ذَلِكَ؟ قَالَ بَلَى وَذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الرِّهَانِ، فَلَمَّا كَانَتِ السَّنَةُ السَّابِعَةُ ظَهَرَتِ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ وَأَسْلَمَ عِنْدَ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ قُرَيْشٍ. وَقَوْلُهُ: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً [النُّور: ٥٥] وَقَوْلُهُ: لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [النَّحْل: ٨] فَمَا حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْمَرَاكِبِ مُنَبَّأٌ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَوْلُهُ: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً [الْفَتْح: ١] نَزَلَتْ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ بِعَامَيْنِ. وَقَوْلُهُ: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخافُونَ [الْفَتْح: ٢٧]. وَأَعْلَنَ ذَلِكَ الْإِعْجَازَ بِالتَّحَدِّي بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي شَأْنِ الْقُرْآنِ: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ إِلَى قَوْلِهِ: وَلَنْ تَفْعَلُوا [الْبَقَرَة: ٢٣، ٢٤] فَسَجَّلَ أَنَّهُمْ لَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ أَبَدًا وَكَذَلِكَ كَانَ، كَمَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا فِي الْجِهَةِ الثَّالِثَةِ.
وَكَأَنَّكَ بَعْدَ مَا قَرَّرْنَاهُ فِي هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ قَدْ صِرْتَ قَدِيرًا على الحكم فِي اخْتَلَفَ فِيهِ أَئِمَّةُ عِلْمِ الْكَلَامِ مِنْ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ لِلْعَرَبِ هَلْ كَانَ بِمَا بَلَغَهُ مِنْ مُنْتَهَى الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ وَحُسْنِ النَّظْمِ وَمَا احْتَوَى عَلَيْهِ مِنَ النُّكَتِ وَالْخُصُوصِيَّاتِ الَّتِي لَا تَقْفُ بِهَا عِدَّةً، وَيَزِيدُهَا النَّظَرُ مَعَ طُولِ الزَّمَانِ جِدَّةً، فَلَا تَخْطُرُ بِبَالِ نَاظِرٍ مِنَ الْعُصُورِ الْآتِيَةِ نُكْتَةٌ أَوْ خُصُوصِيَّةٌ إِلَّا وَجَدَ آيَاتِ الْقُرْآنِ تَتَحَمَّلُهَا بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ إِيدَاعُ ذَلِكَ فِي كَلَامٍ إِلَّا لِعَلَّامِ الْغُيُوبِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُحَقِّقِينَ، أَوْ كَانَ الْإِعْجَازُ بِصَرْفِ اللَّهِ تَعَالَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ وَأَنَّهُ لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ سَلَبَهُمُ الْقُدْرَةَ عَلَى ذَلِكَ لَأَمْكَنَ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ لِأَنَّهُ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ مَقْدُورِ الْبَشَرِ، وَنُسِبَ هَذَا إِلَى أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَهُوَ مَنْقُولٌ فِي «شرح التفتازانيّ عَلَى الْمِفْتَاحِ» عَنِ النَّظَّامِ وَطَائِفَةٍ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَيُسَمَّى مَذْهَبَ أَهْلِ الصَّرْفَةِ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ بِهِ ابْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِهِ فِي «الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ». وَالْأَوَّلُ هُوَ الْوَجْهُ الَّذِي اعْتَمَدَهُ أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ فِي كِتَابِهِ
«إِعْجَازِ الْقُرْآنِ»، وَأَبْطَلَ مَا عَدَاهُ بِمَا لَا حَاجَةَ إِلَى التَّطْوِيلِ بِهِ، وَعَلَى اعْتِبَارِهِ دوّن أَئِمَّة الْعَرَبيَّة عَلِمَ الْبَلَاغَةِ، وَقَصَدُوا مِنْ ذَلِكَ تَقْرِيبَ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ عَلَى التَّفْصِيلِ دون الْإِجْمَال، فجاؤوا بِمَا يُنَاسِبُ الْكَامِلَ مِنْ دَلَائِلَ الْكَمَالِ.
مِنْ كَلَامٍ وَقَعَ فِي «الْكَشَّافِ» وَمَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى: كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ [الْبَقَرَة: ٢٨٥]، وَقَالَ الْكِتَابُ أَكْثَرُ مِنَ الْكُتُبِ فَلَوْ صَحَّ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ مُرِيدًا بِهِ تَوْجِيهَ قِرَاءَتِهِ (وَكِتَابِهِ) الْمُعَرَّفِ بِالْإِضَافَةِ بَلْ عَنَى بِهِ الْأَسْمَاء المنفية بِلَا التَّبْرِئَةِ تَفْرِقَةً بَيْنَ
نَحْوِ لَا رَجُلَ فِي الدَّارِ وَنَحْوِ لَا رِجَالَ فِي الدَّارِ فِي تَطَرُّقِ احْتِمَالِ نَفْيِ جِنْسِ الْجُمُوعِ لَا جِنْسِ الْأَفْرَادِ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْبَحْثِ فَلَا يَنْبَغِي التَّعَلُّقُ بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ وَلَا يَصِحُّ التَّعَلُّقُ بِمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ».
وَالَّذِي يَنْبَغِي اعْتِمَادُهُ أَنَّ اسْتِغْرَاقَ الْمُفْرَدِ وَالْجَمْعِ فِي الْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ وَفِي الْمَنْفِيّ بِلَا التَّبْرِئَةِ سَوَاءٌ وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ تَعْبِيرُ أَهْلِ اللِّسَانِ مَرَّةً بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ وَمَرَّةً بِصِيغَةِ الْجَمْعِ تَبَعًا لِحِكَايَةِ الصُّورَةِ الْمُسْتَحْضَرَةِ فِي ذِهْنِ الْمُتَكَلِّمِ وَالْمُنَاسِبَةِ لِمَقَامِ الْكَلَامِ، فَأَمَّا فِي الْمَنْفِيّ بِلَا النَّافِيَةِ لِلْجِنْسِ فَلَكَ أَنْ تَقُولَ لَا رَجُلَ فِي الدَّارِ وَلَا رِجَالَ فِي الدَّارِ عَلَى السَّوَاءِ إِلَّا إِذَا رَجَّحَ أَحَدَ التَّعْبِيرَيْنِ مُرَجِّحٌ لَفْظِيٌّ، وَأَمَّا فِي الْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ أَوِ الْإِضَافَةِ فَكَذَلِكَ فِي صِحَّةِ التَّعْبِيرِ بِالْمُفْرَدِ وَالْجَمْعِ سِوَى أَنَّهُ قَدْ يُتَوَهَّمُ احْتِمَالُ إِرَادَةِ الْعَهْدِ وَذَلِكَ يَعْرِضُ لِلْمُفْرِدِ وَالْجَمْعِ وَيَنْدَفِعُ بِالْقَرَائِنِ.
وعَلى فِي قَوْلِهِ: عَلى حُبِّهِ مَجَازٌ فِي التَّمَكُّنِ مِنْ حُبِّ الْمَالِ مِثْلَ أُولئِكَ عَلى هُدىً [الْبَقَرَة: ٥] وَهِيَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَبْعَدِ الْأَحْوَالِ مِنْ مَظِنَّةِ الْوَصْفِ فَلِذَلِكَ تُفِيدُ مُفَادَ كَلِمَةِ مَعَ وَتَدُلُّ عَلَى مَعْنَى الِاحْتِرَاسِ كَمَا هِيَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً [الْإِنْسَان: ٨] وَقَوْلِ زُهَيْرٍ:
مَنْ يَلْقَ يَوْمًا عَلَى عِلَّاتِهِ هَرِمًا | يَلْقَ السَّمَاحَةَ فِيهِ وَالنَّدَى خُلُقَا |
وَلَيْسَ هَذَا مَعْنًى مُسْتَقِلًّا مِنْ مَعَانِي عَلَى بَلْ هُوَ اسْتِعْلَاءٌ مَجَازِيٌّ أُرِيدَ بِهِ تَحَقُّقُ ثُبُوتِ مَدْلُولِ مَدْخُولِهَا لِمَعْمُولِ مُتَعَلِّقِهَا، لِأَنَّهُ لِبُعْدِ وُقُوعِهِ يَحْتَاجُ إِلَى التَّحْقِيقِ، وَالضَّمِيرُ لِلْمَالِ لَا مَحَالَةَ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يُعْطِي الْمَالَ مَعَ حُبِّهِ لِلْمَالِ وَعَدَمِ زَهَادَتِهِ فِيهِ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يُعْطِيهِ مَرْضَاةً لِلَّهِ تَعَالَى وَلِذَلِكَ كَانَ فِعْلُهُ هَذَا بِرًّا.
وَذَكَرَ أَصْنَافًا مِمَّنْ يُؤْتُونَ الْمَالَ لِأَنَّ إِتْيَانَهُمُ الْمَالَ يَنْجُمُ عَنْهُ خَيْرَاتٌ وَمَصَالِحُ.
فَذَكَرَ ذَوِي الْقُرْبَى أَيْ أَصْحَابَ قَرَابَةِ الْمُعْطِي فَاللَّامُ فِي (الْقُرْبَى) عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَمَرَ الْمَرْءَ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ لِأَنَّ مُوَاسَاتَهُمْ تُكْسِبُهُمْ مَحَبَّتَهُمْ إِيَّاهُ وَالتِّئَامَهُمْ وَهَذَا الْتِئَامُ الْقَبَائِلِ الَّذِي
وَعُطِفَ قَوْلُهُ: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ بِالْوَاوِ دُونَ الْفَاءِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي تَضَمَّنَهُ مَقْصُودٌ بِالذَّاتِ، وَأَنَّ مَا قَبْلَهُ كَالتَّمْهِيدِ لَهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَإِنْ تُبْدُوا عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [الْبَقَرَة: ٢٨٣] وَيَكُونَ قَوْلُهُ: لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ اعْتِرَاضًا بَيْنَهُمَا.
وَإِبْدَاءُ مَا فِي النَّفْسِ: إِظْهَارُهُ، وَهُوَ إِعْلَانُهُ بِالْقَوْلِ، فِيمَا سَبِيلُهُ الْقَوْلُ، وَبِالْعَمَلِ فِيمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ عَمَلٌ وَإِخْفَاؤُهُ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَعَطْفُ أَوْ تُخْفُوهُ لِلتَّرَقِّي فِي الْحِسَابِ عَلَيْهِ، فَقَدْ جَاءَ عَلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ فِي عَطْفِ الْأَقْوَى عَلَى الْأَضْعَفِ، وَفِي الْغَرَضِ الْمَسُوقِ لَهُ الْكَلَامُ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ. وَمَا فِي النَّفْيِ يَعُمُّ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ.
وَالْمُحَاسَبَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْحُسْبَانِ وَهُوَ الْعَدُّ، فَمَعْنَى يُحَاسِبْكُمْ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: يَعُدُّهُ عَلَيْكُمْ، إِلَّا أَنَّهُ شَاعَ إِطْلَاقُهُ عَلَى لَازِمِ الْمَعْنَى وَهُوَ الْمُؤَاخَذَةُ وَالْمُجَازَاةُ كَمَا حَكَى الله تَعَالَى: [الشُّعَرَاء: ١١٣] وَشَاعَ هَذَا فِي اصْطِلَاحِ الشَّرْعِ، وَيُوَضِّحُهُ هُنَا قَوْلُهُ: فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ.
وَقَدْ أَجْمَلَ اللَّهُ تَعَالَى هُنَا الْأَحْوَالَ الْمَغْفُورَةَ وَغَيْرَ الْمَغْفُورَةِ: لِيَكُونَ الْمُؤْمِنُونَ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، فَلَا يُقَصِّرُوا فِي اتّباع الْخيرَات النفيسة وَالْعَمَلِيَّةِ، إِلَّا أَنَّهُ أَثْبَتَ غُفْرَانًا وَتَعْذِيبًا بِوَجْهِ الْإِجْمَالِ عَلَى كُلٍّ مِمَّا نُبْدِيهِ وَمَا نُخْفِيهِ. وَلِلْعُلَمَاءِ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ، وَالْجَمْعِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ
قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ».
وَقَوْلِهِ: «إِنَّ اللَّهَ
تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْهَا بِهِ أَنْفُسُهَا»
وَأَحْسَنُ كَلَامٍ فِيهِ مَا يَأْتَلِفُ مِنْ كَلَامَيِ الْمَازِرِيِّ وَعِيَاضٍ، فِي شَرْحَيْهِمَا «لِصَحِيحِ مُسْلِمٍ» : وَهُوَ- مَعَ زِيَادَةِ بَيَانٍ- أَنَّ مَا يَخْطُرُ فِي النَّفْسِ إِنْ كَانَ مُجَرَّدَ خَاطِرٍ وَتَرَدُّدٍ مِنْ غَيْرِ عَزْمٍ فَلَا خِلَافَ فِي عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ، إِذْ لَا طَاقَةَ لِلْمُكَلَّفِ بِصَرْفِهِ عَنْهُ، وَهُوَ مَوْرِدُ حَدِيثِ التَّجَاوُزِ لِلْأُمَّةِ عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ جَاشَ فِي النَّفْسِ عَزْمٌ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْخَوَاطِرِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا أَفْعَالٌ بَدَنِيَّةٌ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ مِنَ الْخَوَاطِرِ الَّتِي لَا تَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا أَفْعَالٌ: مِثْلَ الْإِيمَانِ، وَالْكُفْرِ، وَالْحَسَدِ، فَلَا خِلَافَ فِي الْمُؤَاخَذَة بِهِ لأنّ مِمَّا يَدْخُلُ فِي طَوْقِ الْمُكَلَّفِ أَنْ يَصْرِفَهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْخَوَاطِرِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا آثَارٌ فِي الْخَارِجِ، فَإِنْ حَصَلَتِ الْآثَارُ فَقَدْ خَرَجَ مِنْ أَحْوَالِ الْخَوَاطِرِ إِلَى الْأَفْعَالِ كَمَنْ يَعْزِمُ عَلَى السَّرِقَةِ
عِصْيَانًا لِأَنَّ الْمَقَامَ لَيْسَ مَقَامَ اجْتِهَادٍ، فَإِنَّ شَأْنَ الْحَرْبِ الطَّاعَةُ لِلْقَائِدِ مِنْ دُونِ تَأْوِيلٍ، أَوْ لِأَنَّ التَّأْوِيلَ كَانَ بَعِيدًا فَلَمْ يُعْذَرُوا فِيهِ، أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ تَأْوِيلًا لِإِرْضَاءِ حُبِّ الْمَالِ، فَلَمْ يَكُنْ مُكَافِئًا لِدَلِيلِ وُجُوبِ طَاعَةِ الرَّسُولِ.
وَإِنَّمَا قَالَ: ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الصَّرْفَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَتَقْدِيرِهِ، كَمَا كَانَ الْقَتْلُ بِإِذْنِ اللَّهِ وَأَنَّ حِكْمَتَهُ الِابْتِلَاءُ، لِيَظْهَرَ لِلرَّسُولِ وَلِلنَّاسِ مَنْ ثَبَتَ عَلَى الْإِيمَانِ مِنْ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّ فِي الِابْتِلَاءِ أَسْرَارًا عَظِيمَةً فِي الْمُحَاسَبَةِ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَقَدْ أَجْمَلَ هَذَا الِابْتِلَاءَ هُنَا وَسَيُبَيِّنُهُ.
وَعَقَّبَ هَذَا الْمَلَامَ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ تَسْكِينًا لِخَوَاطِرِهِمْ، وَفِي ذَلِكَ تَلَطُّفٌ مَعَهُمْ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي تَقْرِيعِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ تَقْدِيمُ الْعَفْوِ عَلَى الْمَلَامِ فِي مَلَامِ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التَّوْبَة: ٤٣]، فَتِلْكَ رُتْبَةٌ أَشْرَفُ مِنْ رُتْبَةِ تَعْقِيبِ الْمَلَامِ بِذِكْرِ الْعَفْوِ، وَفِيهِ أَيْضًا دَلَالَةٌ عَلَى صِدْقِ إِيمَانِهِمْ إِذْ
عَجَّلَ لَهُمُ الْإِعْلَامَ بِالْعَفْوِ لِكَيْلَا تَطِيرَ نُفُوسُهُمْ رَهْبَةً وَخَوْفًا مِنْ غَضَبِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَفِي تَذْيِيلِهِ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ تَأْكِيدُ مَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ: وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَفْوٌ لِأَجْلِ التَّأْوِيلِ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّوْبَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يكون عفوا بعد مَا ظَهَرَ مِنْهُمْ مِنَ النَّدَمِ وَالتَّوْبَةِ، وَلِأَجْلِ هَذَا الِاحْتِمَالِ لَمْ تَكُنِ الْآيَةُ صَالِحَةً لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ تسلب الْإِيمَان.
[١٥٣]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ١٥٣]
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى مَا فاتَكُمْ وَلا مَا أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ
يَقُولُونَ: هَذِهِ مِنْ عِنْدِ مُحَمَّدٍ، فَيَكُونُ الْإِتْيَانُ بِكَافِ الْخِطَابِ مِنْ قَبِيلِ حِكَايَةِ كَلَامِهِمْ بِحَاصِلِ مَعْنَاهُ عَلَى حَسَبِ مَقَامِ الْحَاكِي وَالْمَحْكِيِّ لَهُ، وَهُوَ وَجْهٌ مَطْرُوقٌ فِي حِكَايَةِ كَلَامِ الْغَائِبِ عَنِ الْمُخَاطَبِ إِذَا حَكَى كَلَامَهُ لِذَلِكَ الْمُخَاطَبِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ عِيسَى: مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ [الْمَائِدَة: ١١٧]. وَالْمَأْمُورُ بِهِ هُوَ: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبَّكَ وَرَبَّهُمْ. وَوَرَدَ أَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ هُمُ الْيَهُودُ، فَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ فِي الْكَلَامِ السَّابِقِ، لِأَنَّ الْمَعْنِيَّ بِهِ مَعْرُوفُونَ فِي وَقْتِ نُزُولِ الْآيَةِ، وَقَدِيمًا قِيلَ لِأَسْلَافِهِمْ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ [الْأَعْرَاف: ١٣١]. وَالْمُرَادُ بِالْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ هُنَا مَا تَعَارَفَهُ الْعَرَبُ مِنْ قِبَلِ اصْطِلَاحِ الشَّرِيعَةِ أَعْنِي الْكَائِنَةِ الْمُلَائِمَةِ والكائنة المنافرة، كَقَوْلِهِم: فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ [الْأَعْرَاف: ١٣١] وَقَوْلُهُ:
رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً [الْبَقَرَة: ٢٠١]، وَتَعَلُّقُ فِعْلِ الْإِصَابَةِ بِهِمَا دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ، أَمَّا الْحَسَنَةُ وَالسَّيِّئَةُ بِالِاصْطِلَاحِ الشَّرْعِيِّ، أَعْنِي الْفِعْلَ الْمُثَابَ عَلَيْهِ وَالْفِعْلَ الْمُعَاقَبَ عَلَيْهِ، فَلَا مَحْمَلَ لَهُمَا هُنَا إِذْ لَا يَكُونَانِ إِصَابَتَيْنِ، وَلَا تُعْرَفُ إِصَابَتُهُمَا لِأَنَّهُمَا اعْتِبَارَانِ شَرْعِيَّانِ.
وَقيل: كَانَ الْيَهُودُ يَقُولُونَ: «لَمَّا جَاءَ مُحَمَّدٌ الْمَدِينَةَ قَلَّتِ الثِّمَارُ، وَغَلَتِ الْأَسْعَارُ». فَجَعَلُوا كَوْنَ الرَّسُولِ بِالْمَدِينَةِ هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي حُدُوثِ السَّيِّئَاتِ، وَأَنَّهُ لَوْلَاهُ لَكَانَتِ الْحَوَادِثُ كُلُّهَا جَارِيَةً عَلَى مَا يُلَائِمُهُمْ، وَلِذَلِكَ جِيءَ فِي حِكَايَةِ كَلَامِهِمْ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ أَرَادُوا هَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ كَلِمَةُ (عِنْدَ) فِي الْمَوْضِعَيْنِ: هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ- هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ إِذِ
الْعِنْدِيَّةُ هُنَا عِنْدِيَّةُ التَّأْثِيرِ التَّامِّ بِدَلِيلِ التَّسْوِيَةِ فِي التَّعْبِيرِ، فَإِذَا كَانَ مَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مَعْنَاهُ مِنْ تَقْدِيرِهِ وَتَأْثِيرِ قُدْرَتِهِ، فَكَذَلِكَ مُسَاوِيهِ وَهُوَ مَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ الرَّسُولِ. وَفِي «الْبُخَارِيِّ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ كَانَ الرَّجُلُ يَقْدَمُ الْمَدِينَةَ فَإِنْ وَلَدَتِ امْرَأَتُهُ غُلَامًا وَنُتِجَتْ خَيْلُهُ قَالَ: هَذَا دِينٌ صَالِحٌ، وَإِنْ لَمْ تَلِدِ امْرَأَتُهُ وَلَمْ تُنْتَجْ خَيْلُهُ قَالَ: هَذَا دِينُ سُوءٍ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْعَرَبِ: يَقُولُونَهُ إِذَا أَرَادُوا الِارْتِدَادَ وَهُمْ أَهْلُ جَفَاءٍ وَغِلْظَةٍ، فَلَعَلَّ فِيهِمْ مَنْ شَافَهَ الرَّسُولَ بِمِثْلِ قَوْلِهِمْ: هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ. وَمَعْنَى مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فِي اعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُ الَّذِي سَاقَهَا إِلَيْهِمْ وَأَتْحَفَهُمْ بِهَا لِمَا هُوَ مُعْتَادُهُ مِنَ الْإِكْرَامِ لَهُمْ، وَخَاصَّةً إِذَا كَانَ قَائِلُ ذَلِكَ الْيَهُودَ. وَمَعْنَى مِنْ عِنْدِكَ أَيْ مِنْ شُؤْمِ قُدُومِكَ، لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُعَامِلُهُمْ إِلَّا بِالْكَرَامَةِ، وَلَكِنَّهُ صَارَ يَتَخَوَّلَهُمْ بِالْإِسَاءَةِ لِقَصْدِ أَذَى الْمُسْلِمِينَ فَتَلْحَقُ الْإِسَاءَةُ الْيَهُودَ مِنْ جَرَّاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى حَدِّ وَاتَّقُوا فِتْنَةً [الْأَنْفَال:
٢٥] الْآيَةَ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ فِي أَنَّ الْمَرَافِقَ مَغْسُولَةٌ أَوْ مَتْرُوكَةٌ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا مَغْسُولَةٌ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْغَايَةِ فِي الْحَدِّ أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي الْمَحْدُودِ. وَفِي «الْمَدَارِكِ» أَنَّ الْقَاضِيَ إِسْمَاعِيلَ بْنَ إِسْحَاقَ سُئِلَ عَنْ دُخُولِ الْحَدِّ فِي الْمَحْدُودِ فَتَوَقَّفَ فِيهَا. ثُمَّ قَالَ لِلسَّائِلِ بَعْدَ أَيَّامٍ: قَرَأْتُ «كِتَابَ سِيبَوَيْهِ» فَرَأَيْتُ أَنَّ الْحَدَّ دَاخِلٌ فِي الْمَحْدُودِ. وَفِي مَذْهَبِ مَالِكٍ: قَوْلَانِ فِي دُخُولِ الْمَرَافِقِ فِي الْغُسْلِ، وَأَوْلَاهُمَا دُخُولُهُمَا. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَإِدْخَالُهُمَا فِيهِ أَحْوَطُ لِزَوَالِ تَكَلُّفِ التَّحْدِيدِ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّهُ يَغْسِلُ يَدَيْهِ إِلَى الْإِبِطَيْنِ، وَتُؤُوِّلُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ أَرَادَ إِطَالَةَ الْغُرَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: تُكْرَهُ الزِّيَادَةُ.
وَقَوْلُهُ: وَأَرْجُلَكُمْ قَرَأَهُ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَيَعْقُوبَ- بِالنَّصْبِ- عَطْفَاً عَلَى وَأَيْدِيَكُمْ وَتَكُونُ جملَة وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ مُعْتَرَضَةً بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ. وَكَأَنَّ فَائِدَةَ الِاعْتِرَاضِ الْإِشَارَةُ إِلَى تَرْتِيبِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ لِأَنَّ
الْأَصْلَ فِي التَّرْتِيبِ الذِّكْرِيِّ أَنْ يَدُلَّ عَلَى التَّرْتِيبِ الْوُجُودِيِّ، فَالْأَرْجُلُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَغْسُولَةً إِذْ حِكْمَةُ الْوُضُوءِ وَهِيَ النَّقَاءُ وَالْوَضَاءَةُ وَالتَّنَظُّفُ وَالتَّأَهُّبُ لِمُنَاجَاةِ اللَّهِ تَعَالَى تَقْتَضِي أَنْ يُبَالَغَ فِي غَسْلِ مَا هُوَ أَشَدُّ تَعَرُّضًا لِلْوَسَخِ فَإِنَّ الْأَرْجُلَ تُلَاقِي غُبَارَ الطُّرُقَاتِ وَتُفْرِزُ الْفَضَلَاتِ بِكَثْرَةِ حَرَكَةِ الْمَشْيِ، وَلِذَلِكَ
كَانَ النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ بِمُبَالَغَةِ الْغَسْلِ فِيهَا، وَقَدْ نَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ للَّذِي لَمْ يُحْسِنْ غَسْلَ رِجْلَيْهِ «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ»
. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَحَمْزَةُ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَخَلَفٌ- بِخَفْضِ- وَأَرْجُلَكُمْ. وَلِلْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ تَأْوِيلَاتٌ: مِنْهُمْ مَنْ أَخَذَ بِظَاهِرِهَا فَجَعَلَ حُكْمَ الرِّجْلَيْنِ الْمَسْحَ دُونَ الْغَسْلِ، وَرُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَالشَّعْبِيِّ، وَقَتَادَةَ. وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ الْحَجَّاجَ خَطَبَ يَوْمًا بِالْأَهْوَازِ فَذَكَرَ الْوُضُوءَ فَقَالَ: «إِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ ابْنِ آدَمَ أَقْرَبَ مِنْ خُبْثِهِ مِنْ قَدَمَيْهِ فَاغْسِلُوا بُطُونَهُمَا وَظُهُورَهُمَا وعَرَاقِيبَهُمَا» فَسَمِعَ ذَلِكَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ فَقَالَ: صَدَقَ اللَّهُ وَكَذَبَ الْحَجَّاجُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ. وَرُوِيَتْ عَنْ أَنَسٍ رِوَايَةٌ أُخْرَى: قَالَ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِالْمَسْحِ وَالسُّنَّةُ
وَذَكَرَ مَادَّةَ مَا مِنْهُ الْخَلْقُ بِقَوْلِهِ: مِنْ طِينٍ لِإِظْهَارِ فَسَادِ اسْتِدْلَالِهِمْ عَلَى إِنْكَارِ الْخَلْقِ الثَّانِي، لِأَنَّهُمُ اسْتَبْعَدُوا أَنْ يُعَادَ خَلْقُ الْإِنْسَانِ بَعْدَ أَنْ صَارَ تُرَابًا. وَتَكَرَّرَتْ حِكَايَةُ ذَلِكَ عَنْهُمْ فِي الْقُرْآنِ، فَقَدِ اعْتَرَفُوا بِأَنَّهُمْ يَصِيرُونَ تُرَابًا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُمْ خُلِقُوا مِنْ تُرَابٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ مُقَرَّرٌ بَيْنَ النَّاسِ فِي سَائِرِ الْعُصُورِ، فَاسْتَدَلُّوا عَلَى إِنْكَارِ الْبَعْثِ بِمَا هُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يَكُونَ اسْتِدْلَالًا عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ، لِأَنَّ مَصِيرَهُمْ إِلَى تُرَابٍ يُقَرِّبُ إِعَادَةَ خَلْقِهِمْ، إِذْ صَارُوا إِلَى مَادَّةِ الْخَلْقِ الْأَوَّلِ، فَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ هُنَا هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ وَقَالَ فِي آيَاتِ الِاعْتِبَارِ بِعَجِيبِ تَكْوِينِهِ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ [الْإِنْسَان:
٢]، وَأَمْثَالَ ذَلِكَ.
وَهَذَا الْقَدْحُ فِي اسْتِدْلَالِهِمْ يُسَمَّى فِي اصْطِلَاحِ عِلْمِ الْجَدَلِ الْقَوْلَ بِالْمُوجِبِ، وَالْمُنَبَّهُ عَلَيْهِ مِنْ خَطَأِ اسْتِدْلَالِهِمْ يُسَمَّى فَسَادَ الْوَضْعِ.
وَمَعْنَى خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ أَنَّهُ خَلَقَ أَصْلَ النَّاسِ وَهُوَ الْبَشَرُ الْأَوَّلُ مِنْ طِينٍ، فَكَانَ كُلُّ الْبَشَرِ رَاجِعًا إِلَى الْخَلْقِ مِنَ الطِّينِ، فَلِذَلِكَ قَالَ خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ [الْإِنْسَان: ٢] أَيِ الْإِنْسَانَ الْمُتَنَاسِلَ مِنْ أَصْلِ الْبَشَرِ.
وثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ وَالْمُهْلَةِ عَاطِفَةٌ فِعْلَ قَضى عَلَى فِعْلِ خَلَقَ فَهُوَ عَطْفُ فِعْلٍ عَلَى فِعْلٍ وَلَيْسَ عَطْفَ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ. وَالْمُهْلَةُ هُنَا بِاعْتِبَارِ التَّوْزِيعِ، أَيْ خَلَقَ كُلَّ فَرْدٍ مِنَ الْبَشَرِ ثُمَّ قَضَى لَهُ أَجَلَهُ، أَيِ اسْتَوْفَاهُ لَهُ، فَ قَضى هُنَا لَيْسَ بِمَعْنَى (قَدَّرَ) لِأَنَّ تَقْدِيرَ الْأَجَلِ مُقَارِنٌ لِلْخَلْقِ أَوْ سَابِقٌ لَهُ وَلَيْسَ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ وَلَكِنْ قَضى هُنَا بِمَعْنَى (أَوْفَى) أَجَلَ كُلِّ مَخْلُوقٍ كَقَوْلِهِ: فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ [سبأ: ١٤]، أَيْ أَمَتْنَاهُ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ (ثُمَّ) لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ.
وَإِنَّمَا اخْتِيرَ هُنَا مَا يَدُلُّ عَلَى تَنْهِيَةِ أَجَلِ كُلِّ مَخْلُوقٍ مِنْ طِينٍ دُونَ أَنْ يُقَالَ: إِلَى أَجَلٍ، لِأَنَّ دَلَالَةَ تَنْهِيَةِ الْأَجَلِ عَلَى إِمْكَانِ الْخَلْقِ الثَّانِي، وَهُوَ الْبَعْثُ، أَوْضَحُ مِنْ دَلَالَةِ تَقْدِيرِ الْأَجَلِ، لِأَنَّ التَّقْدِيرَ خَفِيٌّ وَالَّذِي يَعْرِفُهُ النَّاسُ هُوَ انْتِهَاءُ أَجَلِ الْحَيَاةِ، وَلِأَنَّ انْتِهَاءَ أَجَلِ الْحَيَاةِ مُقَدِّمَةٌ لِلْحَيَاةِ الثَّانِيَةِ.
وَجُمْلَةُ وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ ثُمَّ قَضى أَجَلًا. وَجُمْلَةِ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ. وَفَائِدَةُ هَذَا الِاعْتِرَاضِ إِعْلَامُ الْخَلْقِ بِأَنَّ اللَّهَ عَالِمٌ آجَالَ النَّاسِ رَدًّا عَلَى
فَقَوْلُهُ: قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ إِلَى آخِرِهَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ، اعْتِرَاضٌ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ وَقَوْلِهِ: وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ. وَضَمِيرُ: حَرَّمَ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ [الْأَنْعَام: ١٤٢]، أَوْ فِي قَوْلِهِ: وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ [الْأَنْعَام: ١٤٠] الْآيَةَ. وَفِي تَكْرِيرِ الِاسْتِفْهَامِ مَرَّتَيْنِ تَعْرِيضٌ بِالتَّخْطِئَةِ، فَالتَّوْبِيخُ وَالتَّقْرِيعُ الَّذِي يَعْقُبُهُ التَّصْرِيحُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَقَوْلِهِ: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً الْآيَةَ. فَلَا تَرَدُّدَ فِي أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ قَوْلِهِ: قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ إِبْطَالُ تَحْرِيمِ مَا حَرَّمَ الْمُشْرِكُونَ أَكْلَهُ، وَنَفْيُ نِسْبَةِ ذَلِكَ التَّحْرِيمِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَإِنَّمَا النَّظَرُ فِي طَرِيقِ اسْتِفَادَةِ هَذَا الْمَقْصُودِ مِنْ نَظْمِ الْكَلَامِ. وَهُوَ مِنَ الْمُعْضِلَاتِ.
فَقَالَ الْفَخْرُ: «أَطْبَقَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يُحَرِّمُونَ بَعْضَ الْأَنْعَامِ فَاحْتَجَّ اللَّهُ عَلَى إِبْطَالِ قَوْلِهِمْ بِأَنْ ذَكَرَ الضَّأْنَ وَالْمَعْزَ وَالْإِبِلَ وَالْبَقَرَ. وَذَكَرَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ زَوْجَيْنِ ذَكَرًا وَأُنْثَى، ثمّ قَالَ: إِن كَانَ حرّم مِنْهَا الذّكر وَجب أَن يكون كلّ ذكورها حَرَامًا، وَإِنْ كَانَ حَرَّمَ الْأُنْثَى وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ إِنَاثِهَا حَرَامًا، وَأَنَّهُ إِنْ كَانَ حَرَّمَ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ وَجَبَ تَحْرِيمُ الْأَوْلَادِ كُلِّهَا». حَاصِلُ الْمَعْنَى نَفْيُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ حَرَّمَ شَيْئًا مِمَّا زَعَمُوا تَحْرِيمَهُ إِيَّاهُ بِطَرِيقِ السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ وَهُوَ من طَرِيق الْجَدَلِ.
قُلْتُ: هَذَا مَا عَزَاهُ الطَّبَرِيُّ إِلَى قَتَادَةَ، وَمُجَاهِدٍ، وَالسُّدِّيِّ، وَهَذَا لَا يَسْتَقِيمُ لِأَنَّ السَّبْرَ غَيْرُ تَامٍّ إِذْ لَا يَنْحَصِرُ سَبَبُ التَّحْرِيمِ فِي النَّوْعِيَّةِ بَلِ الْأَكْثَرُ أَنَّ سَبَبَهُ بَعْضُ أَوْصَافِ الْمَمْنُوعِ وَأَحْوَالِهِ.
وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: قَالُوا: هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ [الْأَنْعَام: ١٣٨] وَقَالُوا:
وَكَمَالِ
الِانْقِطَاعِ، وَهُوَ التَّضَادُّ بَيْنَ وَصْفِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِمَا فِي الْجُمْلَتَيْنِ، وَهُوَ التَّكْذِيبُ بِالْآيَاتِ وَالْإِيمَانُ بِهَا، وَبَيْنَ حُكْمِ الْمُسْنَدَيْنِ وَهُوَ الْعَذَابُ وَالنَّعِيمُ، وَهَذَا مِنْ قَبِيلِ الْجَامِعِ الْوَهْمِيِّ الْمَذْكُورِ فِي أَحْكَامِ الْفَصْلِ وَالْوَصْلِ مِنْ عِلْمِ الْمَعَانِي.
وَلَمْ يُذْكَرْ مُتَعَلِّقٌ لِ آمَنُوا لِأَنَّ الْإِيمَانَ صَارَ كَاللَّقَبِ لِلْإِيمَانِ الْخَاصِّ الَّذِي جَاءَ بِهِ دِينُ الْإِسْلَامِ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ.
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُبْتَدَأٌ ثَانٍ، وأَصْحابُ الْجَنَّةِ خَبَرُهُ وَالْجُمْلَةُ خَبَرٌ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا. وَجُمْلَةُ لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ وَالْمُسْنَدِ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِدْمَاجِ. وَفَائِدَةُ هَذَا الْإِدْمَاجِ الِارْتِفَاقُ بِالْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّهُ لَمَّا بَشَّرَهُمْ بِالْجَنَّةِ عَلَى فِعْلِ الصَّالِحَاتِ أَطْمَنَ قُلُوبَهُمْ بِأَنْ لَا يُطْلَبُوا مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بِمَا يَخْرُجُ عَنِ الطَّاقَةِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْلُغُوا إِلَيْهِ أَيِسُوا مِنَ الْجَنَّةِ، بَلْ إِنَّمَا يُطْلَبُونَ مِنْهَا بِمَا فِي وُسْعِهِمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُرْضِي رَبَّهُمْ.
وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ، إِلَّا يُسْرَهَا لَا عُسْرَهَا أَيْ قَالَهُ عَلَى وَجْهِ التَّفْسِيرِ لَا أَنَّهُ قِرَاءَةٌ.
وَالْوُسْعُ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٨٦].
وَدَلَّ قَوْلُهُ: أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ عَلَى قَصْرِ مُلَازَمَةِ الْجَنَّةِ عَلَيْهِمْ، دُونَ غَيْرِهِمْ، فَفِيهِ تَأْيِيسٌ آخَرُ لِلْمُشْرِكِينَ بِحَيْثُ قَوِيَتْ نَصِّيَّةُ حِرْمَانِهِمْ مِنَ الْجَنَّةِ وَنَعِيمِهَا، وَجُمْلَةُ: هُمْ فِيها خالِدُونَ حَالٌ مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ.
[٤٣]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : آيَة ٤٣]
وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَهُمْ أَرْجَى النَّاسِ بِهَا، وَأَنَّ الْعَاصِينَ هُمْ أَيْضًا مَغْمُورُونَ بِالرَّحْمَةِ، فَمِنْهَا رَحْمَةُ الْإِمْهَالِ وَالرِّزْقِ، وَلَكِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ عِبَادَهَ ذَاتُ مَرَاتِبَ مُتَفَاوِتَةٍ.
وَقَوْلُهُ: عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ- إِلَى قَوْلِهِ- كُلَّ شَيْءٍ جَوَابٌ إِجْمَالِيٌّ، هُوَ تَمْهِيدٌ لِلْجَوَابِ التَّفْصِيلِيِّ فِي قَوْلِهِ: فَسَأَكْتُبُها.
وَالتَّفْرِيعُ فِي قَوْلِهِ: فَسَأَكْتُبُها تَفْرِيعٌ عَلَى سِعَةِ الرَّحْمَةِ، لِأَنَّهَا لَمَّا وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ كَانَ مِنْهَا مَا يُكْتَبُ أَيْ يُعْطَى فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِلَّذِينَ أُجْرِيَتْ عَلَيْهِمُ الصِّفَاتُ وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ وَعْدًا لِمُوسَى وَلِصُلَحَاءَ قَوْمِهِ لتحَقّق تِلْكَ الصِّفَات فِيهِمْ، وَهُوَ وَعْدُ نَاظِرٍ إِلَى قَوْلِ مُوسَى إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوب فِي فَسَأَكْتُبُها عَائِدٌ إِلَى رَحْمَتِي فَهُوَ ضَمِيرُ جِنْسٍ، وَهُوَ مُسَاوٍ لِلْمُعَرَّفِ بِلَامِ الْجِنْسِ، أَيِ اكْتُبُ فَرْدًا مِنْ هَذَا الْجِنْسِ لِأَصْحَابِ هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَكْتُبُ جَمِيعَ الرَّحْمَةِ لِهَؤُلَاءِ لِأَنَّ هَذَا غَيْرُ مَعْرُوفٍ فِي الِاسْتِعْمَالِ فِي الْإِخْبَارِ عَنِ الْأَجْنَاسِ، لَكِنْ يُعْلَمُ مِنَ السِّيَاقِ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الرَّحْمَةِ نَوْعٌ عَظِيمٌ بِقَرِينَةِ الثَّنَاءِ عَلَى متعلقها بِصِفَات توذن بِاسْتِحْقَاقِهَا، وَبِقَرِينَةِ السُّكُوتِ عَنْ غَيْرِهِ، فَيُعْلَمُ أَنَّ لِهَذَا الْمُتَعَلِّقِ رَحْمَةً خَاصَّةً عَظِيمَةً وَأَنَّ غَيْرَهُ دَاخِلٌ فِي بَعْضِ مَرَاتِبِ عُمُومِ الرَّحْمَةِ الْمَعْلُومَةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ وَقَدْ أَفْصَحَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى الْحَصْرُ فِي قَوْلِهِ فِي آخِرِ الْآيَةِ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
وَتقدم معنى فَسَأَكْتُبُها قَرِيبًا.
وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى: وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٨٩].
وَالْمَعْنَى: أَنَّ الرَّحْمَةَ الَّتِي سَأَلَهَا مُوسَى لَهُ وَلِقَوْمِهِ وَعَدَ اللَّهُ بِإِعْطَائِهَا لِمَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُتَّصِفًا بِأَنَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ وَالْمُؤْتِينَ الزَّكَاةَ، وَلِمَنْ كَانَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَالْآيَاتُ تَصْدُقُ: بِدَلَائِلِ صِدْقِ الرُّسُلِ، وَبِكَلِمَاتِ اللَّهِ الَّتِي شَرَعَ بِهَا لِلنَّاسِ رَشَادَهُمْ وَهَدْيَهُمْ، وَلَا سِيَّمَا الْقُرْآنُ لِأَنَّ كُلَّ مِقْدَارِ ثَلَاثِ آيَاتٍ مِنْهُ هُوَ آيَةٌ لِأَنَّهُ مُعْجِزٌ فَدَالٌّ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ هُنَا، وَهُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ الْأُمِّيَّ إِذَا جَاءَهُمْ، أَيْ يُطِيعُونَهُ فِيمَا يَأْمُرُهُمْ، وَلَمَّا جُعِلَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ بِسَبَبِ تِلْكَ الرَّحْمَةِ
وَالْإِمَامُ الْمِثَالُ الَّذِي يُصْنَعُ عَلَى شَكْلِهِ، أَوْ قَدْرِهِ، مَصْنُوعٌ، فَأَئِمَّةُ الْكُفْرِ، هُنَا: الَّذِينَ بَلَغُوا الْغَايَةَ فِيهِ، بِحَيْثُ صَارُوا قُدْوَةً لِأَهْلِ الْكُفْرِ.
وَالْمُرَادُ بِأَئِمَّةِ الْكُفْرِ: الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ، فَوُضِعَ هَذَا الِاسْمُ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ حِينَ لَمْ يُقَلْ: فَقَاتِلُوهُمْ، لِزِيَادَةِ التَّشْنِيعِ عَلَيْهِمْ بِبُلُوغِهِمْ هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ مِنَ الْكُفْرِ، وَهِيَ أَنَّهُمْ قُدْوَةٌ لِغَيْرِهِمْ، لِأَنَّ الَّذِينَ أَضْمَرُوا النَّكْثَ يَبْقُونَ مُتَرَدِّدِينَ بِإِظْهَارِهِ،
فَإِذَا ابْتَدَأَ بَعْضُهُمْ بِإِظْهَارِ النَّقْضِ اقْتَدَى بِهِمُ الْبَاقُونَ، فَكَانَ النَّاقِضُونَ أَئِمَّةً لِلْبَاقِينَ.
وَجُمْلَةُ: إِنَّهُمْ لَا أَيْمانَ لَهُمْ تَعْلِيلٌ لِقِتَالِهِمْ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوهُ لِأَجْلِ اسْتِخْفَافِهِمْ بِالْأَيْمَانِ الَّتِي حَلَفُوهَا عَلَى السَّلْمِ، فَغَدَرُوا، وَفِيهِ بَيَانٌ لِلْمُسْلِمِينَ كَيْلَا يَشْرَعُوا فِي قِتَالِهِمْ غَيْرَ مُطَّلِعِينَ عَلَى حِكْمَةِ الْأَمْرِ بِهِ، فَيَكُونُ قِتَالُهُمْ لِمُجَرَّدِ الِامْتِثَالِ لِأَمْرِ اللَّهِ، فَلَا يَكُونُ لَهُمْ مِنَ الْغَيْظِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا يُشَحِّذُ شِدَّتَهُمْ عَلَيْهِمْ.
وَنَفْيُ الْأَيْمَانِ لَهُمْ: نَفْيٌ لِلْمَاهِيَّةِ الْحَقِّ لِلْيَمِينِ، وَهِيَ قَصْدُ تَعْظِيمِهِ وَالْوَفَاءِ بِهِ، فَلَمَّا لَمْ يُوفُوا بِأَيْمَانِهِمْ، نَزَلَتْ أَيْمَانُهُمْ مَنْزِلَةَ الْعَدَمِ لفقدان أخصّ خواصّها وَهُوَ الْعَمَلُ بِمَا اقْتَضَتْهُ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ. أَيِّمَةَ بِتَسْهِيلِ الْهَمْزَةِ الثَّانِيَةِ بَيْنَ الْهَمْزَةِ وَالْيَاءِ. وَقَرَأَ الْبَقِيَّةُ: بِتَحْقِيقِ الْهَمْزَتَيْنِ. وَقَرَأَ هِشَامٌ عَنِ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ: بِمَدٍّ بَيْنَ الْهَمْزَتَيْنِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَا أَيْمانَ لَهُمْ بِفَتْحِ هَمْزَةِ أَيْمانَ عَلَى أَنَّهُ جَمَعُ يَمِينٍ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ- بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ-، أَيْ لَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ، وَمَنْ لَا إِيمَانَ لَهُ لَا عَهْدَ لَهُ لِانْتِفَاءِ الْوَازِعِ.
وَعَطْفُ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ عَطْفُ قَسِيمٍ عَلَى قَسِيمِهِ، فَالْوَاوُ فِيهِ بِمَعْنَى (أَوْ). فَإِنَّهُ إِذَا حَصَلَ أَحَدُ هَذَيْنِ الْفِعْلَيْنِ: الَّذَيْنِ هُمَا نَكْثُ الْأَيْمَانِ، وَالطَّعْنُ فِي الدِّينِ، كَانَ حُصُولُ أَحَدِهِمَا مُوجِبًا لِقِتَالِهِمْ، أَيْ دُونَ مُصَالَحَةٍ، وَلَا عَهْدٍ، وَلَا هُدْنَةٍ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَذِكْرُ طَعْنِهِمْ فِي دين الْمُسلمين ينبىء بَأَنَّ ذَلِكَ الطَّعْنَ كَانَ مِنْ دَأْبِهِمْ فِي مُدَّةِ الْمُعَاهَدَةِ، فَأُرِيدَ صَدُّهُمْ عَنِ الْعَوْدِ إِلَيْهِ. وَلَمْ أَقِفْ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَشْرُوطًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ
وَ (لَوْلَا) فِي قَوْلِهِ: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ حَرْفُ تَحْضِيضٍ، وَشَأْنُ التَّحْضِيضِ أَنْ يُوَاجَهَ بِهِ الْمُحَضَّضُ لِأَنَّ التَّحْضِيضَ مِنَ الطَّلَبِ وَشَأْنُ الطَّلَبِ أَنْ يُوَاجَهَ بِهِ الْمَطْلُوبُ، وَلِذَلِكَ كَانَ تَعَلُّقُ فِعْلِ الْإِنْزَالِ بِضَمِيرِ الْغَائِبِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُؤَوَّلًا بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْتِفَاتًا، وَأَصْلُ الْكَلَامِ: لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْكَ، وَهُوَ مِنْ حِكَايَةِ الْقَوْلِ بِالْمَعْنَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ [إِبْرَاهِيم: ٣١] أَيْ قُلْ لَهُمْ أَقِيمُوا، وَنُكْتَةُ ذَلِكَ نُكْتَةُ الِالْتِفَاتِ لِتَجْدِيدِ نَشَاطِ السَّامِعِ.
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَوْلُ صَدَرَ مِنْهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ لِيُبَيِّنَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ شُبْهَةً عَلَى انْتِفَاءِ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ صَدَرَ مِنْهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ طَمَعًا فِي أَنْ يَرُدُّوهُمْ إِلَى الْكُفْرِ.
وَالْآيَةُ: عَلَامَةُ الصِّدْقِ. وَأَرَادُوا خَارِقًا لِلْعَادَةِ عَلَى حَسَبِ اقْتِرَاحِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ: أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ [الْإِسْرَاء: ٩٣] وَقَوْلِهِمْ: لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسى [الْقَصَص: ٤٨] وَهَذَا مِنْ جَهْلِهِمْ بِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ وَتَحْكِيمِهِمُ الْخَيَالَ وَالْوَهمَ فِي حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ، فَهُمْ يَفْرِضُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرِيصٌ عَلَى إِظْهَارِ صِدْقِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ يَسْتَفِزُّهُ تَكْذِيبُهُمْ إِيَّاهُ فَيَغْضَبُ وَيُسْرِعُ فِي مُجَارَاةِ عِنَادِهِمْ لِيَكُفُّوا عَنْهُ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَقَدْ أَفْحَمُوهُ وَأَعْجَزُوهُ وَهُوَ الْقَادِرُ، فَتَوَهَّمُوا أَنَّ مُدَّعِيَ الرِّسَالَةِ عَنْهُ غَيْرُ صَادِقٍ فِي دَعْوَاهُ وَمَا دَرَوْا أَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ نِظَامَ الْأُمُورِ تَقْدِيرًا، وَوَضَعَ الْحَقَائِقَ وَأَسْبَابَهَا، وَأَجْرَى الْحَوَادِثَ عَلَى النِّظَامِ الَّذِي قَدَّرَهُ، وَجَعَلَ الْأُمُورَ بَالِغَةً مَوَاقِيتَهَا الَّتِي حَدَّدَ لَهَا، وَلَا يَضُرُّهُ أَنْ يُكَذِّبَ الْمُكَذِّبُونَ أَوْ يُعَانِدَ الْجَاهِلُونَ وَقَدْ وَضَعَ لَهُمْ مَا يَلِيقُ بِهِمْ مِنَ الزَّوَاجِرِ فِي الْآخِرَةِ لَا مَحَالَةَ، وَفِي الدُّنْيَا تَارَاتٍ، كُلُّ ذَلِكَ يَجْرِي عَلَى نُظُمٍ اقْتَضَتْهَا الْحِكْمَةُ لَا يَحْمِلُهُ عَلَى تَبْدِيلِهَا سُؤَالُ سَائِلٍ وَلَا تَسْفِيهُ سَفِيهٍ. وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ.
فَهُمْ جَعَلُوا اسْتِمْرَارَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى دَعْوَتِهِمْ بِالْأَدِلَّةِ الَّتِي أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَدْعُوَهُمْ بِهَا وَعَدَمَ تَبْدِيلِهِ ذَلِكَ بِآيَاتٍ أُخْرَى عَلَى حَسَبِ رَغْبَتِهِمْ جَعَلُوا كُلَّ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُؤَيَّدٍ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَدَلُّوا بِذَلِكَ عَلَى انْتِفَاءِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَرْسَلَهُ، لِأَنَّهُ لَوْ أَرْسَلَهُ لَأَيَّدَهُ بِمَا يُوجِبُ لَهُ الْقَبُولَ عِنْدَ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ. وَمَا دَرَى الْمَسَاكِينُ أَنَّ اللَّهَ إِنَّمَا أَرْسَلَ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَحْمَةً بِهِمْ
وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٦٥].
وَمَا الْأُولَى نَافِيَةٌ مُعَلِّقَةٌ لِفِعْلِ الْعِلْمِ عَنِ الْعَمَلِ، وَمَا الثَّانِيَةُ مَوْصُولَةٌ.
وَالْحَقُّ: مَا يَحِقُّ، أَيْ يَجِبُ لِأَحَدٍ أَوْ عَلَيْهِ، فَيُقَالُ: لَهُ حَقٌّ فِي كَذَا، إِذَا كَانَ مُسْتَحِقًّا لَهُ، وَيُقَالُ: مَا لَهُ حَقٌّ فِي كَذَا، بِمَعْنَى لَا يَسْتَحِقُّهُ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أُطْلِقَ هُنَا كِنَايَةً عَنْ عَدَمِ التَّعَلُّقِ بِالشَّيْءِ وَعَنِ التَّجَافِي عَنْهُ. وَهُوَ إِطْلَاقٌ لَمْ أَرَ مثله، وَقد تحيّر الْمُفَسِّرُونَ فِي تَقْرِيرِهِ.
وَالْمَعْنَى: مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ رَغْبَةٌ.
وَجَوَابُهُ بِ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً جَوَابُ يَائِسٍ مِنِ ارْعِوَائِهِمْ.
ولَوْ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّمَنِّي، وَهَذَا أَقْصَى مَا أَمْكَنَهُ فِي تَغْيِيرِ هَذَا الْمُنْكَرِ.
وَالْبَاءُ فِي بِكُمْ لِلِاسْتِعْلَاءِ، أَيْ عَلَيْكُمْ. يُقَالُ: مَا لِي بِهِ قُوَّةٌ وَمَا لِي بِهِ طَاقَةٌ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالُوا لَا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ [الْبَقَرَة: ٢٤٩].
وَيَقُولُونَ: مَا لِي بِهَذَا الْأَمْرِ يَدَانِ، أَيْ قُدْرَةٌ أَوْ حِيلَةٌ عَلَيْهِ.
وَالْمَعْنَى: لَيْتَ لِي قُوَّةً أَدْفَعُكُمْ بِهَا، وَيُرِيدُ بِذَلِكَ قُوَّةَ أَنْصَارٍ لِأَنَّهُ كَانَ غَرِيبًا بَيْنَهُمْ.
وَمَعْنَى أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ أَوْ أَعْتَصِمُ بِمَا فِيهِ مَنَعَةٌ، أَيْ بِمَكَانٍ أَوْ ذِي سُلْطَانٍ يَمْنَعُنِي مِنْكُمْ.
وَالرُّكْنُ: الشِّقُّ مِنَ الْجَبَلِ المتّصل بِالْأَرْضِ.
وَيُصَدِّقُ بِأَنْ لَا يُقَابِلَ مَنْ فَعَلَ مَعَه سيّئة بِمثلِهِ بَلْ يُقَابِلُ ذَلِكَ بِالْإِحْسَانِ، قَالَ تَعَالَى:
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [سُورَة فصلت: ٣٤] بِأَنْ يَصِلَ مَنْ قَطَعَهُ وَيُعْطِيَ مَنْ حَرَمَهُ وَيَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَهُ وَذَلِكَ فِيمَا بَيْنَ الْأَفْرَادِ وَكَذَلِكَ بَين الْجَمَاعَات إِذْ لَمْ يُفْضِ إِلَى اسْتِمْرَارِ الضُّرِّ. قَالَ تَعَالَى فِي ذَلِكَ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [سُورَة الْأَنْفَال: ٣].
وَيُصَدِّقُ بِالْعُدُولِ عَنْ فِعْلِ السَّيِّئَةِ بَعْدَ الْعَزْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ الْعُدُولَ حَسَنَةٌ دَرَأَتِ السيّئة المعزوم عَلَيْهِ.
قَالَ النبيء- عَلَيْهِ الصَّلَاة والسّلام-: «مَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ حَسَنَةً»
. فقد جمع يَدْرَؤُنَ جَمِيعَ هَذِهِ الْمَعَانِي وَلِهَذَا لَمْ يُعَقَّبْ بِمَا يَقْتَضِي أَنَّ الْمُرَادَ مُعَامَلَةُ الْمُسِيءِ بِالْإِحْسَانِ كَمَا أُتْبِعَ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ [٣٤]. وَكَمَا فِي قَوْلِهِ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ [٩٦].
وَجُمْلَةُ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ خَبَرٌ عَنِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ. وَدَلَّ اسْمُ الْإِشَارَةِ عَلَى أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِمْ جَدِيرُونَ بِالْحُكْمِ الْوَارِدِ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ لِأَجْلِ مَا وُصِفَ بِهِ الْمُشَارُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْأَوْصَافِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٥].
ولَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جُمْلَةٌ خَبَرًا عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَقُدِّمَ الْمَجْرُورُ عَلَى الْمُبْتَدَأِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْقَصْرِ، أَيْ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ لَا لِلْمُتَّصِفِينَ بِأَضْدَادِ صِفَاتِهِمْ، فَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ.
وَالْعُقْبَى: الْعَاقِبَةُ، وَهِيَ الشَّيْءُ الَّذِي يُعَقِبُ، أَيْ يَقَعُ عَقِبَ شَيْءٍ آخَرَ. وَقَدِ اشْتُهِرَ اسْتِعْمَالُهَا فِي آخِرَةِ الْخَيْرِ، قَالَ تَعَالَى: وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [سُورَة الْقَصَص: ٨٣]. وَلِذَلِكَ
وَقَعَتْ هُنَا فِي مُقَابَلَةِ ضِدِّهَا فِي قَوْلِهِ: وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [سُورَة غَافِر: ٥٢].
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ [سُورَة الرَّعْد: ٣٥] فَهُوَ مُشَاكَلَةٌ كَمَا سَيَأْتِي فِي آخِرِ السُّورَةِ
بِالنُّبُوءَةِ وَلَا يُخَلُّونَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ مَنْ يَتَطَلَّبُ الْهُدَى، مُضِلُّونَ لِلنَّاسِ صَادُّونَهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ.
وَذِكْرُ فِعْلِ الْقَوْلِ يَقْتَضِي صُدُورَهُ عَنْ قَائِلٍ يَسْأَلُهُمْ عَنْ أَمْرٍ حَدَثَ بَيْنَهُمْ وَلَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ، وَأَنَّهُمْ يُجِيبُونَ بِمَا ذُكِرَ مَكْرًا بِالدِّينِ وَتَظَاهُرًا بِمَظْهَرِ النَّاصِحِينَ لِلْمُسْتَرْشِدِينِ الْمُسْتَنْصِحِينِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [سُورَة النَّحْل:
٢٥].
وإِذا ظَرْفٌ مُضَمَّنٌ مَعْنَى الشَّرْطِ. وَهَذَا الشَّرْطُ يُؤْذِنُ بِتَكَرُّرِ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ. وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ قُرَيْشًا لَمَّا أَهَمَّهُمْ أَمْرُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَأَوْا تَأْثِيرَ الْقُرْآنِ فِي نُفُوسِ النَّاسِ، وَأَخَذَ أَتْبَاعُ الْإِسْلَامِ يَكْثُرُونَ، وَصَارَ الْوَارِدُونَ إِلَى مَكَّةَ فِي مَوْسِمِ الْحَجِّ وَغَيْرِهِ يَسْأَلُونَ النَّاسَ عَنْ هَذَا الْقُرْآنِ، وَمَاذَا يَدْعُو إِلَيْهِ، دَبَّرَ لَهُمُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ مَعَاذِيرَ وَاخْتِلَاقًا يَخْتَلِقُونَهُ لِيُقْنِعُوا السَّائِلِينَ بِهِ، فَنَدَبَ مِنْهُمْ سِتَّةَ عَشَرَ رَجُلًا بَعَثَهُمْ أَيَّامَ الْمَوْسِمِ يَقْعُدُونَ فِي عَقَبَاتِ مَكَّةَ وَطُرُقِهَا الَّتِي يَرِدُ مِنْهَا النَّاسُ، يَقُولُونَ لِمَنْ سَأَلَهُمْ: لَا تَغْتَرُّوا بِهَذَا الَّذِي يَدَّعِي أَنَّهُ نَبِيٌّ فَإِنَّهُ مَجْنُونٌ أَوْ سَاحِرٌ أَوْ شَاعِرٌ أَوْ كَاهِنٌ، وَأَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي يَقُولُهُ أَسَاطِيرُ مِنْ أَسَاطِيرِ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي آخِرِ سُورَةِ الْحِجْرِ. وَكَانَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ يَقُولُ: أَنَا أَقْرَأُ عَلَيْكُمْ مَا هُوَ أَجْمَلُ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدٍ أَحَادِيثَ رُسْتُمَ وَإِسْفَنْدِيَارَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٩٣].
وَمُسَاءَلَةُ الْعَرَبِ عَنْ بَعْثِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرَةٌ وَاقِعَةٌ. وَأَصْرَحُهَا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ قَالَ: «كُنْتُ رَجُلًا مِنْ غِفَارٍ فَبَلَغَنَا أَنَّ رَجُلًا قَدْ خَرَجَ بِمَكَّةَ يزْعم أَنه نبيء، فَقُلْتُ لِأَخِي أُنَيْسٍ: انْطَلِقْ إِلَى هَذَا الرَّجُلِ كَلِّمْهُ وَائْتِنِي بِخَبَرِهِ، فَانْطَلَقَ فَلَقِيَهُ ثُمَّ رَجَعَ، فَقُلْتُ: مَا عِنْدَكَ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا يَأْمُرُ بِالْخَيْرِ وَيَنْهَى عَنِ الشَّرِّ. فَقُلْتُ: لَمْ تشفني من الْخَيْر، فَأَخَذْتُ جِرَابًا وَعَصًا ثُمَّ أَقْبَلْتُ إِلَى مَكَّةَ فَجَعَلْتُ لَا أَعْرِفُهُ
وَضَمَائِرُ الْخِطَابِ عَلَى هَذَا خِطَابٌ لِلْكُفَّارِ الْقَائِلِينَ مَنْ يُعِيدُنا وَالْقَائِلِينَ مَتى هُوَ.
وَالْبَاءُ فِي بِحَمْدِهِ لِلْمُلَابَسَةِ، فَهِيَ فِي مَعْنَى الْحَالِ، أَيْ حَامِدِينَ، فَهُمْ إِذَا بُعِثُوا خُلِقَ فِيهِمْ إِدْرَاكُ الْحَقَائِقِ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِحَمْدِهِ مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ عَلَى أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالتَّقْدِيرُ:
انْطِقْ بِحَمْدِهِ، كَمَا يُقَالُ: بِاسْمِ اللَّهِ، أَيِ أَبْتَدِئُ، وَكَمَا يُقَالُ لِلْمُعَرِّسِ: بِالْيُمْنِ وَالْبَرَكَةِ، أَيِ احْمَدِ اللَّهَ عَلَى ظُهُورِ صِدْقِ مَا أَنْبَأْتُكُمْ بِهِ، وَيَكُونُ اعْتِرَاضًا بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَاتِ.
وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ اسْتِئْنَافُ كَلَامِ خِطَابٍ لِلْمُؤْمِنِينَ فَيَكُونُ يَوْمَ يَدْعُوكُمْ مُتَعَلِّقًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيِ اذْكُرُوا يَوْمَ يَدْعُوكُمْ. وَالْحَمْدُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَحْمُولٌ عَلَى حَقِيقَتِهِ، أَيْ تَسْتَجِيبُونَ حَامِدِينَ اللَّهَ عَلَى مَا مَنَحَكُمْ مِنَ الْإِيمَانِ وَعَلَى مَا أَعَدَّ لَكُمْ مِمَّا تُشَاهِدُونَ حِينَ انْبِعَاثِكُمْ مِنْ دَلَائِلِ الْكَرَامَةِ وَالْإِقْبَالِ.
وَأَمَّا جُمْلَةُ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا فَهِيَ عطف على فَتَسْتَجِيبُونَ، أَيْ وَتَحْسَبُونَ أَنَّكُمْ مَا لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا. وَالْمُرَادُ: التَّعْجِيبُ مِنْ هَذِهِ الْحَالَةِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي بَعْضِ آيَاتٍ أُخْرَى سُؤَالُ الْمَوْلَى حِينَ يُبْعَثُونَ عَنْ مُدَّةِ لُبْثِهِمْ تَعْجِيبًا مِنْ حَالِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١١٢- ١١٤]، وَقَالَ:
فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ [الْبَقَرَة: ٢٥٩]. وَهَذَا التَّعْجِيبُ تَنْدِيمٌ لِلْمُشْرِكِينَ وَتَأْيِيدٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَالْمُرَادُ هُنَا: أَنَّهُمْ ظَنُّوا ظَنًّا خَاطِئًا، وَهُوَ مَحَلُّ التَّعْجِيبِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ وَإِنْ طَالَ فَهُوَ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ لأيام الله.
وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ثُمَّ إِنَّ أُمَّةَ الْعَرَبِ نَشَأَتْ مِنْ ذُرِّيَتِهِ فَهُمْ أَهْلُهُ أَيْضًا، وَقَدْ كَانَ مِنْ شَرِيعَتِهِ الصَّلَاة وَالزَّكَاة وشؤون الْحَنِيفِيَّةِ مِلَّةِ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ.
وَرِضَى اللَّهُ عَنْهُ: إِنْعَامُهُ عَلَيْهِ نِعَمًا كَثِيرَةً، إِذْ بَارَكَهُ وَأَنْمَى نَسْلَهُ وَجَعَلَ أَشْرَفَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ ذُرِّيَتِهِ، وَجَعَلَ الشَّرِيعَةَ الْعُظْمَى عَلَى لِسَانِ رَسُولٍ مِنْ ذُرِّيَتِهِ.
وَتَقَدَّمَ اخْتِلَافُ الْقُرَّاءِ فِي قِرَاءَةِ نَبِيئًا بِالْهَمْزِ أَوْ بِالْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ.
وَتَقَدَمَ تَوْجِيهُ الْجَمْعِ بَيْنَ وَصْفِ رَسُولٍ وَنَبِيءٍ عِنْدَ ذكر مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام آنِفا.
[٥٦، ٥٧]
[سُورَة مَرْيَم (١٩) : الْآيَات ٥٦ إِلَى ٥٧]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٥٦) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (٥٧)
إِدْرِيسُ: اسْمٌ جُعِلَ عَلَمًا عَلَى جَدِّ أَبِي نُوحٍ، وَهُوَ الْمُسَمَّى فِي التَّوْرَاةِ (أَخْنُوخَ).
فَنُوحٌ هُوَ ابْنُ لَامِكَ بْنِ مَتُّوشَالِحَ بْنِ أَخْنُوخَ، فَلَعَلَّ اسْمَهُ عِنْدَ نَسَّابِيِ الْعَرَبِ إِدْرِيسَ، أَوْ أَنَّ الْقُرْآنَ سَمَّاهُ بِذَلِكَ اسْمًا مُشْتَقًّا مِنَ الدَّرْسِ لِمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا. وَاسْمُهُ (هَرْمَسُ) عِنْدَ الْيُونَانِ، وَيُزْعَمُ أَنَّهُ كَذَلِكَ يُسَمَّى عِنْدَ الْمِصْرِيِّينَ الْقُدَمَاءِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ اسْمَهُ عِنْدَ الْمِصْرِيِّينَ (تُوتٌ) أَوْ (تُحُوتِي) أَوْ (تُهُوتِي) لَهَجَاتٌ فِي النُّطْقِ بِاسْمِهِ.
وَذَكَرَ ابْنُ الْعِبْرِيِّ فِي «تَارِيخِهِ» :«أَنَّ إِدْرِيسَ كَانَ يُلَقَّبُ عِنْدَ قُدَمَاءِ الْيُونَانِ (طُرَيْسَمَجِيسَطِيسَ)، وَمَعْنَاهُ بِلِسَانِهِمُ ثُلَاثِيُّ التَّعْلِيمِ، لِأَنَّهُ كَانَ يصف الله تَعَالَى بِثَلَاثِ صِفَاتٍ ذَاتِيَّةٍ وَهِيَ الْوُجُودُ وَالْحِكْمَةُ وَالْحَيَاةُ» اه.
الْأَوَّلَ الْإِصْحَاحَ ١٨. وَرُؤْيَا عُوبَدْيَا صَفْحَةَ ٨٩١ مِنَ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ). وَرَوَى الْعِبْرِيُّ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَمُجَاهِدٍ أَنَّ ذَا الْكِفْلِ لَمْ يَكُنْ نَبِيئًا. وَتَقَدَّمَتْ تَرْجَمَةُ إِلْيَاسَ وَالْيَسَعَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ تَعْلِيلٌ لِإِدْخَالِهِمْ فِي الرَّحْمَةِ، وَتَذْيِيلٌ لِلْكَلَامِ يُفِيدُ أَنَّ تِلْكَ سُنَّةُ اللَّهِ مَعَ جَمِيع الصَّالِحين.
[٨٧، ٨٨]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : الْآيَات ٨٧ إِلَى ٨٨]
وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لَا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (٨٨)
عَطْفٌ عَلَى وَذَا الْكِفْلِ [الْأَنْبِيَاء: ٨٥]. وَذِكْرُ ذِي النُّونِ فِي جُمْلَةِ مَنْ خُصُّوا بِالذِّكْرِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لِأَجْلِ مَا فِي قَصَّتْهُ مِنَ الْآيَاتِ فِي الِالْتِجَاءِ إِلَى اللَّهِ وَالنَّدَمِ عَلَى مَا صَدَرَ مِنْهُ مِنَ الْجَزَعِ وَاسْتِجَابَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ.
وَ (ذُو النُّونِ) وَصْفٌ، أَيْ صَاحِبُ الْحُوتِ. لُقِّبَ بِهِ يُونُسُ بْنُ مَتَّى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-.
وَتَقَدَّمَتْ تَرْجَمَتُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَتَقَدَّمَتْ قِصَّتُهُ مَعَ قَوْمِهِ فِي سُورَةِ يُونُسَ.
وَذَهَابُهُ مُغَاضِبًا قِيلَ خُرُوجُهُ غَضْبَانَ مِنْ قَوْمِهِ أَهْلِ (نِينَوَى) إِذْ أَبَوْا أَنْ يُؤْمِنُوا بِمَا أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ بِهِ وَهُمْ غَاضِبُونَ مِنْ دَعْوَتِهِ، فَالْمُغَاضَبَةُ مُفَاعَلَةٌ. وَهَذَا مُقْتَضَى الْمَرْوِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: إِنَّهُ أَوْحَى إِلَيْهِ أَنَّ الْعَذَابَ نَازِلٌ بِهِمْ بَعْدَ مُدَّةٍ فَلَمَّا أَشْرَفَتِ الْمُدَّةُ عَلَى الِانْقِضَاءِ آمَنُوا فَخَرَجَ غَضْبَانَ مِنْ عَدَمِ تَحَقُّقِ مَا أَنْذَرَهُمْ بِهِ، فَالْمُغَاضَبَةُ حِينَئِذٍ
يُرْجَى مِنْ هَؤُلَاءِ التَّذَكُّرُ بِذَلِكَ الذِّكْرِ وَهُوَ مِنْ دَوَاعِي السُّخْرِيَةِ بِأَهْلِهِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى فِعْلِ (سَخِرَ) عِنْدَ قَوْلِهِ: فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٠] وَقَوْلِهِ: فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ [٧٩].
فَإِسْنَادُ الْإِنْسَاءِ إِلَى الْفَرِيقِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّهُمْ سَبَبُهُ، أَوْ هُوَ مَجَازٌ بِالْحَذْفِ بِتَقْدِيرِ:
حَتَّى أَنْسَاكُمُ السُّخْرِيُّ بِهِمْ ذِكْرِي. وَالْقَرِينَةُ عَلَى الْأَوَّلِ مَعْنَوِيَّةٌ وَعَلَى الثَّانِي لَفْظِيَّةٌ.
وَقَوْلُهُ: أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ هَمْزَةِ (أَنَّ) عَلَى مَعْنَى الْمَصْدَرِيَّةِ وَالتَّأْكِيدِ، أَيْ جَزَيْتُهُمْ بِأَنَّهُمْ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِكَسْرِ هَمْزَةِ (إِنَّ) عَلَى التَّأْكِيدِ فَقَطْ فَتَكُونُ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِلْجَزَاءِ.
وَضَمِيرُ الْفَصْلِ لِلِاخْتِصَاصِ، أَيْ هُمُ الْفَائِزُونَ لَا أَنْتُمْ.
وَقَوْلُهُ: بِما صَبَرُوا إِدْمَاجٌ لِلتَّنْوِيهِ بِالصَّبْرِ، وَالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ سُخْرِيَّتَهُمْ بِهِمْ كَانَتْ سَبَبًا فِي صَبْرِهِمُ الَّذِي أَكْسَبَهُمُ الْجَزَاءَ. وَفِي ذَلِكَ زِيَادَةُ تَلْهِيفٍ لِلْمُخَاطَبِينَ بِأَنْ كَانُوا هُمُ السَّبَبُ فِي ضُرِّ أَنْفُسِهِمْ وَنَفْعِ مَنْ كَانُوا يعدّونهم أعداءهم.
[١١٢- ١١٤]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : الْآيَات ١١٢ إِلَى ١١٤]
قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (١١٣) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤)
قَرَأَ الْجُمْهُورُ: قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ بِصِيغَةِ الْمَاضِي فَيَتَعَيَّنُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَقَعُ عِنْدَ النَّفْخِ فِي الصُّورِ وَحَيَاةِ الْأَمْوَاتِ مِنَ الْأَرْضِ، فَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ هُوَ جَوَابَ (إِذَا) فِي قَوْلِهِ فِيمَا سَبَقَ فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ [الْمُؤْمِنُونَ: ١٠١]. وَالتَّقْدِيرُ: قَالَ اللَّهُ لَهُمْ إِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ. كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ. وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضَاتٌ نَشَأَتْ بِالتَّفْرِيعِ وَالْعَطْفِ وَالْحَالِ وَالْمُقَاوَلَاتِ الْعَارِضَةِ فِي خِلَالِ ذَلِكَ كَمَا عَلِمْتَهُ
بِالْأُقْصُرِ وَ (أَبُودُو) وَتُسَمَّى الْيَوْمَ الْعَرَابَةَ الْمَدْفُونَةَ، وَ (أَبُو) وَهِيَ (بُو) وَهِيَ إِدْنُو، وَ (أَوْنُ رَمِيسَي)، وَ (أَرْمِنْتُ) وَ (سَنَى) وَهِيَ أَسَنَاءُ وَ (سَاوَرَتْ) وَهِيَ السِّيُوطُ، وَ (خَمُونُو) وَهِيَ الْأَشْمُونِيِّينَ، وَ (بَامَازِيتُ) وَهِيَ الْبَهْنَسَا، وَ (خِسْوُو) وَهِيَ سَخَا، وَ (كَارِيَينَا) وَهِيَ سَدُّ أَبِي قَيْرَةَ، وَ (سُودُو) وَهِيَ الْفَيُّومُ، وَ (كُويتي) وَهِيَ قِفْطُ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْمَدائِنِ لِلِاسْتِغْرَاقِ، أَيْ فِي مَدَائِنِ الْقُطْرِ الْمِصْرِيِّ، وَهُوَ اسْتِغْرَاقٌ عُرْفِيٌّ، أَيِ الْمَدَائِنُ الَّتِي لِحُكْمِ فِرْعَوْنَ أَوِ الْمَظْنُونُ وُقُوعُهَا قُرْبَ طَرِيقِهِمْ. وَكَانَ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ لَا يَعْلَمُونَ أَيْنَ اتَّجَهَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فَأَرَادَ أَنْ يَتَعَرَّضَ لَهُمْ فِي كُلِّ طَرِيقٍ يَظُنُّ مُرُورَهُمْ بِهِ. وَكَانَ لَا يَدْرِي لَعَلَّهُمْ تَوَجَّهُوا صَوْبَ الشَّامِ، أَوْ صَوْبَ الصَّحْرَاءِ الْغَرْبِيَّةِ، وَمَا كَانَ يَظُنُّ أَنهم يقصدون شاطىء الْبَحْرِ الْأَحْمَرِ بَحْرِ «الْقُلْزُمِ» وَكَانَ يَوْمَئِذٍ يُسَمَّى بَحْرَ «سُوفَ».
وَجُمْلَةُ إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ مَقُولٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ لِأَنَّ حاشِرِينَ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى النِّدَاءِ، أَيْ يَقُولُونَ إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ.
وَالْإِشَارَةُ بِ هؤُلاءِ إِلَى حَاضِرٍ فِي أَذْهَانِ النَّاسِ لِأَنَّ أَمْرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ شَاعَ فِي أَقْطَارِ مِصْرَ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ الَّتِي بَيْنَ جَمْعِ السَّحَرَةِ وَبَيْنَ خُرُوجِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَيْسَتِ الْإِشَارَةُ لِلسَّحَرَةِ خَاصَّةً إِذْ لَا يَلْتَئِمُ ذَلِكَ مَعَ الْقِصَّةِ.
وَفِي اسْمِ الْإِشَارَةِ إِيمَاءٌ إِلَى تَحْقِيرٍ لِشَأْنِهِمْ أَكَّدَهُ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُمْ شِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ.
وَالشِّرْذِمَةُ: الطَّائِفَةُ الْقَلِيلَةُ مِنَ النَّاسِ، هَكَذَا فَسَّرَهُ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ، فَإِتْبَاعُهُ بِوَصْفِ قَلِيلُونَ لِلتَّأْكِيدِ لِدَفْعِ احْتِمَالِ اسْتِعْمَالِهَا فِي تَحْقِيرِ الشَّأْنِ أَوْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جُنُودِ فِرْعَوْنَ، فَقَدْ كَانَ عَدَدُ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ خَرَجُوا سِتَّمِائَةَ أَلْفٍ، هَكَذَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا فِي سِفْرِ الْعَدَدِ مِنَ التَّوْرَاةِ فِي الْإِصْحَاحِ السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ.
وقَلِيلُونَ خَبَرٌ ثَانٍ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ، فَهُوَ وَصْفٌ فِي الْمَعْنَى لِمَدْلُولِ هؤُلاءِ وَلَيْسَ وَصْفًا لِشِرْذِمَةٍ وَلَكِنَّهُ مُؤَكِّدٌ لِمَعْنَاهَا، وَلِهَذَا جِيءَ بِهِ بِصِيغَةِ جَمْعِ السَّلَامَةِ الَّذِي هُوَ لَيْسَ مِنْ جُمُوعِ الْكَثْرَةِ.
مُوسَى مِمَّا لَا قِبَلَ لَهُ بِعِلْمِهِ لَوْلَا أَنَّ ذَلِكَ وَحْيٌ إِلَيْهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. فَهَذَا تَخَلُّصٌ مِنَ الِاعْتِبَارِ بِدَلَالَةِ الِالْتِزَامِ فِي قِصَّةِ مُوسَى إِلَى الصَّرِيحِ من إِثْبَات نبوءة مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَجِيءَ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِطَرِيقَةِ الْمَذْهَبِ الْكَلَامِيِّ حَيْثُ بُنِيَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى انْتِفَاء كَون النبيء عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَوْجُودًا فِي الْمَكَانِ الَّذِي قَضَى اللَّهُ فِيهِ أَمْرَ الْوَحْيِ إِلَى مُوسَى، لِيَنْتَقِلَ مِنْهُ إِلَى أَنَّ مِثْلَهُ مَا كَانَ يَعْمَلُ ذَلِكَ إِلَّا عَنْ مُشَاهَدَةٍ لِأَنَّ طَرِيقَ الْعِلْمِ بِغَيْرِ الْمُشَاهَدَةِ لَهُ مَفْقُودٌ مِنْهُ وَمِنْ قَوْمِهِ إِذْ لَمْ يَكُونُوا أَهْلَ مَعْرِفَةٍ بِأَخْبَارِ الرُّسُلِ كَمَا كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ، فَلَمَّا انْتَفَى طَرِيقُ الْعِلْمِ الْمُتَعَارَفِ لِأَمْثَالِهِ تَعَيَّنَ أَنَّ طَرِيقَ عِلْمِهِ هُوَ إِخْبَارُ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ بِخَبَرِ مُوسَى.
وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ نَفْيًا لِوُجُودِهِ هُنَاكَ وَحُضُورِهِ تَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الشَّاهِدِينَ أَهْلُ الشَّهَادَةِ، أَيِ الْخَبَرِ الْيَقِينِ، وَهُمْ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ أَشْهَدَهُمُ اللَّهُ عَلَى التَّوْرَاةِ وَمَا فِيهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ ذَمَّهُمْ بِكَتْمِهِمْ بَعْضَ مَا تَتَضَمَّنُهُ التَّوْرَاةُ من الْبشَارَة بالنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ [الْبَقَرَة: ١٤٠]. وَالْمَعْنَى مَا كُنْتَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَنِ وَلَا مِمَّنْ تَلَقَّى أَخْبَارَ ذَلِكَ بِالْخَبَرِ الْيَقِينِ الْمُتَوَاتِرِ مِنْ كُتُبِهِمْ يَوْمَئِذٍ فَتَعَيَّنَ أَنَّ طَرِيقَ عِلْمِكَ بِذَلِكَ وَحْيُ اللَّهِ تَعَالَى.
وَالْأَمْرُ الْمَقْضِيُّ: هُوَ أَمْرُ النُّبُوءَةِ لِمُوسَى إِذْ تَلَقَّاهَا مُوسَى.
وَقَوْلُهُ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ هُوَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى صِفَتِهِ، وَأَصْلُهُ بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ وَإِنْ أَنْكَرَهُ نُحَاةُ الْبَصْرَةِ وَأَكْثَرُوا مِنَ التَّأْوِيلِ، وَالْحَقُّ جَوَازُهُ.
وَالْجَانِبُ الْغَرْبِيُّ هُوَ الَّذِي ذُكِرَ آنِفًا بِوَصْفِ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ [الْقَصَص: ٣٠] أَيْ عَلَى بَيْتِ الْقِبْلَةِ.
[٤٥]
[سُورَة الْقَصَص (٢٨) : آيَة ٤٥]
وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٤٥)
وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ.
خَفِيَ اتِّصَالُ هَذَا الِاسْتِدْرَاكِ بِالْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهُ وَكَيْفَ يَكُونُ اسْتِدْرَاكًا وَتَعْقِيبًا لِلْكَلَامِ الْأَوَّلِ بِرَفْعِ مَا يُتَوَهَّمُ ثُبُوتُهُ.
عَجَبَ فِي صُدُورٍ ذَلِكَ مِنْهُمْ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَجِيئُونَ بِمِثْلِ تِلْكَ الْأَوْهَامِ مُدَّةَ كَوْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا، فَتَصْرِفُهُمْ أَوْهَامُهُمْ عَنِ الْيَقِينِ، وَكَانُوا يُقْسِمُونَ عَلَى عَقَائِدِهِمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ [النَّحْل: ٣٨] اسْتِخْفَافًا بِالْأَيْمَانِ، وَكَذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى انْصِرَافِهِمْ عَنِ الْحَقِّ يَوْمَ الْبَعْثِ.
وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ هُوَ الْمُشَبَّهُ بِهِ وَالْمُشَبَّهُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ كَافُ التَّشْبِيهِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِفْكًا مِثْلَ إِفْكِهِمْ هَذَا كَانُوا يُؤْفَكُونَ بِهِ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا. وَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّشْبِيهِ الْمُمَاثَلَةُ وَالْمُسَاوَاةُ.
وَالْأَفْكُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ: الصَّرْفُ وَهُوَ مِنْ بَابِ ضَرَبَ، وَيُعَدَّى إِلَى الشَّيْءِ الْمَصْرُوفِ عَنْهُ بِحَرْفِ (عَنْ)، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ [٦٠]. وَلَمْ يُسْنَدْ إِفْكُهُمْ إِلَى آفِكٍ مُعَيَّنٍ لِأَنَّ بَعْضَ صَرْفِهِمْ يَكُونُ مِنْ أَوْلِيَائِهِمْ وَأَيِمَّةِ دِينِهِمْ، وَبَعْضَهُ مِنْ طَبْعِ اللَّهِ عَلَى قُلُوبِهِمْ.
وَإِقْحَامُ فِعْلِ كانُوا لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ فِي زَمَانٍ قَبْلَ ذَلِكَ الزَّمَنِ، أَيْ فِي زَمَنِ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. وَالْمَعْنَى: أَنَّ ذَلِكَ خُلُقٌ تَخَلَّقُوا بِهِ وَصَارَ لَهُمْ كَالسَّجِيَّةِ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا أَعَادَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ أَرْوَاحَهُمْ صَدَرَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا تَخَلَّقُوا بِهِ وَقَالَ تَعَالَى: قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ الْآيَة [طه: ١٢٥- ١٢٧] وَفِي هَذَا الْخَبَرِ أَدَبٌ عَظِيمٌ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَحَامَوُا الرَّذَائِلَ وَالْكَبَائِرَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَشْيَةَ أَنْ تَصِيرَ لَهُمْ خُلُقًا فيحشروا عَلَيْهَا.
[٥٦]
[سُورَة الرّوم (٣٠) : آيَة ٥٦]
وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٥٦)
جَعَلَ اللَّهُ مُنْكِرِي الْبَعْثِ هدفا لسهام التَّغْلِيظ وَالِافْتِضَاحِ فِي وَقْتِ النُّشُورِ، فَلَمَّا سَمِعَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ أُوتُوا عِلْمَ الْقُرْآنِ وَأَشْرَقَتْ عُقُولُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِالْعَقَائِدِ
بِأَسْبَابِ الْوَفَاءِ وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِكَوْنِهِ جَهُولًا، فَظَلُومٌ مُبَالَغَةٌ فِي الظُّلْمِ وَكَذَلِكَ جَهُولٌ مُبَالَغَةٌ فِي الْجَهْلِ.
وَالظُّلْمُ: الِاعْتِدَاءُ عَلَى حَقِّ الْغَيْرِ وَأُرِيدُ بِهِ هُنَا الِاعْتِدَاءُ عَلَى حَقِّ اللَّهِ الْمُلْتَزَمِ لَهُ بِتَحَمُّلِ الْأَمَانَةِ، وَهُوَ حَقُّ الْوَفَاءِ بِالْأَمَانَةِ.
وَالْجَهْلُ: انْتِفَاءُ الْعِلْمِ بِمَا يَتَعَيَّنُ عِلْمُهُ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا انْتِفَاءُ عِلْمِ الْإِنْسَانِ بِمَوَاقِعِ الصَّوَابِ فِيمَا تَحَمَّلَ بِهِ، فَقَوْلُهُ: إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا مُؤْذِنٌ بِكَلَامٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ هُوَ عَلَيْهِ إِذِ التَّقْدِيرُ: وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ فَلَمْ يَفِ بِهَا إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: فَكَانَ ظَلُومًا جَهُولًا، أَيْ ظَلُومًا، أَيْ فِي عَدَمِ الْوَفَاءِ بِالْأَمَانَةِ لِأَنَّهُ إِجْحَافٌ بِصَاحِبِ الْحَقِّ فِي الْأَمَانَةِ أَيًّا كَانَ، وَجَهُولًا فِي عدم تَقْدِيره قَدْرِ إِضَاعَةِ الْأَمَانَةِ مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ الْمُتَفَاوِتَةِ الْمَرَاتِبِ فِي التَّبِعَةِ بِهَا، وَلَوْلَا هَذَا التَّقْدِيرُ لَمْ يَلْتَئِمِ الْكَلَامُ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَمْ يُحَمَّلِ الْأَمَانَةَ بِاخْتِيَارِهِ بَلْ فُطِرَ عَلَى تَحَمُّلِهَا.
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ ظَلُوماً جَهُولًا فِي فِطْرَتِهِ، أَيْ فِي طَبْعِ الظُّلْمِ، وَالْجَهْلِ فَهُوَ مُعَرَّضٌ لَهُمَا مَا لَمْ يَعْصِمْهُ وَازِعُ الدِّينِ، فَكَانَ مِنْ ظُلْمِهِ وَجَهْلِهِ أَنْ أَضَاعَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ الْأَمَانَةَ الَّتِي حَمَلَهَا.
وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ ضَمِيرَ إِنَّهُ عَائِدًا عَلَى الْإِنْسَانِ وَتَجْعَلَ عُمُومَهُ مَخْصُوصًا بِالْإِنْسَانِ الْكَافِرِ تَخْصِيصًا بِالْعَقْلِ لِظُهُورِ أَنَّ الظَّلُومَ الْجَهُولَ هُوَ الْكَافِرُ.
أَوْ تَجْعَلُ فِي ضَمِيرِ إِنَّهُ اسْتِخْدَامًا بِأَنْ يَعُودَ إِلَى الْإِنْسَانِ مُرَادًا بِهِ الْكَافِرُ وَقَدْ أُطْلِقَ
لَفْظُ الْإِنْسَانِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ مُرَادًا بِهِ الْكَافِرُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا [مَرْيَم: ٦٦] الْآيَةَ قَوْله: يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الانفطار: ٦] الْآيَاتِ.
وَفِي ذِكْرِ فَعْلِ كانَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ ظُلْمَهُ وَجَهْلَهُ وَصْفَانِ مُتَأَصِّلَانِ فِيهِ لِأَنَّهُمَا الْغَالِبَانِ عَلَى أَفْرَادِهِ الْمُلَازِمَانِ لَهَا كَثْرَةً أَوْ قِلَّةً.
فَصِيغَتَا الْمُبَالَغَةِ مَنْظُورٌ فِيهِمَا إِلَى الْكَثْرَةِ وَالشِّدَّةِ فِي أَكْثَرِ أَفْرَادِ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ وَالْحُكْمُ الَّذِي يُسَلَّطُ عَلَى الْأَنْوَاعِ وَالْأَجْنَاسِ وَالْقَبَائِلِ يُرَاعَى فِيهِ الْغَالِبُ وَخَاصَّةً فِي مَقَامِ التَّحْذِيرِ وَالتَّرْهِيبِ. وَهَذَا الْإِجْمَالُ يُبَيِّنُهُ قَوْلُهُ عَقِبَهُ: لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ
وَاخْتِيرَ هَؤُلَاءِ الرُّسُلُ السِّتَّةُ: لِأَن نوحًا الْقُدْرَة الْأُولَى، وَإِبْرَاهِيمَ هُوَ رَسُولُ الْمِلَّةِ الْحَنِيفِيَّةِ الَّتِي هِيَ نَوَاةُ الشَّجَرَةِ الطَّيِّبَةِ شَجَرَةِ الْإِسْلَامِ، وَمُوسَى لِشِبْهِ شَرِيعَتِهِ بِالشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فِي التَّفْصِيلِ وَالْجَمْعِ بَيْنَ الدِّينِ وَالسُّلْطَانِ، فَهَؤُلَاءِ الرُّسُلُ الثَّلَاثَةُ أُصُولٌ. ثُمَّ ذَكَرَ ثَلَاثَةَ رُسُلٍ تفرّعوا عَنْهُم وثلاثتهم عَلَى مِلَّةِ رُسُلِ مَنْ قَبْلَهُمْ. فَأَمَّا لُوطٌ فَهُوَ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَأَمَّا إِلْيَاسُ وَيُونُسُ فَعَلَى مِلَّةِ مُوسَى.
وَابْتَدَى بِقِصَّةِ نُوحٍ مَعَ قَوْمِهِ فَإِنَّهُ أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ وَهُوَ الْأُسْوَةُ الْأُولَى وَالْقُدْوَةُ الْمُثْلَى. وَابْتِدَاءُ الْقِصَّةِ بِذِكْرِ نِدَاءِ نُوحٍ رَبَّهُ مَوْعِظَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ لِيَحْذَرُوا دُعَاء الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ تَعَالَى بِالنَّصْرِ عَلَيْهِمْ كَمَا دَعَا نُوحٌ عَلَى قَوْمِهِ وَهَذَا النِّدَاءُ هُوَ الْمَحْكِيُّ فِي قَوْلِهِ: قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ [الْمُؤْمِنُونَ: ٢٦]، وَقَوْلِهِ: قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً الْآيَاتُ مِنْ سُورَةِ نُوحٍ [٢١].
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ تَفْرِيعٌ عَلَى نَادَانَا، أَيْ نَادَانَا فَأَجَبْنَاهُ، فَحَذَفَ الْمُفَرَّعَ لِدَلَالَةِ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ عَلَيْهِ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى فَأَجَبْنَاهُ جَوَابَ مَنْ يُقَالُ فِيهِ:
نِعْمَ الْمُجِيبُ. وَالْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ مَحْذُوفٌ، أَيْ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ نَحْنُ. وَضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِ الْمُشَارِكِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْظِيمِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ وَتَأْكِيدُ مَا فُرِّعَ عَلَيْهِ بِلَامِ الْقَسَمِ لِتَحْقِيقِ الْأَمْرَيْنِ تَحْذِيرًا لِلْمُشْرِكِينَ بَعْدَ تَنْزِيلِهِمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يُنْكِرُ أَنَّ نُوحًا دَعَا فَاسْتُجِيبَ لَهُ.
وَالتَّنْجِيَةُ: الْإِنْجَاءُ وَهُوَ جَعْلُ الْغَيْرِ نَاجِيًا. وَالنَّجَاةُ: الْخَلَاصُ مِنْ ضُرٍّ وَاقِعٍ.
وَأُطْلِقَتْ هُنَا عَلَى السَّلَامَةِ مِنْ ذَلِكَ قَبْلَ الْوُقُوعِ فِيهِ لِأَنَّهُ لَمَّا حَصَلَتْ سَلَامَتُهُ فِي حِينِ إِحَاطَةِ الضُّرِّ بِقَوْمِهِ نَزَلَتْ سَلَامَتُهُ مِنْهُ مَعَ قُرْبِهِ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ الْخَلَاصِ مِنْهُ بَعْدَ الْوُقُوعِ فِيهِ تَنْزِيلًا لِمُقَارَبَةِ وُقُوعِ الْفِعْلِ مَنْزِلَةَ وُقُوعِهِ، وَهَذَا إِطْلَاقٌ كَثِيرٌ لِلَفْظِ النَّجَاةِ بِحَيْثُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: النَّجَاةُ خَلَاصٌ مِنْ ضُرٍّ وَاقِعٍ أَوْ مُتَوَقَّعٍ.
وَالْمُرَادُ بِأَهْلِهِ: عَائِلَتُهُ إِلَّا مَنْ حَقَّ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ، وَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ قَومِهِ، قَالَ
تَعَالَى: قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ
وَقَوْلُهُ: وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ رُجُوعٌ إِلَى ضَرْبٍ مِنْ إِيهَامِ الشَّكِّ فِي صِدْقِ مُوسَى لِيَكُونَ كَلَامُهُ مُشْتَمِلًا عَلَى احْتِمَالَيْ تَصْدِيقٍ وَتَكْذِيبٍ يَتَدَاوَلُهُمَا فِي كَلَامِهِ فَلَا يُؤْخَذُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُصَدِّقٌ لِمُوسَى بَلْ يُخَيِّلُ إِلَيْهِمْ أَنَّهُ فِي حَالَةِ نَظَرٍ وَتَأَمُّلٍ لِيَسُوقَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ إِلَى أَدِلَّةِ صِدْقِ مُوسَى بِوَجْهٍ لَا يُثِيرُ نُفُورَهُمْ، فَالْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ فَتَكُونُ حَالًا.
وَقَدَّمَ احْتِمَالَ كَذِبِهِ عَلَى احْتِمَالِ صِدْقِهِ زِيَادَةً فِي التَّبَاعُدِ عَنْ ظَنِّهِمْ بِهِ الِانْتِصَارَ لِمُوسَى فَأَرَادَ أَنْ يُظْهِرَ فِي مَظْهَرِ الْمُهْتَمِّ بِأَمْرِ قَوْمِهِ ابْتِدَاءً.
وَمَعْنَى: وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ اسْتِنْزَالُهُمْ لِلنَّظَرِ، أَيْ فَعَلَيْكُمْ بِالنَّظَرِ فِي آيَاتِهِ وَلَا تَعْجَلُوا بِقَتْلِهِ وَلَا بِاتِّبَاعِهِ فَإِنْ تَبَيَّنَ لَكُمْ كَذِبُهُ فِيمَا تَحَدَّاكُمْ بِهِ وَمَا أَنْذَرَكُمْ بِهِ مِنْ مَصَائِبَ فَلَمْ يَقَعْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّكُمْ ذَلِكَ شَيْئًا وَعَادَ كَذِبُهُ عَلَيْهِ بِأَنْ يُوسَمَ بِالْكَاذِبِ، وَإِنْ تَبَيَّنَ لَكُمْ صِدْقُهُ يُصِبْكُمْ بَعْضُ مَا تَوَعَّدَكُمْ بِهِ، أَيْ تُصِبْكُمْ بَوَارِقُهُ فَتَعْلَمُوا صِدْقَهُ فَتَتَّبِعُوهُ، وَهَذَا وَجْهُ التَّعْبِيرِ بِ بَعْضُ دُونَ أَنْ يَقُولَ: يُصِبْكُمُ الَّذِي يَعِدُكُمْ بِهِ. وَالْمُرَادُ بِالْوَعْدِ هُنَا الْوَعْدُ بِالسُّوءِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْوَعِيدِ. أَيْ فَإِنِ اسْتَمْرَرْتُمْ عَلَى الْعِنَادِ يُصِبْكُمْ جَمِيعُ مَا تَوَعَّدَكُمْ بِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.
وَقَدْ شَابَهَ مَقَامُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ مَقَامَ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ إِذْ آمَنَ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ سَمِعَ دَعْوَتَهُ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ آلِهِ، وَيَوْمَ جَاءَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَالنَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ) يَخْنُقُهُ بِثَوْبِهِ فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ بِمَنْكِبِ عَقَبِةِ وَدَفَعَهُ وَقَالَ: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: «وَاللَّهِ لَيَوْمُ أَبِي بَكْرٍ خَيْرٌ مِنْ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ، إِنَّ مُؤْمِنَ آلِ فِرْعَوْنَ رَجُلٌ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يُظْهِرُ إِيمَانَهُ وَبَذَلَ مَالَهُ وَدَمَهُ»
. وَأَقُولُ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ أَقْوَى يَقِينًا مِنْ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ لِأَنَّ مُؤْمِنَ آلِ فِرْعَوْنَ كَتَمَ إِيمَانَهُ وَأَبُو بَكْرٍ أَظْهَرَ إِيمَانَهُ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ يَجُوزُ أَنَّهَا مِنْ قَوْلِ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ، فَالْمَقْصُودُ مِنْهَا تَعْلِيلُ قَوْلِهِ: وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ أَيْ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُقِرُّهُ عَلَى كَذِبِهِ فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا عَلَى
[٤٦]
[سُورَة الشورى (٤٢) : آيَة ٤٦]وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (٤٦)
وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ.
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ [الشورى: ٤٥] أَيْ هُمْ فِي عَذَابٍ دَائِمٍ لَا يَجِدُونَ مِنْهُ نَصِيرًا. وَهُوَ رَدٌّ لِمَزَاعِمِهِمْ أَنَّ آلِهَتَهُمْ تَنْفَعُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ.
وَجُمْلَةُ يَنْصُرُونَهُمْ صِفَةٌ لِ أَوْلِياءَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا وِلَايَةٌ خَاصَّةٌ، وَهِيَ وِلَايَةُ النَّصْرِ، كَمَا كَانَ قَوْلُهُ سَابِقًا وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ [الشورى: ٤٤] مُرَادًا بِهِ وِلَايَةُ الْإِرْشَادِ.
ومِنْ زَائِدَةٌ فِي النَّفْيِ لِتَأْكِيدِ نَفْيِ الْوَلِيِّ لَهُمْ. وَقَوْلُهُ: مِنْ دُونِ اللَّهِ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِ أَوْلِياءَ وَهِيَ صِفَةٌ كَاشِفَةٌ. ومِنْ زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ تَعَلُّقِ ظَرْفِ دُونِ بِالْفِعْلِ.
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ.
تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ، وَتَقَدَّمَ آنِفًا الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِهِ وَهُوَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ.
وسَبِيلٍ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَيَعُمُّ كُلَّ سَبِيلٍ مُخَلِّصٍ مِنَ الضَّلَالِ وَمِنْ آثَارِهِ وَالْمَقْصُودُ هُنَا ابْتِدَاءً هُوَ سَبِيلُ الْفِرَارِ مِنَ الْعَذَابِ الْمُقِيمِ كَمَا يَقْتَضِيهِ السِّيَاقُ. وَبِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَا هُنَا تَأْكِيدًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ.
[٤٧]
[سُورَة الشورى (٤٢) : آيَة ٤٧]
اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (٤٧)
بَعْدَ أَنْ قَطَعَ خِطَابَهُمْ عَقِبَ قَوْلِهِ: فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا [الشورى:
٣٦] بِمَا تَخَلَّصَ بِهِ إِلَى الثَّنَاءِ عَلَى فِرَقِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَا اسْتَتْبَعَ ذَلِكَ مِنَ التَّسْجِيلِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ
وَتَعَهُّدِهِمْ بِإِعَانَةِ الْمُشْرِكِينَ، وَذَلِكَ مِمَّا يُوجِسُ مِنْهُ الْمُؤْمِنُونَ خِيفَةً إِذْ يَعْلَمُونَ أَنَّ أَعْدَاءً لَهُمْ مُنْبَثُّونَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ.
فَعَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ فَرَّعَ نَهْيَهُمْ عَنِ الْوَهَنِ وَعَنِ الْمَيْلِ إِلَى الدَّعَةِ وَوَعْدَهُمْ بِأَنَّهُمُ الْمُنْتَصِرُونَ وَأَنَّ اللَّهَ مُؤَيِّدُهُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ التَّفْرِيعُ عَلَى أَقْرَبِ الْأَخْبَارِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ:
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ [مُحَمَّد: ٣١].
وَهَذَا النَّهْيُ عَنِ الْوَهَنِ وَعَنِ الدُّعَاءِ إِلَى السَّلْمِ تَحْذِيرٌ مِنْ أَمْرٍ تَوَفَّرَتْ أَسْبَابُ حُصُولِهِ مُتَهَيِّئَةً لِلْإِقْدَامِ عَلَى الْحَرْبِ عِنْدَ الْأَمْرِ بِهَا وَلَيْسَ نَهْيًا عَنْ وَهَنٍ حَصَلَ لَهُمْ وَلَا عَنْ دُعَائِهِمْ إِلَى السَّلْمِ لِأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ غَزْوَةِ بَدْرٍ وَقَبْلَ غَزْوَةِ أُحُدٍ فِي مُدَّةٍ لَمْ يَكُنْ فِيهَا قِتَالٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ وَلَكِنَّ التَّحْذِيرَ مِنْ أَنْ يَسْتَوْهِنَهُمُ الْمُنَافِقُونَ عِنْدَ تَوَجُّهِ أَمْرِ الْقِتَالِ فَيَقُولُوا: لَوْ سَالَمْنَا الْقَوْمَ مُدَّةً حَتَّى نَسْتَعِيدَ عُدَّتَنَا وَنَسْتَرْجِعَ قُوَّتَنَا بَعْدَ يَوْمِ بَدْرٍ، وَقَدْ كَانَ أَبُو سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا رَجَعُوا إِلَى مَكَّةَ مَفْلُولِينَ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، يَتَرَبَّصُونَ بِالْمُسْلِمِينَ فُرْصَةً يُقَاتِلُونَهُمْ فِيهَا لِمَا ضَايَقَهُمْ مِنْ تَعَرُّضِ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ فِي طَرِيقِ تِجَارَتِهِمْ إِلَى الشَّامِ مِثْلَ مَا وَقَعَ فِي غَزْوَةِ السَّوِيقِ، وَغَزْوَةِ ذِي قَرَدٍ، فَلَمَّا كَانَ فِي الْمَدِينَةِ مُنَافِقُونَ وَكَانَ عِنْدَ أَهْلِ مَكَّةَ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ يَثْرِبَ خَرَجُوا مِنْهَا مَعَ أبي عَامر الضبغي الْمُلَقَّبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِالرَّاهِبِ وَالَّذِي غيّر النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَبَهُ فَلَقَّبَهُ الْفَاسِقَ.
كَانَ مِنَ الْمُتَوَقَّعِ أَنْ يَكِيدَ لِلْمُسْلِمِينَ أَعْدَاؤُهُمْ مِنْ أَهْلِ يَثْرِبَ فَيُظَاهِرُوا عَلَيْهِمُ الْمُشْرِكِينَ مُتَسَتِّرِينَ بِعِلَّةِ طَلَبِ السَّلْمِ فَحَذَّرَهُمُ اللَّهُ مِنْ أَنْ يَقَعُوا فِي هَذِهِ الْحِبَالَةِ.
وَالْوَهَنُ: الضَّعْفُ وَالْعَجْزُ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي طَلَبِ الدَّعَةِ. وَمَعْنَاهُ: النَّهْيُ عَنْ إِسْلَامِ أَنْفُسِهِمْ لِخَوَاطِرِ الضَّعْفِ، وَالْعَمَلُ بِهَذَا النَّهْيِ يكون باستحضار مساوي تِلْكَ الْخَوَاطِرِ فَإِنَّ الْخَوَاطِرَ الشِّرِّيرَةَ إِذَا لَمْ تُقَاوِمْهَا هِمَّةُ الْإِنْسَانِ دَبَّتْ فِي نَفْسِهِ رُوَيْدًا رُوَيْدًا حَتَّى تَتَمَكَّنَ
مِنْهَا فَتُصْبِحَ مَلَكَةً وَسَجِيَّةً. فَالْمَعْنَى: ادْفَعُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ خَوَاطِرَ الْوَهَنِ وَاجْتَنِبُوا مَظَاهِرَهُ، وَأَوَّلُهَا الدُّعَاءُ إِلَى السَّلْمِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالنَّهْيِ. وَالنَّهْيُ عَنِ الْوَهَنِ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَوْمَئِذٍ فِي حَالِ وَهَنٍ.
وَيُسَمُّونَهَا الْحَنِيفِيَّةَ وَرُبَّمَا ادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّهُ عَلَى إِثَارَةٍ مِنْهَا مِثْلُ: زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ.
وَأَمَّا صُحُفُ مُوسَى فَهِيَ مُشْتَهِرَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَالْعَرَبُ يُخَالِطُونَ الْيَهُودَ فِي خَيْبَرَ وَقُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ وَتَيْمَا، وَيُخَالِطُونَ نَصَارَى نَجْرَانَ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسى [الْقَصَص: ٤٨].
وَتَقْدِيمُ صُحُفِ مُوسى لِأَنَّهَا اشْتُهِرَتْ بِسِعَةِ مَا فِيهَا مِنَ الْهُدَى وَالشَّرِيعَةِ، وَأَمَّا صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ فَكَانَ الْمَأْثُورُ مِنْهَا أَشْيَاءَ قَلِيلَةً. وَقُدِّرَتْ بِعَشْرِ صُحُفٍ، أَيْ مِقْدَارُ عَشْرِ وَرَقَاتٍ بِالْخَطِّ الْقَدِيمِ، تَسَعُ الْوَرَقَةُ قُرَابَةَ أَرْبَعِ آيَاتٍ مِنْ آيِ الْقُرْآنِ بِحَيْثُ يكون مَجْمُوع ملفي صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ مِقْدَارَ أَرْبَعِينَ آيَةً.
وَإِنَّمَا قُدِّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْلَى صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ عَلَى صُحُفِ مُوسَى مُرَاعَاةً لِوُقُوعِهِمَا بَدَلًا مِنَ الصُّحُفِ الْأُولَى فَقَدَّمَ فِي الذَّكَرِ أَقْدَمَهُمَا.
وَعِنْدِي أَن تَأْخِير ذكر صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ لِيَقَعَ مَا بَعْدَهَا هُنَا جَامِعًا لِمَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ فَتَكُونُ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ هِيَ الْكَلِمَاتِ الَّتِي ابْتَلَى اللَّهُ بِهَا إِبْرَاهِيمَ الْمَذْكُورَةَ فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٢٤] : وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ أَيْ بَلَّغَهُنَّ إِلَى قَوْمِهِ وَمَنْ آمَنَ بِهِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ هُنَا الَّذِي وَفَّى فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: فَأَتَمَّهُنَّ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٢٤].
وَوَصْفُ إِبْرَاهِيمَ بِذَلِكَ تَسْجِيلٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ بَلَّغَ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ إِلَى قَوْمِهِ وَذُرِّيَّتِهِ وَلَكِنَّ الْعَرَبَ أَهْمَلُوا ذَلِكَ وَاعْتَاضُوا عَنِ الْحَنِيفِيَّةِ بِالْإِشْرَاكِ.
وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ وَفَّى لِيَشْمَلَ تَوْفِيَاتٍ كَثِيرَةً مِنْهَا مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ وَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا [الصافات: ١٠٥].
وَقَوْلُهُ: أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ مَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمُ بَدَلٌ مُفَصَّلٌ مِنْ مُجْمَلٍ، فَتَكُونُ (أَنْ) مُخَفَّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ. وَالتَّقْدِيرُ: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِأَنَّهُ لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (أَنْ) تَفْسِيرِيَّةً فَسَّرَتْ مَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ لِأَنَّ مَا
وَهَذِهِ السُّورَةُ مَدَنِيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ.
وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْعَدَدِ عَلَى عَدِّ آيِهَا ثَلَاثَ عَشْرَةَ آيَةً. وَآيَاتُهَا طِوَالٌ.
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْآيَةَ الْأُولَى نَزَلَتْ فِي شَأْنِ كِتَابِ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى
الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ.
رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ يَبْلُغُ بِهِ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قِصَّةَ كِتَابِ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ ثُمَّ قَالَ: قَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: نَزَلَتْ فِيهِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ [الممتحنة: ١] قَالَ سُفْيَانُ: هَذَا فِي حَدِيثِ النَّاسِ لَا أَدْرِي الْآيَة فِي الْحَدِيثِ أَوْ قَوْلِ عَمْرٍو. حَفِظْتُهُ مِنْ عَمْرٍو وَمَا تَرَكَتُ مِنْهُ حَرْفًا اه.
وَفِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ وَزُهَيْرٍ (مِنَ الْخَمْسَةِ الَّذِينَ رَوَى عَنْهُمْ مُسْلِمٌ يَرْوُونَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ) ذِكْرَ الْآيَةِ. وَجَعَلَهَا إِسْحَاقُ (أَيْ ابْن إِبْرَاهِيمَ أَحَدُ مِنْ رَوَى عَنْهُمْ مُسْلِمٌ هَذَا الْحَدِيثَ) فِي رِوَايَتِهِ مِنْ تِلَاوَةِ سُفْيَانَ اه. وَلَمْ يَتَعَرَّضْ مُسْلِمٌ لِرِوَايَةِ عَمْرٍو النَّاقِدِ وَابْنِ أَبِي عُمَرَ عَنْ سُفْيَانَ فَلَعَلَّهُمَا لَمْ يَذْكُرَا شَيْئًا فِي ذَلِكَ.
وَاخْتَلَفُوا فِي آنِ كِتَابَهِ إِلَيْهِمْ أَكَانَ عِنْدَ تَجَهُّزِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْحُدَيْبِيَةِ وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ وَدَرَجَ عَلَيْهِ ابْنُ عَطِيَّةَ وَهُوَ مُقْتَضَى رِوَايَةِ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيِّ بِنِ أَبِي طَالِبٍ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ، قَالَ: لَمَّا أَرَادَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْتِيَ مَكَّةَ أَفْشَى فِي النَّاسِ أَنَّهُ يُرِيدُ خَيْبَرَ وَأَسَرَّ إِلَى نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ مِنْهُمْ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ أَنَّهُ يُرِيدُ مَكَّةَ. فَكَتَبَ حَاطِبٌ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ... إِلَى آخِرِهِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: أَفْشَى، أَنَّهُ يُرِيدُ خَيْبَرَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِرَادَتَهُ مَكَّةَ إِنَّمَا هِيَ إِرَادَةُ عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ لَا غَزْوِ مَكَّةَ لِأَنَّ خَيْبَرَ فُتِحَتْ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ أَنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي أَرْسَلَ مَعَهَا حَاطِبٌ كِتَابَهُ كَانَ مَجِيئُهَا الْمَدِينَةَ بَعْدَ غَزْوَةِ بَدْرٍ بِسَنَتَيْنِ: وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ سَنَةَ سِتٍّ.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ: كَانَ كِتَابُ حَاطِبٍ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ عِنْدَ تَجَهُّزِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَتْحِ مَكَّةَ، وَهُوَ ظَاهِرُ صَنِيعِ جُمْهُورِ أَهْلِ السِّيَرِ وَصَنِيعِ الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي مِنْ «صَحِيحِهِ» فِي تَرْتِيبِهِ لِلْغَزَوَاتِ، وَدَرَجَ عَلَيْهِ مُعْظَمُ الْمُفَسِّرِينَ.
مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ أَصْلُهُ صَدْرُ جُمْلَةِ الْجَوَابِ، وَهُوَ مُبْتَدَأُ خَبَرِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ كَمَا سَيَأْتِي.
وَدَلَّ قَوْلُهُ: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ عَلَى كَلَامٍ مَحْذُوفٍ لِلْإِيجَازِ تَقْدِيرُهُ فَيُؤْتَى كُلُّ أَحَدٍ كِتَابَ أَعْمَالِهِ، فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ إِلَخْ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ [الشُّعَرَاء: ٦٣].
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِيَمِينِهِ لِلْمُصَاحَبَةِ أَوْ بِمَعْنَى (فِي).
وَإِيتَاءُ الْكِتَابِ بِالْيَمِينِ عَلَامَةٌ عَلَى أَنَّهُ إِيتَاءُ كَرَامَةٍ وَتَبْشِيرٍ، وَالْعَرَبُ يَذْكُرُونَ التَّنَاوُلَ بِالْيَمِينِ كِنَايَةً عَنِ الْاهْتِمَامِ بِالْمَأْخُوذِ وَالْاعْتِزَازِ بِهِ، قَالَ الشَّمَّاخُ:
إِذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ | تَلَقَّاهَا عَرَابَةٌ بِالْيَمِينِ |
وَجُمْلَةُ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ جَوَابُ شَرْطِ (أمّا) وَهُوَ مغن عَنْ خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ، وَهَذَا الْقَوْلُ قَوْلُ ذِي بَهْجَةٍ وَحُبُورٍ يَبْعَثَانِ عَلَى إِطْلَاعِ النَّاسِ عَلَى مَا فِي كِتَابِ أَعْمَالِهِ مِنْ جَزَاءٍ فِي مَقَامِ الْاغْتِبَاطِ وَالْفِخَارِ، فَفِيهِ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِ مِنْ حُبُورٍ وَنَعِيمٍ فَإِنَّ الْمَعْنَى الْكِنَائِيَّ هُوَ الْغَرَضُ الْأَهَمُّ مِنْ ذِكْرِ الْعَرْضِ.
وهاؤُمُ مُرَكَّبٌ مِنْ (هَاءٍ) مَمْدُودًا وَمَقْصُورًا وَالْمَمْدُودُ مَبْنِيٌّ عَلَى فَتْحِ الْهَمْزَةِ إِذَا تَجَرَّدَ عَنْ عَلَامَاتِ الْخِطَابِ مَا عَدَا الْمُوَجَّهَ إِلَى امْرَأَةٍ فَهُوَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ دُونَ يَاءٍ. وَإِذَا خُوطِبَ بِهِ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ الْتُزِمَ مُدَّهُ لِيَتَأَتَّى إِلْحَاقُ عَلَامَةَ خِطَابٍ كَالْعَلَامَةِ الَّتِي تَلْحَقُ ضَمِيرَ الْمُخَاطَبِ وَضَمُّوا هَمْزَتَهُ ضَمَّةً كَضَمَّةِ ضَمِيرِ الْخِطَابِ إِذْ لَحِقَتْهُ عَلَامَةُ التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ، فَيُقَالُ: هَاؤُمَا، كَمَا يُقَالُ: أَنْتُمَا، وَهَاؤُمُ كَمَا يُقَالُ: أَنْتُمْ، وَهَاؤُنَّ كَمَا يُقَالُ: أَنْتُنَّ، وَمِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ مَنِ ادَّعَى أَنَّ هاؤُمُ أَصله: هاأمّوا مُرَكَّبًا مِنْ كَلِمَتَيْنِ (هَا) وَفِعْلِ أَمْرٍ لِلْجَمَاعَةِ مِنْ فِعْلِ أَمَّ، إِذَا قُصِدَ، ثُمَّ خُفِّفَ لِكَثْرَةِ الْاسْتِعْمَالِ، وَلَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ هَاؤُمَيْنِ فِي خِطَابِ جَمَاعَةِ النِّسَاءِ، وَفِيهِ لُغَاتٌ أُخْرَى وَاسْتِعْمَالَاتٌ فِي اتِّصَالِ كَافِ الْخِطَابِ بِهِ تَقَصَّاهَا الرَّضِيُّ فِي شَرْحِ «الْكَافِيَةِ» وَابْنُ مَكْرَمٍ فِي «لِسَانِ الْعَرَبِ».
ذَلِكَ مِنْ بَدِيعِ التَّكْوِينِ سَوَاءٌ رَأَى ذَلِكَ بِبَصَرِهِ أَمْ لَمْ يَرَهُ، وَلَا يَخْلُو أَحَدٌ عَنْ عِلْمٍ إِجْمَالِيٍّ بِذَلِكَ، فَيَزِيدُهُ هَذَا الْوَصْفُ عِلْمًا تَفْصِيلِيًّا، وَفِي جَمِيعِ تِلْكَ الْأَطْوَارِ تَمْثِيلٌ لِإِحْيَاءِ الْأَجْسَادِ الْمُسْتَقِرَّةِ فِي الْأَرْضِ، فَقَدْ يَكُونُ هَذَا التَّمْثِيلُ فِي مُجَرَّدِ الْهَيْئَةِ الْحَاصِلَةِ بِإِحْيَاءِ الْأَجْسَادِ، وَقَدْ يَكُونُ تَمْثِيلًا فِي جَمِيعِ تِلْكَ الْأَطْوَارِ بِأَنْ تُخْرَجَ الْأَجْسَادُ مِنَ الْأَرْضِ كَخُرُوجِ النَّبَاتِ بِأَنْ يَكُونَ بَذْرُهَا فِي الْأَرْضِ وَيُرْسِلُ اللَّهُ لَهَا قُوًى لَا نَعْلَمُهَا تُشَابِهُ قُوَّةَ الْمَاءِ الَّذِي بِهِ تَحْيَا بُذُورُ النَّبَاتِ، قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً [نوح: ١٧، ١٨].
وَفِي «تَفْسِيرِ ابْنِ كَثِيرٍ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ [التكوير: ٧] عَن ابْن
[أبي] (١) حَاتِمٍ بِسَنَدِهِ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ: «يَسِيلُ وَادٍ مِنْ أَصْلِ الْعَرْشِ فِيمَا بَيْنَ الصَّيْحَتَيْنِ فَيَنْبُتُ مِنْهُ كُلُّ خَلْقٍ بَلِيَ إِنْسَانٍ أَوْ دَابَّةٍ وَلَوْ مَرَّ عَلَيْهِمْ مَارٌّ قَدْ عَرَفَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ لَعَرَفَهُمْ قَدْ نَبَتُوا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، ثُمَّ تُرْسَلُ الْأَرْوَاحُ فَتُزَوَّجُ الْأَجْسَادَ» اهـ. وَأُمُورُ الْآخِرَةِ لَا تَتَصَوَّرُهَا الْأَفْهَامُ بِالْكُنْهِ وَإِنَّمَا يَجْزِمُ الْعَقْلُ بِأَنَّهَا مِنَ الْمُمْكِنَاتِ وَهِيَ مُطِيعَةٌ لِتَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ التَّنْجِيزِيِّ.
وَالْإِنْسَانُ الْمَذْكُورُ هُنَا هُوَ الْإِنْسَانُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: قُتِلَ الْإِنْسانُ مَا أَكْفَرَهُ [عبس: ١٧] وَإِنَّمَا جِيءَ بِاسْمِهِ الظَّاهِرِ دُونَ الضَّمِيرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [عبس: ١٨]، لِأَنَّ ذَلِكَ قَرِيبٌ مِنْ مَعَادِهِ وَمَا هُنَا ابْتِدَاءُ كَلَامٍ فَعُبِّرَ فِيهِ بِالِاسْمِ الظَّاهِرِ لِلْإِيضَاحِ.
وَأُدْمِجَ فِي ذَلِكَ مِنَّةً عَلَيْهِ بِالْإِمْدَادِ بِالْغِذَاءِ الَّذِي بِهِ إِخْلَافُ مَا يَضْمَحِلُّ مِنْ قُوَّتِهِ بِسَبَبِ جُهُودِ الْعَقْلِ وَالتَّفْكِيرِ الطَّبِيعِيَّةِ الَّتِي لَا يُشْعَرُ بِحُصُولِهَا فِي دَاخِلِ الْمِزَاجِ، وَبِسَبَبِ كَدِّ الْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْإِفْرَازَاتِ، وَتِلْكَ أَسْبَابٌ لِتَبَخُّرِ الْقُوَى الْبَدَنِيَّةِ فَيَحْتَاجُ الْمِزَاجُ إِلَى تَعْوِيضِهَا وَإِخْلَافِهَا وَذَلِكَ بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ.
وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ النَّظَرُ بِالطَّعَامِ مَعَ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ هُوَ بِأَحْوَالِ تَكْوِينِ الطَّعَامِ، إِجْرَاءً لِلْكَلَامِ عَلَى الْإِيجَازِ وَيُبَيِّنُهُ مَا فِي الْجُمَلِ بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا إِلَى آخِرِهَا.
فَالتَّقْدِيرُ: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى خَلْقِ طَعَامِهِ وَتَهْيِئَةِ الْمَاءِ لِإِنْمَائِهِ وَشَقِّ الْأَرْضِ وَإِنْبَاتِهِ وَإِلَى انْتِفَاعِهِ بِهِ وَانْتِفَاعِ مَوَاشِيهِ فِي بَقَاءِ حَيَاتِهِمْ.
_________
(١) زِيَادَة من «تَفْسِير ابْن كثير» عِنْد شرح الْآيَة، وَالنَّقْل مِنْهُ بِتَصَرُّف.