدْوَةُ وَالَّذِي يَعْمَلُ كَعَمَلِهِ. وَأَصْلُ الْإِمَامِ الْمِثَالُ الَّذِي يُصْنَعُ الشَّيْءُ عَلَى صُورَتِهِ فِي الْخَيْرِ أَوْ فِي الشَّرِّ.
(٨٥)
اسْتِئْنَافُ اسْتِدْلَالٍ عَلَيْهِمْ فِي إِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى عَادَ بِهِ الْكَلَامُ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ:
وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٨٠].
وَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيٌّ، أَيْ أَجِيبُوا عَنْ هَذَا، وَلَا يَسَعُهُمْ إِلَّا الْجَوَابُ بِأَنَّهَا لِلَّهِ.
وَالْمَقْصُودُ: إِثْبَاتُ لَازِمِ جَوَابِهِمْ وَهُوَ انْفِرَادُهُ تَعَالَى بِالْوَحْدَانِيَّةِ.
وإِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ شَرْطٌ حُذِفَ جَوَابُهُ لِدَلَالَةِ الِاسْتِفْهَامِ عَلَيْهِ، تَقْدِيرُهُ: فَأَجِيبُونِي عَنِ السُّؤَالِ. وَفِي هَذَا الشَّرْطِ تَوْجِيهٌ لِعُقُولِهِمْ أَنْ يَتَأَمَّلُوا فَيَظْهَرَ لَهُمْ أَنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ وَأَنَّ مَنْ فِيهَا لِلَّهِ فَإِنَّ كَوْنَ جَمِيعِ ذَلِكَ لِلَّهِ قَدْ يَخْفَى لِأَنَّ النَّاسَ اعْتَادُوا نِسْبَةَ الْمُسَبَّبَاتِ إِلَى أَسْبَابِهَا الْمُقَارِنَةِ وَالتَّصَرُّفَاتِ إِلَى مُبَاشِرِيهَا فَنُبِّهُوا بِقَوْلِهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ إِلَى التَّأَمُّلِ، أَيْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ، وَلِذَلِكَ عُقِّبَ بِقَوْلِهِ: سَيَقُولُونَ لِلَّهِ، أَيْ يُجِيبُونَ عَقِبَ التَّأَمُّلِ جَوَابًا غَيْرَ بَطِيءٍ. وَانْظُرْ مَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٢].
وَوَقَعَتْ جُمْلَةُ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ جَوَابًا لِإِقْرَارِهِمْ وَاعْتِرَافِهِمْ بِأَنَّهَا لِلَّهِ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ إِنْكَار لعدم تذكرهم بِذَلِكَ، أَيْ تَفْطِنُ عُقُولُهُمْ لِدَلَالَةِ ذَلِكَ عَلَى انْفِرَادِهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ. وَخُصَّ بِالتَّذَكُّرِ لِمَا فِي بَعْضِهِ مِنْ خَفَاءِ الدَّلَالَةِ وَالِاحْتِيَاجِ إِلَى النّظر.
[٨٦، ٨٧]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : الْآيَات ٨٦ إِلَى ٨٧]
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٨٧)
تَكْرِيرُ الْأَمْرِ بِالْقَوْلِ وَإِنْ كَانَ الْمَقُولُ مُخْتَلِفًا دُونَ أَنْ تُعْطَفَ جُمْلَةُ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ فِي سِيَاقِ التَّعْدَادِ فَنَاسَبَ أَنْ يُعَادَ الْأَمْرُ بِالْقَوْلِ دُونَ الِاسْتِغْنَاءِ بِحَرْفِ الْعَطْفِ. وَالْمَقْصُودُ وُقُوعُ هَذِهِ الْأَسْئِلَةِ مُتَتَابِعَةً دَفْعًا
إِلَى مُوسَى وَهَارُونَ وَقَوْمِ فِرْعَوْنَ. وَالْمَعِيَّةُ مَعِيَّةُ عِلْمٍ كَالَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كانُوا [المجادلة:
٧].
ومُسْتَمِعُونَ أَشَدُّ مُبَالَغَةً مِنْ (سَامِعُونَ) لِأَنَّ أَصْلَ الِاسْتِمَاعِ أَنَّهُ تَكَلُّفُ السَّمَاعِ وَالتَّكَلُّفُ كِنَايَةٌ عَنِ الِاعْتِنَاءِ، فَأُرِيدَ هَنَا عِلْمٌ خَاصٌّ بِمَا يجْرِي بَينهَا وَبَيْنَ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ وَهُوَ الْعِلْمُ الَّذِي تُوَافِقُهُ الْعِنَايَةُ وَاللُّطْفُ.
وَالْجَمْعُ بَيْنَ قَوْلِهِ: بِآياتِنا وَقَوْلِهِ: إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ تَأْكِيدٌ لِلطَّمْأَنَةِ وَرِبَاطَةٌ لِجَأْشِهِمَا.
وَالرَّسُولُ: فَعُولٌ بِمَعْنَى مُفْعَلٍ، أَيْ مُرْسَلٍ. وَالْأَصْلُ فِيهِ مُطَابَقَةُ مَوْصُوفِهِ، بِخِلَافِ فَعُولٍ بِمَعْنَى فَاعِلٍ فَحَقُّهُ عَدَمُ الْمُطَابَقَةِ سَمَاعًا، وَفَعُولٌ بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ قَلِيلٌ فِي كَلَامِهِمْ وَمِنْهُ: بَقَرَةٌ ذَلُولٌ، وَقَوْلُهُمْ: صَبُوحٌ، لِمَا يُشْرَبُ فِي الصَّبَاحِ، وَغَبُوقٌ، لِمَا يُشْرَبُ فِي الْعَشِيِّ، وَالنَّشُوقُ، لِمَا يُنَشَّقُ مِنْ دَوَاءٍ وَنَحْوِهِ. وَلَكِنْ رَسُولٌ يَجُوزُ فِيهِ أَنْ يُجْرَى مَجْرَى الْمَصْدَرِ فَلَا يُطَابِقُ مَا يَجْرِي عَلَيْهِ فِي تَأْنِيثٍ وَمَا عَدَا الْإِفْرَادَ، وَوَرَدَ فِي كَلَامِهِمْ بِالْوَجْهَيْنِ تَارَةً مُلَازِمًا الْإِفْرَادَ وَالتَّذْكِيرَ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَوَرَدَ مُطَابِقًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فِي سُورَةِ طه [٤٧]، فَذَهَبَ الْجَوْهَرِيُّ إِلَى أَنَّهُ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ كَوْنِهِ اسْمًا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ وَبَيْنَ كَوْنِهِ اسْمَ مَصْدَرٍ وَلَمْ يَجْعَلْهُ مَصْدَرًا إِذْ لَا يُعْرَفُ فَعُولٌ مَصْدَرًا لِغَيْرِ الثُّلَاثِيِّ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ الْأَشْعَرِ الْجُعْفِيِّ:
أَلَا أَبْلِغْ بَنِي عَمْرٍو رَسُولًا | بِأَنِّي عَنْ فُتَاحَتِكُمْ غَنِيٌّ |
أَلِكْنِي إِلَيْهَا وَخَيْرُ الرَّسُو | لِ أَعْلَمُهُمْ بِنَوَاحِي الْخَبَرِ |
مُنْذُ أَوَّلِ هَذَا الْقَرْنِ الرَّابِعَ عَشَرَ أَنَّ رَاعِيَ الْغَنَمِ لَهُ فِي كُلِّ عَامٍ قَمِيصٌ وَحِذَاءٌ يُسَمَّى (بَلْغَةً) وَنَحْوُ ذَلِكَ لَا أَضْبُطُهُ الْآنَ.
وَقَوْلُهُ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ جَعَلَ ذَلِكَ إِلَى مُوسَى تَفَضُّلًا مِنْهُ أَنِ اخْتَارَهُ وَوَكَّلَهُ إِلَى مَا تَكُونُ عَلَيْهِ حَالُهُ فِي مُنْتَهَى الْحِجَجِ الثَّمَانِ مِنْ رَغْبَةٍ فِي الزِّيَادَةِ.
وَ (مِنْ) ابْتِدَائِيَّةٌ. وَ (عِنْدَ) مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الذَّاتِ وَالنَّفْسِ مَجَازًا، وَالْمَجْرُورُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: فَإِتْمَامُ الْعَشْرِ مِنْ نَفْسِكَ، أَيْ لَا مِنِّي، يَعْنِي: أَنَّ الْإِتْمَامَ لَيْسَ دَاخِلًا فِي الْعُقْدَةِ الَّتِي هِيَ مِنَ الْجَانِبَيْنِ فَكَانَ مَفْهُومُ الظَّرْفِ مُعْتَبَرًا هُنَا.
وَاحْتَجَّ مَالِكٌ بِقَوْلِهِ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلَى أَنَّ لِلْأَبِ إِنْكَاحَ ابْنَتِهِ الْبِكْرِ بِدُونِ إِذْنِهَا وَهُوَ أَخْذٌ بِظَاهِرِهَا إِذْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِاسْتِئْذَانِهَا. وَلِمَنْ يَمْنَعُ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ عَدَمَ التَّعَرُّضِ لَهُ لَا يَقْتَضِي عَدَمَ وُقُوعِهِ.
وَقَوْلُهُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ يُرِيدُ الصَّالِحِينَ بِالنَّاسِ فِي حُسْنِ الْمُعَامَلَةِ وَلِينِ الْجَانِبِ. قَصَدَ بِذَلِكَ تَعْرِيفَ خُلُقِهِ لِصَاحِبِهِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ مَا قَصَدَ بِهِ قَائِلُهُ الْفَخْرَ وَالتَّمَدُّحَ، فَأَمَّا مَا كَانَ لغَرَض فِي الدِّينِ أَوِ الْمُعَامَلَةِ فَذَلِكَ حَاصِلٌ لِدَاعٍ حَسَنٍ كَمَا قَالَ يُوسُفُ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يُوسُف: ٥٥].
وأَشُقَّ عَلَيْكَ مَعْنَاهُ: أَكُونَ شَاقًّا عَلَيْكَ، أَيْ مُكَلِّفَكَ مَشَقَّةً، وَالْمَشَقَّةُ: الْعُسْرُ وَالتَّعَبُ وَالصُّعُوبَةُ فِي الْعَمَلِ. وَالْأَصْلُ أَنْ يُوصَفَ بِالشَّاقِّ الْعَمَلُ الْمُتْعِبُ فَإِسْنَادُ أَشُقَّ إِلَى ذَاتِهِ إِسْنَادٌ مَجَازِيٌّ لِأَنَّهُ سَبَبُ الْمَشَقَّةِ، أَيْ مَا أُرِيدُ أَنْ أَشْتَرِطَ عَلَيْكَ مَا فِيهِ مَشَقَّتُكَ. وَهَذَا مِنَ السَّمَاحَةِ الْوَارِدِ فِيهَا حَدِيثُ: «رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً سَمْحًا إِذَا بَاعَ، سَمَحًا إِذَا اشْتَرَى..».
وَجُمْلَةُ قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ حِكَايَةٌ لِجَوَابِ مُوسَى عَنْ كَلَامِ شُعَيْبٍ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ إِلَى الْمَذْكُورِ وَهُوَ أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ إِلَى آخِرِهِ. وَهَذَا قَبُولُ مُوسَى لِمَا أَوْجَبَهُ شُعَيْبٌ وَبِهِ تَمَّ التَّعَاقُدُ عَلَى النِّكَاحِ وَعَلَى الْإِجَارَةِ، أَيِ الْأَمْرُ عَلَى مَا شَرَطْتَ عَلَيَّ وَعَلَيْكَ. وَأَطْلَقَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ مَجَازًا فِي مَعْنَى الثُّبُوتِ وَاللُّزُومِ وَالِارْتِبَاطِ، أَيْ كُلٌّ فِيمَا هُوَ مِنْ عَمَلِهِ.
[سُورَة الرّوم (٣٠) : آيَة ٤١]
ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤١)مَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَعْنَاهَا صَالِحٌ لِعِدَّةِ وُجُوهٍ مِنَ الْمَوْعِظَةِ، وَهِيَ مِنْ جَوَامِعِ كَلِمِ الْقُرْآنِ. وَالْمَقْصِدُ مِنْهَا هُوَ الْمَوْعِظَةُ بِالْحَوَادِثِ مَاضِيهَا وَحَاضِرِهَا لِلْإِقْلَاعِ عَنِ الْإِشْرَاكِ وَعَنْ تَكْذِيبِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَّا مَوْقِعُهَا فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُتَّصِلَةً بِقَوْلِهِ قَبْلَهَا أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ الْآيَات [الرّوم: ٩]، فَلَمَّا طُولِبُوا بِالْإِقْرَارِ عَلَى مَا رَأَوْهُ مِنْ آثَارِ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ، أَوْ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ عَدَمَ النَّظَرِ فِي تِلْكَ الْآثَارِ، أُتْبِعَ ذَلِكَ بِمَا أَدَّى إِلَيْهِ طَرِيقُ الْمَوْعِظَةِ من قَوْله هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [الرّوم: ٢٧]، وَمِنْ ذِكْرِ الْإِنْذَارِ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ، وَالتَّذْكِيرِ بِدَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَفْرِيعِ اسْتِحْقَاقِهِ تَعَالَى الشُّكْرَ لِذَاتِهِ وَلِأَجْلِ إِنْعَامِهِ اسْتِحْقَاقًا مُسْتَقِرًّا إِدْرَاكُهُ فِي الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ، وَمَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ مِنَ الْإِرْشَادِ وَالْمَوْعِظَةِ، عَادَ الْكَلَامُ إِلَى التَّذْكِيرِ بِأَنَّ مَا حَلَّ بِالْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ مِنَ الْمَصَائِبِ مَا كَانَ إِلَّا بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيهِمْ، أَيْ بِأَعْمَالِهِمْ، فَيُوشِكُ أَنْ يَحِلَّ مِثْلُ مَا حَلَّ بِهِمْ بِالْمُخَاطَبِينَ الَّذِينَ كَسَبَتْ أَيْدِيهُمْ مِثْلَ مَا كَسَبَتْ أَيْدِي أُولَئِكَ.
فَمَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَوْقِعُ النَّتِيجَةِ مِنْ مَجْمُوعِ الِاسْتِدْلَالِ أَوْ مَوْقِعُ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ بِتَقْدِيرِ سُؤَالٍ عَنْ سَبَبِ مَا حَلَّ بِأُولَئِكَ الْأُمَمِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَقَعَ هَذِهِ الْآيَةُ مَوْقِعَ التَّكْمِلَةِ لِقَوْلِهِ وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ [الرّوم: ٣٣] الْآيَةَ، فَهِيَ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ
فِي التَّنْدِيمِ عَلَى مَا حَلَّ بِالْمُكَذِّبِينَ الْمُخَاطَبِينَ مِنْ ضُرٍّ لِيَعْلَمُوا أَنَّ ذَلِكَ عِقَابٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَيُقْلِعُوا عَنْهُ خَشْيَةَ أَنْ يُحِيطَ بِهِمْ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ، كَمَا يُؤْذِنُ بِهِ قَوْلُهُ عَقِبَ ذَلِكَ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ. فَالْإِتْيَانُ بِلَفْظِ النَّاسِ فِي قَوْلِهِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِزِيَادَةِ إِيضَاحِ الْمَقْصُودِ، وَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ «بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيهِمْ». فَالْآيَةُ تُشِيرُ إِلَى مَصَائِبَ نَزَلَتْ بِبِلَادِ الْمُشْرِكِينَ وَعَطَّلَتْ مَنَافِعَهَا، وَلَعَلَّهَا مِمَّا نَشَأَ عَنِ الْحَرْبِ بَيْنَ الرُّومِ وَفَارِسَ، وَكَانَ الْعَرَبُ مُنْقَسِمِينَ بَيْنَ أَنْصَارِ هَؤُلَاءِ وَأَنْصَارِ أُولَئِكَ، فَكَانَ مِنْ جَرَّاءَ ذَلِكَ أَنِ انْقَطَعَتْ سُبُلَ الْأَسْفَارِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ فَتَعَطَّلَتِ التِّجَارَةُ وَقَلَّتِ
وَاللَّامُ فِي لَئِنْ مُوَطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ، فَالْكَلَامُ بَعْدَهَا قَسَمٌ مَحْذُوفٌ. وَالتَّقْدِيرُ: وَاللَّهِ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ.
وَاللَّامُ فِي لَنُغْرِيَنَّكَ لَامُ جَوَابِ الْقَسَمِ، وَجَوَابُ الْقَسَمِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ.
وَالْإِغْرَاءُ: الْحَثُّ وَالتَّحْرِيضُ عَلَى فِعْلٍ. وَيَتَعَدَّى فِعْلُهُ بِحرف (على) وبالباء، وَالْأَكْثَرُ أَنَّ تَعْدِيَتَهُ بِ (عَلَى) تُفِيدُ حَثًّا عَلَى الْفِعْلِ مُطْلَقًا فِي حَدِّ ذَاتِهِ وَأَنَّ تَعْدِيَتَهُ بِالْبَاءِ تُفِيدُ حَثًّا عَلَى الْإِيقَاعِ بِشَخْصٍ لِأَنَّ الْبَاءَ لِلْمُلَابَسَةِ. فَالْمُغْرَى عَلَيْهِ مُلَابِسٌ لِذَاتِ الْمَجْرُورِ بِالْبَاءِ، أَيْ وَاقِعًا عَلَيْهَا. فَلَا يُقَالُ: أَغْرَيْتُهُ بِهِ، إِذَا حَرَّضَهُ عَلَى إِحْسَانٍ إِلَيْهِ.
فَالْمَعْنَى: لَنُغْرِيَنَّكَ بِعُقُوبَتِهِمْ، أَيْ بِأَنْ تُغْرِيَ الْمُسْلِمِينَ بِهِمْ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا فَإِذَا حَلَّ ذَلِكَ بِهِمُ انْجَلُوا عَنِ الْمَدِينَةِ فَائِزِينَ بِأَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ.
وَاخْتِيرَ عَطْفُ جُمْلَةِ لَا يُجاوِرُونَكَ بِ ثُمَّ دُونَ الْفَاءِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَرَاخِي انْتِفَاءِ الْمُجَاوَرَةِ عَنِ الْإِغْرَاءِ بِهِمْ تَرَاخِي رُتْبَةٍ لِأَنَّ الْخُرُوجَ مِنَ الْأَوْطَانِ أَشَدُّ عَلَى النُّفُوسِ مِمَّا
يَلْحَقُهَا مِنْ ضُرٍّ فِي الْأَبْدَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ [الْبَقَرَة: ١٩١] أَيْ وَفِتْنَةُ الْإِخْرَاجِ مِنْ بَلَدِهِمْ أَشُدُّ عَلَيْهِمْ مِنَ الْقَتْلِ.
وَاسْتِثْنَاءُ إِلَّا قَلِيلًا لِتَأْكِيدِ نَفْيِ الْمُجَاوِرَةِ وَأَنه لَيْسَ جَارِيا عَلَى طَرِيقَةِ الْمُبَالَغَةِ أَيْ لَا يَبْقُونَ مَعَكَ فِي الْمَدِينَةِ إِلَّا مُدَّةً قَلِيلَةً، وَهِيَ مَا بَيْنَ نُزُولِ الْآيَةِ وَالْإِيقَاعِ بِهِمْ. وقَلِيلًا صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ يُجاوِرُونَكَ أَيْ جِوَارًا قَلِيلًا، وَقِلَّتُهُ بِاعْتِبَارِ مُدَّةِ زَمَنِهِ. وَجَعَلَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» صِفَةً لِزَمَنٍ مَحْذُوفٍ فَإِنَّ وُقُوعَ ضَمِيرِهِمْ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ يَقْتَضِي إِفْرَادَهُمْ، وَعُمُومُ الْأَشْخَاصِ يَقْتَضِي عُمُومَ أَزْمَانِهَا فَيَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الْوَصْفِ لِاسْمِ الزَّمَانِ وَلَيْسَ هُوَ ظَرْفًا.
ومَلْعُونِينَ حَالٌ مِمَّا تَضَمَّنَهُ قَلِيلًا مِنْ مَعْنَى الْجِوَارِ. فَالْجِوَارُ مَصْدَرُ يَتَحَمَّلُ ضَمِيرَ صَاحِبِهِ لِأَنَّ أَصْلَ الْمَصْدَرِ أَنْ يُضَافَ إِلَى فَاعِلِهِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا جِوَارَهُمْ مَلْعُونِينَ.
وَجَعَلَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» مَلْعُونِينَ مُسْتَثْنًى مِنْ أَحْوَالٍ بِأَنْ
[سُورَة الصافات (٣٧) : الْآيَات ٣٨ إِلَى ٣٩]
إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (٣٨) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٩)هَذَا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُوَجَّهِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ عَقِبَ تَسَاؤُلِهِمْ وَتَحَاوُرِهِمْ فَيَكُونُ مَا بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مُحَاوَرَتِهِمُ الْمُنْتَهِيَةِ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّا كُنَّا غاوِينَ [الصافات: ٣٢] اعْتِرَاضًا، أيْ فَلَمَّا انْتَهَوْا مِنْ تَحَاوُرِهِمْ خُوطِبُوا بِمَا يَقْطَعُ طَمَعَهُمْ فِي قَبُولِ تَنَصُّلِ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ مِنْ تَبِعَاتِ الْفَرِيقِ الْآخَرِ لِيَزْدَادُوا تَحَقُّقًا مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي عَلِمُوهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ [الصافات: ٣١]، وَهَذَا مَا تَقْتَضِيهِ دَلَالَةُ اسْمِ الْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ: لَذائِقُوا الْعَذابِ لِأَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ حَقِيقَةٌ فِي الْحَالِ، أَيْ حَالِ التَّلَبُّسِ، فَإِنَّهُ لَمَّا قِيلَ لَهُمْ هَذَا كَانُوا مُشْرِفِينَ عَلَى الْوُقُوعِ فِي الْعَذَابِ وَذَلِكَ زَمَنُ حَالٍ فِي الْعُرْفِ الْعَرَبِيِّ.
وَلَمَّا وَصَفَ عَذَابَهُمْ بِأَنَّهُ أَلِيمٌ عَطَفَ عَلَيْهِ إِخْبَارَهُمْ بِأَنَّ ذَلِكَ الْمِقْدَارَ لَا حَيْفَ عَلَيْهِمْ فِيهِ لِأَنَّهُ عَلَى وِفَاقِ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَعْمَلُونَهَا فِي الدُّنْيَا مِنْ آثَارِ الشِّرْكِ، وَالْحَظُّ الْأَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ الْجَزَاءِ هُوَ حَظُّ الشِّرْكِ وَلَكِنْ كُنِّيَ عَنِ الشِّرْكِ بِأَعْمَالِهِ وَأَمَّا هُوَ فَهُوَ أَمْرٌ اعْتِقَادِيٌّ.
وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ مُجَازُونَ عَلَى أَعْمَالِهِمُ السَّيِّئَةِ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ كَتَمْجِيدِ آلِهَتِهِمْ وَالدُّعَاءِ لَهَا، وَتَكْذيب الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَذَاهُ وَأَذَى الْمُؤْمِنِينَ، وَقَوْلِهِمْ فِي أَصْنَامِهِمْ أَنَّهُمْ شُفَعَاءٌ عِنْدَ اللَّهِ، وَفِي الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُمْ بَنَاتُ اللَّهِ، وَمِنْ قَتْلِ الْأَنْفُسِ وَالْغَارَةِ عَلَى الْأَمْوَالِ ووأد الْبَنَات وَالزِّنَا فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِمَّا يَزِيدُهُمْ عَذَابًا، وَهُوَ يُؤَيِّدُ قَوْلَ الَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ وَأَنَّ ذَلِك وَاقع.
فِيهِ تَخَلُّصًا إِلَى ذِكْرِ الرَّسُولِ الْأَعْظَمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي هُوَ بِصَدَدِ الْإِنْذَارِ دُونَ الرُّسُلِ الَّذِينَ سَبَقُوا إِذْ لَا تُلَائِمُهُمْ صِيغَةُ الْمُضَارِعِ وَلِأَنَّهُ مُرَجِّحٌ لِإِظْهَارِ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: لَا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ كَمَا سَيَأْتِي.
ويَوْمَ التَّلاقِ هُوَ يَوْمُ الْحَشْرِ، وَسُمِّيَ يَوْمَ التَّلَاقِي لِأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ يَلْتَقُونَ فِيهِ، أَوْ لِأَنَّهُمْ يَلْقَوْنَ رَبَّهُمْ لِقَاءً مَجَازِيًّا، أَيْ يَقِفُونَ فِي حَضْرَتِهِ وَأَمَامَ أَمْرِهِ مُبَاشَرَةً كَمَا قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا [يُونُس: ٧] أَيْ لَا يَرْجُونَ يَوْمَ الْحَشْرِ. وانتصب يَوْمَ التَّلاقِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَان لِيُنْذِرَ، وَحُذِفَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ لِظُهُورِهِ، أَيْ لِيُنْذِرَ النَّاس. وَبَين التَّلاقِ ويُلْقِي جناس.
وَكتب التَّلاقِ فِي الْمُصْحَفِ بِدُونِ يَاءٍ. وَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ بِكَسْرَةٍ بِدُونِ يَاءٍ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي الْوَصْلِ لَا فِي الْوَقْفِ فَلَا مُوجِبَ لِطَرْحِ الْيَاءِ إِلَّا مُعَامَلَةُ الْوَصْلِ مُعَامَلَةَ الْوَقْفِ وَهُوَ قَلِيلٌ فِي النَّثْرِ فَيَقْتَصِرُ فِيهِ عَلَى السَّمَاعِ. وَكَفَى بِرِوَايَةِ نَافِعٍ وَأَبِي عَمْرٍو سَمَاعًا.
ويَوْمَ هُمْ بارِزُونَ بَدَلٌ من يَوْمَ التَّلاقِ. وهُمْ بارِزُونَ جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ، وَالْمُضَافُ ظَرْفٌ مُسْتَقْبَلٌ وَذَلِكَ جَائِزٌ عَلَى الْأَرْجَحِ بِدُونِ تَقْدِيرٍ.
وَضَمِيرُ الْغَيْبَةِ عَائِدٌ إِلَى الْكافِرُونَ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ [غَافِر: ١٤].
وَجُمْلَةُ لَا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ هُمْ بارِزُونَ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ وَاضِحَةٌ ظَوَاهِرُهُمْ وَبَوَاطِنُهُمْ فَإِنَّ ذَلِك مُقْتَضى قَوْلهم: مِنْهُمْ شَيْءٌ.
وَإِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ لِأَنَّ إِظْهَارَهُ أَصْرَحُ لِبُعْدِ مَعَادِهِ بِمَا عَقِبَهُ مِنْ قَوْلِهِ: عَلى مَنْ
يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ
، وَلِأَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّ ضَمِيرَ لِيُنْذِرَ عَائِدٌ إِلَى مَنْ يَشاءُ.
وَمَعْنَى مِنْهُمْ مِنْ مَجْمُوعِهِمْ، أَيْ مِنْ مَجْمُوع أَحْوَالهم وشؤونهم، وَلِهَذَا أُوثِرَ ضَمِيرُ الْجَمْعِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِجْمَالِ الصَّالِحِ لِتَقْدِيرِ مُضَافٍ مُنَاسِبٍ لِلْمَقَامِ، وَأُوثِرَ أَيْضًا لَفْظُ شَيْءٌ لِتَوَغُّلِهِ فِي الْعُمُومِ، وَلَمْ يَقُلْ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ
[سُورَة الشورى (٤٢) : آيَة ٣٦]
فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٣٦)تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا [الشورى: ٢٧] إِلَى آخِرِهَا، فَإِنَّهَا اقْتَضَتْ وُجُودَ مُنْعَمٍ عَلَيْهِ وَمَحْرُومٍ، فَذُكِّرُوا بِأَنَّ مَا أُوتُوهُ مِنْ رِزْقٍ هُوَ عَرَضٌ زَائِلٌ، وَأَنَّ الْخَيْرَ فِي الثَّوَابِ الَّذِي ادَّخَرَهُ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ، مَعَ الْمُنَاسَبَةِ لِمَا سَبَقَهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ [الشورى: ٣٤] مِنْ سَلَامَةِ النَّاسِ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ أَهْوَالِ الْأَسْفَارِ الْبَحْرِيَّةِ فَإِنَّ تِلْكَ السَّلَامَةَ نِعْمَةٌ مِنْ نَعَمِ الدُّنْيَا، فَفُرِّعَتْ عَلَيْهِ الذِّكْرَى بِأَنَّ تِلْكَ النِّعْمَةَ الدُّنْيَوِيَّةَ نِعْمَةٌ قَصِيرَةُ الزَّمَانِ صَائِرَةٌ إِلَى الزَّوَالِ فَلَا يَجْعَلُهَا الْمُوَفَّقُ غَايَةَ سَعْيِهِ وَلْيَسْعَ لِعَمَلِ الْآخِرَةِ الَّذِي يَأْتِي بِالنَّعِيمِ الْعَظِيمِ الدَّائِمِ وَهُوَ النَّعِيمُ الَّذِي ادَّخَرَهُ اللَّهُ عِنْدَهُ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ.
وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: أُوتِيتُمْ لِلْمُشْرِكِينَ جَرْيًا عَلَى نَسَقِ الْخِطَابِ السَّابِقِ فِي قَوْلِهِ:
وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى: ٣٠] وَقَوْلِهِ: وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [الشورى: ٣١]، وَيَنْسَحِبُ الْحُكْمُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِلَحْنِ الْخِطَابِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ، فَالْفَاءُ الْأُولَى لِلتَّفْرِيعِ، وَمَا مَوْصُولَةٌ ضُمِّنَتْ مَعْنَى الشُّرَطِ وَالْفَاءُ الثَّانِيَةُ فِي قَوْلِهِ: فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا دَاخِلَةٌ عَلَى خَبَرِ مَا الْمَوْصُولَةِ لِتَضَمُّنِهَا مَعْنَى الشَّرْطِ وَإِنَّمَا لَمْ نَجْعَلْ مَا شَرْطِيَّةً لِأَنَّ الْمَعْنَى عَلَى الْإِخْبَارِ لَا عَلَى التَّعْلِيقِ، وَإِنَّمَا تَضْمَنُ مَعْنَى الشَّرْطِ وَهُوَ مُجَرَّدُ مُلَازَمَةِ الْخَبَرِ لِمَدْلُولِ اسْمِ الْمَوْصُولِ كَمَا تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى: ٣٠] فِي قِرَاءَةِ غَيْرِ نَافِعٍ وَابْنِ عَامِرٍ.
وَيَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ: خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا عَلَى وَجْهِ التَّنَازُعِ، وَأُتْبِعَتْ صِلَةُ (الَّذِينَ آمَنُوا) بِمَا يَدُلُّ عَلَى عَمَلِهِمْ بإيمَانهمْ فِي اعْتِقَادهم فَعَطَفَ عَلَى الصِّلَةِ أَنَّهُمْ يَتَوَكَّلُونَ عَلَى رَبِّهِمْ دُونَ غَيْرِهِ. وَهَذَا التَّوَكُّلُ إِفْرَادٌ لِلَّهِ بِالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ فِي كُلِّ مَا تَعْجِزُ عَنْهُ قُدْرَةُ الْعَبْدِ، فَإِنَّ التَّوَجُّهَ إِلَى غَيْرِهِ فِي ذَلِكَ يُنَافِي التَّوْحِيدَ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ يَتَوَكَّلُونَ عَلَى آلِهَتِهِمْ أَكْثَرَ مِنْ تَوَكُّلِهِمْ عَلَى اللَّهِ، وَلِكَوْنِ هَذَا مُتَمَّمًا لِمَعْنَى (الَّذِينَ آمَنُوا) عُطِفَ عَلَى الصِّلَةِ وَلَمْ يُؤْتَ مَعَهُ بِاسْمٍ مَوْصُولٍ بِخِلَافِ مَا ورد بعده.
إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا فِي سُورَةِ النُّورِ [٥١].
وَعَلَى هَذَا الْوَجْه فتعدية فَأَوْلى بِاللَّامِ دُونَ الْبَاءِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ أَوْلَى وَأَنْفَعُ، فَكَانَ اجْتِلَابُ اللَّامِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنَى النَّفْعِ. فَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ [النُّور: ٣٠] وَقَوْلِهِ: هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ [هود: ٧٨]. وَهُوَ يَرْتَبِطُ بِقَوْلِهِ بَعْدَهُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَأَوْلى لَهُمْ مُسْتَعْمَلًا فِي التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى فِي سُورَةِ الْقِيَامَةِ [٣٤، ٣٥]، وَهُوَ الَّذِي اقْتَصَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَيْهِ. وَمَعْنَاهُ: أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ عَنْ تَوَعُّدِهِ إِيَّاهُمْ. ثُمَّ قِيلَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ إِنَّ أَوْلَى مَرْتَبَةٌ حُرُوفُهُ عَلَى حَالِهَا مِنَ الْوَلْيِ وَهُوَ الْقُرْبُ، وَأَنَّ وَزْنَهُ أَفْعَلُ. وَقَالَ الْجُرْجَانِيُّ: هُوَ فِي هَذَا الِاسْتِعْمَالِ مُشْتَقٌّ مِنَ الْوَيْلِ. فَأَصْلُ أَوْلَى: أَوْيَلُ، أَيْ أَشَدُّ وَيْلًا، فَوَقَعَ فِيهِ قَلْبٌ، وَوَزْنُهُ أَفْلَعُ. وَفِي «الصِّحَاحِ» عَنِ الْأَصْمَعِيِّ مَا يَقْتَضِي: أَنَّهُ يَجْعَلُ (أَوْلَى لَهُ) مُبْتَدَأً مَحْذُوفَ الْخَبَرِ. وَالتَّقْدِيرُ: أَقْرَبُ مَا يُهْلِكُهُ، قَالَ ثَعْلَبٌ: وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ فِي (أَوْلَى لَهُ) أَحْسَنَ مِمَّا قَالَ الْأَصْمَعِيُّ.
وَاللَّامُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ إِمَّا مَزِيدَةٌ، أَيْ أَوْلَاهُمُ اللَّهُ مَا يَكْرَهُونَ فَيَكُونُ مِثْلَ اللَّامِ فِي قَوْلِ النَّابِغَةِ:
سَقْيًا وَرَعْيًا لِذَاكَ الْعَاتِبِ الزَّارِي وإمّا مُتَعَلقَة بِأولى عَلَى أَنَّهُ فَعْلُ مُضِيٍّ، وَعَلَى هَذَا الِاسْتِعْمَالِ يَكُونُ قَوْلُهُ طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا وَهُوَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، أَيْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ خَيْرٌ لَهُمْ، أَوْ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: الْأَمْرُ طَاعَةٌ، وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ، أَيْ أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُطِيعُوا.
إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى.
هَذَا تَحْوِيلٌ عَنْ خِطَابِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِي كَانَ ابْتِدَاؤُهُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ وَهُوَ مِنْ ضُرُوبِ الِالْتِفَاتِ، وَهُوَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ فَضَمِيرُ يَتَّبِعُونَ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ كَانَ الْخِطَابُ مُوَجَّهًا إِلَيْهِمْ.
أَعْقَبَ نَفْيَ أَنْ تَكُونَ لَهُمْ حُجَّةٌ عَلَى الْخَصَائِصِ الَّتِي يزعمونها لأصنافهم أَوْ عَلَى أَنَّ اللَّهَ سَمَّاهُمْ بِتِلْكَ الْأَسْمَاءِ بِإِثْبَاتِ أَنَّهُمُ اسْتَنَدُوا فِيمَا يَزْعُمُونَهُ إِلَى الْأَوْهَامِ وَمَا تُحِبُّهُ نُفُوسُهُمْ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَمَحَبَّةِ سَدَنَتِهَا وَمَوَاكِبِ زِيَارَتِهَا، وَغُرُورِهِمْ بِأَنَّهَا تَسْعَى فِي الْوَسَاطَةِ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا يَرْغَبُونَهُ فِي حَيَاتِهِمْ فَتِلْكَ أَوْهَامٌ وَأَمَانِيُّ مَحْبُوبَةٌ لَهُمْ يَعِيشُونَ فِي غُرُورِهَا.
وَجِيءَ بِالْمُضَارِعِ فِي يَتَّبِعُونَ لِلدِّلَالَةِ على أَنهم سيسمرّون عَلَى اتِّبَاعِ الظَّنِّ وَمَا تَهْوَاهُ نُفُوسُهُمْ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ذَلِكَ مِنْ قَبْلُ بِدِلَالَةِ لَحْنِ الْخِطَابِ أَوْ فَحْوَاهُ.
وَأَصْلُ الظَّنِّ الِاعْتِقَادُ غَيْرُ الْجَازِمِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْعِلْمِ الْجَازِمِ إِذَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِالْمَغِيبَاتِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٤٦]، وَكَثُرَ إِطْلَاقُهُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى الِاعْتِقَادِ الْبَاطِلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١١٦]، وَمِنْهُ
قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ»
وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا بِقَرِينَةِ عَطْفِ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ عَلَيْهِ كَمَا عُطِفَ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ عَلَى نَظِيرِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْخَطَإِ بِاعْتِبَارِ لِزُومِهِ لَهُ غَالِبًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات: ١٢].
وَهَذَا التَّفَنُّنُ فِي مَعَانِي الظَّنِّ فِي الْقُرْآنِ يُشِيرُ إِلَى وُجُوبِ النَّظَرِ فِي الْأَمْرِ الْمَظْنُونِ حَتَّى يُلْحِقَهُ الْمُسْلِمُ بِمَا يُنَاسِبُهُ مِنْ حُسْنٍ أَوْ ذَمٍّ عَلَى حَسَبِ الْأَدِلَّةِ، وَلِذَلِكَ اسْتَنْبَطَ عُلَمَاؤُنَا أَنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي فِي إِثْبَاتِ أُصُولِ الِاعْتِقَادِ وَأَنَّ الظَّنَّ الصَّائِبَ تُنَاطُ بِهِ تَفَارِيعُ الشَّرِيعَةِ.
عَذَابَ الْآخِرَةِ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ يُوَسْوِسُ لِلْإِنْسَانِ بِأَنْ يَكْفُرَ ثُمَّ يَتْرُكَهُ وَيَتَبَرَّأَ مِنْهُ فَلَا يَنْتَفِعُ أَحَدُهُمَا بِصَاحِبِهِ وَيَقَعَانِ مَعًا فِي النَّارِ.
فَجُمْلَةُ كَمَثَلِ الشَّيْطانِ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [الْحَشْر: ١٥] أَيْ فِي الْآخِرَةِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الشَّيْطانِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ وَكَذَلِكَ تَعْرِيفُ «الْإِنْسَانِ». وَالْمُرَادُ بِهِ الْإِنْسَانُ الْكَافِرُ.
وَلَمْ تُرَدْ فِي الْآخِرَةِ حَادِثَةٌ مُعَيَّنَةٌ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ لِإِنْسَانٍ مُعَيَّنٍ فِي الدُّنْيَا، وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ، وَهَلْ يَتَكَلَّمُ الشَّيْطَانُ مَعَ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ ظَاهِرَةَ قَوْلِهِ: قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ أَنَّهُ يَقُولُهُ لِلْإِنْسَانِ، وَأَمَّا احْتِمَالُ أَنْ يَقُولَهُ فِي نَفْسِهِ فَهُوَ احْتِمَالٌ بَعِيدٌ. فَالْحَقُّ: أَنَّ قَوْلَ الشَّيْطَانِ هَذَا هُوَ مَا فِي آيَةِ وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ [٢٢].
وَقَدْ حَكَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُمَا مِنَ السَّلَفِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قِصَّةَ رَاهِبٍ بِحِكَايَةٍ مُخْتَلِفَةٍ جُعِلَتْ كَأَنَّهَا الْمُرَادُ مِنَ الْإِنْسَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. ذَكَرَهَا ابْنُ جَرِيرٍ وَالْقُرْطُبِيُّ وَضَعَّفَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَسَانِيدَهَا فَلَئِنْ كَانُوا ذَكَرُوا الْقِصَّةَ فَإِنَّمَا أَرَادُوا أَنَّهَا تَصْلُحُ مِثَالًا لِمَا يَقَعُ مِنَ الشَّيْطَانِ لِلْإِنْسَانِ كَمَا مَالَ إِلَيْهِ ابْنُ كَثِيرٍ.
فَالْمَعْنَى: إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ فِي الدُّنْيَا: اكْفُرْ، فَلَمَّا كَفَرَ وَوَافَى الْقِيَامَةَ عَلَى الْكُفْرِ قَالَ
الشَّيْطَانُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ، أَيْ قَالَ كُلُّ شَيْطَانٍ لِقَرِينِهِ مِنَ الْإِنْسِ: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ طَمَعًا فِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُنْجِيهِ مِنَ الْعَذَابِ.
فَفِي الْآيَةِ إِيجَازُ حَذْفٍ حُذِفَ فِيهَا مَعْطُوفَاتٌ مُقَدَّرَةٌ بَعْدَ شَرْطِ (لَمَّا) هِيَ دَاخِلَةٌ فِي الشَّرْطِ إِذِ التَّقْدِيرُ: فَلَمَّا كَفَرَ وَاسْتَمَرَّ عَلَى الْكُفْرِ وَجَاءَ يَوْمَ الْحَشْرِ وَاعْتَذَرَ بِأَنَّ الشَّيْطَانَ أَضَلَّهُ قَالَ الشَّيْطَانُ: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِلَخْ. وَهَذِهِ الْمُقَدَّرَاتُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ آيَاتٍ أُخْرَى مِثْلِ آيَةِ سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ وَآيَةِ سُورَةِ ق [٢٧]. قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا مَا أَطْغَيْتُهُ
وَقَوْلُهُ: وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ إبِْطَال لِقَوْلِهِمْ: إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ لِأَنَّهُمْ قَالُوهُ فِي سِيَاقِ تَكْذِيبِهِمْ بِالْقُرْآنِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقُرْآنَ ذِكْرٌ بَطَلَ أَنْ يَكُونَ مُبَلِّغُهُ مَجْنُونًا. وَهَذَا مِنْ قَبِيلِ الْاحْتِبَاكِ إِذِ التَّقْدِيرُ: وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ وَإِنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ مَجْنُونٍ، وَمَا الْقُرْآنُ إِلَّا ذِكْرٌ وَمَا أَنْتَ إِلَّا مُذَكِّرٌ.
مَكْتُومٍ، فَحَصَلَ بِمَضْمُونِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ تَأْكِيدٌ لِمَضْمُونِ عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى [عبس: ١- ٢].
وَالسَّعْيُ: شِدَّةُ الْمَشْيِ، كُنِّيَ بِهِ عَنِ الْحِرْصِ عَلَى اللِّقَاءِ فَهُوَ مُقَابِلٌ لِحَالِ مَنِ اسْتَغْنَى لِأَنَّ اسْتِغْنَاءَهُ اسْتغْنَاء الممتعض من التَّصَدِّي لَهُ.
وَجُمْلَةُ وَهُوَ يَخْشى فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَحُذِفَ مَفْعُولُ يَخْشى لِظُهُورِهِ لِأَنَّ الْخَشْيَةَ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ تَنْصَرِفُ إِلَى خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ جَاءَ طَلَبًا لِلتَّزْكِيَةِ لِأَنْ يَخْشَى اللَّهَ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي الِاسْتِرْشَادِ. وَاخْتِيرَ الْفِعْلُ الْمُضَارِعُ لِإِفَادَتِهِ التَّجَدُّدَ.
وَالْقَوْلُ فِي فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى كَالْقَوْلِ فِي: فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى [عبس: ٦].
وَالْعبْرَة من هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى زَادَ نَبِيئَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِلْمًا عَظِيمًا مِنَ الْحِكْمَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَرَفَعَ دَرَجَةَ عِلْمِهِ إِلَى أَسْمَى مَا تَبْلُغُ إِلَيْهِ عُقُولُ الْحُكَمَاءِ رُعَاةِ الْأُمَمِ، فَنَبَّهَهُ إِلَى أَنَّ فِي مُعْظَمِ الْأَحْوَالِ أَوْ جَمِيعِهَا نَوَاحِيَ صَلَاحٍ وَنَفْعٍ قَدْ تَخْفَى لِقِلَّةِ اطِّرَادِهَا، وَلَا يَنْبَغِي تَرْكُ اسْتِقْرَائِهَا عِنْدَ الِاشْتِغَالِ بِغَيْرِهَا وَلَوْ ظَنَّهُ الْأَهَمَّ، وَأَنْ لَيْسَ الْإِصْلَاحُ بِسُلُوكِ طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ لِلتَّدْبِيرِ بِأَخْذِ قَوَاعِدَ كُلِّيَّةٍ مُنْضَبِطَةٍ تُشْبِهُ قَوَاعِدَ الْعُلُومِ يُطَبِّقُهَا فِي الْحَوَادِثِ وَيُغْضِي عَمَّا يُعَارِضُهَا بِأَنْ يُسْرِعَ إِلَى تَرْجِيحِ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ مِمَّا فِيهِ صِفَةُ الصَّلَاحِ، بَلْ شَأْنُ مُقَوِّمِ الْأَخْلَاقِ أَنْ يَكُونَ بِمَثَابَةِ الطَّبِيبِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الطَّبَائِعِ وَالْأَمْزِجَةِ فَلَا يَجْعَلُ لِجَمِيعِ الْأَمْزِجَةِ عِلَاجًا وَاحِدًا بَلِ الْأَمْرُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ. وَهَذَا غَوْرٌ عَمِيقٌ يُخَاضُ إِلَيْهِ مِنْ سَاحِلِ الْقَاعِدَةِ الْأُصُولِيَّةِ فِي بَابِ الِاجْتِهَادِ الْقَائِلَةِ: إِنَّ الْمُجْتَهِدَ إِذَا لَاحَ لَهُ دَلِيلٌ: «يَبْحَثُ عَنِ الْمُعَارِضِ» وَالْقَاعِدَةِ الْقَائِلَةِ: «إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى حُكْمًا قَبْلَ الِاجْتِهَادِ نَصَّبَ عَلَيْهِ أَمَارَةً وَكَلَّفَ الْمُجْتَهِدَ بِإِصَابَتِهِ فَإِنْ أَصَابَهُ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِنْ أَخْطَأَهُ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ».
فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مَقَامَ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لِأَنَّهُ مُسْتَطَاعُهُمْ فَإِنَّ غَوْرَهُ هُوَ اللَّائِقُ
بِمَرْتَبَةِ أَفْضَلِ الرُّسُلِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا لَمْ يَرِدْ لَهُ فِيهِ وَحْيٌ، فَبَحْثُهُ عَنِ الْحُكْمِ أَوْسَعُ مَدًى مِنْ مَدَى أَبْحَاثِ عُمُومِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَتَنْقِيبُهُ عَلَى الْمُعَارِضِ أَعْمَقُ غَوْرًا مِنْ تَنَاوُشِهِمْ، لِئَلَّا يَفُوتَ سَيِّدَ الْمُجْتَهِدِينَ مَا فِيهِ مِنْ صَلَاحٍ وَلَوْ ضَعِيفًا، مَا لَمْ يَكُنْ