أَسَالِيبِهِ الْإِتْيَانُ بِالْأَلْفَاظِ الَّتِي تَخْتَلِفُ مَعَانِيهَا بِاخْتِلَافِ حُرُوفِهَا أَوِ اخْتِلَافِ حَرَكَاتِ حُرُوفِهَا وَهُوَ مِنْ أَسْبَابِ اخْتِلَافِ كَثِيرٍ مِنَ الْقِرَاءَاتِ مِثْلَ: وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِنْدَ الرَّحْمَن إِنَاثًا [الزخرف: ١٩] قرىء (عِنْدَ) بِالنُّونِ دون ألف وقرىء (عِبَادُ) بِالْمُوَحَّدَةِ وَأَلِفٍ بَعْدَهَا، وَمِثْلَ: إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ [الزخرف: ٥٧] بِضَمِّ الصَّادِ وَكَسْرِهَا. وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى ذَلِكَ فِي الْمُقَدِّمَةِ السَّادِسَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مِمَّا يَنْدَرِجُ تَحْتَ جِهَةِ الْأُسْلُوبِ مَا سَمَّاهُ أَئِمَّةُ نَقْدِ الْأَدَبِ بِالْجَزَالَةِ، وَمَا سَمَّوْهُ بِالرِّقَّةِ وَبَيَّنُوا لِكُلٍّ مِنْهُمَا مَقَامَاتِهِ وَهُمَا رَاجِعَتَانِ إِلَى مَعَانِي الْكَلَامِ، وَلَا تَخْلُو سُورَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ مِنْ تَكَرُّرِ هَذَيْنِ الْأُسْلُوبَيْنِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا بَالِغٌ غَايَتَهُ فِي مَوْقِعِهِ، فَبَيْنَمَا تَسْمَعُهُ يَقُولُ: قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر: ٥٣] وَيَقُولُ: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ
الْإِنْسانُ ضَعِيفاً
[النِّسَاء: ٢٨] إِذْ تَسْمَعُهُ يَقُولُ: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ [فصلت: ١٣] قَالَ عِيَاض فِي «الشِّفَاء» : إِنَّ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ لَمَّا سَمِعَ هَذِهِ الْآيَةَ أَمْسَكَ بِيَدِهِ عَلَى فَمِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ لَهُ: نَاشَدْتُكَ اللَّهَ وَالرَّحِمَ إِلَّا مَا كَفَفْتَ.
عادات الْقُرْآن
يَحِقُّ عَلَى الْمُفَسِّرِ أَنْ يَتَعَرَّفَ عَادَاتِ الْقُرْآنِ مِنْ نَظْمِهِ وَكَلِمِهِ. وَقَدْ تَعَرَّضَ بَعْضُ السَّلَفِ لِشَيْءٍ مِنْهَا، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كُلُّ كَاسٍ فِي الْقُرْآنِ فَالْمُرَادُ بِهَا الْخَمْرُ، وَذَكَرَ ذَلِكَ الطَّبَرِيُّ عَنِ الضَّحَّاكِ أَيْضًا. وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ:
مَا سَمَّى اللَّهُ مَطَرًا فِي الْقُرْآنِ إِلَّا عَذَابًا، وَتُسَمِّيهِ الْعَرَبُ الْغَيْثَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا [الشورى: ٢٨]. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ كُلَّ مَا جَاءَ مِنْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ [الْبَقَرَة: ٢١] فَالْمَقْصُودُ بِهِ أَهْلُ مَكَّةَ الْمُشْرِكُونَ.
وَقَالَ الْجَاحِظُ فِي «الْبَيَانِ» :«وَفِي الْقُرْآنِ مَعَانٍ لَا تَكَادُ تَفْتَرِقُ، مِثْلَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَالْجُوعِ وَالْخَوْفِ، وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَالرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ، وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ» قُلْتُ: وَالنَّفْعِ وَالضُّرِّ، وَالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.
أَنْ يُقَالَ: أُولَئِكَ مَا يَأْخُذُونَ إِلَّا أَخْذًا فَظِيعًا مُهْلِكًا فَإِنْ تَنَاوَلَهَا كَتَنَاوُلِ النَّارِ لِلْأَكْلِ فَإِنَّهُ كُلُّهُ هَلَاكٌ مِنْ وَقْتِ تَنَاوُلِهَا بِالْيَدِ إِلَى حُصُولِهَا فِي الْبَطْنِ، وَوَجْهُ كَوْنِ الرِّشْوَةِ مُهْلِكَةً أَنَّ فِيهَا اضْمِحْلَالَ أَمْرِ الْأُمَّةِ وَذَهَابَ حُرْمَةِ الْعُلَمَاءِ وَالدِّينِ فَتَكُونُ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها [آل عمرَان: ١٠٣] أَيْ عَلَى وَشْكِ الْهَلَاكِ وَالِاضْمِحْلَالِ.
وَالَّذِي يَدْعُو إِلَى الْمَصِيرِ لِلتَّمْثِيلِيَّةِ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فِي بُطُونِهِمْ فَإِنَّ الرِّشْوَةَ لَا تُؤْكَلُ فِي الْبَطْنِ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَكَّبُ كُلُّهُ اسْتِعَارَةً، وَلَوْ جُعِلَتِ الِاسْتِعَارَةُ فِي خُصُوصِ لَفْظِ النَّارِ لَكَانَ قَوْلُهُ: يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ مُسْتَعْمَلًا فِي الْمُرَكَّبِ الْحَقِيقِيِّ، وَهُوَ لَا يَصِحُّ، وَلَوْلَا قَوْلُهُ: فِي بُطُونِهِمْ لَأَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ يَأْكُلُونَ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ حَقِيقَةً عرفية فِي غصب الْحَقِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: يَأْكُلُونَ مُسْتَقْبَلًا، أَيْ مَا سَيَأْكُلُونَ إِلَّا النَّارَ عَلَى أَنَّهُ تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ، وَهُوَ وَجِيهٌ، وَنُكْتَةُ اسْتِعَارَةِ الْأَكْلِ هُنَا إِلَى اصْطِلَائِهِمْ بِنَارِ جَهَنَّمَ هِيَ مُشَاكَلَةٌ تَقْدِيرِيَّةٌ لِقَوْلِهِ: يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالثَّمَنِ هُنَا الرِّشْوَةُ، وَقَدْ شَاعَ تَسْمِيَةُ أَخْذِ الرَّشْوَةِ أَكْلًا.
وَقَوْلُهُ: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ نَفْيٌ لِلْكَلَامِ وَالْمُرَادُ بِهِ لَازِمُ مَعْنَاهُ وَهُوَ الْكِنَايَةُ عَنِ الْغَضَبِ، فَالْمُرَادُ نَفْيُ كَلَامِ التَّكْرِيمِ، فَلَا يُنَافِي قَوْله تَعَالَى: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ [الْحجر: ٩٣].
وَقَوْلُهُ: وَلا يُزَكِّيهِمْ أَيْ لَا يُثْنِي عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ الْمَجْمَعِ، وَذَلِكَ إِشْعَارٌ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَى الْعَذَابِ لِأَنَّهُ إِذَا نُفِيَتِ التَّزْكِيَةُ أَعْقَبَهَا الذَّمُّ وَالتَّوْبِيخُ، فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ ذَمِّهِمْ فِي ذَلِكَ الْجَمْعِ إِذْ لَيْسَ يَوْمئِذٍ سكُوت.
[١٧٥]
[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ١٧٥]
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (١٧٥)
إِنْ جَعَلْتَ أُولئِكَ مُبْتَدَأً ثَانِيًا لِجُمْلَةٍ هِيَ خَبَرٌ ثَانٍ عَنِ الْمُبْتَدَأِ الْأَوَّلِ وَهُوَ اسْمُ إِنَّ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ [الْبَقَرَة: ١٧٤] فَالْقَوْلُ فِيهِ
كَالْقَوْلِ فِي نَظِيرِهِ وَهُوَ أُولئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ [الْبَقَرَة: ١٧٤] وَنُكْتَةُ تَكْرِيرِهِ أَنَّهُ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ جَدِيرٌ بِأَحْكَامٍ أُخْرَى
آخِرِهِ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ، وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَأْمَنْهُ لَا يُدَايِنُهُ، وَلَكِنْ طُوِيَ هَذَا تَرْغِيبًا لِلنَّاسِ فِي الْمُوَاسَاةِ وَالِاتِّسَامِ بِالْأَمَانَةِ. وَهَؤُلَاءِ الْفِرَقُ الثَّلَاثَةُ كُلُّهُمْ يَجْعَلُونَ هَذِهِ الْآيَةَ مَقْصُورَةً عَلَى بَيَانِ حَالَة ترك التوثّق فِي الدُّيُونِ.
وَأَظْهَرُ مِمَّا قَالُوهُ عِنْدِي: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَشْرِيعٌ مُسْتَقِلٌّ يَعُمُّ جَمِيعَ الْأَحْوَالِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالدُّيُونِ: مِنْ إِشْهَادٍ، وَرَهْنٍ، وَوَفَاءٍ بِالدَّيْنِ، وَالْمُتَعَلِّقَةِ بِالتَّبَايُعِ، وَلِهَذِهِ النُّكْتَةِ أُبْهِمَ الْمُؤْتَمَنُونَ بِكَلِمَةِ بَعْضٍ لِيَشْمَلَ الِائْتِمَانَ مِنْ كِلَا الْجَانِبَيْنِ: الَّذِي مِنْ قِبَلِ رَبِّ الدَّيْنِ، وَالَّذِي مِنْ قِبَلِ الْمَدِينِ.
فَرَبُّ الدَّيْنِ يَأْتَمِنُ الْمَدِينَ إِذَا لَمْ يَرَ حَاجَةً إِلَى الْإِشْهَاد عَلَيْهِ، وَلَمْ يُطَالِبْهُ بِإِعْطَاءِ الرَّهْنِ فِي السَّفَرِ وَلَا فِي الْحَضَرِ.
وَالْمَدِينُ يَأْتَمِنُ الدَّائِنَ إِذَا سَلَّمَ لَهُ رَهْنًا أَغْلَى ثَمَنًا بِكَثِيرٍ مِنْ قِيمَةِ الدَّيْنِ الْمُرْتَهَنِ فِيهِ، وَالْغَالِبُ أَنَّ الرِّهَانَ تَكُونُ أَوْفَرَ قِيمَةً مِنَ الدُّيُونِ الَّتِي أُرْهِنَتْ لِأَجْلِهَا، فَأَمَرَ كُلَّ جَانِبٍ مُؤْتَمَنٍ أَنْ يُؤَدِّيَ أَمَانَتَهُ، فَأَدَاءُ الْمَدِينِ أَمَانَتَهُ بِدَفْعِ الدَّيْنِ، دُونَ مَطْلٍ، وَلَا جُحُودٍ، وَأَدَاءُ الدَّائِنِ أَمَانَتَهُ إِذَا أُعْطِيَ رَهْنًا مُتَجَاوِزَ الْقِيمَةِ عَلَى الدَّيْنِ أَنْ يَرُدَّ الرَّهْنَ وَلَا يَجْحَدَهُ غَيْرَ مُكْتَرِثٍ بِالدَّيْنِ لِأَنَّ الرَّهْنَ أَوْفَرُ مِنْهُ، وَلَا يُنْقِصَ شَيْئًا مِنَ الرَّهْنِ.
وَلَفْظُ الْأَمَانَةِ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَيَيْنِ: مَعْنَى الصِّفَةِ الَّتِي يَتَّصِفُ بِهَا الْأَمِينُ، وَمَعْنَى الشَّيْءِ الْمُؤَمَّنِ.
فَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ إِبْطَالُ غَلْقِ الرَّهْنِ: وَهُوَ أَنْ يَصِيرَ الشَّيْءُ الْمَرْهُونُ مِلْكًا لِرَبِّ الدَّيْنِ، إِذَا لَمْ يُدْفَعِ الدَّيْنُ عِنْدَ الْأَجَلِ،
قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ»
وَقَدْ كَانَ غَلْقُ
الرَّهْنِ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، قَالَ زُهَيْرٌ:
وَفَارَقَتْكَ بِرَهْنٍ لَا فَكَاكَ لَهُ | عِنْدَ الْوَدَاعِ فَأَمْسَى الرَّهْنُ قَدْ غَلِقَا |
اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْإِشْرَاكِ بِهِ، وَمِنْ حِكْمَتِهِ تَعَالَى أَنْ رَتَّبَ عَلَى الْأُمُورِ الْخَبِيثَةِ آثَارًا خَبِيثَةً، فَإِنَّ الشِّرْكَ لَمَّا كَانَ اعْتِقَادَ تَأْثِيرِ مَنْ لَا تَأْثِيرَ لَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ الِاعْتِقَادُ يَرْتَكِزُ فِي نُفُوسِ مُعْتَقَدِيهِ عَلَى غَيْرِ دَلِيلٍ، كَانَ مِنْ شَأْنِ مُعْتَقِدِهِ أَنْ يَكُونَ مُضْطَرِبَ النَّفْسِ مُتَحَيِّرًا فِي الْعَاقِبَةِ فِي تَغَلُّبِ بَعْضِ الْآلِهَةِ عَلَى بَعْضٍ، فَيَكُونُ لِكُلِّ قَوْمٍ صَنَمٌ هُمْ أَخَصُّ بِهِ، وَهُمْ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ
لِغَيْرِهِ مِنَ الْأَصْنَامِ مِثْلُ مَا لَهُ مِنَ الْقُدْرَةِ وَالْغَيْرَةِ. فَلَا تَزَالُ آلِهَتُهُمْ فِي مُغَالَبَةٍ وَمُنَافَرَةٍ. كَمَا لَا يَزَالُ أَتْبَاعُهُمْ كَذَلِكَ، وَالَّذِينَ حَالُهُمْ كَمَا وَصَفْنَا لَا يَسْتَقِرُّ لَهُمْ قَرَارٌ فِي الثِّقَةِ بِالنَّصْرِ فِي حُرُوبِهِمْ، إِذْ هُمْ لَا يَدْرُونَ هَلِ الرِّبْحُ مَعَ آلِهَتِهِمْ أَمْ مَعَ أَضْدَادِهَا، وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ: مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً صِلَةٌ أُجْرِيَتْ عَلَى الْمُشْرِكِ بِهِ لَيْسَ الْقَصْدُ بِهَا تَعْرِيفُ الشُّرَكَاءِ، وَلَكِنْ قُصِدَ بِهَا الْإِيمَاءُ إِلَى أَنَّهُ مِنْ أَسْبَابِ إِلْقَاءِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِهِمْ، إِذْ هُمْ عَلَى غَيْرِ يَقِينٍ فِيمَا أَشْرَكُوا وَاعْتَقَدُوا، فَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ مُتَزَلْزِلَةٌ، إِذْ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ الشُّرَكَاءَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَنْزِلَ بِهِمْ سُلْطَانٌ. فَإِنْ قُلْتَ: مَا ذَكَرْتَهُ يَقْتَضِي أَنَّ الشِّرْكَ سَبَبٌ فِي إِلْقَاءِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ أَهْلِهِ، فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الرُّعْبُ نَازِلًا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ قَبْلِ هَذِهِ الْوَقْعَةِ، وَاللَّهُ يَقُولُ سَنُلْقِي» أَيْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، قُلْتُ: هُوَ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ تَسْتَكِنُّ فِي النُّفُوسِ حَتَّى يَدْعُوَ دَاعِي ظُهُورِهَا، فَالرُّعْبُ وَالشَّجَاعَةُ صِفَتَانِ لَا تَظْهَرَانِ إِلَّا عِنْدَ الْقِتَالِ، وَتَقْوَيَانِ وَتَضْعُفَانِ، فَالشُّجَاعُ تَزِيدُ شَجَاعَتُهُ بِتَكَرُّرِ الِانْتِصَارِ، وَقَدْ يَنْزَوِي قَلِيلًا إِذَا انْهَزَمَ ثُمَّ تَعُودُ لَهُ صِفَتُهُ سَرْعَى. كَمَا وَصَفَهُ عَمْرُو بْنُ الْإِطْنَابَةَ فِي قَوْلِهِ:
وَقُولِي كُلَّمَا جَشَأَتْ وَجَاشَتْ | مَكَانَكِ تُحْمَدِي أَوْ تَسْتَرِيحِي |
تَأَخَّرْتُ أَسْتَبْقِي الْحَيَاةَ فَلَمْ أَجِدْ | لِنَفْسَيْ حَيَاةً مِثْلَ أَنْ أَتَقَدَّمَا |
وَ (الطَّاغُوتُ) : الْأَصْنَامُ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٥]، وَقَوْلِهِ: يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ [النِّسَاء: ٦٠].
وَالْمُرَادُ بِكَيْدِ الشَّيْطَانِ تَدْبِيرُهُ. وَهُوَ مَا يَظْهَرُ عَلَى أَنْصَارِهِ مِنَ الْكَيْدِ لِلْمُسْلِمِينَ وَالتَّدْبِيرِ لِتَأْلِيبِ النَّاسِ عَلَيْهِمْ، وَأَكَّدَ الْجُمْلَةَ بِمُؤَكِّدَيْنِ (إِنَّ) (وَكَانَ) الزَّائِدَةِ الدَّالَّةِ عَلَى تَقَرُّرِ وَوصف الضَّعْفِ لِكَيْدِ الشَّيْطَانِ.
[٧٧- ٧٩]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ٧٧ الى ٧٩]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧٧) أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (٧٨) مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (٧٩)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (٧٧) أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ تَهَيَّأَ الْمَقَامُ لِلتَّذْكِيرِ بِحَالِ فَرِيقٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ اخْتَلَفَ أَوَّلُ حَالِهِ وَآخِرُهُ، فَاسْتَطْرَدَ هُنَا
التَّعْجِيبُ مِنْ شَأْنِهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِرَاضِ فِي أَثْنَاءِ الْحَثِّ عَلَى الْجِهَادِ، وَهَؤُلَاءِ فَرِيقٌ يَوَدُّونَ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُمْ بِالْقِتَالِ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ فِي إِبَّانِهِ جَبُنُوا. وَقَدْ عُلِمَ مَعْنَى حِرْصِهِمْ عَلَى الْقِتَالِ قَبْلَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَوْلِهِ: قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ، لِأَنَّ كَفَّ الْيَدِ مُرَادٌ، مِنْهُ تَرْكُ الْقِتَالَ، كَمَا قَالَ: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ [الْفَتْح: ٢٤].
وَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَما لَكُمْ لَا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النِّسَاء: ٧٥] وَالْجُمَلِ الَّتِي بَعْدَهَا وَبَيْنَ جُمْلَةِ فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النِّسَاء: ٧٤] الْآيَةَ اقْتَضَتِ اعْتِرَاضَهَا مُنَاسَبَةُ الْعِبْرَةِ بِحَالِ هَذَا
الْأَمَةَ إِلَّا إِذَا خَشِيَ الْعَنَتَ وَلَمْ يَجِدْ لِلْحَرَائِرِ طَوْلًا، وَجَوَّزَ
ذَلِكَ لِلْعَبْدِ، وَكَأَنَّهُ جَعَلَ الْخِطَابَ هُنَا لِلْأَحْرَارِ بِالْقَرِينَةِ وَبِقَرِينَةِ آيَةِ النِّسَاءِ [٢٥] وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ وَهُوَ تَفْسِيرٌ بَيِّنٌ مُلْتَئِمٌ. وَأَصْلُ ذَلِكَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَمُجَاهِدٍ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ فَسَّرَ الْمُحْصَنَاتِ هُنَا بِالْعَفَائِفِ، وَنُقِلَ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَغَيْرِهِ، فَمَنَعُوا تَزَوُّجَ غَيْرِ الْعَفِيفَةِ مِنَ النِّسَاءِ لِرِقَّةِ دِينِهَا وَسُوءِ خُلُقِهَا.
وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ أَيِ الْحَرَائِرُ عِنْدَ مَالِكٍ، وَلِذَلِكَ مُنِعَ نِكَاحُ إِمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ مُطْلَقًا لِلْحُرِّ وَالْعَبْدِ. وَالَّذِينَ فَسَّرُوا الْمُحْصَنَاتِ بِالْعَفَائِفِ مَنَعُوا هُنَا مَا مَنَعُوا هُنَاكَ.
وَشَمَلَ أَهْلُ الْكِتَابِ: الذِّمِّيِّينَ، وَالْمُعَاهِدِينَ، وَأَهْلَ الْحَرْبِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، إِلَّا أَنَّ مَالِكًا كَرِهَ نِكَاحَ النِّسَاءِ الْحَرْبِيَّاتِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: تَخْصِيصُ الْآيَةِ بِغَيْرِ نِسَاءِ أَهْلِ الْحَرْبِ، فَمَنَعَ نِكَاحَ الْحَرْبِيَّاتِ. وَلَمْ يَذْكُرُوا دَلِيلَهُ.
وَالْأُجُورُ: الْمُهُورُ، وَسُمِّيَتْ هُنَا (أُجُورًا) مَجَازًا فِي مَعْنَى الْأَعْوَاضِ عَنِ الْمَنَافِعِ الْحَاصِلَةِ مِنْ آثَارِ عُقْدَةِ النِّكَاحِ، عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ أَوِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ. وَالْمَهْرُ شِعَارٌ مُتَقَادِمٌ فِي الْبَشَرِ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ النِّكَاحِ وَبَيْنَ الْمُخَادَنَةِ. وَلَوْ كَانَتِ الْمُهُورُ أُجُورًا حَقِيقَةً لَوَجَبَ تَحْدِيدُ مُدَّةِ الِانْتِفَاعِ وَمِقْدَارِهِ وَذَلِكَ مِمَّا تَنَزَّهَ عَنْهُ عُقْدَةُ النِّكَاحِ.
وَالْقَوْلُ فِي قَوْلِهِ: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ كَالْقَوْلِ فِي نَظِيرِهِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ [النِّسَاء: ٢٥] تقدّم فِي هَذِه السُّورَة.
وَجُمْلَةُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمَلِ. وَالْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ إِبَاحَةَ تَزَوُّجِ نِسَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا يَقْتَضِي تَزْكِيَةً لِحَالِهِمْ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ تَيْسِيرٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ ذُكِرَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا أَنَّ
وَتَسْفِيهِ الْمُشْرِكِينَ فِيمَا اقْتَرَحُوهُ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طَلَبِ إِظْهَارِ الْخَوَارِقِ تَهَكُّمًا.
وَإِبْطَالِ اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ اللَّهَ لَقَّنَهُمْ عَلَى عَقِيدَةِ الْإِشْرَاكِ قَصْدًا مِنْهُمْ لِإِفْحَامِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيَانِ حَقِيقَةِ مَشِيئَةِ اللَّهِ. وَإِثْبَاتِ صِدْقِ الْقُرْآنِ بِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَعْرِفُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ.
وَالْإِنْحَاءِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ تَكْذِيبَهُمْ بِالْبَعْثِ، وَتَحْقِيقِ أَنَّهُ وَاقِعٌ، وَأَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ بَعْدَهُ الْعَذَابَ، وَتَتَبَرَّأُ مِنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي عَبَدُوهَا، وَسَيَنْدَمُونَ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا أَنَّهَا لَا تُغْنِي عَنْهُمْ شَيْئًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَإِنَّهُمْ لَا يَدْعُونَ إِلَّا اللَّهَ عِنْدَ النَّوَائِبِ.
وَتَثْبِيتِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ بِإِعْرَاضِ قَوْمِهِ، وَأَمْرِهِ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ.
وَبَيَانِ حِكْمَةِ إِرْسَالِ اللَّهِ الرُّسُلَ، وَأَنَّهَا الْإِنْذَارُ وَالتَّبْشِيرُ وَلَيْسَتْ وَظِيفَةُ الرُّسُلِ إِخْبَارَ النَّاسِ بِمَا يَتَطَلَّبُونَ عِلْمَهُ مِنَ الْمُغَيَّبَاتِ.
وَأَنَّ تَفَاضُلَ النَّاسِ بِالتَّقْوَى وَالِانْتِسَابِ إِلَى دِينِ اللَّهِ. وَإِبْطَالِ مَا شَرَعَهُ أَهْلُ الشِّرْكِ مِنْ شَرَائِعِ الضَّلَالِ.
وَبَيَانِ أَنَّ التَّقْوَى الْحَقَّ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ حِرْمَانِ النَّفْسِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ بَلْ هِيَ حِرْمَانُ النَّفْسِ مِنَ الشَّهَوَاتِ الَّتِي تَحُولُ بَيْنَ النَّفْسِ وَبَيْنَ الْكَمَالِ وَالتَّزْكِيَةِ.
وَضَرْبِ الْمَثَلِ لِلنَّبِيءِ مَعَ قَوْمِهِ بِمَثَلِ إِبْرَاهِيمَ مَعَ أَبِيهِ وَقَوْمِهِ وَكَانَ الْأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ عَلَى ذَلِكَ الْمَثَلِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْهُمْ وَمَنْ تَأَخَّرَ.
وَالْمِنَّةِ عَلَى الْأُمَّةِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْقُرْآنِ هُدًى لَهُمْ كَمَا أَنْزَلَ الْكِتَابَ عَلَى مُوسَى، وَبِأَنْ جَعَلَهَا اللَّهُ خَاتِمَةَ الْأُمَمِ الصَّالِحَةِ.
وَبَيَانِ فَضِيلَةِ الْقُرْآنِ وَدِينِ الْإِسْلَامِ وَمَا مَنَحَ اللَّهُ لِأَهْلِهِ مِنْ مُضَاعَفَةِ الْحَسَنَاتِ.
وَتَخَلَّلَتْ ذَلِكَ قَوَارِعُ لِلْمُشْرِكِينَ، وَتَنْوِيهٌ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَامْتِنَانٌ بِنِعَمٍ اشْتَمَلَتْ عَلَيْهَا مَخْلُوقَاتُ اللَّهِ، وَذِكْرُ مَفَاتِحِ الْغَيْبِ.
فَوَجْهُ عَدَمِ مَحَبَّةِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ أَنَّ الْإِفْرَاطَ فِي تَنَاوُلِ اللَّذَّاتِ وَالطَّيِّبَاتِ، وَالْإِكْثَارَ مِنْ بَذْلِ الْمَالِ فِي تَحْصِيلِهَا، يُفْضِي غَالِبًا إِلَى اسْتِنْزَافِ الْأَمْوَالِ وَالشَّرَهِ إِلَى الِاسْتِكْثَارِ مِنْهَا، فَإِذَا ضَاقَتْ عَلَى الْمُسْرِفِ أَمْوَالُهُ تَطَلَّبَ تَحْصِيلَ الْمَالِ مِنْ وُجُوهٍ فَاسِدَةٍ، لِيُخْمِدَ بِذَلِكَ نَهْمَتَهُ إِلَى اللَّذَّاتِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ دَأْبَهُ، فَرُبَّمَا ضَاقَ عَلَيْهِ مَالُهُ، فَشَقَّ عَلَيْهِ الْإِقْلَاعُ عَنْ مُعْتَادِهِ، فَعَاشَ فِي كَرْبٍ وَضَيْقٍ، وَرُبَّمَا تَطَلَّبَ الْمَالَ مِنْ وُجُوهٍ غَيْرِ مَشْرُوعَةٍ، فَوَقَعَ فِيمَا يُؤَاخَذُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ، ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ قَدْ يُعْقِبُ عِيَالَهُ خَصَاصَةً وَضَنْكَ مَعِيشَةٍ. وَيَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ مَلَامٌ وَتَوْبِيخٌ وَخُصُومَاتٌ تُفْضِي إِلَى مَا لَا يُحْمَدُ فِي اخْتِلَالِ نِظَامِ الْعَائِلَةِ. فَأَمَّا كَثْرَةُ الْإِنْفَاقِ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ فَإِنَّهَا لَا تُوقِعُ فِي مِثْلِ هَذَا، لِأَنَّ الْمُنْفِقَ لَا يَبْلُغُ فِيهَا مَبْلَغَ الْمُنْفِقِ لِمَحَبَّةِ لَذَّاتِهِ، لِأَنَّ دَاعِيَ الْحِكْمَةِ قَابِلٌ لِلتَّأَمُّلِ وَالتَّحْدِيدِ بِخِلَافِ دَاعِي الشَّهْوَةِ. وَلِذَلِكَ قِيلَ فِي الْكَلَامِ الَّذِي يَصِحُّ طَرْدًا وَعَكْسًا: «لَا خَيْرَ فِي السَّرَفِ، وَلَا سَرَفَ فِي الْخَيْرِ» وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٣١] : وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الْأَعْرَاف: ٣١]
وَقَول النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَيَكْرَهُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ وإضاعة المَال»
. [١٤٢]
[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : آيَة ١٤٢]
وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٤٢)
عُطِفَ: حَمُولَةً عَلَى: جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ [الْأَنْعَامِ: ١٤١] أَيْ: وَأَنْشَأَ مِنَ الْأَنْعَامِ حمولة وفرشا، فينسحب عَلَيْهِ الْقصر الّذي فِي الْمَعْطُوف عَلَيْهِ، أَي هُوَ الّذي أنشأ من الْأَنْعَام حَمُولَةً وَفَرْشًا لَا آلِهَةَ الْمُشْرِكِينَ، فَكَانَ الْمُشْرِكُونَ ظَالِمِينَ فِي جَعْلِهِمْ لِلْأَصْنَامِ حَقًّا فِي الْأَنْعَامِ.
وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: وَمِنَ الْأَنْعامِ ابْتِدَائِيَّةٌ لِأَنَّ الِابْتِدَاءَ مَعْنًى يَصْلُحُ
بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ خِطَابًا لِسَامِعِي الْقُرْآنِ، أَيْ قَالَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ لِكُلٍّ ضِعْفًا فَلِذَلِكَ سَأَلُوا التَّغْلِيظَ عَلَى الْقَادَةِ فَأُجِيبُوا بِأَنَّ التَّغْلِيظَ قَدْ سُلِّطَ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ.
وَعُطِفَتْ جُمْلَةُ: وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ عَلَى جُمْلَةِ: قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَدْخُلُوا فِي الْمُحَاوَرَةِ ابْتِدَاءً فَلِذَلِكَ لَمْ تُفْصَلِ الْجُمْلَةُ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِمْ: فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَاءٌ فَصِيحَةٌ، مُرَتَّبَةٌ عَلَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى لِكُلٍّ ضِعْفٌ حَيْثُ سَوَّى بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ فِي مُضَاعَفَةِ الْعَذَابِ. وَ (مَا) نَافِيَةٌ. وَ (مِنْ) زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ نَفْيِ الْفَضْلِ، لِأَنَّ إِخْبَارَ اللَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: (لِكُلٍّ ضِعْفٌ) سَبَبٌ لِلْعِلْمِ بِأَنْ لَا مَزِيَّةَ لِأُخْرَاهُمْ عَلَيْهِمْ فِي تَعْذِيبِهِمْ عَذَابًا أَقَلَّ مِنْ عَذَابِهِمْ، فَالتَّقْدِيرُ: فَإِذَا كَانَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ فَمَا كَانَ لَكُمْ مِنْ فَضْلٍ، وَالْمُرَادُ بِالْفَضْلِ الزِّيَادَةُ مِنَ الْعَذَابِ. وَقَوْلُهُ:
فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ أُولَاهُمْ: عطفوا قَوْلهم:
فَذُوقُوا الْعَذابَ عَلَى قَوْلِهِمْ: فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بِفَاءِ الْعَطْفِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّرَتُّبِ. فَالتَّشَفِّي مِنْهُمْ فِيمَا نَالَهُمْ مِنْ عَذَابِ الضِّعْفِ تَرَتَّبَ عَلَى تَحَقُّقِ انْتِفَاءِ الْفَضْلِ بَيْنَهُمْ فِي تَضْعِيفِ الْعَذَابِ الَّذِي أَفْصَحَ عَنْهُ إِخْبَارُ اللَّهِ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا ضِعْفًا.
وَصِيغَةُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِمْ: فَذُوقُوا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْإِهَانَةِ وَالتَّشَفِّي.
وَالذَّوْقُ اسْتُعْمِلَ مَجَازًا مُرْسَلًا فِي الْإِحْسَاسِ بِحَاسَّةِ اللَّمْسِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظَائِرُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ.
وَالْبَاءُ سَبَبِيَّةٌ، أَيْ بِسَبَبِ مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ مِمَّا أَوْجَبَ لَكُمْ مُضَاعَفَةَ الْعَذَابِ، وَعَبَّرَ
بِالْكَسْبِ دُونَ الْكُفْرِ لِأَنَّهُ أَشْمَلُ لِأَحْوَالِهِمْ، لِأَنَّ إِضْلَالَهُمْ لِأَعْقَابِهِمْ كَانَ بِالْكُفْرِ وَبِحُبِّ الْفَخْرِ وَالْإِغْرَابِ بِمَا عَلَّمُوهُمْ وَمَا سَنُّوا لَهُمْ، فَشَمِلَ ذَلِكَ كُلُّهُ أَنَّهُ كَسْبٌ.
اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ لَمَّا تَجَلَّى لِلْجَبَلِ ارْتَجَفَ الْجَبَلُ وَمَكَثَ مُوسَى أَرْبَعِينَ يَوْمًا. وَجَاءَ فِي الْإِصْحَاحِ
الثَّانِي وَالثَّلَاثِينَ وَالَّذِي يعده، بَعْدَ ذِكْرِ عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ وَكَسْرِ الْأَلْوَاحِ، أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ مُوسَى بِأَنْ يَنْحِتَ لَوْحَيْنِ مِنْ حَجَرٍ مِثْلَ الْأَوَّلَيْنِ لِيَكْتُبَ عَلَيْهِمَا الْكَلِمَاتِ الْعَشْرَ الْمَكْتُوبَةَ عَلَى اللَّوْحَيْنِ الْمُنْكَسِرَيْنِ وَأَنْ يَصْعَدَ إِلَى طُورِ سِينَا وَذُكِرَتْ صِفَةُ صُعُودٍ تُقَارِبُ الصِّفَةَ الَّتِي فِي الْإِصْحَاحِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ، وَأَنَّ اللَّهَ قَالَ لِمُوسَى مَنْ أَخْطَأَ أَمْحُوهُ مِنْ كِتَابِي، وَأَنَّ مُوسَى سَجَدَ لِلَّهِ تَعَالَى وَاسْتَغْفَرَ لِقَوْمِهِ قِلَّةَ امْتِثَالِهِمْ وَقَالَ فَإِن عفرت خَطِيئَتَهُمْ وَإِلَّا فَامْحُنِي مِنْ كِتَابِكَ. وَجَاءَ فِي الْإِصْحَاحِ التَّاسِعِ مِنْ سِفْرِ التَّثْنِيَةِ: أَنَّ مُوسَى لَمَّا صَعِدَ الطُّورَ فِي الْمُنَاجَاةِ الثَّانِيَةِ صَامَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً لَا يَأْكُلُ طَعَامًا وَلَا يَشْرَبُ مَاءً اسْتِغْفَارًا لِخَطِيئَةِ قَوْمِهِ وَطَلَبًا لِلْعَفْوِ عَنْهُمْ. فَتَبَيَّنَ مِمَّا فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِمُوسَى مِيقَاتَيْنِ لِلْمُنَاجَاةِ، وَأَنَّهُ اخْتَارَ سَبْعِينَ رَجُلًا لِلْمُنَاجَاةِ الْأُولَى وَلَمْ تَذْكُرِ اخْتِيَارَهُمْ لِلْمُنَاجَاةِ الثَّانِيَةِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْمُنَاجَاةُ الثَّانِيَةُ كَالتَّكْمِلَةِ لِلْأُولَى تَعَيَّنَ أَنَّ مُوسَى اسْتَصْحَبَ مَعَهُ السَبْعِينَ الْمُخْتَارِينَ، وَلِذَلِكَ وَقَعَتْ فِيهَا الرَّجْفَةُ مِثْلَ الْمَرَّةِ الْأُولَى، وَلَمْ يَذْكُرِ الْقُرْآنُ أَنَّ الرَّجْفَةَ أَخَذَتْهُمْ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، وَإِنَّمَا ذَكَرَ أَنَّ مُوسَى خَرَّ صَعِقًا، وَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ السَبْعُونَ قَدْ أَصَابَهُمْ مَا أَصَابَ مُوسَى لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْجَبَلِ أَيْضًا، وَذَكَرَ الرَّجْفَةَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ وَلَمْ تَذْكُرْهَا التَّوْرَاةُ.
وَالضَّمِيرُ فِي أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ لِلسَّبْعِينَ. فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ حِكَايَةُ حَالِ مِيقَاتِ الْمُنَاجَاةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا الِاسْتِغْفَارُ لِقَوْمِهِ، وَأَنَّ الرَّجْفَةَ الْمَحْكِيَّةَ هُنَا رَجْفَةٌ أَخَذَتْهُمْ مِثْلُ الرَّجْفَةِ الَّتِي أَخَذَتْهُمْ فِي الْمُنَاجَاةِ الْأُولَى، لِأَنَّ الرَّجْفَةَ تَكُونُ مِنْ تَجَلِّي أَثَرٍ عَظِيمٍ مِنْ آثَارِ الصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَإِنَّ قَوْلَ مُوسَى أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا يُؤْذِنُ بِأَنَّهُ يَعْنِى بِهِ عِبَادَتَهُمُ الْعِجْلَ، وَحُضُورَهُمْ ذَلِكَ. وسكوتهم، وَهِي الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ: إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ وَقَدْ خَشِيَ مُوسَى أَنَّ تِلْكَ الرَّجْفَةَ مُقَدِّمَةُ عَذَابٍ كَمَا كَانَ مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْشَى الرِّيحَ أَنْ يَكُونَ مَبْدَأَ عَذَابٍ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي الْمُنَاجَاةِ الْأُولَى وَأَنَّ قَوْلَهُ: بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا يَعْنِي بِهِ مَا صَدَرَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ التَّصَلُّبِ قَبْلَ الْمُنَاجَاةِ، كَقَوْلِهِمْ لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ [الْبَقَرَة: ٦١]، وَسُؤَالِهِمْ رُؤْيَةَ اللَّهِ تَعَالَى. لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ (فَعَلَ)
وَمَعْنَى لَا يَرْقُبُوا لَا يُوَفُّوا وَلَا يُرَاعُوا، يُقَالُ: رَقَبَ الشَّيْءَ، إِذَا نَظَرَ إِلَيْهِ نَظَرَ تَعَهُّدٍ وَمُرَاعَاةٍ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الرَّقِيبُ، وَسُمِّيَ الْمَرْقَبُ مَكَانُ الْحِرَاسَةِ، وَقَدْ أُطْلِقَ هُنَا عَلَى الْمُرَاعَاةِ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، لِأَنَّ مَنْ أَبْطَلَ الْعَمَلَ بِشَيْءٍ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَرَهُ وَصَرَفَ نَظَرَهُ عَنْهُ.
وَالْإِلُّ: الْحِلْفُ وَالْعَهْدُ وَيُطْلَقُ الْإِلُّ عَلَى النَّسَبِ وَالْقَرَابَةِ. وَقَدْ كَانَتْ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْسَابٌ وَقَرَابَاتٌ، فَيَصِحُّ أَنْ يُرَادَ هُنَا كِلَا مَعْنَيَيْهِ.
وَالذِّمَّةُ مَا يَمُتُّ بِهِ مِنَ الْأَوَاصِرِ مِنْ صُحْبَةٍ وَخُلَّةٍ وَجِوَارٍ مِمَّا يَجِبُ فِي الْمُرُوءَةِ أَنْ يُحْفَظَ وَيُحْمَى، يُقَالُ: فِي ذِمَّتِي كَذَا، أَيْ أَلْتَزِمُ بِهِ وَأَحْفَظُهُ.
يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ.
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ، أَيْ هُمْ يَقُولُونَ لَكُمْ مَا يُرْضِيكُمْ، كَيْدًا وَلَوْ تَمَكَّنُوا مِنْكُمْ لَمْ يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً. مَنْ يَسْمَعُ كَلَامًا فَيَأْبَاهُ.
وَالْإِبَايَةُ: الِامْتِنَاعُ مِنْ شَيْءٍ مَطْلُوبٍ وَإِسْنَادُ الْإِبَايَةِ إِلَى الْقُلُوبِ اسْتِعَارَةٌ، فَقُلُوبُهُمْ لَمَّا نَوَتِ الْغَدْرَ شُبِّهَتْ بِمَنْ يُطْلَبُ مِنْهُ شَيْءٌ فَيَأْبَى.
وَجُمْلَةُ: وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ وَاوِ الْجَمَاعَةِ فِي يُرْضُونَكُمْ مَقْصُودٌ مِنْهَا الذَّمُّ بِأَنَّ أَكْثَرَهُمْ مَوْصُوفٌ، مَعَ ذَلِكَ، بِالْخُرُوجِ عَنْ مَهْيَعِ الْمُرُوءَةِ وَالرُّجْلَةِ، إِذْ نَجِدُ أَكْثَرَهُمْ خالعين زِمَام الْحَيَاة، فَجَمَعُوا الْمَذَمَّةَ الدِّينِيَّةَ وَالْمَذَمَّةَ الْعُرْفِيَّةَ. فَالْفِسْقُ هُنَا الْخُرُوجُ عَنِ الْكَمَالِ الْعُرْفِيِّ بَيْنَ النَّاسِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْخُرُوجَ عَنْ مَهْيَعِ الدِّينِ لِأَنَّ ذَلِكَ وَصْفٌ لِجَمِيعِهِمْ لَا لِأَكْثَرِهِمْ، وَلِأَنَّهُ قَدْ عُرِفَ مِنْ وَصفهم بالْكفْر.
وَالتَّفْرِيعُ صَالِحٌ لِلْمَعْنَيَيْنِ، وَهُوَ تَفْرِيعٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ قَبْلَهُ مِمَّا تَضَمَّنَ أَنَّهُمْ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ وَكَذَّبُوا بِالْقُرْآنِ.
وَمَحَلُّ (أَوْ) عَلَى الْوَجْهَيْنِ هُوَ التَّقْسِيمُ، وَهُوَ إِمَّا تَقَسُّمُ أَحْوَالٍ، وَإِمَّا تَقَسُّمُ أَنْوَاعٍ.
وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ. وَالظُّلْمُ: هُنَا بِمَعْنَى الِاعْتِدَاءِ. وَإِنَّمَا كَانَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ أَشَدَّ الظُّلْمِ لِأَنَّهُ اعْتِدَاءٌ عَلَى الْخَالِقِ بِالْكَذِبِ عَلَيْهِ وَبِتَكْذِيبِ آيَاتِهِ.
وَجُمْلَةُ: إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ تَذْيِيلٌ، وَمَوْقِعُهُ يَقْتَضِي شُمُولَ عُمُومِهِ لِلْمَذْكُورِينَ فِي الْكَلَامِ الْمُذَيَّلِ (بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ) فَيَقْتَضِي أَنَّ أُولَئِكَ مُجْرِمُونَ، وَأَنَّهُمْ لَا يُفْلِحُونَ.
وَالْفَلَاحُ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٥].
وَتَأْكِيدُ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ نَاظِرٌ إِلَى شُمُولِ عُمُومِ الْمُجْرِمِينَ لِلْمُخَاطَبِينَ لِأَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُجْرِمِينَ.
وَافْتِتَاحُ الْجُمْلَةِ بِضَمِيرِ الشَّأْنِ لِقَصْدِ الاهتمام بمضمونها.
[١٨]
[سُورَة يُونُس (١٠) : آيَة ١٨]
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لَا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٨)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ [يُونُس: ١٥] عَطْفَ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ. فَهَذِهِ قِصَّةٌ أُخْرَى مِنْ قَصَصِ أَحْوَالِ كُفْرِهِمْ أَنْ قَالُوا: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا [يُونُس: ١٥] حِينَ تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الْقُرْآنِ، وَمِنْ كُفْرِهِمْ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَام وَيَقُولُونَ: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ.
وَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الْقِصَّتَيْنِ أَنَّ فِي كِلْتَيْهِمَا كُفْرًا أَظْهَرُوهُ فِي صُورَةِ السُّخْرِيَةِ وَالِاسْتِهْزَاءِ وَإِيهَامِ أَنَّ الْعُذْرَ لَهُمْ فِي الِاسْتِرْسَالِ عَلَى الْكُفْرِ، فَلَعَلَّهُمْ (كَمَا أَوْهَمُوا أَنَّهُ إِنْ أَتَاهُمْ
وَالْمُنِيبُ مَنْ أَنَابَ إِذَا رَجَعَ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ النَّوْبِ وَهُوَ النُّزُولُ. وَالْمُرَادُ التَّوْبَةُ مِنَ التَّقْصِيرِ، أَيْ مُحَاسِبٌ نَفْسَهُ عَلَى مَا يَحْذَرُ مِنْهُ.
وَحَقِيقَةُ الْإِنَابَةِ: الرُّجُوعُ إِلَى الشَّيْءِ بَعْدَ مُفَارَقَتِهِ وَتَرْكِهِ.
وَجُمْلَةُ يَا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا مَقُولُ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ وَهُوَ مِنْ بَدِيعِ الْإِيجَازِ، وَهُوَ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ إِلَى إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، أَوْ جَوَابُ الْمَلَائِكَةِ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ
السَّلَامُ- فَإِذَا كَانَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ فَقَوْلُهُ: أَمْرُ رَبِّكَ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِإِدْخَالِ الرَّوْعِ فِي ضَمِيرِ السَّامِعِ.
وَأمر اللَّهِ قَضَاؤُهُ، أَيْ أَمر تكوينه.
[٧٧]
[سُورَة هود (١١) : آيَة ٧٧]
وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (٧٧)
قَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ ذَاهِبُونَ إِلَى قَوْمِ لُوطٍ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ [هود:
٧٠]. فَالتَّقْدِيرُ: فَفَارَقُوا إِبْرَاهِيمَ وَذَهَبُوا إِلَى لُوطٍ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- فَلَمَّا جَاءُوا لُوطًا، فَحَذَفَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ إِيجَازًا قُرْآنِيًّا بَدِيعًا.
وَقَدْ جَاءُوا لُوطًا كَمَا جَاءُوا إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- فِي صُورَةِ الْبَشَرِ، فَظَنَّهُمْ نَاسًا وَخَشِيَ أَنْ يَعْتَدِيَ عَلَيْهِمْ قَوْمُهُ بِعَادَتِهِمُ الشَّنِيعَةِ، فَلِذَلِكَ سِيءَ بِهِمْ.
وَمَعْنَى ضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً ضَاقَ ذَرْعَهُ بِسَبَبِهِمْ، أَيْ بِسَبَبِ مَجِيئِهِمْ فَحَوَّلَ الْإِسْنَادَ إِلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ وَجَعَلَ الْمُسْنَدَ إِلَيْهِ تَمْيِيزًا لِأَنَّ إِسْنَادَ الضِّيقِ إِلَى صَاحِبِ الذَّرْعِ أَنْسَبُ بِالْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ، وَهُوَ أَشْبَهُ بِتَجْرِيدِ الِاسْتِعَارَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ.
وَالذَّرْعُ: مَدُّ الذِّرَاعِ فَإِذَا أُسْنِدَ إِلَى الْآدَمِيِّ فَهُوَ تَقْدِيرُ الْمَسَافَةِ. وَإِذَا أُسْنِدَ إِلَى الْبَعِيرِ فَهُوَ مَدُّ ذِرَاعَيْهِ فِي السَّيْرِ عَلَى قَدْرِ سَعَةِ خُطْوَتِهِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: ضَاقَ ذَرْعًا
وَالْأَلْبَابُ: الْعُقُولُ. وَتَقَدَّمَ فِي آخِرِ سُورَةِ آل عمرَان.
[٢٠، ٢٢]
[سُورَة الرَّعْد (١٣) : الْآيَات ٢٠ إِلَى ٢٢]
الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (٢٠) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (٢١) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢)
يجوز أَن تكون الَّذِينَ يُوفُونَ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ فَهُوَ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ جَاءَ لِمُنَاسَبَةِ مَا أَفَادَتِ الْجُمْلَةُ الَّتِي قَبْلَهَا مِنْ إِنْكَارِ الِاسْتِوَاءِ بَيْنَ فَرِيقَيْنِ. وَلِذَلِكَ ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْجُمَلِ حَالُ فَرِيقَيْنِ فِي الْمَحَامِدِ وَالْمَسَاوِي لِيَظْهَرَ أَنَّ نَفْيَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ ذَلِكَ النَّفْيُ الْمُرَادُ بِهِ تَفْضِيلُ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى الْآخَرِ هُوَ نَفْيٌ مُؤَيَّدٌ بِالْحُجَّةِ، وَبِذَلِكَ يَصِيرُ مَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مُفِيدًا تَعْلِيلًا لِنَفْيِ التَّسْوِيَةِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ تَفْضِيلُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: الَّذِينَ يُوفُونَ مُسْنَدًا إِلَيْهِ وَكَذَلِكَ مَا عُطِفَ عَلَيْهِ. وَجُمْلَةُ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ مُسْنَدًا.
وَاجْتِلَابُ اسْمِ الْإِشَارَةِ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِمْ جَدِيرُونَ بِمَا بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنْ أَجْلِ الْأَوْصَافِ الَّتِي قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٥].
وَنَظِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلًا [سُورَة الْفرْقَان: ٣٤] مِنْ قَوْلِهِ: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً [سُورَة الْفرْقَان: ٣٣].
وَفِي هَذَا إِيمَاءٌ إِلَى الِاسْتِكْثَارِ مِنَ الشُّكْرِ عَلَى مُجْمَلِ النِّعَمِ، وَتَعْرِيضٌ بِفَظَاعَةِ كُفْرِ مَنْ كَفَرُوا بِهَذَا الْمُنْعِمِ، وَتَغْلِيظُ التَّهْدِيدِ لَهُمْ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهَا فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ اسْتِئْنَافٌ عَقَّبَ بِهِ تَغْلِيظَ الْكُفْرِ وَالتَّهْدِيدِ عَلَيْهِ تَنْبِيهًا عَلَى تَمَكُّنِهِمْ مِنْ تَدَارُكِ أَمْرِهِمْ بِأَنْ يُقْلِعُوا عَنِ الشِّرْكِ، وَيَتَأَهَّبُوا لِلشُّكْرِ بِمَا يُطِيقُونَ، عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ مِنْ تَعْقِيبِ الزَّوَاجِرِ بِالرَّغَائِبِ كَيْلَا يَقْنَطَ الْمُسْرِفُونَ.
وَقَدْ خُولِفَ بَيْنَ خِتَامِ هَذِهِ الْآيَةِ وَخِتَامِ آيَةِ سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ، إِذْ وَقع هُنَا لَك وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [سُورَة إِبْرَاهِيم: ٣٤] لِأَنَّ تِلْكَ جَاءَتْ فِي سِيَاقِ وَعِيدٍ وَتَهْدِيدٍ عَقِبَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً [سُورَة إِبْرَاهِيم: ٢٨] فَكَانَ الْمُنَاسِبُ لَهَا تَسْجِيلَ ظُلْمِهِمْ وَكُفْرِهِمْ بِنِعْمَةِ اللَّهِ.
وَأَمَّا هَذِهِ الْآيَةُ فَقَدْ جَاءَتْ خِطَابًا لِلْفَرِيقَيْنِ كَمَا كَانَتِ النِّعَمُ الْمَعْدُودَةُ عَلَيْهِمْ مُنْتَفِعًا بِهَا
كِلَاهُمَا.
ثُمَّ كَانَ مِنَ اللَّطَائِفِ أَنْ قُوبِلَ الْوَصْفَانِ اللَّذَانِ فِي آيَةِ سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ بِوَصْفَيْنِ هُنَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ تِلْكَ النِّعَمَ كَانَتْ سَبَبًا لِظُلْمِ الْإِنْسَانِ وَكُفْرِهِ وَهِيَ سَبَبٌ لِغُفْرَانِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ. وَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ مَنُوطٌ بِعَمَل الْإِنْسَان.
[١٩]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ١٩]
وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (١٩)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ [سُورَة النَّحْل: ١٧]. فَبَعْدَ أَنْ أَثْبَتَ أَنَّ اللَّهَ مُنْفَرِدٌ بِصِفَةِ الْخَلْقِ دُونَ غَيْرِهِ بِالْأَدِلَّةِ العديدة ثمَّ باستنتاج ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ انْتَقَلَ هُنَا إِلَى إِثْبَاتِ أَنَّهُ مُنْفَرِدٌ بِعُمُومِ الْعِلْمِ.
وَلَمْ يُقَدَّمْ لِهَذَا الْخَبَرِ اسْتِدْلَالٌ وَلَا عُقِّبَ بِالدَّلِيلِ لِأَنَّهُ مِمَّا دَلَّتْ عَلَيْهِ أَدِلَّةُ الِانْفِرَادِ بِالْخَلْقِ، لِأَنَّ خَالِقَ أَجْزَاءِ الْإِنْسَانِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ يَجِبُ لَهُ أَنْ
وَالرُّفَاتُ: الْأَشْيَاءُ الْمَرْفُوتَةُ، أَيِ الْمُفَتَّتَةُ. يُقَالُ: رَفَتَ الشَّيْءَ إِذَا كَسَرَهُ كِسَرًا دَقِيقَةً.
وَوَزْنُ فُعَالٍ يَدُلُّ عَلَى مَفْعُولِ أَفْعَالِ التَّجْزِئَةِ مِثْلَ الدُّقَاقِ وَالْحُطَامِ وَالْجُذَاذِ وَالْفُتَاتِ.
وخَلْقاً جَدِيداً حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ «مَبْعُوثُونَ». وَذُكِرَ الْحَالُ لِتَصْوِيرِ اسْتِحَالَةِ الْبَعْثِ بَعْدَ الْفَنَاءِ لِأَنَّ الْبَعْثَ هُوَ الْإِحْيَاءُ، فَإِحْيَاءُ الْعِظَامِ وَالرُّفَاتِ مُحَالٌ عِنْدَهُمْ، وَكَوْنُهُمْ خَلْقًا جَدِيدًا أَدْخَلُ فِي الِاسْتِحَالَةِ.
وَالْخَلْقُ: مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، وَلِكَوْنِهِ مَصْدَرًا لَمْ يَتْبَعْ مَوْصُوفَهُ فِي الْجمع.
[٥٠- ٥٢]
[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧) : الْآيَات ٥٠ إِلَى ٥٢]
قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (٥٠) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (٥١) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (٥٢)
جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمْ: أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً [الْإِسْرَاء:
٤٩]. أَمَرَ الله رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُجِيبَهُمْ بِذَلِكَ.
وَقَرِينَةُ ذَلِكَ مُقَابَلَةُ فعل كُنَّا [الْإِسْرَاء: ٤٩] فِي مَقَالِهِمْ بِقَوْلِهِ: كُونُوا، وَمُقَابَلَةُ عِظاماً وَرُفاتاً فِي مَقَالِهِمْ بِقَوْلِهِ: حِجارَةً أَوْ حَدِيداً إِلَخْ، مُقَابَلَةَ أَجْسَامٍ وَاهِيَةٍ بِأَجْسَامٍ صُلْبَةٍ. وَمَعْنَى الْجَوَابِ أَنَّ وَهَنَ الْجِسْمِ مُسَاوٍ لِصَلَابَتِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى تَكْيِيفِهِ كَيْفَ يَشَاءُ.
أَيْضًا، وَظَهَرَتْ مَوْهِبَتُهُ إِيَّاهُ قَبْلَ ظُهُورِ مَوْهِبَةِ إِسْحَاقَ، وَكُلُّ ذَلِكَ بَعْدَ أَنِ اعْتَزَلَ قَوْمَهُ.
وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ دُونَ ذِكْرِ إِسْمَاعِيلَ فَلَمْ يَقُلْ: وَهَبَنَا لَهُ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا اعْتَزَلَ قَوْمَهُ خَرَجَ بِزَوْجِهِ سَارَةَ قَرِيبَتِهِ، فَهِيَ قَدِ اعْتَزَلَتْ قَوْمَهَا أَيْضًا إِرْضَاءً لِرَبِّهَا وَلِزَوْجِهَا، فَذَكَرَ اللَّهُ الْمَوْهِبَةَ الشَّامِلَةَ لِإِبْرَاهِيمَ وَلِزَوْجِهِ، وَهِيَ أَنْ وَهَبَ لَهُمَا إِسْحَاقَ وَبَعْدَهُ يَعْقُوبَ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْمَوْهِبَةَ لَمَّا كَانَتْ كِفَاءً لِإِبْرَاهِيمَ عَلَى مُفَارَقَتِهِ أَبَاهُ وَقَوْمَهُ كَانَتْ مَوْهِبَةَ مَنْ يُعَاشِرُ إِبْرَاهِيمَ وَيُؤْنِسُهُ وَهُمَا إِسْحَاقُ وَيَعْقُوبُ. أَمَّا إِسْمَاعِيلُ فَقَدْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ بَعِيدًا عَنْ إِبْرَاهِيمَ فِي مَكَّةَ لِيَكُونَ جَارَ بَيْتِ اللَّهِ. وَإِنَّهُ لَجِوَارٌ أَعْظَمُ مِنْ جِوَارِ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أَبَاهُمَا.
وَقَدْ خُصَّ إِسْمَاعِيلُ بِالذِّكْرِ اسْتِقْلَالًا عَقِبَ ذَلِكَ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ [ص: ٤٥] ثُمَّ قَالَ: وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ فِي سُورَةِ ص [٤٨]، وَقَدْ قَالَ فِي آيَةِ الصَّافَّاتِ [٩٩- ١٠١] وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ إِلَى أَنْ قَالَ: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ فَذُكِرَ هُنَالِكَ إِسْمَاعِيلُ عَقِبَ قَوْلِهِ: إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ إِذْ هُوَ الْمُرَادُ بِالْغُلَامِ الْحَلِيمِ.
وَالْمُرَادُ بِالْهِبَةِ هُنَا: تَقْدِيرُ مَا فِي الْأَزَلِ عِنْدَ اللَّهِ لِأَنَّ ازْدِيَادَ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كَانَ بَعْدَ خُرُوجِ إِبْرَاهِيمَ بِمُدَّةٍ بَعْدَ أَنْ سَكَنَ أَرْضَ كَنْعَانَ وَبَعْدَ أَنِ اجْتَازَ بِمِصْرَ وَرَجَعَ مِنْهَا. وَكَذَلِكَ ازْدِيَادُ إِسْمَاعِيلَ كَانَ بَعْدَ خُرُوجِهِ بِمُدَّةٍ وَبَعْدَ أَنِ اجْتَازَ بِمِصْرَ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ وَفِي التَّوْرَاةِ، أَوْ أُرِيدَ حِكَايَةُ هِبَةِ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ فِيمَا مَضَى بِالنِّسْبَةِ إِلَى زَمَنِ نُزُولِ الْقُرْآنِ تَنْبِيهًا بِأَنَّ ذَلِكَ جَزَاؤُهُ عَلَى إِخْلَاصِهِ.
كُلَّ مَا بِهِ اسْتِقَامَةُ أُمُورِ الْمُلْكِ
وَتَصَارِيفِهِ، وَإِمَّا دَعْوَةٌ خَاصَّةٌ عِنْدَ كُلِّ سَفَرٍ لِمَرَاكِبِ سُلَيْمَانَ فَجَعَلَ اللَّهُ الرِّيَاحَ الْمَوْسِمِيَّةَ فِي بِحَارِ فِلَسْطِينَ مُدَّةَ مُلْكِ سُلَيْمَانَ إِكْرَامًا لَهُ وتأييدا إِذا كَانَ هَمُّهُ نَشْرَ دِينِ الْحَقِّ فِي الْأَرْضِ.
وَإِنَّمَا جَعَلَ اللَّهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِ سُلَيْمَانَ وَلَمْ يَجْعَلْهَا تَجْرِي لِسُفُنِهِ لِأَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ الرِّيحَ لِكُلِّ السُّفُنِ الَّتِي فِيهَا مَصْلَحَةُ مُلْكِ سُلَيْمَانَ فَإِنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِ سُفُنُ (تَرْشِيشٍ) - يَظُنُّ أَنَّهَا طَرْطُوشَةٌ بِالْأَنْدَلُسِ أَوْ قَرْطَجَنَّةَ بِإِفْرِيقِيَّةَ- وَسُفُنُ حِيرَامَ مَلِكِ صُورَ حَامِلَةً الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَالْعَاجَ وَالْقِرَدَةَ وَالطَّوَاوِيسَ وَهَدَايَا الْآنِيَةِ وَالْحُلَلَ وَالسِّلَاحَ وَالطِّيبَ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ كَمَا فِي الْإِصْحَاحِ ١٠ مِنْ سِفْرِ الْمُلُوكِ الْأَوَّلِ.
وَجُمْلَةُ وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمَلِ الْمَسُوقَةِ لِذِكْرِ عِنَايَةِ اللَّهِ بِسُلَيْمَانَ. وَالْمُنَاسَبَةُ أَنَّ تَسْخِيرَ الرِّيحِ لِمَصَالِحِ سُلَيْمَانَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ عِلْمِ اللَّهِ بِمُخْتَلِفِ أَحْوَالِ الْأُمَمِ وَالْأَقَالِيمِ وَمَا هُوَ مِنْهَا لَائِقٌ بِمَصْلَحَةِ سُلَيْمَانَ فَيُجْرِي الْأُمُورَ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ الَّتِي أَرَادَهَا سُبْحَانَهُ إِذْ قَالَ: وَشَدَدْنا مُلْكَهُ [ص: ٢٠].
[٨٢]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : آيَة ٨٢]
وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (٨٢)
هَذَا ذِكْرُ مُعْجِزَةٍ وَكَرَامَةٍ لِسُلَيْمَانَ. وَهِيَ أَنْ سَخَّرَ إِلَيْهِ مِنَ الْقُوَى الْمُجَرَّدَةِ مِنْ طَوَائِفِ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ الَّتِي تَتَأَتَّى لَهَا مَعْرِفَةُ الْأَعْمَالِ الْعَظِيمَةِ مِنْ غَوْصِ الْبِحَارِ لِاسْتِخْرَاجِ اللُّؤْلُؤِ وَالْمَرْجَانِ وَمِنْ أَعْمَالٍ أُخْرَى أُجْمِلَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ.
وَفُصِّلَ بَعْضُهَا
فَجُمْلَةُ هُوَ قائِلُها وَصْفٌ لِ كَلِمَةٌ، أَيْ هِيَ كَلِمَةٌ هَذَا وَصْفُهَا. وَإِذْ كَانَ مِنَ الْمُحَقَّقِ أَنَّهُ قَائِلُهَا لَمْ يَكُنْ فِي وَصْفِ كَلِمَةٌ بِهِ فَائِدَةٌ جَدِيدَةٌ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى أَنَّهُ لَا وَصْفَ لِكَلِمَتِهِ غَيْرُ كَوْنِهَا صَدَرَتْ مِنْ فِي صَاحِبِهَا.
وَبِذَلِكَ يُعْلَمُ أَنَّ التَّأْكِيدَ بِحَرْفِ (إِنَّ) لِتَحْقِيقِ الْمَعْنَى الَّذِي اسْتُعْمِلَ لَهُ الْوَصْفُ.
وَالْكَلِمَةُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي الْكَلَامِ
كَقَوْل النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا شَاعِرٌ كَلِمَةُ
لَبِيدٍ:
أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ»
وَكَمَا فِي قَوْلِهِمْ: كَلِمَةُ الشَّهَادَةِ وَكَلِمَةُ الْإِسْلَامِ. وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ [٧٤].
وَالْوَرَاءُ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلشَّيْءِ الَّذِي يُصِيبُ الْمَرْءَ لَا مَحَالَةَ وَيَنَالُهُ وَهُوَ لَا يَظُنُّهُ يُصِيبُهُ.
شُبِّهَ ذَلِكَ بِالَّذِي يُرِيدُ اللِّحَاقَ بِالسَّائِرِ فَهُوَ لَاحِقُهُ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ [البروج: ٢٠] وَقَوْلِهِ ومِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ [الجاثية: ١٠] وَقَوْلِهِ مِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ [إِبْرَاهِيم: ١٧]. وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ: وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً [الْكَهْف:
٧٩].
وَقَالَ لَبِيدٌ:
أَلَيْسَ وَرَائِي أَنْ تَرَاخَتْ مَنِيَّتِي | لُزُومُ الْعَصَا تُحْنِي عَلَيْهَا الْأَصَابِعُ |
وَمَعْنَى إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أَنَّهُمْ غَيْرُ رَاجِعِينَ إِلَى الْحَيَاةِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ. فَهِيَ إِقْنَاطٌ لَهُمْ لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ يَوْمَ الْبَعْثِ الَّذِي وُعِدُوهُ لَا رُجُوعَ بَعْدَهُ
وَدَلَّتْ (إِذَا) الْمُفَاجِئَةُ عَلَى سُرْعَةِ انْقِلَابِ لَوْنِ يَدِهِ بَيَاضًا.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِلنَّاظِرِينَ. يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اللَّامَ الَّتِي يُسَمِّيهَا ابْنُ مَالِكٍ وَابْنُ هِشَامٍ لَامَ التَّعْدِيَةِ، أَيِ اتِّصَالِ مُتَعَلِّقِهَا بِمَجْرُورِهَا. وَالْأَظْهَرُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ بِمَعْنَى (عِنْدَ) وَيَكُونَ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ حَالًا. وَقَدْ مَضَى بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٠٨] وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ.
وَمَعْنَى: لِلنَّاظِرِينَ أَنَّ بَيَاضَهَا مِمَّا يَقْصِدُهُ النَّاظِرُونَ لِأُعْجُوبَتِهِ، وَكَانَ لَوْنُ جِلْدِ مُوسَى السُّمْرَةَ. وَالتَّعْرِيفُ فِي لِلنَّاظِرِينَ لِلِاسْتِغْرَاقِ الْعُرْفِيِّ، أَيْ لِجَمِيعِ النَّاظِرِينَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ. وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ بَيَاضَهَا كَانَ وَاضِحًا بَيِّنًا مُخَالِفًا لَوْنَ جِلْدِهِ بِصُورَةٍ بَعِيدَةٍ عَنْ لون البرص.
[٣٤، ٣٥]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ٣٤ إِلَى ٣٥]
قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (٣٤) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ (٣٥)
تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، سِوَى أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ زِيَادَةً بِسِحْرِهِ وَهُوَ وَاضِحٌ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ هَذَا قَوْلُ فِرْعَوْنَ لِلْمَلَأِ، وَفِي آيَةِ الْأَعْرَافِ [١٠٩] قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ فِرْعَوْنَ قَالَهُ لِمَنْ حَوْلَهُ فَأَعَادُوهُ بِلَفْظِهِ لِلْمُوَافَقَةِ التَّامَّةِ بِحَيْثُ لَمْ يَكْتَفُوا بِقَوْلِ: نَعَمْ، بَلْ أَعَادُوا كَلَامَ فِرْعَوْنَ لِيَكَونَ قَوْلُهُمْ عَلَى تَمَامِ قَوْلِهِ.
وَانْتَصَبَ حَوْلَهُ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ. وَالظَّرْفُ هُنَا مُسْتَقِرٌّ لِأَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِكَوْنٍ مَحْذُوفٍ هُوَ حَالٌ مِنَ الْمَلَأِ. وَتَقَدَّمَ وَجْهُ التَّعْبِيرِ عَنْ إِشَارَتِهِمْ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: تَأْمُرُونَ فِي سُورَة الْأَعْرَاف [١١٠].
[٣٦، ٣٧]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ٣٦ إِلَى ٣٧]
قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٣٦) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (٣٧)
تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِهَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ سِوَى أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَابْعَثْ بدل وَأَرْسِلْ [الْأَعْرَاف: ١١١] وَهُمَا مُتَرَادِفَانِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ سَحَّارٍ وهنالك ساحِرٍ
[الْأَعْرَاف: ١١٢]
مِنْ حِجَارَةٍ لَا مِنْ آجُرٍّ، وَلِأَنَّهَا جُعِلَتْ مَدَافِنَ لِلَّذِينَ بَنَوْهَا مِنَ الْفَرَاعِنَةِ. وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ هَلْ وَقَعَ بِنَاءُ هَذَا الصَّرْحِ وَتَمَّ أَوْ لَمْ يَقَعْ فَحَكَى بَعْضُهُمْ أَنَّهُ تَمَّ وَصَعِدَ فِرْعَوْنُ إِلَى أَعْلَاهُ وَنَزَلَ وَزَعَمَ أَنَّهُ قَتَلَ رَبَّ مُوسَى. وَحَكَى بَعْضُهُمْ أَنَّ الصَّرْحَ سَقَطَ قَبْلَ إِتْمَامِ بِنَائِهِ فَأَهْلَكَ خَلْقًا كَثِيرًا مِنْ عَمَلَةِ الْبِنَاءِ وَالْجُنْدِ. وَحَكَى بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَشْرَعْ فِي بِنَائِهِ. وَقَدْ لَاحَ لِي فِي مَعْنَى الْآيَةِ وَجْهٌ آخَرُ سَأَذْكُرُهُ فِي سُورَة الْمُؤمن.
[٣٩]
[سُورَة الْقَصَص (٢٨) : آيَة ٣٩]
وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لَا يُرْجَعُونَ (٣٩)
الِاسْتِكْبَارُ: أَشَدُّ مِنَ الْكِبْرِ، أَيْ تَكَبَّرَ تَكَبُّرًا شَدِيدًا إِذْ طَمِعَ فِي الْوُصُولِ إِلَى الرَّبِّ الْعَظِيمِ وُصُولَ الْغَالِبِ أَوِ الْقَرِينِ.
وجُنُودُهُ: أَتْبَاعُهُ. فَاسْتِكْبَارُهُ هُوَ الْأَصْلُ وَاسْتِكْبَارُ جُنُودِهِ تَبَعٌ لِاسْتِكْبَارِهِ لِأَنَّهُمْ يَتَّبِعُونَهُ وَيَتَلَقَّوْنَ مَا يُمْلِيهِ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعَقَائِدِ.
والْأَرْضِ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْمَعْهُودَةُ، أَيْ أَرْضُ مِصْرَ وَأَنْ يُرَادَ بِهَا الْجِنْسُ، أَيْ فِي عَالَمِ الْأَرْضِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَوْمَئِذٍ أَعْظَمَ أُمَمِ الْأَرْضِ.
وَقَوْلُهُ بِغَيْرِ الْحَقِّ حَال لَازِمَةٌ لِعَامِلِهَا إِذْ لَا يَكُونُ الِاسْتِكْبَارُ إِلَّا بِغَيْرِ الْحَقِّ.
وَقَوْلُهُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لَا يُرْجَعُونَ مَعْلُومٌ بِالْفَحْوَى مِنْ كَفْرِهِمْ بِاللَّهِ، وَإِنَّمَا صَرَّحَ بِهِ لِأَهَمِّيَّةِ إِبْطَالِهِ فَلَا يُكْتَفَى فِيهِ بِدَلَالَةِ مَفْهُومِ الْفَحْوَى، وَلِأَنَّ فِي التَّصْرِيحِ بِهِ تَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ فِي أَنَّهُمْ وَإِيَّاهُمْ سَوَاءٌ فَلْيَضَعُوا أَنْفُسَهُمْ فِي أَيِّ مَقَامٍ مِنْ مَقَامَاتٍ أَهْلِ الْكُفْرِ، وَقَدْ كَانَ أَبُو جَهْلٍ يُلَقَّبُ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ بِفِرْعَوْنِ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَخْذًا مِنْ تَعْرِيضَاتِ الْقُرْآنِ.
وَمَعْنَى ذَلِكَ: ظَنُّوا أَنْ لَا بَعْثَ وَلَا رُجُوعَ لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِالْمَرْجُوعِ إِلَيْهِ. فَذِكْرُ إِلَيْنا لِحِكَايَةِ الْوَاقِعِ وَلَيْسَ بِقَيْدٍ فَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا الْبَعْثَ وَلَمْ يُنْكِرُوا وُجُودَ اللَّهِ مِثْلَ الْمُشْرِكِينَ. وَتَقْدِيمُ إِلَيْنا عَلَى عَامِلِهِ لِأَجْلِ الْفَاصِلَةِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ فِي مَنَعَةٍ مِنْ أَنْ يَرْجِعُوا فِي قَبْضَةِ قُدْرَتِنَا كَمَا
الِاعْتِبَارِ بِإِحْيَاءِ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا. وَحَرْفُ التَّوْكِيدِ يُفِيدُ مَعَ تَقْرِيرِ الْخَبَرِ زِيَادَةَ مَعْنَى فَاءِ التَّسَبُّبِ كَقَوْلِ بَشَّارٍ:
بَكِّرَا صَاحِبَيَّ قَبْلَ الْهَجِيرِ | إِنَّ ذَاكَ النَّجَاحَ فِي التَّبْكِيرِ |
وَالشَّبَهُ تَامٌّ، لِأَنَّ إِحْيَاءَ الْأَرْضِ إِيجَادُ أَمْثَالِ مَا كَانَ عَلَيْهَا مِنَ النَّبَاتِ فَكَذَلِكَ إِحْيَاءُ الْمَوْتَى إِيجَادُ أَمْثَالِهِمْ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كثير وَأَبُو عَمْرو وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ إِلَى أَثَرِ بِالْإِفْرَادِ.
وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ إِلى آثارِ بِصِيغَة الْجمع.
[٥١]
[سُورَة الرّوم (٣٠) : آيَة ٥١]
وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (٥١)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ [الرّوم: ٤٩] وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ وَاسْتِطْرَادٌ لِغَرَضٍ قَدْ عَلِمْتَهُ آنِفًا. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ سِيقَتْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَانَ مَطْبُوعٌ فِي نُفُوسِهِمْ بِحَيْثُ يُعَاوِدُهُمْ بِأَدْنَى سَبَبٍ فَهُمْ إِذَا أَصَابَتْهُمُ النِّعْمَةُ اسْتَبْشَرُوا وَلَمْ يَشْكُرُوا وَإِذَا أَصَابَتْهُمُ الْبَأْسَاءُ أَسْرَعُوا إِلَى الْكُفْرَانِ فَصُوَّرَ لِكُفْرِهِمْ أَعْجَبَ صُورَةٍ وَهِيَ إِظْهَارُهُمْ إِيَّاهُ بِحِدْثَانِ مَا كَانُوا مُسْتَبْشِرِينَ مِنْهُ إِذْ يَكُونُ الزَّرْعُ أَخْضَرَ وَالْأَمَلُ فِي الِارْتِزَاقِ مِنْهُ قَرِيبًا فَيُصِيبُهُ إِعْصَارٌ فَيَحْتَرِقُ فَيَضِجُّونَ مِنْ
اللَّهَ بِامْتِثَالِ أَمْرِهِ. وَإِنَّمَا صِيغَتِ الْجُمْلَةُ فِي صِيغَةِ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ لِإِفَادَةِ الْعُمُومِ فِي الْمُطِيعِينَ وَأَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ فَصَارَتِ الْجُمْلَةُ بِهَذَيْنِ الْعُمُومَيْنِ فِي قُوَّةِ التَّذْيِيلِ. وَهَذَا نسج بديع مِنْ نَظْمِ الْكَلَامِ وَهُوَ
إِفَادَةُ غَرَضَيْنِ بجملة وَاحِدَة.
[٧٢]
[سُورَة الْأَحْزَاب (٣٣) : آيَة ٧٢]
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (٧٢)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ أَفَادَ الْإِنْبَاءَ عَلَى سُنَّةٍ عَظِيمَةٍ مِنْ سُنَنِ اللَّهِ تَعَالَى فِي تَكْوِينِ الْعَالَمِ وَمَا فِيهِ وَبِخَاصَّةٍ الْإِنْسَانَ لِيَرْقُبَ النَّاسُ فِي تَصَرُّفَاتِهِمْ وَمُعَامَلَاتِهِمْ مَعَ رَبِّهِمْ وَمُعَامَلَاتِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ بِمِقْدَارِ جَرْيِهِمْ عَلَى هَذِهِ السُّنَّةِ وَرَعْيِهِمْ تَطْبِيقَهَا فَيَكُونُ عَرْضُهُمْ أَعْمَالَهُمْ عَلَى مِعْيَارِهَا مُشْعِرًا لَهُمْ بِمَصِيرِهِمْ وَمُبَيِّنًا سَبَبَ تَفْضِيلِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَاصْطِفَاءِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَيْنِ بَعْضٍ.
وَمَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ عَقِبَ مَا قَبْلَهَا، وَفِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ يَقْتَضِي أَنَّ لِمَضْمُونِهَا ارْتِبَاطًا بِمَضْمُونِ مَا قَبِلَهَا، وَيَصْلُحُ عَوْنًا لِاكْتِشَافِ دَقِيقِ مَعْنَاهَا وَإِزَالَةِ سُتُورِ الرَّمْزِ عَنِ الْمُرَادِ مِنْهَا، وَلَوْ بِتَقْلِيلِ الِاحْتِمَالِ، وَالْمَصِيرِ إِلَى الْمَآلِ.
وَالِافْتِتَاحُ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ أَوْ تَنْزِيِلِهِ لِغَرَابَةِ شَأْنِهِ مَنْزِلَةَ مَا قَدْ يُنْكِرُهُ السَّامِعُ.
وَافْتِتَاحُ الْآيَةِ بِمَادَّةِ الْعَرْضِ، وَصَوْغُهَا فِي صِيغَة الْمَاضِي، وَجَعْلُ مُتَعَلِّقِهَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَالْجِبَال وَالْإِنْسَان يومىء إِلَى أَنَّ مُتَعَلِّقَ هَذَا الْعَرْضِ كَانَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَيَقْتَضِي أَنَّهُ عَرْضٌ أَزَلِيٌّ فِي مَبْدَأِ التَّكْوِينِ عِنْدَ تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ الرَّبَّانِيَّةِ بِإِيجَادِ الْمَوْجُودَاتِ الْأَرْضِيَّةِ وَإِيدَاعِهَا فُصُولَهَا الْمُقَوِّمَةَ لِمَوَاهِيهَا وَخَصَائِصِهَا وَمُمَيِّزَاتِهَا الْمُلَائِمَةِ لِوَفَائِهَا بِمَا خُلِقَتْ لِأَجْلِهِ كَمَا حُمِلَ قَوْلُهُ: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذرياتهم [الْأَعْرَاف: ١٧٢] الْآيَةَ.
وَاخْتِتَامُ الْآيَةِ بِالْعِلَّةِ مِنْ قَوْلِهِ: لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ [الْأَحْزَاب: ٧٣] إِلَى نِهَايَةِ السُّورَةِ يَقْتَضِي أَنَّ لِلْأَمَانَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَزِيدَ اخْتِصَاصٍ بِالْعِبْرَةِ فِي أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ مِنْ بَيْنِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ فِي رَعْيِ الْأَمَانَةِ وَإِضَاعَتِهَا.
وَجَعَلَ لَهَا طَلْعًا، أَيْ ثَمَرًا، وَأَطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمَ الطَّلْعِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ تَشْبِيهًا لَهُ بِطَلْعِ النَّخْلَةِ لِأَنَّ اسْمَ الطَّلْعِ خَاصٌّ بِالنَّخِيلِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: عَنِ السُّدِّيِّ وَمُجَاهِدٍ قَالَ الْكُفَّارُ: كَيْفَ يُخْبِرُ مُحَمَّدٌ عَنِ النَّارِ أَنَّهَا تُنْبِتُ الْأَشْجَارَ، وَهِيَ تَأْكُلُهَا وَتُذْهِبُهَا، فَقَوْلُهُمْ هَذَا وَنَحْوُهُ مِنَ الْفِتْنَةِ لِأَنَّهُ يَزِيدُهُمْ كفرا وتكذيبا.
ورُؤُسُ الشَّياطِينِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مرَادا بهَا رُؤُوس شَيَاطِينِ الْجِنِّ جَمْعِ شَيْطَانٍ بِالْمَعْنَى الْمَشْهُور ورؤوس هَذِهِ الشَّيَاطِينِ غَيْرُ مَعْرُوفَةٍ لَهُمْ، فَالتَّشْبِيهُ بِهَا حَوَالَةٌ عَلَى مَا تُصَوِّرُ لَهُمُ الْمُخَيِّلَةُ، وَطَلْعُ شَجَرَةِ الزَّقُّومِ غَيْرُ مَعْرُوفٍ فَوُصِفَ لِلنَّاسِ فَظِيعًا بَشِعًا، وَشُبِّهَتْ بشاعته ببشاعة رُؤُوس الشَّيَاطِينِ، وَهَذَا التَّشْبِيهُ مِنْ تَشْبِيهِ الْمَعْقُولِ بِالْمَعْقُولِ كَتَشْبِيهِ الْإِيمَانِ بِالْحَيَاةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِتُنْذَرَ مَنْ كانَ حَيًّا [يس: ٧٠] وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ هُنَا تَقْرِيبُ حَالِ الْمُشَبَّهِ فَلَا يَمْتَنِعُ كَوْنُ الْمُشَبَّهِ بِهِ غَيْرَ مَعْرُوفٍ وَلَا كَوْنُ الْمُشَبَّهِ كَذَلِكَ.
وَنَظِيرُهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
وَمَسْنُونَةٌ زُرْقٌ كَأَنْيَابِ أَغْوَالِ وَقيل: أُرِيد برؤوس الشَّيَاطِينِ ثَمَرُ الْأَسْتَنِ، وَالْأَسْتَنُ (بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ السِّينِ وَفتح التَّاء) شَجَرَة فِي بَادِيَةِ الْيَمَنِ يُشْبِهُ شُخُوصَ النَّاسِ وَيُسمى ثمره رُؤُوس الشَّيَاطِينِ، وَإِنَّمَا سَمَّوْهُ كَذَلِكَ لِبَشَاعَةِ مَرْآهِ ثُمَّ صَارَ مَعْرُوفًا، فَشُبِّهَ بِهِ فِي الْآيَةِ. وَقِيلَ: الشَّياطِينِ:
جَمْعُ شَيْطَانٍ وَهُوَ مِنَ الْحَيَّات مَا لرؤوسه أَعْرَافٌ، قَالَ الرَّاجِزُ يُشَبِّهُ امْرَأَتَهُ بِحَيَّةٍ مِنْهَا:
عَنْجَرِدٌ تَحْلِفُ حِينَ أَحْلِفُ | كَمَثَلِ شَيْطَانِ الْحَمَاطِ أَعْرَفُ |
الْمَرْأَةُ السَّلِيطَةُ.
وَهَذِهِ الصِّفَاتُ الَّتِي وُصِفَتْ بِهَا شَجَرَةُ الزَّقُّومِ بَالِغَةٌ حَدًّا عَظِيمًا مِنَ الذَّمِّ وَذَلِكَ الذَّمُّ هُوَ الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ بِالْمَلْعُونَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [٦٠]، وَكَذَلِكَ فِي آيَةِ إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ تغلي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ فِي سُورَةِ الدُّخَانِ
وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَأَنَّهُمْ أَضْمَرُوهُ وَلَمْ يُعْلِنُوهُ ثُمَّ شَغَلَهُمْ عَنْ إِنْفَاذِهِ مَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْمَصَائِبِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٣٠] : وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ الْآيَةَ، ثُمَّ بِقَوْلِهِ: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ [الْأَعْرَاف: ١٣٣] الْآيَةَ.
وَالضَّلَالُ: الضَّيَاعُ وَالِاضْمِحْلَالُ كَقَوْلِهِ: قالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [السَّجْدَة: ١٠] أَيْ هَذَا الْكَيْدُ الَّذِي دَبَّرُوهُ قَدْ أَخَذَ اللَّهُ عَلَى أَيْدِيهِمْ فَلم يَجدوا لانقاذه سَبِيلا.
[٢٦]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : آيَة ٢٦]
وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (٢٦)
عَطْفٌ وَقالَ بِالْوَاوِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ فِي مَوْطِنٍ آخَرَ وَلَمْ يَكُنْ جَوَابًا لِقَوْلِهِمُ: اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ [غَافِر: ٢٥]، وَفِي هَذَا الْأُسْلُوبِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمْ يَعْمَلْ بِإِشَارَةِ الَّذِينَ قَالُوا: اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَأَنَّهُ سَكَتَ وَلَمْ يُرَاجِعْهُمْ بِتَأْيِيدٍ وَلَا إِعْرَاضٍ، ثُمَّ رَأَى أَنَّ الْأَجْدَرَ قَتْلُ مُوسَى دُونَ أَنْ يَقْتُلَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ لِأَنَّ قَتْلَهُ أَقْطَعُ لِفِتْنَتِهِمْ.
وَمَعْنَى: ذَرُونِي إِعْلَامُهُمْ بِعَزْمِهِ بِضَرْبٍ مِنْ إِظْهَارِ مَيْلِهِ لِذَلِكَ وَانْتِظَارِهِ الْمُوَافَقَةَ عَلَيْهِ بِحَيْثُ يُمَثِّلُ حَالَهُ وَحَالَ الْمُخَاطَبِينَ بِحَالِ مَنْ يُرِيدُ فِعْلَ شَيْءٍ فَيَصُدُّ عَنْهُ، فَلِرَغْبَتِهِ فِيهِ يَقُولُ لِمَنْ يَصُدُّهُ: دَعْنِي أَفْعَلْ كَذَا، لِأَنَّ ذَلِكَ التَّرْكِيبَ مِمَّا يُخَاطَبُ بِهِ الْمُمَانِعُ وَالْمُلَائِمُ وَنَحْوُهُمَا، قَالَ طَرَفَةُ:
فَإِنْ كنت لَا تَسْتَطِيع دَفْعَ مَنِيَّتِي | فَدَعْنِي أُبَادِرْهَا بِمَا مَلَكَتْ يَدِي |
كِنَايَةٌ عَنْ نَفْيِ أَسْبَابِ النَّجَاةِ عَنِ الضَّلَالَةِ وَعَوَاقِبِ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْوَلِيَّ مِنْ خَصَائِصِهِ نَفْعُ مَوْلَاهُ بِالْإِرْشَادِ وَالِانْتِشَالِ، فَنَفْيُ الْوَلِيِّ يَدُلُّ بِالِالْتِزَامِ عَلَى احْتِيَاجٍ إِلَى نَفْعِهِ مَوْلَاهُ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنَّ مَوْلَاهُ فِي عَنَاءٍ وَعَذَابٍ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَقِبَهُ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ الْآيَةَ. فَهَذِهِ كِنَايَةٌ تَلْوِيحِيَّةٌ، وَقَدْ جَاءَ صَرِيحُ هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ [٢٣] وَقَوْلِهِ: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ الْآتِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٤٦].
وَضَمِيرُ بَعْدِهِ رَاجِعٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ، أَيْ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ فِي سُورَةِ الْجَاثِيَةِ [٢٣].
وَمَعْنَى بعد هُنَا بِمَعْنى (دُونَ) أَوْ (غَيْرَ)، اسْتُعِيرَ لَفْظُ بَعْدَ لِمَعْنَى (دُونَ) لِأَنَّ بَعْدَ مَوْضُوعٌ لِمَنْ يَخْلُفُ غَائِبًا فِي مَكَانِهِ أَوْ فِي عَمَلِهِ، فَشَبَّهَ تَرْكَ اللَّهِ الضَّالَّ فِي ضَلَالِهِ بِغَيْبَةِ الْوَلِيِّ الَّذِي يَتْرُكُ مَوْلَاهُ دُونَ وَصِيٍّ وَلَا وَكِيلٍ لِمَوْلَاهُ وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٨٥] وَقَوْلِهِ: فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فِي سُورَةِ يُونُسَ [٣٢].
ومَنْ زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ. وَمِنْ مَوَاضِعِ زِيَادَتِهَا أَنْ تُزَادَ قَبْلَ الظُّرُوفِ غَيْرِ الْمُتَصَرِّفَةِ قَالَ الْحَرِيرِيُّ «وَمَا مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ لَا يَخْفِضُهُ سِوَى حَرْفٍ».
وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (٤٤).
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ، وَهَذَا تَفْصِيلٌ وَبَيَانٌ لِمَا أُجْمِلَ فِي الْآيَتَيْنِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِمَا وَهُمَا قَوْلُهُ: وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا مَا
لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ
[الشورى: ٣٥]، وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ مَحِيصًا وَلَا وَلِيًّا، فَلَا يَجِدُونَ إِلَّا النَّدَامَةَ عَلَى مَا فَاتَ فَيَقُولُوا هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ.
فَالْمَعْنَى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ لِنَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ انْتِهَاءَ الْبَلْوَى عِنْدَ ظُهُورِ الْمُجَاهِدِينَ مِنْهُمْ وَالصَّابِرِينَ.
وَعِلَّةُ الْفِعْلِ لَا يَلْزَمُ انْعِكَاسُهَا، أَيْ لَا يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ لِلْفِعْلِ عِلَّةٌ غَيْرُهَا فَلِلتَّكْلِيفِ عِلَلٌ وَأَغْرَاضٌ عَدِيدَةٌ مِنْهَا أَنْ تَظْهَرَ حَالُ النَّاسِ فِي قَبُولِ التَّكْلِيفِ ظُهُورًا فِي الدُّنْيَا تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مُعَامَلَاتٌ دُنْيَوِيَّةٌ.
وَعِلْمُ اللَّهِ الَّذِي جَعَلَ عِلَّةً لِلْبَلْوِ هُوَ الْعِلْمُ بِالْأَشْيَاءِ بَعْدَ وُقُوعِهَا الْمُسَمَّى عِلْمُ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَنْ سَيُجَاهِدُ وَمَنْ يَصْبِرُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَبْلُوَهُمْ وَلَكِنَّ ذَلِكَ عِلْمُ غَيْبٍ لِأَنَّهُ قَبْلَ حُصُولِ الْمَعْلُومِ فِي عَالَمِ الشَّهَادَةِ.
وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ حَتَّى نَعْلَمَ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى حَتَّى نُظْهِرَ لِلنَّاسِ الدَّعَاوِيَ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلَةِ، فَالْعِلْمُ كِنَايَةٌ عَنْ إِظْهَارِ الشَّيْءِ الْمَعْلُومِ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِ إِظْهَارِهِ لِلْغَيْرِ كَمَا هُنَا أَوْ لِلْمُتَكَلِّمِ كَقَوْلِ إِيَاسِ بْنِ قَبِيصَةَ الطَّائِيِّ:
وَأَقْبَلْتُ وَالْخَطِّيُّ يخْطر بَيْننَا | لَا علم مَنْ جَبَانُهَا مِنْ شُجَاعِهَا |
وَبَلْوُ الْإِخْبَارِ: ظُهُورُ الْأُحْدُوثَةِ مِنْ حُسْنِ السُّمْعَةِ وَضِدِّهِ. وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِ الْأُصُولِيِّينَ تَرَتَّبَ الْمَدْحُ وَالذَّمُّ عَاجِلًا، وَهُوَ كِنَايَةٌ أَيْضًا عَنْ أَحْوَالِ أَعْمَالِهِمْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ لِأَنَّ الْأَخْبَارَ إِنَّمَا هِيَ أَخْبَارٌ عَنْ أَعْمَالِهِمْ، وَهَذِهِ عِلَّةٌ ثَانِيَةٌ عُطِفَتْ عَلَى قَوْلِهِ: حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ. وَإِنَّمَا أُعِيدَ عطف فعل نَبْلُوَا عَلَى فِعْلِ نَعْلَمَ وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُعْطَفَ أَخْبارَكُمْ بِالْوَاوِ عَلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ فِي لَنَبْلُوَنَّكُمْ وَلَا يُعَاد نَبْلُوَا، فَالْعُدُولُ عَنْ مُقْتَضَى ظَاهِرِ النَّظْمِ إِلَى هَذَا التَّرْكِيبِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي بلو لأخبار لِأَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ بَلْوِ أَعْمَالِهِمْ وَهِيَ الْمَقْصُودُ مِنْ بَلْوِ ذَوَاتِهِمْ، فَذِكْرُهُ كَذِكْرِ الْعَامِّ بَعْدَ الْخَاصِّ إِذْ تَعَلَّقَ الْبَلْوُ الْأَوَّلُ بِالْجِهَادِ وَالصَّبْرِ، وَتَعَلَّقَ
الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً [الْأَنْفَال:
٦٦] الْآيَةَ ثُمَّ يَجِيءُ الْكَلَامُ فِي التَّفْرِيعِ بِقَوْلِهِ: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ.
فَيَنْبَغِي أَنْ تَحُلَّ جُمْلَةُ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِلَى آخِرِهَا اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِجُمْلَةِ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ جُمْلَةُ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ مِنَ الِامْتِنَانِ، فَكَأَنَّ السَّامِعِينَ لَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ الِامْتِنَانَ شَكَرُوا اللَّهَ وَهَجَسَ فِي نُفُوسِهِمْ خَاطَرُ الْبَحْثِ عَنْ سَبَبِ هَذِهِ الرَّحْمَةِ بِهِمْ فَأُجِيبُوا بِأَنَّ رَبَّهُمْ أَعْلَمُ بِحَالِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فَهُوَ يُدَبِّرُ لَهُمْ مَا لَا يَخْطُرُ بِبَالِهِمْ، وَنَظِيرُهُ مَا
فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ خَيْرًا مِنْ بَلْهَ مَا اطَّلَعْتُمْ عَلَيْهِ».
وَقَوْلُهُ: إِذْ أَنْشَأَكُمْ ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِ (أَعْلَمُ)، أَيْ هُوَ أَعْلَمُ بِالنَّاسِ مِنْ وَقْتِ إِنْشَائِهِ إِيَّاهُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَهُوَ وَقْتُ خَلْقِ أَصْلِهِمْ آدَمَ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ إِنْشَاءَهُمْ مِنَ الْأَرْضِ يَسْتَلْزِمُ ضِعْفَ قَدْرِهِمْ عَنْ تَحَمُّلِ الْمَشَاقِّ مَعَ تَفَاوُتِ أَطْوَارِ نَشْأَةِ بَنِي آدَمَ، فَاللَّهُ عَلِمَ ذَلِكَ وَعَلِمَ أَنَّ آخِرَ الْأُمَمِ وَهِيَ أُمَّةُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَضْعَفُ الْأُمَمِ. وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي
جَاءَ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ مِنْ قَوْلِ مُوسَى لمُحَمد عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام حِينَ فَرَضَ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِهِ خَمْسِينَ صَلَاةً «إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ وَإِنِّي جَرَّبْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ»
أَيْ وَهُمْ أَشَدُّ مِنْ أُمَّتِكَ قُوَّةً، فَالْمَعْنَى أَنَّ الضَّعْفَ الْمُقْتَضِيَ لِسِعَةِ التَّجَاوُزِ بِالْمَغْفِرَةِ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ اللَّهِ مِنْ حِينِ إِنْشَاءِ آدَمَ مِنَ الْأَرْضِ بِالضَّعْفِ الْمُلَازِمِ لِجِنْسِ الْبَشَرِ عَلَى تَفَاوُتٍ فِيهِ قَالَ تَعَالَى: وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً [النِّسَاء: ٢٨]، فَإِنَّ إِنْشَاءَ أَصْلِ الْإِنْسَانِ مِنَ الْأَرْضِ وَهِيَ عُنْصُرٌ ضَعِيفٌ يَقْتَضِي مُلَازَمَةَ الضَّعْفِ لِجَمِيعِ الْأَفْرَادِ الْمُنْحَدِرَةِ مِنْ ذَلِكَ الْأَصْلِ. وَمِنْه
قَوْله النَّبِيءِ: «إِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعٍ أَعْوَجَ»
. وَقَوْلُهُ: وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ يَخْتَصُّ بِسِعَةِ الْمَغْفِرَةِ وَالرِّفْقِ بِهَذِهِ الْأمة وَهُوَ متقضى قَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [الْبَقَرَة: ١٨٥].
وَالْأَجِنَّةُ: جَمْعُ جَنِينٍ، وَهُوَ نَسْلُ الْحَيَوَانِ مَا دَامَ فِي الرَّحِمِ، وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ لِأَنَّهُ مَسْتُورٌ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ.
والْخالِقُ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الْخَلْقِ، وَأَصْلُ الْخَلْقِ فِي اللُّغَةِ إِيجَادُ شَيْءٍ عَلَى صُورَةٍ مَخْصُوصَةٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ الْآيَةُ [٤٩] فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ. وَيُطْلَقُ الْخَلْقُ عَلَى مَعْنًى أَخَصَّ مِنْ إِيجَادِ الصُّوَرِ وَهُوَ إِيجَادُ مَا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ [ق: ٣٨]. وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الْغَالِبُ مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى الْخالِقُ.
قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» :«الْمُقَدِّرُ لِمَا يُوجِدُهُ». وَنَقَلَ عَنْهُ فِي بَيَانِ مُرَادِهِ بِذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ:
«لِمَّا كَانَتْ إِحْدَاثَاتُ اللَّهِ مَقْدِرَةً بِمَقَادِيرِ الْحِكْمَةِ عَبَّرَ عَنْ إِحْدَاثِهِ بِالْخَلْقِ» اهـ. يُشِيرُ إِلَى أَنَّ
الْخَالِقَ فِي صِفَةِ اللَّهِ بِمَعْنَى الْمُحَدِثِ الْأَشْيَاءَ عَنْ عَدَمٍ، وَبِهَذَا يَكُونُ الْخَلْقُ أَعَمَّ مِنَ التَّصْوِيرِ. وَيَكُونُ ذِكْرُ الْبارِئُ والْمُصَوِّرُ بَعْدَ الْخالِقُ تَنْبِيهًا عَلَى أَحْوَالٍ خَاصَّةٍ فِي الْخَلْقِ. قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ [الْأَعْرَاف: ١١] عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ.
وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْخَلْقُ التَّقْدِيرُ الْمُسْتَقِيمُ وَاسْتُعْمِلَ فِي إِيدَاعِ الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ وَلَا احْتِذَاءٍ اهـ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ ابْن الْعَرَبِيِّ فِي «عَارِضَةِ الْأَحْوَذِيِّ» عَلَى «سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ» : الْخالِقُ:
الْمُخْرِجُ الْأَشْيَاءَ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ الْمُقَدَّرِ لَهَا عَلَى صِفَاتِهَا (فَخَلَطَ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ) ثُمَّ قَالَ: فَالْخَالِقُ عَامٌّ، وَالْبَارِئُ أَخَصُّ مِنْهُ، وَالْمُصَوِّرُ أَخَصُّ مِنَ الْأَخَصِّ وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ كَلَامِ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ». وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي «الْمَقْصِدِ الْأَسْنَى» : الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ قَدْ يُظَنُّ أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ مُتَرَادِفَةٌ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ بَلْ كُلُّ مَا يَخْرُجُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ يَفْتَقِرُ إِلَى تَقْدِيرٍ أَوَّلًا، وَإِلَى الْإِيجَادِ عَلَى وَفْقِ التَّقْدِيرِ ثَانِيًا، وَإِلَى التَّصْوِيرِ بَعْدَ الْإِيجَادِ ثَالِثًا، وَاللَّهُ خَالِقٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُقَدَّرٌ وَبَارِئٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُخْتَرِعٌ مَوْجُودٌ، وَمُصَوَّرٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُرَتِّبٌ صُوَرَ الْمُخْتَرَعَاتِ أَحْسَنَ تَرْتِيبٍ اه. فَجَعَلَ الْمَعَانِي مُتَلَازِمَةً وَجَعَلَ الْفَرْقَ بَيْنَهَا بِالِاعْتِبَارِ، وَلَا أَحْسَبُهُ يَنْطَبِقُ عَلَى مَوَاقِعِ اسْتِعْمَالِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ.
والْبارِئُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ بَرَأَ مَهْمُوزًا. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» الْمُمَيَّزُ لِمَا يُوجِدُهُ بَعْضَهُ مِنْ بَعْضٍ بِالْأَشْكَالِ الْمُخْتَلِفَةِ اه. وَهُوَ مُغَايِرٌ لِمَعْنَى الْخَالِق بالخصوص. و
[سُورَة الحاقة (٦٩) : الْآيَات ١٣ إِلَى ١٨]
فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (١٣) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (١٤) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١٥) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (١٦) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (١٧)يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (١٨)
الْفَاءُ لِتَفْرِيعِ مَا بَعْدَهَا عَلَى التَّهْوِيلِ الَّذِي صُدِّرَتْ بِهِ السُّورَةُ مِنْ قَوْلِهِ: الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ [الْحَاقَّةُ: ١- ٣] فَعَلِمَ أَنَّهُ تَهْوِيلٌ لِأَمْرِ الْعَذَابِ الَّذِي هُدِّدَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَمْثَالِ مَا نَالَ أَمْثَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا. وَمِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ الَّذِي يَنْتَظِرُهُمْ، فَلَمَّا أَتَمَّ تَهْدِيدَهُمْ بِعَذَابِ الدُّنْيَا فَرَّعَ عَلَيْهِ إِنْذَارَهُمْ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ الَّذِي يَحِلُّ عِنْدَ الْقَارِعَةِ الَّتِي كَذَّبُوا بِهَا كَمَا كَذَّبَتْ بِهَا ثَمُودُ وَعَادٌ، فَحَصَلَ مِنْ هَذَا بَيَانٌ لِلْقَارِعَةِ بِأَنَّهَا سَاعَةُ الْبَعْثِ وَهِيَ الْوَاقِعَةُ.
والصُّورِ: قَرْنُ ثَوْرٍ يُقْعَرُ وَيُجْعَلُ فِي دَاخِلِهِ سِدَادٌ يَسُدُّ بَعْضَ فَرَاغِهِ حَتَّى إِذَا نَفَخَ فِيهِ نَافِخٌ انْضَغَطَ الْهَوَاءُ فَصَوَّتَ صَوْتًا قَوِيًّا، وَكَانَتِ الْجُنُودُ تَتَّخِذُهُ لِنِدَاءِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا عِنْدَ إِرَادَةِ النَّفِيرِ أَوِ الْهُجُومِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٧٣].
وَالنَّفْخُ فِي الصُّورِ: عِبَارَةٌ عَنْ أَمْرِ التَّكْوِينِ بِإِحْيَاءِ الْأَجْسَادِ لِلْبَعْثِ مِثْلُ الْإِحْيَاءِ بِنِدَاءِ طَائِفَةِ الْجُنْدِ الْمُكَلَّفَةِ بِالْأَبْوَاقِ لِنِدَاءِ بَقِيَّةِ الْجَيْشِ حَيْثُ لَا يَتَأَخَّرُ جُنْدِيٌّ عَنِ الْحُضُورِ إِلَى مَوْضِعِ الْمُنَادَاةِ، وَقَدْ يَكُونُ لِلْمَلَكِ الْمُوَكَّلِ مَوْجُودٌ يُصَوِّتُ صَوْتًا مُؤَثِّرًا.
ونَفْخَةٌ: مَصْدَرُ نَفَخَ مُقْتَرِنٍ بِهَاءٍ دَالَّةٍ عَلَى الْمَرَّةِ، أَيِ الْوَحْدَةِ فَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ، أَوْ تَقَعُ عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الْفَاعِلِ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ فَاعِلَ النَّفْخِ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِالنَّفْخِ فِي الصُّورِ وَهُوَ إسْرَافيل.
ووصفت نَفْخَةٌ بِ واحِدَةٌ تَأْكِيدٌ لِإِفَادَةِ الْوَحْدَةِ مِنْ صِيغَةِ الْفَعْلَةِ تَنْصِيصًا عَلَى الْوَحْدَةِ الْمُفَادَةِ مِنَ التَّاءِ.
وَالتَّنْصِيصُ عَلَى هَذَا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى التَّعْجِيبِ مِنْ تَأَثُّرِ جَمِيعِ الْأَجْسَادِ الْبَشَرِيَّةِ
الِاشْتِغَالِ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى السَّبِيلَ وَالتَّقْدِيرُ: يَسَّرَ السَّبِيلَ لَهُ، كَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ [الْقَمَر:
١٧] أَيْ لِذِكْرِ النَّاسِ.
وَتَقْدِيمُ السَّبِيلَ عَلَى فِعْلِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِالْعِبْرَةِ بِتَيْسِيرِ السَّبِيلِ بِمَعْنَيَيْهِ الْمَجَازِيَّيْنِ، وَفِيهِ رِعَايَةٌ لِلْفَوَاصِلِ.
وَكَذَلِكَ عَطْفُ ثُمَّ أَماتَهُ عَلَى يَسَّرَهُ بِحَرْفِ التَّرَاخِي هُوَ لِتَرَاخِي الرُّتْبَةِ فَإِنَّ انْقِرَاضَ تِلْكَ الْقُوَى الْعَقْلِيَّةِ وَالْحِسِّيَّةِ بِالْمَوْتِ، بَعْدَ أَنْ كَانَتْ رَاسِخَةً زَمَنًا مَا، انْقِرَاضٌ عَجِيبٌ دُونَ تَدْرِيجٍ وَلَا انْتِظَارِ زَمَانٍ يُسَاوِي مُدَّةَ بَقَائِهَا، وَهَذَا إِدْمَاجٌ لِلدِّلَالَةِ عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْكَثِيرَ الَّذِي لَا يُحْصَى مِنْ أَفْرَادِ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ قَدْ صَارَ أَمْرُهُ إِلَى الْمَوْتِ وَأَنَّ مَنْ هُوَ حيّ آيل إِلَى الْمَوْت لَا مَحَالَةَ، فَالْمَعْنَى: ثُمَّ أَمَاتَهُ وَيُمِيتُهُ.
فَصِيغَةُ الْمُضِيِّ فِي قَوْلِهِ: أَماتَهُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي حَقِيقَتِهِ وَهُوَ مَوْتُ مَنْ مَاتَ، وَمَجَازُهُ وَهُوَ مَوْتُ مَنْ سَيَمُوتُونَ، لِأَنَّ مَوْتَهُمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مُحَقَّقٌ. وَذِكْرُ جُمْلَةِ: ثُمَّ أَماتَهُ تَوْطِئَةٌ وَتَمْهِيدٌ لِجُمْلَةِ فَأَقْبَرَهُ وَإِسْنَادُ الْإِمَاتَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى حَقِيقَةٌ عَقْلِيَّةٌ بِحَسَبِ عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ. وَهَذَا إِدْمَاجٌ لِلِامْتِنَانِ فِي خِلَالِ الِاسْتِدْلَالِ كَمَا أُدْمِجَ: فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ فِيمَا سَبَقَ.
وَ (أَقْبَرَهُ) جَعَلَهُ ذَا قَبْرٍ، وَهُوَ أَخَصُّ مِنْ مَعْنَى قَبَرَهُ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ سَبَّبَ لَهُ أَنْ يُقْبَرَ.
قَالَ الْفَرَّاءُ: «أَيْ جَعَلَهُ مَقْبُورًا، وَلَمْ يَجْعَلْهُ مِمَّنْ يُلْقَى لِلطَّيْرِ وَالسِّبَاعِ وَلَا مِمَّنْ يُلْقَى فِي النَّوَاوِيسِ» (جَمْعِ نَاوُوسٍ صُنْدُوقٌ مِنْ حَجَرٍ أَوْ خَشَبٍ يُوضَعُ فِيهِ الْمَيِّتُ وَيُجْعَلُ فِي بَيْتٍ أَوْ نَحْوِهِ).
وَالْإِقْبَارُ: تَهْيِئَةُ الْقَبْرِ، وَيُقَالُ: أَقْبَرَهُ أَيْضًا، إِذَا أَمَرَ بِأَنْ يُقْبَرَ، وَيُقَالُ: قَبَرَ الْمَيِّتَ، إِذَا دَفَنَهُ، فَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ النَّاسَ ذَوِي قُبُورٍ.
وَإِسْنَادُ الْإِقْبَارِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّ اللَّهَ أَلْهَمَ النَّاسَ الدَّفْنَ كَمَا فِي قِصَّةِ دَفْنِ أَحَدِ ابْنَيْ آدَمَ أَخَاهُ بِإِلْهَامِ تَقْلِيدِهِ لِفِعْلِ غُرَابٍ حَفَرَ لِغُرَابٍ آخَرَ مَيِّتٍ حُفْرَةً