وَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ وَالْمَعْنَى الْمَنْقُولِ إِلَيْهِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَطْوِيلٍ.
وَمَوْضُوعُ التَّفْسِيرِ: أَلْفَاظُ الْقُرْآنِ مِنْ حَيْثُ الْبَحْثِ عَنْ مَعَانِيهِ وَمَا يُسْتَنْبَطُ مِنْهُ، وَبِهَذِهِ
الْحَيْثِيَّةِ خَالَفَ عِلْمَ الْقِرَاءَاتِ لِأَنَّ تَمَايُزَ الْعُلُومِ- كَمَا يَقُولُونَ- بِتَمَايُزِ الْمَوْضُوعَاتِ وَحَيْثِيَّاتِ الْمَوْضُوعَاتِ.
هَذَا وَفِي عَدِّ التَّفْسِيرِ عِلْمًا تَسَامُحٌ إِذِ الْعِلْمُ إِذَا أُطْلِقَ، إِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ نَفْسُ الْإِدْرَاكِ، نَحْوَ قَوْلِ أَهْلِ الْمَنْطِقِ: الْعِلْمُ إِمَّا تَصَوُّرٌ وَإِمَّا تَصْدِيقٌ، وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَلَكَةُ الْمُسَمَّاةُ بِالْعَقْلِ وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ التَّصْدِيقُ الْجَازِمُ وَهُوَ مُقَابِلُ الْجَهْلِ، وَهَذَا غَيْرُ مُرَادٍ فِي عَدِّ الْعُلُومِ، وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِالْعِلْمِ الْمَسَائِلُ الْمَعْلُومَاتُ وَهِيَ مَطْلُوبَاتٌ خَبَرِيَّةٌ يُبَرْهَنُ عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ الْعِلْمِ وَهِيَ قَضَايَا كُلِّيَّةٌ، وَمَبَاحِثُ هَذَا الْعِلْمِ لَيْسَتْ بِقَضَايَا يُبَرْهَنُ عَلَيْهَا فَمَا هِيَ بِكُلِّيَّةٍ، بَلْ هِيَ تَصَوُّرَاتٌ جُزْئِيَّةٌ غَالِبًا لِأَنَّهُ تَفْسِيرُ أَلْفَاظٍ أَوِ اسْتِنْبَاطُ مَعَانٍ. فَأَمَّا تَفْسِيرُ الْأَلْفَاظِ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّعْرِيفِ اللَّفْظِيِّ وَأَمَّا الِاسْتِنْبَاطُ فَمِنْ دَلَالَةِ الِالْتِزَامِ وَلَيْسَ مِنَ الْقَضِيَّةِ.
فَإِذَا قُلْنَا إِنَّ يَوْمَ الدِّينِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَلِكِ يَوْم الدَّين [الْفَاتِحَة: ٤] هُوَ يَوْمُ الْجَزَاءِ، وَإِذَا قُلْنَا إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً [الْأَحْقَاف: ١٥] مَعَ قَوْلِهِ: وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ [لُقْمَان: ١٤] يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ أَقَلَّ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ عِنْدَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ قَضِيَّةً، بَلِ الْأَوَّلُ تَعْرِيفٌ لَفْظِيٌّ،
وَالثَّانِي مِنْ دَلَالَةِ الِالْتِزَامِ وَلَكِنَّهُمْ عَدُّوا تَفْسِيرَ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ عِلْمًا مُسْتَقِلًّا أَرَاهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ لِوَاحِدٍ مِنْ وُجُوهٍ سِتَّةٍ:
الْأَوَّلُ:
أَنَّ مَبَاحِثَهُ لِكَوْنِهَا تُؤَدِّي إِلَى اسْتِنْبَاطِ عُلُومٍ كَثِيرَةٍ وَقَوَاعِدَ كُلِّيَّةٍ، نَزَلَتْ مَنْزِلَةَ الْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ لِأَنَّهَا مَبْدَأٌ لَهَا وَمَنْشَأٌ، تَنْزِيلًا لِلشَّيْءِ مَنْزِلَةَ مَا هُوَ شَدِيدُ الشَّبَهِ بِهِ بِقَاعِدَةِ مَا قَارَبَ الشَّيْءَ يُعْطَى حُكْمَهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا تُسْتَخْرَجُ مِنْهُ الْقَوَاعِدُ الْكُلِّيَّةُ وَالْعُلُومُ أَجْدَرُ بِأَنْ يُعَدَّ عِلْمًا مِنْ عِدِّ فَرُوعِهِ عِلْمًا، وَهُمْ قَدْ عَدُّوا تَدْوِينَ الشِّعْرِ عِلْمًا لِمَا فِي حِفْظِهِ مِنِ اسْتِخْرَاجِ نُكَتٍ بَلَاغِيَّةٍ وَقَوَاعِدَ لُغَوِيَّةٍ.
وَالثَّانِي
أَنْ نَقُولَ: إِنَّ اشْتِرَاطَ كَوْنِ مَسَائِلِ الْعِلْمِ قَضَايَا كُلِّيَّةً يُبَرْهَنُ عَلَيْهَا فِي الْعِلْمِ خَاصٌّ بِالْعُلُومِ الْمَعْقُولَةِ، لِأَنَّ هَذَا اشْتِرَاطٌ ذَكَرَهُ الْحُكَمَاءُ فِي تَقْسِيمِ الْعُلُومِ، أَمَّا الْعُلُومُ الشَّرْعِيَّةُ وَالْأَدَبِيَّةُ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا ذَلِكَ، بَلْ يَكْفِي أَنْ تَكُونَ مَبَاحِثُهَا مُفِيدَةً كَمَالًا عِلْمِيًّا لِمُزَاوِلِهَا،
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها [الْبَقَرَة:
١٤٤] دَالًّا عَلَى أَنَّهُ اجْتَهَدَ فَرَأَى أَنْ يَتَّبِعَ قِبْلَةَ الدِّينَيْنِ اللَّذَيْنِ قَبْلَهُ وَمَعَ ذَلِكَ كَانَ يَوَدُّ أَنْ يَأْمُرَهُ اللَّهُ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ، فَلَمَّا غُيِّرَتِ الْقِبْلَةُ قَالَ السُّفَهَاءُ وَهُمُ الْيَهُودُ أَوِ الْمُنَافِقُونَ عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَقِيلَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ قَالُوا اشْتَاقَ مُحَمَّدٌ إِلَى بَلَدِهِ وَعَنْ قَرِيبٍ يَرْجِعُ إِلَى دِينِكُمْ ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ وَنُسِبَ إِلَى الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ، وَرَوَى الْقُرْطُبِيُّ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ صَلَّى نَحْوَ الْكَعْبَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَبُو سَعِيدِ بْنُ الْمُعَلَّى وَفِي الْحَدِيثِ ضَعْفٌ.
وَقَوْلُهُ: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ جَوَابٌ قَاطِعٌ مَعْنَاهُ أَنَّ الْجِهَاتِ كُلَّهَا سَوَاءٌ فِي أَنَّهَا مَوَاقِعُ لِبَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُعَظَّمَةِ فَالْجِهَاتُ مِلْكٌ لِلَّهِ تَبَعًا لِلْأَشْيَاءِ الْوَاقِعَةِ فِيهَا الْمَمْلُوكَة لَهُ، وَلَيْسَت مُسْتَحِقَّةً لِلتَّوَجُّهِ وَالِاسْتِقْبَالِ اسْتِحْقَاقًا ذَاتِيًّا.
وَذِكْرُ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبِ مُرَادٌ بِهِ تَعْمِيمُ الْجِهَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [الْبَقَرَة: ١١٥]، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ الْكِنَايَةَ عَنِ الْأَرْضِ كُلِّهَا لِأَنَّ اصْطِلَاحَ النَّاسِ أَنَّهُمْ يُقَسِّمُونَ الْأَرْضَ إِلَى جِهَتَيْنِ شَرْقِيَّةٍ وَغَرْبِيَّةٍ بِحَسَبِ مَطْلَعِ الشَّمْسِ وَمَغْرِبِهَا، وَالْمَقْصُودُ أَنْ لَيْسَ لِبَعْضِ الْجِهَاتِ اخْتِصَاصٌ بِقُرْبٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْجِهَةِ وَإِنَّمَا يَكُونُ أَمْرُهُ بِاسْتِقْبَالِ بَعْضِ الْجِهَاتِ لِحِكْمَةٍ يُرِيدُهَا كَالتَّيَمُّنِ أَوِ التَّذَكُّرِ فَلَا بِدْعَ فِي التَّوَلِّي لِجِهَةٍ دُونَ أُخْرَى حَسَبَ مَا يَأْمُرُ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ، إِشَارَةٌ إِلَى وَجْهِ صِحَّةِ التَّوْلِيَةِ إِلَى الْكَعْبَةِ وَقَوْلُهُ: يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِشَارَةٌ إِلَى وَجْهِ تَرْجِيحِ التَّوْلِيَةِ إِلَى الْكَعْبَةِ عَلَى التَّوْلِيَةِ إِلَى غَيْرِهَا لِأَنَّ قَوْلَهُ: يَهْدِي مَنْ يَشاءُ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ الْمُسْلِمِينَ هُوَ الْهُدَى دُونَ قِبْلَةِ الْيَهُودِ إِلَّا أَنَّ هَذَا التَّعْرِيضَ جِيءَ بِهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْكَلَامِ الْمُنْصِفِ مِنْ حَيْثُ مَا فِي قَوْلِهِ مَنْ يَشاءُ مِنَ الْإِجْمَالِ الَّذِي يُبَيِّنُهُ الْمَقَامُ فَإِنَّ الْمَهْدِيَّ مِنْ فَرِيقَيْنِ كَانَا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ هُوَ الْفَرِيقُ الَّذِي أَمَرَهُ مَنْ بِيَدِهِ الْهُدَى بِالْعُدُولِ عَنِ الْحَالَةِ الَّتِي شَارَكَهُ فِيهَا الْفَرِيقُ الْآخَرُ إِلَى حَالَةِ اخْتُصَّ هُوَ
بِهَا، فَهَذِهِ الْآيَةُ بِهَذَا الْمَعْنَى فِيهَا إِشَارَةٌ إِلَى تَرْجِيحِ أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ مِنَ الْكَلَامِ الْمُوَجَّهِ أَقْوَى مِنْ آيَةِ: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ: ٢٤].
وَقَدْ سَلَكَ فِي هَذَا الْجَوَابِ لَهُمْ طَرِيقَ الْإِعْرَاضِ والتبكيت لِأَن إِنْكَار هم كَانَ عَنْ عِنَادٍ لَا عَنْ طَلَبِ الْحَقِّ فَأُجِيبُوا بِمَا لَا يَدْفَعُ عَنْهُمُ الْحيرَة وَلم تبين لَهُمْ حِكْمَةُ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ وَلَا أَحَقِّيَّةُ الْكَعْبَةِ بِالِاسْتِقْبَالِ وَذَلِكَ مَا يَعْلَمُهُ الْمُؤْمِنُونَ.
ثُمَّ قَالَ: وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَصَارَ الْمَعْنَى لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اخْتَلَفُوا، لَكِنَّ الْخِلَافَ مَرْكُوزٌ فِي الْجِبِلَّةِ. بَيْدَ أَن الله تَعَالَى قَدْ جَعَلَ- أَيْضًا- فِي الْعُقُولِ أُصُولًا ضَرُورِيَّةً قَطْعِيَّةً أَوْ ظَنِّيَّةً ظَنًّا قَرِيبًا مِنَ الْقَطْعِ بِهِ تَسْتَطِيعُ الْعُقُولُ أَنْ تُعَيِّنَ الْحَقَّ مِنْ مُخْتَلِفِ الْآرَاءِ، فَمَا صَرَفَ النَّاسَ عَنِ اتِّبَاعِهِ إِلَّا التَّأْوِيلَاتُ الْبَعِيدَةُ الَّتِي تَحْمِلُ عَلَيْهَا الْمُكَابَرَةُ أَوْ كَرَاهِيَةُ ظُهُورِ الْمَغْلُوبِيَّةِ، أَو حب المدحة مِنَ الْأَشْيَاعِ وَأَهْلِ الْأَغْرَاضِ، أَوِ السَّعْيُ إِلَى عَرَضٍ عَاجِلٍ مِنَ الدُّنْيَا، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا غَرَزَ فِي خِلْقَةِ النُّفُوسِ دَوَاعِيَ الْمَيْلِ إِلَى هَاتِهِ الْخَوَاطِرِ السَّيِّئَةِ فَمَا اخْتَلَفُوا خِلَافًا يَدُومُ، وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا هَذَا الْخِلَافَ فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ، فَلَا عُذْرَ فِي الْقِتَالِ إِلَّا لِفَرِيقَيْنِ: مُؤْمِنٍ، وَكَافِرٍ بِمَا آمَنَ بِهِ الْآخَرُ، لِأَنَّ الْغَضَبَ وَالْحَمِيَّةَ النَّاشِئَيْنَ عَنِ الِاخْتِلَافِ فِي الدِّينِ قَدْ كَانَا سَبَبَ قِتَالٍ مُنْذُ قَدِيمٍ، أَمَّا الْخِلَافُ النَّاشِئُ بَيْنَ أَهْلِ دِينٍ وَاحِدٍ لَمْ يَبْلُغْ إِلَى التَّكْفِيرِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ سَبَبَ قِتَالٍ.
وَلِهَذَا
قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَالَ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ هُوَ بِهَا»
لِأَنَّهُ إِذَا نَسَبَ أَخَاهُ فِي الدِّينِ إِلَى الْكُفْرِ فَقَدْ أَخَذَ فِي أَسْبَابِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَتَوْلِيدِ سَبَبِ التَّقَاتُلِ، فَرَجَعَ هُوَ بِإِثْمِ الْكُفْرِ لِأَنَّهُ الْمُتَسَبِّبُ فِيمَا يَتَسَبَّبُ عَلَى الْكُفْرِ، وَلِأَنَّهُ إِذَا كَانَ يَرَى بَعْضَ أَحْوَالِ الْإِيمَانِ كُفْرًا، فَقَدْ صَارَ هُوَ كَافِرًا لِأَنَّهُ جَعَلَ الْإِيمَانَ كُفْرًا.
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «فَلَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ»
، فَجَعَلَ الْقِتَالَ شِعَارَ التَّكْفِيرِ. وَقَدْ
صَمَّ الْمُسْلِمُونَ عَنْ هَذِهِ النَّصِيحَةِ الْجَلِيلَةِ فَاخْتَلَفُوا خِلَافًا بَلَغَ بِهِمْ إِلَى التَّكْفِيرِ وَالْقِتَالِ، وَأَوَّلُهُ خِلَافُ الرِّدَّةِ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ خِلَافُ الْحَرُورِيَّةِ فِي زَمَنِ عَلِيٍّ وَقَدْ كَفَّرُوا عَلِيًّا فِي قبُوله تحكيم الْحكمِي، ثُمَّ خِلَافُ أَتْبَاعِ الْمُقَنَّعِ بِخُرَاسَانَ الَّذِي ادّعى الإلاهية وَاتَّخَذَ وَجْهًا مِنْ ذَهَبٍ، وَظَهَرَ سَنَةَ ١٥٩ وَهَلَكَ سَنَةَ ١٦٣، ثُمَّ خِلَافُ الْقَرَامِطَةِ مَعَ بَقِيَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَفِيهِ شَائِبَةٌ مِنَ الْخِلَافِ الْمَذْهَبِيِّ لِأَنَّهُمْ فِي الْأَصْلِ مِنَ الشِّيعَةِ ثُمَّ تَطَرَّفُوا فَكَفَرُوا وَادَّعَوُا الْحُلُولَ- أَيْ حُلُولَ الرَّبِّ فِي الْمَخْلُوقَاتِ- وَاقْتَلَعُوا الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ مِنَ الْكَعْبَةِ وَذَهَبُوا بِهِ إِلَى بَلَدِهِمْ فِي الْبَحْرَيْنِ، وَذَلِكَ مِنْ سَنَةِ ٢٩٣. وَاخْتَلَفَ الْمُسْلِمُونَ أَيْضًا خِلَافًا كَثِيرًا فِي الْمَذَاهِبِ جَرَّ بِهِمْ تَارَاتٍ إِلَى مُقَاتَلَاتٍ عَظِيمَةٍ، وَأَكْثَرُهَا حُرُوبُ الْخَوَارِجِ غَيْرِ الْمُكَفِّرِينَ لِبَقِيَّةِ الْأُمَّةِ فِي الْمَشْرِقِ، وَمُقَاتَلَاتُ أَبِي يَزِيدَ النَّكَارِيِّ الْخَارِجِيِّ بِالْقَيْرَوَانِ وَغَيْرِهَا سَنَةَ ٣٣٣، وَمُقَاتَلَةُ الشِّيعَةِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ بِالْقَيْرَوَانِ سَنَةَ ٤٠٧، وَمُقَاتَلَةُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ
قَارَنَ إِقَامَتَهُ هُوَ الدَّيْنُ الْمُرَادُ لله، وَهَذَا يؤول إِلَى مَعْنَى قَوْلِهِ: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمرَان: ١٩].
وَهَذَا التَّعْلِيلُ خِطَابِيٌّ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ اللُّزُومِ الْعُرْفِيِّ.
وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ، عَنْ مُجَاهِدٍ: تَفَاخَرَ الْمُسْلِمُونَ وَالْيَهُودُ، فَقَالَتِ الْيَهُودُ: بَيْتُ الْمَقْدِسِ أَفْضَلُ وَأَعْظَمُ مِنَ الْكَعْبَةِ لِأَنَّهُ مُهَاجَرُ الْأَنْبِيَاءِ وَفِي الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: بَلِ الْكَعْبَةُ أَفْضَلُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ.
وأَوَّلَ اسْمٌ لِلسَّابِقِ فِي فِعْلٍ مَا فَإِذَا أُضِيفَ إِلَى اسْمِ جِنْسٍ فَهُوَ السَّابِقُ مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ فِي الشَّأْنِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُ.
وَالْبَيْت بِنَاء يأوي وَاحِدًا أَوْ جَمَاعَةً، فَيَكُونُ بَيْتَ سُكْنَى، وَبَيْتَ صَلَاةٍ، وَبَيْتَ نَدْوَةٍ، وَيَكُونُ مَبْنِيًّا مِنْ حَجَرٍ أَوْ مِنْ أَثْوَابِ نَسِيجِ شَعْرٍ أَوْ صُوفٍ، وَيَكُونُ مِنْ أَدَمٍ فَيُسَمَّى قُبَّةً قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً [النَّحْل: ٨١].
وَمَعْنَى وُضِعَ أُسِّسَ وَأُثْبِتَ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْمَكَانُ مَوْضِعًا. وَأَصْلُ الْوَضْعِ أَنَّهُ الْحَطُّ ضِدُّ الرَّفْعِ، وَلَمَّا كَانَ الشَّيْءُ الْمَرْفُوعُ بَعِيدًا عَنِ التَّنَاوُلِ، كَانَ الْمَوْضُوعُ هُوَ قَرِيبَ التَّنَاوُلِ، فَأُطْلِقَ الْوَضْعُ لِمَعْنَى الْإِدْنَاءِ لِلْمُتَنَاوَلِ، وَالتَّهْيِئَةِ للِانْتِفَاع.
و (النّاس) تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٨].
وبكة اسْمُ مَكَّةَ. وَهُوَ لُغَةٌ- بِإِبْدَالِ الْمِيمِ بَاءً- فِي كَلِمَاتٍ كَثِيرَةٍ عُدَّتْ مِنَ الْمُتَرَادِفِ: مَثَلُ لَازِبٍ فِي لَازِمٍ، وَأَرْبَدَ وَأَرْمَدَ أَيْ فِي لَوْنِ الِرَمَادِ، وَفِي سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنَ الْعُتْبِيَّةِ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ بَكَّةَ بِالْبَاءِ اسْمُ مَوْضِعِ الْبَيْتِ، وَأَنَّ مَكَّةَ بِالْمِيمِ اسْمُ بَقِيَّةِ الْمَوْضِعِ، فَتَكُونُ بَاءُ الْجَرِّ- هُنَا- لِظَرْفِيَّةِ مَكَانِ الْبَيْتِ خَاصَّةً. لَا لِسَائِرِ الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْبَيْتُ، وَالظَّاهِرُ عِنْدِي أَنَّ بَكَّةَ اسْمٌ بِمَعْنَى الْبَلْدَةِ وَضَعَهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَمًا عَلَى الْمَكَانِ الَّذِي عَيَّنَهُ لِسُكْنَى وَلَدِهِ بِنِيَّةِ أَنْ يَكُونَ بَلَدًا، فَيَكُونُ أَصْلُهُ

[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٢٥]

وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٥)
عُطِفَ قَوْلُهُ: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا عَلَى قَوْلِهِ: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ [النِّسَاء: ٢٤] تَخْصِيصًا لِعُمُومِهِ بِغَيْرِ الْإِمَاءِ، وَتَقْيِيدًا لِإِطْلَاقِهِ بِاسْتِطَاعَةِ الطَّوْلِ.
وَالطَّوْلُ- بِفَتْحِ الطَّاءِ وَسُكُونِ الْوَاوِ- الْقُدْرَةُ، وَهُوَ مَصْدَرُ طَالَ الْمَجَازِيِّ بِمَعْنَى قَدَرَ، وَذَلِكَ أَنَّ الطَّوْلَ يَسْتَلْزِمُ الْمَقْدِرَةَ عَلَى الْمُنَاوَلَةِ فَلِذَلِكَ يَقُولُونَ: تَطَاوَلَ لِكَذَا، أَيْ تَمَطَّى لِيَأْخُذَهُ، ثُمَّ قَالُوا: تَطَاوَلَ، بِمَعْنَى تَكَلَّفَ الْمَقْدِرَةَ «وَأَيْنَ الثُّرَيَّا مِنْ يَدِ الْمُتَطَاوِلِ» فَجَعَلُوا لِطَالَ الْحَقِيقِيِّ مَصْدَرًا- بِضَمِّ الطَّاءِ- وَجَعَلُوا لِطَالَ الْمَجَازِيِّ مَصْدَرًا- بِفَتْحِ الطَّاءِ- وَهُوَ مِمَّا فَرَّقَتْ فِيهِ الْعَرَبُ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ المشتركين.
وَالْمُحْصَناتُ [النِّسَاء: ٢٤] قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِفَتْحِ الصَّادِ- وَقَرَأَهُ الْكِسَائِيُّ- بِكَسْرِ الصَّادِ- عَلَى اخْتِلَافِ مَعْنَيَيْ (أُحْصِنَّ) كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، أَيِ اللَّاتِي أَحْصَنَّ أَنْفُسَهُنَّ، أَوْ أَحْصَنَهُنَّ أَوْلِيَاؤُهُنَّ، فَالْمُرَادُ الْعَفِيفَاتُ. وَالْمُحْصَنَاتُ هُنَا وَصْفٌ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَقْصِدُ إِلَّا إِلَى نِكَاحِ امْرَأَةٍ عَفِيفَةٍ، قَالَ تَعَالَى: وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ [النُّور: ٣٠] أَيْ بِحَسَبِ خُلُقِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْإِحْصَانَ يُطْلَقُ عَلَى الْحُرِّيَّةِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُحْصَنَاتِ الْحَرَائِرُ، وَلَا دَاعِيَ إِلَيْهِ، وَاللُّغَةُ لَا تُسَاعِدُ عَلَيْهِ.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ الطَّوْلَ هُنَا هُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى بَذْلِ مَهْرٍ لِامْرَأَةٍ حُرَّةٍ احْتَاجَ لِتَزَوُّجِهَا:
أُولَى، أَوْ ثَانِيَةٍ، أَوْ ثَالِثَةٍ، أَوْ رَابِعَةٍ، لِأَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ عَدَمَ اسْتِطَاعَةِ الطَّوْلِ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ:
وَوَجْهُ هَذِهِ الْمُبَالَغَةِ: أَنَّ كُفْرَهُمْ قَدِ اشْتَمَلَ عَلَى أَحْوَالٍ عَدِيدَةٍ مِنَ الْكُفْرِ، وَعَلَى سَفَالَةٍ فِي الْخُلُقِ، أَوْ سَفَاهَةٍ فِي الرَّأْيِ بِمَجْمُوعِ مَا حُكِيَ عَنْهُمْ من تِلْكَ الصَّلَاة، فَإِنَّ كُلَّ خَصْلَةٍ مِنْهَا إِذَا انْفَرَدَتْ هِيَ كُفْرٌ، فَكَيْفَ بِهَا إِذَا اجْتَمَعَتْ.
وحَقًّا مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهُ، أَيْ حُقَّهُمْ حَقًّا أَيُّهَا السَّامِعُ بِالِغِينَ النِّهَايَةَ فِي الْكُفْرِ، وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُمْ: (جِدًّا). وَالتَّوْكِيدُ فِي مِثْلِ هَذَا لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهُ عَلَى مَا أَفَادَتْهُ الْجُمْلَةُ، وَلَيْسَ هُوَ لِرَفْعِ الْمَجَازِ، فَهُوَ تَأْكِيدٌ لِمَا أَفَادَتْهُ الْجُمْلَةُ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنَى النِّهَايَةِ لِأَنَّ الْقَصْرَ مُسْتَعْمَلٌ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَلَمْ يَقْصِدْ بِالتَّوْكِيدِ أَنْ يَصِيرَ الْقَصْرُ حَقِيقِيًّا لِظُهُورِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَسْتَقِيمُ، فَقَوْلُ بَعْضِ النُّحَاةِ، فِي الْمَصْدَرِ الْمُؤَكِّدِ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ: إِنَّهُ يُفِيدُ رَفْعَ احْتِمَالِ الْمَجَازِ، بِنَاءً مِنْهُمْ عَلَى الْغَالِبِ فِي مُفَادِ التَّأْكِيدِ.
وأَعْتَدْنا مَعْنَاهُ هَيَّأْنَا وَقَدَّرْنَا، وَالتَّاءُ فِي أَعْتَدْنا بَدَلٌ مِنَ الدَّالِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ عُلَمَاءِ اللُّغَةِ، وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ: التَّاءُ أَصْلِيَّةٌ، وَأَنَّهُ بِنَاءٌ عَلَى حِدَةٍ هُوَ غَيْرُ بِنَاءِ عَدَّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ عَتُدَ هُوَ الْأَصْلُ وَأَنَّ عَدَّ أُدْغِمَتْ مِنْهُ التَّاءُ فِي الدَّالِ، وَقَدْ وَرَدَ الْبِنَاءَانِ كَثِيرًا فِي كَلَامِهِمْ وَفِي الْقُرْآنِ.
وَجِيءَ بِجُمْلَةِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ إِلَى آخِرِهَا لِمُقَابَلَةِ الْمُسِيئِينَ بِالْمُحْسِنِينَ، وَالنِّذَارَةِ بِالْبِشَارَةِ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ. وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ آمَنُوا الْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ وَخَاصَّةً مَنْ آمَنُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ. فَهُمْ مَقْصُودُونَ ابْتِدَاءً لِمَا أَشْعَرَ بِهِ مَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بَعْدَ ذِكْرِ ضَلَالِهِمْ وَلِمَا اقْتَضَاهُ تَذْيِيلُ الْجُمْلَةِ بِقَوْلِهِ: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً أَيْ غَفُورًا لَهُمْ مَا سَلَفَ مِنْ كُفْرِهِمْ، رَحِيمًا بِهِمْ.
وَالْقَوْلُ فِي الْإِتْيَانِ بِالْمَوْصُولِ وَبِاسْمِ الْإِشَارَةِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ كَالْقَوْلِ فِي مُقَابِلِهِ.
وَقَوْلُهُ: بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مِثْلِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٣٦].
أَوْ غَيْرِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَصَلَّبُوا فِي دِينِهِمْ.
فَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْيَهُودَ عَيَّرُوا النَّفَرَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا، إِذَا صَحَّ خَبَرُ إِسْلَامِهِمْ. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي تَرْكِيبِ «مَا لَنَا لَا نَفْعَلُ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما لَكُمْ لَا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٧٥].
وَجُمْلَةُ وَنَطْمَعُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ مَا لَنا لَا نُؤْمِنُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلْحَالِ، أَيْ كَيْفَ نَتْرُكُ الْإِيمَانَ بِالْحَقِّ وَقَدْ كُنَّا مِنْ قَبْلُ طَامِعِينَ أَنْ يَجْعَلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ مِثْلَ الْحَوَارِيِّينَ، فَكَيْفَ نُفْلِتُ مَا عَنَّ لَنَا مِنْ وَسَائِلِ الْحُصُولِ عَلَى هَذِهِ الْمَنْقَبَةِ الْجَلِيلَةِ. وَلَا يَصِحُّ جَعْلُهَا مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ نُؤْمِنُ لِئَلَّا تَكُونَ مَعْمُولَةً لِلنَّفْيِ، إِذْ لَيْسَ الْمَعْنَى عَلَى مَا لَنَا لَا نَطْمَعُ، لِأَنَّ الطَّمَعَ فِي الْخَيْرِ لَا يَتَرَدَّدُ فِيهِ وَلَا يُلَامُ عَلَيْهِ حَتَّى يَحْتَاجَ صَاحِبُهُ إِلَى الِاحْتِجَاجِ لِنَفْسِهِ بِ (مَا لَنَا لَا نَفْعل).
[٨٥]
[سُورَة الْمَائِدَة (٥) : آيَة ٨٥]
فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٨٥)
تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ يَقُولُونَ: رَبَّنا آمَنَّا... [الْمَائِدَة: ٨٣] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَمَعْنَى (أَثَابَهُمْ) أَعْطَاهُمُ الثَّوَابَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٠٣].
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ بِما قالُوا لِلسَّبَبِيَّةِ. وَالْمرَاد بالْقَوْل قَول الصَّادِقُ وَهُوَ الْمُطَابِقُ لِلْوَاقِعِ، فَهُوَ الْقَوْلُ الْمُطَابِقُ لِاعْتِقَادِ الْقَلْبِ، وَمَا قَالُوهُ هُوَ مَا حُكِيَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ... [الْمَائِدَة: ٨٣] الْآيَةَ. وَأَثَابَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ عَلَى طَرِيقَةِ بَابِ أَعْطَى، فَ جَنَّاتٍ مَفْعُولُهُ الثَّانِي، وَهُوَ الْمُعْطَى لَهُمْ. وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ إِلَى الثَّوَابِ الْمَأْخُوذ من فَأَثابَهُمُ وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْإِشَارَةَ إِلَى الْمَذْكُورِ وَهُوَ الْجَنَّاتُ وَمَا بِهَا مِنَ الْأَنْهَارِ وَخُلُودِهِمْ فِيهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٦٨] عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ.
وَمَعْنَى تَصْغَى تَمِيلُ، يُقَالُ: صَغَى يَصْغَى صَغْيًا، وَيَصْغُو صَغْوًا- بِالْيَاءِ وَبِالْوَاوِ- وَوَرَدَتِ الْآيَةُ عَلَى اعْتِبَارِهِ- بِالْيَاءِ- لِأَنَّهُ رُسِمَ فِي الْمُصْحَفِ بِصُورَةِ الْيَاءِ. وَحَقِيقَتُهُ الْمَيْلُ الْحِسِّيُّ، يُقَالُ: صَغَى، أَيْ مَالَ، وَأَصْغَى أَمَالَ. وَفِي حَدِيثِ الْهِرَّةِ:
أَنَّهُ أَصْغَى إِلَيْهَا الْإِنَاءَ، وَمِنْهُ أَطْلَقَ: أَصْغَى بِمَعْنَى اسْتَمَعَ، لِأَنَّ أَصْلَهُ أَمَالَ سَمْعَهُ أَوْ أُذُنَهُ، ثُمَّ حَذَفُوا الْمَفْعُولَ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ. وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي الِاتِّبَاعِ وَقَبُولِ الْقَوْلِ.
وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ هُمُ الْمُشْرِكُونَ. وَخَصَّ مِنْ صِفَاتِ الْمُشْرِكِينَ عَدَمَ إِيمَانِهِمْ بِالْآخِرَةِ، فَعُرِّفُوا بِهَذِهِ الصِّلَةِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى بَعْضِ آثَارِ وَحْيِ الشَّيَاطِينِ لَهُمْ. وَهَذَا الْوَصْفُ أَكْبَرُ مَا أَضَرَّ بِهِمْ، إِذْ كَانُوا بِسَبَبِهِ لَا يَتَوَخَّوْنَ فِيمَا يَصْنَعُونَ خَشْيَةَ الْعَاقِبَةِ وَطَلَبِ الْخَيْرِ، بَلْ يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَا يُزَيَّنُ لَهُمْ مِنْ شَهَوَاتِهِمْ، مُعْرِضِينَ عَمَّا فِي خِلَالِ ذَلِكَ مِنَ الْمَفَاسِدِ وَالْكُفْرِ، إِذْ لَا يَتَرَقَّبُونَ جَزَاءً عَنِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَلِذَلِكَ تَصْغَى عُقُولُهُمْ إِلَى غُرُورِ الشَّيَاطِينِ.
وَلَا تَصْغَى إِلَى دَعْوَة النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّالِحِينَ.
وَعُطِفُ وَلِيَرْضَوْهُ عَلَى وَلِتَصْغى، وَإِنْ كَانَ الصَّغْيُ يَقْتَضِي الرِّضَى وَيُسَبِّبُهُ فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُعْطَفَ بِالْفَاءِ وَأَنْ لَا تُكَرَّرَ لَامُ التَّعْلِيلِ، فَخُولِفَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى اسْتِقْلَالِهِ بِالتَّعْلِيلِ، فَعُطِفَ بِالْوَاوِ وَأُعِيدَتِ اللَّامُ لِتَأْكِيدِ الِاسْتِقْلَالِ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَغْيَ أَفْئِدَتِهِمْ إِلَيْهِ مَا كَانَ يَكْفِي لِعَمَلِهِمْ بِهِ إِلَّا لِأَنَّهُمْ رَضَوْهُ.
وَعَطْفُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ عَلَى ولِيَرْضَوْهُ كَعَطْفِ ولِيَرْضَوْهُ عَلَى وَلِتَصْغى.
وَالِاقْتِرَافُ افْتِعَالُ مِنْ قَرَفَ إِذَا كَسَبَ سَيِّئَةً، قَالَ تَعَالَى بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ [الْأَنْعَام: ١٢٠] فَذَكَرَ هُنَالِكَ ل يَكْسِبُونَ مَفْعُولًا لِأَنَّ الْكَسْبَ يَعُمُّ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ، وَلَمْ يَذْكُرْ هُنَا
التَّفْرِيعِ وَالتَّعْلِيلِ، أَيْ هُوَ كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَكُنْ مُنْشَرِحَ الصَّدْرِ بِهِ، فَإِنَّهُ أُنْزِلَ إِلَيْكَ لِتُنْذِرَ بِهِ الْكَافِرِينَ وَتُذَكِّرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْمَقْصُودُ: تسكين نفس النّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِغَاظَةُ الْكَافِرِينَ، وَتَأْنِيسُ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ هُوَ كِتَابٌ أُنْزِلَ لِفَائِدَةٍ، وَقَدْ حَصَلَتِ الْفَائِدَةُ فَلَا يكن فِي صرك حَرَجٌ إِنْ كَذَّبُوا. وَبِهَذِهِ الِاعْتِبَارَاتِ وَبِعَدَمِ مُنَافَاةِ بَعْضِهَا لِبَعْضٍ يُحْمَلُ الْكَلَامُ عَلَى إِرَادَةِ جَمِيعِهَا وَذَلِكَ مِنْ مَطَالِعِ السُّوَرِ الْعَجِيبَةِ الْبَيَانِ.
وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ قَدَّرُوا مُبْتَدَأً مَحْذُوفًا، وَجَعَلُوا كِتابٌ خَبْرًا عَنْهُ، أَيْ هَذَا كِتَابٌ، أَيْ أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ الْحَاضِرُ فِي الذِّهْنِ، أَوِ الْمُشَارَ إِلَيْهِ السُّورَةُ أُطْلِقَ عَلَيْهَا كِتَابٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ كِتابٌ خَبْرًا عَنْ كلمة المص [الْأَعْرَاف: ١] وَكُلُّ ذَلِكَ بِمَعْزِلٍ عَنْ مَتَانَةِ الْمَعْنَى.
وَصِيغَ فِعْلُ: أُنْزِلَ بِصِيغَةِ النَّائِبِ عَنِ الْفَاعِلِ اخْتِصَارًا، لِلْعِلْمِ بِفَاعِلِ الْإِنْزَالِ، لِأَنَّ الَّذِي يُنْزِلُ الْكُتُبَ عَلَى الرُّسُلِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلِمَا فِي مَادَّةِ الْإِنْزَالِ مِنَ الْإِشْعَارِ بِأَنَّهُ مِنَ الْوَحْيِ لِمَلَائِكَةِ الْعَوَالِمِ السَّمَاوِيَّةِ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ اعتراضية إِذا الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ فِعْلِ أُنْزِلَ وَمُتَعَلِّقِهِ وَهُوَ لِتُنْذِرَ بِهِ، فَإِنَّ الِاعْتِرَاضَ يَكُونُ مُقْتَرِنًا بِالْفَاءِ كَمَا يَكُونُ مُقْتَرِنًا
بِالْوَاوِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ [ص: ٥٧] وَقَوْلِهِ: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى [النِّسَاء: ١٣٥]. وَقَوْلِ الشَّاعِرِ وَهُوَ مِنَ الشَّوَاهِدِ:
اعْلَمْ فَعِلْمُ الْمَرْءِ يَنْفَعُهُ أَنْ سَوْفَ يَأْتِي كُلُّ مَا قُدِّرَا
وَقَوْلِ بَشَّارِ بْنِ بُرْدٍ:
كَقَائِلَةٍ إِنَّ الْحِمَارَ فَنَحِّهِ عَنِ الْقَتِّ أَهْلُ السِّمْسِمِ الْمُتَهَذِّبِ
وَلَيْسَتِ الْفَاءُ زَائِدَةً لِلِاعْتِرَاضِ وَلَكِنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى التَّسَبُّبِ، وَإِنَّمَا
وَأَنْتَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ، وَخَيْرُ الْحَاكِمِينَ هُوَ أَفْضَلُ أَهْلِ هَذَا الْوَصْفِ، وَهُوَ الَّذِي يَتَحَقَّقُ فِيهِ كَمَالُ هَذَا الْوَصْفِ فِيمَا يُقْصَدُ مِنْهُ وَفِي فَائِدَتِهِ بِحَيْثُ لَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ وَلَا تُرَوَّجُ عَلَيْهِ التُّرَّهَاتُ. وَالْحُكَّامُ مَرَاتِبُ كَثِيرَةٌ، فَتَبَيَّنَ وَجْهُ التَّفْضِيلِ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ [الْأَعْرَاف: ٨٧] وَكَذَلِكَ الْقِيَاسُ فِي قَوْلِهِ: خَيْرُ النَّاصِرِينَ [آلِ عمرَان: ١٥٠] وخَيْرُ الْماكِرِينَ [آل عمرَان: ٥٤] وَقد تقدم فِي سُورَة آل عِمْرَانَ [١٥٠] : بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ.
[٩٠- ٩٢]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : الْآيَات ٩٠ إِلَى ٩٢]
وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٩٠) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٩١) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (٩٢)
عُطِفَتْ جُمْلَةُ: وَقالَ الْمَلَأُ وَلَمْ تُفْصَلْ كَمَا فُصِلَتِ الَّتِي قَبْلَهَا لِانْتِهَاءِ الْمُحَاوَرَةِ الْمُقْتَضِيَةِ فَصْلَ الْجُمَلِ فِي حِكَايَةِ الْمُحَاوَرَةِ، وَهَذَا قَوْلٌ أُنُفٌ وَجَّهَ فِيهِ الْمَلَأُ خِطَابَهُمْ إِلَى عَامَّةِ قَوْمِهِمُ الْبَاقِينَ عَلَى الْكُفْرِ تَحْذِيرًا لَهُمْ مِنِ اتِّبَاعِ شُعَيْبٍ خَشْيَةً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْ تَحِيكَ فِي نُفُوسِهِمْ دَعْوَةُ شُعَيْبٍ وَصِدْقُ مُجَادَلَتِهِ، فَلَمَّا رَأَوْا حُجَّتَهُ سَاطِعَةً وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا الْفَلْجَ عَلَيْهِ فِي الْمُجَادَلَةِ، وَصَمَّمُوا عَلَى كُفْرِهِمْ، أَقْبَلُوا عَلَى خِطَابِ الْحَاضِرِينَ مِنْ قَوْمِهِمْ لِيُحَذِّرُوهُمْ مِنْ مُتَابَعَةِ شُعَيْبٍ وَيُهَدِّدُوهُمْ بِالْخَسَارَةِ.
وَذكر الْمَلَأُ إِظْهَار فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِبُعْدِ الْمَعَادِ. وَإِنَّمَا وَصَفَ الْمَلَأَ بِالْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ دُونَ أَنْ يَكْتَفِيَ بِحَرْفِ التَّعْرِيفِ الْمُقْتَضِي أَنَّ الْمَلَأَ الثَّانِيَ هُوَ الْمَلَأُ الْمَذْكُورُ قَبْلَهُ،
لِقَصْدِ زِيَادَةِ ذَمِّ الْمَلَأِ بِوَصْفِ الْكُفْرِ، كَمَا ذُمَّ فِيمَا سَبَقَ بِوَصْفِ الِاسْتِكْبَارِ.
وَوَصْفُ الْمَلَأُ هُنَا بِالْكُفْرِ لِمُنَاسَبَةِ الْكَلَامِ الْمَحْكِيِّ عَنْهُمْ، الدَّالِّ عَلَى تَصَلُّبِهِمْ فِي
وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ الْخُمُسَ لِخَمْسَةِ مَصَارِفَ وَلَمْ يُعَيِّنْ مِقْدَارَ مَا لِكُلِّ مَصْرِفٍ مِنْهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ ذَلِكَ لِيَكُونَ صَرْفُهُ لِمَصَارِفِهِ هَذِهِ مَوْكُولًا إِلَى اجْتِهَادِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ مِنْ بَعْدِهِ، فَيُقَسَّمُ بِحَسَبِ الْحَاجَاتِ وَالْمَصَالِحِ، فَيَأْخُذُ كُلُّ مَصْرِفٍ مِنْهُ مَا يَفِي بِحَاجَتِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا ضَرَّ مَعَهُ عَلَى أَهْلِ الْمَصْرِفِ الْآخَرِ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ فِي قِسْمَةِ الْخُمُسِ، وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ، إِذْ لَيْسَ فِي الْآيَةِ تَعَرُّضٌ لِمِقْدَارِ الْقِسْمَةِ، وَلَمْ يَرِدْ فِي السُّنَّةِ مَا يَصِحُّ التَّمَسُّكُ بِهِ لِذَلِكَ، فَوَجَبَ أَنْ يُنَاطَ بِالْحَاجَةِ، وَبِتَقْدِيمِ الْأَحْوَجِ وَالْأَهَمِّ عِنْدَ التَّضَايُقِ، وَالْأَمْرُ فِيهِ مَوْكُولٌ إِلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ، وَقَدْ
قَالَ عُمَرُ: «فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِمْ مِنْ هَذَا الْمَالِ ثُمَّ يَأْخُذُ مَا بَقِيَ فَيَجْعَلُهُ مَجْعَلَ مَالِ اللَّهِ»
. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُقَسَّمُ لِكُلِّ مَصْرَفٍ الْخُمُسُ مِنَ الْخُمُسِ، لِأَنَّهَا خَمْسَةُ مَصَارِفَ، فَجَعَلَهَا مُتَسَاوِيَةً، لِأَنَّ التَّسَاوِيَ هُوَ الْأَصْلُ فِي الشَّرِكَةِ الْمُجْمَلَةِ وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى دَلِيلِ الْمَصْلَحَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلتَّرْجِيحِ وَإِذْ قَدْ جَعَلَ مَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ خُمُسًا وَاحِدًا تَبَعًا لِلْجُمْهُورِ فَقَدْ جَعَلَهُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: ارْتَفَعَ سَهْمُ رَسُولِ اللَّهِ وَسَهْمُ قَرَابَتِهِ بِوَفَاتِهِ، وَبَقِيَ الْخُمُسُ لِلْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا أَخَذَ سَهْمًا فِي الْمَغْنَمِ لِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، لَا لِأَنَّهُ إِمَامٌ، فَلِذَلِكَ لَا يَخْلُفُهُ فِيهِ غَيْرُهُ.
وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّ سَهْمَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْلُفُهُ فِيهِ الْإِمَامُ، يَبْدَأُ بِنَفَقَتِهِ وَنَفَقَةِ عِيَالِهِ بِلَا تَقْدِيرٍ، وَيَصْرِفُ الْبَاقِيَ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ.
وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مَعَانِيهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ [الْبَقَرَةِ: ١٧٧] وَعِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً- إِلَى قَوْلِهِ- وَابْنِ السَّبِيلِ [النِّسَاءِ: ٣٦].
وَالْيَتَامَى وَابْنُ السَّبِيلِ لَا يُعْطَوْنَ إِلَّا إِذَا كَانُوا فُقَرَاءَ فَفَائِدَةُ تَعْيِينِ خُمُسِ الْخُمُسِ لِكُلِّ صِنْفٍ مِنْ هَؤُلَاءِ أَنْ لَا يُحَاصَّهُمْ فِيهِ غَيْرُهُمْ مِنَ الْفُقَرَاءِ وَالشَّأْنُ، فِي الْيَتَامَى فِي
بِالتَّوَحُّشِ وَأَكْثَرَ غِلْظَةً فِي الْمُعَامَلَةِ وَأَضِيعَ لِلتُّرَاثِ الْعِلْمِيِّ وَالْخُلُقِيِّ وَلِذَلِكَ قَالَ عُثْمَانُ لِأَبِي ذَرٍّ لَمَّا عَزَمَ عَلَى سُكْنَى الرَّبَذَةِ: تَعَهَّدِ الْمَدِينَةَ كَيْلَا تَرْتَدَّ أَعْرَابِيًّا.
فَأَمَّا فِي الْأَخْلَاقِ الَّتِي تُحْمَدُ فِيهَا الْخُشُونَةُ وَالْغِلْظَةُ وَالِاسْتِخْفَافُ بِالْعَظَائِمِ مِثْلُ الشَّجَاعَةِ وَالصَّرَاحَةِ وَإِبَاءِ الضَّيْمِ وَالْكَرَمِ فَإِنَّهَا تَكُونُ أَقْوَى فِي الْأَعْرَابِ بِالْجِبِلَّةِ، وَلِذَلِكَ يَكُونُونَ أَقْرَبَ إِلَى الْخَيْرِ إِذَا اعْتَقَدُوهُ وَآمَنُوا بِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَشَدُّ وأَجْدَرُ مَسْلُوبَيِ الْمُفَاضَلَةِ مُسْتَعْمَلَيْنِ لِقُوَّةِ الْوَصْفَيْنِ فِي الْمَوْصُوفِينَ بِهِمَا عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [يُوسُف: ٣٣]. فَالْمَعْنَى أَنَّ كُفْرَهُمْ شَدِيدُ التَّمَكُّنِ مِنْ نُفُوسِهِمْ وَنِفَاقَهُمْ كَذَلِكَ، مِنْ غَيْرِ إِرَادَةِ أَنَّهُمْ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا مِنْ كُفَّارِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمُنَافِقِيهَا. وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَإِنَّ كُفْراً وَنِفاقاً مَنْصُوبَانِ عَلَى التَّمْيِيزِ لِبَيَانِ الْإِبْهَامِ الَّذِي فِي وَصْفِ أَشَدُّ. سَلَكَ مَسْلَكَ الْإِجْمَالِ ثُمَّ التَّفْصِيلِ لِيَتَمَكَّنَ الْمَعْنَى أَكْمَلَ تَمَكُّنٍ.
وَالْأَجْدَرُ: الْأَحَقُّ. وَالْجَدَارَةُ: الْأَوْلَوِيَّةُ. وَإِنَّمَا كَانُوا أَجْدَرَ بِعَدَمِ الْعِلْمِ بِالشَّرِيعَةِ لِأَنَّهُمْ يَبْعُدُونَ عَنْ مَجَالِسِ التَّذْكِيرِ وَمَنَازِلِ الْوَحْيِ، وَلِقِلَّةِ مُخَالَطَتِهِمْ أَهْلَ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَحُذِفَتِ الْبَاءُ الَّتِي يَتَعَدَّى بِهَا فِعْلُ الْجَدَارَةِ عَلَى طَرِيقَةِ حَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ مَعَ (أَنْ) الْمَصْدَرِيَّةِ.
وَالْحُدُودُ: الْمَقَادِيرُ وَالْفَوَاصِلُ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ فَوَاصِلَ الْأَحْكَامِ وَضَوَابِطَ تَمْيِيزِ مُتَشَابِهِهَا.
وَفِي هَذَا الْوَصْفِ يَظْهَرُ تَفَاوُتُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ. وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ فِي اصْطِلَاحِ الْعُلَمَاءِ بِالتَّحْقِيقِ أَوْ بِالْحِكْمَةِ الْمُفَسَّرَةِ بِمَعْرِفَةِ حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، فَزِيَادَةُ قَيْدِ (عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ) لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْمُخْتَلِطَاتِ وَالْمُتَشَابِهَاتِ وَالْخَفِيَّاتِ.

[سُورَة هود (١١) : آيَة ٩]

وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (٩)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ [هود: ٨]. فَإِنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ مَا هُمْ فِيهِ مَتَاعٌ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ عِنْدَ اللَّهِ. وَأَنَّهُمْ بَطِرُوا نِعْمَةَ التَّمْتِيعِ فَسَخِرُوا بِتَأْخِيرِ الْعَذَابِ، بَيَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَنَّ أَهْلَ الضَّلَالَةِ رَاسِخُونَ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَا يُفَكِّرُونَ فِي غَيْرِ اللَّذَّاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ فَتَجْرِي انْفِعَالَاتُهُمْ عَلَى حَسْبِ ذَلِكَ دُونَ رَجَاءٍ لِتَغَيُّرِ الْحَالِ، وَلَا يَتَفَكَّرُونَ فِي أَسْبَابِ النَّعِيمِ وَالْبُؤْسِ وَتَصَرُّفَاتِ خَالِقِ النَّاسَ وَمُقَدِّرِ أَحْوَالِهِمْ، وَلَا يَتَّعِظُونَ بِتَقَلُّبَاتِ أَحْوَالِ الْأُمَمِ، فَشَأْنُ أَهْلِ الضَّلَالَةِ أَنَّهُمْ إِنْ حَلَّتْ بِهِمُ الضَّرَّاءُ بَعْدَ النِّعْمَةِ مَلَكَهُمُ الْيَأْسُ مِنَ الَخَيْرِ وَنَسُوا النِّعْمَةَ فَجَحَدُوهَا وَكَفَرُوا مُنْعِمَهَا، فَإِنَّ تَأْخِيرَ الْعَذَابِ رَحْمَةٌ وَإِتْيَانُ الْعَذَابِ نَزْعٌ لِتِلْكَ الرَّحْمَةِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي قُوَّةِ التَّذْيِيلِ. فَتَعْرِيفُ (الْإِنْسَانِ) تَعْرِيفُ الْجِنْسِ مُرَادٌ بِهِ الِاسْتِغْرَاقُ، وَبِذَلِكَ اكْتَسَبَتِ الْجُمْلَةُ قُوَّةَ التَّذْيِيلِ. فَمِعْيَارُ الْعُمُومِ الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [هود: ١١] كَمَا يَأْتِي، فَيَكُونُ الِاسْتِغْرَاقُ عُرْفِيًّا جَارِيًا
عَلَى اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ مِنْ إِطْلَاقِ لَفْظِ الْإِنْسَانِ أَوِ النَّاسِ، وَلِأَن وصفي لَيَؤُسٌ كَفُورٌ يُنَاسِبَانِ الْمُشْرِكِينَ فَيَتَخَصَّصُ الْعَامُّ بِهِمْ.
وَقِيلَ التَّعْرِيفُ فِي الْإِنْسانَ لِلْعَهْدِ مُرَادٌ مِنْهُ إِنْسَانٌ خَاصٌّ، فَرَوَى الْوَاحِدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ. وَعَنْهُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ الْمَخْزُومِيِّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ كُلَّ إِنْسَانٍ إِذَا حَلَّ بِهِ مِثْلُ ذَلِكَ عَلَى تَفَاوُتٍ فِي النَّاسِ فِي هَذَا الْيَأْسِ.
وَاللَّامُ مُوَطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ.
وَالْإِذَاقَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي إِيصَالِ الْإِدْرَاكِ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ، وَاخْتِيرَتْ مَادَّةُ الْإِذَاقَةِ لِمَا تُشْعِرُ بِهِ مِنْ إِدْرَاكِ أَمْرٍ مَحْبُوبٍ لِأَنَّ الْمَرْءَ لَا يَذُوقُ إِلَّا مَا يَشْتَهِيهِ.
السَّلَامُ-، وَكَانَ مَجِيئُهُمْ فِي السّنة الثَّانِيَة مِنْ سِنِي الْقَحْطِ. وَإِنَّمَا جَاءَ إِخْوَتُهُ عَدَا بِنْيَامِينَ لِصِغَرِهِ، وَإِنَّمَا رَحَلُوا لِلْمِيرَةِ كُلُّهُمْ لَعَلَّ ذَلِكَ لِأَنَّ التَّزْوِيدَ مِنَ الطَّعَامِ كَانَ بِتَقْدِيرٍ يُرَاعَى فِيهِ عَدَدُ الْمُمْتَارِينَ، وَأَيْضًا لِيَكُونُوا جَمَاعَةً لَا يَطْمَعُ فِيهِمْ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ، وَكَانَ الَّذِينَ جَاءُوا عَشَرَةً. وَقَدْ عُرِفَ أَنَّهُمْ جَاءُوا مُمْتَارِينَ مِنْ تَقَدُّمِ قَوْلِهِ: قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ [يُوسُف: ٥٥] وَقَوْلِهِ الْآتِي: أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ [سُورَة يُوسُف: ٥٩].
وَدُخُولُهُمْ عَلَيْهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُرَاقِبُ أَمْرَ بَيْعِ الطَّعَامِ بِحُضُورِهِ وَيَأْذَنُ بِهِ فِي مَجْلِسِهِ خَشْيَةَ إِضَاعَةِ الْأَقْوَاتِ لِأَنَّ بِهَا حَيَاةَ الْأُمَّةِ.
وَعَرَفَ يُوسُفُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِخْوَتَهِ بَعْدَ مُضِيِّ سِنِينَ عَلَى فِرَاقِهِمْ لِقُوَّةِ فِرَاسَتِهِ وَزَكَانَةِ عَقْلِهِ دُونَهُمْ.
وَجُمْلَةُ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَعَرَفَهُمْ. وَوَقَعَ الْإِخْبَارُ عَنْهُمْ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ عَدَمَ مَعْرِفَتِهِمْ بِهِ أَمْرٌ ثَابِتٌ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُمْ، وَكَانَ الْإِخْبَارُ عَنْ مَعْرِفَتِهِ إِيَّاهُمْ بِالْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ الْمُفِيدَةِ لِلتَّجَدُّدِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مَعْرِفَتَهُ إِيَّاهُمْ حَصَلَتْ بِحِدْثَانِ رُؤْيَتِهِ إِيَّاهُمْ دُونَ تَوَسُّمٍ وَتَأَمُّلٍ. وَقُرِنَ مَفْعُولُ مُنْكِرُونَ الَّذِي هُوَ ضَمِيرُ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِلَامِ التَّقْوِيَةِ وَلَمْ يقل وهم منكرونه لِزِيَادَةِ تَقْوِيَةِ جَهْلِهِمْ بِمَعْرِفَتِهِ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ بِلَامِ التَّقْوِيَةِ فِي لَهُ مُنْكِرُونَ لِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ، وَلِلِاهْتِمَامِ بِتَعَلُّقِ نُكْرَتِهِمْ إِيَّاهُ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِلَّا فَإِنَّ شَمَائِلَ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَيْسَتْ مِمَّا شَأْنُهُ أَنْ يَجْهَلَ وَيَنْسَى.
وَالْجَهَازُ- بِفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِهَا- مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُسَافِرُ، وَأَوَّلُهُ مَا سَافَرَ لِأَجْلِهِ مِنَ
الْأَحْمَالِ. وَالتَّجْهِيزُ: إِعْطَاءُ الْجِهَازِ.
وَقَوْلُهُ: ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ يَقْتَضِي وُقُوعَ حَدِيثٍ مِنْهُمْ عَنْ أَنَّ لَهُمْ أَخًا مِنْ أَبِيهِمْ لَمْ يَحْضُرْ مَعَهُمْ وَإِلَّا لَكَانَ إِنْبَاءُ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَهُمْ بِهَذَا يُشْعِرُهُمْ
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يَا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدا لَهُمْ مَا كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ [سُورَة الْأَنْعَام: ٢٧، ٢٨]، أَيْ فَلَا يُصَرِّحُونَ بِهِ.
ولَوْ فِي لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّمَنِّي لِأَنَّ أَصْلَهَا الشَّرْطِيَّةُ إِذْ هِيَ حَرْفُ امْتِنَاعٍ لِامْتِنَاعٍ، فَهِيَ مُنَاسِبَةٌ لِمَعْنَى التَّمَنِّي الَّذِي هُوَ طَلَبُ الْأَمْرِ الْمُمْتَنَعِ الْحُصُولِ، فَإِذَا وَقَعَتْ بَعْدَ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّمَنِّي اسْتُعْمِلَتْ فِي ذَلِكَ كَأَنَّهَا عَلَى تَقْدِيرِ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ يَقُولُهُ الْمُتَمَنِّي، وَلَمَّا حُذِفَ فِعْلُ الْقَوْلِ عَدَلَ فِي حِكَايَةِ الْمَقُولِ إِلَى حِكَايَتِهِ بِالْمَعْنَى. فَأَصْلُ لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ
لَوْ كُنَّا مُسْلِمِينَ.
وَالْتُزِمَ حَذْفُ جَوَابِ لَوْ اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَيْهِ ثُمَّ شَاعَ حَذْفُ الْقَوْلِ، فَأَفَادَتْ لَوْ مَعْنَى الْمَصْدَرِيَّةِ فَصَارَ الْمَعْنَى: يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا كَوْنَهُمْ مُسْلِمِينَ، وَلِذَلِكَ عَدُّوهَا مِنْ حُرُوفِ الْمَصْدَرِيَّةِ وَإِنَّمَا الْمَصْدَرُ مَعْنًى عَارِضٌ فِي الْكَلَامِ وَلَيْسَ مدلولها بِالْوَضْعِ.
[٣]
[سُورَة الْحجر (١٥) : آيَة ٣]
ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣)
لَمَّا دَلَّتْ (رُبَّ) عَلَى التَّقْلِيلِ اقْتَضَتْ أَنَّ اسْتِمْرَارَهُمْ عَلَى غُلَوَائِهِمْ هُوَ أَكْثَرُ حَالِهِمْ، وَهُوَ الْإِعْرَاضُ عَمَّا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ الْإِسْلَامُ مِنَ الْكَمَالِ النَّفْسِيِّ، فَبِإِعْرَاضِهِمْ عَنْهُ رَضُوا لِأَنْفُسِهِمْ بِحَيَاةِ الْأَنْعَامِ، وَهِيَ الِاقْتِصَارُ عَلَى اللَّذَّاتِ الْجَسَدِيَّةِ، فَخُوطِبَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا يُعَرَّضُ لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ أَنَّ حَيَاتَهُمْ حَيَاةُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ. وَذَلِكَ مِمَّا يَتَعَيَّرُونَ بِهِ فِي مَجَارِي أَقْوَالِهِمْ كَمَا فِي قَوْلِ الْحُطَيْئَةِ:
دَعِ الْمَكَارِمَ لَا تَنْهَضْ لِبُغْيَتِهَا وَاقْعُدْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الطَّاعِمُ الكاسي
وهم منغسمون فِيمَا يَتَعَيَّرُونَ بِهِ فِي أَعْمَالِهِمْ قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ [سُورَة مُحَمَّد: ١٢].
لِذَلِكَ السُّرَى الْعَظِيمِ، فَقَامَ التَّنْكِيرُ هُنَا مَقَامَ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّعْظِيمِ. أَلَا تَرَى كَيْفَ احْتِيجَ إِلَى الدَّلَالَةِ عَلَى التَّعْظِيمِ بِصِيغَةٍ خَاصَّةٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَما أَدْراكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ [الْقَدْرِ: ١- ٢] إِذْ وَقَعَتْ لَيْلَةُ الْقَدْرِ غَيْرَ مُنَكَّرَةٍ. (١)
وَ (عَبْدُ) الْمُضَافُ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ هَنَا هُوَ مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا هُوَ مُصْطَلَحُ الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِيهِ لَفْظُ الْعَبْدِ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ الرَّاجِع إِلَى الله تَعَالَى إِلَّا مُرَادًا بِهِ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَلِأَنَّ خَبَرَ الْإِسْرَاءِ بِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَدْ شَاعَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَشَاعَ إِنْكَارُهُ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ، فَصَارَ الْمُرَادُ بِعَبْدِهِ مَعْلُومًا.
وَالْإِضَافَةُ إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ لَا إِضَافَةُ تَعْرِيفٍ لِأَنَّ وَصْفَ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ مُتَحَقِّقٌ لِسَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ فَلَا تُفِيدُ إِضَافَتُهُ تَعْرِيفًا.
وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ هُوَ الْكَعْبَةُ وَالْفِنَاءُ الْمُحِيطُ بِالْكَعْبَةِ بِمَكَّةَ الْمُتَّخَذُ لِلْعِبَادَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْكَعْبَةِ مِنْ طَوَافٍ بهَا واعتكاف عِنْدهَا وَصَلَاةٍ.
وَأَصْلُ الْمَسْجِدِ: أَنَّهُ اسْمُ مَكَانِ السُّجُودِ. وَأَصْلُ الْحَرَامِ: الْأَمْرُ الْمَمْنُوعُ، لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْحَرْمِ- بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ- وَهُوَ الْمَنْعُ، وَهُوَ يُرَادِفُ الْحَرَمَ. فَوَصْفُ الشَّيْءِ بِالْحَرَامِ يَكُونُ بِمَعْنَى أَنَّهُ مَمْنُوعٌ اسْتِعْمَالُهُ اسْتِعْمَالًا يُنَاسِبُهُ، نَحْوُ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [الْمَائِدَة: ٣] أَيْ أَكْلُ الْمِيتَةِ، وَقَوْلُ عَنْتَرَةَ:
حَرُمَتْ عَلَيَّ وَلَيْتَهَا لَمْ تَحْرُمِ
أَيْ مَمْنُوعٌ قُرْبَانُهَا لِأَنَّهَا زَوْجَةُ أَبِيهِ وَذَلِكَ مَذْمُومٌ بَيْنَهُمْ.
وَيَكُونُ بِمَعْنَى الْمَمْنُوعِ مِنْ أَنْ يُعْمَلَ فِيهِ عَمَلٌ مَا. وَيُبَيَّنُ بِذِكْرِ الْمُتَعَلَّقِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ. وَقَدْ لَا يُذْكَرُ مُتَعَلَّقُهُ إِذَا دَلَّ عَلَيْهِ الْعُرْفُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: الشَّهْرُ
_________
(١) وَأما قَوْله: أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ فَذَلِك توكيد لِأَن المتحدث عَنْهُم ينكرونه وَلَا يعبؤون بِمَا أعد لَهُم فِيهِ من الْأَهْوَال.
وَقَالَ لَبِيدٌ:
أَلَيْسَ وَرَائِي أَنْ تَرَاخَتْ مَنِيَّتِي لُزُومَ الْعَصَا تُحْنَى عَلَيْهَا الْأَصَابِعُ
وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فَسَّرُوا وَراءَهُمْ مَلِكٌ بِمَعْنَى أَمَامَهُمْ مَلِكٌ، فَتَوَهَّمَ بَعْضُ مُدَوِّنِي اللُّغَةِ أَنَّ (وَرَاءَ) مِنْ أَسْمَاءِ الْأَضْدَادِ، وَأَنْكَرَهُ الْفَرَّاءُ وَقَالَ: لَا يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ لِلَّذِي بَيْنَ يَدَيْكَ هُوَ وَرَاءَكَ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْمَوَاقِيتِ مِنَ اللَّيَالِي تَقُولُ: وَرَاءَكَ بَرْدٌ شَدِيدٌ، وَبَيْنَ يَدَيْكَ بَرْدٌ شَدِيدٌ. يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ عَلَى الْمَجَازِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَلَيْسَ مِنَ الْأَضْدَادِ كَمَا زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ.
وَمَعْنَى كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً أَيْ صَالِحَةٍ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها، وَقَدْ ذَكَرُوا فِي تَعْيِينِ هَذَا الْمَلِكِ وَسَبَبِ أَخْذِهِ لِلسُّفُنِ قَصَصًا وَأَقْوَالًا لَمْ يَثْبُتْ شَيْءٌ مِنْهَا بِعَيْنِهِ، وَلَا يَتَعَلَّقْ بِهِ غَرَضٌ فِي مَقَامِ الْعِبْرَةِ.
وَجُمْلَةُ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها مُتَفَرِّعَةٌ عَلَى كُلٍّ مِنْ جُمْلَتَيْ فَكانَتْ لِمَساكِينَ، ووَ كانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ، فَكَانَ حَقُّهَا التَّأْخِيرَ عَنْ كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ، وَلَكِنَّهَا قُدِّمَتْ خِلَافًا لِمُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِقَصْدِ الِاهْتِمَامِ وَالْعِنَايَةِ بِإِرَادَةِ إِعَابَةِ السَّفِينَةِ حَيْثُ كَانَ عَمَلًا ظَاهِرُهُ الْإِنْكَارُ وَحَقِيقَتُهُ الصَّلَاحُ زِيَادَةً فِي تَشْوِيقِ مُوسَى إِلَى عِلْمِ تَأْوِيلِهِ، لِأَنَّ كَوْنَ السَّفِينَةِ لِمَسَاكِينَ مِمَّا يَزِيدُ السَّامِعَ تَعَجُّبًا فِي الْإِقْدَامِ عَلَى خَرْقِهَا. وَالْمَعْنَى: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَقَدْ فَعَلْتُ. وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ: فَعِبْتُهَا، لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ فِعْلَهُ وَقَعَ عَنْ قَصْدٍ وَتَأَمُّلٍ.
وَقَدْ تُطْلَقُ الْإِرَادَةُ عَلَى الْقَصْدِ أَيْضًا. وَفِي «اللِّسَانِ» عَزْوُ ذَلِكَ إِلَى سِيبَوَيْهِ.
وَتَصَرُّفُ الْخَضِرِ فِي أَمْرِ السَّفِينَةِ تَصَرُّفٌ بِرَعْيِ الْمُصْلِحَةِ الْخَاصَّةِ عَنْ إِذْنٍ مِنَ اللَّهِ بِالتَّصَرُّفِ فِي مَصَالِحِ الضُّعَفَاءِ إِذْ كَانَ الْخَضِرُ عَالِمًا بِحَالِ
وَمَسْأَلَةُ صِفَةِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى تَقَدَّمَ الْخَوْضُ فِيهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً فِي سُورَةِ [النِّسَاءِ: ١٦٤].
وَجُمْلَةُ اسْتَمَعُوهُ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ النَّصْبِ فِي يَأْتِيهِمْ وَهَذَا الْحَالُ مُسْتَثْنَى مِنْ عُمُومِ أَحْوَالٍ أَيْ مَا يَأْتِيهِمْ ذِكْرٌ فِي حَالٍ إِلَّا فِي حَالِ اسْتِمَاعِهِمْ.
وَجُمْلَةُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ حَالٌ لَازِمَةٌ مِنْ ضَمِيرِ الرَّفْعِ فِي اسْتَمَعُوهُ مُقَيِّدَةٌ لِجُمْلَةِ اسْتَمَعُوهُ لِأَنَّ جُمْلَةَ اسْتَمَعُوهُ حَالٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا مُقَيَّدَةٌ بِحَالٍ أُخْرَى هِيَ الْمَقْصُودَةُ مِنَ التَّقْيِيدِ وَإِلَّا لَصَارَ الْكَلَامُ ثَنَاءً عَلَيْهِمْ. وَفَائِدَةُ هَذَا التَّرْتِيبِ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْحَالِيَّتَيْنِ الزِّيَادَةُ لِقَطْعِ مَعْذِرَتِهِمُ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِ مُحْدَثٍ كَمَا عَلِمْتَ.
ولاهِيَةً قُلُوبُهُمْ حَالٌ مِنَ الْمُبْتَدَأِ فِي جُمْلَةِ وَهُمْ يَلْعَبُونَ وَهِيَ احْتِرَاسٌ لِجُمْلَةِ اسْتَمَعُوهُ أَيِ اسْتِمَاعًا لَا وَعْيَ مَعَهُ.
وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ.
جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ [الْأَنْبِيَاء: ١] إِلَى آخِرِهَا، لِأَنَّ كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ مَسُوقَةٌ لِذِكْرِ أَحْوَالِ تَلَقِّي الْمُشْرِكِينَ لِدَعْوَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِالتَّكْذِيبِ وَالْبُهْتَانِ وَالتَّآمُرِ عَلَى رَفْضِهَا. فَالَّذِينَ ظَلَمُوا هُمُ الْمُرَادُ بِالنَّاسِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَوَاوُ الْجَمَاعَةِ عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمَائِرُ الْغَيْبَةِ الرَّاجِعَةُ إِلَى لِلنَّاسِ وَلَيْسَتْ جُمْلَةُ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لِأَنَّ مَضْمُونَهَا لَيْسَ فِي مَعْنَى التَّقْيِيدِ لِمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ.

[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : آيَة ٤]

وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (٤)
أَصْلُ الزَّكَاةِ أَنَّهَا اسْمُ مَصْدَرِ (زَكَّى) الْمُشَدَّدِ، إِذَا طَهَّرَ النَّفْسَ مِنَ الْمَذَمَّاتِ. ثُمَّ
أُطْلِقَتْ عَلَى إِنْفَاقِ الْمَالِ لِوَجْهِ اللَّهِ مَجَازًا لِأَنَّ الْقَصْدَ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ تَزْكِيَةُ النَّفْسِ أَوْ لِأَنَّ ذَلِكَ يُزِيدُ فِي مَالِ الْمُعْطِي. فَأَطْلَقَ اسْمَ الْمُسَبِّبِ عَلَى السَّبَبِ. وَأَصْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها [التَّوْبَة: ١٠٣]، وَأُطْلِقَتْ عَلَى نَفْسِ الْمَالِ الْمُنْفَقِ مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِ الْمَصْدَرِ عَلَى الْمَفْعُولِ لِأَنَّهُ حَاصِلٌ بِهِ وَهُوَ الْمُتَعَيِّنُ هُنَا بِقَرِينَةِ تَعْلِيقِهِ بِ فاعِلُونَ الْمُقْتَضِي أَنَّ الزَّكَاةَ مَفْعُولٌ. وَأَمَّا الْمَصْدَرُ فَلَا يَكُونُ مَفْعُولًا بِهِ لِفِعْلٍ مِنْ مَادَّةِ (ف. ع. ل) لِأَنَّ صَوْغَ الْفِعْلِ مِنْ مَادَّةِ ذَلِكَ الْمَصْدَرِ يُغْنِي عَنِ الْإِتْيَانِ بِفِعْلٍ مُبْهَمٍ وَنَصْبِ مَصْدَرِهِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ بِهِ. فَلَوْ قَالَ أَحَدٌ: فَعَلْتُ مَشْيًا، إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقُولَ: مَشَيْتُ، كَانَ خَارِجًا عَنْ تَرْكِيبِ الْعَرَبِيَّةِ وَلَوْ كَانَ مُفِيدًا، وَلَوْ قَالَ أَحَدٌ: فَعَلْتُ مِمَّا تُرِيدُهُ، لَصَحَّ التَّرْكِيبُ قَالَ تَعَالَى: مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنا [الْأَنْبِيَاء: ٥٩]، أَيْ هَذَا الْمُشَاهَدُ مِنَ الْكَسْرِ وَالْحَطْمِ، أَيْ هَذَا الْحَاصِلُ بِالْمَصْدَرِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْمَصْدَرَ لِأَنَّهُ لَا يُشَارُ إِلَيْهِ وَلَا سِيَّمَا بَعْدَ غَيْبَةِ فَاعِلِهِ.
وَالْمُرَادُ بِالْفِعْلِ هُنَا الْفِعْلُ الْمُنَاسِبُ لِهَذَا الْمَفْعُولِ وَهُوَ الْإِيتَاءُ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ [الْمَائِدَة: ٥٥] فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَقْدِيرِ أَدَاءِ الزَّكَاةِ.
وَإِنَّمَا أُوثِرَ هُنَا الِاسْمُ الْأَعَمُّ وَهُوَ فاعِلُونَ لِأَنَّ مَادَّةَ (ف ع ل) مُشْتَهِرَةٌ فِي إِسْدَاءِ الْمَعْرُوفِ، وَاشْتُقَّ مِنْهَا الْفَعَالُ بِفَتْحِ الْفَاءِ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ بَشِيرٍ الْخَارِجِيُّ:
إِنْ تُنْفِقِ الْمَالَ أَوْ تُكَلَّفْ مَسَاعِيَهُ يَشْقُقْ عَلَيْكَ وَتَفْعَلْ دُونَ مَا فُعِلَا
وَعَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ جَاءَ مَا نُسِبَ إِلَى أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ:
الْمُطْعِمُونَ الطَّعَامَ فِي السَّنَةِ الْأَزِ مَةِ وَالْفَاعِلُونَ لِلزَّكَوَاتِ
أَنْشَدَهُ فِي «الْكَشَّافِ». وَفِي نَفْسِي مِنْ صِحَّةِ نِسْبَتِهِ تَرَدُّدٌ لِأَنِّي أَحْسَبُ اسْتِعْمَالَ الزَّكَاةِ فِي مَعْنَى الْمَالِ الْمَبْذُولِ لِوَجْهِ اللَّهِ إِلَّا مِنْ مُصْطَلَحَاتِ الْقُرْآنِ،
إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ عُقْبَةُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ مِنْ طَعَامِهِ. وَكَانَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ غَائِبًا فَلَمَّا قَدِمَ أُخْبِرَ بِقَضِيَّتِهِ، فَقَالَ: صَبَأْتَ يَا عُقْبَةُ، قَالَ: وَاللَّهِ مَا صَبَأْتُ وَلَكِنْ دَخَلَ عَلَيَّ رَجُلٌ فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ مِنْ طَعَامِي حَتَّى أَشْهَدَ لَهُ، فَاسْتَحْيَيْتُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ بَيْتِي وَلَمْ يَطْعَمْ، فَشَهِدْتُ لَهُ فَطَعِمَ، فَقَالَ أُبَيٌّ: مَا أَنَا بِالَّذِي أَرْضَى عَنْكَ أَبَدًا إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُ فَتَبْصُقَ فِي وَجْهِهِ، فَكَفَرَ عُقْبَةُ وَأَخَذَ فِي امْتِثَالِ مَا أَمَرَهُ بِهِ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ
، فَيَكُونُ المُرَاد ب (فلَان) الْكِنَايَةَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ فَخُصُوصُهُ يَقْتَضِي لِحَاقَ أَمْثَالِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أَطَاعُوا أَخِلَّتَهُمْ فِي الشِّرْكِ وَلَمْ يَتَّبِعُوا سَبِيلَ الرَّسُولِ، وَلَا يَخْلُو أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَنْ خَلِيلٍ مُشْرِكٍ مِثْلِهِ يَصُدُّهُ عَنْ مُتَابَعَةِ الْإِسْلَامِ إِذا همّ بِهِ وَيُثَبِّتُهُ عَلَى دِينِ الشِّرْكِ فَيَتَنَدَّمُ يَوْمَ الْجَزَاءِ عَلَى طَاعَتِهِ وَيُذْكُرُهُ بِاسْمِهِ.
وَالْعَضُّ: الشَّدُّ بِالْأَسْنَانِ عَلَى الشَّيْءِ لِيُؤْلِمَهُ أَوْ لِيُمْسِكَهُ، وَحَقُّهُ التَّعْدِيَةُ بِنَفْسِهِ إِلَّا أَنَّهُ كَثُرَتْ تَعْدِيَتُهُ بِ عَلى لِإِفَادَةِ التَّمَكُّنِ مِنَ الْمَعْضُوضِ إِذَا قَصَدُوا عَضًّا شَدِيدًا كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
وَالْعَضُّ عَلَى الْيَدِ كِنَايَةٌ عَنِ النَّدَامَةِ لِأَنَّهُمْ تَعَارَفُوا فِي بَعْضِ أَغْرَاضِ الْكَلَامِ أَنْ يَصْحَبُوهَا بِحَرَكَاتٍ بِالْجَسَدِ مِثْلِ التَّشَذُّرِ، وَهُوَ رفع الْيَد عِنْد كَلَامِ الْغَضَبِ قَالَ، لَبِيدٌ:
غُلْبٌ تَشَذَّرُ بِالدَّخُولِ كَأَنَّهُمْ جِنُّ الْبَدِيِّ رَوَاسِيًا أَقْدَامُهَا
وَمِثْلِ وَضْعِ الْيَدِ عَلَى الْفَمِ عِنْدَ التَّعَجُّبِ. قَالَ تَعَالَى: فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ [إِبْرَاهِيم: ٩]. وَمِنْهُ فِي النَّدَمِ قَرْعُ السِّنِّ بِالْأُصْبُعِ، وَعَضُّ السَّبَّابَةِ، وَعَضُّ الْيَدِ. وَيُقَالُ: حَرَّقَ أَسْنَانَهُ وَحَرَّقَ الْأُرَّمَ (بِوَزْنِ رُكَّعٍ) الْأَضْرَاسَ أَوْ أَطْرَافَ الْأَصَابِعِ، وَفِي الْغَيْظِ عَضُّ الْأَنَامِلِ قَالَ تَعَالَى: عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١١٩]، وَكَانَتْ كِنَايَاتٍ بِنَاءً عَلَى مَا يُلَازِمُهَا فِي الْعُرْفِ مِنْ مَعَانٍ نَفْسِيَّةٍ، وَأَصْلُ نَشْأَتِهَا عَنْ تَهَيُّجِ الْقُوَّةِ الْعَصَبِيَّةِ مِنْ جَرَّاءِ غَضَبٍ أَوْ تَلَهُّفٍ.
وَالرَّسُولُ: هُوَ الْمَعْهُودُ وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالرِّزْقِ وَالْإِنْعَامِ لِلَّهِ تَعَالَى بِدَلِيلٍ لَا يَسَعُهُمْ إِلَّا الْإِقْرَارُ بِهِ يَنْتِجُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ مَعَهُ.
وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ. وبَلْ لِلْإِضْرَابِ عَنِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ تُفِيدُ مَعْنَى (لَكِنَّ) بِاعْتِبَارِ مَا تَضَمَّنَهُ الْإِنْكَارُ مِنِ انْتِفَاءِ أَنْ يَكُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهٌ فَكَانَ حَقُّ النَّاسِ أَنْ لَا يُشْرِكُوا مَعَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ غَيْرَهُ فَجِيءَ بِالِاسْتِدْرَاكِ لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ وَأَنْزَلَ لَكُمْ وَقَوْلُهُ مَا كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها لَمْ يَنْتَفِعُوا بِالدَّلِيلِ مَعَ أَنَّهُ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ مَكْشُوفٌ، فَهُمْ مُكَابِرُونَ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الِاهْتِدَاءِ بِهَذَا الدَّلِيلِ، فَهُمْ يَعْدِلُونَ بِاللَّهِ غَيْرَهُ، أَيْ يَجْعَلُونَ غَيْرَهُ عَدِيلًا مَثِيلًا لَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ مَعَ أَنَّ غَيْرَهُ عَاجِزٌ عَنْ ذَلِكَ فَيَكُونُ يَعْدِلُونَ مِنْ عَدَلَ الَّذِي يَتَعَدَّى بِالْبَاءِ، أَوْ يَعْدِلُونَ عَنِ الْحَقِّ مَنْ عَدَلَ الَّذِي يُعَدَّى بِ (عَنْ).
وَسُئِلَ بَعْضُ الْعَرَبِ عَنِ الْحَجَّاجِ فَقَالَ: «قَاسِطٌ عَادِلٌ»، فَظَنُّوهُ أَثْنَى عَلَيْهِ فَبَلَغَتْ كَلِمَتُهُ لِلْحَجَّاجِ، فَقَالَ: أَرَادَ قَوْلَهُ تَعَالَى أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً
[الْجِنّ: ١٥] أَيْ وَذَلِكَ قَرِينَةٌ على أَن المرار بِ (عَادِلٌ) أَنَّهُ عَادِلٌ عَنِ الْحَقِّ.
وَأَيًّا مَا كَانَ فَالْمَقْصُودُ تَوْبِيخُهُمْ عَلَى الْإِشْرَاكِ مَعَ وضوح دلَالَة خلق السَّمَوَات وَالْأَرْضِ وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ مِنَ الْمَاءِ.
وَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ الدَّلَالَةُ أَوْضَحَ الدَّلَالَاتِ الْمَحْسُوسَةِ الدَّالَّةِ عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ بِالْخَلْقِ وَصَفَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ بِأَنَّهُمْ فِي إِشْرَاكِهِمْ مُعْرِضُونَ إِعْرَاضَ مُكَابَرَةٍ عُدُولًا عَنِ الْحَقِّ الْوَاضِحِ قَالَ تَعَالَى وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لُقْمَان:
٢٥].
وَالْإِخْبَارُ عَنْهُمْ بِالْمُضَارِعِ لِإِفَادَةِ أَنَّهُمْ مُسْتَمِرُّونَ عَلَى شِرْكِهِمْ لَمْ يَسْتَنِيرُوا بِدَلِيلِ الْعَقْلِ وَلَا أَقْلَعُوا بَعْدَ التَّذْكِيرِ بِالدَّلَائِلِ. وَفِي الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ إِيمَاءٌ إِلَى تَمَكُّنِ صِفَةِ الْعُدُولِ عَنِ الْحَقِّ مِنْهُمْ حَتَّى كَأَنَّهَا مِنْ مُقَوِّمَاتِ قَوْمِيَّتِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ غير مرّة.
[٦١]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : آيَة ٦١]
أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٦١)
أَمْ لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ مِثْلُ أُخْتِهَا السَّابِقَةِ. وَهَذَا انْتِقَالٌ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ
الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِعْجَازِ فِي لَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ وَلِمَا أَيَّدَ ذَلِكَ الْإِعْجَازَ مِنْ كَوْنِ الْآتِي بِهِ أُمِّيًّا لَمْ يَكُنْ يَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ كِتَابًا وَلَا يَخُطُّ، أَيْ بَلِ الْقُرْآنُ آيَاتٌ لَيْسَتْ مِمَّا كَانَ يُتْلَى قَبْلَ نُزُولِهِ بَلْ هُوَ آيَاتٌ فِي صَدْرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَالْمُرَادُ مِنْ: صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ صدر للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُبِّرَ عَنْهُ بِالْجَمْعِ تَعْظِيمًا لَهُ.
والْعِلْمَ الَّذِي أُوتِيَهُ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ النبوءة كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً [النَّمْل: ١٥]. وَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ كَوْنَهُ فِي صَدْرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ شَأْنُ كُلِّ مَا يُنَزَّلُ مِنَ الْقُرْآنِ حِينَ نُزُولِهِ، فَإِذَا أُنْزِلَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَخُطَّهُ الْكَاتِبُونَ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّخَذَ كِتَابًا لِلْوَحْيِ فَكَانُوا رُبَّمَا كَتَبُوا الْآيَةَ فِي حِينِ نُزُولِهَا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ [النِّسَاء: ٩٥] وَكَذَلِكَ يَكُونُ بَعْدَ نُزُولِهِ مَتْلُوًّا، فَالْمَنْفِيُّ هُوَ أَنْ يَكُونَ مَتْلُوًّا قَبْلَ نُزُولِهِ. هَذَا الَّذِي يَقْتَضِيهِ سِيَاقُ الْإِضْرَابِ عَنْ أَنْ يَكُونَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتْلُو كِتَابًا قَبْلَ هَذَا الْقُرْآنِ بِحَيْثُ يُظَنُّ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْقُرْآنِ مِمَّا كَانَ يَتْلُوهُ مِنْ قَبْلُ فَلَمَّا انْتَفَى ذَلِكَ نَاسَبَ أَنْ يَكْشِفَ عَنْ حَالِ تَلَقِّي الْقُرْآنِ، فَذَلِكَ هُوَ مَوْقِعُ قَوْلِهِ: فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ كَمَا قَالَ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ [الشُّعَرَاء: ١٩٣، ١٩٤] وَقَالَ: كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ [الْفرْقَان: ٣٢].
وَأَمَّا الْإِخْبَارُ بِأَنَّهُ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فَذَلِكَ تَمْهِيدٌ لِلْغَرَضِ وَإِكْمَالٌ لِمُقْتَضَاهُ، وَلِهَذَا فَالْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فِي قَوْلِهِ: فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ خَبَرًا ثَانِيًا عَنِ
الضَّمِيرِ. وَيَلْتَئِمُ التَّقْدِيرُ هَكَذَا: وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ بَلْ هُوَ أُلْقِيَ فِي صَدْرِكَ وَهُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِ صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ صُدُورَ أَصْحَابِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحُفَّاظِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ تَتْمِيمًا لِلثَّنَاءِ عَلَى الْقُرْآنِ وَأَنَّ الْغَرَضَ هُوَ الْإِخْبَارُ عَنِ الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فَيَكُونُ الْمَجْرُورُ صِفَةً لِ آياتٌ وَالْإِبْطَالُ مُقْتَصِرٌ عَلَى قَوْلِهِ: بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ.
بِالصُّلْحِ فَإِنَّ النَّاسَ تَعَلَّقُوا بِهَا وَشَكَوْا إِلَيْهَا مَا صَارُوا إِلَيْهِ مِنْ عِظَيمِ الْفِتْنَةِ وَرَجَوْا بَرَكَتَهَا أَنْ تَخْرُجَ فَتُصْلِحَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَظَنُّوا أَنَّ النَّاسَ يَسْتَحْيُونَ مِنْهَا فَتَأَوَّلَتْ لِخُرُوجِهَا مَصْلَحَةً تُفِيدُ إِطْلَاقَ الْقَرَارِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ يكافىء الْخُرُوجَ لِلْحَجِّ. وَأَخَذَتْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما [الحجرات: ٩] وَرَأَتْ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِصْلَاحِ يَشْمَلُهَا وَأَمْثَالَهَا مِمَّنْ يَرْجُونَ سَمَاعَ الْكَلِمَةِ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهَا عَنِ اجْتِهَادٍ. وَقَدْ أَشَارَ عَلَيْهَا جَمْعٌ مِنَ الصَّحَابَةِ بِذَلِكَ وَخَرَجُوا مَعَهَا مِثْلَ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَنَاهِيكَ بِهِمَا. وَهَذَا مِنْ مَوَاقِعِ اجْتِهَادِ الصَّحَابَةِ الَّتِي يَجِبُ عَلَيْنَا حَمْلُهَا عَلَى أَحْسَنِ الْمَخَارِجِ وَنَظُنُّ بِهَا أَحْسَنَ الْمَذَاهِبِ، كَقَوْلِنَا فِي تَقَاتُلِهِمْ فِي صِفِّينَ وَكَادَ أَنْ يَصْلُحَ الْأَمْرُ وَلَكِنْ أَفْسَدَهُ دُعَاةُ الْفِتْنَةِ وَلَمْ تَشْعُرْ عَائِشَةُ إِلَّا وَالْمُقَاتَلَةُ قَدْ جَرَتْ بَيْنَ فَرِيقَيْنِ مِنَ الصَّحَابَةِ يَوْمَ الْجَمَلِ. وَلَا يَنْبَغِي تَقَلُّدُ كَلَامِ الْمُؤَرِّخِينَ عَلَى عِلَّاتِهِ فَإِنَّ فِيهِمْ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَمَنْ تَلَقَّفُوا الْغَثَّ وَالسَّمِينَ. وَمَا يُذْكَرُ عَنْهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّهَا كَانَتْ إِذَا قَرَأَتْ هَذِهِ الْآيَةَ تَبْكِي حَتَّى يَبْتَلَّ خِمَارُهَا، فَلَا ثِقَةَ بِصِحَّةِ سَنَدِهِ، وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ مَحْمَلُهُ أَنَّهَا أَسِفَتْ لِتِلْكَ الْحَوَادِثِ الَّتِي أَلْجَأَتْهَا إِلَى الِاجْتِهَادِ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ.
وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى.
التَّبَرُّجُ: إِظْهَارُ الْمَرْأَةِ مَحَاسِنَ ذَاتِهَا وَثِيَابِهَا وَحُلِيِّهَا بِمَرْأَى الرِّجَالِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ فِي سُورَةِ النُّورِ [٦٠].
وَانْتَصَبَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ، وَهُوَ فِي مَعْنَى الْوَصْفِ الْكَاشِفِ أُرِيدَ بِهِ التَّنْفِيرُ مِنَ التَّبَرُّجِ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ النَّهْيِ الدَّوَامُ عَلَى الِانْكِفَافِ عَنِ التَّبَرُّجِ وَأَنَّهُنَّ مَنْهِيَّاتٌ عَنْهُ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِنَهْيِ غَيْرِهِنَّ مِنَ الْمُسْلِمَاتِ عَنِ التَّبَرُّجِ، فَإِنَّ الْمَدِينَةَ أَيَّامَئِذٍ قَدْ بَقِيَ فِيهَا نِسَاءُ الْمُنَافِقِينَ وَرُبَّمَا كُنَّ عَلَى بَقِيَّةٍ مِنْ سِيرَتِهِنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأُرِيدَ النِّدَاءُ عَلَى إِبْطَالِ ذَلِكَ فِي سِيرَةِ الْمُسْلِمَاتِ، وَيَظْهَرُ أَنَّ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ مَنْهِيَّاتٌ عَنِ التَّبَرُّجِ مُطْلَقًا حَتَّى فِي الْأَحْوَالِ الَّتِي رُخِّصَ لِلنِّسَاءِ التَّبَرُّجُ فِيهَا فِي سُورَةِ النُّورِ فِي بُيُوتِهِنَّ لِأَنَّ تَرْكَ التَّبَرُّجِ كَمَالٌ وَتَنَزُّهٌ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِالسَّفَاسِفِ.
فَنُسِبَ إِلَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ إِذْ كَانَ قَدْ تَقَرَّرَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ تَحْقِيرُ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَمْرُ
جَمِيعٌ لَدَيْنَا
مُحْضَرُونَ، لَمَّا كَانَ تَنَافٍ بَيْنَ «أَكْثَرِهِمْ» وَبَيْنَ «جَمِيعِهِمْ» أَيْ أَكْثَرُهُمْ يَحْضُرُ مُجْتَمِعِينَ فَارْتَفَعَ جَمِيعٌ عَلَى الخبرية فِي قراءات تَخْفِيفِ لَمَّا وَعَلَى الِاسْتِثْنَاء على قراءات تَشْدِيدِ لَمَّا. ومُحْضَرُونَ نَعَتٌ لِ جَمِيعٌ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ. وَرُوعِيَ فِي النَّعْتِ مَعْنَى الْمَنْعُوتِ فَأُلْحِقَتْ بِهِ عَلَامَةُ الْجَمَاعَةِ، كَقَوْلِ لَبِيَدٍ:
عَرِيَتْ وَكَانَ بِهَا الْجَمِيعُ فَأَبْكَرُوا مِنْهَا وَغُودِرَ نُؤْيُهَا وَثُمَامُهَا
وَالْإِحْضَارُ: الْإِحْضَارُ لِلْحِسَابِ وَالْجَزَاء وَالْعِقَاب.
[٣٣]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ٣٣]
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (٣٣)
عُطِفَ عَلَى قِصَّةِ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ [يس: ١٣] فَإِنَّهُ ضَرَبَ لَهُمْ مَثَلًا لِحَالِ إِعْرَاضِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمُ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ تِلْكَ الْحَالُ مِنْ إِشْرَاكٍ وَإِنْكَارٍ لِلْبَعْثِ وَأَذًى لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَاقِبَةُ ذَلِكَ كُلِّهِ. ثُمَّ أعقب ذَلِك بالتفصيل لِإِبْطَالِ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الِاعْتِقَادَاتُ مِنْ إِنْكَارِ الْبَعْثِ وَمِنَ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ.
وَابْتُدِئَ بِدَلَالَةِ تَقْرِيبِ الْبَعْثِ لِمُنَاسَبَةِ الِانْتِقَالِ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ [يس: ٣٢] عَلَى أَنَّ هَذِهِ لَا تَخْلُو مِنْ دَلَالَتِهَا عَلَى الِانْفِرَادِ بِالتَّصَرُّفِ، وَفِي ذَلِكَ إِثْبَاتُ الْوَحْدَانِيَّةِ.
ووَ آيَةٌ مُبْتَدَأٌ ولَهُمُ صِفَةُ آيَةٌ، والْأَرْضُ خَبَرُ آيَةٌ، والْمَيْتَةُ صِفَةُ الْأَرْضُ. وَجُمْلَةُ أَحْيَيْناها فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْأَرْضُ وَهِيَ حَالٌ مُقَيَّدَةٌ لِأَنَّ إِحْيَاءَ الْأَرْضِ هُوَ منَاط الدّلَالَة عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، أَوْ يَكُونُ جُمْلَةُ أَحْيَيْناها بَيَانًا لِجُمْلَةِ آيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ لِبَيَانِ مَوْقِعَ الْآيَةِ فِيهَا، أَوْ بَدَلَ اشْتِمَالِ مِنْ جُمْلَةِ آيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ، أَوِ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا كَأَنَّ سَائِلًا سَأَلَ: كَيْفَ كَانَتِ الْأَرْضُ الْمَيِّتَةُ؟
وَفِي «مَفَاتِيحِ الْغَيْبِ» : أَنَّ مُقَاتِلًا كَانَ شَيْخَ الْمُرْجِئَةِ وَهُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا يَضُرُّ شَيْءٌ مِنَ الْمَعَاصِي مَعَ الْإِيمَانِ وَاحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: إِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ صَدَّقَ الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ فَإِنَّهُ تَعَالَى يُكَفِّرُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا. وَلَا يَجُوزُ حَمْلُ الْأَسْوَأِ عَلَى الْكُفْرِ السَّابِقِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّكْفِيرَ إِنَّمَا حَصَلَ فِي حَالِ مَا وَصَفَهُمُ الله بالتقوى وَهُوَ التَّقْوَى مِنَ الشِّرْكِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْأَسْوَأِ الْكَبَائِرَ الَّتِي يَأْتِي بِهَا بَعْدَ الْإِيمَانِ اهـ. وَلَمْ يُجِبْ عَنْهُ فِي «مَفَاتِيحِ الْغَيْبِ» وَجَوَابُهُ: لِأَنَّ الْأَسْوَأَ مُحْتَمَلٌ أَنَّ أَدِلَّة كَثِيرَة أُخْرَى تُعَارِضُ الِاسْتِدْلَالَ بِعُمُومِهَا. وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ كلمة أَسْوَأَ وكملة أحسن محسّن الطّبق.
[٣٦- ٣٧]
[سُورَة الزمر (٣٩) : الْآيَات ٣٦ الى ٣٧]
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٦) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (٣٧)
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ.
لَمَّا ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلْمُشْرِكِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِمَثَلِ رَجُلٍ فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلٍ خَالِصٍ لِرَجُلٍ، كَانَ ذَلِكَ الْمَثَلُ مُثِيرًا لِأَنْ يَقُولَ قَائِلُ الْمُشْرِكِينَ لَتَتَأَلَّبَنَّ شُرَكَاؤُنَا عَلَى الَّذِي جَاءَ يُحَقِّرُهَا وَيَسُبُّهَا، وَمُثِيرًا لِحَمِيَّةِ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يَنْتَصِرُوا لِآلِهَتِهِمْ كَمَا قَالَ مُشْرِكُو قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ [الْأَنْبِيَاء: ٦٨]. وَرُبَّمَا أَنْطَقَتْهُمْ حَمِيَّتُهُمْ بِتَخْوِيفِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَفِي «الْكَشَّاف» و «تَفْسِير الْقُرْطُبِيِّ» : أَنَّ قُرَيْشًا قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّا نَخَافُ أَنْ تَخْبِلَكَ آلِهَتُنَا وَإِنَّا نَخْشَى عَلَيْكَ مَعَرَّتَهَا (بِعَيْنٍ بَعْدَ الْمِيمِ بِمَعْنَى الْإِصَابَةِ بِمَكْرُوهٍ يَعْنُونَ الْمَضَرَّةَ) لِعَيْبِكَ إِيَّاهَا». وَفِي «تَفْسِيرِ ابْنِ عَطِيَّةَ» مَا هُوَ بِمَعْنَى هَذَا، فَلَمَّا حَكَى تَكْذِيبَهُمْ النَّبِيءَ عَطَفَ الْكَلَامَ إِلَى مَا هَدَّدُوهُ بِهِ وَخَوَّفُوهُ مِنْ شَرِّ أَصْنَامِهِمْ بِقَوْلِهِ: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ.
فَهَذَا الْكَلَامُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ [الزمر: ٢٩] الْآيَةَ وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ الَّذِي أَفْرَدْتُهُ بِالْعِبَادَةِ هُوَ كَافِيكَ شَرَّ الْمُشْرِكِينَ وَبَاطِلَ آلِهَتِهِمُ الَّتِي عَبَدُوهَا مِنْ دُونِهِ، فَقَوْلُهُ: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ تَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ: وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ قُدِّمَ عَلَيْهِ لِتَعْجِيلِ مَسَاءَةِ الْمُشْرِكِينَ بِذَلِكَ، وَيَسْتَتْبِعُ ذَلِكَ تَعْجِيلُ مَسَرَّةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ اللَّهَ ضَامِنٌ لَهُ الْوِقَايَةَ كَقَوْلِهِ: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ [الْبَقَرَة: ١٣٧].
الْحِسَابِ أَوْ قَالَ فِي نَفْسِهِ مَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ فَرَضْتُ قِيَامَ السَّاعَةِ عَلَى احْتِمَالٍ ضَعِيفٍ فَإِنِّي سَأَجِدُ عِنْدَ اللَّهِ الْمُعَامَلَةَ بِالْحُسْنَى لِأَنِّي مِنْ أَهْلِ الثَّرَاءِ وَالرَّفَاهِيَةِ فِي الدُّنْيَا فَكَذَلِكَ سَأَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَهَذَا مِنْ سُوءِ اعْتِقَادِهِمْ أَنْ يَحْسَبُوا أَحْوَالَ الدُّنْيَا مُقَارِنَةً لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ حِينَ اقْتَضَاهُ خَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ مَالًا لَهُ عِنْدَهُ مِنْ أَجْرِ صِنَاعَةِ سَيْفٍ فَقَالَ لَهُ: حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ؟ فَقَالَ خَبَّابٌ: لَا أَكْفُرُ بِمُحَمَّدٍ حَتَّى يُمِيتَكَ اللَّهُ وَيَبْعَثُك، فَقَالَ: أَو إنّي لَمَيِّتٌ فَمَبْعُوثٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: لَئِنْ بَعَثَنِي اللَّهُ فَسَيَكُونُ لِي مَالِي فَأَقْضِيكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَداً الْآيَات من سُورَةِ مَرْيَمَ [٧٧].
وَلَعَلَّ قَوْلَهُ: وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى إِنَّمَا هُوَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ كَمَا فِي مَقَالَةِ الْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ. وَذِكْرُ إِنْكَارِ الْبَعْثِ هُنَا إِدْمَاجٌ بِذِكْرِ أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ الْمُشْرِكِ فِي عُمُومِ أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ.
وَجِيءَ فِي حِكَايَةِ قَوْلِهِ وَلَئِنْ رُجِعْتُ بِحَرْفِ (إِنْ) الشَّرْطِيَّةِ الَّتِي يَغْلِبُ وُقُوعُهَا فِي الشَّرْطِ الْمَشْكُوكِ وُقُوعُهُ لِأَنَّهُ جَعَلَ رُجُوعَهُ إِلَى اللَّهِ أَمْرًا مَفْرُوضًا ضَعِيفَ الِاحْتِمَالِ. وَأَمَّا
دُخُولُ اللَّامِ الْمُوطِئَةِ لِلْقَسَمِ عَلَيْهِ فَمَوْرِدُ التَّحْقِيقِ بِالْقِسَمِ هُوَ حُصُولُ الْجَوَابِ لَوْ حَصَلَ الشَّرْطُ.
وَكَذَلِكَ التَّأْكِيدُ بِ إِنْ وَلَامِ الِابْتِدَاءِ مَوْرِدُهُ هُوَ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَكَذَلِكَ تَقْدِيمُ لِي وعِنْدَهُ عَلَى اسْمِ إِنَّ هُوَ لِتَقَوِّي تَرَتُّبِ الْجَوَابِ عَلَى الشَّرْطِ.
وَالْحُسْنَى: صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، أَيِ الْحَالَةُ الْحُسْنَى، أَوِ الْمُعَامَلَةُ الْحُسْنَى.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْحُسْنَى صَارَتِ اسْمًا لِلْإِحْسَانِ الْكَثِيرِ أَخْذًا مِنْ صِيغَةِ التَّفْضِيلِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِنْسَانَ مُتَفَاوِتَةٌ أَفْرَادُهُ فِي هَذَا الْخُلُقِ الْمَعْزُوِّ إِلَيْهِ هُنَا عَلَى تَفَاوُتِ أَفْرَادِهِ فِي الْغُرُورِ، وَلَمَّا كَانَ أَكْثَرُ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ الْمُشْرِكِينَ كَانَ هَذَا الْخُلُقُ فَاشِيًا فِيهِمْ
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ ضَلُّوا عَنْ دَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَادَّعُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ بِلَا دَلِيلٍ وَاخْتَارُوا الشُّرَكَاءَ مِنْ حِجَارَةٍ وَهِيَ أَبْعَدُ الْمَوْجُودَاتِ عَنْ قَبُولِ صِفَاتِ الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ وَالتَّصَرُّفِ ثُمَّ يَدْعُونَهَا فِي نَوَائِبِهِمْ وَهُمْ يُشَاهِدُونَ أَنَّهَا لَا تَسْمَعُ وَلَا تُبْصِرُ وَلَا تُجِيبُ ثُمَّ سَمِعُوا آيَاتِ الْقُرْآنِ تُوَضِّحُ لَهُمُ الذِّكْرَى بِنَقَائِصِ آلِهَتِهِمْ، فَلَمْ يَعْتَبِرُوا بِهَا وَزَعَمُوا أَنَّهَا سِحْرٌ ظَاهِرٌ فَكَانَ ضَلَالُهُمْ أَقْصَى حَدٍّ فِي الضَّلَالِ.
ومَنْ لَا يَسْتَجِيبُ الْأَصْنَامُ عُبِّرَ عَنِ الْأَصْنَامِ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ الْمُخْتَصِّ بِالْعُقَلَاءِ مُعَامَلَةً لِلْجَمَادِ مُعَامَلَةَ الْعُقَلَاءِ إِذْ أُسْنِدَ إِلَيْهَا مَا يُسْنَدُ إِلَى أُولِي الْعِلْمِ مِنَ الْغَفْلَةِ، وَلِأَنَّهُ شَاعَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِجْرَاؤُهَا مَجْرَى الْعُقَلَاءِ فَكَثُرَتْ فِي الْقُرْآنِ مُجَارَاةُ اسْتِعْمَالِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَمِثْلُ هَذَا جَعْلُ ضَمَائِرِ جَمْعِ الْعُقَلَاءِ فِي قَوْلِهِ: وَهُمْ وَقَوْلِهِ: غافِلُونَ وَهِيَ عَائِدَةٌ إِلَى مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ.
وَجَعْلُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ غَايَةً لِانْتِفَاءِ الِاسْتِجَابَةِ. كِنَايَةٌ عَنِ اسْتِغْرَاقِ مُدَّةِ بَقَاءِ الدُّنْيَا. وَعُبِّرَ عَنْ نِهَايَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِ يَوْمِ الْقِيامَةِ لِأَنَّ الْمُوَاجَهَ بِالْخَبَرِ هُوَ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنُونَ كَمَا
عَلِمَتْ وَهُمْ يَثْبُتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَة.
وضميرا كانُوا فِي الْمَوْضِعَيْنِ يَجُوزُ أَنْ يعودا إِلَى مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ يُعَادُونَ أَصْنَامَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذْ يَجِدُونَهَا مِنْ أَسْبَابِ شَقَائِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَا إِلَى مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ فَإِنَّ الْأَصْنَامَ يَجُوزُ أَنْ تُعْطَى حَيَاةً يَوْمَئِذٍ فَتَنْطِق بالتبرّي عَن عُبَّادِهَا وَمِنْ عِبَادَتِهِمْ إِيَّاهَا، قَالَ تَعَالَى: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ [فاطر: ١٤] وَقَالَ:
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ قالُوا سُبْحانَكَ مَا كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ [الْفرْقَان: ١٧- ١٩].
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ جَارِيًا عَلَى التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ لِمُشَابَهَتِهَا لِلْأَعْدَاءِ وَالْمُنْكِرِينَ لِلْعِبَادَةِ فِي دَلَالَتِهَا عَلَى مَا يُفْضِي إِلَى شَقَائِهِمْ وَكَذِبِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ [هود: ١٠١].
وَعَطْفُ جُمْلَةِ وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ إِلَخْ عَلَى مَا قَبْلَهَا لِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَجُمْلَةُ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الرِّيحَ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ عُمُومِ أَحْوَالِ شَيْءٍ يُبَيِّنُ الْمُعَرَّفَ، أَيْ مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ فِي حَالٍ مِنْ أَحْوَالِ تَدْمِيرِهَا إِلَّا فِي حَالٍ قَدْ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ.
وَالرَّمِيمُ: الْعَظْمُ الَّذِي بُلِيَ. يُقَالُ: رَمَّ الْعظم، إِذْ بَلِيَ، أَيْ جَعَلَتْهُ مُفَتَّتًا.
وَالْمَعْنَى: وَفِي عَادٍ آيَةٌ لَلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ إِذْ أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الرِّيحَ.
وَالْمُرَادُ: أَنَّ الْآيَةَ كَائِنَةٌ فِي أَسْبَابِ إِرْسَالِ الرِّيحِ عَلَيْهِمْ وَهِيَ أَسْبَابُ تَكْذِيبِهِمْ هُودًا وَإِشْرَاكِهِمْ بِاللَّهِ وَقَالُوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت: ١٥]، فَيَحْذَرُ مِنْ مِثْلَ مَا حَلَّ بِهِمْ أَهْلُ الْإِيمَانِ. وَأَمَّا الَّذِينَ لَا يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ فَهُمْ مُصِرُّونَ عَلَى كُفْرِهِمْ كَمَا أَصَرَّتْ عَادٌ فَيُوشِكُ أَنْ يَحُلَّ بِهِمْ مِنْ جَنْسِ مَا حلّ بعاد.
[٤٣- ٤٥]
[سُورَة الذاريات (٥١) : الْآيَات ٤٣ إِلَى ٤٥]
وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (٤٣) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٤٤) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (٤٥)
أُتْبِعَتْ قِصَّةُ عَادٍ بِقِصَّةِ ثَمُودَ لِتَقَارُنِهِمَا غَالِبًا فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ ثَمُودَ عَاصَرَتْ عَادًا وَخَلَفَتْهَا فِي عَظَمَةِ الْأُمَمِ، قَالَ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ [الْأَعْرَاف: ٧٤] وَلِاشْتِهَارِهِمَا بَيْنَ الْعَرَبِ.
وفِي ثَمُودَ عَطْفٌ عَلَى فِي عادٍ أَوْ عَلَى تَرَكْنا فِيها آيَةً.
وَالْمَعْنَى: وَتَرَكْنَا آيَةً لَلْمُؤْمِنِينَ فِي ثَمُودَ فِي حَالٍ قَدْ أَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ، أَيْ فِي دِلَالَةِ أَخْذِ الصَّاعِقَةِ إِيَّاهُمْ، عَلَى أَنَّ سَبَبَهُ هُوَ إِشْرَاكُهُمْ وَتَكْذِيبُهُمْ وَعُتُوُّهُمْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ، فَالْمُؤْمِنُونَ اعْتَبَرُوا بِتِلْكَ فَسَلَكُوا مَسْلَكَ النَّجَاةِ مِنْ عَوَاقِبِهَا، وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَإِصْرَارُهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ سَيُوقِعُهُمْ فِي عَذَابٍ مِنْ جِنْسِ مَا وَقَعَتْ فِيهِ ثَمُودُ.
وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي ذُكِرَ هُنَا هُوَ كَلَامٌ جَامِعٌ لِمَا أَنْذَرَهُمْ بِهِ صَالِحٌ رَسُولُهُمْ وَذَكَّرَهُمْ بِهِ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ: وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً [الْأَعْرَاف: ٧٤]
مَعْنَى الْبُعْدِ إِذْ هُوَ قَدْ كَانَ طَلَاقًا وَالطَّلَاقُ يُبْعِدُ أَحَدَ الزَّوْجَيْنِ من الْآخَرِ، فَاجْتَلَبَ لَهُ حَرْفَ الِابْتِدَاءِ. كَمَا يُقَالُ: خَرَجَ مِنَ الْبَلَدِ.
وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُتَعَارَفَ فِي صِيغَةِ الظِّهَارِ أَنْ تَشْتَمِلَ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَى الزَّوْجَةِ وَالظَّهْرِ وَالْأُمِّ دُونَ الْتِفَاتٍ إِلَى مَا يَرْبِطُ هَذِه الْكَلِمَات الثَّلَاث من أدوات الرَّبْطِ مِنْ أَفْعَالٍ وَحُرُوفٍ نَحْوِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، وَأَنْتِ مِنِّي مِثْلَ ظَهْرِ أُمِّي، أَوْ كُونِي لِي كَظَهْرِ أُمِّي، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.
فَأَمَّا إِذَا فُقِدَ بَعْضُ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ أَوْ جَمِيعُهَا. نَحْوُ: وَجْهُكِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي. أَوْ كَجَنْبِ أُمِّي، أَوْ كَظَهْرِ جَدَّتِي، أَوِ ابْنَتِي، مِنْ كُلِّ كَلَامٍ يُفِيدُ تَشْبِيهَ الزَّوْجَةِ، أَوْ إِلْحَاقَهَا بِإِحْدَى النِّسَاءِ مِنْ مَحَارِمِهِ بِقَصْدِ تَحْرِيمِ قُرْبَانِهَا، فَذَلِكَ كُلُّهُ مِنَ الظِّهَارِ فِي أَشْهَرِ أَقْوَالِ مَالِكٍ وَأَقْوَالِ أَصْحَابِهِ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَلَا يَنْتَقِلُ إِلَى صِيغَةِ الطَّلَاقِ أَوِ التَّحْرِيمِ لِأَنَّ اللَّهَ أَرَادَ التَّوْسِعَةَ عَلَى النَّاسِ وَعَدَمَ الْمُؤَاخَذَةِ.
وَلَمْ يُشِرِ الْقُرْآنُ إِلَى اسْمِ الظَّهْرِ وَلَا إِلَى اسْمِ الْأُمِّ إِلَّا مُرَاعَاةً لِلصِّيغَةِ الْمُتَعَارَفَةِ بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ بِحَيْثُ لَا يَنْتَقِلُ الْحُكْمُ مِنَ الظِّهَارِ إِلَى صِيغَةِ الطَّلَاقِ إِلَّا إِذَا تَجَرَّدَ عَنْ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ الثَّلَاثِ تَجَرُّدًا وَاضِحًا.
وَالصُّوَرُ عَدِيدَةٌ وَلَيْسَتِ الْإِحَاطَةُ بِهَا مُفِيدَةً، وَذَلِكَ مِنْ مَجَالِ الْفَتْوَى وَلَيْسَ مِنْ مَهْيَعِ التَّفْسِيرِ.
وَجُمْلَةُ مَا هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ خَبَرٌ عَنِ الَّذِينَ، أَيْ لَيْسَ أَزْوَاجُهُمْ أُمَّهَاتٌ لَهُمْ بِقَوْلِ أَحَدِهِمْ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، أَيْ لَا تَصِيرُ الزَّوْجُ بِذَلِكَ أُمَّا لِقَائِلِ تِلْكَ الْمَقَالَةِ.
وَهَذَا تَمْهِيدٌ لِإِبْطَالِ أَثَرِ صِيغَةِ الظِّهَارِ فِي تَحْرِيمِ الزَّوْجَةِ، بِمَا يُشِيرُ إِلَى أَن الأمومة حَقِيقَة ثَابِتَةٌ لَا تُصْنَعُ بِالْقَوْلِ إِذِ الْقَوْلُ لَا يُبَدِّلُ حَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ [٤] : ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَلِذَلِكَ أَعْقَبَ هُنَا بِقَوْلِهِ: إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ أَيْ فَلَيْسَتِ الزَّوْجَاتُ الْمُظَاهَرُ مِنْهُنَّ بِصَائِرَاتٍ أُمَّهَاتٍ بِذَلِكَ الظِّهَارِ لْانْعِدَامِ حَقِيقَةِ الْأُمُومَةِ مِنْهُنَّ إِذْ هُنَّ لَمْ يَلِدْنَ الْقَائِلِينَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَلَا يَحْرُمْنَ عَلَيْهِمْ، فَالْقَصْرُ فِي الْآيَةِ حَقِيقِيٌّ، أَيْ فَالتَّحْرِيمُ بِالظِّهَارِ أَمْرٌ بَاطِلٌ لَا يَقْتَضِيهِ سَبَبٌ يُؤَثِّرُ إِيجَادَهُ.

[سُورَة الْملك (٦٧) : آيَة ٢]

الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (٢)
صِفَةٌ لِ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الْمُلْكُ: ١] فَلَمَّا شَمِلَ قَوْلُهُ: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الْملك: ١] تَعَلُّقَ الْقُدْرَةِ بِالْمَوْجُودِ وَالْمَعْدُومِ أُتْبِعَ بِوَصْفِهِ تَعَالَى بِالتَّصَرُّفِ الَّذِي مِنْهُ خَلْقُ الْمَخْلُوقَاتِ وَأَعْرَاضِهَا لِأَنَّ الْخَلْقَ أَعْظَمُ تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ بِالْمَقْدُورِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى صِفَةِ الْقُدْرَةِ وَعَلَى صِفَةِ الْعِلْمِ.
وَأُوثِرَ بِالذِّكْرِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الْمَوْتُ وَالْحَيَاةُ لِأَنَّهُمَا أَعْظَمُ الْعَوَارِضِ لِجِنْسِ الْحَيَوَانِ الَّذِي هُوَ أَعْجَبُ الْمَوْجُودِ عَلَى الْأَرْضِ وَالَّذِي الْإِنْسَانُ نَوْعٌ مِنْهُ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالْمُخَاطَبَةِ بِالشَّرَائِعِ وَالْمَوَاعِظِ، فَالْإِمَاتَةُ تَصَرُّفٌ فِي الْمَوْجُودِ بِإِعْدَادِهِ لِلْفَنَاءِ، وَالْإِحْيَاءُ تَصَرُّفٌ فِي الْمَعْدُومِ بِإِيجَادِهِ ثُمَّ إِعْطَائِهِ الْحَيَاةَ لِيَسْتَكْمِلَ وُجُودَ نَوْعِهِ.
فَلَيْسَ ذِكْرُ خَلْقِ الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ تَفْصِيلًا لِمَعْنَى الْمُلْكِ بَلْ هُوَ وَصْفٌ مُسْتَقِلٌّ.
وَالْاِقْتِصَارُ عَلَى خَلْقِ الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ لِأَنَّهُمَا حَالَتَانِ هُمَا مَظْهَرَا تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ بِالْمَقْدُورِ فِي الذَّاتِ وَالْعَرَضِ لِأَنَّ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ عَرَضَانِ وَالْإِنْسَانُ مَعْرُوضٌ لَهُمَا.
وَالْعَرَضُ لَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ فَلَمَّا ذُكِرَ خَلْقُ الْعَرَضِ عُلِمَ مِنْ ذِكْرِهِ خَلْقُ مَعْرُوضِهِ بِدَلَالَةِ الْاِقْتِضَاءِ.
وَأُوثِرَ ذِكْرُ الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ لِمَا يَدُلَّانِ عَلَيْهِ مِنَ الْعِبْرَةِ بِتَدَاوُلِ الْعَرَضَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ عَلَى مَعْرُوضٍ وَاحِدٍ، وَلِلدَّلَالَةِ عَلَى كَمَالِ صُنْعِ الصَّانِعِ، فَالْمَوْتُ وَالْحَيَاةُ عَرَضَانِ يَعْرِضَانِ لِلْمَوْجُودِ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَالْمَوْتُ يُعِدُّ الْمَوْجُودَ لِلْفَنَاءِ وَالْحَيَاةُ تُعِدُّ الْمَوْجُودَ لِلْعَمَلِ لِلْبَقَاءِ
مُدَّةً. وَهُمَا عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنَ الْأَعْرَاضِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْحَيِّ، وَعِنْدَ الْحُكَمَاءِ مِنْ مَقُولَةِ الْكَيْفِ وَمِنْ قِسْمِ الْكَيْفِيَّاتِ النَّفْسَانِيَّةِ مِنْهُ.
فَالْحَيَاةُ: قُوَّةٌ تَتْبَعُ اعْتِدَالَ الْمِزَاجِ النَّوْعِيِّ لِتَفِيضَ مِنْهَا سَائِرُ الْقُوَى.
والْمَوْتَ: كَيْفِيَّةٌ عَدَمِيَّةٌ هُوَ عَدَمُ الْحَيَاةِ عَمَّا شَأْنُهُ أَنْ يُوصَفَ بِالْحَيَاةِ أَوِ الْمَوْتِ، أَيْ زَوَالِ الْحَيَاةِ عَنِ الْحَيِّ، فَبَيْنَ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ تَقَابُلُ الْعَدَمِ وَالْمَلَكَةِ.
وَمَعْنَى خَلْقِ الْحَيَاةِ: خَلْقُ الْحَيِّ لِأَنَّ قِوَامَ الْحَيِّ هُوَ الْحَيَاةُ، فَفِي خَلْقِهِ خَلْقُ مَا
وَلِذَلِكَ حُذِفَ مَفْعُولُ سَيَعْلَمُونَ لِيَعُمَّ الْمَعْلُومَيْنِ فَإِنَّهُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ يَرَوْنَ مَا سَيَصِيرُونَ إِلَيْهِ فَقَدْ
جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «إِنَّ الْكَافِرَ يَرَى مَقْعَدَهُ فَيُقَالُ لَهُ هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى تُبْعَثَ»
وَفِي الْحَدِيثِ: «الْقَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ»
وَذَلِكَ مِنْ مَشَاهِدِ رُوحِ الْمَقْبُورِ وَهِيَ مِنَ الْمُكَاشَفَاتِ الرُّوحِيَّةِ وَفُسِّرَ بِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ [التكاثر: ٦، ٧].
فَتَضَمَّنَ هَذَا الْإِبْطَالُ وَمَا بَعْدَهُ إِعْلَامًا بِأَنَّ يَوْمَ الْبَعْثِ وَاقِعٌ، وَتَضَمَّنَ وَعِيدًا وَقَدْ وَقَعَ تَأْكِيدُهُ بِحَرْفِ الِاسْتِقْبَالِ الَّذِي شَأْنُهُ إِفَادَةُ تَقْرِيبِ الْمُسْتَقْبَلِ.
وَمِنْ مَحَاسِنِ هَذَا الْأُسْلُوبِ فِي الْوَعِيدِ أَنَّ فِيهِ إِيهَامًا بِأَنَّهُمْ سَيَعْلَمُونَ جَوَابَ سُؤَالِهِمُ الَّذِي أَرَادُوا بِهِ الْإِحَالَةَ وَالتَّهَكُّمَ، وَصَوَّرُوهُ فِي صُورَةِ طَلَبِ الْجَوَابِ فَهَذَا الْجَوَابُ مِنْ بَابِ قَوْلِ النَّاسِ: الْجَوَابُ مَا تَرَى لَا مَا تسمع.
[٥]
[سُورَة النبإ (٧٨) : آيَة ٥]
ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (٥)
ارْتِقَاءٌ فِي الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ فَإِنَّ ثُمَّ لَمَّا عَطَفَتِ الْجُمْلَةَ فَهِيَ لِلتَّرْتِيبِ الرَّتَبِيِّ، وَهُوَ أَنَّ مَدْلُولَ الْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَهَا أَرْقَى رُتْبَةً فِي الْغَرَضِ مِنْ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَلَمَّا كَانَتِ الْجُمْلَةُ الَّتِي بَعْدَ ثُمَّ مِثْلَ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَ ثُمَّ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونُ الْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَ ثُمَّ أَرْقَى دَرَجَةً مِنْ مَضْمُونِ نَظِيرِهَا. وَمَعْنَى ارْتِقَاءِ الرُّتْبَةِ أَنَّ مَضْمُونَ مَا بَعْدَ ثُمَّ أَقْوَى مِنْ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَ ثُمَّ، وَهَذَا الْمَضْمُونُ هُوَ الْوَعِيدُ، فَلَمَّا اسْتُفِيدَ تَحْقِيقُ وُقُوعِ الْمُتَوَعَّدِ بِهِ بِمَا أَفَادَهُ التَّوْكِيدُ اللَّفْظِيُّ إِذِ الْجُمْلَةُ الَّتِي بَعْدَ ثُمَّ أَكَّدَتِ الْجُمْلَةَ
الَّتِي قَبْلَهَا تَعَيَّنَ انْصِرَافُ مَعْنَى ارْتِقَاءِ رُتْبَةِ مَعْنَى الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ هُوَ أَنَّ الْمُتَوَعَّدَ بِهِ الثَّانِيَ أَعْظَمُ مِمَّا يَحْسَبُونَ.
وَضَمِيرُ سَيَعْلَمُونَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ يَجْرِي عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي ضمير يَتَساءَلُونَ [النبأ: ١] وَضمير فِيهِ مُخْتَلِفُونَ [النبأ: ٣].
[٦]
[سُورَة النبإ (٧٨) : آيَة ٦]
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (٦)
لَمَّا كَانَ أَعْظَمُ نَبَأٍ جَاءَهُمْ بِهِ الْقُرْآنُ إِبْطَالَ إِلَهِيَّةِ أَصْنَامِهِمْ وَإِثْبَاتَ إِعَادَةِ خلق أجسامهم، وهما الْأَصْلَانِ اللَّذَانِ أَثَارَا تَكْذِيبَهُمْ بِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَتَأَلُّبَهُمْ عَلَى


الصفحة التالية
Icon