وَيَشْهَدُ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً [الْفرْقَان: ٣٣].
فَأَمَّا إِذَا كَانَ فَعَّلَ الْمُضَاعَفُ لِلتَّعْدِيَةِ فَإِنَّ إِفَادَتَهُ التَّكْثِيرَ مُخْتَلَفٌ فِيهَا، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ
الْمُتَكَلِّمَ قَدْ يَعْدِلُ عَنْ تَعْدِيَةِ الْفِعْلِ بِالْهَمْزَةِ إِلَى تَعْدِيَتِهِ بِالتَّضْعِيفِ لِقَصْدِ الدَّلَالَةِ عَلَى التَّكْثِيرِ لِأَنَّ الْمُضَاعَفَ قَدْ عُرِفَ بِتِلْكَ الدَّلَالَةِ فِي حَالَةِ كَوْنِهِ فعلا لَازِما فمقارنته تِلْكَ الدَّلَالَةُ عِنْدَ اسْتِعْمَالِهِ لِلتَّعْدِيَةِ مُقَارَنَةَ تَبَعِيَّةٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْعَلَّامَةُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي خُطْبَةِ «الْكَشَّافِ» «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ الْقُرْآنَ كَلَامًا مُؤَلَّفًا مُنَظَّمًا، وَنَزَّلَهُ عَلَى حَسَبِ الْمصَالح منجما» فَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ شُرَّاحِهِ: جَمَعَ بَيْنَ أَنْزَلَ وَنَزَّلَ لِمَا فِي نَزَّلَ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى التَّكْثِيرِ، الَّذِي يُنَاسِبُ مَا أَرَادَهُ الْعَلَّامَةُ مِنَ التَّدْرِيجِ وَالتَّنْجِيمِ.
وَأَنَا أَرَى أَنَّ اسْتِفَادَةَ مَعْنَى التَّكْثِيرِ فِي حَالِ اسْتِعْمَالِ التَّضْعِيفِ لِلتَّعْدِيَةِ أَمْرٌ مِنْ مُسْتَتْبَعَاتِ الْكَلَامِ حَاصِلٌ مِنْ قَرِينَةِ عُدُولِ الْمُتَكَلِّمِ الْبَلِيغِ عَنِ الْمَهْمُوزِ الَّذِي هُوَ خَفِيفٌ إِلَى الْمُضَعَّفِ الَّذِي هُوَ ثَقِيلٌ، فَذَلِكَ الْعُدُولُ قَرِينَةٌ عَلَى الْمُرَادِ وَكَذَلِكَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي مِثْلِ كَلَامِ «الْكَشَّافِ» قَرِينَةٌ عَلَى إِرَادَةِ التَّكْثِيرِ.
وَعَزَا شِهَابُ الدِّينِ الْقَرَافِيُّ فِي أَوَّلِ «أَنْوَاءِ الْبُرُوقِ» إِلَى بَعْضِ مَشَايِخِهِ أَنَّ الْعَرَبَ فَرَّقُوا بَيْنَ فَرَقَ بِالتَّخْفِيفِ وَفَرَّقَ بِالتَّشْدِيدِ، فَجَعَلُوا الْأَوَّلَ لِلْمَعَانِي وَالثَّانِيَ لِلْأَجْسَامِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ كَثْرَةَ الْحُرُوفِ تَقْتَضِي زِيَادَةَ الْمَعْنَى أَوْ قُوَّتَهُ، وَالْمَعَانِي لَطِيفَةٌ يُنَاسِبُهَا الْمُخَفَّفُ، وَالْأَجْسَامُ كَثِيفَةٌ يُنَاسِبُهَا التَّشْدِيدُ، وَاسْتَشْكَلَهُ هُوَ بِعَدَمِ اطِّرَادِهِ، وَهُوَ لَيْسَ مِنَ التَّحْرِيرِ بِالْمَحَلِّ اللَّائِقِ، بَلْ هُوَ أَشْبَهُ بِاللَّطَائِفِ مِنْهُ بِالْحَقَائِقِ، إِذْ لَمْ يُرَاعِ الْعَرَبُ فِي هَذَا الِاسْتِعْمَالِ مَعْقُولًا وَلَا مَحْسُوسًا وَإِنَّمَا رَاعَوُا الْكَثْرَةَ الْحَقِيقِيَّةَ أَوِ الْمَجَازِيَّةَ كَمَا قَرَّرْنَا، وَدَلَّ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُ الْقُرْآنِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الِاسْتِعْمَالَيْنِ ثَابِتَانِ فِي الْمَوْضِعِ الْوَاحِدِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَقُرْآناً فَرَقْناهُ [الْإِسْرَاء: ١٠٦] قرىء بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ، وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً لِقَوْلِ الْمُؤْمِنِينَ: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [الْبَقَرَة: ٢٨٥] وَقَالَ لَبِيدٌ:
فَمَضَى وَقَدَّمَهَا وَكَانَتْ عَادَةً | مِنْهُ إِذَا هِيَ عَرَّدَتْ إِقْدَامُهَا |
وَالتَّفْسِيرُ فِي الِاصْطِلَاحِ نَقُولُ: هُوَ اسْمٌ لِلْعِلْمِ الْبَاحِثِ عَنْ بَيَانِ مَعَانِي أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ وَمَا يُسْتَفَادُ مِنْهَا بِاخْتِصَارٍ أَوْ تَوَسُّعٍ.
قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَة [قُرْآن] (١) وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ فَاسْتَقْبِلُوهَا وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّامِ فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْكَعْبَةِ» وَرَوَاهُ أَيْضًا الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُسْلِمٍ وَمُوسَى بْنِ عُقْبَةَ،
وَفِيهِ أَنَّ نُزُولَ آيَةِ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ كَانَ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ وَأَنَّهُ صَلَّى الصُّبْحَ لِلْكَعْبَةِ وَهَذَا الْحَدِيثُ هُوَ أَصْلُ الْبَابِ وَهُوَ فَصْلُ الْخِطَابِ.
ثَانِيهَا: حَدِيثُ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَفِيهِ «فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ وَهُمْ رُكُوعٌ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَقَدْ صَلَّوْا رَكْعَةً فَنَادَى أَلَا إِنَّ الْقِبْلَةَ قَدْ حُوِّلَتْ فَمَالُوا كَمَا هُمْ نَحْوَ الْقِبْلَةِ».
الثَّالِثُ
حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ يُحِبُّ أَنْ يُوَجَّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ [الْبَقَرَة: ١٤٤] فَتَوَجَّهَ نَحْوَ الْكَعْبَةِ- ثُمَّ قَالَ- فَصَلَّى مَعَ النَّبِيءِ رَجُلٌ ثمَّ خرج بعد مَا صَلَّى فَمَرَّ عَلَى قَوْمٍ مِنَ الْأَنْصَارِ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ يُصَلُّونَ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَقَالَ: هُوَ يَشْهَدُ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ وَأَنَّهُ تَوَجَّهَ نَحْوَ الْكَعْبَةِ فَتَحَرَّفَ الْقَوْمُ حَتَّى تَوَجَّهُوا نَحْوَ الْكَعْبَةِ»
، وَحُمِلَ ذِكْرُ صَلَاةِ الصُّبْحِ فِي رِوَايَتَيِ ابْنِ عُمَرَ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَذِكْرُ صَلَاةِ الْعَصْرِ فِي رِوَايَةِ الْبَرَاءِ كُلٌّ عَلَى أَهْلِ مَكَانٍ مَخْصُوصٍ، وَهُنَالِكَ آثَارٌ أُخْرَى تُخَالِفُ هَذِهِ لَمْ يَصِحَّ سَنَدُهَا ذَكَرَهَا الْقُرْطُبِيُّ. فَتَحْوِيلُ الْقِبْلَةِ كَانَ فِي رَجَبٍ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ قَبْلَ بَدْرٍ بِشَهْرَيْنِ وَقِيلَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ نِصْفَ شَعْبَانَ مِنْهَا.
وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ اسْتِقْبَالَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ هَلْ كَانَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ أَوْ بَعْدَهَا؟ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَمَّا فُرِضَتْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ بِمَكَّةَ كَانَ يَسْتَقْبِلُ الْكَعْبَةَ فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ اسْتَقْبَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ تَأَلُّفًا لِلْيَهُودِ قَالَهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَقِيلَ كَانَ يَسْتَقْبِلُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَهُوَ فِي
مَكَانٍ يَجْعَلُ الْكَعْبَةَ أَمَامَهُ مِنْ جِهَةِ الشَّرْقِ فَيَكُونُ مُسْتَقْبِلًا الْكَعْبَةَ وَبَيْتَ الْمَقْدِسِ مَعًا، وَلَمْ يَصِحَّ هَذَا الْقَوْلُ.
وَاخْتَلَفُوا هَلْ كَانَ اسْتِقْبَالُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِأَمْرٍ مِنَ اللَّهِ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْجُمْهُورُ أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ بِوَحْيٍ ثُمَّ نَسَخَهُ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ وَدَلِيلُهُمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها [الْبَقَرَة: ١٤٣] الْآيَةَ، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْكَعْبَةِ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَاخْتَارَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ اسْتِئْلَافًا لِلْيَهُودِ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ: كَانَ ذَلِكَ عَنِ اجْتِهَادٍ مِنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللَّهُ
_________
(١) زِيَادَة من «الْمُوَطَّأ» (١/ ١٩٥) تَحْقِيق عبد الْبَاقِي، «كتاب الْقبْلَة» بَاب مَا جَاءَ فِي الْقبْلَة، وَمن «صَحِيح البُخَارِيّ»، انْظُر «فتح الْبَارِي» (١/ ٥٠٦)، دَار الْمعرفَة، كتاب الصَّلَاة (٣٢) بَاب مَا جَاءَ فِي الْقبْلَة، وَهَذِه الزِّيَادَة لَيست فِي «صَحِيح مُسلم» وَهُوَ من رُوَاته كَمَا سَيذكرُ المُصَنّف.
وَالْمُرَادُ بِالْبَيِّنَاتِ عَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ أَدِلَّةُ الشَّرِيعَةِ الْوَاضِحَةُ الَّتِي تُفَرِّقُ بَيْنَ مُتَّبِعِ الشَّرِيعَةِ وَمُعَانِدِهَا وَالَّتِي لَا تَقْبَلُ خَطَأَ الْفَهْمِ وَالتَّأْوِيلِ لَوْ لَمْ يَكُنْ دَأْبُهُمُ الْمُكَابَرَةَ وَدَحْضَ الدِّينِ لِأَجْلِ عَرَضِ الدُّنْيَا، وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ شَاءَ اقْتِتَالَهُمْ فَاقْتَتَلُوا، وَشَاءَ اخْتِلَافَهُمْ فَاخْتَلَفُوا، وَالْمَشِيئَةُ هُنَا مَشِيئَةُ تَكْوِينٍ وَتَقْدِيرٍ لَا مَشِيئَةُ الرِّضَا لِأَنَّ الْكَلَامَ مَسُوقٌ مَسَاقَ التَّمَنِّي لِلْجَوَابِ وَالتَّحْسِيرِ عَلَى امْتِنَاعِهِ وانتفائه المفاد بلو كَقَوْلِ طَرَفَةَ:
فَلَوْ شَاءَ رَبِّي كُنْتُ قَيْسَ بْنَ خَالِدٍ | وَلَوْ شَاءَ رَبِّي كُنْتُ عَمْرَو بْنَ مَرْثَدِ |
إِلَى الْحَدِّ الَّذِي يُفْضِي بِبَعْضِهِمْ إِلَى الْكُفْرِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ اخْتِلَافَ أُمَمِ الرُّسُلِ كُلٍّ لِلْأُخْرَى كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ [الْبَقَرَة: ١١٣]، فَالْإِيمَانُ وَالْكُفْرُ فِي الْآيَةِ ظَاهِرٌ، أَيْ فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِالرَّسُولِ الْخَاتَمِ فَاتَّبَعَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ بِهِ فَعَادَاهُ، فاقتتل الْفَرِيقَانِ.
وأياما كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ فَإِنَّ قَوْلَهُ: فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ يُنَادِي عَلَى أَنَّ الِاخْتِلَافَ الَّذِي لَا يَبْلُغُ بِالْمُخْتَلِفِينَ إِلَى كُفْرِ بَعْضِهِمْ بِمَا آمَنَ بِهِ الْآخَرُ لَا يَبْلُغُ بِالْمُخْتَلِفِينَ إِلَى التَّقَاتُلِ، لِأَنَّ فِيمَا أَقَامَ اللَّهُ لَهُمْ مِنْ بَيِّنَاتِ الشَّرْعِ مَا فِيهِ كِفَايَةُ الْفَصْلِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي اخْتِلَافِهِمْ إِذَا لَمْ تَغْلِبْ عَلَيْهِمُ الْمُكَابَرَةُ وَالْهَوَى أَوْ لَمْ يَعُمَّهُمْ سُوءُ الْفَهْمِ وَقِلَّةُ الْهُدَى.
لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ فِي خِلْقَةِ الْعُقُولِ اخْتِلَافَ الْمُيُولِ وَالْأَفْهَامِ، وَجَعَلَ فِي تَفَاوُتِ الذَّكَاءِ وَأَصَالَةِ الرَّأْيِ أَسْبَابًا لِاخْتِلَافِ قَوَاعِدِ الْعُلُومِ وَالْمَذَاهِبِ، فَأَسْبَابُ الِاخْتِلَافِ إِذَنْ مَرْكُوزَةٌ فِي الطِّبَاعِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ
بِالتَّوْرَاةِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً [الْبَقَرَة: ٩٥] وَبَعْدَ أَنْ فَرَغَ مِنْ إِعْلَانِ كَذِبِهِمْ بِالْحُجَّةِ الْقَاطِعَةِ قَالَ: قُلْ صَدَقَ اللَّهُ وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِكَذِبِهِمْ لِأَنَّ صِدْقَ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ الْمُتَنَافِيَيْنِ يَسْتَلْزِمُ كَذِبَ الْآخَرِ، فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ الْأَصْلِيِّ وَالْكِنَائِيِّ.
وَالتَّفْرِيعُ فِي قَوْلِهِ: فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً تَفْرِيعٌ عَلَى صَدَقَ اللَّهُ لَأَنَ اتِّبَاعَ الصَّادِقِ فِيمَا أَمَرَ بِهِ مَنْجَاةٌ مِنَ الْخَطَرِ.
[٩٦، ٩٧]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ٩٦ الى ٩٧]
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٩٧)
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً.
هَذَا الْكَلَامُ وَاقِعٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِلْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [آل عمرَان: ٩٥] لِأَنَّ هَذَا الْبَيْتَ الْمُنَوَّهَ بِشَأْنِهِ كَانَ مَقَامًا لِإِبْرَاهِيمَ فَفَضَائِلُ هَذَا الْبَيْتِ تُحَقِّقُ فَضِيلَةَ شَرْعِ بَانِيهِ فِي مُتَعَارَفِ النَّاسِ، فَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ خِطَابِيٌّ، وَهُوَ أَيْضًا إِخْبَارٌ بِفَضِيلَةِ الْكَعْبَةِ، وَحُرْمَتِهَا- فِيمَا مَضَى مِنَ الزَّمَانِ-.
وَقَدْ آذَنَ بِكَوْنِ الْكَلَامِ تَعْلِيلًا مَوْقِعُ (إِنَّ) فِي أَوَّلِهِ فَإِنَّ التَّأْكِيدَ بِإِنَّ هُنَا لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ وَلَيْسَ لِرَدِّ إِنْكَارِ مُنْكِرٍ، أَوْ شَكِّ شَاكٍّ.
وَمِنْ خَصَائِصِ (إِنَّ) إِذَا وَرَدَتْ فِي الْكَلَامِ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ، أَنْ تُغْنِيَ غَنَاءَ فَاءِ التَّفْرِيعِ وَتُفِيدُ التَّعْلِيلَ وَالرَّبْطَ، كَمَا فِي دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ.
وَلِمَا فِي هَذِهِ مِنْ إِفَادَةِ الرَّبْطِ اسْتُغْنِيَ عَنِ الْعَطْفِ لِكَوْنِ (إِنَّ) مُؤْذِنَةً بِالرَّبْطِ. وَبَيَانُ وَجْهِ التَّعْلِيلِ أَنَّ هَذَا الْبَيْتَ لَمَّا كَانَ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلْهُدَى وَإِعْلَانِ تَوْحِيدِ اللَّهِ لِيَكُونَ عَلَمًا مَشْهُودًا بِالْحِسِّ عَلَى مَعْنَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَنَفْيِ الْإِشْرَاكِ، فَقَدْ كَانَ جَامِعًا لِدَلَائِلِ الْحَنِيفِيَّةِ، فَإِذَا ثَبَتَ لَهُ شَرَفُ الْأَوَّلِيَّةِ وَدَوَامُ الْحُرْمَةِ عَلَى مَمَرِّ الْعُصُورِ، دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْهَيَاكِلِ الدِّينِيَّةِ الَّتِي نَشَأَتْ بعده، وَهُوَ مائل، كَانَ ذَلِكَ دَلَالَةً إِلَهِيَّةً عَلَى أَنَّهُ بِمَحَلِّ الْعِنَايَةِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الدِّينَ الَّذِي
قَدْ قُلْتُ لِلرَّكْبِ إِذْ طَالَ الثَّوَاءُ بِنَا | يَا صَاحِ هَلْ لَكَ فِي فَتْوَى ابْنِ عَبَّاسِ |
فِي بَضَّةٍ رَخْصَةِ الْأَطْرَافِ نَاعِمَةٍ | تَكُونُ مَثْوَاكَ حَتَّى مَرْجِعِ النَّاسِ |
وَالَّذِي يُسْتَخْلَصُ مِنْ مُخْتَلِفِ الْأَخْبَارِ أَنَّ الْمُتْعَةَ أَذِنَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّتَيْنِ، وَنَهَى عَنْهَا مَرَّتَيْنِ، وَالَّذِي يُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَيْسَ ذَلِكَ بِنَسْخٍ مُكَرَّرٍ وَلَكِنَّهُ إِنَاطَةُ إِبَاحَتِهَا بِحَالِ الِاضْطِرَارِ، فَاشْتَبَهَ عَلَى الرُّوَاةِ تَحْقِيقُ عُذْرِ الرُّخْصَةِ بِأَنَّهُ نَسْخٌ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّاسَ اسْتَمْتَعُوا فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، ثُمَّ نَهَى عَنْهَا عُمَرُ فِي آخِرِ خِلَافَتِهِ. وَالَّذِي اسْتَخْلَصْنَاهُ فِي حُكْمِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ أَنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَ الضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَى تَأْجِيلِ مُدَّةِ الْعِصْمَةِ، مِثْلُ الْغُرْبَةِ فِي سَفَرٍ أَوْ غَزْوٍ إِذَا لَمْ تَكُنْ مَعَ الرَّجُلِ زَوْجُهُ. وَيُشْتَرَطُ فِيهِ مَا يُشْتَرَطُ فِي النِّكَاحِ مِنْ صَدَاقٍ وَإِشْهَادٍ وَوَلِيٍّ حَيْثُ يُشْتَرَطُ، وَأَنَّهَا تَبِينُ مِنْهُ عِنْدَ انْتِهَاءِ الْأَجَلِ، وَأَنَّهَا لَا مِيرَاثَ فِيهَا بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، إِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا فِي مُدَّةِ الِاسْتِمْتَاعِ، وَأَنَّ عِدَّتَهَا حَيْضَةٌ وَاحِدَةٌ، وَأَنَّ الْأَوْلَادَ لَاحِقُونَ بِأَبِيهِمُ الْمُسْتَمْتِعِ. وَشَذَّ النَّحَّاسُ فَزَعَمَ أَنَّهُ لَا يَلْحَقُ الْوَلَدُ بِأَبِيهِ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ.
وَنَحْنُ نَرَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ بِمَعْزِلٍ عَنْ أَنْ تَكُونَ نَازِلَةً فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، وَلَيْسَ سِيَاقُهَا سَامِحًا بِذَلِكَ، وَلَكِنَّهَا صَالِحَةٌ لِانْدِرَاجِ الْمُتْعَةِ فِي عُمُوم فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ فَيُرْجَعُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ إِلَى مَا سَمِعت آنِفا.
وَنُسِبَ إِلَى بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ جَعَلَ الْوَاوَاتِ فِيهَا بِمَعْنَى (أَوْ) وَجَعَلَ الْمَوْصُولَ شَامِلًا لِفِرَقٍ مِنَ الْكُفَّارِ تَعَدَّدَتْ أَحْوَالُ كُفْرِهِمْ عَلَى تَوْزِيعِ الصِّلَاتِ الْمُتَعَاطِفَةِ، فَجَعَلَ الْمُرَادَ بِالَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ الْمُشْرِكِينَ، وَالَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ قَوْمًا أَثْبَتُوا الْخَالِقَ وَأَنْكَرُوا النُّبُوءَاتِ كُلَّهَا، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. وَسَكَتَ عَنِ الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ: وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا، وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَ أُولَئِكَ فَرِيقًا آخَرَ: وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ الْمُتَرَدِّدُونَ الَّذِينَ لَمْ يَثْبُتُوا عَلَى إِيمَانٍ وَلَا عَلَى كُفْرٍ، بَلْ كَانُوا بَيْنَ الْحَالَيْنِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ [النِّسَاء: ١٤٣]. وَالَّذِي دَعَاهُ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ فَرِيقًا جَمَعَ هَذِهِ الْأَحْوَالَ كُلَّهَا عَلَى ظَاهِرِهَا لِأَنَّ الْيَهُودَ لَمْ يَكْفُرُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ تَأْوِيلَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ الْكُفْرُ بِالصِّفَاتِ الَّتِي يَسْتَلْزِمُ الْكُفْرُ بِهَا نَفْيَ الْإِلَهِيَّةِ.
وَهَذَا الْأُسْلُوبُ نَادِرُ الِاسْتِعْمَالِ فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ، إِذْ لَوْ أُرِيدَ ذَلِكَ لَكَانَ الشَّأْنُ أَنْ يُقَالَ: وَالَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ: نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ، كَمَا قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا [الْأَنْفَال: ٧٢].
وَقَوْلُهُ: أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا الْجُمْلَةُ خَبَرُ إِنَّ وَالْإِشَارَةُ إِلَى أَصْحَابِ تِلْكَ الصِّلَةِ الْمَاضِيَةِ، وَمَوْقِعُ الْإِشَارَةِ هُنَا لِقَصْدِ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِمْ لِاسْتِحْضَارِهِمْ بِتِلْكَ
الْأَوْصَافِ أَحْرِيَاءٌ بِمَا سَيُحْكَمُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْحُكْمِ الْمُعَاقِبِ لِاسْمِ الْإِشَارَةِ.
وَأَفَادَ تَعْرِيفُ جُزْأَيِ الْجُمْلَةِ وَالْإِتْيَانُ بِضَمِيرِ الْفَصْلِ تَأْكِيدَ قَصْرِ صِفَةِ الْكُفْرِ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ مَجَازِيٌّ بِتَنْزِيلِ كُفْرِ غَيْرِهِمْ فِي جَانِبِ كُفْرِهِمْ مَنْزِلَةَ الْعَدَمِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْمُنَافِقِينَ: هُمُ الْعَدُوُّ [المُنَافِقُونَ: ٤]. وَمِثْلُ هَذَا الْقَصْرِ يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ الْمَوْصُوفِ فِي تِلْكَ الصِّفَةِ الْمَقْصُورَةِ.
مِنَ الْحَقِّ بَيَانِيَّةٌ. أَيْ مِمَّا عَرَفُوا، وَهُوَ الْحَقُّ الْخَاصُّ. أَوْ تَبْعِيضِيَّةٌ، أَيْ مِمَّا عَرَفُوهُ وَهُوَ النَّبِيءُ الْمَوْعُودُ بِهِ الَّذِي خَبَرُهُ مِنْ جُمْلَةِ الْحَقِّ الَّذِي جَاءَ بِهِ عِيسَى وَالنَّبِيئُونَ مِنْ قَبْلِهِ.
وَجُمْلَةُ يَقُولُونَ حَالٌ، أَيْ تَفِيضُ أَعْيُنُهُمْ فِي حَالِ قَوْلِهِمْ هَذَا. وَهَذَا الْقَوْلُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَنًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي خويّصتهم.
وَالْمرَاد بالشاهدين الَّذِينَ شَهِدُوا بَعْثَةَ الرُّسُلِ وَصَدَّقُوهُمْ. وَهَذِهِ فَضِيلَةٌ عَظِيمَةٌ لَمْ تَحْصُلْ إِلَّا فِي أَزْمَانِ ابْتِدَاءِ دَعْوَةِ الرُّسُلِ وَلَا تَحْصُلُ بَعْدَ هَذِهِ الْمَرَّةِ. وَتِلْكَ الْفَضِيلَةُ أَنَّهَا الْمُبَادَرَةُ بِتَصْدِيقِ الرُّسُلِ عِنْدَ بَعْثَتِهِمْ حِينَ يكذبهم النَّاس بادىء الْأَمْرِ. كَمَا قَالَ وَرَقَةُ: يَا لَيْتَنِي أَكُونُ جَذَعًا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ. أَيْ تَكْذِيبًا مِنْهُمْ. أَوْ أَرَادُوا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ الَّذِينَ أَنْبَأَهُمْ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِبَعْثَةِ الرَّسُولِ الَّذِي يَجِيءُ بَعْدَهُ، فَيَكُونُوا شَهَادَةً عَلَى مَجِيئِهِ وَشَهَادَةً بِصِدْقِ عِيسَى. فَفِي إِنْجِيلِ مَتَّى عَدَدِ ٢٤ مِنْ قَوْلِ عِيسَى «وَيَقُومُ أَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ كَثِيرُونَ وَيُضِلُّونَ كَثِيرِينَ وَلَكِنَّ الَّذِي يَصْبِرُ إِلَى الْمُنْتَهَى فَهَذَا يَخْلُصُ وَيَفُوزُ بِبِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ هَذِهِ شَهَادَةٌ لِجَمِيعِ الْأُمَمِ». وَفِي إِنْجِيلِ يُوحَنَّا عَدَدِ ١٥ مِنْ قَوْلِ عِيسَى «وَمَتَى جَاءَ الْمُعَزَّى رُوحُ الْحَقِّ الَّذِي مِنْ عِنْدِ الْأَبِ يَنْبَثِقُ فَهُوَ يَشْهَدُ لِي وَتَشْهَدُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا لِأَنَّكُمْ مَعِي مِنَ الِابْتِدَاءِ». وَإِنَّ لِكَلِمَةِ الْحَقِّ وَكَلِمَةِ الشَّاهِدِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَوْقِعًا لَا تُغْنِي فِيهِ غَيْرُهُمَا لِأَنَّهُمَا تُشِيرَانِ إِلَى مَا فِي بِشَارَةِ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-.
وَقَوْلُهُ: وَما لَنا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ، هُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَهُ فِي أنفسهم عِنْد مَا يُخَامِرُهُمُ التَّرَدُّدُ فِي أَمْرِ النُّزُوعِ عَنْ دِينِهِمُ الْقَدِيمِ إِلَى الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ. وَذَلِكَ التَّرَدُّدُ يَعْرِضُ لِلْمُعْتَقِدِ عِنْدَ الهمّ بِالرُّجُوعِ فِي اعْتِقَادِهِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالنَّظَرِ
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَهُ لِمَنْ يُعَارِضُهُمْ مَنْ أَهْلِ مِلَّتِهِمْ أَوْ مِنْ إِخْوَانِهِمْ وَيُشَكِّكُهُمْ فِيمَا عَزَمُوا عَلَيْهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَهُ لِمَنْ يُعَيِّرُهُمْ مِنَ الْيَهُودِ
وَالْقَوْلُ فِي مَعْنَى الْمَشِيئَةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ كَالْقَوْلِ فِي مَا كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الْأَنْعَام: ١١١] وَقَوْلِهِ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا [الْأَنْعَام: ١٠٧] وَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ وَبَيْنَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ.
وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي قَوْلِهِ: فَعَلُوهُ عَائِدٌ إِلَى الْوَحْيِ. الْمَأْخُوذِ مِنْ يُوحِي أَوْ إِلَى الْإِشْرَاكِ الْمُتَقَدِّمِ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا [الْأَنْعَام: ١٠٧] أَوْ إِلَى الْعَدَاوَةِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ قَوْله: لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا.
وَالضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ عَائِدٌ إِلَى شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، أَوْ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، أَوْ إِلَى الْعَدُوِّ، وَفَرَّعَ عَلَيْهِ أَمْرَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِتَرْكِهِمْ وَافْتِرَاءِهِمْ، وَهُوَ تَرْكُ إِعْرَاضٍ عَنِ الِاهْتِمَامِ بِغُرُورِهِمْ، وَالنَّكَدِ مِنْهُ، لَا إِعْرَاضٌ عَنْ وَعْظِهِمْ وَدَعْوَتِهِمْ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ:
وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ. وَالْوَاوُ بِمَعْنَى مَعَ.
وَما يَفْتَرُونَ مَوْصُولٌ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ مَعَهُ. وَمَا يَفْتَرُونَهُ هُوَ أَكَاذِيبُهُمُ الْبَاطِلَةُ مِنْ زَعْمِهِمْ إِلَهِيَّةَ الْأَصْنَامِ، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنَ المعتقدات الْبَاطِلَة.
[١١٣]
[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : آيَة ١١٣]
وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (١١٣)
عُطِفَ قَوْلُهُ: وَلِتَصْغى على غُرُوراً [الْأَنْعَام: ١١٢] لِأَنَّ غُرُوراً فِي مَعْنَى
لِيَغُرُّوهُمْ. وَاللَّامُ لَامُ كَيْ وَمَا بَعْدَهَا فِي تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ، أَيْ وَلَصَغْيِ، أَيْ مَيْلُ قُلُوبِهِمْ إِلَى وَحْيِهِمْ فَتَقُومُ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ.
بِهَا النَّوْعُ لَا الْفَرْدُ فَلَمْ يَكُنْ فِي الْحُكْمِ عَلَيْهَا إِبْهَامٌ وَذَلِكَ كَقَوْلِهِمْ: رَجُلٌ جَاءَنِي، أَيْ لَا امْرَأَةَ، وَتَمْرَةٌ خَيْرٌ مِنْ جَرَادَةٍ، وَفَائِدَةُ إِرَادَةِ النَّوْعِ الرَّدُّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ إِنْكَارَهُمْ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَاسْتِبْعَادَهُمْ ذَلِكَ، فَذَكَّرَهُمُ اللَّهُ بِأَنَّهُ كِتَابٌ مِنْ نَوْعِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، فَكَمَا نَزَلَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ وَكِتَابُ مُوسَى كَذَلِكَ نَزَلَ هَذَا الْقُرْآنُ، فَيَكُونُ تَنْكِيرُ النَّوْعِيَّةِ لِدَفْعِ الِاسْتِبْعَادِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالُوا لَا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ [ص: ٢٢] فَالتَّنْكِيرُ لِلنَّوْعِيَّةِ.
وَأَمَّا لِأَنَّ التَّنْكِيرَ أُرِيدَ بِهِ التَّعْظِيمُ كَقَوْلِهِمْ: «شَرٌّ أَهَرَّ ذَا نَابٍ» أَيْ شَرٌّ عَظِيمٌ. وَقَوْلُ
عُوَيْفِ الْقَوَافِي:
خَبَرٌ أَتَانِي عَنْ عُيَيْنَةَ مُوجِعٌ | كَادَتْ عَلَيْهِ تَصَدَّعُ الْأَكْبَادُ |
وَإِمَّا لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِالتَّنْكِيرِ التَّعْجِيبُ مِنْ شَأْنِ هَذَا الْكِتَابِ فِي جَمِيعِ مَا حُفَّ بِهِ مِنَ الْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ وَالْإِعْجَازِ وَالْإِرْشَادِ، وَكَوْنُهُ نَازِلًا عَلَى رَجُلٍ أُمِّيٍّ.
وَقَوْلُهُ: أُنْزِلَ إِلَيْكَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِ كِتابٌ فَيَكُونَ مُسَوِّغًا ثَانِيًا لِلِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْخَبَرُ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْأَخْبَارِ تَذْكِيرُ الْمُنْكِرِينَ والمكابرين، لأنّ النّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ أُنْزِلَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَلَا يَحْتَاجُونَ إِلَى الْإِخْبَارِ بِهِ، فَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْرِيضِ بِتَغْلِيطِ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُكَابِرِينَ وَالْقَاصِدِينَ إِغَاظَةَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالْإِعْرَاضِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْخَبَرِ الِامْتِنَانُ وَالتَّذْكِيرُ بِالنِّعْمَةِ، فَيَكُونُ الْخَبَرُ مُسْتَعْمَلًا فِي الِامْتِنَانِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ الْمُرَكَّبِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ الْخَبَرُ هُوَ قَوْلُهُ: أُنْزِلَ إِلَيْكَ مَعَ مَا انْضَمَّ إِلَيْهِ مِنَ
ذَلِكَ يُخَالِفُ اصْطِلَاحَ الْآخَرِ، وَالْمَسْأَلَةُ طَفِيفَةٌ وَإِنْ هَوَّلَهَا الْفَرِيقَانِ، وَاصْطِلَاحُنَا أَسْعَدُ بِالشَّرِيعَةِ وَأَقْرَبُ إِلَى اللُّغَةِ، وَالْمَسْأَلَةُ كُلُّهَا مِنْ فُرُوعِ مَسْأَلَةِ التَّكْلِيفِ وَقُدْرَةِ الْمُكَلِّفِ.
وَقَوْلُهُ: وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً تَفْوِيضٌ لِعِلْمِ اللَّهِ، أَيْ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ ذَلِكَ فَهُوَ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ مِنَّا، وَإِعَادَةُ وَصْفِ الرُّبُوبِيَّةِ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِزِيَادَةِ إِظْهَارِ وَصْفِهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَتَأْكِيدِ التَّعْرِيضِ الْمُتَقَدِّمِ، حَتَّى يَصِيرَ كَالتَّصْرِيحِ.
وَانْتَصَبَ عِلْماً عَلَى التَّمْيِيزِ الْمُحَوَّلِ عَنِ الْفَاعِلِ لِقَصْدِ الْإِجْمَالِ ثُمَّ التَّفْصِيلِ لِلِاهْتِمَامِ.
وَانْتَصَبَ كُلَّ شَيْءٍ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ لِ وَسِعَ، أَيْ: وَسِعَ عِلْمُ رَبِّنَا كُلَّ شَيْءٍ.
وَالسِّعَةُ: مُسْتَعْمَلَةٌ مَجَازًا فِي الْإِحَاطَةِ بِكُلِّ شَيْءٍ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْوَاسِعَ يَكُونُ أَكْثَرَ إِحَاطَةً.
وَفِي هَذِهِ الْمُجَادَلَةِ إدماج تَعْلِيم بعض صِفَاتِ اللَّهِ لِأَتْبَاعِهِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى عَادَةِ الْخُطَبَاءِ فِي انْتِهَازِ الْفُرْصَةِ.
ثُمَّ أَخْبَرَ بِأَنَّهُ وَمَنْ تَبِعَهُ قَدْ تَوَكَّلُوا عَلَى اللَّهِ، وَالتَّوَكُّلُ: تَفْوِيضُ مُبَاشَرَةِ صَلَاحِ الْمَرْءِ إِلَى غَيْرِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فِي آلِ عِمْرَانَ [١٥٩]، وَهَذَا تَفْوِيضٌ يَقْتَضِي طَلَبَ الْخَيْرِ، أَيْ: رَجَوْنَا أَنْ لَا يَسْلُبَنَا الْإِيمَانَ الْحَقِّ وَلَا يُفْسِدُ خَلْقَ عُقُولِنَا وَقُلُوبِنَا فَلَا نُفْتَنُ ونضل، وَرَجَوْنَا أَنْ يَكْفِيَنَا شَرَّ مَنْ يُضْمِرُ لَنَا شَرًّا وَذَلِكَ
شَرُّ الْكَفَرَةِ الْمُضْمَرُ لَهُمْ، وَهُوَ الْفِتْنَةُ فِي الْأَهْلِ بِالْإِخْرَاجِ، وَفِي الدِّينِ بِالْإِكْرَاهِ عَلَى اتِّبَاعِ الْكُفْرِ.
وَتَقْدِيمُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ عَلَى فِعْلِ تَوَكَّلْنا لإِفَادَة الِاخْتِصَاص تَحْقِيقا لِمَعْنَى التَّوْحِيدِ وَنَبْذِ غَيْرِ اللَّهِ، وَلِمَا فِي قَوْلِهِ: عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا مِنَ التَّفْوِيضِ إِلَيْهِ فِي كِفَايَتِهِمْ أَمْرَ أَعْدَائِهِمْ، صَرَّحَ بِمَا يَزِيدُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ. وَفَسَّرُوا الْفَتْحَ هُنَا بِالْقَضَاءِ وَالْحُكْمِ، وَقَالُوا: هُوَ لُغَةُ أَزْدِ عُمَانَ مِنَ الْيَمَنِ، أَيِ احْكُمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْفَتْحِ بِمَعْنَى النَّصْرِ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا لَا يَتَحَاكَمُونَ لِغَيْرِ السَّيْفِ، وَيَحْسَبُونَ أَنَّ النَّصْرَ حُكْمُ اللَّهِ لِلْغَالِبِ عَلَى الْمَغْلُوبِ.
وَقَوْلُهُ: وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ هُوَ كَقَوْلِهِ: وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ [الْأَعْرَاف: ٨٧]، أَيْ
بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ: خُمُسُ اللَّهِ وَالرَّسُولِ وَاحِدٌ، وَخَمُسٌ لِذِي الْقُرْبَى فَلِكُلِّ صِنْفٍ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ خُمُسُ الْخُمُسِ قَالَ: وَإِنَّ الْخُلَفَاءَ الْأَرْبَعَةَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ ذَا الْقُرْبَى لَا يَسْتَحِقُّ إِلَّا بِالْفَقْرِ. قَالَ: وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي ذَوِي الْقُرْبَى مَنْ هُمْ؟ فَقَالَ أَصْحَابُنَا: قَرَابَةُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ حَرَّمَ عَلَيْهِمُ الصَّدَقَةَ وَهُمْ (آلُ عَلِيٍّ وَالْعَبَّاسُ وَآلُ جَعْفَرٍ وَآلُ عَقِيلٍ وَوَلَدُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ) وَقَالَ آخَرُونَ: بَنُو الْمُطَّلِبِ دَاخِلُونَ فِيهِمْ.
وَقَالَ أَصْبَغُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: ذَوُو الْقُرْبَى هُمْ عَشِيرَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَقْرَبُونَ الَّذِينَ أَمَرَهُ اللَّهُ بِإِنْذَارِهِمْ فِي قَوْلِهِ: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشُّعَرَاء: ٢١٤] وَهُمْ آلُ قُصَيٍّ. وَعَنْهُ أَنَّهُمْ
آلُ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ، أَيْ قُرَيْشٍ، وَنُسِبَ هَذَا إِلَى بَعْضِ السَّلَفِ
وَأَخْرَجَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنَ الْقُرْبَى بَنِي أَبِي لَهَبٍ قَالَ: لِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا قَرَابَةَ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي لَهَبٍ فَإِنَّهُ آثَرَ عَلَيْنَا الْأَفْجَرِينَ» رَوَاهُ الْحَنَفِيَّةُ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ
، وَلَا يُعْرَفُ لِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَدٌ، وَبَعْدُ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِأَبِي لَهَبٍ فَلَا يَشْمَلُ أَبْنَاءَهُ فِي الْإِسْلَامِ. ذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْإِصَابَةِ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ، وَغَيْرَهُ.
رَوَى عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَدِمَتْ دُرَّةُ بِنْتُ أَبِي لَهَبٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إِنَّ النَّاسَ يَصِيحُونَ بِي وَيَقُولُونَ: إِنِّي بِنْتُ حَطَبِ النَّارِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ وَهُوَ مُغْضَبٌ شَدِيدُ الْغَضَبِ، فَقَالَ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يُؤْذُونَنِي فِي نَسَبِي وَذَوِي رَحِمِي أَلَا وَمَنْ آذَى نَسَبِي وَذَوِي رَحِمِي فَقَدْ آذَانِي وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللَّهَ»
. فَوَصَفَ دُرَّةَ بِأَنَّهَا مِنْ نَسَبِهِ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ ذَوِي الْقُرْبَى يَسْتَحِقُّونَ دُونَ اشْتِرَاطِ الْفَقْرِ، لِأَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ أَنَّ وَصْفَ قُرْبَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ سَبَبُ ثُبُوتِ الْحَقِّ لَهُمْ فِي خُمُسِ الْمَغْنَمِ دُونَ تَقْيِيدٍ بِوَصْفِ فَقْرِهِمْ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُعْطَوْنَ إِلَّا بِوَصْفِ الْفَقْرِ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ. فَفَائِدَةُ تَعْيِينِ خُمُسِ الْخُمُسِ لَهُمْ أَنْ لَا يُحَاصَّهُمْ فِيهِ مَنْ عَدَاهُمْ مِنَ الْفُقَرَاءِ، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ يَحْكِي عَنْ أَبِي يُوسُفَ مُوَافَقَةَ الْجُمْهُورِ فِي عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْفَقْرِ فِيهِمْ.
الذِّكْرِ مَعَ الْأَعْرَابِ. فَلَمَّا تَقَضَّى الْكَلَامُ عَلَى أُولَئِكَ تَخَلَّصَ إِلَى بَقِيَّةِ أَحْوَالِ الْأَعْرَابِ. وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى اتِّصَالِ الْغَرَضَيْنِ وَقَعَ تَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، وَهُوَ لَفْظُ (الْأَعْرَابِ) لِلِاهْتِمَامِ بِهِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَمِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ تَنْبِيهُ الْمُسْلِمِينَ لِأَحْوَالِ الْأَعْرَابِ لِأَنَّهُمْ لِبُعْدِهِمْ عَنِ الِاحْتِكَاكِ بِهِمْ وَالْمُخَالَطَةِ مَعَهُمْ قَدْ تَخْفَى عَلَيْهِمْ أَحْوَالُهُمْ وَيَظُنُّونَ بِجَمِيعِهِمْ خَيْرًا.
وَ (أَشَدُّ) وَ (أَجْدَرُ) اسْمَا تَفْضِيلٍ وَلَمْ يُذْكَرْ مَعَهُمَا مَا يَدُلُّ عَلَى مُفَضَّلٍ عَلَيْهِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا عَلَى ظَاهِرِهِمَا فَيَكُونُ الْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ أَهْلَ الْحَضَرِ، أَيْ كُفَّارَ وَمُنَافِقِي الْمَدِينَةِ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي تَوَاطَأَ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْمُفَسِّرِينَ.
وَازْدِيَادُهُمْ فِي الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِكُفَّارِ وَمُنَافِقِي الْمَدِينَةِ. وَمُنَافِقُوهُمْ أَشَدُّ نِفَاقًا مِنْ مُنَافِقِي الْمَدِينَةِ. وَهَذَا الِازْدِيَادُ رَاجِعٌ إِلَى تَمَكُّنِ الْوَصْفَيْنِ مِنْ نُفُوسِهِمْ، أَيْ كُفْرُهُمْ أَمْكَنُ فِي النُّفُوسِ مِنْ كُفْرِ كُفَّارِ الْمَدِينَةِ، وَنِفَاقُهُمْ أَمْكَنُ مِنْ نُفُوسِهِمْ كَذَلِكَ، أَيْ أَمْكَنُ فِي جَانِبِ الْكُفْرِ مِنْهُ وَالْبُعْدِ عَنِ الْإِقْلَاعِ عَنْهُ وَظُهُورِ بَوَادِرِ الشَّرِّ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ غِلَظَ الْقُلُوبِ وَجَلَافَةَ الطَّبْعِ تَزِيدُ النُّفُوسَ السَّيِّئَةَ وَحْشَةً وَنُفُورًا. أَلَا تَعْلَمُ أَنَّ ذَا الْخُوَيْصِرَةِ التَّمِيمِيَّ، وَكَانَ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ،
لَمَّا رَأَى النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ صَنَادِيدِ الْعَرَبِ مِنْ ذَهَبٍ قَسَمَهُ قَالَ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ مُوَاجِهًا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اعْدِلْ» فَقَالَ لَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَيْحَكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ»
. فَإِنَّ الْأَعْرَابَ لِنَشْأَتِهِمْ فِي الْبَادِيَةِ كَانُوا بُعَدَاءَ عَنْ مُخَالَطَةِ أَهْلِ الْعُقُولِ الْمُسْتَقِيمَةِ وَكَانَتْ أَذْهَانُهُمْ أَبْعَدَ عَنْ مَعْرِفَةِ الْحَقَائِقِ وَأَمْلَأَ بِالْأَوْهَامِ، وَهُمْ لِبُعْدِهِمْ عَنْ مُشَاهَدَةِ أَنْوَارِ
النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْلَاقِهِ وَآدَابِهِ وَعَنْ تَلَقِّي الْهُدَى صَبَاحَ مَسَاءَ أَجْهَلُ بِأُمُورِ الدِّيَانَةِ وَمَا بِهِ تَهْذِيبُ النُّفُوسِ، وَهُمْ لِتَوَارُثِهِمْ أَخْلَاقَ أَسْلَافِهِمْ وَبُعْدِهِمْ عَنِ التَّطَوُّرَاتِ الْمَدَنِيَّةِ الَّتِي تُؤَثِّرُ سُمُوًّا فِي النُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ، وَإِتْقَانًا فِي وَضْعِ الْأَشْيَاءِ فِي مَوَاضِعِهَا، وَحِكْمَةً تَقْلِيدِيَّةً تَتَدَرَّجُ بِالْأَزْمَانِ، يَكُونُونَ أَقْرَبَ سِيرَةً
أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ.
هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ الْجَوَابِ عَنْ كَلَامِهِمْ إِذْ يَقُولُونَ مَا يَحْبِسُ عَنَّا الْعَذَابَ، فَلِذَلِكَ فُصِّلَتْ كَمَا تُفَصَّلُ الْمُحَاوَرَةُ. وَهَذَا تَهْدِيدٌ وَتَخْوِيفٌ بِأَنَّهُ لَا يُصْرَفُ عَنْهُمْ وَلَكِنَّهُ
مُؤَخَّرٌ.
وَافْتُتِحَ الْكَلَامُ بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ لِتَحْقِيقِهِ وَإِدْخَالِ الرَّوْعِ فِي ضَمَائِرِهِمْ.
وَتَقْدِيمُ الظَّرْفِ لِلْإِيمَاءِ بِأَنَّ إِتْيَانَ الْعَذَابِ لَا شَكَّ فِيهِ حَتَّى أَنَّهُ يُوَقَّتُ بِوَقْتٍ.
وَالصَّرْفُ: الدَّفْعُ وَالْإِقْصَاءُ.
وَالْحَوْقُ: الْإِحَاطَةُ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ حَالٌّ بِهِمْ حُلُولًا لَا مُخَلِّصَ مِنْهُ بِحَالٍ.
وَجُمْلَةُ وَحاقَ بِهِمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَوْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى خَبَرِ لَيْسَ.
وَصِيغَةُ الْمُضِيِّ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَى التَّحَقُّقِ، وَهَذَا عَذَابُ الْقَتْلِ يَوْمَ بدر.
وَمَا صدق مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ هُوَ الْعَذَابُ، وَبَاءُ بِهِ سَبَبِيَّةٌ أَيْ بِسَبَبِ ذِكْرِهِ فَإِنَّ ذِكْرَ الْعَذَابِ كَانَ سَبَبًا لِاسْتِهْزَائِهِمْ حِينَ تَوَعَّدَهُمْ بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْإِتْيَانُ بِالْمَوْصُولِ فِي مَوْضِعِ الضَّمِيرِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ اسْتِهْزَاءَهُمْ كَانَ مِنْ أسِبَابِ غَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ. وَتَقْدِيرُهُ إِحَاطَةُ الْعَذَابِ بِهِمْ بِحَيْثُ لَا يَجِدُونَ مِنْهُ مخلصا.
وَجُمْلَةُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ إِلَى آخِرِهَا تَذْيِيلٌ لِمُنَاسَبَةِ عُمُومِهِ لِخُصُوصِ مَا أَصَابَ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنَ الرَّحْمَةِ فِي أَحْوَالِهِ فِي الدُّنْيَا وَمَا كَانَ لَهُ مِنْ مَوَاقِفِ الْإِحْسَانِ الَّتِي كَانَ مَا أُعْطِيَهُ مِنَ النِّعَمِ وَشَرَفِ الْمُنْزِلَةِ جَزَاءً لَهَا فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ. وَلَأَجْرُهِ فِي الْآخِرَةِ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ لَهُ وَلِكُلِّ مَنْ آمَنَ وَاتَّقَى.
وَالتَّعْبِيرُ فِي جَانِبِ الْإِيمَانِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي وَفِي جَانِبِ التَّقْوَى بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ عَقْدُ الْقَلْبِ الْجَازِمُ فَهُوَ حَاصِلٌ دُفْعَةً وَاحِدَةً وَأَمَّا التَّقْوَى فَهِيَ مُتَجَدِّدَةٌ بِتَجَدُّدِ أَسْبَابِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَاخْتِلَافِ الْأَعْمَال والأزمان.
[٥٨- ٦٠]
[سُورَة يُوسُف (١٢) : الْآيَات ٥٨ إِلَى ٦٠]
وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٨) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٥٩) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (٦٠)
طَوَى الْقُرْآنُ أَخَرَةَ أَمْرِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ وَحُلُولَ سِنِي الْخِصْبِ وَالِادِّخَارِ ثُمَّ اعْتِرَاءَ سِنِي الْقَحْطِ لِقِلَّةِ جَدْوَى ذَلِكَ كُلِّهِ فِي الْغَرَضِ الَّذِي نَزَلَتِ السُّورَةُ لِأَجْلِهِ، وَهُوَ إِظْهَارُ مَا يَلْقَاهُ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ ذَوِيهِمْ وَكَيْفَ تَكُونُ لَهُمْ عَاقِبَةُ النَّصْرِ وَالْحُسْنَى، وَلِأَنَّهُ مَعْلُومٌ حُصُولُهُ، وَلِذَلِكَ انْتَقَلَتِ الْقِصَّةُ إِلَى مَا فِيهَا مِنْ مَصِيرِ إِخْوَةِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي حَاجَةٍ إِلَى نِعْمَتِهِ، وَمِنْ جَمْعِ اللَّهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ الَّذِي يُحِبُّهُ، ثُمَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبَوَيْهِ، ثُمَّ مَظَاهِرِ عَفْوِهِ عَنْ إِخْوَتِهِ وَصِلَتِهِ رَحِمَهُ، لِأَنَّ لِذَلِكَ كُلِّهِ أَثَرًا فِي مَعْرِفَةِ فَضَائِلِهِ.
وَكَانَ مَجِيءُ إِخْوَةِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِلَى مِصْرَ لِلْمِيرَةِ عِنْدَ حُلُولِ الْقَحْطِ بِأَرْضِ مِصْرَ وَمَا جَاوَرَهَا مِنْ بِلَادِ فِلَسْطِينَ مَنَازِلِ آلِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ
وَالْأَكْثَرُ أَنْ يَكُونَ فِعْلًا مَاضِيًا، وَقَدْ يَكُونُ مُضَارِعًا لِلدَّلَالَةِ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ كَمَا هُنَا.
وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَأْوِيلِهِ بِالْمَاضِي فِي التَّحَقُّقِ.
وَمِنَ النَّحْوِيِّينَ مَنْ أَوْجَبَ دُخُولَهَا عَلَى الْمَاضِي، وَتَأَوَّلَ نَحْوَ الْآيَةِ بِأَنَّهُ مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ الْمَاضِي لِتَحَقُّقِهِ. وَمَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ هُنَا وَاضِحٌ لِأَنَّ الْكُفَّارَ لَمْ يَوَدُّوا أَنْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ قَبْلَ ظُهُورِ قُوَّةِ الْإِسْلَامِ مِنْ وَقْتِ الْهِجْرَةِ.
وَالْكَلَامُ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهْدِيدِ وَالتَّهْوِيلِ فِي عَدَمِ اتِّبَاعِهِمْ دِينَ الْإِسْلَامِ. وَالْمَعْنَى:
قَدْ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا أَسْلَمُوا.
وَالتَّقْلِيلُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهَكُّمِ وَالتَّخْوِيفِ، أَيِ احْذَرُوا وَدَادَتَكُمْ أَنْ تَكُونُوا مُسْلِمِينَ، فَلَعَلَّهَا أَنْ تَقَعَ نَادِرًا كَمَا يَقُولُ الْعَرَبُ فِي التَّوْبِيخِ: لَعَلَّكَ سَتَنْدَمُ عَلَى فِعْلِكَ، وَهُمْ لَا يَشُكُّونَ فِي تَنَدُّمِهِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ النَّدَمُ مَشْكُوكًا فِيهِ لَكَانَ حَقًّا عَلَيْكَ أَنْ تَفْعَلَ مَا قَدْ تَنَدَمُ عَلَى التَّفْرِيطِ فِيهِ لِكَيْ لَا تَنْدَمَ، لِأَنَّ الْعَاقِلَ يَتَحَرَّزُ مِنَ الضُّرِّ الْمَظْنُونِ كَمَا يَتَحَرَّزُ مِنَ الْمُتَيَقَّنِ.
وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ قَدْ يَوَدُّونَ أَنْ يَكُونُوا أَسْلَمُوا وَلَكِنْ بَعْدَ الْفَوَاتِ.
وَالْإِتْيَانُ بِفِعْلِ الْكَوْنِ الْمَاضِي لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ يَوَدُّونَ الْإِسْلَامَ بَعْدَ مُضِيِّ وَقْتِ التَّمَكُّنِ مِنْ إِيقَاعِهِ، وَذَلِكَ عِنْد مَا يُقْتَلُونَ بِأَيْدِي الْمُسْلِمِينَ، وَعِنْدَ حُضُورِ يَوْمِ الْجَزَاءِ، وَقَدْ وَدَّ الْمُشْرِكُونَ ذَلِكَ غَيْرَ مَرَّةٍ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا حِينَ شَاهَدُوا نَصْرَ الْمُسْلِمِينَ.
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: وَدَّ كُفَّارُ قُرَيْشٍ ذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ حِينَ رَأَوْا نَصْرَ الْمُسْلِمِينَ. وَيَتَمَنَّوْنَ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ حِينَ يُسَاقُونَ إِلَى النَّارِ لِكُفْرِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا [سُورَة الْفرْقَان: ٢٧]. وَكَذَلِكَ إِذَا أُخْرِجَ عُصَاةُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ النَّارِ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي النَّارِ لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ، عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ وَدُّوا ذَلِكَ غَيْرَ مَرَّةٍ وَكَتَمُوهُ فِي نُفُوسِهِمْ عِنَادًا وَكُفْرًا. قَالَ تَعَالَى:
وَفِي ذَلِكَ إِدْمَاجٌ لِرِفْعَةِ قدر مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِثْبَاتُ أَنَّهُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ، وَأَنَّهُ أُوتِيَ مِنْ دَلَائِلِ صِدْقِ دَعْوَتِهِ مَا لَا قيل لَهُمْ بِإِنْكَارِهِ، فَقَدْ كَانَ إِسْرَاؤُهُ إِطْلَاعًا لَهُ عَلَى غَائِبٍ مِنَ الْأَرْضِ، وَهُوَ أَفْضَلُ مَكَانٍ بَعْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
وأَسْرى لُغَةٌ فِي سَرَى، بِمَعْنَى سَارَ فِي اللَّيْلِ، فَالْهَمْزَةُ هُنَا لَيْسَتْ لِلتَّعْدِيَةِ لِأَنَّ
التَّعْدِيَةَ حَاصِلَةٌ بِالْبَاءِ، بَلْ أسرى فعل مفتح بِالْهَمْزَةِ مُرَادِفُ سَرَى، وَهُوَ مِثْلُ أَبَانَ الْمُرَادِفُ بَانَ، وَمِثْلُ أَنْهَجَ الثَّوْبُ بِمَعْنَى نَهَجَ أَيْ بَلِيَ، فَ أَسْرى بِعَبْدِهِ بِمَنْزِلَةِ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [الْبَقَرَة: ١٧].
وَلِلْمُبَرِّدِ وَالسُهَيْلِيِّ نُكْتَةٌ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ التَّعْدِيَةِ بِالْهَمْزَةِ وَالتَّعْدِيَةِ بِالْبَاءِ بِأَنَّ الثَّانِيَةَ أَبْلَغُ لِأَنَّهَا فِي أَصْلِ الْوَضْعِ تَقْتَضِي مُشَارَكَةَ الْفَاعِلِ الْمَفْعُولَ فِي الْفِعْلِ، فَأَصْلُ (ذَهَبَ بِهِ) أَنَّهُ اسْتَصْحَبَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى وَسارَ بِأَهْلِهِ [الْقَصَص: ٢٩]. وَقَالَتِ الْعَرَبُ أَشْبَعَهُمْ شَتْمًا، وَرَاحُوا بِالْإِبِلِ. وَفِي هَذَا لَطِيفَةٌ تُنَاسِبُ الْمَقَامَ هُنَا إِذْ قَالَ أَسْرى بِعَبْدِهِ دُونَ سَرَى بِعَبْدِهِ، وَهِيَ التَّلْوِيحُ إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ مَعَ رَسُولِهِ فِي إِسْرَائِهِ بِعِنَايَتِهِ وَتَوْفِيقِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [الطّور: ٤٨]، وَقَالَ: إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [التَّوْبَة: ٤٠].
فَالْمَعْنَى: الَّذِي جَعَلَ عَبْدَهُ مُسْرَيًا، أَيْ سَارِيًا، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ [هود: ٨١].
وَإِذْ قَدْ كَانَ السُّرَى خَاصًّا بِسَيْرِ اللَّيْلِ كَانَ قَوْلُهُ: لَيْلًا إِشَارَةً إِلَى أَنَّ السَّيْرَ بِهِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى كَانَ فِي جُزْءِ لَيْلَةٍ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ ذِكْرُهُ إِلَّا تَأْكِيدًا، عَلَى أَنَّ الْإِفَادَةَ كَمَا يَقُولُونَ خَيْرٌ مِنَ الْإِعَادَةِ.
وَفِي ذَلِكَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ إِسْرَاءٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ لِقَطْعِ الْمَسَافَةِ الَّتِي بَيْنَ مَبْدَأِ السَّيْرِ وَنِهَايَتِهِ فِي بَعْضِ لَيْلَةٍ، وَأَيْضًا لِيَتَوَسَّلَ بِذِكْرِ اللَّيْلِ إِلَى تَنْكِيرِهِ الْمُفِيدِ لِلتَّعْظِيمِ.
فَتَنْكِيرُ لَيْلًا لِلتَّعْظِيمِ، بِقَرِينَةِ الِاعْتِنَاءِ بِذِكْرِهِ مَعَ عِلْمِهِ مِنْ فِعْلِ أَسْرى، وَبِقَرِينَةِ عَدَمِ تَعْرِيفِهِ، أَيْ هُوَ لَيْلٌ عَظِيمٌ بِاعْتِبَارِ جَعْلِهِ زَمَنًا
بِاللَّوْمِ عَلَى الِاسْتِعْجَالِ وَعَدَمِ الصَّبْرِ إِلَى أَنْ يَأْتِيَهُ إِحْدَاثُ الذِّكَرِ حَسْبَمَا وَعَدَهُ بقوله فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً.
وَالْمَسَاكِينُ: هُنَا بِمَعْنَى ضُعَفَاءِ الْمَالِ الَّذِينَ يَرْتَزِقُونَ مِنْ جُهْدِهِمْ وَيُرَقُّ لَهُمْ لِأَنَّهُمْ يَكْدَحُونَ دَهْرَهُمْ لِتَحْصِيلِ عَيْشِهِمْ. فَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ فُقَرَاءُ أَشَدَّ الْفَقْرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ [التَّوْبَة: ٦٠] بَلِ الْمُرَادُ بِتَسْمِيَتِهِمْ بِالْفُقَرَاءِ أَنَّهُمْ يُرَقُّ لَهُمْ كَمَا قَالَ الْحَرِيرِيُّ فِي الْمَقَامَةِ الْحَادِيَةِ وَالْأَرْبَعِينَ: «... مِسْكِينٌ ابْنُ آدَمَ وَأَيُّ مِسْكِينٍ».
وَكَانَ أَصْحَابُ السَّفِينَةِ هَؤُلَاءِ عَمَلَةٌ يَأْجُرُونَ سَفِينَتَهُمْ لِلْحَمْلِ أَوْ لِلصَّيْدِ.
وَمَعْنَى: وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ: هُوَ مَلِكُ بِلَادِهِمْ بِالْمِرْصَادِ مِنْهُمْ وَمِنْ أَمْثَالِهِمْ يُسَخِّرُ كُلَّ سَفِينَةٍ يَجِدُهَا غَصْبًا، أَيْ بِدُونِ عِوَضٍ. وَكَانَ ذَلِكَ لِنَقْلِ أُمُورِ بِنَاءٍ أَوْ نَحْوِهُ مِمَّا يَسْتَعْمِلُهُ الْمَلِكُ فِي مَصَالِحِ نَفْسِهِ وَشَهَوَاتِهِ، كَمَا كَانَ الْفَرَاعِنَةُ يُسَخِّرُونَ النَّاسَ لِلْعَمَلِ فِي بِنَاءِ الْأَهْرَامِ.
وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لِمَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ لِلْأُمَّةِ لَجَازَ التَّسْخِيرُ مِنْ كُلٍّ بِحَسَبِ حَالِهِ مِنَ الِاحْتِيَاجِ لِأَنَّ ذَلِكَ فَرْضُ كِفَايَةٍ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ وَبَعْدَ تَحَقُّقِهَا.
ووراء اسْمُ الْجِهَةِ الَّتِي خَلْفَ ظَهْرِ مَنْ أُضِيفَ إِلَيْهِ ذَلِكَ الِاسْمُ، وَهُوَ ضِدُّ أَمَامَ وَقُدَّامَ.
وَيُسْتَعَارُ (الْوَرَاءُ) لِحَالِ تَعَقُّبِ شَيْءٍ شَيْئًا وَحَالِ مُلَازِمَةِ طَلَبِ شَيْءٍ شَيْئًا بِحَقٍّ وَحَالِ الشَّيْءِ الَّذِي سَيَأْتِي قَرِيبًا، كُلُّ ذَلِكَ تَشْبِيهٌ بِالْكَائِنِ خَلْفَ شَيْءٍ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَتَّصِلَ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ فِي [الْجَاثِيَةِ: ١٠].
لَا يُعَدُّ غَافِلًا عَنْهُ، أَيْ أَنَّهُمْ لَمَّا جَاءَتْهُمْ دَعْوَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْإِيمَانِ وَإِنْذَارِهِمْ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ اسْتَمَرُّوا عَلَى غَفْلَتِهِمْ عَنِ الْحِسَابِ بِسَبَبِ إِعْرَاضِهِمْ عَنْ دَلَائِلِ التَّذْكِيرِ بِهِ. فَكَانَتِ الْغَفْلَةُ عَنِ الْحِسَابِ مِنْهُمْ غَيْرَ مَقْلُوعَةٍ مِنْ نُفُوسِهِمْ بِسَبَبِ تَعْطِيلِهِمْ مَا شَأْنُهُ أَنْ يَقْلَعَ الْغَفْلَةَ عَنْهُمْ بِإِعْرَاضِهِمْ عَنِ الدَّلَائِلِ الْمُثْبِتَةِ لِلْبَعْثِ.
[٢، ٣]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : الْآيَات ٢ الى ٣]
مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣)
مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ.
جُمْلَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الْأَنْبِيَاء: ١] لِبَيَانِ تَمَكُّنِ الْغَفْلَةِ مِنْهُمْ وَإِعْرَاضِهِمْ، بِأَنَّهُمْ إِذَا سَمِعُوا فِي الْقُرْآنِ تَذْكِيرًا لَهُمْ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ اشْتَغَلُوا عَنْهُ بِاللَّعِبِ
وَاللَّهْوِ فَلَمْ يَفْقَهُوا مَعَانِيَهُ وَكَانَ حَظُّهُمْ مِنْهُ سَمَاعَ أَلْفَاظِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ فِي سُورَةِ [الْبَقَرَةِ: ١٧١].
وَالذِّكْرُ: الْقُرْآنُ أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ الذِّكْرِ الَّذِي هُوَ مَصْدَرٌ لِإِفَادَةِ قُوَّةِ وَصْفِهِ بِالتَّذْكِيرِ.
وَالْمُحْدَثُ: الْجَدِيدُ. أَيِ الْجَدِيدُ نُزُولُهُ مُتَكَرِّرًا، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ بِالذِّكْرِ كُلَّمَا جَاءَهُمْ بِحَيْثُ لَا يَزَالُونَ بِحَاجَةٍ إِلَى إِعَادَةِ التَّذْكِيرِ وَإِحْدَاثِهِ مَعَ قَطْعِ مَعْذِرَتِهِمْ لِأَنَّهُ لَوْ كَانُوا سَمِعُوا ذِكْرًا وَاحِدًا فَلم يعبأوا بِهِ لَانْتَحَلُوا لِأَنْفُسِهِمْ عُذْرًا كَانُوا سَاعَتَئِذٍ فِي غَفْلَةٍ، فَلَمَّا تَكَرَّرَ حَدَثَانُ إِتْيَانِهِ تَبَيَّنَ لِكُلِّ مُنْصِفٍ أَنَّهُمْ مُعْرِضُونَ عَنْهُ صَدًّا.
وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ فِي سُورَةِ [الشُّعَرَاءِ: ٥]، وَلَيْسَ المُرَاد بمحدث مَا قَابَلَ الْقَدِيمَ فِي اصْطِلَاحِ عِلْمِ الْكَلَامِ لِعَدَمِ مُنَاسَبَتِهِ لِسِيَاقِ النَّظْمِ.
وَالْإِعْرَاضُ: الصَّدُّ أَيْ عَدَمُ الْإِقْبَالِ عَلَى الشَّيْءِ، مِنَ الْعُرْضِ- بِضَمِّ الْعَيْنِ- وَهُوَ الْجَانِبُ، لِأَنَّ مَنْ يَتْرُكُ الشَّيْءَ يُوَلِّيهِ جَانِبَهُ وَلَا يُقْبِلُ عَلَيْهِ فَيَشْمَلُ الْإِعْرَاضُ إِعْرَاضَ السَّمْعِ عَنِ اللَّغْوِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٦٣]، وَقَوْلِهِ:
وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٦٨]، وَأَهَمُّهُ الْإِعْرَاضُ عَنْ لَغْوِ الْمُشْرِكِينَ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت: ٢٦] وَقَالَ تَعَالَى: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً [الْفرْقَان:
٧٢]. وَيَشْمَلُ الْإِعْرَاضَ عَنِ اللَّغْوِ بِالْأَلْسِنَةِ، أَيْ أَنْ يَلْغُوا فِي كَلَامِهِمْ.
وَعَقَّبَ ذِكْرَ الْخُشُوعِ بِذِكْرِ الْإِعْرَاضِ عَنِ اللَّغْوِ لِأَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْأَصْلِ الدُّعَاءُ، وَهُوَ مِنَ الْأَقْوَالِ الصَّالِحَةِ، فَكَانَ اللَّغْوُ مِمَّا يَخْطُرُ بِالْبَالِ عِنْدَ ذِكْرِ الصَّلَاةِ بِجَامِعِ الضِّدِّيَّةِ، فَكَانَ الْإِعْرَاضُ عَنِ اللَّغْوِ بِمَعْنَيَيِ الْإِعْرَاضِ مِمَّا تَقْتَضِيهِ الصَّلَاةُ وَالْخُشُوعُ لِأَنَّ مَنِ اعْتَادَ الْقَوْلَ الصَّالِحَ تَجَنَّبَ الْقَوْلَ الْبَاطِلَ وَمَنِ اعْتَادَ الْخُشُوعَ لِلَّهِ تَجَنَّبَ قَوْلَ الزُّورِ،
وَفِي الْحَدِيثِ «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ»
. وَالْإِعْرَاضُ عَنْ جِنْسِ اللَّغْوِ مِنْ خُلُقِ الْجِدِّ وَمَنْ تَخَلَّقَ بالجد فِي شؤونه كَمُلَتْ نَفْسُهُ وَلَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ إِلَّا الْأَعْمَالُ النَّافِعَةُ، فَالْجِدُّ فِي الْأُمُورِ مِنْ خُلُقِ الْإِسْلَامِ كَمَا أَفْصَحَ عَنْ ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي خِرَاشٍ الْهُذَلِيِّ بِذِكْرِ الْإِسْلَامِ:
وَعَادَ الْفَتَى كَالْكَهْلِ لَيْسَ بِقَائِلٍ | سِوَى الْعَدْلِ شَيْئًا فَاسْتَرَاحَ الْعَوَاذِلُ |
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا أَدَبٌ عَظِيمٌ مِنْ آدَابِ الْمُعَامَلَةِ مَعَ بَعْضِ النَّاسِ وَهُمُ الطَّبَقَةُ غَيْرُ الْمُحْتَرَمَةِ لِأَنَّ أَهْلَ اللَّغْوِ لَيْسُوا بِمَرْتَبَةِ التَّوْقِيرِ، فَالْإِعْرَاضُ عَنْ لَغْوِهِمْ رَبْءٌ عَنِ التسفل مَعَهم.
والْحَقُّ: الْخَالِصُ، كَقَوْلِكَ: هَذَا ذَهَبٌ حَقًّا. وَهُوَ الْمُلْكُ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُمَاثِلُهُ مُلْكٌ، لِأَنَّ حَالَةَ الْمُلْكِ فِي الدُّنْيَا مُتَفَاوِتَةٌ. وَالْمُلْكُ الْكَامِلُ إِنَّمَا هُوَ لِلَّهِ، وَلَكِنَّ الْعُقُولَ قَدْ لَا تَلْتَفِتُ إِلَى مَا فِي الْمُلُوكِ مِنْ نَقْصٍ وَعَجْزٍ وَتَبْهَرُهُمْ بَهْرَجَةُ تَصَرُّفَاتِهِمْ وَعَطَايَاهُمْ فَيَنْسَوْنَ الْحَقَائِقَ، فَأَمَّا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَالْحَقَائِقُ مُنْكَشِفَةٌ وَلَيْسَ ثَمَّةَ مِنْ يَدَّعِي شَيْئًا مِنَ التَّصَرُّفِ،
وَفِي الْحَدِيثِ: «ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ: أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ»
. وَوُصِفَ الْيَوْمُ بِعَسِيرٍ بِاعْتِبَارِ مَا فِيهِ مِنْ أُمُورٍ عَسِيرَةٍ عَلَى الْمُشْرِكِينَ.
وَتَقْدِيمُ عَلَى الْكافِرِينَ لِلْحَصْرِ. وَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ، أَيْ دون الْمُؤمنِينَ.
[٢٧- ٢٩]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : الْآيَات ٢٧ إِلَى ٢٩]
وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (٢٧) يَا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (٢٨) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (٢٩)
هَذَا هُوَ ذَلِكَ الْيَوْمُ أُعِيدَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ حَالٍ آخَرَ مِنْ أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ فِيهِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ حَالِ بَعْضِ الْمُشْرِكِينَ الْمَقْصُودِ مِنَ الْآيَةِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الظَّالِمُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلِاسْتِغْرَاقِ. وَالْمُرَادُ بِالظُّلْمِ الشِّرْكُ فَيَعُمُّ جَمِيعَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا بَعْدَ ظُهُورِ الدَّعْوَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا إِعْلَامًا بِمَا لَا تَخْلُو عَنْهُ مِنْ صُحْبَةِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ وَإِغْرَاءِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا عَلَى مُنَاوَاةِ الْإِسْلَامِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْعَهْدِ الْمَخْصُوصِ. وَالْمُرَادُ بِالظُّلْمِ الِاعْتِدَاءُ الْخَاصُّ الْمَعْهُودُ مِنْ
قِصَّةٍ مُعَيَّنَةٍ وَهِيَ قِصَّةُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ وَمَا أَغْرَاهُ بِهِ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ.
قَالَ الْوَاحِدِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَغَيْرِهِ: كَانَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ خَلِيلًا لِأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَكَانَ عُقْبَةُ لَا يَقْدُمُ مِنْ سَفَرٍ إِلَّا صَنَعَ طَعَامًا وَدَعَا إِلَيْهِ أَشْرَافَ قَوْمِهِ، وَكَانَ يُكْثِرُ مُجَالَسَةَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَدِمَ مِنْ بَعْضِ أَسْفَارِهِ فَصَنَعَ طَعَامًا وَدَعَا رَسُولَ اللَّهِ [صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] فَلَمَّا قَرَّبُوا الطَّعَامَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ [صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] :
مَا أَنَا بِآكِلٍ مِنْ طَعَامِكَ حَتَّى تَشْهَدَ أَنْ لَا
لِإِثْبَاتِ أَنَّ الْخَالِقَ وَالْمُنْبِتَ وَالرَّازِقَ هُوَ اللَّهُ، وَهُوَ مَشُوبٌ بِتَوْبِيخٍ، فَلِذَلِكَ ذَيَّلَ بِقَوْلِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ كَمَا سَيَأْتِي، أَيْ مِنْ غَرَضِ الدَّلِيلِ الْإِجْمَالِيِّ إِلَى التَّفْصِيلِ.
وَالْخِطَابُ بِ لَكُمْ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُشْركين للتعريض بِأَنَّهُمْ مَا شَكَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ.
وَذَكَرَ إِنْزَالَ الْمَاءِ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ، وَلِقَطْعِ شُبْهَةِ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّ الْمُنْبِتَ لِلشَّجَرِ الَّذِي فِيهِ رِزْقُنَا هُوَ الْمَاءُ، اغْتِرَارًا بِالسَّبَبِ فَبُودِرُوا بِالتَّذْكِيرِ بِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْأَسْبَابَ وَهُوَ خَالِقُ الْمُسَبَّبَاتِ بِإِزَالَةِ الْمَوَانِعِ وَالْعَوَارِضِ الْعَارِضَةِ لِتَأْثِيرِ الْأَسْبَابِ وَبِتَوْفِيرِ الْقُوَى الْحَاصِلَةِ فِي الْأَسْبَابِ، وَتَقْدِيرِ الْمَقَادِيرِ الْمُنَاسِبَةِ لِلِانْتِفَاعِ بِالْأَسْبَابِ، فَقَدْ يُنْزِلُ الْمَاءَ بِإِفْرَاطٍ فَيَجْرُفُ الزَّرْعَ وَالشَّجَرَ أَوْ يَقْتُلُهُمَا، وَلِذَلِكَ جَمَعَ بَين قَوْله وَأَنْزَلَ وَقَوله فَأَنْبَتْنا تَنْبِيهًا
عَلَى إِزَالَةِ الشُّبْهَةِ.
وَنُونُ الْجمع فِي فَأَنْبَتْنا الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْحُضُورِ. وَمِنْ لَطَائِفِهِ هُنَا التَّنْصِيصُ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ إِسْنَادُ الْإِنْبَاتِ إِلَيْهِ لِئَلَّا يَنْصَرِفَ ضَمِيرُ الْغَائِبِ إِلَى الْمَاءِ لِأَنَّ التَّذْكِيرَ بِالْمُنْبِتِ الْحَقِيقِيِّ الَّذِي خَلَقَ الْأَسْبَابَ أَلْيَقُ بِمَقَامِ التَّوْبِيخِ عَلَى عَدَمِ رِعَايَتِهِمْ نِعَمَهُ.
وَالْإِنْبَاتُ: تَكْوِينُ النَّبَاتِ.
وَالْحَدَائِقُ: جَمْعُ حَدِيقَةٍ وَهِيَ الْبُسْتَانُ وَالْجَنَّةُ الَّتِي فِيهَا نَخْلٌ وَعِنَبٌ. سُمِّيَتْ حَدِيقَةً لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُحْدِقُونَ بِهَا حَائِطًا يَمْنَعُ الدَّاخِلَ إِلَيْهَا صَوْنًا لِلْعِنَبِ لِأَنَّهُ لَيْسَ كَالنَّخْلِ الَّذِي يَعْسُرُ اجْتِنَاءُ ثَمَرِهِ لِارْتِفَاعِ شَجَرِهِ فَهِيَ بِمَعْنَى: مُحْدَقٌ بِهَا. وَلَا تُطْلَقُ الْحَدِيقَةُ إِلَّا عَلَى ذَلِكَ.
وَالْبَهْجَةُ: حُسْنُ الْمَنْظَرِ لِأَنَّ النَّاظِرَ يَبْتَهِجُ بِهِ.
وَمَعْنَى مَا كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها لَيْسَ فِي مُلْكِكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَ تِلْكَ الْحَدَائِقِ، فَاللَّامُ فِي لَكُمْ لِلْمِلْكِ وأَنْ تُنْبِتُوا اسْمُ كانَ ولَكُمْ خَبَرُهَا. وَقَدَّمَ الْخَبَرَ عَلَى الِاسْمِ لِلِاهْتِمَامِ بِنَفْيِ مِلْكِ ذَلِكَ.
وَجُمْلَةُ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ اسْتِئْنَافٌ هُوَ كَالنَّتِيجَةِ لِلْجُمْلَةِ قَبْلَهَا لِأَنَّ إِثْبَاتَ الْخَلْقِ
تَقُولُ: لَوْ كُنْتَ حُرًّا لَاسْتَقْبَحْتَ مَا يَفْعَلُهُ الْعَبِيدُ إِذَنْ لَاسْتَحْسَنْتَ مَا يَفْعَلُهُ الْأَحْرَارُ اه. يَعْنِي يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ: إِذَنْ لَقَامَ، بَدَلًا مِنْ جُمْلَةِ: لَمْ تَسْتَبِحْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ [٩١]. وَالِارْتِيَابُ: حُصُولُ الرَّيْبِ فِي النَّفْسِ وَهُوَ الشَّكُّ.
وَوَجْهُ التَّلَازُمِ بَيْنَ التِّلَاوَةِ وَالْكِتَابَةِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ عَلَى نُزُولِ الْقُرْآنِ، وَبَيْنَ حُصُولِ الشَّكِّ فِي نُفُوسِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ وَاقِعًا لَاحْتَمَلَ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ مِنْ جِنْسِ مَا كَانَ يَتْلُوهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ كُتُبٍ سَالِفَةٍ وَأَنْ يَكُونَ مِمَّا خَطَّهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ كَلَامٍ تَلَقَّاهُ فَقَامَ الْيَوْمَ بِنَشْرِهِ وَيَدْعُو بِهِ. وَإِنَّمَا جَعَلَ ذَلِكَ مُوجِبَ رَيْبٍ دُونَ أَنْ يَكُونَ مُوجِبَ جَزْمٍ بِالتَّكْذِيبِ لِأَنَّ نَظْمَ الْقُرْآنِ وَبَلَاغَتَهُ وَمَا احْتَوَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَعَانِي يُبْطِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ نَوْعِ مَا سَبَقَ مِنَ الْكُتُبِ وَالْقَصَصِ وَالْخُطَبِ وَالشِّعْرِ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَمَّا كَانَ مُسْتَدْعِيًا تَأَمُّلًا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ خُطُورِ خَاطِرِ الِارْتِيَابِ عَلَى الْإِجْمَالِ قَبْلَ إِتْمَامِ النَّظَرِ وَالتَّأَمُّلِ بِحَيْثُ يَكُونُ دَوَامُ الِارْتِيَابِ بُهْتَانًا وَمُكَابَرَةً.
وَتَقْيِيدُ تَخُطُّهُ بِقَيْدِ بِيَمِينِكَ لِلتَّأْكِيدِ لِأَنَّ الْخَطَّ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْيَمِينِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ:
وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الْأَنْعَام: ٣٨].
وَوَصْفُ الْمُكَذِّبِينَ بِالْمُبْطِلِينَ مَنْظُورٌ فِيهِ لِحَالِهِمْ فِي الْوَاقِعِ لِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا مَعَ انْتِفَاءِ شُبْهَةِ الْكَذِبِ فَكَانَ تَكْذِيبُهُمُ الْآنَ بَاطِلًا، فَهُمْ مُبْطِلُونَ مُتَوَغِّلُونَ فِي الْبَاطِلِ، فَالْقَوْلُ فِي وَصْفِهِمْ بِالْمُبْطِلِينَ كَالْقَوْلِ فِي وَصفهم بالكافرين.
[٤٩]
[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ٤٩]
بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (٤٩)
بَلْ إِبْطَالٌ لِمَا اقْتَضَاهُ الْفَرْضُ من قَوْله: إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت: ٤٨]، أَيْ بَلِ الْقُرْآنُ لَا رَيْبَ يَتَطَرَّقُهُ فِي أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَهُوَ كُلُّهُ آيَاتٌ دَالَّةٌ عَلَى صدق
وَإِضَافَةُ الْبُيُوتِ إِلَيْهِنَّ لِأَنَّهُنَّ سَاكِنَاتٌ بِهَا أَسْكَنَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَت بيُوت النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُمَيَّزُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ بِالْإِضَافَةِ إِلَى سَاكِنَةِ الْبَيْتِ، يَقُولُونَ: حُجْرَةُ عَائِشَةَ، وَبَيْتُ حَفْصَةَ، فَهَذِهِ الْإِضَافَةُ كَالْإِضَافَةِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُطَلَّقَاتِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ [الطَّلَاق: ١]. وَذَلِكَ أَنَّ زَوْجَ الرَّجُلِ هِيَ رَبَّةُ بَيْتِهِ، وَالْعَرَبُ تَدْعُو الزَّوْجَةَ الْبَيْتَ وَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنَّهَا مِلْكٌ لَهُنَّ لِأَنَّ الْبُيُوتَ بَنَاهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِبَاعًا تَبَعًا لِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ، وَلِذَلِكَ لَمَّا تُوُفِّيَتِ الْأَزْوَاجُ كُلُّهُنَّ أُدْخِلَتْ سَاحَةُ بُيُوتِهِنَّ إِلَى الْمَسْجِدِ فِي التَّوْسِعَةِ الَّتِي وَسَّعَهَا الْخَلِيفَةُ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي إِمَارَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَلَى الْمَدِينَةِ وَلَمْ يُعْطِ عِوَضًا لِوَرَثَتِهِنَّ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ تَقْتَضِي وُجُوبَ مُكْثِ أَزْوَاجِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بُيُوتِهِنَّ وَأَنْ لَا يَخْرُجْنَ إِلَّا لِضَرُورَةٍ، وَجَاءَ
فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لَكُنَّ أَنْ تَخْرُجْنَ لِحَوَائِجِكُنَّ»
يُرِيدُ حَاجَاتِ الْإِنْسَانِ. وَمَحْمَلُ هَذَا الْأَمْرِ عَلَى مُلَازَمَةِ بُيُوتِهِنَّ فِيمَا عَدَا مَا يُضْطَرُّ فِيهِ الْخُرُوجُ مِثْلَ مَوْتِ الْأَبَوَيْنِ. وَقَدْ خَرَجَتْ عَائِشَةُ إِلَى بَيت أَبِيهَا أَبِي بَكْرٍ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُهُ مَعَهَا فِي عَطِيَّتِهِ الَّتِي كَانَ أَعْطَاهَا مِنْ ثَمَرَةِ نَخْلَةٍ وَقَوْلُهُ لَهَا:
«وَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْمَ مَالُ وَارِثٍ» رَوَاهُ فِي «الْمُوَطَّأِ». وَكُنَّ يَخْرُجْنَ لِلْحَجِّ وَفِي بَعْضِ الْغَزَوَاتِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَن مقرّ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَسْفَارِهِ قَائِمٌ مَقَامَ بُيُوتِهِ فِي الْحَضَرِ، وَأَبَتْ سَوْدَةُ أَنْ تَخْرُجَ إِلَى الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يُفِيدُ إِطْلَاقَ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ.
وَلِذَلِكَ لَمَّا مَاتَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ أَمَرَتْ عَائِشَةُ أَنْ يُمَرَّ عَلَيْهَا بِجِنَازَتِهِ فِي الْمَسْجِدِ لِتَدْعُوَ لَهُ، أَيْ لِتُصَلِّيَ عَلَيْهِ. رَوَاهُ فِي «الْمُوَطَّأِ».
وَقَدْ أَشْكَلَ عَلَى النَّاسِ خُرُوجُ عَائِشَةَ إِلَى الْبَصْرَةِ فِي الْفِتْنَةِ الَّتِي تُدْعَى: وَقْعَةُ الْجَمَلِ، فَلَمْ يُغَيِّرْ عَلَيْهَا ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ جِلَّةِ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ. وَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهَا بَعْضُهُمْ مِثْلَ: عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَلِكُلٍّ نَظَرٌ فِي الِاجْتِهَادِ. وَالَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ مِثْلَ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْهَا عَنِ اجْتِهَادٍ فَإِنَّهَا رَأَتْ أَنَّ فِي خُرُوجِهَا
إِلَى الْبَصْرَةِ مَصْلَحَةً لِلْمُسْلِمِينَ لِتَسْعَى بَيْنَ فَرِيقَيِ الْفِتْنَةِ
وَ (إِلَيْهِمْ) مُتَعَلِّقٌ بِ يَرْجِعُونَ وتقديمه على مُتَعَلِّقِهِ لِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ.
وَضَمِيرُ إِلَيْهِمْ عَائِد إِلَى الْعِبادِ [يس: ٣٠]، وَضَمِيرُ أَنَّهُمْ عَائِدٌ إِلَى الْقُرُونِ.
[٣٢]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ٣٢]
وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٣٢)
أَرَى أَنَّ عَطْفَهُ عَلَى جُمْلَةِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ [يس: ٣١] وَاقِعٌ مَوْقِعَ الِاحْتِرَاسِ مِنْ تَوَهُّمِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ أَنَّ قَوْلَهُ: أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ مُؤَيِّدٌ اعْتِقَادَهُمُ انْتِفَاءَ الْبَعْثِ.
وإِنْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُخَفَّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ وَالْأَفْصَحُ إِهْمَالُهَا عَنِ الْعَمَلِ فِيمَا بَعْدَهَا، وَالْأَكْثَرُ أَنْ يَقْتَرِنَ خبر الِاسْم بعْدهَا بِلَامٍ تُسَمَّى اللَّامَ الْفَارِقَةَ لِأَنَّهَا تُفَرِّقُ بَيْنَ إِنْ الْمُخَفَّفَةِ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَبَيْنَ إِنْ النَّافِيَةِ لِئَلَّا يَلْتَبِسَ الْخَبَرُ الْمُؤَكَّدُ بِالْخَبَرِ الْمَنْفِيِّ فَيُنَاقِضَ مَقْصِدَ الْمُتَكَلِّمِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ قَوْلُهُ: لَمَّا مُخَفَّفُ الْمِيمِ كَمَا قَرَأَ الْجُمْهُورُ لَمَّا جَمِيعٌ بتَخْفِيف مِيم لَمَّا، فَهِيَ مُرَكَّبَةٌ مِنَ اللَّام الفارقة و (مَا) الزَّائِدَةِ لِلتَّأْكِيدِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ إِنْ نَافِيَةً بِمَعْنَى (لَا) وَيَكُونُ لَمَّا بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ عَلَى أَنَّهَا حَرْفُ اسْتِثْنَاءٍ بِمَعْنَى (إِلَّا) تَقَعُ بَعْدَ النَّفْيِ وَنَحْوِهِ كَالْقَسَمِ. وَكَذَلِكَ قَرَأَ ابْن عَامر وَعَاصِم وَحَمْزَةُ وَأَبُو جَعْفَرٍ.
وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا كُلُّهُمْ إِلَّا مُحْضَرُونَ لَدَيْنَا.
وكُلٌّ مُبْتَدَأٌ وَتَنْوِينُهُ تَنْوِينُ الْعِوَضِ عَمَّا أُضِيفَ إِلَيْهِ (كُلٌّ)، أَيْ كُلُّ الْقُرُونِ، أَوْ كُلُّ الْمَذْكُورِينَ مِنَ الْقُرُونِ وَالْمُخَاطَبِينَ.
وجَمِيعٌ اسْمٌ عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ، أَيْ مَجْمُوعٌ، وَهُوَ ضِدُّ الْمُتَفَرِّقِ. يُقَالُ: جَمْعُ أَشْيَاءَ كَذَا، إِذَا جَعَلَهَا مُتَقَارِبَةً مُتَّصِلَةً بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مُشَتَّتَةً وَمُتَبَاعِدَةً.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ كُلَّ الْقُرُونِ مُحْضَرُونَ لَدَيْنَا مُجْتَمِعِينَ، أَيْ لَيْسَ إِحْضَارُهُمْ فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ وَلَا فِي أَمْكِنَةٍ مُتَعَدِّدَةٍ فَكَلِمَةُ كُلٌّ أَفَادَتْ أَنَّ الْإِحْضَارَ مُحِيطٌ بِهِمْ بِحَيْثُ لَا يَنْفَلِتُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ، وَكَلِمَةُ جَمِيعٌ أَفَادَتْ أَنَّهُمْ مُحْضَرُونَ مُجْتَمِعِينَ فَلَيْسَتْ إِحْدَى الْكَلِمَتَيْنِ بِمُغْنِيَّةٍ عَنْ ذِكْرِ الْأُخْرَى، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قِيلَ: وَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَمَّا
غَرَضًا بَعْدِيَ فَمَنْ أَحَبَّهُمْ فَبِحُبِّي أَحَبَّهُمْ وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهُمْ وَمَنْ آذَاهُمْ فَقَدْ آذَانِي وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللَّهَ وَمَنْ آذَى اللَّهَ فَيُوشِكُ أَنْ يَأْخُذَهُ»
. وَقَدْ أَوْصَى أَيِمَّةُ سَلَفِنَا الصَّالِحِ أَنْ لَا يذكر أحد مِنْ أَصْحَابِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا بِأَحْسَنِ ذِكْرٍ، وَبِالْإِمْسَاكِ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَهُمْ، وَأَنَّهُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِأَنْ يُلْتَمَسَ لَهُمْ أَحْسَنُ الْمَخَارِجِ فِيمَا جَرَى بَيْنَ بَعْضِهِمْ، وَيُظَنَّ بِهِمْ أَحْسَنُ الْمَذَاهِبِ، وَلِذَلِكَ اتَّفَقَ السَّلَفُ عَلَى تَفْسِيقِ ابْنِ الْأَشْتَرِ النَّخَعِيِّ وَمَنْ لَفَّ لَفَّهُ مِنَ الثُّوَّارِ الَّذِينَ جَاءُوا مِنْ مِصْرَ إِلَى الْمَدِينَةِ لِخَلْعِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ أَصْحَابَ الْجَمَلِ وَأَصْحَابَ صِفِّينَ كَانُوا مُتَنَازِعِينَ عَنِ اجْتِهَادٍ وَمَا دَفَعَهُمْ عَلَيْهِ إِلَّا السَّعْيُ لِصَلَاحِ الْإِسْلَامِ وَالذَّبِّ عَنْ جَامِعَتِهِ مِنْ أَنْ تَتَسَرَّبَ إِلَيْهَا الْفُرْقَةُ وَالِاخْتِلَالُ، فَإِنَّهُمْ جَمِيعًا قُدْوَتُنَا وَوَاسِطَةُ تَبْلِيغِ الشَّرِيعَةِ إِلَيْنَا، وَالطَّعْنُ فِي بَعْضِهِمْ يُفْضِي إِلَى مَخَاوِفَ فِي الدِّينِ، وَلِذَلِكَ أَثْبَتَ عُلَمَاؤُنَا عَدَالَةَ جَمِيعِ أَصْحَابِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَإِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي مَوْضِعِ الْإِضْمَارِ بِضَمِيرِ رَبِّهِمْ فِي قَوْلِهِ: لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ لِزِيَادَةِ تَمَكُّنِ الْإِخْبَارِ بِتَكْفِيرِ سَيِّئَاتِهِمْ تَمْكِينًا لِاطْمِئْنَانِ نُفُوسِهِمْ بِوَعْدِ رَبِّهِمْ.
وَعُطِفَ عَلَى الْفِعْلِ الْمَجْعُولِ عِلَّةً أَوْلَى فِعْلٌ هُوَ عِلَّةٌ ثَانِيَةٌ وَهُوَ: وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ. وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّعْلِيلِ لِلْوَعْدِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: لَهُمْ مَا يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ.
وَالْبِنَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ لِلسَّبَبِيَّةِ وَهِيَ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ صِفَةٌ لِ أَجْرَهُمْ وَلَيْسَتْ مُتَعَلِّقَةً بِفِعْلِ يَجْزِيَهُمْ، أَيْ يَجْزِيَهِمْ أَجْرًا عَلَى أَحْسَنِ أَعْمَالِهِمْ. وَإِذَا كَانَ الْجَزَاءُ عَلَى الْعَمَل الْأَحْسَن بهَا الْوَعْدِ وَهُوَ لَهُمْ مَا يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ يُجَازُونَ عَلَى مَا هُوَ دُونَ الْأَحْسَنِ مِنْ مَحَاسِنِ أَعْمَالِهِمْ، بِدَلَالَةِ إِيذَانِ وَصْفِ «الْأَحْسَنِ» بِأَنَّ عِلَّةَ الْجَزَاءِ هِيَ الْأَحْسَنِيَّةُ وَهِيَ تَتَضَمَّنُ أَنَّ لِمَعْنَى الْحُسْنِ تَأْثِيرًا فِي الْجَزَاءِ فَإِذَا كَانَ جَزَاءُ أَحْسَنِ أَعْمَالِهِمْ أَنَّ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ كَانَ جَزَاءُ مَا هُوَ دُونَ الْأَحْسَنِ مِنْ أَعْمَالِهِمْ جَزَاءً دُونَ ذَلِكَ بِأَنْ يُجَازُوا بِزِيَادَةٍ وَتَنْفِيلٍ عَلَى مَا اسْتَحَقُّوهُ عَلَى أَحْسَنِ أَعْمَالِهِمْ بِزِيَادَةِ تَنَعُّمٍ أَوْ كَرَامَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.
وَقَدْ جَاءَتْ تَرْبِيَةُ الشَّرِيعَةِ لِلْأُمَّةِ عَلَى ذَمِّ الْقُنُوطِ، قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ [الْحجر: ٥٦]،
وَفِي الْحَدِيثِ «انْتِظَارُ الْفَرَجِ بَعْدَ الشِّدَّةِ عِبَادَةٌ»
. فَالْآيَةُ وَصَفَتْ خُلُقَيْنِ ذَمِيمَيْنِ: أَحَدُهُمَا خُلُقُ الْبَطَرِ بِالنِّعْمَةِ وَالْغَفْلَةِ عَنْ شُكْرِ اللَّهِ عَلَيْهَا. وَثَانِيهِمَا الْيَأْسُ مِنْ رُجُوعِ النِّعْمَةِ عِنْدَ فَقْدِهَا. وَفِي نَظْمِ الْآيَةِ لَطَائِفُ مِنَ الْبَلَاغَةِ:
الْأُولَى: التَّعْبِيرُ عَنْ دَوَامِ طَلَبِ النِّعْمَةِ بِعَدَمِ السَّآمَةِ كَمَا عَلِمْتَهُ.
الثَّانِيَةُ: التَّعْبِيرُ عَنْ مَحَبَّةِ الْخَيْرِ بِدُعَاءِ الْخَيْرِ.
الثَّالِثَةُ: التَّعْبِيرُ عَنْ إِضَافَةِ الضُّرِّ بِالْمَسِّ الَّذِي هُوَ أَضْعَف إحساس الْإِصَابَة قَالَ تَعَالَى: لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ [الزمر: ٦١].
الرَّابِعَةُ: اقْتِرَانُ شَرْطِ مَسِّ الشَّرِّ بِ إِنْ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَدْخُلَ عَلَى النَّادِرِ وُقُوعُهُ فَإِنَّ إِصَابَةَ الشَّرِّ الْإِنْسَانَ نَادِرَةٌ بِالنِّسْبَةِ لِمَا هُوَ مَغْمُورٌ بِهِ مِنَ النِّعَمِ.
الْخَامِسَةُ: صِيغَةُ الْمُبَالغَة فِي فَيَؤُسٌ.
السّادسة: إتباع يؤس بِ قَنُوطٌ الَّذِي هُوَ تَجَاوُزُ إِحْسَاسِ الْيَأْسِ إِلَى ظَاهِرِ الْبَدَنِ بِالِانْكِسَارِ، وَهُوَ مِنْ شِدَّةِ يَأْسِهِ، فَحَصَلَتْ مُبَالَغَتَانِ فِي التَّعْبِيرِ عَنْ يَأْسِهِ بِأَنَّهُ اعْتِقَادٌ فِي ضَمِيرِهِ وَانْفِعَالٌ فِي سَحَنَاتِهِ. فَالْمُشْرِكُ يَتَأَصَّلُ فِيهِ هَذَا الْخُلُقُ وَيَتَزَايَدُ بِاسْتِمْرَارِ الزَّمَانِ.
وَالْمُؤْمِنُ لَا تَزَالُ تَرْبِيَةُ الْإِيمَانِ تَكُفُّهُ عَنْ هَذَا الْخُلُقِ حَتَّى يَزُولَ مِنْهُ أَوْ يَكَادَ.
ثُمَّ بَيَّنَتِ الْآيَةُ خُلُقًا آخَرَ فِي الْإِنْسَانِ وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا زَالَ عَنْهُ كَرْبُهُ وَعَادَتْ إِلَيْهِ النِّعْمَةُ نَسِيَ مَا كَانَ فِيهِ مِنَ الشِّدَّةِ وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِي لُطْفِ اللَّهِ بِهِ فَبَطِرَ النِّعْمَةَ، وَقَالَ: قَدِ اسْتَرْجَعْتُ خَيْرَاتِي بِحِيلَتِي وَتَدْبِيرِي، وَهَذَا الْخَيْرُ حَقٌّ لِي حَصُلْتُ عَلَيْهِ، ثُمَّ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ وَهُمُ الْمُتَحَدَّثُ عَنْهُمْ تَرَاهُ إِذَا سَمِعَ إنذار النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِيَامِ السَّاعَةِ أَوْ هَجَسَ فِي نَفْسِهِ هَاجِسُ عَاقِبَةِ هَذِهِ الْحَيَاةِ قَالَ لِمَنْ يَدْعُوهُ إِلَى الْعَمَلِ لِيَوْمِ
الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ، وَإِمَّا عَدَمُ ذِكْرِهَا الْبَتَّةَ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ ذَلِكَ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ.
وَالْإِتْيَانُ مُسْتَعَارٌ لِلْإِحْضَارِ وَلَوْ كَانَ فِي مَجْلِسِهِمْ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْله تَعَالَى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٣].
وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِ هَذَا إِلَى الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ حَاضِرٌ فِي أَذْهَانِ أَصْحَابِ الْمُحَاجَّةِ فَإِنَّهُ يُقْرَأُ عَلَيْهِمْ مُعَاوَدَةً. وَوَجْهُ تَخْصِيصِ الْكِتَابِ بِوَصْفِ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبْلِ الْقُرْآنِ لِيَسُدَّ عَلَيْهِمْ بَابَ الْمُعَارَضَةِ بِأَنْ يَأْتُوا بِكِتَابٍ يُصْنَعُ لَهُمْ، كَمَا قَالُوا: لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ
هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الْأَنْفَال: ٣١].
وأَثارَةٍ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ: الْبَقِيَّةُ مِنَ الشَّيْءِ. وَالْمَعْنَى: أَوْ بَقِيَّةٌ بَقِيَتْ عِنْدَكُمْ تَرْوُونَهَا عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ السَّابِقِينَ غَيْرُ مَسْطُورَةٍ فِي الْكُتُبِ. وَهَذَا تَوْسِيعٌ عَلَيْهِمْ فِي أَنْوَاعِ الْحُجَّةِ لِيَكُونَ عَجْزُهُمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَقْطَعَ لِدَعْوَاهُمْ. وَفِي قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ إِلْهَابٌ وَإِفْحَامٌ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ غَيْرُ آتِينَ بِحُجَّةٍ لَا مِنْ جَانِبِ الْعَقْلِ وَلَا مِنْ جَانِبِ النَّقْلِ الْمَسْطُورِ أَوِ الْمَأْثُورِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْقَصَصِ [٥٠] فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ.
[٥، ٦]
[سُورَة الْأَحْقَاف (٤٦) : الْآيَات ٥ إِلَى ٦]
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (٥) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (٦)
اعْتِرَاضٌ فِي أَثْنَاءِ تَلْقِينِ الِاحْتِجَاجِ، فَلَمَّا أَمَرِ اللَّهُ تَعَالَى رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُحَاجَّهُمْ بِالدَّلِيلِ وَجَّهَ الْخِطَابَ إِلَيْهِ تَعْجِيبًا مِنْ حَالِهِمْ وَضَلَالِهِمْ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً
إِلَخْ لَا يُنَاسِبُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ.
ومَنْ اسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارٌ وَتَعْجِيبٌ. وَالْمعْنَى: لَا أحد أَشَدُّ ضَلَالًا وَأَعْجَبُ حَالًا مِمَّنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ دُعَاءَهُ فَهُوَ أَقْصَى حَدٍّ مِنَ الضَّلَالَةِ.
دَعْوَةِ رَسُولِهِمْ مُتَكَبِّرِينَ عَلَيْهِ، مُكَابِرِينَ فِي دَلَائِلِ صِدْقِهِ، فَيُوشِكُ أَنْ يَحُلَّ بِهِمْ مِنْ مِثْلِ مَا حَلَّ بِفِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، لِأَنَّ مَا جَازَ عَلَى الْمِثْلِ يجوز على الممائل، وَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَقُولُونَ: إِنَّ أَبَا جَهْلِ فِرْعَوْنُ هَذِه الْأمة.
[٤١- ٤٢]
[سُورَة الذاريات (٥١) : الْآيَات ٤١ إِلَى ٤٢]
وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (٤١) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (٤٢)
نَظْمُ هَذِهِ الْآيَةِ مِثْلُ نَظْمِ قَوْلِهِ: وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ [الذاريات: ٣٨] انْتَقَلَ إِلَى الْعِبْرَةِ بِأُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ الْعَرَبِيَّةِ وَهُمْ عَادٌ وَهُمْ أَشْهَرُ الْعَرَبِ الْبَائِدَةِ.
والرِّيحَ الْعَقِيمَ هِيَ: الْخَلِيَّةُ مِنَ الْمَنَافِعِ الَّتِي تُرْجَى لَهَا الرِّيَاحُ مِنْ إِثَارَةِ السَّحَابِ وَسَوْقِهِ، وَمِنْ إِلْقَاحِ الْأَشْجَارِ بِنَقْلِ غُبْرَةِ الذَّكَرِ مِنْ ثِمَارٍ إِلَى الْإِنَاثِ مِنْ أَشْجَارِهَا، أَيْ الرِّيحُ الَّتِي لَا نَفْعَ فِيهَا، أَيْ هِيَ ضَارَّةٌ. وَهَذَا الْوَصْفُ لِمَا كَانَ مُشْتَقًّا مِمَّا هُوَ مِنْ خَصَائِصِ الْإِنَاثِ كَانَ مُسْتَغْنِيًا عَنْ لِحَاقِ هَاءِ التَّأْنِيثِ لِأَنَّهَا يُؤْتَى بِهَا لِلْفَرْقِ بَيْنَ الصِّنْفَيْنِ. وَالْعَرَبُ يَكْرَهُونَ الْعُقْمَ فِي مَوَاشِيهِمْ، أَيْ رِيحٌ كَالنَّاقَةِ الْعَقِيمِ لَا تُثْمِرُ نَسْلًا وَلَا دَرًّا، فَوَصْفُ الرِّيحِ بِالْعَقِيمِ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ فِي الشُّؤْمِ، قَالَ تَعَالَى: أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ [الْحَج: ٥٥].
وَجُمْلَةُ مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ صفة ثَانِيَة، أَو حَال، فَهُوَ ارْتِقَاءٌ فِي مَضَرَّةِ هَذَا الرِّيحِ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُ وَأَنَّهُ يَضُرُّ أَضْرَارًا عَظِيمَةً.
وَصِيغَ تَذَرُ: بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ الْعَجِيبَةِ. وشَيْءٍ فِي مَعْنَى الْمَفْعُولِ لِ تَذَرُ فَإِنَّ (مِنْ) لِتَأَكِيدِ النَّفْيِ والنكرة المجرورة ب (من) هَذِهِ نَصٌّ فِي نَفْيِ الْجِنْسِ وَلِذَلِكَ كَانَتْ عَامَّةً، إِلَّا أَنَّ هَذَا الْعُمُومَ مُخَصَّصٌ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ لِأَنَّ الرِّيحَ إِنَّمَا تُبْلِي الْأَشْيَاءَ الَّتِي تَمُرُّ عَلَيْهَا إِذَا كَانَ شَأْنُهَا أَنْ يَتَطَرَّقَ إِلَيْهَا الْبِلَى، فَإِنَّ الرِّيحَ لَا تُبْلِي الْجِبَالَ وَلَا الْبِحَارَ وَلَا الْأَوْدِيَةَ وَهِيَ تَمُرُّ عَلَيْهَا وَإِنَّمَا تُبْلِي الدِّيَارَ وَالْأَشْجَارَ وَالنَّاسَ وَالْبَهَائِمَ، وَمِثْلُهُ
قَوْلُهُ تَعَالَى: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها [الْأَحْقَاف: ٢٥].
مَا يُسْتَعْمَلُ فِي النَّحْتِ وَلَيْسَ هُوَ من التحت لِأَنَّ النَّحْتَ يَشْتَمِلُ عَلَى حُرُوفٍ مِنْ عِدَّةِ كَلِمَاتٍ.
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ وَأَهْلُ اللُّغَةِ: كَانَ الظِّهَارُ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَقْتَضِي تَأْبِيدَ التَّحْرِيمِ.
وَأَحْسَبُ أَنَّهُ كَانَ طَلَاقًا عِنْدَ أَهْلِ يَثْرِبَ وَمَا حَوْلَهَا لِكَثْرَةِ مُخَالَطَتِهِمُ الْيَهُودَ وَلَا أَحْسَبُ أَنَّهُ كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ الْعَرَبِ فِي مَكَّةَ وَتِهَامَةَ وَنَجْدٍ وَغَيْرِهَا وَلَمْ أَقِفْ عَلَى ذَلِكَ فِي كَلَامِهِمْ. وَحَسْبُكَ أَنْ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِي الْمَدَنِيِّ هُنَا وَفِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ.
وَالَّذِي يَلُوحُ لِي أَنَّ أَهْلَ يَثْرِبَ ابْتَدَعُوا هَذِهِ الصِّيغَةَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّحْرِيمِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ الْإِسْلَامِ مُمْتَزِجِينَ بِالْيَهُودِ مُتَخَلِّقِينَ بِعَوَائِدِهِمْ، وَكَانَ الْيَهُودُ يَمْنَعُونَ أَنْ يَأْتِيَ الرَّجُلَ امْرَأَتَهُ مِنْ جِهَةِ خَلْفِهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٢٣]. فَلِذَلِكَ جَاءَ فِي هَذِهِ الصِّيغَةِ لَفْظُ الظَّهْرِ، فَجَمَعُوا فِي هَذِهِ الصِّيغَةِ تَغْلِيظًا مِنَ التَّحْرِيمِ وَهِيَ أَنَّهَا كَأُمِّهِ، بَلْ كَظَهْرِ أُمِّهِ. فَجَاءَتْ صِيغَةً شَنِيعَةً فَظِيعَةً.
وَأَخَذُوا مِنْ صِيغَةِ «أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي» أَصْرَحَ أَلْفَاظِهَا وَأَخَصَّهَا بِغَرَضِهَا وَهُوَ لَفْظُ «ظَهْرٍ» فَاشْتَقُّوا مِنْهُ الْفِعْلَ بزنات مُتعَدِّدَة، يَقُولُونَ: ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ، وَظَهَّرَ مِثْلَ ضَاعَفَ وَضَعَّفَ، وَيُدْخِلُونَ عَلَيْهِمَا تَاءَ الْمُطَاوَعَةِ، فَيَقُولُونَ: تَظَاهَرَ مِنْهَا وَتَظَهَّرَ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ
قَبِيلِ النَّحْتِ نَحْوَ: بَسْمَلَ، وَهَلَّلَ، لِعَدَمِ وُجُودِ حَرْفٍ مِنَ الْكَلِمَاتِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْجُمْلَةِ كُلِّهَا.
وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: مِنْكُمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ، فَيَكُونُ ذِكْرُ هَذَا الْوَصْفِ لِلتَّعْمِيمِ بَيَانًا لِمَدْلُولِ الصِّلَةِ مِنْ قَوْلِهِ: الَّذِينَ يُظاهِرُونَ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ إِرَادَة معيّن بالصلة.
وَمن بَيَانِيَّةٌ كَشَأْنِهَا بَعْدَ الْأَسْمَاءِ الْمُبْهَمَةِ فَعَلِمَ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ تَشْرِيعٌ عَامٌّ لِكُلِّ مُظَاهِرٍ. وَلَيْسَ خُصُوصِيَّةً لِخَوْلَةَ وَلَا لِأَمْثَالِهَا مِنَ النِّسَاءِ ذَوَاتِ الْخَصَاصَةِ وَكَثْرَةِ الْأَوْلَادِ.
وَأَمَّا مِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ نِسائِهِمْ فَابْتِدَائِيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِ يُظاهِرُونَ لِتَضَمُّنِهِ
وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ فِي [سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: ٢٦].
والْمُلْكُ بِضَمِّ الْمِيمِ: اسْمٌ لِأَكْمَلِ أَحْوَالِ الْمِلْكِ بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَالْمِلْكُ بِالْكَسْرِ جِنْسٌ لِلْمُلْكِ بِالضَّمِّ، وَفُسِّرَ الْمُلْكُ الْمَضْمُومُ بِضَبْطِ الشَّيْءِ الْمُتَصَرَّفِ فِيهِ بِالْحُكْمِ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ قَاصِرٌ، وَأَرَى أَنْ يُفَسَّرَ بِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي طَائِفَةٍ مِنَ النَّاسِ وَوَطَنِهِمْ تَصَرُّفًا كَامِلًا بِتَدْبِيرٍ وَرِعَايَةٍ، فَكُلُّ مُلْكٍ (بِالضَّمِّ) مِلْكٌ (بِالْكَسْرِ) وَلَيْسَ كُلُّ مِلْكٍ مُلْكًا.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْله: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ فِي [الْفَاتِحَةِ: ٤] وَعِنْدَ قَوْلِهِ: أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا فِي [سُورَةِ الْبَقَرَةِ: ٢٤٧]، وَجُمْلَةِ: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: بِيَدِهِ الْمُلْكُ الَّتِي هِيَ صِلَةُ الْمَوْصُولِ وَهِيَ تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ لِتَكْمِيلِ الْمَقْصُودِ مِنَ الصِّلَةِ، إِذْ أَفَادَتِ الصِّلَةُ عُمُومَ تَصَرُّفِهِ فِي الْمَوْجُودَاتِ، وَأَفَادَتْ هَذِهِ عُمُومَ تَصَرُّفِهِ فِي الْمَوْجُودَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ بِالْإِعْدَامِ لِلْمَوْجُودَاتِ وَالْإِيجَادِ لِلْمَعْدُومَاتِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مُفِيدًا مَعْنًى آخَرَ غَيْرَ مَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ: بِيَدِهِ الْمُلْكُ تَفَادِيًا مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ تَأْكِيدًا لِمَعْنَى بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَتَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَتْمِيمًا لِلصِّلَةِ. وَفِي مَعْنَى صِلَةٍ ثَانِيَةٍ ثُمَّ عُطِفَتْ وَلَمْ يُكَرَّرْ فِيهَا اسْمٌ مَوْصُولٌ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ [الْملك: ٢] وَقَوْلِهِ: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ [الْملك: ٣].
وشَيْءٍ مَا يَصِحُّ أَنْ يُعْلَمَ وَيُخْبَرَ عَنْهُ، وَهَذَا هُوَ الْإِطْلَاقُ الْأَصْلِيُّ فِي اللُّغَةِ. وَقَدْ يُطْلَقُ (الشَّيْءُ) عَلَى خُصُوصِ الْمَوْجُودِ بِحَسَبِ دَلَالَةِ الْقَرَائِنِ وَالْمَقَامَاتِ. وَأَمَّا الْتِزَامُ
الْأَشَاعِرَةِ: أَنَّ الشَّيْءَ لَا يُطْلَقُ إِلَّا عَلَى الْمَوْجُودِ فَهُوَ الْتِزَامُ مَا لَا يَلْزَمُ دَعَا إِلَيْهِ سَدُّ بَابِ الْحِجَاجِ مَعَ الْمُعْتَزِلَةِ فِي أَنَّ الْوُجُودَ عَيْنُ الْمَوْجُودِ أَوْ زَائِدٌ عَلَى الْمَوْجُودِ، فَتَفَرَّعَتْ عَلَيْهِ مَسْأَلَةٌ: أَنَّ الْمَعْدُومَ شَيْءٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَنَّ الشَّيْءَ لَا يُطْلَقُ إِلَّا عَلَى الْمَوْجُودِ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ وَبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ لَا طَائِلَ تَحْتَهَا، وَالْخِلَافُ فِيهَا لَفْظِيٌّ، وَالْحَقُّ أَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْاِصْطِلَاحِ فِي مَسَائِلِ عِلْمِ الْكَلَامِ لَا عَلَى تَحْقِيقِ الْمَعْنَى فِي اللُّغَةِ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ: عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لِلِاهْتِمَامِ بِمَا فِيهِ مِنَ التَّعْمِيمِ، وَلِإِبْطَالِ دَعْوَى الْمُشْرِكِينَ نِسْبَتَهُمُ الْإِلَهِيَّةِ لِأَصْنَامِهِمْ مَعَ اعترافهم بِأَنَّهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا عَلَى الْإِحْيَاء والإماتة.
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ [سبأ: ٧- ٨]، وَمِنْهُمْ مَنْ يَشُكُّونَ فِيهِ كَالَّذِينَ حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ [الجاثية: ٣٢] عَلَى أَحَدِ التَّفْسِيرَيْنِ.
وَجِيءَ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ فِي صِلَةِ الْمَوْصُولِ دُونَ أَنْ يَقُولَ: الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، لِتُفِيدَ الْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي أَمْرِ هَذَا النَّبَأِ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُمْ وَدَائِمٌ فِيهِمْ لِدِلَالَةِ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ عَلَى الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ.
وَتَقْدِيمُ عَنْهُ على مُعْرِضُونَ [ص: ٦٨] لِلِاهْتِمَامِ بِالْمَجْرُورِ وَلِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ الِاخْتِلَافَ مَا كَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ، مَعَ مَا فِي التَّقْدِيمِ مِنَ الرِّعَايَةِ على الفاصلة.
[٤]
[سُورَة النبإ (٧٨) : آيَة ٤]
كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (٤)
كَلَّا حَرْفُ رَدْعٍ وَإِبْطَالٍ لِشَيْءٍ يَسْبِقُهُ غَالِبًا فِي الْكَلَامِ يَقْتَضِي رَدْعَ الْمَنْسُوبِ إِلَيْهِ وَإِبْطَالَ مَا نُسِبَ إِلَيْهِ، وَهُوَ هُنَا رَدْعٌ لِلَّذِينَ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ عَلَى مَا يَحْتَمِلُهُ التَّسَاؤُلُ مِنَ الْمَعَانِي الْمُتَقَدِّمَةِ، وَإِبْطَالٌ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ جملَة يَتَساءَلُونَ [النبأ:
١] مِنْ تَسَاؤُلٍ مَعْلُومٍ لِلسَّامِعِينَ.
فَمَوْقِعُ الْجُمْلَةِ مَوْقِعُ الْجَوَابِ عَنِ السُّؤَالِ وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ وَلَمْ تُعْطَفْ لِأَنَّ ذَلِكَ طَرِيقَةُ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ.
وَالْكَلَامُ وَإِنْ كَانَ إِخْبَارًا عَنْهُمْ فَإِنَّهُمُ الْمَقْصُودُونَ بِهِ فَالرَّدْعُ مُوَجَّهٌ إِلَيْهِمْ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ.
وَالْمَعْنَى: إِبْطَالُ الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ النَّبَأِ وَإِنْكَارُ التَّسَاؤُلِ عَنْهُ ذَلِكَ التَّسَاؤُلُ الَّذِي أَرَادُوا بِهِ الِاسْتِهْزَاءَ وَإِنْكَارَ الْوُقُوعِ، وَذَلِكَ يُثْبِتُ وُقُوعَ مَا جَاءَ بِهِ النَّبَأُ وَأَنَّهُ حَقٌّ لِأَنَّ إِبْطَالَ إِنْكَارِ وُقُوعِهِ يُفْضِي إِلَى إِثْبَاتِ وُقُوعِهِ.
وَالْغَالِبُ فِي اسْتِعْمَالِ كَلَّا أَنْ تُعَقَّبَ بِكَلَامٍ يُبَيِّنُ مَا أَجْمَلَتْهُ مِنَ الرَّدْعِ وَالْإِبْطَالِ فَلِذَلِكَ عُقِّبَتْ هُنَا بِقَوْلِهِ: سَيَعْلَمُونَ وَهُوَ زِيَادَةٌ فِي إِبْطَالِ كَلَامِهِمْ بِتَحْقِيقِ أَنَّهُمْ سَيُوقِنُونَ بِوُقُوعِهِ وَيُعَاقَبُونَ عَلَى إِنْكَارِهِ، فَهُمَا عِلْمَانِ يَحْصُلَانِ لَهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ: عِلْمٌ بِحَقِّ وُقُوعِ الْبَعْثِ، وَعِلْمٌ فِي الْعِقَابِ عَلَيْهِ.