الْأُمَمِ بِبَرَاهِينَ قَوِيَّةٍ وَأَدِلَّةٍ كَقَوْلِهِ: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الْأَنْبِيَاء: ٢٢] وَقَوْلِهِ: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ [يس: ٨١].
وَلَقَدْ فَتَحَ الْأَعْيُنَ إِلَى فَضَائِلِ الْعُلُومِ بِأَنْ شَبَّهَ الْعِلْمَ بِالنُّورِ وبالحياة كَقَوْلِه: لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا [يس: ٧٠] وَقَوْلِهِ: يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [الْبَقَرَة: ٢٥٧] وَقَالَ: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ [العنكبوت: ٤٣] وَقَالَ: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [الزمر: ٩].
وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْإِعْجَازِ هُوَ الَّذِي خَالَفَ بِهِ الْقُرْآنُ أَسَالِيبَ الشِّعْرِ وَأَغْرَاضَهُ مُخَالَفَةً وَاضِحَةً. هَذَا وَالشَّاطِبِيُّ قَالَ فِي «الْمُوَافَقَاتِ» :«إِنَّ الْقُرْآنَ لَا تُحْمَلُ مَعَانِيهِ وَلَا يُتَأَوَّلُ إِلَّا عَلَى مَا هُوَ مُتَعَارَفٌ عِنْدَ الْعَرَبِ» وَلَعَلَّ هَذَا الْكَلَامَ صَدَرَ مِنْهُ فِي التَّفَصِّي مِنْ مُشْكِلَاتٍ فِي مَطَاعِنِ الْمُلْحِدِينَ اقْتِصَادًا فِي الْبَحْثِ وَإِبْقَاءً عَلَى نَفِيسِ الْوَقْتِ، وَإِلَّا فَكَيْفَ يَنْفِي إِعْجَازَ الْقُرْآنِ لِأَهْلِ كُلِّ الْعُصُورِ، وَكَيْفَ يُقْصَرُ إِدْرَاكُ إِعْجَازِهِ بَعْدَ عَصْرِ الْعَرَبِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِعَجْزِ أَهْلِ زَمَانِهِ إِذْ عَجَزُوا عَنْ مُعَارَضَتِهِ، وَإِذْ نَحْنُ نُسَلِّمُ لَهُمُ التَّفَوُّقَ فِي الْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ، فَهَذَا إِعْجَازٌ إِقْنَاعِيٌّ بِعَجْزِ أَهْلِ عَصْرٍ وَاحِدٍ وَلَا يُفِيدُ أَهْلَ كُلِّ عَصْرٍ إِدْرَاكُ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ لِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ. وَقَدْ بَيَّنْتُ نَقْضَ كَلَامِ الشَّاطِبِيِّ فِي أَوَاخِرِ الْمُقَدِّمَةِ الرَّابِعَةِ.
وَقَدْ بَدَتْ لِي حُجَّةٌ لِتَعَلُّقِ هَذِهِ الْجِهَةِ الثَّالِثَةِ بِالْإِعْجَازِ وَدَوَامِهِ وَعُمُومِهِ وَهِيَ
قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيءٌ إِلَّا أُوتِيَ- أَوْ أُعْطِيَ- مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ وَإِنِّي أَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
فَفِيهِ نُكْتَتَانِ غَفَلَ عَنْهُمَا شَارِحُوهُ: الْأُولَى أَنَّ
قَوْلَهُ: «مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ»
اقْتَضَى أَن كل نبيء جَاءَ بِمُعْجِزَةٍ هِيَ إِعْجَازٌ فِي أَمْرٍ خَاصٍّ كَانَ قَوْمُهُ أَعْجَبَ بِهِ وَأَعْجَزَ عَنْهُ فَيُؤْمِنُونَ عَلَى مِثْلِ تِلْكَ الْمُعْجِزَةِ، «وَمَعْنَى آمَنَ» عَلَيْهِ أَيْ لِأَجْلِهِ وَعَلَى شَرْطِهِ، كَمَا تَقُولُ عَلَى هَذَا يَكُونُ عَمَلُنَا أَوِ اجْتِمَاعُنَا، الثَّانِيَةُ أَنَّ
قَوْلَهُ: «وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا»
اقْتَضَى أَنْ لَيْسَتْ مُعْجِزَتُهُ مِنْ قَبِيلِ الْأَفْعَالِ كَمَا كَانَتْ مُعْجِزَاتُ الرُّسُلِ الْأَوَّلِينَ أَفْعَالًا لَا أَقْوَالًا، كَقَلْبِ الْعَصَا وَانْفِجَارِ الْمَاءِ مِنَ الْحَجَرِ، وَإِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ، بَلْ كَانَتْ مُعْجِزَتُهُ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ دَلَالَةٍ عَلَى عَجْزِ الْبَشَرِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ مِنْ جِهَتَيِ اللَّفْظِ وَالْمَعَانِي، وَبِذَلِكَ يُمْكِنُ أَنْ يُؤْمِنَ بِهِ كُلُّ مَنْ يَبْتَغِي إِدْرَاكَ ذَلِكَ مِنَ الْبَشَرِ وَيَتَدَبَّرُهُ وَيُفْصِحُ عَنْ ذَلِكَ تعقيبه
بقوله: «فأرجوا أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا»
إِذْ قَدْ عَطَفَ بِالْفَاءِ الْمُؤْذِنَةِ بِالتَّرَتُّبِ، فَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ كَوْنِهِ أُوتِيَ وَحْيًا وَبَيْنَ كَوْنِهِ يَرْجُو أَنْ يَكُونَ
(١٧٧)
قَدَّمَنَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [الْبَقَرَة: ١٥٣] أَنَّ قَوْلَهُ: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها [الْبَقَرَة: ١٤٢]، وَأَنَّهُ
خِتَامٌ لِلْمُحَاجَّةِ فِي شَأْنِ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ، وَأَنَّ مَا بَيْنَ هَذَا وَذَلِكَ كُلُّهُ اعْتِرَاضٌ أُطْنِبَ فِيهِ وَأُطِيلَ لِأَخْذِ مَعَانِيهِ بَعْضِهَا بِحُجَزِ بَعْضٍ.
فَهَذَا إِقْبَالٌ عَلَى خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ بِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ أَحْوَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَحَسَدِهِمُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى اتِّبَاعِ الْإِسْلَامِ مُرَادٌ مِنْهُ تَلْقِينُ الْمُسْلِمِينَ الْحُجَّةَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ فِي تَهْوِيلِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِبْطَالَ الْقِبْلَةِ الَّتِي كَانُوا يُصَلُّونَ إِلَيْهَا فَفِي ذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ. فَأَهْلُ الْكِتَابِ رَأَوْا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْبِرِّ بِاسْتِقْبَالِهِمْ قِبْلَتَهُمْ فَلَمَّا تَحَوَّلُوا عَنْهَا لَمَزُوهُمْ بِأَنَّهُمْ أَضَاعُوا أَمْرًا مِنْ أُمُورِ الْبِرِّ، يَقُولُ عَدِّ عَنْ هَذَا وَأَعْرِضُوا عَنْ تَهْوِيلِ الْوَاهِنِينَ وَهَبُوا أَنَّ قِبْلَةَ الصَّلَاةِ تَغَيَّرَتْ أَوْ كَانَتِ الصَّلَاةُ بِلَا قِبْلَةٍ أَصْلًا فَهَلْ ذَلِكَ أَمْرٌ لَهُ أَثَرٌ فِي تَزْكِيَةِ النُّفُوسِ وَاتِّصَافِهَا بِالْبِرِّ، فَذِكْرُ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ اقْتِصَارٌ عَلَى أَشْهَرِ الْجِهَاتِ أَوْ هُوَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى قِبْلَةِ الْيَهُودِ وَقِبْلَةِ النَّصَارَى لِإِبْطَالِ تَهْوِيلِ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حِينَ اسْتَقْبَلُوا الْكَعْبَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ لِكُلِّ مَنْ يَسْمَعُ الْخِطَابَ.
وَالْبِرُّ سِعَةُ الْإِحْسَانِ وَشِدَّةُ الْمَرْضَاةِ وَالْخَيْرُ الْكَامِلُ الشَّامِلُ وَلِذَلِكَ تُوصَفُ بِهِ الْأَفْعَالُ الْقَوِيَّةُ الْإِحْسَانِ فَيُقَالُ: بِرُّ الْوَالِدَيْنِ وَبِرُّ الْحَجَّ وَقَالَ تَعَالَى: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمرَان: ٩٢]، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا بِرُّ الْعَبْدِ رَبَّهُ بِحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ فِي تَلَقِّي شَرَائِعِهِ وَأَوَامِرِهِ.
وَنَفْيُ الْبِرِّ عَنِ اسْتِقْبَالِ الْجِهَاتِ مَعَ أَنَّ مِنْهَا مَا هُوَ مَشْرُوعٌ كَاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ: إِمَّا لِأَنَّهُ مِنَ الْوَسَائِلِ لَا مِنَ الْمَقَاصِدِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الِاشْتِغَالُ بِهِ قُصَارَى هِمَّةِ الْمُؤْمِنِينَ وَلِذَلِكَ أَسْقَطَهُ اللَّهُ عَنِ النَّاسِ فِي حَالِ الْعَجْزِ وَالنِّسْيَانِ وَصَلَوَاتِ النَّوَافِلِ عَلَى الدَّابَّةِ فِي السَّفَرِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ إِلَخْ فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ أَهَمِّ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ وَفِيهِ جِمَاعُ صَلَاحِ النَّفْسِ وَالْجَمَاعَةِ، وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ [التَّوْبَة: ١٩] الْآيَاتِ فَيَكُونُ النَّفْيُ عَلَى مَعْنَى نَفْيِ الْكَمَالِ، وَإِمَّا لِأَنَّ الْمَنْفِيَّ عَنْهُ الْبِرَّ هُوَ اسْتِقْبَالُ قِبْلَتَيِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا أَنَّ ذَلِكَ الِاسْتِقْبَالَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فِي أَصْلِ دِينِهِمْ وَلَكِنَّهُ شَيْءٌ اسْتَحْسَنَهُ أَنْبِيَاؤُهُمْ وَرُهْبَانُهُمْ وَلِذَلِكَ نُفِيَ الْبَرُّ عَنْ تَوْلِيَةِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ تَنْبِيهًا عَلَى ذَلِكَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَيْسَ الْبِرَّ بِرَفْعِ الْبِرَّ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ لَيْسَ وَالْخَبَرُ هُوَ أَنْ تُوَلُّوا وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ
وَكَذَلِكَ ابْنُ رَاشِدٍ الْقَفَصِيُّ فِي كِتَابِهِ «الْفَائِقُ فِي الْأَحْكَامِ وَالْوَثَائِقِ» وَنَسَبَهُ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِهِ عَلَى صَحِيحِ مُسلم لمَالِك»، وَحمله عَلَى أَنَّ الْمُسْتَنَدَ مُتَّحِدٌ وَهُوَ إِعْمَالُ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَعَلَّهُ أَخَذَ نِسْبَةَ ذَلِكَ لِمَالِكٍ مِنْ كَلَامِ ابْنِ الْحَاجِبِ الْمُتَقَدِّمِ.
وَادَّعَى ابْنُ مَرْزُوقٍ أَنَّ ابْنَ الْحَاجِبِ تَبِعَ ابْنَ شَاسٍ إِذْ قَالَ: «فَإِنْ بَادَرَ بِهَا مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ لَمْ يُقْبَلْ» وَأَنَّ ابْنَ شَاسٍ أَخَذَهُ مِنْ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ قَالَ: «وَالَّذِي تَقْتَضِيهِ نُصُوصُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ إِنْ رَفَعَهَا قَبْلَ الطَّلَبِ لَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِيهَا بَلْ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ مَنْدُوبًا فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ لَا تُرَدَّ» وَاعْتَضَدَ بِكَلَامِ الْبَاجِيِّ فِي شَرْحِ حَدِيثِ: خَيْرُ الشُّهَدَاءِ الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا.
وَقَدْ سَلَكُوا فِي تَعْلِيلِ الْمَسْأَلَةِ مَسْلَكَيْنِ: مَسْلَكٍ يَرْجِعُ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، وَهُوَ مَسْلَكُ الشَّافِعِيَّةِ، وَمَسْلَكِ إِعْمَالِ قَاعِدَةِ رَدِّ الشَّهَادَةِ بِتُهْمَةِ الْحِرْصِ عَلَى الْعَمَلِ بِشَهَادَتِهِ وَأَنَّهُ رِيبَةٌ.
وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ زِيَادَةٌ فِي التَّحْذِيرِ. وَالْإِثْمُ: الذَّنْبُ وَالْفُجُورُ.
وَالْقَلْبُ اسْمٌ لِلْإِدْرَاكِ وَالِانْفِعَالَاتِ النفسية والنوايا. وَأسد الْإِثْمُ إِلَى الْقَلْبِ وَإِنَّمَا الْآثِمُ الْكَاتِمُ لِأَنَّ الْقَلْبَ- أَيْ حَرَكَاتِ الْعَقْلِ- يُسَبِّبُ ارْتِكَابَ الْإِثْمِ: فَإِنَّ كِتْمَانَ الشَّهَادَةِ إِصْرَارٌ قَلْبِيٌّ عَلَى مَعْصِيَةٍ، وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى: [الْأَعْرَاف: ١١٦] وَإِنَّمَا سَحَرُوا النَّاسَ بِوَاسِطَةِ مَرْئِيَّاتٍ وَتَخَيُّلَاتٍ وَقَوْلُ الْأَعْشَى:
كَذَلِكَ فَافْعَلْ مَا حَيِيتَ إِذَا شَتَوْا وَأَقْدِمْ إِذَا مَا أَعْيُنُ النَّاسِ تَفْرَقُ لِأَنَّ الْفَرَقَ يَنْشَأُ عَنْ رُؤْيَةِ الْأَهْوَالِ.
وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ تَهْدِيدٌ، كِنَايَةٌ عَنِ الْمُجَازَاةِ بِمِثْلِ الصَّنِيعِ لِأَنَّ الْقَادِرَ لَا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُؤَاخَذَةِ إِلَّا الْجَهْلُ فَإِذَا كَانَ عَلِيمًا أَقَامَ قسطاس الْجَزَاء.
(إِذا) اسْمُ زَمَانٍ، وَهُوَ فِي الْغَالِبِ لِلزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ وَقَدْ يَخْرُجُ عَنْهُ إِلَى الزَّمَانِ مُطْلَقًا كَمَا هُنَا، وَلَعَلَّ نُكْتَةَ ذَلِكَ أَنَّهُ أُرِيدَ اسْتِحْضَارُ الْحَالَةِ الْعَجِيبَةِ تَبَعًا لقَوْله: تَحُسُّونَهُمْ.
و (إِذا) هُنَا مُجَرَّدَةٌ عَنْ مَعْنَى الشَّرْطِ لِأَنَّهَا إِذَا صَارَتْ لِلْمُضِيِّ انْسَلَخَتْ عَنِ الصَّلَاحِيَةِ لِلشَّرْطِيَّةِ، إِذِ الشَّرْطُ لَا يَكُونُ مَاضِيًا إِلَّا بِتَأْوِيلٍ لِذَلِكَ فَهِيَ غَيْرُ مُحْتَاجَةٍ لِجَوَابٍ فَلَا فَائِدَةَ فِي تَكَلُّفِ تَقْدِيرِهِ: انْقَسَمْتُمْ، وَلَا إِلَى جَعْلِ الْكَلَامِ بَعْدَهَا دَلِيلًا عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا إِلَى آخِرِهَا.
وَالْفَشَلُ: الْوَهَنُ وَالْإِعْيَاءُ، وَالتَّنَازُعُ: التَّخَالُفُ، وَالْمُرَادُ بِالْعِصْيَانِ هُنَا عِصْيَانُ أَمْرِ الرَّسُولِ، وَقد رتّبت الْأَفْعَال الثَّلَاثَةُ فِي الْآيَةِ عَلَى حَسْبِ تَرْتِيبِهَا فِي الْحُصُولِ، إِذْ كَانَ الْفَشَلُ، وَهُوَ ضَجَرُ بَعْضِ الرُّمَاةِ مِنْ مُلَازَمَةِ مَوْقِفِهِمْ لِلطَّمَعِ فِي الْغَنِيمَةِ، قَدْ حَصَلَ أَوَّلًا فَنَشَأَ عَنْهُ التَّنَازُعُ بَيْنَهُمْ فِي مُلَازَمَةِ الْمَوْقِفِ وَفِي اللَّحَاقِ بِالْجَيْشِ لِلْغَنِيمَةِ، وَنَشَأَ عَنِ التَّنَازُعِ تَصْمِيمُ مُعْظَمِهِمْ عَلَى مُفَارَقَةِ الْمَوْقِفِ الَّذِي أَمَرَهُمُ الرَّسُولُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِمُلَازَمَتِهِ وَعَدَمِ الِانْصِرَافِ مِنْهُ، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي تَرْتِيبِ الْأَخْبَارِ فِي صِنَاعَةِ الْإِنْشَاءِ مَا لَمْ يَقْتَضِ الْحَالُ الْعُدُولَ عَنْهُ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي قَوْلِهِ: فِي الْأَمْرِ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ أَيْ فِي أَمْرِكُمْ أَيْ شَأْنِكُمْ.
وَمَعْنَى مِنْ بَعْدِ مَا أَراكُمْ مَا تُحِبُّونَ أَرَادَ بِهِ النَّصْرَ إِذْ كَانَتِ الرِّيحُ أَوَّلَ يَوْمِ أُحُدٍ لِلْمُسْلِمِينَ، فَهَزَمُوا الْمُشْرِكِينَ، وَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ، حَتَّى شُوهِدَتْ نِسَاؤُهُمْ مُشَمِّرَاتٍ عَنْ سُوقِهِنَّ فِي أَعْلَى الْجَبَلِ هَارِبَاتٍ مِنَ الْأَسْرِ، وَفِيهِنَّ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ امْرَأَةُ أَبِي سُفْيَانَ، فَلَمَّا رَأَى الرُّمَاةُ الَّذِينَ أَمَرَهُمُ الرَّسُولُ أَنْ يَثْبُتُوا لِحِمَايَةِ ظُهُورِ الْمُسْلِمِينَ، الْغَنِيمَةَ، الْتَحَقُوا بِالْغُزَاةِ، فَرَأَى خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَهُوَ قَائِدُ خَيْلِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ، غِرَّةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَأَتَاهُمْ مِنْ وَرَائِهِمْ فَانْكَشَفُوا وَاضْطَرَبَ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ وَبَادَرُوا الْفِرَارَ وَانْهَزَمُوا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ بَعْدِ مَا أَراكُمْ مَا تُحِبُّونَ فَيَكُونُ الْمَجْرُورُ مُتَعَلِّقًا بِفَشَلِهِمْ. وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا تَشْدِيدٌ فِي الْمَلَامِ وَالتَّنْدِيمِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلا تُظْلَمُونَ- بِتَاءِ الْخِطَابِ- عَلَى أَنَّهُ أَمَرَ الرَّسُولَ أَنْ يَقُولَهُ لَهُمْ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَرَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ، وَخَلَفٌ- بِيَاءِ
الْغَيْبَةِ- عَلَى أَنْ يَكُونَ مِمَّا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُبَلِّغَهُ إِلَيْهِمْ.
وَالْفَتِيلُ تَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا [النِّسَاء:
٤٩].
وَجُمْلَةُ: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ تَمَامِ الْقَوْلِ الْمَحْكِيِّ بِقَوْلِهِ: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ. وَإِنَّمَا لَمْ تُعْطَفْ عَلَى جُمْلَةِ: مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ لِاخْتِلَافِ الْغَرَضَيْنِ، لِأَنَّ جُمْلَةَ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا تَغْلِيطٌ لَهُمْ فِي طَلَبِ التَّأْخِيرِ إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ، وَجُمْلَةُ: أَيْنَما تَكُونُوا إِلَخْ مَسُوقَةٌ لِإِشْعَارِهِمْ بِأَنَّ الْجُبْنَ هُوَ الَّذِي جملهم عَلَى طَلَبِ التَّأْخِيرِ إِلَى أَمَدٍ قَرِيبٍ، لِأَنَّهُمْ تَوَهَّمُوا أَنَّ مَوَاقِعَ الْقِتَالِ تُدْنِي الْمَوْتَ مِنَ النَّاسِ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَدْ تَمَّ، وَأَنَّ جُمْلَةَ أَيْنَما تَكُونُوا تَوَجُّهٌ إِلَيْهِمْ بِالْخِطَابِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ تَوَجُّهٌ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ بِالْخِطَابِ، فَتَكُونُ عَلَى كِلَا الْأَمْرَيْنِ مُعْتَرِضَةً بَيْنَ أَجْزَاءِ الْكَلَامِ. وَ (أَيْنَمَا) شَرْطٌ يَسْتَغْرِقُ الْأَمْكِنَةَ (وَلَوْ) فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ وَصْلِيَّةٌ- وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ مَعْنَاهَا وَاسْتِعْمَالِهَا عِنْدَ قَوْلِهِ:- فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٩١] : فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ.
وَالْبُرُوجُ جَمْعُ بُرْجٍ، وَهُوَ الْبِنَاءُ الْقَوِيُّ وَالْحِصْنُ: وَالْمُشَيَّدَةُ: الْمَبْنِيَّةُ بِالشِّيدِ، وَهُوَ الْجِصُّ، وَتُطْلَقُ عَلَى الْمَرْفُوعَةِ الْعَالِيَةِ، لِأَنَّهُمْ إِذَا أَطَالُوا الْبِنَاءَ بَنَوْهُ بِالْجِصِّ، فَالْوَصْفُ بِهِ مُرَادٌ بِهِ الْمَعْنَى الْكِنَائِيُّ. وَقَدْ يُطْلَقُ الْبُرُوجُ عَلَى مَنَازِلِ كَوَاكِبِ السَّمَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً [الْفرْقَان: ٦١] وَقَوْلِهِ: وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ [الْبُرُوجِ: ١].
وَعَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: الْبُرُوجُ هُنَا بُرُوجُ الْكَوَاكِبِ، أَيْ وَلَوْ بَلَغْتُمُ السَّمَاءَ. وَعَلَيْهِ يَكُونُ وَصْفُ مُشَيَّدَةٍ مَجَازًا فِي الِارْتفَاع، وَهُوَ بَصِير مجَازًا فِي الِارْتِفَاعِ، وَهُوَ بَعِيدٌ.
وَمَعْنَى إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ إِذَا عَزَمْتُمْ عَلَى الصَّلَاةِ، لِأَنَّ الْقِيَامَ يُطْلَقُ فِي كَلَامِ
الْعَرَبِ بِمَعْنَى الشُّرُوعِ فِي الْفِعْلِ، قَالَ الشَّاعِرُ:

فَقَامَ يَذُودُ النَّاسَ عَنْهَا بِسَيْفِهِ وَقَالَ أَلَا لَا مِنْ سَبِيلٍ إِلَى هِنْدٍ
وَعَلَى الْعَزْمِ عَلَى الْفِعْلِ، قَالَ النَّابِغَةُ:
قَامُوا فَقَالُوا حِمَانَا غَيْرُ مَقْرُوبٍ أَيْ عَزَمُوا رَأْيَهُمْ فَقَالُوا. وَالْقِيَامُ هُنَا كَذَلِكَ بِقَرِينَةِ تَعْدِيَتِهِ بِ (إِلَى) لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى عَمَدْتُمْ إِلَى أَنْ تُصَلُّوا.
وَرَوَى مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّهُ فَسَّرَ الْقِيَامَ بِمَعْنَى الْهُبُوبِ مِنَ النَّوْمِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ السُّدِّيِّ. فَهَذِهِ وُجُوهُ الْأَقْوَالِ فِي تَفْسِيرِ مَعْنَى الْقِيَامِ فِي هَذِهِ الْآيَة، وكلّها تؤول إِلَى أَنَّ إِيجَابَ الطِّهَارَةِ لِأَجْلِ أَدَاءِ الصَّلَاةِ.
وَأَمَّا مَا يَرْجِعُ إِلَى تَأْوِيلِ مَعْنَى الشَّرْطِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ الْآيَةَ فَظَاهِرُ الْآيَةِ الْأَمْرُ بِالْوُضُوءِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِغَسْلِ مَا أُمِرَ بِغَسْلِهِ شُرِطَ بِ إِذا قُمْتُمْ فَاقْتَضَى طَلَبَ غَسْلِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ عِنْدَ كُلِّ قِيَامٍ إِلَى الصَّلَاةِ. وَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ فِي الْوُجُوبِ. وَقَدْ وَقَفَ عِنْدَ هَذَا الظَّاهِرِ قَلِيلٌ مِنَ السَّلَفِ فَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَعِكْرِمَةَ وُجُوبُ الْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَنَسَبَهُ الطبرسي إِلَى دَاوُود الظَّاهِرِيِّ، وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ ابْنُ حَزْمٍ فِي «الْمُحَلَّى» وَلَمْ أَرَهُ لِغَيْرِ الطَّبَرَسِيِّ. وَقَالَ بُرَيْدَةُ بْنُ أَبِي بُرْدَةَ: كَانَ الْوُضُوءُ وَاجِبًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِكُلِّ صَلَاةٍ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ عَامَ الْفَتْحِ بِفِعْلِ النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصَلَّى يَوْمَ الْفَتْحِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ، وَصَلَّى فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ الْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا حُكْمٌ خاصّ بالنّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذَا قَوْلٌ عَجِيبٌ إِنْ أَرَادَ بِهِ صَاحِبُهُ حَمْلَ الْآيَةِ عَلَيْهِ، كَيْفَ وَهِيَ مُصَدَّرَةٌ بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا. وَالْجُمْهُورُ حَمَلُوا الْآيَةَ عَلَى مَعْنَى «إِذَا قُمْتُمْ مُحْدِثِينَ» وَلَعَلَّهُمُ اسْتَنَدُوا فِي ذَلِكَ إِلَى آيَةِ النِّسَاءِ [٤٣] الْمُصَدَّرَةِ بِقَوْلِهِ: لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى - إِلَى قَوْلِهِ- وَلا جُنُباً الْآيَةَ. وَحَمَلُوا مَا كَانَ يَفْعَلُهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الْوضُوء لكلّ صَلَاة على أنّه كَانَ فرضا على النّبيء صلى
وَلَمْ يَرِدْ لَفْظُ (النُّورِ) إِلَّا مُفْرَدًا. وَهُمَا مَعًا دَالَّانِ عَلَى الْجِنْسِ، وَالتَّعْرِيفُ الْجِنْسِيُّ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُفْرَدُ وَالْجَمْعُ فَلَمْ يَبْقَ لِلِاخْتِلَافِ سَبَبٌ لِاتِّبَاعِ الِاسْتِعْمَالِ، خِلَافًا لِمَا فِي «الْكَشَّافِ».
ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ.
عُطِفَتْ جُمْلَةُ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ عَلَى جُمْلَةِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ. فَ ثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ الدَّالِّ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَهَا يَتَضَمَّنُ مَعْنَى مِنْ نَوْعِ مَا قَبْلَهُ، وَهُوَ أَهَمُّ فِي بَابِهِ. وَذَلِكَ شَأْنُ (ثُمَّ) إِذَا وَرَدَتْ عَاطِفَةً جُمْلَةً عَلَى أُخْرَى، فَإِنَّ عُدُولَ الْمُشْرِكِينَ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُ خَالِقُ الْأَشْيَاءِ أَمْرٌ غَرِيبٌ فِيهِمْ أَعْجَبُ مِنْ عِلْمِهِمْ بِذَلِكَ.
وَالْحُجَّةُ نَاهِضَةٌ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ عَدَا الْمَانَوِيَّةَ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْخَالِقُ وَالْمُدَبِّرُ لِلْكَوْنِ، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [النَّحْل: ١٧].
وَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ عَلَى وَجْهِ الْكِنَايَةِ بِقَرِينَةِ مَوْقِعِ ثُمَّ وَدَلَالَةِ الْمُضَارِعِ عَلَى التَّجَدُّدِ، فَالتَّعْجِيبُ مِنْ شَأْنِ الْمُشْرِكِينَ ظَاهِرٌ وَأَمَّا الْمَانَوِيَّةُ فَالتَّعْجِيبُ مِنْ شَأْنِهِمْ فِي أَنَّهُمْ لَمْ يَهْتَدُوا إِلَى الْخَالِقِ وَعَبَدُوا بَعْضَ مَخْلُوقَاتِهِ. فَالْمُرَادُ بِ الَّذِينَ كَفَرُوا كُلُّ مَنْ كَفَرَ بِإِثْبَاتِ إِلَهٍ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى سَوَاءً فِي ذَلِكَ مَنْ جَعَلَ لَهُ شَرِيكًا مِثْلَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالصَّابِئَةِ وَمَنْ خَصَّ غَيْرَ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ كَالْمَانَوِيَّةِ. وَهَذَا الْمُرَادُ دَلَّتْ عَلَيْهِ الْقَرِينَةُ وَإِنْ كَانَ غَالِبَ عُرْفِ الْقُرْآنِ إِطْلَاقُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى الْمُشْرِكِينَ.
وَمَعْنَى يَعْدِلُونَ يُسَوُّونَ. وَالْعَدْلُ: التَّسْوِيَةُ. تَقُولُ: عَدَلْتُ فُلَانًا بِفُلَانٍ، إِذَا سَوَّيْتَهُ
بِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً [الْمَائِدَة: ٩٥]، فَقَوْلُهُ بِرَبِّهِمْ مُتَعَلِّقٌ بِ يَعْدِلُونَ وَلَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِ الَّذِينَ كَفَرُوا لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ. وَحَذْفُ مَفْعُولِ يَعْدِلُونَ، أَيْ يَعْدِلُونَ بِرَبِّهِمْ غَيْرَهُ وَقَدْ عَلِمَ كُلُّ فَرِيقٍ مَاذَا عَدَلَ بِاللَّهِ. وَالْمُرَادُ يَعْدِلُونَهُ بِاللَّهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَعْتَرِفُ بِأَنَّ اللَّهَ أَعْظَمُ كَمَا كَانَ
(١٤٤)
جُمْلَةُ: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ حَالٌ مِنْ مِنَ الْأَنْعامِ [الْأَنْعَامِ: ١٤٢]. ذُكِرُ تَوْطِئَةً لِتَقْسِيمِ الْأَنْعَامِ إِلَى أَرْبَعَةِ أَصْنَافِ الَّذِي هُوَ تَوْطِئَةٌ لِلرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ لِقَوْلِهِ: قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ- إِلَى قَوْلِهِ- أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ أَيْ أَنْشَأَ مِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً إِلَى آخِرِهِ حَالَةَ كَوْنِهَا ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ.
وَالْأَزْوَاجُ جَمْعُ زَوْجٍ، وَالزَّوْجُ اسْمٌ لِذَاتٍ مُنْضَمَّةٌ إِلَى غَيْرِهَا عَلَى وَجْهِ الْمُلَازَمَةِ،
فَالزَّوْجُ ثَانٍ لِوَاحِدٍ، وَكُلٌّ مِنْ ذَيْنِكَ الِاثْنَيْنِ يُقَالُ لَهُ: زَوْجٌ، بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَضْمُومٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُلْنا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣٥]، وَيُطْلَقُ الزَّوْجُ غَالِبًا عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مَنْ بَنِي آدَمَ الْمُتَلَازِمَيْنِ بِعُقْدَةِ نِكَاحٍ، وَتُوُسِّعَ فِي هَذَا الْإِطْلَاقِ فَأُطْلِقَ بِالِاسْتِعَارَةِ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مِنَ الْحَيَوَانِ الَّذِي يَتَقَارَنُ ذَكَرُهُ وَأُنْثَاهُ مِثْلُ حِمَارِ الْوَحْشِ وَأَتَانِهِ، وَذَكَرُ الْحَمَامِ وَأُنْثَاهُ، لِشَبْهِهَا بِالزَّوْجَيْنِ مِنَ الْإِنْسَانِ. وَيُطْلَقُ الزَّوْجُ عَلَى الصِّنْفِ مِنْ نَوْعٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [٣]. وَكِلَا الْإِطْلَاقَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ صَالِحٌ لِلْإِرَادَةِ هُنَا لِأَنَّ الْإِبِلَ وَالْبَقَرَ وَالضَّأْنَ وَالْمَعْزَ أَصْنَافٌ لِلْأَنْعَامِ، وَلِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْهُ ذَكَرٌ وَأُنْثَى. إِذِ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ مِنَ الْأَنْعَامِ ذَكَرَهَا وَأُنْثَاهَا، فَالْأَزْوَاجُ هُنَا أَزْوَاجُ الْأَصْنَافِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ زَوْجًا بِعَيْنِهِ، إِذْ لَا تُعَرَفُ بِأَعْيَانِهَا، فَثَمَانِيَةُ أَزْوَاجٍ هِيَ أَرْبَعَةُ ذُكُورٍ مِنْ أَرْبَعَةِ أَصْنَافٍ وَأَرْبَعُ إِنَاثٍ كَذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ أَبَدَلَ اثْنَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ قَوْلُهُ: اثْنَيْنِ: بَدَلُ تَفْصِيلٍ، وَالْمُرَادُ: اثْنَيْنِ مِنْهَا أَيْ مِنَ الْأَزْوَاجِ، أَيْ ذَكَرٌ وَأُنْثَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا زَوْجٌ لِلْآخَرِ، وَفَائِدَةُ هَذَا التَّفْصِيلِ التَّوَصُّلُ لِذِكْرِ أَقْسَامِ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ تَوْطِئَةً لِلِاسْتِدْلَالِ الْآتِي فِي قَوْلِهِ: قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ الْآيَةَ.
وَسُلِكَ فِي التَّفْصِيلِ طَرِيقُ التَّوْزِيعِ تَمْيِيزًا للأنواع المتقاربة، فإنّ الضَّأْن والمعز متقاربان، وَكِلَاهُمَا يذبح، وَالْإِبِل وَالْبَقر مُتَقَارِبَة، وَالْإِبِلُ
آلَةُ الْخِيَاطَةِ الْمُسَمَّى بِالْإِبْرَةِ، وَالْفِعَالُ وَرَدَ اسْمًا مُرَادِفًا لِلْمِفْعَلِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى آلَةِ الشَّيْءِ كَقَوْلِهِمْ حِزَامٌ وَمِحْزَمٌ، وَإِزَارٌ وَمِئْزَرٌ، وَلِحَافٌ وَمِلْحَفٌ، وَقِنَاعٌ وَمِقْنَعٌ.
وَالسَّمُّ: الْخَرْتُ الَّذِي فِي الْإِبْرَةِ يُدْخَلُ فِيهِ خَيْطُ الْخَائِطِ، وَهُوَ ثُقْبٌ ضَيِّقٌ، وَهُوَ بِفَتْحِ السِّينِ فِي الْآيَةِ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ وَتُضَمُّ السِّينُ فِي لُغَةِ أَهْلِ الْعَالِيَةِ. وَهِيَ مَا بَيْنَ نَجْدٍ وَبَيْنَ حُدُودِ أَرْضِ مَكَّةَ.
وَالْقُرْآنُ أَحَالَ عَلَى مَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ النَّاسِ مِنْ حَقِيقَةِ الْجَمَلِ وَحَقِيقَةِ الْخِيَاطِ، لِيُعْلَمَ أَنَّ دُخُولَ الْجَمَلِ فِي خَرْتِ الْإِبْرَةِ مُحَالٌ مُتَعَذَّرٌ مَا دَامَا عَلَى حَالَيْهِمَا الْمُتَعَارَفَيْنِ.
وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى عَدَمِ تَفَتُّحِ أَبْوَابِ السَّمَاءِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ أَيْ، وَمِثْلُ ذَلِكَ الِانْتِفَاءِ، أَيِ الْحِرْمَانِ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ لِأَنَّهُمْ بِإِجْرَامِهِمُ، الَّذِي هُوَ التَّكْذِيبُ وَالْإِعْرَاضُ، جَعَلُوا أَنْفُسَهُمْ غَيْرَ مُكْتَرِثِينَ بِوَسَائِلِ الْخَيْرِ وَالنَّجَاةِ، فَلَمْ يَتَوَخَّوْهَا وَلَا تَطَلَّبُوهَا، فَلِذَلِكَ جَزَاهُمُ اللَّهُ عَنِ اسْتِكْبَارِهِمْ أَنْ أَعْرَضَ عَنْهُمْ، وَسَدَّ عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ الْخَيْرَاتِ.
وَجُمْلَةُ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ تَذْيِيلٌ يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْإِجْرَامَ هُوَ الَّذِي أَوْقَعَهُمْ فِي ذَلِكَ الْجَزَاءِ، فَهُمْ قَدْ دَخَلُوا فِي عُمُومِ الْمُجْرِمِينَ الَّذِينَ يُجْزَوْنَ بِمِثْلِ ذَلِكَ الْجَزَاءِ، وَهُمُ الْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ مِنْهُمْ، لِأَنَّ عِقَابَ الْمُجْرِمِينَ قد شبّه عِقَاب الْمُجْرمين بِعِقَابِ هَؤُلَاءِ، فَعُلِمَ أَنَّهُمْ مُجْرِمُونَ، وَأَنَّهُمْ فِي الرَّعِيلِ الْأَوَّلِ مِنَ الْمُجْرِمِينَ، حَتَّى شَبَّهَ عِقَابَ عُمُومِ الْمُجْرِمِينَ بِعِقَابِ هَؤُلَاءِ
وَكَانُوا مَثَلًا لِذَلِكَ الْعُمُومِ.
وَالْإِجْرَامُ: فِعْلُ الْجُرْمِ- بِضَمِّ الْجِيمِ- وَهُوَ الذَّنْبُ، وَأَصْلُ: أَجْرَمَ صَارَ ذَا جُرْمٍ، كَمَا يُقَالُ: أَلْبَنَ وَأَتْمَرَ وَأَخْصَبَ.
وَالْمِهَادُ- بِكَسْرِ الْمِيمِ- مَا يُمَهَّدُ أَي يفرش، و «غواش» جَمْعُ غَاشِيَةٍ وَهِيَ مَا يَغْشَى الْإِنْسَانَ، أَيْ يُغَطِّيهِ كَالِلْحَافِّ، شَبَّهَ مَا هُوَ تَحْتَهُمْ مِنَ النَّارِ
وَ (خَيْرُ الْغافِرِينَ) الَّذِي يَغْفِرُ كَثِيرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبٌ مِنْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٥٠].
وَإِنَّمَا عَطَفَ جُمْلَةَ: وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ لِأَنَّهُ خَبَرٌ فِي مَعْنَى طَلِبِ الْمَغْفِرَةِ الْعَظِيمَةِ، فَعُطِفَ عَلَى الدُّعَاءِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَاغْفِرْ لَنَا جَمِيعَ ذُنُوبِنَا، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْمَغْفِرَةِ مِنْ آثَارِ الرَّحْمَةِ.
واكْتُبْ مُسْتَعَارٌ لِمَعْنَى الْعَطَاءِ الْمُحَقِّقِ حُصُولُهُ، الْمُجَدَّدِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، لِأَنَّ الَّذِي يُرِيدُ تَحْقِيقَ عَقْدٍ أَوْ عِدَةٍ، أَوْ عَطَاءٍ، وَتَعَلُّقُهُ بِالتَّجَدُّدِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ يَكْتُبُ بِهِ فِي صَحِيفَةٍ، فَلَا يَقْبَلُ النُّكْرَانَ، وَلَا النُّقْصَانَ، وَلَا الرُّجُوعَ، وَتُسَمَّى تِلْكَ الْكِتَابَةُ عَهْدًا، وَمِنْهُ مَا كَتَبُوهُ فِي صَحِيفَةِ الْقَطِيعَةِ، وَمَا كَتَبُوهُ مِنْ حِلْفِ ذِي الْمَجَازِ، قَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ:
حَذَرَ الْجَوْرَ والتطاخي وَهل ينْقض مَا فِي الْمَهَارِقِ الْأَهْوَاءِ
وَلَوْ كَانَ الْعَطَاءُ أَوِ التَّعَاقُدُ لِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يَحْتَجْ لِلْكِتَابَةِ، لِأَنَّ الْحَوْزَ أَوِ التَّمْكِينَ مُغْنٍ عَنِ الْكِتَابَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها [الْبَقَرَة: ٢٨٢] فَالْمَعْنَى: آتِنَا الْحَسَنَةَ تِلْوَ الْحَسَنَةِ فِي أَزْمَانِ حَيَاتِنَا وَفِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، دَلَّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لَفْظُ اكْتُبْ وَلَوْلَاهُ لَكَانَ دُعَاءً صَادِقًا بِإِعْطَاءِ حَسَنَةٍ وَاحِدَةٍ، فَيُحْتَاجُ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ عَلَى الْعُمُومِ بِقَرِينَةِ الدُّعَاءِ، فَإِنَّ النَّكِرَةَ يُرَادُ بِهَا الْعُمُومُ فِي سِيَاقِ الدُّعَاءِ كَقَوْلِ الْحَرِيرِيِّ فِي الْمَقَامَةِ الْخَامِسَةِ:
يَا أَهْلَ ذَا الْمَغْنَى وُقِيتُمْ ضُرًّا (أَيْ كُلَّ ضُرٍّ وَلَيْسَ الْمُرَادُ وُقِيتُمْ ضُرًّا مُعَيَّنًا).
وَالْحَسَنَةُ الْحَالَةُ الْحَسَنَةُ، وَهِيَ: فِي الدُّنْيَا الْمُرْضِيَةُ لِلنَّاسِ، وَلِلَّهِ تَعَالَى، فَتَجْمَعُ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالدِّينِ، وَفِي الْآخِرَةِ حَالَةُ الْكَمَالِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٠١].
وَجُمْلَةُ: إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ مَسُوقَةٌ مَسَاقَ التَّعْلِيلِ لِلطَّلَبِ وَالِاسْتِجَابَةِ، وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ وَلِأَنَّ مَوْقِعَ حَرْفِ التَّأْكِيدِ فِي أَوَّلِهَا مَوْقِعُ الِاهْتِمَامِ، فَيُفِيدُ التَّعْلِيلَ وَالرَّبْطَ، وَيُغْنِي غِنَاءَ فَاءِ السَّبَبِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ.
وهُدْنا مَعْنَاهُ تُبْنَا، يُقَالُ: هَادَ يَهُودُ إِذَا رَجَعَ وَتَابَ فَهُوَ مَضْمُومُ الْهَاءِ
وَالْإِخْوَانُ جَمْعُ أَخٍ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، وَأُطْلِقَتِ الْأُخُوَّةُ هُنَا عَلَى الْمَوَدَّةِ
وَالصَّدَاقَةِ.
وَالظَّرْفِيَّةُ فِي قَوْلِهِ: فِي الدِّينِ مَجَازِيَّةٌ: تَشْبِيهًا لِلْمُلَابَسَةِ الْقَوِيَّةِ بِإِحَاطَةِ الظَّرْفِ بِالْمَظْرُوفِ زِيَادَةً فِي الدَّلَالَةِ عَلَى التَّمَكُّنِ مِنَ الْإِسْلَامِ وَأَنَّهُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ.
وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ.
اعْتِرَاضٌ وَتَذْيِيلٌ، وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ، وَمُنَاسَبَةُ مَوْقِعِهِ عَقِبَ قَوْلِهِ: اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا [التَّوْبَة: ٩] أَنَّهُ تَضَمَّنَ أَنَّهُمْ لَمْ يَهْتَدُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَنَبَذُوهَا عَلَى عِلْمٍ بِصِحَّتِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ [الجاثية: ٢٣]، وَبِاعْتِبَارِ مَا فِيهِ مِنْ فَرْضِ تَوْبَتِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ إِذَا أَقْلَعُوا عَنْ إِيثَارِ الْفَسَادِ عَلَى الصَّلَاحِ، فَكَانَ قَوْلُهُ: وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
جَامِعًا لِلْحَالَيْنِ، دَالًّا عَلَى أَنَّ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ:
اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا [التَّوْبَة: ٩] آيَاتٌ وَاضِحَةٌ مُفَصَّلَةٌ، وَأَنَّ عَدَمَ اهْتِدَاءِ هَؤُلَاءِ بِهَا لَيْسَ لِنَقْصٍ فِيهَا وَلَكِنَّهَا إِنَّمَا يَهْتَدِي بِهَا قَوْمٌ يَعْلَمُونَ، فَإِنْ آمَنُوا فَقَدْ كَانُوا مِنْ قَوْمٍ يَعْلَمُونَ.
وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُمْ إِنِ اشْتَرَوْا بِهَا ثَمَنًا قَلِيلًا فَلَيْسُوا مِنْ قَوْمٍ يَعْلَمُونَ، فَنُزِّلَ عِلْمُهُمْ حِينَئِذٍ مَنْزِلَةَ عَدَمِهِ لِانْعِدَامِ أَثَرِ الْعِلْمِ، وَهُوَ الْعَمَلُ بِالْعِلْمِ، وَفِيهِ نِدَاءٌ عَلَيْهِمْ بِمُسَاوَاتِهِمْ لِغَيْرِ أَهْلِ الْعُقُولِ كَقَوْلِهِ: وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ [العنكبوت: ٤٣].
وَحُذِفَ مَفْعُولُ يَعْلَمُونَ لِتَنْزِيلِ الْفِعْلِ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ إِذْ أُرِيدَ بِهِ: لِقَوْمٍ ذَوِي عِلْمٍ وَعَقْلٍ.
وَعُطِفَ هَذَا التَّذْيِيلُ عَلَى جُمْلَةِ: فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ لِأَنَّهُ بِهِ أَعْلَقُ، لِأَنَّهُمْ إِنْ تَابُوا فَقَدْ صَارُوا إِخْوَانًا لِلْمُسْلِمِينَ، فَصَارُوا مِنْ قَوْمٍ يَعْلَمُونَ، إِذْ سَاوَوُا الْمُسْلِمِينَ فِي الِاهْتِدَاءِ بِالْآيَاتِ الْمُفَصَّلَةِ.
وَمَعْنَى التَّفْصِيلِ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ من سُورَة الْأَنْعَام [٥٥].
وَالْمُرَادُ هُنَا أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ فِي الدِّينِ. وَالسِّيَاقُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهَا وَاحِدَةٌ فِي الدِّينِ الْحَقِّ وَهُوَ التَّوْحِيدُ لِأَنَّ الْحَقَّ هُوَ الَّذِي يُمْكِنُ اتِّفَاقُ الْبَشَرِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ ناشيء عَنْ سَلَامَةِ الِاعْتِقَادِ مِنَ الضَّلَالِ وَالتَّحْرِيفِ. وَالْإِنْسَانُ لَمَّا أُنْشِئَ عَلَى فِطْرَةٍ كَامِلَةٍ بَعِيدَةٍ عَنِ التَّكَلُّفِ.
وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ الْأَعْمَالِ، لِأَنَّهَا قَدْ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْحَاجَاتِ، فَإِذَا جَازَ أَنْ يَحْدُثَ فِي الْبَشَرِ الضَّلَالُ وَالْخَطَأُ فَلَا يَكُونُ الضَّلَالُ عَامًّا عَلَى عُقُولِهِمْ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ النَّاسَ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً مُتَّفِقِينَ عَلَى التَّوْحِيدِ لِأَنَّ اللَّهَ لَمَّا فَطَرَ الْإِنْسَانَ فَطَرَهُ عَلَى عَقْلٍ سَلِيمٍ مُوَافِقٍ لِلْوَاقِعِ، وَوَضَعَ فِي عَقْلِهِ الشُّعُورَ بِخَالِقٍ وَبِأَنَّهُ وَاحِدٌ وَضْعًا جِبِلِّيًّا كَمَا وَضَعَ الْإِلْهَامَاتِ فِي أَصْنَافِ الْحَيَوَانِ. وَتَأَيَّدَ ذَلِكَ بِالْوَحْيِ لِأَبِي الْبَشَرِ وَهُوَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
ثُمَّ إِنَّ الْبَشَرَ أَدْخَلُوا عَلَى عُقُولِهِمُ الِاخْتِلَافَ الْبَعِيدَ عَنِ الْحق بِسَبَب الاختلاق الْبَاطِلِ وَالتَّخَيُّلِ وَالْأَوْهَامِ بِالْأَقْيِسَةِ الْفَاسِدَةِ. وَهَذَا مِمَّا يَدْخُلُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
[التِّين: ٤- ٦]، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِكَوْنِ النَّاسِ أُمَّةً وَاحِدَةً الْوَحْدَةُ فِي الْحَقِّ، وَأَنَّ الْمَقْصُودَ مَدْحُ تِلْكَ الْحَالَةِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ بَيَانُ فَسَادِ الشِّرْكِ وَإِثْبَاتُ خَطَأِ مُنْتَحِلِيهِ بِأَنَّ سَلَفَهُمُ الْأَوَّلَ لَمْ يَكُنْ مِثْلَهُمْ فِي فَسَادِ الْعُقُولِ، وَقَدْ كَانَ لِلْمُخَاطَبِينَ تَعْظِيمٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ أَسْلَافُهُمْ، وَلِأَنَّ صِيغَةَ الْقَصْرِ تُؤْذِنُ بِأَنَّ الْمُرَادَ إِبْطَالُ زَعْمِ مَنْ يَزْعُمُ غَيْرَ ذَلِكَ.
وَوُقُوعُهُ عَقِبَ ذِكْرِ مَنْ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَصْنَامًا لَا تَضُرُّهُمْ وَلَا تَنْفَعُهُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمُ الْمَقْصُودُ بِالْإِبْطَالِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَحْسَبُونَ أَنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الضَّلَالِ هُوَ دِينُ الْحَقِّ، وَلِذَلِكَ صَوَّرُوا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ يَسْتَقْسِمَانِ بِالْأَزْلَامِ فِي الْكَعْبَةِ.
فَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ «كَذَبُوا وَاللَّهِ إِنِ اسْتَقْسَمَا بِهَا قَطُّ، وَقَرَأَ: مَا كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
[آل عمرَان: ٦٧] »
وَبِهَذَا الْوَجْهِ يُجْعَلُ التَّعْرِيفُ فِي النَّاسُ لِلِاسْتِغْرَاقِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالنَّاسِ الْعَرَبُ خَاصَّةً بِقَرِينَةِ الْخِطَابِ وَيَكُونَ الْمُرَادُ تَذْكِيرَهَمْ بِعَهْدِ أَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذْ كَانَ هُوَ وَأَبْنَاؤُهُ وَذُرِّيَّتُهُمْ عَلَى الْحَنِيفِيَّةِ وَالتَّوْحِيدِ
لُوطٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي بَنَاتِهِ بِوَصْفِ الْأُبُوَّةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَصرفا بِوَصْف النبوءة بِالْوَحْيِ لِلْمَصْلَحَةِ
أَنْ يَكُونَ مِنْ شَرْعِ لُوطٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِبَاحَةُ تَمْلِيكِ الْأَبِ بَنَاتِهِ إِذَا شَاءَ، فَإِنْ كَانَ أُولَئِكَ الرَّهْطُ شُرَكَاءَ فِي مِلْكِ بَنَاتِهِ كَانَ اسْتِمْتَاعُ كُلِّ وَاحِدٍ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ حَلَالًا فِي شَرِيعَتِهِ عَلَى نَحْوِ مَا كَانَ الْبِغَاءُ مِنْ بَقَايَا الْجَاهِلِيَّةِ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ يُنْسَخَ.
وَأَمَّا لَحَاقُ النَّسَبِ فِي أَوْلَادِ مَنْ تَحْمِلُ مِنْهُنَّ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ لَاحِقًا بِالَّذِي تَلِيطُهُ أُمُّهُ بِهِ مِنَ الرِّجَالِ الَّذِينَ دَخَلُوا عَلَيْهَا، كَمَا كَانَ الْأَمْرُ فِي الْبَغَايَا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَلْحَقَ الْأَوْلَادُ بِآبَاءٍ فَيَكُونُوا لَاحِقِينَ بِأُمَّهَاتِهِمْ مثل ابْن الزِّنَى وَوَلَدِ اللِّعَانِ، وَيَكُونُ هَذَا التَّحْلِيلُ مُبَاحًا ارْتِكَابًا لِأَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ، وَهُوَ مِمَّا يُشْرَعُ شَرْعًا مُؤَقَّتًا مِثْلَ مَا شُرِعَ نِكَاحُ الْمُتْعَةِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ مُحَرَّمًا وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ.
وَقَدِ اشْتَغَلَ الْمُفَسِّرُونَ عَنْ تَحْرِيرِ هَذَا بِمَسْأَلَةٍ تَزْوِيجِ الْمُؤْمِنَاتِ بِالْكُفَّارِ وَهُوَ فُضُولٌ.
وَفَرَّعَ عَلَى قَوْلِهِ: هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ أَنْ أَمَرَهُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ لِأَنَّهُمْ إِذَا امْتَثَلُوا مَا عَرَضَ لَهُمْ مِنَ النِّسَاءِ فَاتَّقُوا اللَّهَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَلا تُخْزُونِ بِحَذْفِ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ تَخْفِيفًا. وَأَثْبَتَهَا أَبُو عَمْرٍو.
وَالْخِزْيُ: الْإِهَانَةُ وَالْمَذَلَّةُ. وَتَقَدَّمَ آنِفًا. وَأَرَادَ مَذَلَّتَهُ.
وفِي لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ. جَعَلَ الضَّيْفَ كَالظَّرْفِ، أَيْ لَا تَجْعَلُونِي مَخْزِيًّا عِنْدَ ضَيْفِي إِذْ يَلْحَقُهُمْ أَذًى فِي ضِيَافَتِي، لِأَنَّ الضِّيَافَةَ جِوَارٌ عِنْدِ رَبِّ الْمَنْزِلِ، فَإِذَا لَحِقَتِ الضَّيْفَ إِهَانَةٌ كَانَتْ عَارًا عَلَى رَبِّ الْمَنْزِلِ.
وَالضَّيْفٌ: الضَّائِفُ، أَيِ النَّازِلُ فِي مَنْزِلِ أَحَدٍ نُزُولًا غَيْرَ دَائِمٍ، لِأَجْلِ مُرُورٍ فِي سَفَرٍ أَوْ إِجَابَةِ دَعْوَةٍ.
وَقَوْلُهُ: أَنْ يُوصَلَ بَدَلٌ مِنْ ضَمِيرِ بِهِ، أَيْ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِوَصْلِهِ. وَجِيءَ بِهَذَا النَّظْمِ لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ الْأَرْحَامُ بَعْدَ تَقْرِيرِهِ بِالْمَوْصُولِيَّةِ.
وَالْخَشْيَةُ: خَوْفٌ بِتَعْظِيمِ الْمَخُوفِ مِنْهُ وَتَقَدَّمَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٤٥]. وَتُطْلَقُ عَلَى مُطْلَقِ الْخَوْفِ.
وَالْخَوْفُ: ظَنُّ وُقُوعِ الْمَضَرَّةِ مِنْ شَيْءٍ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٢٩].
وسُوءَ الْحِسابِ مَا يَحُفُّ بِهِ مِمَّا يَسُوءُ الْمُحَاسَبُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا، أَيْ يَخَافُونَ وُقُوعَهُ عَلَيْهِمْ فيتركون الْعَمَل السيّء.
وَجَاءَتِ الصِّلَاتُ الَّذِينَ يُوفُونَ والَّذِينَ يَصِلُونَ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِمَا بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ فِي تِلْكَ الْأَفْعَالِ الْخَمْسَةِ لِإِفَادَةِ التَّجَدُّدِ كِنَايَةً عَنِ الِاسْتِمْرَارِ.
وَجَاءَتْ صِلَةُ وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا وَهُوَ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا بِصِيغَةِ الْمُضِيِّ لِإِفَادَةِ تَحَقُّقِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ الثَّلَاثَةِ لَهُمْ وَتَمَكُّنِهَا مِنْ أَنْفُسِهِمْ تَنْوِيهًا بِهَا لِأَنَّهَا أُصُولٌ لِفَضَائِلِ الْأَعْمَالِ.
فَأَمَّا الصَّبْرُ فَلِأَنَّهُ مِلَاكُ اسْتِقَامَةِ الْأَعْمَالِ وَمَصْدَرِهَا فَإِذَا تَخَلَّقَ بِهِ الْمُؤمن صدرت عَنْهَا لحسنات وَالْفَضَائِلُ بِسُهُولَةٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ [سُورَة الْعَصْر: ٢- ٣].
وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَلِأَنَّهَا عِمَادُ الدِّينِ وَفِيهَا مَا فِي الصَّبْرِ مِنَ الْخَاصِّيَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [سُورَة الْبَقَرَة: ٤٥].
وَأَمَّا الْإِنْفَاقُ فَأَصْلُهُ الزَّكَاةُ، وَهِيَ مُقَارِنَةٌ لِلصَّلَاةِ كُلَّمَا ذُكِرَتْ، وَلَهَا الْحَظُّ الْأَوْفَى مِنِ اعْتِنَاءِ الدِّينِ بِهَا، وَمِنْهَا النَّفَقَاتُ وَالْعَطَايَا كُلُّهَا، وَهِيَ أَهَمُّ
وَتَفَرَّعَ عَلَيْهِ الْإِخْبَارُ بِجُمْلَةِ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ، وَهُوَ تَفْرِيعُ الْأَخْبَارِ عَنِ الْأَخْبَارِ، أَيْ يَتَفَرَّعُ عَلَى هَذِهِ الْقَضِيَّةِ الْقَاطِعَةِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الدَّلَائِلِ أَنَّكُمْ قُلُوبُكُمْ مُنْكِرَةٌ وَأَنْتُمْ مُسْتَكْبِرُونَ وَأَن ذَلِك ناشىء عَنْ عَدَمِ إِيمَانِكُمْ بِالْآخِرَةِ.
وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ بِالْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ «الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ» لِأَنَّهُمْ قَدْ عُرِفُوا
بِمَضْمُونِ الصِّلَةِ وَاشْتُهِرُوا بِهَا اشْتِهَارَ لَمْزٍ وَتَنْقِيصٍ عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ، كَقَوْلِهِ: وَقالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا [سُورَة الْفرْقَان: ٢١]، وَلِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ لِهَذِهِ الصِّلَةِ ارْتِبَاطًا بِاسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى الْعِنَادِ، لِأَنَّ انْتِفَاءَ إِيمَانِهِمْ بِالْبَعْثِ وَالْحِسَابِ قَدْ جَرَّأَهُمْ عَلَى نَبْذِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ ظِهْرِيًّا فَلَمْ يَتَوَقَّعُوا مُؤَاخَذَةً عَلَى نَبْذِهَا، عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهَا حَقٌّ فَيَنْظُرُوا فِي دَلَائِلِ أَحَقِّيَّتِهَا مَعَ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَكِنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِأَنَّهُ أَعَدَّ لِلنَّاسِ يَوْمَ جَزَاءٍ عَلَى أَعْمَالِهِمْ.
وَمَعْنَى قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ جَاحِدَةٌ بِمَا هُوَ وَاقِعٌ. اسْتُعْمِلَ الْإِنْكَارُ فِي جَحْدِ الْأَمْرِ الْوَاقِعِ لِأَنَّهُ ضِدُّ الْإِقْرَارِ. فَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ مُنْكِرَةٌ لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَيْهِ، أَيْ مُنْكِرَةٌ لِلْوَحْدَانِيَّةِ.
وَعَبَّرَ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْإِنْكَارَ ثَابِتٌ لَهُمْ دَائِمٌ لِاسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى الْإِنْكَارِ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ مِنَ الْأَدِلَّةِ. وَذَلِكَ يُفِيدُ أَنَّ الْإِنْكَارَ صَارَ لَهُمْ سَجِيَّةً وَتَمَكَّنَ مِنْ نُفُوسِهِمْ لِأَنَّهُمْ ضُرُّوا بِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فَاعْتَادُوا عَدَمَ التَّبَصُّرِ فِي الْعَوَاقِبِ.
وَكَذَلِكَ جُمْلَةُ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ بُنِيَتْ عَلَى الِاسْمِيَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمَكُّنِ الِاسْتِكْبَارِ مِنْهُمْ. وَقَدْ خُولِفَ ذَلِكَ فِي آيَةِ سُورَةِ الْفُرْقَانِ [٢١] لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً لِأَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ لَمْ تَتَقَدَّمْهَا دَلَائِلُ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ مِثْلُ الدَّلَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
وَجُمْلَةُ لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُتَعَاطِفَتَيْنِ.
وَالْمَعْنَى: لَوْ كُنْتُمْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا لَأَحْيَاكُمُ اللَّهُ، لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا كَوْنَهُمْ عِظَامًا حُجَّةً لِاسْتِحَالَةِ الْإِعَادَةِ، فَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ الْإِعَادَةَ مُقَدَّرَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَلَوْ كُنْتُمْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا، لِأَنَّ الْحِجَارَةَ وَالْحَدِيدَ أَبْعَدُ عَنْ قَبُولِ الْحَيَاةِ مِنَ الْعِظَامِ وَالرُّفَاتِ إِذْ لَمْ يَسْبِقْ فِيهِمَا حُلُولُ الْحَيَاةِ قَطُّ بِخِلَافِ الرُّفَاتِ وَالْعِظَامِ.
وَالتَّفْرِيعُ فِي فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا عَلَى جُمْلَةِ قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَيْ قُلْ لَهُمْ ذَلِكَ فَسَيَقُولُونَ لَكَ: مَنْ يُعِيدُنَا.
وَجُعِلَ سُؤَالُهُمْ هُنَا عَنِ الْمُعِيدِ لَا عَنْ أَصْلِ الْإِعَادَةِ لِأَنَّ الْبَحْثَ عَنِ الْمُعِيدِ أَدْخَلُ فِي الِاسْتِحَالَةِ مِنَ الْبَحْثِ عَنْ أَصْلِ الْإِعَادَةِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْجَوَابِ بِالتَّسْلِيمِ الْجَدَلِيِّ بَعْدَ الْجَوَابِ بِالْمَنْعِ فَإِنَّهُمْ نَفَوْا إِمْكَانَ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، ثُمَّ انْتَقَلُوا إِلَى التَّسْلِيمِ الْجَدَلِيِّ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ الْجَدَلِيَّ أَقْوَى، فِي مُعَارَضَةِ الدَّعْوَى، مِنَ الْمَنْعِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي مَنْ يُعِيدُنا تَهَكُّمِيٌّ. وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُمْ هَذَا مُحَقَّقُ الْوُقُوعِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَمَرَ النبيء بِأَن يُجِيبهُمْ عِنْد مَا يَقُولُونَهُ جَوَابَ تَعْيِينٍ لِمَنْ يُعِيدُهُمْ إِبْطَالًا لِلَازِمِ التَّهَكُّمِ، وَهُوَ الِاسْتِحَالَةُ فِي نَظَرِهِمْ بِقَوْلِهِ: قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ إِجْرَاءٌ لِظَاهِرِ اسْتِفْهَامِهِمْ عَلَى أَصْلِهِ بِحَمْلِهِ عَلَى خِلَافِ مُرَادِهِمْ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَجْدَرُ عَلَى طَرِيقَةِ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ لِزِيَادَةِ الْمُحَاجَّةِ، كَقَوْلِهِ فِي مُحَاجَّةِ مُوسَى لِفِرْعَوْنَ قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ [الشُّعَرَاء: ٢٥- ٢٦].
وَجِيءَ بِالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ مَوْصُولًا لِقَصْدِ مَا فِي الصِّلَةِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى تَعْلِيلِ الْحُكْمِ بِأَنَّ الَّذِي فَطَرَهُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ قَادِرٌ عَلَى إِعَادَةِ خَلْقِهِمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الرّوم: ٢٧] فَإِنَّهُ لِقُدْرَتِهِ الَّتِي ابْتَدَأَ بِهَا خَلَقَكُمْ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى قَادِرٌ أَنْ يَخْلُقَكُمْ مَرَّةً ثَانِيَةً.
وَالْإِنْغَاضُ: التَّحْرِيكُ مِنْ أَعْلَى إِلَى أَسْفَلَ وَالْعَكْسُ. فَإِنْغَاضُ الرَّأْسِ تَحْرِيكُهُ كَذَلِكَ، وَهُوَ تَحْرِيكُ الِاسْتِهْزَاءِ.
إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ [الْجُمُعَةِ: ٩]، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ النَّدَى- بِفَتْحِ النُّونِ وَبِالْقَصْرِ- وَهُوَ بُعْدُ الصَّوْتِ. وَلَمْ يُسْمَعْ فِعْلُهُ إِلَّا بِصِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ، وَلَيْسَتْ بِحُصُولِ فِعْلٍ مِنْ جَانِبَيْنِ بَلِ الْمُفَاعَلَةُ لِلْمُبَالَغَةِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٧١]، وَعِنْدَ قَوْلِهِ:
رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ فِي سُورَة آلِ عِمْرَانَ [١٩٣].
وَهَذَا النِّدَاءُ هُوَ الْكَلَامُ الْمُوَجَّهُ إِلَيْهِ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ تَعَالَى: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ برسالتي وَبِكَلَامِي فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٤٤]، وَتَقَدَّمَ تَحْقِيقُ صِفَتِهِ هُنَاكَ، وَعِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ [٦].
وَالطُّورُ: الْجَبَلُ الْوَاقِعُ بَيْنَ بِلَادِ الشَّامِ وَمِصْرَ، وَيُقَالُ لَهُ: طُورُ سَيْنَاءَ.
وَجَانِبُهُ: نَاحِيَتُهُ السُّفْلى، وَوَصفه بالأيمن لِأَنَّهُ الَّذِي عَلَى يَمِينِ مُسْتَقْبِلِ مَشْرِقِ الشَّمْسِ، لِأَن جِهَة مشرق الشَّمْسِ هِيَ الْجِهَةُ الَّتِي يَضْبُطُ بِهَا الْبَشَرُ النَّوَاحِيَ.
وَالتَّقْرِيبُ: أَصْلُهُ الْجَعْلُ بِمَكَانِ الْقُرْبِ، وَهُوَ الدُّنُوُّ وَهُوَ ضِدُّ الْبُعْدِ. وَأُرِيدَ هُنَا الْقُرْبُ الْمَجَازِيُّ وَهُوَ الْوَحْيُ. فَقَوْلُهُ: نَجِيًّا حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ مُوسى، وَهِيَ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ لِمَعْنَى التَّقْرِيبِ.
وَنَجِيٌّ: فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِنَ الْمُنَاجَاةِ. وَهِيَ الْمُحَادَثَةُ السِّرِّيَّةُ شُبِّهَ الْكَلَامُ الَّذِي لَمْ يُكَلِّمْ بِمِثْلِهِ أَحَدًا وَلَا أَطْلَعَ عَلَيْهِ أَحَدًا بِالْمُنَاجَاةِ. وَفَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، يَجِيءُ مِنَ الْفِعْلِ الْمَزِيدِ الْمُجَرَّدِ بِحَذْفِ حَرْفِ الزِّيَادَةِ، مِثْلَ جَلِيسٍ وَنَدِيمٍ وَرَضِيعٍ.
وَمَعْنَى هِبَةِ أَخِيهِ لَهُ: أَنَّ اللَّهَ عَزَّزَهُ بِهِ وَأَعَانَهُ بِهِ، إِذْ جَعَلَهُ نَبِيئًا وَأَمَرَهُ أَنْ يُرَافِقَهُ فِي الدَّعْوَةِ، لِأَنَّ فِي لِسَانِ مُوسَى حُبْسَةً، وَكَانَ هَارُونُ
وَالْإِيتَاءُ: الإعطَاء، أَيْ أَعْطَيْنَاهُ أَهْلَهُ، وَأَهْلُ الرَّجُلِ أَهْلُ بَيْتِهِ وَقَرَابَتُهُ. وَفُهِمَ مِنْ تَعْرِيفِ الْأَهْلِ بِالْإِضَافَةِ أَنَّ الْإِيتَاءَ إِرْجَاعُ مَا سُلِبَ مِنْهُ مِنْ أَهْلٍ، يَعْنِي بِمَوْتِ أَوْلَادِهِ وَبَنَاتِهِ، وَهُوَ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ بَيِّنٍ مِنَ السِّيَاقِ، أَيْ مِثْلَ أَهْلِهِ بِأَنْ رُزِقَ أَوْلَادًا بِعَدَدِ مَا فَقَدَ، وَزَادَهُ مِثْلَهُمْ فَيَكُونُ قَدْ رُزِقَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ ابْنًا وَسِتَّ بَنَاتٍ مِنْ زَوْجِهِ الَّتِي كَانَتْ بَلَغَتْ سِنَّ الْعُقْمِ.
وَانْتَصَبَ رَحْمَةً عَلَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ. وَوُصِفَتِ الرَّحْمَةُ بِأَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَنْوِيهًا بِشَأْنِهَا بِذِكْرِ الْعِنْدِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْقُرْبِ الْمُرَادِ بِهِ التَّفْضِيلُ. وَالْمُرَادُ رَحْمَةً بِأَيُّوبَ إِذْ قَالَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.
وَالذِّكْرَى: التَّذْكِيرُ بِمَا هُوَ مَظِنَّةُ أَنْ يُنْسَى أَوْ يُغْفَلَ عَنْهُ. وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى رَحْمَةً فَهُوَ مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ، أَيْ وَتَنْبِيهًا لِلْعَابِدِينَ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يَتْرُكُ عِنَايَتَهُ بِهِمْ.
وَبِمَا فِي الْعابِدِينَ مِنَ الْعُمُومِ صَارَتِ الْجُمْلَة تذييلا.
[٨٥، ٨٦]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : الْآيَات ٨٥ إِلَى ٨٦]
وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (٨٥) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٦)
عَطْفٌ على وَأَيُّوبَ [الْأَنْبِيَاء: ٨٣] أَيْ وَآتَيْنَا إِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ حُكْمًا وَعِلْمًا.
وَجَمَعَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ فِي سلك وَاحِد لاشتراكهم فِي خَصِيصِيَّةِ الصَّبْرِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ. جَرَى ذَلِكَ لِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ الْمَثَلِ الْأَشْهَرِ فِي الصَّبْرِ وَهُوَ أَيُّوبُ.
تُقَابِلُهَا السَّعَادَةُ، أَيْ غَلَبَتْ شِقْوَتُنَا السَّعَادَةَ. وَالْمَجْرُورُ بِ (عَلَى) بَعْدَ مَادَّةِ الْغَلْبِ هُوَ الشَّيْءُ الْمُتَغَالَبُ عَلَيْهِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ «قَالَ النِّسَاءُ: غَلَبَنَا عَلَيْكَ الرِّجَالُ». مُثِّلَتْ حَالَةُ اخْتِيَارِهِمْ لِأَسْبَابِ الشِّقْوَةِ بَدَلَ أَسْبَابِ السَّعَادَةِ بِحَالَةٍ غَائِرَةٍ بَيْنَ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ عَلَى نُفُوسِهِمْ. وَإِضَافَةُ الشِّقْوَةِ إِلَى ضَمِيرِهِمْ لِاخْتِصَاصِهَا بِهِمْ حِينَ صَارَتْ غَالِبَةً عَلَيْهِمْ.
وَالشِّقْوَةُ بِكَسْرِ الشِّينِ وَسُكُونِ الْقَافِ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ. وَهِيَ زِنَةُ الْهَيْئَةِ مِنَ الشَّقَاءِ.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ شَقَاوَتُنَا بِفَتْحِ الشِّينِ وَبِأَلِفٍ بَعْدَ الْقَافِ وَهُوَ مَصْدَرٌ عَلَى صِيغَةِ الْفَعَالَةِ مِثْلَ الْجَزَالَةِ وَالسَّذَاجَةِ. وَزِيَادَةُ قَوْلِهِ قَوْماً عَلَى أَنَّ الضَّلَالَةَ مِنْ شِيمَتِهِمْ وَبِهَا قِوَامُ قَوْمِيَّتِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٤] وَعِنْدَ قَوْلِهِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آخِرِ سُورَةِ يُونُسَ [١٠١].
وَهُمْ ظَنُّوا أَنَّهُمْ إِنْ أُخْرِجُوا مِنَ النَّارِ رَجَعُوا إِلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ فَالْتَزَمُوا لِلَّهِ بِأَنَّهُمْ لَا يَعُودُونَ إِلَى الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ.
وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ عُدْنا لِظُهُورِهِ مِنَ الْمَقَامِ إِذْ كَانَ إِلْقَاؤُهُمْ فِي النَّارِ لِأَجْلِ الْإِشْرَاكِ وَالتَّكْذِيبِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُمْ وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ.
وَالظُّلْمُ فِي فَإِنَّا ظالِمُونَ هُوَ تَجَاوُزُ الْعَدْلِ، وَالْمُرَادُ ظُلْمٌ آخَرُ بَعْدَ ظُلْمِهِمُ الْأَوَّلِ وَهُوَ الَّذِي يَنْقَطِعُ عِنْدَهُ سُؤال الْعَفو.
[١٠٨- ١١١]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : الْآيَات ١٠٨ إِلَى ١١١]
قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (١٠٨) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (١١٠) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ

[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : آيَة ٤٥]

فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (٤٥)
تَقَدَّمَ قَرِيبٌ مِنْهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَفِي سُورَة طه.
[٤٦- ٤٩]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ٤٦ إِلَى ٤٩]
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (٤٦) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٤٧) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (٤٨) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (٤٩)
قَصَدَ فِرْعَوْنُ إِرْهَابَهُمْ بِهَذَا الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَنِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ. وَنَظِيرُ أَوَّلِ هَذِهِ الْآيَةِ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَنَظِيرُ آخِرِهَا تَقَدَّمَ فِيهَا وَفِي سُورَةِ طه. وَهُنَالِكَ ذَكَرْنَا عَدَدَ السَّحَرَةِ وَكَيْفَ آمَنُوا. وَاللَّامُ فِي فَلَسَوْفَ لَام الْقسم.
[٥٠، ٥١]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ٥٠ إِلَى ٥١]
قالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (٥٠) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (٥١)
الضَّيْرُ: مُرَادِفُ الضُّرِّ، يُقَالُ: ضَارَهُ بِتَخْفِيفِ الرَّاءِ يَضِيرُهُ، وَمَعْنَى لَا ضَيْرَ لَا يَضُرُّنَا وَعِيدُكَ. وَمَعْنَى نَفْيِ ضُرِّهِ هُنَا: أَنَّهُ ضُرُّ لَحْظَةٍ يَحْصُلُ عَقِبَهُ النَّعِيمُ الدَّائِمُ فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ لِمَا تَعَقَّبَهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَدَمِ. وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ فِي النَّفْيِ إِذَا قَامَتْ عَلَيْهَا قرينَة. وَمِنْهَا قَوْلُهُمْ: هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، أَيْ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَنَّ وُجُودَهُ كَالْعَدَمِ.
وَجُمْلَةُ: إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ تَعْلِيلٌ لِنَفْيِ الضَّيْرِ، وَهِيَ الْقَرِينَةُ عَلَى الْمُرَادِ مِنَ النَّفْيِ.
وَالِانْقِلَابُ: الرُّجُوعُ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
وَجُمْلَةُ: إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا بَيَانٌ لِلْمَقْصُودِ مِنْ جُمْلَةِ: إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ. وَالطَّمَعُ: يُطْلَقُ عَلَى الظَّنِّ الضَّعِيفِ، وَعُرِفَ بِطَلَبِ مَا فِيهِ
عَلَى النَّظِيرِ، فَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَقُولُونَ مِثْلَ ذَلِكَ يُرِيدُونَ إِفْحَامَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ اللَّهُ أَرْسَلَهُ حَقًّا لَكَانَ أُرْسِلَ إِلَى الْأَجْيَالِ مِنْ قَبْلِهِ، وَلَمَا كَانَ اللَّهُ يَتْرُكُ الْأَجْيَالَ الَّتِي قَبْلَهُمْ بِدُونِ رِسَالَةِ رَسُولٍ ثُمَّ يُرْسِلُ إِلَى الْجِيلِ الْأَخِيرِ، فَكَانَ قَوْلُهُ وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى إِتْمَامًا لِتَنْظِيرِ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرِسَالَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أَنَّهَا جَاءَتْ بَعْدَ فَتْرَةٍ طَوِيلَةٍ لَا رِسَالَةَ فِيهَا، مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ سَبْقَ إِرْسَالِ الرُّسُلِ إِلَى الْأُمَمِ شَيْءٌ وَاقِعٌ بِشَهَادَةِ التَّوَاتُرِ، وَأَنَّهُ قَدْ تَرَتَّبَ عَلَى تَكْذِيبِ الْأُمَمِ رُسُلَهُمْ إِهْلَاكُ الْقُرُونِ الْأُولَى فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُوجِبًا لِاسْتِمْرَارِ إِرْسَالِ الرُّسُلِ مُتَعَاقِبِينَ بَلْ كَانُوا يَجِيئُونَ فِي أَزْمِنَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ فَإِذَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُحَاوِلُونَ بِقَوْلِهِمْ مَا سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ [الْقَصَص: ٣٦] إِبْطَالَ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعِلَّةِ تَأَخُّرِ زَمَانِهَا سَفْسَطَةً وَوَهَمًا فَإِنَّ دَلِيلَهُمْ مَقْدُوحٌ فِيهِ بِقَادِحِ الْقَلْبِ بِأَنَّ الرُّسُلَ قَدْ جَاءُوا إِلَى الْأُمَمِ مِنْ قَبْلُ ثُمَّ جَاءَ مُوسَى بَعْدَ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ. وَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ لَمَّا بَهَرَهُمْ أَمْرُ الْإِسْلَامِ لَاذُوا بِالْيَهُودِ يَسْتَرْشِدُونَهُمْ فِي طُرُقِ الْمُجَادَلَةِ الدِّينِيَّةِ فَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَخْلِطُونَ مَا يُلَقِّنُهُمُ الْيَهُودُ مِنَ الْمُغَالَطَاتِ بِمَا اسْتَقَرَّ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ تَضْلِيلِ أَيِمَّةِ الشِّرْكِ فَيَأْتُونَ بِكَلَامٍ يَلْعَنُ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَمَرَّةً يَقُولُونَ مَا سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ [الْقَصَص: ٣٦] وَهُوَ مِنْ مُجَادَلَاتِ الْأُمِّيِّينَ، وَمرَّة يَقُولُونَ لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسى [الْقَصَص: ٤٨] وَهُوَ من تلقين الْيَهُود، وَمَرَّةً يَقُولُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: ٩١]، فَكَانَ الْقُرْآنُ يَدْمَغُ بَاطِلَهُمْ بِحُجَّةِ الْحَقِّ بِإِلْزَامِهِمْ تَنَاقُضَ مَقَالَاتِهِمْ. وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ ذَلِكَ فَهِيَ حُجَّةٌ بِتَنْظِيرِ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ بِرِسَالَةِ مُوسَى عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا ذِكْرُ الْقُرُونِ الْأُولَى.
وَأَمَّا ذِكْرُ إِهْلَاكِهِمْ فَهُوَ إِدْمَاجٌ لِلنِّذَارَةِ فِي ضِمْنِ الِاسْتِدْلَالِ. وَجُمْلَةُ وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى تَخَلُّصٌ مِنْ قِصَّةِ بِعْثَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى تَأْيِيدِ بِعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمَقْصُودُ قَوْلُهُ (مِنْ بَعْدِ الْقُرُونَ الْأُولَى).
ثُمَّ إِنَّ الْقُرْآنَ أَعْرَضَ عَنْ بَيَانِ حِكْمَةِ الْفِتَرِ الَّتِي تَسْبِقُ إِرْسَالَ الرُّسُلِ، وَاقْتَصَرَ عَلَى بَيَانِ الْحِكْمَةِ فِي الْإِرْسَالِ عَقِبَهَا لِأَنَّهُ الْمُهِمُّ فِي مَقَامِ نَقْضِ حُجَّةِ الْمُبْطِلِينَ
عَجَلٍ [الْأَنْبِيَاء: ٣٧]
يَدُلُّ عَلَى تَمَكُّنِ الْوَصْفِ مِنَ الْمَوْصُوفِ حَتَّى كَأَنَّهُ مُنْتَزَعٌ مِنْهُ، قَالَ تَعَالَى: وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً [النِّسَاء: ٢٨].
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ أَطْوَارًا تَبْتَدِئُ مِنَ الْوَهْنِ وَتَنْتَهِي إِلَيْهِ فَكَذَلِكَ يُنْشِئُكُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ إِذْ لَيْسَ ذَلِكَ بِأَعْجَبَ مِنَ الْإِنْشَاءِ الْأَوَّلِ وَمَا لَحِقَهُ مِنَ الْأَطْوَارِ، وَلِهَذَا أَخْبَرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: يَخْلُقُ مَا يَشاءُ.
وَذَكَرَ وَصْفَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ لِأَنَّ التَّطَوُّرَ هُوَ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ وَهِي من شؤون الْعِلْمِ، وَإِبْرَازِهِ عَلَى أَحْكَمِ وَجْهٍ هُوَ مِنْ أَثَرِ الْقُدْرَةِ. وَتَنْكِيرُ ضَعْفٍ وقُوَّةً لِلنَّوْعِيَّةِ فَ ضَعْفٍ الْمَذْكُورِ ثَانِيًا هُوَ عَيْنُ ضَعْفٍ الْمَذْكُورِ أَوَّلًا، وقُوَّةً الْمَذْكُورَةِ ثَانِيًا عَيْنُ قُوَّةً الْمَذْكُورَةِ أَوَّلًا. وَقَوْلُهُمُ: النَّكِرَةُ إِذَا أُعِيدَتْ نَكِرَةً كَانَتْ غَيْرَ الْأَوْلَى، يُرِيدُونَ بِهِ التَّنْكِيرَ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْفَرْدُ الشَّائِعُ لَا التَّنْكِيرُ الْمُرَادُ بِهِ النَّوْعِيَّةُ. وَعَطْفُ وَشَيْبَةً لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ هَذَا الضَّعْفَ لَا قُوَّةَ بَعْدَهُ وَأَنَّ بَعْدَهُ الْعَدَمَ بِمَا شَاعَ مِنْ أَنَّ الشَّيْبَ نَذِيرُ الْمَوْتِ.
وَالشَّيْبَةُ: اسْمُ مَصْدَرِ الشَّيْبِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً فِي سُورَة مَرْيَم [٤].
[٥٥]
[سُورَة الرّوم (٣٠) : آيَة ٥٥]
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (٥٥)
لَمَّا ذَكَرَ عَدَمَ انْتِفَاعِ الْمُشْرِكِينَ بِآيَاتِ الْقُرْآنِ وَشُبِّهُوا بِالْأَمْوَاتِ وَالصُّمِّ وَالْعُمْيِ فَظَهَرَتْ فَظَاعَةُ حَالِهِمْ فِي الْعَاجِلَةِ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِوَصْفِ حَالِهِمْ حِينَ تَقُومُ السَّاعَةُ فِي اسْتِصْحَابِ مُكَابَرَتِهِمُ الَّتِي عَاشُوا عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا، بِأَنَّ اللَّهَ حِينَ يُعِيد خلقهمْ وينشىء لَهُمْ أَجْسَامًا كَأَجْسَامِهِمْ وَيُعِيدُ إِلَيْهِمْ عُقُولَهُمْ يَكُونُ تَفْكِيرُهُمْ يَوْمئِذٍ عَلَى وِفَاقِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا مِنَ السَّفْسَطَةِ وَالْمُغَالَطَةِ وَالْغُرُورِ، فَإِذَا نُشِرُوا مِنَ الْقُبُورِ وَشَعَرُوا بِصِحَّةِ أَجْسَامِهِمْ وَعُقُولِهِمْ وَكَانُوا قَدْ عَلِمُوا فِي آخِرِ أَوْقَاتِ حَيَاتِهِمْ
اضْطِرَابِ الْعَوَالِمِ وَانْدِكَاكِهَا. وَأَقْرَبُ الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي تَحْمِلُ الْعَقْلَ أَنْوَاعُ الْحَيَوَانِ مَا عَدَا الْإِنْسَانَ فَلَوْ أُودِعَ فِيهَا الْعَقْلُ لَمَا سَمَحَتْ هَيْئَاتُ أَجْسَامِهَا بِمُطَاوَعَةِ مَا يَأْمُرُهَا الْعَقْلُ بِهِ. فَلْنَفْرِضْ أَنَّ الْعَقْلَ يُسَوِّلُ لِلْفَرَسِ أَنْ لَا يَنْتَظِرُ عَلَفَهُ أَوْ سَوْمَهُ وَأَنْ يَخْرُجَ إِلَى حَنَّاطٍ يَشْتَرِي مِنْهُ عَلَفًا، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَطِيع إفصاحا ويضيع فِي الْإِفْهَامِ ثُمَّ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ تَسْلِيمِ الْعِوَضِ بِيَدِهِ إِلَى فَرَسٍ غَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَتْ مُعَامَلَتُهُ مَعَ أَحَدٍ مِنْ نَوْعِ الْإِنْسَانِ.
وَمُنَاسَبَةُ قَوْلِهِ: لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ [الْأَحْزَاب: ٧٣] الْآيَةَ لِهَذَا الْمَحْمَلِ نَظِيرُ مُنَاسَبَتِهِ لِلْمَحْمَلِ الْأَوَّلِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْأَمَانَةُ مَا يُؤْتَمَنُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَدَنِيٌّ بِالطَّبْعِ مَخَالِطٌ لِبَنِي جِنْسِهِ فَهُوَ لَا يَخْلُو عَنِ ائْتِمَانٍ أَوْ أَمَانَةٍ فَكَانَ الْإِنْسَانُ مُتَحَمِّلًا لِصِفَةِ الْأَمَانَةِ بِفِطْرَتِهِ وَالنَّاسُ مُتَفَاوِتُونَ فِي الْوَفَاءِ لِمَا ائْتُمِنُوا عَلَيْهِ كَمَا
فِي الْحَدِيثِ: «إِذَا ضُيَّعَتِ الْأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ»
أَيْ إِذَا انْقَرَضَتِ الْأَمَانَةُ كَانَ انْقِرَاضُهَا عَلَامَةً عَلَى اخْتِلَالِ الْفِطْرَةِ، فَكَانَ فِي جُمْلَةِ
الِاخْتِلَالَاتِ الْمُنْذِرَةِ بِدُنُوِّ السَّاعَةِ مِثْلَ تَكْوِيرِ الشَّمْسِ وَانْكِدَارِ النُّجُومِ وَدَكِّ الْجِبَالِ.
وَالَّذِي بَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ حُذَيْفَةَ: «حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثَيْنِ رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا وَأَنَا أَنْتَظِرُ الْأَخَرَ، حَدَّثَنَا أَنَّ الْأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جِذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ، وَحَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِهَا فَقَالَ: يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الْأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الْوَكْتِ (١)، ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ فَيَبْقَى أَثَرُهَا مِثْلَ الْمَجْلِ (٢) كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ فَنَفَطَ فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ فَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ وَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ فَيُقَالُ: إِنَّ فِي بَنِي فُلَانٍ رَجُلًا أَمينا، وَيُقَال للرِّجَال: مَا أَعْقَلَهُ وَمَا أَظْرَفَهُ وَمَا أَجْلَدَهُ، وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ» أَيْ مِنْ أَمَانَةٍ لِأَنَّ الْإِيمَانَ مِنَ الْأَمَانَةِ لِأَنَّهُ عَهْدُ اللَّهِ.
_________
(١) الوكت: الشية فِي الشَّيْء من غير لَونه.
(٢) المجل: نفاخة فِي الْجلد مُرْتَفعَة يكون مَا تحتهَا فَارغًا مثل مَا يَقع فِي أكف العملة بالفؤوس من ارتفاعات فِي الْجلد.

[سُورَة الصافات (٣٧) : الْآيَات ٧١ إِلَى ٧٤]

وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (٧٤)
عُقِّبَ وَصْفُ حَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْآخِرَةِ وَمَا عُلِّلَ بِهِ مِنْ أَنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَاتَّبَعُوا آبَاءَهُمْ بِتَنْظِيرِهِمْ بِمَنْ سَلَفُوا مِنَ الضَّالِّينَ وتذكيرا للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ مَسْلَاةً لَهُ عَلَى مَا يُلَاقِيهِ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ، وَاسْتِقْصَاءً لَهُمْ فِي الْعِبْرَةِ وَالْمَوْعِظَةِ بِمَا حَلَّ بِالْأُمَمِ قَبْلَهُمْ، فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا إِكْمَالًا لِلتَّعْلِيلِ، أَيِ اتَّبَعُوا آثَارَ آبَائِهِمْ وَاقْتَدَوْا بِالْأُمَمِ أَشْيَاعِهِمْ.
وَوَصَفَ الَّذِينَ ضَلُّوا قَبْلَهُمْ بِأَنَّهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ لِئَلَّا يَغْتَرَّ ضُعَفَاءُ الْعُقُولِ بِكَثْرَةِ الْمُشْرِكِينَ وَلَا يَعْتَزُّوا بِهَا، لِيَعْلَمُوا أَنَّ كَثْرَةَ الْعَدَدِ لَا تُبَرِّرُ ضَلَالَ الضَّالِّينَ وَلَا خَطَأَ الْمُخْطِئِينَ، وَأَنَّ الْهُدَى وَالضَّلَالَ لَيْسَا مِنْ آثَارِ الْعَدَدِ كَثْرَةً وَقِلَّةً وَلَكِنَّهُمَا حَقِيقَتَانِ ثَابِتَتَانِ مُسْتَقِلَّتَانِ فَإِذَا عَرَضَتْ لِإِحْدَاهُمَا كَثْرَةً أَوْ قِلَّةً فَلَا تَكُونَانِ فِتْنَةً لِقِصَارِ الْأَنْظَارِ وَضُعَفَاءِ
التَّفْكِيرِ. قَالَ تَعَالَى: قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ [الْمَائِدَة: ١٠٠].
وَأُكْمِلَتِ الْعِلَّةُ وَالتَّسْلِيَةُ وَالْعِبْرَةُ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ أَيْ رُسُلًا يُنْذِرُونَهُمْ، أَيْ يُحَذِّرُونَهُمْ مَا سَيَحِلُّ بِهِمْ مِثْلَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَى هَؤُلَاءِ. وَخَصَّ الْمُرْسَلِينَ بِوَصْفِ الْمُنْذِرِينَ لِمُنَاسَبَةِ حَالِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ وَأَمْثَالِهِمْ. وَضَمِيرُ فِيهِمْ رَاجِعٌ إِلَى الْأَوَّلِينَ، أَيْ أَرْسَلْنَا فِي الْأَوَّلِ مُنْذِرِينَ فَاهْتَدَى قَلِيلٌ وَضَلَّ أَكْثَرُهُمْ.
وَفَرَّعَ عَلَى هَذَا التَّوْجِيهِ الْخِطَابَ إِلَى الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْشِيحًا لِمَا فِي الْكَلَامِ السَّابِقِ مِنْ جَانِبِ التَّسْلِيَةِ وَالتَّثْبِيتِ مَعَ التَّعْرِيضِ بِالْكَلَامِ لِتَهْدِيدِ الْمُشْرِكِينَ بِذَلِكَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِكُلِّ مَنْ يَسْمَعُ الْقُرْآن فَشَمَلَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْأَمْرُ بِالنَّظَرِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ وَالتَّهْوِيلِ فَإِنْ أُرِيدَ بِالْعَاقِبَةِ عَاقِبَتُهُمْ فِي الدُّنْيَا فَالنَّظَرُ بَصَرِيٌّ، وَإِنْ أُرِيدَ عَاقِبَتُهُمْ فِي الْآخِرَةِ كَمَا يَقْتَضِيهِ السِّيَاقُ فَالنَّظَرُ قَلْبِيٌّ، وَلَا مَانِعَ مِنْ إِرَادَةِ الْأَمْرَيْنِ وَاسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي الْمَعْنَيَيْنِ.
فِرْعَوْنَ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَوْلُهُ جَارِيًا مَجْرَى الْمُحَاوَرَةِ مَعَ فِرْعَوْنَ فِي مَجْلِسِ اسْتِشَارَتِهِ، أَوْ كَانَ أَجَابَ بِهِ عَنْ قَوْلِ فِرْعَوْنَ: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى [غَافِر: ٢٦] لَكَانَتْ حِكَايَةُ قَوْلِهِ بِدُونِ عَطْفٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَاتِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ اللَّهَ أَلْهَمَ هَذَا الرَّجُلَ بِأَنْ يَقُولَ مَقَالَتَهُ إِلْهَامًا كَانَ أَوَّلَ مَظْهَرٍ مِنْ تَحْقِيقِ اللَّهِ لِاسْتِعَاذَةِ مُوسَى بِاللَّهِ، فَلَمَّا شَاعَ تَوَعُّدُ فِرْعَوْنَ بِقَتْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ جَاءَ هَذَا الرَّجُلُ إِلَى فِرْعَوْنَ نَاصِحًا وَلَمْ يَكُنْ يَتَّهِمُهُ فِرْعَوْنُ لِأَنَّهُ مِنْ آلِهِ.
وَخِطَابُهُ بِقَوْلِهِ: أَتَقْتُلُونَ مُوَجَّهٌ إِلَى فِرْعَوْنَ لِأَنَّ فِرْعَوْنَ هُوَ الَّذِي يُسْنَدُ إِلَيْهِ الْقَتْلُ لِأَنَّهُ الْآمِرُ بِهِ، وَلِحِكَايَةِ كَلَامِ فِرْعَوْنَ عَقِبَ كَلَامِ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ بِدُونِ عَطْفٍ بِالْوَاوِ فِي قَوْلِهِ: قالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرى [غَافِر: ٢٩].
وَوَصْفُهُ بِأَنَّهُ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ مِنَ الْقِبْطِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ خِلَافًا لِبَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَهُ: يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا [غَافِر: ٢٩] فَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مُلْكٌ هُنَالِكَ.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ كَانَ مِنْ قَرَابَةِ فِرْعَوْنَ وَخَاصَّتِهِ لِمَا يَقْتَضِيهِ لَفْظُ آلِ مِنْ ذَلِكَ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا. وَالْمُرَادُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ بِاللَّهِ وَمُؤْمِنٌ بِصِدْقِ مُوسَى، وَمَا كَانَ إِيمَانُهُ هَذَا إِلَّا لِأَنَّهُ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا اهْتَدَى إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ إِمَّا بِالنَّظَرِ فِي الْأَدِلَّةِ فصدّق مُوسَى عِنْد مَا سَمِعَ دَعْوَتَهُ كَمَا اهْتَدَى أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى تَصْدِيقِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حِينِ سَمَاعِ دَعْوَتِهِ فَقَالَ لَهُ: «صَدَقْتَ». وَكَانَ كَتْمُهُ الْإِيمَانَ مُتَجَدِّدًا مُسْتَمِرًّا تَقِيَّةً مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِذْ عَلِمَ أَنَّ إِظْهَارَهُ الْإِيمَانَ يَضُرُّهُ وَلَا يَنْفَعُ غَيْرَهُ كَمَا كَانَ (سُقْرَاطُ) يَكْتُمُ إِيمَانَهُ بِاللَّهِ فِي بِلَادِ الْيُونَانِ خَشْيَةَ أَنْ يَقْتُلُوهُ انْتِصَارًا لِآلِهَتِهِمْ.
وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا إِلَى آخِرِهِ أَنْ يَسْعَى لِحِفْظِ مُوسَى مِنَ الْقَتْلِ بِفَتْحِ بَابِ الْمُجَادَلَةِ فِي شَأْنِهِ لِتَشْكِيكِ فِرْعَوْنَ فِي تَكْذِيبِهِ بِمُوسَى، وَهَذَا الرَّجُلُ هُوَ غَيْرُ
وَ (مِنَ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ لِلِابْتِدَاءِ الْمَجَازِيِّ. وَالْمَعْنَى: يَنْظُرُونَ نَظَرًا مُنْبَعِثًا مِنْ حَرَكَةِ الْجَفْنِ الْخَفِيَّةِ. وَحَذَفَ مَفْعُولَ يَنْظُرُونَ لِلتَّعْمِيمِ أَيْ يَنْظُرُونَ الْعَذَابَ، وَيَنْظُرُونَ أَهْوَالَ الْحَشْرِ وَيَنْظُرُونَ نَعِيمَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ طَرَفٍ خَفِيٍّ.
وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ.
يَتَرَجَّحُ أَنَّ الْوَاوَ لِلْحَالِ لَا لِلْعَطْفِ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ فِي تَراهُمْ، أَيْ تَرَاهُمْ فِي حَالِ الْفَظَاعَةِ الْمُلْتَبِسَيْنِ بِهَا، وَتَرَاهُمْ فِي حَالِ سَمَاعِ الْكَلَامِ الذَّامِّ لَهُمُ الصَّادِرِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ الْمَشْهَدِ. وَحُذِفَتْ (قَدْ) مَعَ الْفِعْلِ الْمَاضِي لِظُهُورِ قَرِينَةِ الْحَالِ.
وَهَذَا قَوْلُ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذْ كَانُوا يَوْمَئِذٍ مُطَمَئِنِّينَ مِنَ الْأَهْوَالِ شَاكِرِينَ مَا سَبَقَ
مِنْ إِيمَانِهِمْ فِي الدُّنْيَا عَارِفِينَ بِرِبْحِ تِجَارَتِهِمْ وَمُقَابِلِينَ بِالضِّدِّ حَالَةَ الَّذِينَ كَانُوا يَسْخَرُونَ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا إِذْ كَانُوا سَبَبًا فِي خَسَارَتِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَالظَّاهِرُ: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَقُولُونَ هَذَا بِمَسْمَعٍ مِنَ الظَّالِمِينَ فَيَزِيدُ الظَّالِمِينَ تَلْهِيبًا لِنَدَامَتِهِمْ وَمَهَانَتِهِمْ وَخِزْيِهِمْ. فَهَذَا الْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي إِظْهَارِ الْمَسَرَّةِ وَالْبَهْجَةِ بِالسَّلَامَةِ مِمَّا لَحِقَ الظَّالِمِينَ، أَيْ قَالُوهُ تَحَدُّثًا بِالنِّعْمَةِ وَاغْتِبَاطًا بِالسَّلَامَةِ يَقُولُهُ كُلُّ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَوْ يَقُولُهُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ. وَإِنَّمَا جِيءَ بِحَرْفِ إِنَّ مَعَ أَنَّ الْقَائِلَ لَا يَشُكُّ فِي ذَلِكَ وَالسَّامِعَ لَا يَشُكُّ فِيهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْكَلَامِ إِذْ قَدْ تَبَيَّنَتْ سَعَادَتُهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَتَوْفِيقُهُمْ فِي الدُّنْيَا بِمُشَاهَدَةِ ضِدِّ ذَلِكَ فِي مُعَانَدِيهِمْ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْخاسِرِينَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، أَيْ لَا غَيْرُهُمْ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ
أَقْوَالِ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «كُنَّا نَرَى أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ حَسَنَاتِنَا إِلَّا مَقْبُولًا حَتَّى نَزَلَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ، فَقُلْنَا: مَا هَذَا الَّذِي يُبْطِلُ أَعْمَالَنَا؟ فَقُلْنَا: الْكَبَائِرُ الْمُوجِبَاتُ وَالْفَوَاحِشُ حَتَّى نَزَلَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاء: ٤٨] فَكَفَفْنَا عَنِ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ وَكُنَّا نَخَافُ عَلَى مَنْ أَصَابَ الْكَبَائِرَ وَنَرْجُو لِمَنْ لم يصبهَا» اهـ. فَأَبَانَ أَنَّ ذَلِكَ مَحَامِلُ مُحْتَمَلَةٌ لَا جَزْمَ فِيهَا.
وَعَنْ مُقَاتِلٍ لَا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ بِالْمَنِّ وَقَالَ: هَذَا خِطَابٌ لِقَوْمٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ أَسْلَمُوا وَقَالُوا لرَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ آثَرْنَاكَ وَجِئْنَاكَ بِنُفُوسِنَا وَأَهْلِنَا، يَمُنُّونَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فَنَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ وَنَزَلَ فِيهِمْ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ [الحجرات: ١٧].
وَهَذِهِ مَحَامِلُ نَاشِئَةٌ عَنِ الرَّأْيِ وَالتَّوَقُّعِ، وَالَّذِي جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ وَبَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ
أَنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَات وَلم يجىء: أَنَّ السَّيِّئَاتِ يُذْهِبْنَ الْحَسَنَاتِ، وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً [النِّسَاء: ٤٠].
وَتَمَسَّكَ الْمُعْتَزِلَةُ بِهَاتِهِ الْآيَةِ فَزَعَمُوا أَنَّ الْكَبَائِرَ تُحْبِطُ الطَّاعَاتِ. وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّهُمْ يَنْفُونَ عَنِ اللَّهِ الظُّلْمَ وَلَا يُسَلِّمُونَ ظَاهِرَ قَوْله: لَا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ [الْأَنْبِيَاء: ٢٣]، وَمَعَ ذَلِكَ يَجْعَلُونَ اللَّهَ يُبْطِلُ الْحَسَنَاتِ إِذَا ارْتَكَبَ صَاحِبُهَا سَيِّئَةً. وَنَحْنُ نَرَى أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مَسْطُورٌ فِي صُحُفِ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ وَأَنَّ الْحَسَنَةَ مُضَاعَفَةٌ وَالسَّيِّئَةَ بِمِقْدَارِهَا. وَهَذَا أَصْلٌ تَوَاتَرَ مَعْنَاهُ فِي الْكِتَابِ وَصَحِيحُ الْآثَارِ، فَكَيْفَ يُنْبَذُ بِالْقِيلِ وَالْقَالِ مَنْ أَهْلِ الْأَخْبَارِ.
وَحَمَلَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ عَلَى مَعْنَى النَّهْيِ عَنْ قَطْعِ الْعَمَلِ الْمُتَقَرَّبِ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَإِطْلَاقُ الْإِبْطَالِ عَلَى الْقَطْعِ وَعَدَمِ الْإِتْمَامِ يُشْبِهُ أَنَّهُ مَجَازٌ، أَيْ لَا تَتْرُكُوا الْعَمَلَ الصَّالِحَ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ، فَأَخَذُوا مِنْهُ أَنَّ النَّفْلَ يَجِبُ بِالشُّرُوعِ لِأَنَّهُ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي النَّوَافِلِ مُطْلَقًا. وَنَسَبَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْأَحْكَامِ مِثْلَهُ إِلَى مَالِكٍ. وَمِثْلُهُ الْقُرْطُبِيُّ وَابْنُ الْفُرْسِ. وَنَقَلَ
يُسْلِمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ) رَوَاهُ الثَّعْلَبِيُّ عَنْ قَوْمٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَذَلِكَ بَاطِلٌ وَعُثْمَانُ مُنَزَّهٌ عَنْ مِثْلِهِ، أَيْ عَنْ أَنْ يُصْغِيَ إِلَى ابْنِ أَبِي سَرْحٍ فِيمَا صَدَّهُ.
فَأَشَارَ قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِي تَوَلَّى إِلَى أَنَّهُ تَوَلَّى عَنِ النَّظَرِ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ أَنَّ قَارَبَهُ.
وَأَشَارَ قَوْلُهُ: وَأَعْطى قَلِيلًا وَأَكْدى إِلَى مَا أَعْطَاهُ لِلَّذِي يَحْمِلُهُ عَنْهُ الْعَذَابَ.
وَلَيْسَ وَصْفُهُ بِ تَوَلَّى دَاخِلًا فِي التَّعْجِيبِ وَلَكِنَّهُ سِيقَ مَسَاقَ الذَّمِّ، وَوُصِفَ عَطَاؤُهُ بِأَنَّهُ قَلِيلٌ تَوْطِئَةٌ لِذَمِّهِ بِأَنَّهُ مَعَ قِلَّةِ مَا أَعْطَاهُ قَدْ شَحَّ بِهِ فَقَطَعَهُ. وَأَشَارَ قَوْلُهُ: وأَكْدى إِلَى بُخْلِهِ وَقَطْعِهِ الْعَطَاءَ يُقَالُ: أَكْدَى الَّذِي يَحْفُرُ، إِذَا اعْتَرَضَتْهُ كُدْيَةٌ أَيْ حَجَرٌ لَا يَسْتَطِيعُ إِزَالَتَهُ. وَهَذِهِ مَذَمَّةٌ ثَانِيَةٌ بِالْبُخْلِ زِيَادَةً عَلَى بُعْدِ الثَّبَاتِ عَلَى الْكُفْرِ فَحَصَلَ التَّعْجِيبُ مِنْ حَالِ الْوَلِيدِ كُلِّهِ تَحْقِيرًا لِعَقْلِهِ وَأَفَنِ رَأْيِهِ. وَقِيلَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَأَعْطى قَلِيلًا أَنَّهُ أعْطى من قبله وَمَيْلُهُ لِلْإِسْلَامِ قَلِيلًا وَأَكْدَى، أَيِ انْقَطَعَ بَعْدَ أَنِ اقْتَرَبَ كَمَا يُكْدِي حَافِرُ الْبِئْرِ إِذَا اعْتَرَضَتْهُ كُدْيَةٌ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ إِنْكَارِيٌّ عَلَى تَوَهُّمِهِ أَنَّ اسْتِئْجَارَ أَحَدٍ لِيَتَحَمَّلَ عَنْهُ عَذَابَ اللَّهِ يُنْجِيهِ مِنَ الْعَذَابِ، أَيْ مَا عِنْدَهُ عَلِمُ الْغَيْبِ. وَهَذَا الْخَبَرُ كِنَايَةٌ عَنْ خَطَئِهِ فِيمَا تَوَهَّمَهُ.
وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِلِاسْتِفْهَامِ التَّعْجِيبِيِّ مِنْ قَوْلِهِ: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى إِلَخْ.
وَتَقْدِيمُ عِنْدَهُ وَهُوَ مُسْنَدٌ عَلَى عِلْمُ الْغَيْبِ وَهُوَ مُسْنَدٌ إِلَيْهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذِهِ الْعِنْدِيَّةِ الْعَجِيبِ ادِّعَاؤُهَا، وَالْإِشَارَة إِلَى يعده عَنْ هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ.
وَعِلْمُ الْغَيْبِ: مَعْرِفَةُ الْعَوَالِمِ الْمَغِيبَةِ، أَيِ الْعِلْمُ الْحَاصِلُ مِنْ أَدِلَّةٍ فَكَأَنَّهُ شَاهَدَ الْغَيْبَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: فَهُوَ يَرى.
وَفَرَّعَ عَلَى هَذَا التَّعْجِيبِ قَوْلَهُ: فَهُوَ يَرى أَيْ فَهُوَ يُشَاهِدُ أُمُورَ الْغَيْبِ، بِحَيْثُ عَاقِدٌ عَلَى التَّعَارُضِ فِي حُقُوقِهَا. وَالرُّؤْيَةُ فِي قَوْلِهِ: فَهُوَ يَرى بَصَرِيَّةٌ وَمَفْعُولُهَا مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَهُوَ يَرَى الْغَيْبَ.
وَرَوَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فِي «تَارِيخِهِ» بِسَنَدِهِ إِلَى إِدْرِيسَ بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْحَدَّادِ قَالَ: قَرَأَتُ عَلَى خَلَفٍ (رَاوِي حَمْزَةَ) فَلَمَّا بَلَغْتُ هَذِهِ الْآيَةَ لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ [الْحَشْر: ٢١] إِلَى آخَرِ السُّورَةِ قَالَ: ضَعْ يَدَكَ عَلَى رَأْسِكَ فَإِنِّي قَرَأْتُ عَلَى الْأَعْمَشِ. فَلَمَّا بَلَغْتُ هَذِهِ الْآيَةَ قَالَ: ضَعْ يَدَكَ عَلَى رَأْسِكَ فَإِنِّي قَرَأْتُ عَلَى يَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ، فَلَمَّا بَلَغْتُ هَذِهِ الْآيَةَ قَالَ: ضَعْ يَدَكَ عَلَى رَأْسِكَ فَإِنِّي قَرَأْتُ عَلَى عَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ فَلَمَّا بَلَغْتُ هَذِه الْآيَة قَالَا: ضَعْ يَدَكَ عَلَى رَأْسِكَ فَإِنَّا قَرَأْنَا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ فَلَمَّا بَلَغْنَا هَذِهِ الْآيَةَ قَالَ: ضَعَا أَيْدِيَكُمَا عَلَى رُؤُوسِكُمَا، فَإِنِّي قَرَأْتُ على النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا بَلَغْتُ هَذِهِ الْآيَةَ قَالَ لِي: ضَعْ يَدَكَ عَلَى رَأْسِكَ فَإِنَّ جِبْرِيلَ لَمَّا نَزَلَ بِهَا إِلَيَّ قَالَ: ضَعْ يَدَكَ عَلَى رَأْسِكَ فَإِنَّهَا شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ إِلَّا السَّامُ. وَالسَّامُ الْمَوْتُ.
قُلْتُ: هَذَا حَدِيثٌ أَغَرُّ مُسَلْسَلٌ إِلَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَأَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ [الْحَشْر: ٢١] إِلَى آخَرِ السُّورَةِ: هِيَ رُقْيَةُ الصُّدَاعِ،
فَهَذِهِ مَزِيَّةٌ لِهَذِهِ الْآيَاتِ.
بِتَفْصِيلِهَا، إِذِ الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ تَمْثِيلُ عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَقْرِيبُ ذَلِكَ إِلَى الْأَفْهَامِ كَمَا قَالَ فِي غَيْرِ آيَةٍ.
وَلَعَلَّ الْمَقْصُودَ بِالْإِشَارَةِ إِلَى مَا زَادَ عَلَى الْمَوْعِظَةِ، هُوَ تَعْلِيمُ اللَّهِ نَبِيئَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْأَحْوَالِ بِطَرِيقَةٍ رَمْزِيَّةٍ يَفْتَحُ عَلَيْهِ بِفَهْمِ تَفْصِيلِهَا وَلَمْ يُرِدْ تَشْغِيلَنَا بِعِلْمِهَا.
وَكَأَنَّ الدَّاعِيَ إِلَى ذِكْرِهِمْ إِجْمَالًا هُوَ الْانْتِقَالُ إِلَى الْإِخْبَارِ عَنْ عَرْشِ اللَّهِ لِئَلَّا يَكُونَ ذِكْرُهُ اقْتِضَابًا بَعْدَ ذِكْرِ الْمَلَائِكَةِ.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا ذَكَرَ فِيهِ أَبْعَادَ مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ، وَفِي ذكر حَملَة الْعَرْشِ رُمُوزٌ سَاقَهَا التِّرْمِذِيُّ مَسَاقَ التَّفْسِيرِ لِهَذِهِ الْآيَةِ، وَأَحَدُ رُوَاتِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَيْرَةَ عَنِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ الْبُخَارِيُّ: لَا نَعْلَمُ لَهُ سَمَاعًا عَنِ الْأَحْنَفِ.
وَهُنَالِكَ أَخْبَارٌ غَيْرُ حَدِيثِ الْعَبَّاسِ لَا يُعْبَأُ بِهَا، وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِيهَا: إِنَّهَا مُتَلَفَّقَاتٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَوْ مِنْ شِعْرٍ لِأُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ، وَلَمْ يَصِحَّ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُنْشِدَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَصَدَّقَهُ. اهـ.
وَضَمِيرُ فَوْقَهُمْ يَعُودُ إِلَى الْمَلَكُ.
وَيَتَعَلَّقُ فَوْقَهُمْ بِ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ يَحْمِلُ مِنْ كَوْنِ الْعَرْشِ عَالِيًا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْقَيْدَيْنِ فِي قَوْلِهِ: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الْأَنْعَام: ٣٨].
وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِضَافَةُ عَرْشٍ إِلَى اللَّهِ إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ مِثْلُ إِضَافَةِ الْكَعْبَةِ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ الْآيَة [الْحَج: ٢٦]، وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْجُلُوسِ عَلَى الْعَرْشِ وَعَنِ السُّكْنَى فِي بَيْتٍ.
وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: تُعْرَضُونَ لِجَمِيعِ النَّاسِ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ التَّفْصِيلِ.
وَالْعَرْضُ: أَصْلُهُ إِمْرَارُ الْأَشْيَاءِ عَلَى مَنْ يُرِيدُ التَّأَمُّلَ مِنْهَا مِثْلُ عَرْضِ السِّلْعَةِ عَلَى الْمُشْتَرِي وَعَرْضِ الْجَيْشِ عَلَى أَمِيرِهِ، وَأُطْلِقَ هُنَا كِنَايَةً عَنْ لَازِمِهِ وَهُوَ الْمُحَاسَبَةُ مَعَ جَوَازِ إِرَادَةِ الْمَعْنَى الصَّرِيحِ.
ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ [عبس: ٢٢] الْمُكَنَّى بِهِ عَنْ فَسَادِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِتَأْخِيرِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ فَيَكُونُ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا تَأْكِيدًا لِلْإِبْطَالِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ [عبس: ١١] بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهُ الْكِنَائِيِّ إِنْ كَانَ صَرِيحُ مَعْنَاهُ غَيْرَ بَاطِلٍ فَقَوْلُهُ: إِذا شاءَ مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُ الْآنَ لَمْ يَشَأْ وَذَلِكَ مُؤْذِنٌ بِإِبْطَالِ أَنْ يَقع الْبَعْث عِنْد مَا يَسْأَلُونَ وُقُوعَهُ، أَيْ أَنَّا لَا نَشَاءُ إِنْشَارَهُمُ الْآنَ وَإِنَّمَا
نَنْشُرُهُمْ عِنْد مَا نَشَاءُ مِمَّا قَدَّرْنَا أَجَلَهُ عِنْدَ خَلْقِ الْعَالَمِ الْأَرْضِيِّ.
وَتَكُونُ جُمْلَةُ: لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ تَعْلِيلًا لِلرَّدْعِ، أَيِ الْإِنْسَانُ لَمْ يَسْتَتِمَّ مَا أَجَّلَ اللَّهُ لِبَقَاءِ نَوْعِهِ فِي هَذَا الْعَالَمِ مِنْ يَوْمِ تَكْوِينِهِ فَلِذَلِكَ لَا يُنْشَرُ الْآنَ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: مَا أَمَرَهُ أَمْرَ التَّكْوِينِ، أَيْ لَمْ يَسْتَتِمَّ مَا صَدَّرَ بِهِ أَمْرَ تَكْوِينِهِ حِينَ قِيلَ لِآدَمَ:
وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ [الْبَقَرَة: ٣٦].
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ زَجْرًا عَمَّا أَفَادَهُ قَوْلُهُ: لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ وَقُدِّمَتْ كَلَّا فِي صَدْرِ الْكَلَامِ الْوَارِدَةُ لِإِبْطَالِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِمُبَادَرَةِ الزَّجْرِ.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَام فِي كَلَّا فِي سُورَةِ مَرْيَمَ وَأَحَلْتُ هُنَالِكَ عَلَى مَا هُنَا.
ولَمَّا حَرْفُ نَفْيٍ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْفِعْلِ فِي الْمَاضِي مِثْلَ (لَمْ) وَيَزِيدُ بِالدِّلَالَةِ عَلَى اسْتِمْرَارِ النَّفْيِ إِلَى وَقْتِ التَّكَلُّمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:
١٤].
وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ مُسْتَمِرٌّ عَلَى عَدَمِ قَضَاءِ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ مِمَّا دَعَاهُ إِلَيْهِ.
وَالْقَضَاءُ: فِعْلُ مَا يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ كَامِلًا لِأَنَّ أَصْلَ الْقَضَاءِ مُشْتَقٌّ مِنَ الْإِتْمَامِ فَتَضَمَّنَ فِعْلًا تَامًّا، أَيْ لَمْ يَزَلِ الْإِنْسَانُ الْكَافِرُ مُعْرِضًا عَنِ الْإِيمَانِ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ، وَعَنِ النَّظَرِ فِي خَلْقِهِ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ تَطَوُّرِهِ أَطْوَارًا إِلَى الْمَوْتِ قَالَ تَعَالَى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ [الطارق: ٥]، وَمَا أَمَرَهُ مِنَ التَّدَبُّرِ فِي الْقُرْآنِ وَدَلَائِلِهِ وَمِنْ إِعْمَالِ عَقْلِهِ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَفْيِ الشَّرِيكِ عَنْهُ. وَمِنَ الدَّلَائِلِ نَظَرُهُ فِي كَيْفِيَّةِ خَلْقِهِ فَإِنَّهَا دَلَائِلُ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ فَاسْتَحَقَّ الرَّدْعَ وَالزَّجْرَ.
وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي أَمَرَهُ عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَتْ إِلَيْهِ الضَّمَائِرُ الْمُسْتَتِرَةُ فِي (خلقه، وَقدره، ويسره، وَأَمَاتَهُ، وأقبره، وأنشره).


الصفحة التالية
Icon