وَأَيًّا مَا كَانَ فَفَاتِحَةٌ وَصْفٌ وُصِفَ بِهِ مَبْدَأُ الْقُرْآنِ وَعُومِلَ مُعَامَلَةَ الْأَسْمَاءِ الْجِنْسِيَّةِ، ثُمَّ أُضِيفَ إِلَى الْكِتَابِ ثُمَّ صَارَ هَذَا الْمُرَكَّبُ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ عَلَى هَذِهِ السُّورَةِ.
وَمَعْنَى فَتْحِهَا الْكِتَابَ أَنَّهَا جُعِلَتْ أَوَّلَ الْقُرْآنِ لِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ مِنْ أَوَّلِهِ فَتَكُونُ فَاتِحَةً بِالْجَعْلِ النَّبَوِيِّ فِي تَرْتِيبِ السُّوَرِ، وَقِيلَ لِأَنَّهَا أَوَّلُ مَا نَزَلَ وَهُوَ ضَعِيفٌ لِمَا ثَبَتَ فِي «الصَّحِيحِ» وَاسْتَفَاضَ أَنَّ أَوَّلَ مَا أُنْزِلَ سُورَةُ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: ١]، وَهَذَا مِمَّا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُتَرَدَّدَ فِيهِ. فَالَّذِي نَجْزِمُ بِهِ أَنَّ سُورَةَ الْفَاتِحَةِ بَعْدَ أَنْ نَزَلَتْ أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ أَنْ يَجْعَلَهَا أَوَّلَ مَا يُقْرَأُ فِي تِلَاوَتِهِ.
وَإِضَافَةُ سُورَةٍ إِلَى فَاتِحَةِ الْكِتَابِ فِي قَوْلِهِمْ سُورَةُ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ مِنْ إِضَافَةِ الْعَامِّ إِلَى الْخَاصِّ بِاعْتِبَارِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ عَلَمًا عَلَى الْمِقْدَارِ الْمَخْصُوصِ مِنَ الْآيَاتِ مِنَ الْحَمْدُ لِلَّهِ إِلَى الضَّالِّينَ [الْفَاتِحَة: ٢- ٧]، بِخِلَافِ إِضَافَةِ سُورَةٍ إِلَى مَا أُضِيفَتْ إِلَيْهِ فِي بَقِيَّةِ سُوَرِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهَا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ سُورَةُ ذِكْرِ كَذَا، وَإِضَافَةُ الْعَامِّ إِلَى الْخَاصِّ وَرَدَتْ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مِثْلَ قَوْلِهِمْ شَجَرُ الْأَرَاكِ وَيَوْمُ الْأَحَدِ وَعِلْمُ الْفِقْهِ، وَنَرَاهَا قَبِيحَةً لَوْ قَالَ قَائِلٌ إِنْسَانٌ زِيدٌ، وَذَلِكَ بَادٍ لِمَنْ لَهُ أَدْنَى ذَوْقٍ إِلَّا أَنَّ عُلَمَاءَ الْعَرَبِيَّةِ لَمْ يُفْصِحُوا عَنْ وَجْهِ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا هُوَ مَقْبُولٌ مِنْ هَذِهِ الْإِضَافَةِ وَبَيْنَ مَا هُوَ قَبِيحٌ فَكَانَ حَقًّا أَنْ أُبَيِّنَ وَجْهَهُ: وَذَلِكَ أَنَّ إِضَافَةَ الْعَامِّ إِلَى الْخَاصِّ تَحْسُنُ إِذَا كَانَ الْمُضَافُ وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ اسْمَيْ جِنْسٍ وَأَوَّلُهُمَا أَعَمَّ من الثَّانِي، فَهُنَا لَك يَجُوزُ التَّوَسُّعُ بِإِضَافَةِ الْأَعَمِّ إِلَى الْأَخَصِّ إِضَافَةً مَقْصُودًا مِنْهَا الِاخْتِصَارُ، ثُمَّ تُكْسِبُهَا غَلَبَةُ الِاسْتِعْمَالِ قَبُولًا نَحْوَ قَوْلِهِمْ شَجَرُ الْأَرَاكِ، عِوَضًا عَنْ أَن يَقُولُوا الشّجر الَّذِي هُوَ الْأَرَاك، وَيَوْم الْأَحَد عوضا عَن أَنْ يَقُولُوا يَوْمٌ هُوَ الْأَحَدُ وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ جَائِزًا غَيْرَ مَقْبُولٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَشِعْ فِي الِاسْتِعْمَالِ كَمَا لَوْ قُلْتَ حَيَوَانٌ الْإِنْسَانُ فَأَمَّا إِذَا كَانَ أَحَدُ الْمُتَضَايِفَيْنِ غَيْرَ اسْمِ جِنْسٍ فَالْإِضَافَةُ فِي مِثْلِهِ مُمْتَنِعَةٌ فَلَا يُقَالُ إِنْسَانٌ زَيْدٌ وَلِهَذَا جُعِلَ قَوْلُ النَّاسِ: شَهْرُ رَمَضَانَ عَلَمًا عَلَى الشَّهْرِ الْمَعْرُوفِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ لَفْظَ رَمَضَانَ خَاصٌّ بِالشَّهْرِ الْمَعْرُوفِ لَا يَحْتَمِلُ مَعْنًى آخَرَ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ كَلِمَةِ شَهْرٍ مَعَهُ قَبِيحًا لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ مِنْهُ لَوْلَا أَنَّهُ شَاعَ حَتَّى صَارَ مَجْمُوعُ الْمُرَكَّبِ الْإِضَافِيِّ عَلَمًا عَلَى ذَلِكَ الشَّهْرِ.
وَيَصِحُّ عِنْدِي أَنْ تَكُونَ إِضَافَةُ السُّورَةِ إِلَى فَاتِحَةِ الْكِتَابِ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ، كَقَوْلِهِمْ مَسْجِدُ الْجَامِعِ، وَعِشَاءُ الْآخِرَةِ، أَيْ سُورَةٌ مَوْصُوفَةٌ بِأَنَّهَا فَاتِحَةُ الْكِتَابِ
وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [الْبَقَرَة: ٤٥] ثُمَّ ذَكَرَ مَوَاقِعَهُ الَّتِي لَا يَعْدُوهَا وَهِيَ حَالَةُ الشِّدَّةِ، وَحَالَةُ الضُّرِّ، وَحَالَةُ الْقِتَالِ، فَالْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ اسْمَانِ عَلَى وَزْنِ فَعَلَاءَ وَلَيْسَا
وَصْفَيْنِ إِذْ لَمْ يُسْمَعْ لَهُمَا أَفْعَلُ مُذَكَّرًا، وَالْبَأْسَاءُ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْبُؤْسِ وَهُوَ سُوءُ الْحَالَةِ مِنْ فَقْرٍ وَنَحْوِهِ مِنَ الْمَكْرُوهِ، قَالَ الرَّاغِبُ: وَقَدْ غَلَبَ فِي الْفَقْرِ وَمِنْهُ الْبَئِيسُ الْفَقِيرُ، فَالْبَأْسَاءُ الشِّدَّةُ فِي الْمَالِ، وَالضَّرَّاءُ شِدَّةُ الْحَالِ عَلَى الْإِنْسَانِ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الضُّرِّ وَيُقَابِلُهَا السَّرَّاءُ وَهِيَ مَا يَسُرُّ الْإِنْسَانَ مِنْ أَحْوَالِهِ، وَالْبَأْسُ النِّكَايَةُ وَالشِّدَّةُ فِي الْحَرْبِ وَنَحْوُهَا كَالْخُصُومَةِ قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ [النَّمْل: ٣٣] بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ [الْحَشْر: ١٤] وَالشَّرُّ أَيْضًا بَأْسٌ وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْحَرْبُ.
فَلِلَّهِ هَذَا الِاسْتِقْرَاءُ الْبَدِيعُ الَّذِي يَعْجِزُ عَنْهُ كُلُّ خَطِيبٍ وَحَكِيمٍ غَيْرَ الْعَلَّامِ الْحَكِيمِ.
وَقَدْ جُمِعَتْ هَذِهِ الْخِصَالُ جِمَاعَ الْفَضَائِلِ الْفَرْدِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ النَّاشِئِ عَنْهَا صَلَاحُ أَفْرَادِ الْمُجْتَمَعِ مِنْ أُصُولِ الْعَقِيدَةِ وَصَالِحَاتِ الْأَعْمَالِ.
فَالْإِيمَانُ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ هُمَا مَنْبَعُ الْفَضَائِلِ الْفَرْدِيَّةِ، لِأَنَّهُمَا يَنْبَثِقُ عَنْهُمَا سَائِرُ التَّحَلِّيَّاتِ الْمَأْمُورِ بِهَا، وَالزَّكَاةُ وَإِيتَاءُ الْمَالِ أَصْلُ نِظَامِ الْجَمَاعَةِ صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا، وَالْمُوَاسَاةُ تَقْوَى عَنْهَا الْأُخُوَّةُ وَالِاتِّحَادُ وَتُسَدِّدُ مَصَالِحَ للْأمة كَثِيرَة ويبذل الْمَالِ فِي الرِّقَابِ يَتَعَزَّزُ جَانِبُ الْحُرِّيَّةِ الْمَطْلُوبَةِ لِلشَّارِعِ حَتَّى يَصِيرَ النَّاسُ كُلُّهُمْ أَحْرَارًا. وَالْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ فِيهِ فَضِيلَةٌ فَرْدِيَّةٌ وَهِيَ عُنْوَانُ كَمَالِ النَّفْسِ، وَفَضِيلَةٌ اجْتِمَاعِيَّةٌ وَهِيَ ثِقَةُ النَّاسِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ.
وَالصَّبْرُ فِيهِ جِمَاعُ الْفَضَائِلِ وَشَجَاعَةُ الْأُمَّةِ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى هُنَا: أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ فَحَصَرَ فِيهِمُ الصِّدْقَ وَالتَّقْوَى حَصْرًا ادِّعَائِيًّا لِلْمُبَالَغَةِ، وَدَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ تَحَقَّقَ فِيهِمْ مَعْنَى الْبِرِّ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَمْ يَتَحَقَّقْ فِيهِمْ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِبَعْضِ الْمَلَائِكَة وَبَعض النبيئين، وَلِأَنَّهُمْ حَرَمُوا كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ حُقُوقهم، وَلم يفقوا بِالْعَهْدِ، وَلَمْ يَصْبِرُوا. وَفِيهَا أَيْضًا تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ إِذْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِالْيَوْمِ الآخر، والنبيئين، والكتب وَسَلَبُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ، وَلَمْ يُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَلَمْ يُؤْتُوا الزَّكَاةَ.
وَنَصْبُ (الصَّابِرِينَ) وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَرْفُوعَاتٍ نَصْبٌ عَلَى الِاخْتِصَاصِ عَلَى مَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فِي عَطْفِ النُّعُوتِ مِنْ تَخْيِيرِ الْمُتَكَلِّمِ بَيْنَ الْإِتْبَاعِ فِي الْإِعْرَابِ لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَبَيْنَ الْقَطْعِ قَالَهُ الرَّضِيُّ، وَالْقَطْعُ يَكُونُ بِنَصْبِ مَا حَقُّهُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا أَوْ مَجْرُورًا وَبِرَفْعِ مَا هُوَ بِعَكْسِهِ لِيَظْهَرَ قَصْدُ الْمُتَكَلِّمِ الْقَطْعُ حِينَ يَخْتَلِفُ الْإِعْرَابُ إِذْ لَا يُعْرَفُ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ قَصَدَ
وَالتَّشْرِيعِ، وَمَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ: مِمَّا هُوَ عَوْنٌ عَلَى تِلْكَ الْمَقَاصِدِ، إِلَى الثَّنَاءِ عَلَى رَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي إِيمَانِهِمْ بِجَمِيعِ ذَلِكَ إِيمَانًا خَالِصًا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِالرَّسُولِ وَالْكِتَابِ، يَقْتَضِي الِامْتِثَالَ لِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عَمَلٍ. فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ وُضِعَتْ فِي هَذَا الْمَوْقِعِ لِمُنَاسَبَةِ مَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ انْتِقَالٌ مُؤْذِنٌ بِانْتِهَاءِ السُّورَةِ لِأَنَّهُ لَمَّا انْتَقَلَ مِنْ أَغْرَاضٍ مُتَنَاسِبَةٍ إِلَى غَرَضٍ آخَرَ:
هُوَ كَالْحَاصِلِ وَالْفَذْلَكَةِ، فَقَدْ أَشْعَرَ بِأَنَّهُ اسْتَوْفَى تِلْكَ الْأَغْرَاضَ. وَوَرَدَ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ أَنَّ قَوْلَهُ: آمَنَ الرَّسُولُ يَرْتَبِطُ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ [الْبَقَرَة: ٢٨٤] كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.
وأل فِي الرَّسُول للعد. وَهُوَ عَلَمٌ بِالْغَلَبَةِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَقْتِ النُّزُولِ قَالَ تَعَالَى:
وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ [التَّوْبَة: ١٣]. والْمُؤْمِنُونَ مَعْطُوفٌ عَلَى الرَّسُولُ، وَالْوَقْفُ عَلَيْهِ.
وَالْمُؤْمِنُونَ- هُنَا- لَقَبٌ لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلِذَلِكَ كَانَ فِي جَعْلِهِ فَاعِلًا لِقَوْلِهِ: آمَنَ فَائِدَةٌ، مَعَ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي قَوْلِكَ: قَامَ الْقَائِمُونَ.
وَقَوْلُهُ: كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ جَمْعٌ بَعْدَ التَّفْصِيلِ، وَكَذَلِكَ شَأْنُ (كُلٌّ) إِذَا جَاءَتْ بَعْدَ ذِكْرِ مُتَعَدِّدٍ فِي حُكْمٍ، ثُمَّ إِرَادَةُ جَمْعِهِ فِي ذَلِكَ، كَقَوْلِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ اللِّهْبِيِّ، بَعْدَ أَبْيَاتٍ:

كُلٌّ لَهُ نِيَّةٌ فِي بُغْضِ صَاحِبِهِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ نقليكم وتقلونا
وَإِذ كَانَتْ (كُلٌّ) مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمُلَازِمَةِ الْإِضَافَةَ فَإِذَا حُذِفَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ نُوِّنَتْ تَنْوِينَ عِوَضٍ عَنْ مُفْرَدٍ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ ابْنُ مَالِكٍ فِي «التَّسْهِيلِ». وَلَا يُعَكِّرُ عَلَيْهِ أَنَّ (كُلٌّ) اسْمٌ مُعْرَبٌ لِأَنَّ التَّنْوِينَ قَدْ يُفِيدُ الْغَرَضَيْنِ فَهُوَ مِنِ اسْتِعْمَالِ الشَّيْءِ فِي مَعْنَيَيْهِ. فَمَنْ جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ عَطْفُ الْمُؤْمِنُونَ عَطْفَ جُمْلَةٍ وَجَعَلَ الْمُؤْمِنُونَ مُبْتَدَأً وَجَعَلَ كُلٌّ مُبْتَدَأً ثَانِيًا وآمَنَ خَبَرُهُ، فَقَدْ شَذَّ عَنِ الذَّوْقِ الْعَرَبِيِّ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَكُتُبِهِ بِصِيغَةِ جَمْعِ كِتَابٍ، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: وَكِتَابِهِ، بِصِيغَةِ الْمُفْرَدِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْقُرْآنُ أَوْ جِنْسُ الْكِتَابِ. فَيَكُونُ مُسَاوِيًا لِقَوْلِهِ: وَكُتُبِهِ، إِذِ الْمُرَادُ
الْجِنْسُ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْمُفْرَدَ وَالْجَمْعَ سَوَاءٌ فِي إِرَادَةِ الْجِنْسِ، أَلَا تَرَاهُمْ يَقُولُونَ:
وَفِي هَذَا الْوَجْهِ بُعْدٌ: لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ مَلَامٍ لَا تَوْبِيخٍ، وَمَقَامُ لَا تَنْدِيمٍ. وَإِمَّا مُشَاكَلَةٌ تَقْدِيرِيَّةٌ لِأَنَّهُمْ لَمَّا خَرَجُوا لِلْحَرْبِ خَرَجُوا طَالِبِينَ الثَّوَابَ، فَسَلَكُوا مَسَالِكَ بَاءُوا مَعَهَا بِعِقَابٍ فَيَكُونُ كَقَوْلِ الْفَرَزْدَقِ:
أَخَافُ زِيَادًا أَنْ يَكُونَ عَطَاؤُهُ أَدَاهِمَ سُودًا أَوْ مُحَدْرَجَةً سُمْرَا (١)
وَقَوْلِ الْآخَرِ:
قُلْتُ: اطْبُخُوا لِي جُبَّةً قَمِيصًا.
وَنُكْتَةُ هَذِهِ الْمُشَاكَلَةِ أَنْ يُتَوَصَّلَ بِهَا إِلَى الْكَلَامِ عَلَى مَا نَشَأَ عَنْ هَذَا الْغَمِّ مِنْ عِبْرَة، وَمن توجّه عِنَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَيْهِمْ بَعْدَهُ.
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِغَمٍّ لِلْمُصَاحَبَةِ أَيْ غَمًّا مَعَ غَمٍّ، وَهُوَ جُمْلَةُ الْغُمُومِ الَّتِي دَخَلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ خَيْبَةِ الْأَمَلِ فِي النَّصْرِ بَعْدَ ظُهُورِ بَوَارِقِهِ، وَمِنَ الِانْهِزَامِ، وَمِنْ قَتْلِ مَنْ قُتِلَ، وَجَرْحِ مَنْ جُرِحَ، وَيَجُوزُ كَوْنُ الْبَاءِ لِلْعِوَضِ، أَيْ: جَازَاكُمُ اللَّهُ غَمًّا فِي نُفُوسِكُمْ عِوَضًا عَنِ الْغَمِّ الَّذِي نَسَبْتُمْ فِيهِ لِلرَّسُولِ وَإِنْ كَانَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: فَأَثابَكُمْ عَائِدًا إِلَى الرَّسُولِ فِي قَوْلِهِ: وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ، وَفِيهِ بُعْدٌ، فَالْإِثَابَةُ مَجَازٌ فِي مُقَابَلَةِ فِعْلِ الْجَمِيلِ بِمِثْلِهِ أَيْ جَازَاكُمْ بِغَمٍّ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِغَمٍّ بَاءُ الْعِوَضِ. وَالْغَمُّ الْأَوَّلُ غَمُّ نَفْسِ الرَّسُولِ، وَالْغَمُّ الثَّانِي غَمُّ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الرَّسُولَ اغْتَمَّ وَحَزِنَ لِمَا أَصَابَكُمْ، كَمَا اغْتَمَمْتُمْ لِمَا شَاعَ مِنْ قَتْلِهِ فَكَانَ غمّه لأجلكم جزاءا عَلَى غَمِّكُمْ لِأَجْلِهِ.
وَقَوْلُهُ: لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى مَا فاتَكُمْ تَعْلِيلٌ أَوَّلُ لِ (أَثَابَكُمْ) أَيْ أَلْهَاكُمْ بِذَلِكَ الْغَمِّ لِئَلَّا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَمَا أَصَابَكُمْ مِنَ الْقَتْلِ وَالْجِرَاحِ، فَهُوَ أَنْسَاهُمْ بِمُصِيبَةٍ صَغِيرَةٍ مُصِيبَةً كَبِيرَةً، وَقِيلَ: (لَا) زَائِدَةٌ وَالْمَعْنَى: لِتَحْزَنُوا، فَيَكُونُ زِيَادَةً فِي التَّوْبِيخِ
وَالتَّنْدِيمِ إِنْ كَانَ قَوْله: فَأَثابَكُمْ تَهَكُّمًا أَوِ الْمَعْنَى فَأَثَابَكُمُ
_________
(١) محدرجة بحاء مُهْملَة وبجيم بعد الرَّاء أَي مفتولة: وَهُوَ صفة لموصوف مَحْذُوف أَرَادَ أسواطا.
وَاللَّهُ نَصَبَ الْأَدِلَّةَ لِلنَّاسِ عَلَى الْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ الَّتِي تُكْتَسَبُ بِمُخْتَلِفِ الْأَدِلَّةِ الضَّرُورِيَّةِ، وَالْعَقْلِيَّةِ، وَالْعَادِيَّةِ، وَالشَّرْعِيَّةِ، وَعَلَّمَ طَرَائِقَ الْوُصُولِ إِلَيْهَا، وَطَرَائِقَ الْحَيْدَةِ عَنْهَا، وَأَرْشَدَ إِلَى مَوَانِعِ التَّأْثِيرِ لِمَنْ شَاءَ أَنْ يُمَانِعَهَا، وَبَعَثَ الرُّسُلَ وَشَرَعَ الشَّرَائِعَ فَعَلَّمَنَا بِذَلِكَ كُلِّهِ أَحْوَالَ الْأَشْيَاءِ وَمَنَافِعَهَا وَمَضَارَّهَا، وَعَوَاقِبَ ذَلِكَ الظَّاهِرَةَ وَالْخَفِيَّةَ، فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَأَكْمَلَ الْمِنَّةَ، وَأَقَامَ الْحُجَّةَ، وَقَطَعَ الْمَعْذِرَةَ، فَهَدَى بِذَلِكَ وَحَذَّرَ إِذْ خَلَقَ الْعُقُولَ وَوَسَائِلَ الْمَعَارِفِ، وَنَمَّاهَا بِالتَّفْكِيرَاتِ والْإِلْهَامَاتِ، وَخَلَقَ الْبَوَاعِثَ عَلَى التَّعْلِيمِ وَالتَّعَلُّمِ، فَهَذَا الْجُزْءُ أَيْضًا لِلَّهِ وَحْدَهُ. وَأَمَّا الْأَسْبَابُ الْمُقَارِنَةُ لِلْحَوَادِثِ الْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ وَالْجَانِيَةِ لِجَنَاهَا حِينَ تُصِيبُ الْإِنْسَانَ مِنَ الِاهْتِدَاءِ إِلَى وَسَائِلِ مُصَادَفَةِ الْمَنَافِعِ، وَالْجَهْلِ بِتِلْكَ الْوَسَائِلِ، وَالْإِغْضَاءِ عَنْ مَوَانِعَ الْوُقُوعِ فِيهَا فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَذَلِكَ بِمِقْدَارِ مَا يُحَصِّلُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ وَسَائِلِ الرَّشَادِ، وَبِاخْتِيَارِهِ الصَّالِحَ لاجتناء الْخَيْر، ومقدارا ضِدِّ ذَلِكَ: مِنْ غَلَبَةِ الْجَهْلِ، أَوْ غَلَبَةِ الْهَوَى، وَمِنَ الِارْتِمَاءِ فِي الْمَهَالِكِ بِدُونِ تَبَصُّرٍ، وَذَلِكَ جُزْءٌ صَغِيرٌ فِي جَانِبِ الْأَجْزَاءِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا، وَهَذَا الْجُزْءُ جَعَلَ اللَّهُ لِلْإِنْسَانِ حَظًّا فِيهِ، مَلَّكَهُ إِيَّاهُ، فَإِذَا جَاءَتِ الْحَسَنَةُ أَحَدًا فَإِنَّ مَجِيئَهَا إِيَّاهُ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى لَا مَحَالَةَ مِمَّا لَا صَنْعَةَ لِلْعَبْدِ فِيهِ، أَوْ بِمَا أَرْشَدَ اللَّهُ بِهِ الْعَبْدَ حَتَّى عَلِمَ طَرِيقَ اجْتِنَاءِ الْحَسَنَةِ، أَيِ الشَّيْءِ الْمُلَائِمِ وَخَلَقَ لَهُ اسْتِعْدَادَهُ لِاخْتِيَارِ الصَّالِحِ فِيمَا لَهُ فِيهِ اخْتِيَارٌ مِنَ الْأَفْعَالِ النَّافِعَةِ حَسْبَمَا أَرْشَدَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَكَانَتِ الْمِنَّةُ فِيهَا لِلَّهِ وَحْدَهُ، إِذْ لَوْلَا لُطْفُهُ وَإِرْشَادُهُ وَهَدْيُهُ، لَكَانَ الْإِنْسَانُ فِي حَيْرَةٍ، فَصَحَّ أَنَّ الْحَسَنَةَ مِنَ اللَّهِ، لِأَنَّ أَعْظَمَ الْأَسْبَابِ أَوْ كُلَّهَا مِنْهُ.
أَمَّا السَّيِّئَةُ فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ تَأْتِي بِتَأْثِيرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَكِنَّ إِصَابَةَ مُعْظَمِهَا الْإِنْسَانَ يَأْتِي مِنْ جَهْلِهِ، أَوْ تَفْرِيطِهِ، أَوْ سُوءِ نَظَرِهِ فِي الْعَوَاقِبِ، أَوْ تَغْلِيبِ هَوَاهُ عَلَى رُشْدِهِ، وَهُنَالِكَ
سَيِّئَاتُ الْإِنْسَانِ مِنْ غَيْرِ تَسَبُّبِهِ مِثْلَ مَا أَصَابَ الْأُمَمَ مِنْ خَسْفٍ وَأَوْبِئَةٍ، وَذَلِكَ نَادِرٌ بِالنِّسْبَةِ لِأَكْثَرِ السَّيِّئَاتِ، عَلَى أَنَّ بَعْضًا مِنْهُ كَانَ جَزَاءً عَلَى سُوءِ فِعْلٍ، فَلَا جَرَمَ كَانَ الْحَظُّ الْأَعْظَمُ فِي إِصَابَةِ السَّيِّئَةِ الْإِنْسَانَ لِتَسَبُّبِهِ مُبَاشَرَةً أَوْ بِوَاسِطَةٍ، فَصَحَّ أَنْ يُسْنِدَ تَسَبُّبَهَا إِلَيْهِ، لِأَنَّ الْجُزْءَ الَّذِي هُوَ لِلَّهِ وَحْدَهُ مِنْهَا هُوَ الْأَقَلُّ. وَقَدْ فَسَّرَ هَذَا الْمَعْنَى مَا
وَرَدَ فِي «الصَّحِيحِ»، فَفِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ «لَا يُصِيبُ عَبْدًا نَكْبَةٌ فَمَا فَوْقَهَا أَوْ مَا دُونَهَا إِلَّا بِذَنْبٍ وَمَا يَعْفُو اللَّهُ أَكْثَرُ»
وَقَوْلُهُ: وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مِنْ حِكْمَةِ الْأَمْرِ بِالْغَسْلِ وَالْوُضُوءِ التَّطْهِيرَ وَهُوَ تَطْهِيرٌ حِسِّيٌّ لِأَنَّهُ تَنْظِيفٌ، وَتَطْهِيرٌ نَفْسِيٌّ جَعَلَهُ اللَّهُ فِيهِ لَمَّا جَعَلَهُ عِبَادَةً فَإِنَّ الْعِبَادَاتِ كُلَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى عِدَّةِ أَسْرَارٍ: مِنْهَا مَا تَهْتَدِي إِلَيْهِ الْأَفْهَامُ وَنُعَبِّرُ عَنْهَا بالحكمة وَمِنْهَا مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، كَكَوْنِ الظُّهْرِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، فَإِذَا ذُكِرَتْ حِكَمٌ لِلْعِبَادَاتِ فَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الْحِكَمَ مُنْحَصِرَةٌ فِيمَا عَلِمْنَاهُ وَإِنَّمَا هُوَ بَعْضٌ مِنْ كُلٍّ وَظَنٌّ لَا يَبْلُغُ مُنْتَهَى الْعِلْمِ، فَلَمَّا تَعَذَّرَ الْمَاءُ عَوَّضَ بِالتَّيَمُّمِ، وَلَوْ أَرَادَ الْحَرَجَ لَكَلَّفَهُمْ طَلَبَ الْمَاءِ وَلَوْ بِالثَّمَنِ أَوْ تَرْكَ الصَّلَاةِ إِلَى أَنْ يُوجَدَ الْمَاءُ ثُمَّ يَقْضُونَ الْجَمِيعَ. فَالتَّيَمُّمُ لَيْسَ فِيهِ تَطْهِيرٌ حِسِّيٌّ وَفِيهِ التَّطْهِيرُ النَّفْسِيُّ الَّذِي فِي الْوُضُوءِ لَمَّا جُعِلَ التَّيَمُّمُ بَدَلًا عَنِ الْوُضُوءِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ.
وَقَوْلُهُ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ أَيْ يُكْمِلَ النِّعَمَ الْمَوْجُودَةَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ بِنِعْمَةِ الْإِسْلَامِ، أَوْ وَيُكْمِلُ نِعْمَةَ الْإِسْلَامِ بِزِيَادَةِ أَحْكَامِهِ الرَّاجِعَةِ إِلَى التَّزْكِيَةِ وَالتَّطْهِيرِ مَعَ التَّيْسِيرِ فِي أَحْوَالٍ كَثِيرَةٍ. فَالْإِتْمَامُ إِمَّا بِزِيَادَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ النِّعَمِ لَمْ تَكُنْ، وَإِمَّا بِتَكْثِيرِ فُرُوعِ النَّوْعِ مِنَ النِّعَمِ.
وَقَوْلُهُ: لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أَيْ رَجَاءَ شُكْرِكُمْ إِيَّاهُ. جَعَلَ الشُّكْرَ عِلَّةً لِإِتْمَامِ النِّعْمَةِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ بِأَنِ اسْتُعِيرَتْ صِيغَةُ الرَّجَاءِ إِلَى الْأَمْرِ لِقَصْدِ الْحَثِّ عَلَيْهِ وَإِظْهَارِهِ فِي صُورَةِ الْأَمْرِ المستقرب الْحُصُول.
[٧]
[سُورَة الْمَائِدَة (٥) : آيَة ٧]
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧)
عَطَفَ عَلَى جُمْلَةِ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ [الْمَائِدَة: ٦] الْآيَةَ الْوَاقِعَةَ تَذْيِيلًا لِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [الْمَائِدَة: ٦] الْآيَةَ.
وَالْكَلَامُ مُرْتَبِطٌ بِمَا افْتُتِحَتْ بِهِ السُّورَةُ مِنْ قَوْلِهِ: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ لِأَنَّ فِي التَّذْكِيرِ بِالنِّعْمَةِ تَعْرِيضًا بِالْحَثِّ عَلَى الْوَفَاءِ.
ذَكَّرَهُمْ بِنِعَمٍ مَضَتْ تَذْكِيرًا يُقْصَدُ مِنْهُ الْحَثُّ عَلَى الشُّكْرِ وَعَلَى الْوَفَاءِ
وَالِامْتِرَاءُ: الشَّكُّ وَالتَّرَدُّدُ فِي الْأَمْرِ، وَهُوَ بِوَزْنِ الِافْتِعَالِ، مُشْتَقٌّ مِنِ الْمِرْيَةِ- بِكَسْرِ الْمِيمِ- اسْمٌ لِلشَّكِّ، وَلَمْ يَرِدْ فِعْلُهُ إِلَّا بِزِيَادَةِ التَّاءِ، وَلَمْ يُسْمَعْ لَهُ فِعْلٌ مُجَرَّدٌ.
وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ تَمْتَرُونَ لِظُهُورِهِ مِنَ الْمَقَامِ، أَيْ تَمْتَرُونَ فِي إِمْكَانِ الْبَعْثِ وَإِعَادَةِ الْخَلْقِ. وَالَّذِي دَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُمَارِي فِيهِ قَوْلُهُ: خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ إِذْ لَوْلَا قَصْدُ التَّذْكِيرِ بِدَلِيلِ إِمْكَانِ الْبَعْثِ لَمَا كَانَ لِذِكْرِ الْخَلْقِ مِنَ الطِّينِ وَذِكْرِ الْأَجَلِ الْأَوَّلِ وَالْأَجْلِ الثَّانِي مُرَجِّحٌ للتخصيص بِالذكر.
[٣]
[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : آيَة ٣]
وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (٣)
عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ [الْأَنْعَام: ٢] أَيْ، خَلَقَكُمْ وَلَمْ يُهْمِلْ مُرَاقَبَتَكُمْ، فَهُوَ يَعْلَمُ أَحْوَالَكُمْ كُلَّهَا.
فَالضَّمِيرُ مُبْتَدَأٌ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ مِنْ قَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَيْسَ ضَمِيرَ فَصْلٍ إِذْ لَا يَقَعُ ضَمِيرُ الْفَصْلِ بَعْدَ حَرْفِ الْعَطْفِ. وَقَوْلُهُ: اللَّهُ خَبَرٌ عَنِ الْمُبْتَدَأِ. وَإِذْ كَانَ الْمُبْتَدَأُ ضَمِيرًا عَائِدًا إِلَى اسْمِ اللَّهِ لَمْ يَكُنِ الْمَقْصُودُ الْإِخْبَارَ بِأَنَّ هَذَا الَّذِي خَلَقَ وَقَضَى هُوَ اللَّهُ إِذْ قَدْ عُلِمَ ذَلِكَ مِنْ مُعَادِ الضَّمَائِرِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِأَنَّهُ اللَّهُ مَعْنًى يُفِيدُهُ الْمَقَامُ، وَذَلِكَ هُوَ أَنْ يَكُونَ كَالنَّتِيجَةِ لِلْأَخْبَارِ الْمَاضِيَةِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ [الْأَنْعَام: ١] فَنَبَّهَ عَلَى فَسَادِ اعْتِقَادِ الَّذِينَ أَثْبَتُوا الْإِلَهِيَّةَ لِغَيْرِ اللَّهِ وَحَمِدُوا آلِهَتَهُمْ بِأَنَّهُ خَالِقُ الْأَكْوَانِ وَخَالِقُ الْإِنْسَانِ وَمُعِيدُهُ، ثُمَّ أَعْلَنَ أَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِالْإِلَهِيَّةِ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ إِذْ لَا خَالِقَ غَيْرُهُ كَمَا تَقَرَّرَ آنِفًا، وَإِذْ هُوَ عَالِمُ السِّرِّ وَالْجَهْرِ، وَغَيْرُهُ لَا إِحْسَاسَ لَهُ فَضْلًا عَنِ الْعَقْلِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا. وَلَمَّا كَانَ اسْمُ الْجَلَالَةِ مَعْرُوفًا عِنْدَهُمْ لَا يَلْتَبِسُ بِغَيْرِهِ صَارَ قَوْلُهُ: وَهُوَ اللَّهُ فِي مَعْنَى الْمَوْصُوفِ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ هُوَ صَاحِبُ هَذَا الِاسْمِ لَا غَيْرُهُ.
وَقَوْلُهُ: فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ مُتَعَلِّقٌ بِالْكَوْنِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ جُمْلَةِ الْقَصْرِ، أَوْ بِمَا
أَقُولُ وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ: أَنَّ اللَّهَ لَوْ حَرَّمَ أَكْلَ بَعْضِ الذُّكُورِ مِنْ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ لَحَرَّمَ الْبَعْضَ الْآخَرَ، وَلَوْ حَرَّمَ أَكْلَ بَعْضِ الْإِنَاثِ لِحَرَّمَ الْبَعْضَ الْآخَرَ. لِأَنَّ شَأْنَ أَحْكَامِ اللَّهِ أَنْ تَكُونَ مُطَّرِدَةً فِي الْأَشْيَاءِ الْمُتَّحِدَةِ بِالنَّوْعِ وَالصِّفَةِ، وَلَوْ حَرَّمَ بَعْضَ مَا فِي بُطُونِ الْأَنْعَامِ عَلَى النِّسَاءِ لَحَرَّمَ ذَلِكَ عَلَى الرِّجَالِ، وَإِذْ لَمْ يُحَرِّمْ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ مَعَ تَمَاثُلِ الْأَنْوَاعِ وَالْأَحْوَالِ. أَنْتَجَ أَنَّهُ لَمْ يُحَرِّمِ الْبَعْضَ الْمَزْعُومَ تَحْرِيمُهُ، لِأَنَّ أَحْكَامَ اللَّهِ مَنُوطَةٌ بِالْحِكْمَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا حَرَّمُوهُ إِنَّمَا حَرَّمُوهُ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ تَحَكُّمًا وَاعْتِبَاطًا، وَكَانَ تَحْرِيمُهُمْ مَا
حَرَّمُوهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ. وَنَهَضَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ، الْمُلْجِئَةُ لَهُمْ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ كَلَام النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَالِكِ بْنِ عَوْفٍ الْجُشَمِيِّ الْمَذْكُورُ آنِفًا، وَلِذَلِكَ سَجَّلَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَقَوْلُهُ: آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَيْ لَوْ حَرَّمَ اللَّهُ الذَّكَرَيْنِ لَسَوَّى فِي تَحْرِيمِهِمَا بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الْأُنْثَيَيْنِ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ:
آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّقْرِيرِ وَالْإِنْكَارِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ قَبْلَهُ: سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الْأَنْعَام: ١٣٩]. وَقَوْلُهُ: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ [الْبَقَرَة:
١٦٨]. وَمَعْلُومٌ أَنَّ اسْتِعْمَالَ الِاسْتِفْهَامِ فِي غَيْرِ مَعْنَى طَلَبِ الْفَهْمِ هُوَ إِمَّا مَجَازٌ أَوْ كِنَايَةٌ.
وَلِذَلِكَ تَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ أَمِ مُنْقَطِعَةٌ بِمَعْنَى (بَلْ) وَمَعْنَاهَا الْإِضْرَابُ الِانْتِقَالِيُّ تَعْدِيدًا لَهُمْ وَيُقَدَّرُ بَعْدَهَا اسْتِفْهَامٌ. فَالْمُفْرَدُ بَعْدَ أَمِ مَفْعُولٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: أَمْ أُحَرِّمُ الْأُنْثَيَيْنِ. وَكَذَلِكَ التَّقْدِيرُ فِي قَوْلِهِ: أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ وَكَذَلِكَ التَّقْدِيرُ فِي نَظِيرِهِ.
وَقَوْلُهُ: مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ مَعَ قَوْلِهِ: وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ من مَسْلَك السّير وَالتَّقْسِيمِ الْمَذْكُورِ فِي مَسَالِكِ الْعِلَّةِ مِنْ عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ.
وَجُمْلَةُ: نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ
وَجُمْلَةُ: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ هُمْ فِي أَمْكِنَةٍ عَالِيَةٍ تُشْرِفُ عَلَى أَنْهَارِ الْجَنَّةِ.
وَجُمْلَةُ: وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [الْأَعْرَاف: ٤٢].
وَالتَّعْبِيرُ بِالْمَاضِي مُرَادٌ بِهِ الْمُسْتَقْبَلُ أَيْضًا كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَنَزَعْنا وَهَذَا الْقَوْلُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونُوا يَقُولُونَهُ فِي خَاصَّتِهِمْ وَنُفُوسِهِمْ، عَلَى مَعْنَى التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ بِحَمْدِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونُوا يَقُولُونَهُ بَيْنَهُمْ فِي مَجَامِعِهِمْ.
وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِمْ: لِهذا إِلَى جَمِيعِ مَا هُوَ حَاضِرٌ مِنَ النَّعِيمِ فِي وَقْتِ ذَلِكَ الْحَمْدِ، وَالْهِدَايَةُ لَهُ هِيَ الْإِرْشَادُ إِلَى أَسْبَابِهِ، وَهِيَ الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [الْأَعْرَاف: ٤٢]، وَقَالَ تَعَالَى: يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ [يُونُس: ٩] الْآيَةَ، وَجَعَلَ الْهِدَايَةَ لِنَفْسِ النَّعِيمِ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ عَلَى مَا يُوَصِّلُ إِلَى الشَّيْءِ إِنَّمَا هِيَ هِدَايَةٌ لِأَجْلِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى فِعْلِ الْهِدَايَةِ وَتَعْدِيَتِهِ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ [٦].
وَالْمُرَادُ بِهَدْيِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ إرْسَاله محمّدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فَأَيْقَظَهُمْ مِنْ غَفْلَتِهِمْ فَاتَّبَعُوهُ،
وَلَمْ يُعَانِدُوا، وَلَمْ يَسْتَكْبِرُوا، وَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُمْ: لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ مَعَ مَا يَسَّرَ اللَّهُ لَهُمْ مِنْ قَبُولِهِمُ الدَّعْوَةَ وَامْتِثَالِهِمُ الْأَمْرَ، فَإِنَّهُ مِنْ تَمَامِ الْمِنَّةِ الْمَحْمُودِ عَلَيْهَا، وَهَذَا التَّيْسِيرُ هُوَ الَّذِي حُرِمَهُ الْمُكَذِّبُونَ الْمُسْتَكْبِرُونَ لِأَجْلِ ابْتِدَائِهِمْ بِالتَّكْذِيبِ والاستكبار، دون النّظر وَالِاعْتِبَارِ.
وَجُمْلَةُ وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ، أَيْ هدَانَا فِي هَذِه الْحَالِ حَالِ بُعْدِنَا عَنِ الِاهْتِدَاءِ، وَذَلِكَ مِمَّا يُؤْذِنُ بِكِبَرِ مِنَّةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، وَبِتَعْظِيمِ حَمْدِهِمْ وَتَجْزِيلِهِ، وَلِذَلِكَ جَاءُوا بِجُمْلَةِ الْحَمْدِ مُشْتَمِلَةً عَلَى أَقْصَى مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنَ الْخَصَائِصِ الَّتِي تَقَدَّمَ بَيَانُهَا فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ
سَنَةً بِسَنَةٍ عَشِّرْ حِنْطَتَكَ وَخَمْرَكَ وَزَيْتَكَ وَإِبْكَارَ بَقَرِكَ وَغَنَمِكَ، وَفِي آخِرِ ثَلَاثِ سِنِينَ تُخْرِجُ كُلَّ عُشْرِ مَحْصُولِكَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ فَتَضَعُهُ فِي أَبْوَابِكَ فَيَأْتِي اللَّاوِي وَالْغَرِيبُ وَالْيَتِيمُ وَالْأَرْمَلَةُ الَّذِينَ عَلَى أَبْوَابِكَ فَيَأْكُلُونَ وَيَشْبَعُونَ» إِلَخْ. ثُمَّ ذَكَرَ أَحْكَامًا كَثِيرَةً فِي الْإِصْحَاحَاتِ الثَّلَاثَةِ بَعْدَهُ.
ثُمَّ فِي الْإِصْحَاحِ الثَّامِنَ عَشَرَ قَوْلُهُ: «يُقِيمُ لَكَ الرَّبُّ نَبِيًّا وَمن وسط أخواتك مِثْلِي لَهُ تَسْمَعُونَ حَسَبَ كُلِّ مَا طَلَبْتَ مِنَ الرَّبِّ فِي حُورِيبَ (أَيْ جَبَلِ الطُّورِ حِينَ الْمُنَاجَاةِ) يَوْمَ الِاجْتِمَاعِ قَالَ لِيَ الرَّبُّ أُقِيمُ لَهُمْ نَبِيًّا مِنْ وَسَطِ إِخْوَتِهِمْ مِثْلَكَ وَأَجْعَلُ كَلَامِي فِي فَمِهِ فَيُكَلِّمُهُمْ بِكُلِّ مَا أُوصِيهِ بِهِ» فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ هَذَا النَّبِيءَ مِنْ غَيْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِقَوْلِهِ: «مِنْ وَسَطِ إِخْوَتِكَ» فَإِنَّ الْخِطَابَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَا يَكُونُونَ إِخْوَةً لِأَنْفُسِهِمْ. وَإِخْوَتُهُمْ هُمْ أَبْنَاءُ أَخِي أَبِيهِمْ: إِسْمَاعِيلَ أَخِي إِسْحَاقَ، وَهُمُ الْعَرَبُ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ نَبِيئًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِثْلَ (صَمْوِيلَ) كَمَا يُؤَوِّلُهُ الْيَهُودُ لَقَالَ: مِنْ بَيْنِكُمْ أَوْ مِنْ وَسَطِكُمْ، وَعُلِمَ أَنَّ النَّبِيءَ رَسُولٌ بِشَرْعٍ جَدِيدٍ مِنْ قَوْلِهِ: «مِثْلَكَ» فَإِنَّ مُوسَى كَانَ نَبِيًّا رَسُولًا، فَقَدَ جَمَعَ الْقُرْآنُ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ إِلَخْ.
وَمِنْ نُكَتِ الْقُرْآنِ الْجَمْعُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيْنَ وَصْفَيِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْيَهُودَ بَدَّلُوا وَصْفَ الرَّسُولِ، وَعَبَّرُوا عَنْهُ بِالنَّبِيءِ، لِيَصْدُقَ على أَنْبيَاء ليصدق عَلَى أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَغَفَلُوا عَنْ مُفَادِ قَوْلِهِ مِثْلَكَ، وَحَذَفُوا وَصْفَ الْأُمِّيِّ، وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ سَبَبَ إِسْلَامِ الْحَبْرِ الْعَظِيمِ الْأَنْدَلُسِيِّ السَّمَوْأَلِ بْنِ يَحْيَى الْيَهُودِيِّ، كَمَا حَكَاهُ عَنْ نَفْسِهِ فِي كِتَابِهِ الَّذِي سَمَّاهُ «غَايَةَ الْمَقْصُودِ فِي الرَّدِّ عَلَى النَّصَارَى وَالْيَهُودِ».
فَهَذِهِ الرَّحْمَةُ الْعَظِيمَةُ تَخْتَصُّ بِالَّذِينَ آمنُوا بالنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَتَشْمَلُ الرُّسُلَ وَالْأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ أَخَذَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْعَهْدَ بِالْإِيمَان بِمُحَمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانُوا عَالِمِينَ بِبَعْثَتِهِ يَقِينًا فَهُمْ آمَنُوا بِهِ، وَتَنَزَّلُوا مَنْزِلَةَ مَنِ اتَّبَعَ مَا جَاءَ بِهِ، لِأَنَّهُمُ اسْتَعَدُّوا لِذَلِكَ، وَتَشْمَلُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ غَيْرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، لِأَنَّهُمْ سَارُوا مَنْ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ الْيَهُودِ فِي اتَبَاعِ الرَّسُولِ النَّبِيءِ الْأُمِّيِّ.
الْهَوَادَةِ فِي قِتَالِهِمْ، وَهِيَ قَوْلُهُ: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ [التَّوْبَة: ٧] وَقَوْلُهُ:
كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ [التَّوْبَة: ٨] وَقَوْلُهُ يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ [التَّوْبَة: ٨] وَقَوْلُهُ: وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ [التَّوْبَة: ٨] وَقَوْلُهُ: اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا [التَّوْبَة: ٩] وَقَوْلُهُ: لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً [التَّوْبَة: ١٠] وَقَوْلُهُ: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ [التَّوْبَة: ١٠] وَقَوْلُهُ: إِنَّهُمْ لَا أَيْمانَ لَهُمْ [التَّوْبَة: ١٢].
فَكَانَتْ جُمْلَةُ أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ تَحْذِيرًا مِنَ التَّرَاخِي فِي مُبَادَرَتِهِمْ بِالْقِتَالِ.
وَلَفْظُ أَلا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعَ حَرْفَيْنِ: هُمَا هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ، وَ (لَا) النَّافِيَةُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَرْفًا وَاحِدًا لِلتَّحْضِيضِ، مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [النُّور: ٢٢]. فَعَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيًّا، عَلَى انْتِفَاءِ مقاتلة الْمُشْركين فِي الْمُسْتَقْبل، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْبَيْضَاوِيُّ، فَيَكُونُ دَفْعًا لِأَنْ يَتَوَهَّمَ
الْمُسْلِمُونَ حُرْمَةً لِتِلْكَ الْعُهُودِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيًّا، وَهُوَ ظَاهِرُ مَا حَمَلَهُ عَلَيْهِ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ»، تَقْرِيرًا عَلَى النَّفْيِ تَنْزِيلًا لَهُمْ مَنْزِلَةَ مَنْ تَرَكَ الْقِتَالَ فَاسْتَوْجَبَ طَلَبَ إِقْرَارِهِ بِتَرْكِهِ، قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : وَمَعْنَاهُ الْحَضُّ عَلَى الْقِتَالِ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ، وَفِي «مُغَنِي اللَّبِيبِ» أَنَّ أَلا الَّتِي لِلِاسْتِفْهَامِ عَنِ النَّفْيِ تَخْتَصُّ بِالدُّخُولِ عَلَى الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ، وَسَلَّمَهُ شَارِحَاهُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ كَلَامَ «الْكَشَّافِ» يُنَادِي عَلَى خِلَافِهِ.
وَعَلَى الِاحْتِمَالِ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ أَلا حَرْفًا وَاحِدًا لِلتَّحْضِيضِ فَهُوَ تَحْضِيضٌ عَلَى الْقِتَالِ. وَجَعَلَ فِي «الْمُغْنِي» هَذِهِ الْآيَةَ مِثَالًا لِهَذَا الِاسْتِعْمَالِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّحْذِيرِ وَلَعَلَّ مُوجِبَ هَذَا التَّفَنُّنِ فِي التَّحْذِيرِ مِنَ التَّهَاوُنِ بِقِتَالِهِمْ مَعَ بَيَانِ اسْتِحْقَاقِهِمْ إِيَّاهُ:
أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا قَدْ فَرِحُوا بِالنَّصْرِ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَمَالُوا إِلَى اجْتِنَاءِ ثَمَرَةِ السَّلْمِ، بِالْإِقْبَالِ عَلَى إِصْلَاحِ أَحْوَالِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فَلِذَلِكَ لَمَّا أُمِرُوا بِقِتَالِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا مَظِنَّةَ التَّثَاقُلِ عَنْهُ خَشْيَةَ الْهَزِيمَةِ، بَعْدَ أَنْ فَازُوا بِسُمْعَةِ النَّصْرِ، وَفِي قَوْلِهِ عَقِبَهُ أَتَخْشَوْنَهُمْ مَا يَزِيدُ هَذَا وُضُوحًا.
أَمَّا نَكْثُهُمْ أَيْمَانَهُمْ فَظَاهِرٌ مِمَّا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [التَّوْبَة: ٤]- وَقَوْلِهِ- إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ [التَّوْبَة:
٤] الْآيَةَ. وَذَلِكَ نَكْثُهُمْ عَهْدَ الْحُدَيْبِيَةِ إِذْ أَعَانُوا بَنِي بَكْرٍ عَلَى خُزَاعَةَ وَكَانَتْ خُزَاعَةُ مِنْ جَانِبِ عَهْدِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَالْمَعِيَّةُ فِي قَوْلِهِ: مَعَكُمْ مَجَازِيَّةٌ مستعملة فِي الْإِشْرَاك فِي مُطلق الِانْتِظَار.
[٢١]
[سُورَة يُونُس (١٠) : آيَة ٢١]
وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (٢١)
لَمَّا حَكَى تَمَرُّدَ الْمُشْرِكِينَ بَيَّنَ هُنَا أَنَّهُمْ فِي ذَلِكَ لَاهُونَ بِبَطَرِهِمْ وَازْدِهَائِهِمْ بِالنِّعْمَةِ وَالدَّعَةِ فَأَنْسَاهُمْ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ النِّعْمَةِ أَنْ يَتَوَقَّعُوا حُدُوثَ ضِدِّهِ فَتَفَنَّنُوا فِي التَّكْذِيبِ بِوَعِيدِ اللَّهِ أَفَانِينَ الِاسْتِهْزَاءِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا [المزمل: ١١].
وَجَاءَ الْكَلَامُ عَلَى طَرِيقَةِ الْحِكَايَةِ عَنْ حَالِهِمْ، وَالْمُلْقَى إِلَيْهِ الْكَلَامُ هُوَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَالْمُؤْمِنُونَ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِتَذْكِيرِ الْكُفَّارِ بِحَالِ حُلُولِ الْمَصَائِبِ بِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، فَيُعِدُّوا عُدَّةَ الْخَوْفِ مِنْ حُلُولِ النِّقْمَةِ الَّتِي أَنْذَرَهُمْ بِهَا فِي قَوْله فَانْتَظِرُوا [يُونُس: ٢٠] كَمَا
فِي الْحَدِيثِ: «تَعَرَّفْ إِلَى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ»
. فَالْمُرَادُ بِ النَّاسَ النَّاسُ الْمَعْهُودُونَ الْمُتَحَدَّثُ عَنْهُمْ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ [يُونُس: ١٢].
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ تُشِيرُ إِلَى مَا أَصَابَ قُرَيْشًا مِنَ الْقَحْطِ سَبْعَ سِنِينَ بِدُعَاءِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ كَشَفَ اللَّهُ عَنْهُمُ الْقَحْطَ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَطَرَ، فَلَمَّا حَيُوا طَفِقُوا يَطْعَنُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ وَيُعَادُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَكِيدُونَ لَهُ. وَالْقَحْطُ الَّذِي أَصَابَ قُرَيْشًا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي سُورَةِ الدُّخَانِ. وَقَدْ أُنْذِرُوا فِيهَا بِالْبَطْشَةِ الْكُبْرَى. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ بَطْشَةُ يَوْمِ بَدْرٍ. فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ قَدْ نَزَلَتْ بَعْدَ انْقِرَاضِ السَّبْعِ السِّنِينَ الَّتِي هِيَ كَسِنِيِّ يُوسُفَ وَبَعْدَ أَنْ حَيُوا، فَتَكُونُ قَدْ نَزَلَتْ بَعْدَ سَنَةِ عَشْرٍ مِنَ الْبَعْثَةِ أَوْ سَنَةِ إِحْدَى عَشْرَةَ.
وَالْإِذَاقَةُ: مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مُطْلَقِ الْإِدْرَاكِ اسْتِعَارَةً أَوْ مَجَازًا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ:
لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ
ضَيْفِهِ حَتَّى قَالُوا: إِنَّ ضَيْفَ لُوطٍ سَحَرَةٌ فَانْصَرَفُوا. وَذَلِكَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فِي سُورَةِ الْقَمَرِ [٣٧]
وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ.
وَجُمْلَةُ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ مُبَيِّنَةٌ لِإِجْمَالِ جُمْلَةِ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ، فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ فَلَمْ تُعْطَفْ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ عَطْفِ الْبَيَانِ.
وَتَفْرِيعُ الْأَمْرِ بِالسُّرَى عَلَى جُمْلَةِ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ لِمَا فِي حَرْفِ لَنْ مِنْ ضَمَانِ سَلَامَتِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كُلِّهِ. فَلَمَّا رَأَى ابْتِدَاءَ سَلَامَتِهِ مِنْهُمْ بِانْصِرَافِهِمْ حَسُنَ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُ وَجْهَ سَلَامَتِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنْهُمْ بِاسْتِئْصَالِهِمْ وَبِنَجَاتِهِ، فَذَلِكَ مَوْقِعُ فَاءِ التَّفْرِيعِ.
وَ (أَسْرِ) أَمْرٌ بِالسُّرَى- بِضَمِّ السِّينِ وَالْقَصْرِ-. وَهُوَ اسْمُ مَصْدَرٍ لِلسَّيْرِ فِي اللَّيْلِ إِلَى الصَّبَاحِ. وَفِعْلُهُ: سَرَى يُقَالُ بِدُونِ هَمْزَةٍ فِي أَوَّلِهِ وَيُقَالُ: أَسْرَى بِالْهَمْزَةِ.
قَرَأَهُ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ- بِهَمْزَةِ وَصْلٍ- عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ مِنْ سَرَى. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِهَمْزَةِ قَطْعٍ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَسْرَى.
وَقَدْ جَمَعُوهُ فِي الْأَمْرِ مَعَ أَهْلِهِ لِأَنَّهُ إِذَا سَرَى بِهِمْ فَقَدْ سَرَى بِنَفْسِهِ إِذْ لَوْ بَعَثَ أَهْلَهُ وَبَقِيَ هُوَ لَمَا صَحَّ أَنْ يُقَالَ: أَسْرِ بِهِمْ لِلْفَرْقِ بَيْنَ أَذْهَبْتُ زَيْدًا وَبَيْنَ ذَهَبْتُ بِهِ.
وَالْقِطْعُ- بِكَسْرِ الْقَافِ-: الْجُزْءُ مِنَ اللَّيْلِ.
وَجُمْلَةُ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ. وَالِالْتِفَاتُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُوَ الِالْتِفَاتُ إِلَى الْمَكَانِ الْمَأْمُورِ بِمُغَادَرَتِهِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْقَرِينَةُ.
وَسَبَبُ النَّهْيِ عَنِ الِالْتِفَاتِ التَّقَصِّي فِي تَحْقِيقِ مَعْنَى الْهِجْرَةِ غَضَبًا لِحُرُمَاتِ اللَّهِ بِحَيْثُ يَقْطَعُ التَّعَلُّقَ بِالْوَطَنِ وَلَوْ تَعَلُّقَ الرُّؤْيَةَ. وَكَانَ تَعْيِينُ اللَّيْلِ لِلْخُرُوجِ كَيْلَا يُلَاقِي مُمَانَعَةً مِنْ قَوْمِهِ أَوْ مِنْ زَوْجِهِ فَيَشُقُّ عَلَيْهِ دِفَاعُهُمْ.
وَالْآبَاءُ يَشْمَلُ الْأُمَّهَاتِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّغْلِيبِ كَمَا قَالُوا: الْأَبَوَيْنِ.
وَجُمْلَةُ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ عَطْفٌ عَلَى يَدْخُلُونَها فَهِيَ فِي مَوْقِعِ الْحَالِ. وَهَذَا مِنْ كَرَامَتِهِمْ وَالتَّنْوِيهِ بِهِمْ، فَإِنَّ تَرَدُّدَ رُسُلِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِ إِكْرَامِهِ.
وَذِكْرُ مِنْ كُلِّ بابٍ كِنَايَةٌ عَنْ كَثْرَةٍ غِشْيَانِ الْمَلَائِكَةِ إِيَّاهُمْ بِحَيْثُ لَا يَخْلُو بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ بُيُوتِهِمْ لَا تَدْخُلُ مِنْهُ مَلَائِكَةٌ. ذَلِكَ أَنَّ هَذَا الدُّخُولَ لَمَّا كَانَ مَجْلَبَةَ مَسَرَّةٍ كَانَ كَثِيرًا فِي الْأَمْكِنَةِ. وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْأَزْمِنَةِ فَهُوَ مُتَكَرِّرٌ لِأَنَّهُمْ مَا دَخَلُوا مِنْ كُلِّ بَابٍ إِلَّا لِأَنَّ كُلَّ بَابٍ مَشْغُولٌ بِطَائِفَةٍ مِنْهُمْ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ مَنْ كُلِّ بَابٍ فِي كُلِّ آنٍ.
وَجُمْلَةُ سَلامٌ عَلَيْكُمْ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ لِأَنَّ هَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا كَلَامًا مِنَ الدَّاخِلِينَ. وَهَذَا تَحِيَّةٌ يُقْصَدُ مِنْهَا تَأْنِيسُ أَهْلِ الْجَنَّةِ.
وَالْبَاءُ فِي بِما صَبَرْتُمْ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْكَوْنِ الْمُسْتَفَادِ مِنَ الْمَجْرُورِ وَهُوَ عَلَيْكُمْ. وَالتَّقْدِيرُ: نَالَكُمْ هَذَا التَّكْرِيمُ بِالسَّلَامِ بِسَبَبِ صَبْرِكُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ مُسْتَفَادٍ مِنَ الْمَقَامِ، أَيْ هَذَا النَّعِيمُ الْمُشَاهَدُ بِمَا صَبَرْتُمْ.
وَالْمُرَادُ: الصَّبْرُ عَلَى مَشَاقِّ التَّكَالِيفِ وَعَلَى مَا جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ.
وَفُرِّعَ عَلَى ذَلِكَ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ تَفْرِيعَ ثَنَاءٍ عَلَى حُسْنِ عَاقِبَتِهِمْ. وَالْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَقَامِ الْخِطَابِ عَلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ دَارُ عُقْبَاكُمْ. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى عُقْبَى الدَّارِ آنِفا.
قِصَّةٌ مَكْتُوبَةٌ. وَهَذَا الَّذِي
ذَكَرَهُ الْمُبَرِّدُ أَوْلَى لِأَنَّهَا أَسَاطِيرُ فِي الْأَكْثَرِ يَعْنِي بِهَا الْقِصَصَ لَا كُلَّ كِتَابٍ مَسْطُورٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٢٥].
وَاللَّامُ فِي لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ تَعْلِيلٌ لِفِعْلِ قالُوا، وَهِيَ غَايَةٌ وَلَيْسَتْ بِعِلَّةٍ لِأَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ لَمْ يُرِيدُوا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ سَبَبًا لِأَنْ يَحْمِلُوا أَوْزَارَ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ، فَاللَّامُ مُسْتَعْمَلَةٌ مَجَازًا فِي الْعَاقِبَةِ مِثْلُ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [سُورَة الْقَصَص: ٨].
وَالتَّقْدِيرُ: قَالُوا ذَلِكَ الْقَوْلَ كَحَالِ مَنْ يُغْرِي عَلَى مَا يَجُرُّ إِلَيْهِ زِيَادَةُ الضُّرِّ إِذْ حَمَلُوا بِذَلِكَ أَوْزَارَ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ زِيَادَةً عَلَى أَوْزَارِهِمْ.
وَالْأَوْزَارُ: حَقِيقَتُهَا الْأَثْقَالُ، جَمْعُ وِزْرٍ- بِكَسْرِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الزَّايِ- وَهُوَ الثِّقْلُ.
وَاسْتُعْمِلَ فِي الْجُرْمِ وَالذَّنْبِ، لِأَنَّهُ يُثْقِلُ فَاعِلَهُ عَنِ الْخَلَاصِ مِنَ الْأَلَمِ وَالْعَنَاءِ، فَأَصْلُ ذَلِكَ اسْتِعَارَةٌ بِتَشْبِيهِ الْجُرْمِ وَالذَّنْبِ بِالْوِزْرِ. وَشَاعَتْ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةُ، قَالَ تَعَالَى: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٣١]. كَمَا يُعَبِّرُ عَنِ الذُّنُوبِ بِالْأَثْقَالِ، قَالَ تَعَالَى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ [سُورَة العنكبوت: ١٣].
وَحَمْلُ الْأَوْزَارِ تَمْثِيلٌ لِحَالَةِ وُقُوعِهِمْ فِي تَبِعَاتِ جَرَائِمِهِمْ بِحَالَةِ حَامِلِ الثِّقْلِ لَا يَسْتَطِيعُ تَفَصِّيًا مِنْهُ، فَلَمَّا شُبِّهَ الْإِثْمُ بِالثِّقْلِ فَأُطْلِقَ عَلَيْهِ الْوِزْرُ شُبِّهَ التَّوَرُّطُ فِي تَبِعَاتِهِ بِحَمْلِ الثِّقْلِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّخْيِيلِيَّةِ، وَحَصَلَ مِنْ الِاسْتِعَارَتَيْنِ الْمُفَرَّقَتَيْنِ اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ لِلْهَيْئَةِ كُلِّهَا.
وَهَذَا مِنْ أَبْدَعِ التَّمْثِيلِ أَنْ تَكُونَ الِاسْتِعَارَةُ التَّمْثِيلِيَّةُ صَالِحَةً لِلتَّفْرِيقِ إِلَى عِدَّةِ تَشَابِيهَ أَوِ اسْتِعَارَاتٍ.
وَإِضَافَةُ الْأَوْزَارِ إِلَى ضَمِيرِ «هُمْ» لِأَنَّهُمْ مَصْدَرُهَا.
وَوُصِفَتِ الْأَوْزَارُ بِ كامِلَةً تَحْقِيقًا لِوَفَائِهَا وَشِدَّةِ ثِقْلِهَا لِيَسْرِيَ ذَلِكَ إِلَى شِدَّةِ ارْتِبَاكِهِمْ فِي تَبِعَاتِهَا إِذْ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ إِضَافَةِ الْحَمْلِ إِلَى الْأَوْزَارِ.
وَالْمَقْصِدُ الْأَهَمُّ مِنْ هَذَا التَّأْدِيبِ تَأْدِيبُ الْأُمَّةِ فِي مُعَامَلَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا بِحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ وَإِلَانَةِ الْقَوْلِ، لِأَنَّ الْقَوْلَ يَنُمُّ عَنِ الْمَقَاصِدِ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ. ثُمَّ تَأْدِيبُهُمْ فِي مُجَادَلَةِ الْمُشْرِكِينَ اجْتِنَابًا لِمَا تُثِيرُهُ الْمُشَادَّةُ وَالْغِلْظَةُ مِنِ ازْدِيَادِ مُكَابَرَةِ الْمُشْرِكِينَ وَتَصَلُّبِهِمْ فَذَلِك من نزع الشَّيْطَانِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ، قَالَ تَعَالَى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصّلت: ٣٤]. وَالْمُسْلِمُونَ فِي مَكَّةَ يَوْمَئِذٍ طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ وَقَدْ صَرَفَ اللَّهُ عَنْهُمْ ضُرَّ أَعْدَائِهِمْ بِتَصَارِيفَ مِنْ لُطْفِهِ لِيَكُونُوا آمِنِينَ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَكُونُوا سَبَبًا فِي إِفْسَادِ تِلْكَ الْحَالَةِ.
وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: لِعِبادِي الْمُؤْمِنُونَ كَمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنِ اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ فِي هَذَا الْعُنْوَانِ. وَرُوِيَ أَنَّ قَوْلَ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أَنْ يَقُولُوا لِلْمُشْرِكِينَ: يَهْدِيكُمُ اللَّهُ، يَرْحَمُكُمُ اللَّهُ، أَيْ بِالْإِيمَانِ. وَعَنِ الْكَلْبِيِّ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُؤْذُونَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ،
فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ.
وَجَزَمَ يَقُولُوا عَلَى حَذْفِ لَامِ الْأَمْرِ وَهُوَ وَارِدٌ كَثِيرًا بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْقَوْلِ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ يَقُولُوا جَوَابًا مَنْصُوبًا فِي جَوَابِ الْأَمْرِ مَعَ حَذْفِ مَفْعُولِ الْقَوْلِ لِدَلَالَةِ الْجَوَابِ عَلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: قُلْ لَهُمْ: قُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ يَقُولُوا ذَلِكَ. فَيَكُونُ كِنَايَةً عَلَى أَنَّ الِامْتِثَالَ شَأْنُهُمْ فَإِذَا أُمِرُوا امْتَثَلُوا. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ: قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ [٣١].
وَالنَّزْغُ: أَصْلُهُ الطَّعْنُ السَّرِيعُ، وَاسْتُعْمِلَ هُنَا فِي الْإِفْسَادِ السَّرِيعِ الْأَثَرِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي فِي سُورَةِ يُوسُفَ [١٠٠].
وَجُمْلَةُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِقَوْلِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّعْلِيلِ أَنْ لَا يَسْتَخِفُّوا بِفَاسِدِ الْأَقْوَالِ فَإِنَّهَا تُثِيرُ مَفَاسِدَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ.
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى السَّمَاوَاتِ أَنَّهُ وَجَدَ إِدْرِيسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي السَّمَاءِ وَأَنَّهُ لَمَّا سَلَّمَ عَلَيْهِ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيءِ الصَّالِحِ
. فَأُخِذَ مِنْهُ أَنَّ إِدْرِيسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ تَكُنْ لَهُ وِلَادَةٌ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ لَهُ وَالِابْنِ الصَّالِحِ، وَلَا دَلِيلَ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ قَالَ ذَلِكَ اعْتِبَارًا بِأُخُوَّةِ التَّوْحِيدِ فَرَجَّحَهَا عَلَى صِلَةِ النَّسَبِ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ حِكْمَتِهِ.
عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ سَهْوًا مِنَ الرَّاوِي فَإِنَّ تِلْكَ الْكَلِمَةَ لَمْ تَثْبُتْ فِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ». وَقَدْ جَزَمَ الْبُخَارِيُّ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ بِأَنَّ إِدْرِيسَ جَدُّ نُوحٍ أَوْ جَدُّ أَبِيهِ. وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَرَ فِي قَوْلِهِ «مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ» مَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ أَبَا للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
[٥٨]
[سُورَة مَرْيَم (١٩) : آيَة ٥٨]
أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (٥٨)
الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيُّ، وَاسْمُ الْإِشَارَةِ عَائِدٌ إِلَىِ الْمَذْكُورِينَ مِنْ قَوْله ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّاء [مَرْيَم: ٢] إِلَى هُنَا. وَالْإِتْيَانُ بِهِ دُونَ الضَّمِيرِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِمُ جَدِيرُونَ بِمَا يُذْكَرُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ لِأَجْلِ مَا ذُكِرَ مَعَ الْمُشَارِ إِلَيْهِمُ مِنَ الْأَوْصَافِ، أَيْ كَانُوا أَحْرِيَاءَ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمُ وَكَوْنُهُمُ فِي عِدَادِ الْمَهْدِيِّينَ الْمُجْتَبَيْنَ وَخَلِيقِينَ بِمَحَبَّتِهِمُ لِلَّهِ تَعَالَى وَتَعْظِيمِهِمْ إِيَّاهُ.
وَقِيلَ نَقْدِرَ هُنَا بِمَعْنَى نَحُكْمَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْقُدْرَةِ، أَيْ ظَنَّ أَنْ لَنْ نُؤَاخِذَهُ بِخُرُوجِهِ مِنْ بَيْنِ قَوْمِهِ دُونَ إِذْنٍ. وَنُقِلَ هَذَا عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ وَالْكَلْبِيِّ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَاخْتَارَهُ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ يُونُسُ اجْتَهَدَ وَأَخْطَأَ.
وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَالتَّفْرِيعُ تَفْرِيعُ خُطُورِ هَذَا الظَّنِّ فِي نَفْسِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ الْخُرُوجُ مِنْهُ بَادِرَةً بدافع الْغَضَب عَن غَيْرِ تَأَمُّلٍ فِي لَوَازِمِهِ وَعَوَاقِبِهِ، قَالُوا: وَكَانَ فِي طَبْعِهِ ضِيقُ الصَّدْرِ.
وَقِيلَ مَعْنَى الْكَلَامِ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ حُذِفَتْ هَمْزَتُهُ. وَالتَّقْدِيرُ: أَفَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ؟
وَنُسِبَ إِلَى سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُعْتَمِرِ أَوْ أَبِي الْمُعْتَمِرِ. قَالَ مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ فِي «تَفْسِيره» : وَقد قرىء بِهِ.
وَعِنْدِي فِيهِ تَأْوِيلَانِ آخَرَانِ وَهُمَا: أَنَّهُ ظَنَّ وَهُوَ فِي جَوْفِ الْحُوتِ أَنَّ اللَّهَ غَيْرُ مُخَلِّصِهِ
فِي بَطْنِ الْحُوتِ لِأَنَّهُ رَأَى ذَلِكَ مُسْتَحِيلًا عَادَةً، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّعْقِيبُ بِحَسَبِ الْوَاقِعَةِ، أَيْ ظَنَّ بَعْدَ أَنِ ابْتَلَعَهُ الْحُوتُ.
وَأَمَّا نِدَاؤُهُ رَبَّهُ فَذَلِكَ تَوْبَةٌ صَدَرَتْ مِنْهُ عَنْ تَقْصِيرِهِ أَوْ عَجَلَتِهِ أَوْ خَطَأِ اجْتِهَادِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ مُبَالَغَةً فِي اعْتِرَافِهِ بِظُلْمِ نَفْسِهِ، فَأَسْنَدَ إِلَيْهِ فِعْلَ الْكَوْنِ الدَّالَّ عَلَى رُسُوخِ الْوَصْفِ، وَجَعَلَ الْخَبَرَ أَنَّهُ وَاحِدٌ مِنْ فَرِيقِ الظَّالِمِينَ وَهُوَ أَدَلُّ عَلَى أَرْسَخِيَّةِ الْوَصْفِ، أَوْ أَنَّهُ ظَنَّ بِحَسَبِ الْأَسْبَابِ الْمُعْتَادَةِ أَنَّهُ يُهَاجِرُ مِنْ دَارِ قَوْمِهِ، وَلَمْ يَظُنَّ أَنَّ اللَّهَ يَعُوقُهُ عَنْ ذَلِكَ إِذْ لَمْ يَسْبِقْ إِلَيْهِ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ.
وأَنِّي مُفَسِّرَةٌ لِفِعْلِ نَادَى.
وَتَقْدِيمُهُ الِاعْتِرَافَ بِالتَّوْحِيدِ مَعَ التَّسْبِيحِ كَنَّى بِهِ عَنِ انْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّدْبِيرِ وَقُدْرَتِهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ.
وَجَوَابُهُمْ يَقْتَضِي أَنهم تحققوا أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّهُمْ لَمْ يَتَذَكَّرُوا طُولَ مُدَّةِ مُكْثِهِمْ عَلَى تَفَاوُتٍ فِيهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِمْ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ أَنَّهُمْ قَدَّرُوا مُدَّةَ مُكْثِهِمْ فِي بَاطِنِ الْأَرْضِ بِنَحْوِ يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ الْمَعْهُودَةِ لَدَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الرُّومِ [٥٥] وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ.
وَلَمْ يَعُرِّجِ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى تَبْيِينِ الْمَقْصِدِ مِنْ سُؤَالِهِمْ وَإِجَابَتِهِمْ عَنْهُ وَتَعْقِيبِهِ بِمَا يُقَرِّرُهُ فِي الظَّاهِرِ. وَالَّذِي لَاحَ لِي فِي ذَلِكَ أَنَّ إِيقَافَهُمْ عَلَى ضَلَالِ اعْتِقَادِهِمُ الْمَاضِي جِيءَ بِهِ فِي قَالَبِ السُّؤَالِ عَنْ مُدَّةِ مُكْثِهِمْ فِي الْأَرْضِ كِنَايَةً عَنْ ثُبُوتِ خُرُوجِهِمْ مِنَ الْأَرْضِ أَحْيَاءً وَهُوَ مَا كَانُوا يُنْكِرُونَهُ، وَكِنَايَةً عَنْ خَطَأِ اسْتِدْلَالِهِمْ عَلَى إِبْطَالِ الْبَعْثِ بِاسْتِحَالَةِ رُجُوعِ الْحَيَاةِ إِلَى عِظَامٍ وَرُفَاتٍ. وَهِيَ حَالَةٌ لَا تَقْتَضِي مُدَّةَ قَرْنٍ وَاحِدٍ فَكَيْفَ وَقَدْ أُعِيدَتْ إِلَيْهِمْ الْحَيَاةِ بَعْدَ أَنْ بَقَوْا قُرُونًا كَثِيرَةً، فَذَلِكَ أَدَلُّ وَأُظْهَرُ فِي سِعَةِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَأَدْخَلُ فِي إِبْطَالِ شُبْهَتِهِمْ إِذْ قَدْ تَبَيَّنَ بُطْلَانُهَا فِيمَا هُوَ أَكْثَرُ مِمَّا قَدَّرُوهُ مِنْ عِلَّةِ اسْتِحَالَةِ عَوْدِ الْحَيَاةِ إِلَيْهِمْ.
وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ فِي آخِرِ الْآيَةِ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١١٥] وَقَدْ أَلْجَأَهُمُ اللَّهُ إِلَى إِظْهَارِ اعْتِقَادِهِمْ قِصَرَ الْمُدَّةِ الَّتِي بَقَوْهَا زِيَادَةً فِي تَشْوِيه خطإهم فَإِنَّهُمْ لمّا أحسوا من أَنْفُسَهُمْ أَنَّهُمْ صَارُوا أَحْيَاءً كَحَيَاتِهِمُ الْأُولَى وَعَادَ لَهُمْ تَفْكِيرُهُمُ الْقَدِيمُ الَّذِي مَاتُوا عَلَيْهِ، وَكَانُوا يَتَوَهَّمُونَ أَنَّهُمْ إِذَا فَنِيَتْ أَجْسَادُهُمْ لَا تَعُودُ إِلَيْهِمُ الْحَيَاةُ أَوْهَمَهُمْ كَمَالُ أَجْسَادِهِمْ أَنَّهُمْ مَا مَكَثُوا فِي الْأَرْضِ إِلَّا زَمَنًا يَسِيرًا لَا يَتَغَيَّرُ فِي مِثْلِهِ الْهَيْكَلُ الْجُثْمَانِيُّ فَبَنَوْا عَلَى أَصْلِ شُبْهَتِهِمُ الْخَاطِئَةِ خَطَأً آخَرَ.
وَأما قَوْلهم: فَسْئَلِ الْعادِّينَ فَهُوَ اعْتِرَافٌ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَضْبُطُوا مُدَّةَ مُكْثِهِمْ فَأَحَالُوا السَّائِلَ عَلَى مَنْ يَضْبُطُ ذَلِكَ مِنَ الَّذِينَ يَظُنُّونَهُمْ لَمْ يَزَالُوا أَحْيَاءً لِأَنَّهُمْ حَسِبُوا أَنَّهُمْ بُعِثُوا وَالدُّنْيَا بَاقِيَةٌ وَحَسِبُوا أَنَّ السُّؤَالَ على ظَاهره فتبرأوا مِنْ عُهْدَةِ عَدَمِ ضَبْطِ الْجَوَابِ.
مِنْ وُقُوعِ شَيْءٍ ضَارٍّ يُمْكِنُ وُقُوعُهُ، وَالتَّرَصُّدُ لِمَنْعِ وُقُوعِهِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ فِي بَرَاءَةٌ [٦٤]. وَالْمَحْمُودُ مِنْهُ هُوَ الْخَوْفُ مِنَ الضَّارِّ عِنْدَ احْتِمَالِ حُدُوثِهِ دُونَ الْأَمْرِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ حُدُوثُهُ فَالْحَذَرُ مِنْهُ ضَرْبٌ مِنَ الْهَوَسِ.
وَهَذَا يُرَجِّحُ أَنْ يَكُونَ الْمَحْذُورُ هُوَ الِاغْتِرَارَ بِإِيمَانِ السَّحَرَةِ بِاللَّهِ وَتَصْدِيقِ مُوسَى وَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ خُرُوجَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ قَدْ وَقَعَ فَلَا يُحْذَرُ مِنْهُ وَإِنَّمَا يَكُونُ السَّعْيُ فِي الانتقام مِنْهُم.
[٥٧- ٦٠]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ٥٧ إِلَى ٦٠]
فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٥٨) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (٦٠)
إِنْ جَرَيْتَ عَلَى مَا فَسَّرَ بِهِ الْمُفَسِّرُونَ قَوْلَهُ: فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ [الشُّعَرَاء: ٥٣] لَزِمَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ: فَأَخْرَجْناهُمْ لِتَفْرِيعِ الْخُرُوجِ عَلَى إِرْسَالِ الْحَاشِرِينَ، أَيْ ابْتَدَأَ بِإِرْسَالِ الْحَاشِرِينَ وَأَعْقَبَ ذَلِكَ بِخُرُوجِهِ، فَالتَّعْقِيبُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْفَاءُ بِحَسَبِ مَا يُنَاسِبُ الْمُدَّةَ الَّتِي بَيْنَ إِرْسَالِ الْحَاشِرِينَ وَبَين وُصُول الأنباء مِنْ أَطْرَافِ الْمَمْلَكَةِ بِتَعْيِينِ طَرِيقِ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ لَا يَخْرُجُ فِرْعَوْنُ بِجُنْدِهِ عَلَى وَجْهِهِ، غَيْرَ عَالِمٍ بِطَرِيقِهِمْ. وَضَمِيرُ النَّصْبِ عَائِدٌ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَنْ مَعَهُ مَفْهُومًا مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ [الشُّعَرَاء: ٥٢].
وَإِنْ جَرَيْتَ عَلَى مَا فَسَّرْنَا بِهِ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ [الشُّعَرَاء: ٥٣] وَلَا أَخَالُكَ إِلَّا مُنْشَرِحَ الصَّدْرِ لِاخْتِيَارِ ذَلِكَ، فَلْتَجْعَلِ الْفَاءَ فِي فَأَخْرَجْناهُمْ تَفْرِيعًا عَلَى جُمْلَةِ:
إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ [الشُّعَرَاء: ٥٢]. وَالتَّقْدِيرُ: فَأَسْرَى مُوسَى بِبَنِي إِسْرَائِيلَ فَأَخْرَجْنَا فِرْعَوْنَ وَجُنْدَهُ مِنْ بِلَادِهِمْ فِي طَلَبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَاتَّبَعُوا بَنِي إِسْرَائِيل.
وَضمير: فَأَخْرَجْناهُمْ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ عَائِدٌ إِلَى مَا يُفْهَمُ مِنَ الْمَقَامِ، أَيْ أَخْرَجْنَا
فِرْعَوْنَ وَجُنْدَهُ. وَالْجَنَّاتُ: جَنَّاتُ النَّخِيلِ الَّتِي كَانَتْ عَلَى ضِفَافِ النِّيلِ. وَالْعُيُونُ: مَنَابِعُ تُحْفَرُ عَلَى خِلْجَانِ النِّيلِ. وَالْكُنُوزُ: الْأَمْوَالُ الْمُدَّخَرَةُ.
وَالْمَقَامُ: أَصْلُهُ مَحَلُّ الْقِيَامِ أَوْ مَصْدَرُ قَامَ. وَالْمَعْنَى عَلَى الْأَوَّلِ: مَسَاكِنُ كَرِيمَةٌ، وَعَلَى الثَّانِي: قِيَامُهُمْ فِي مُجْتَمَعِهِمْ، وَالْكَرِيمُ: النَّفِيسُ فِي نَوْعِهِ. وَذَلِكَ مَا
وَالثَّوَاءُ: الْإِقَامَةُ.
وَضَمِيرُ عَلَيْهِمُ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ لَا إِلَى أَهْلِ مَدْيَنَ لِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتْلُو آيَاتِ اللَّهِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ.
وَالْمُرَادُ بِالْآيَاتِ، الْآيَاتُ الْمُتَضَمِّنَةُ قِصَّةَ مُوسَى فِي أَهْلِ مَدْيَنَ مِنْ قَوْلِهِ وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ إِلَى قَوْلِهِ فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ [الْقَصَص: ٢٢- ٢٩]. وَبِمِثْلِ
هَذَا الْمَعْنَى قَالَ مُقَاتِلٌ وَهُوَ الَّذِي يَسْتَقِيمُ بِهِ نَظْمُ الْكَلَامِ، وَلَوْ جُعِلَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى أَهْلِ مَدْيَنَ لَكَانَ أَنْ يُقَالَ: تَشْهَدُ فِيهِمْ آيَاتنَا.
وَجُمْلَة تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا عَلَى حَسَبِ تَفْسِيرِ مُقَاتِلٍ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ كُنْتَ وَهِيَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ لِاخْتِلَافِ زَمَنِهَا مَعَ زَمَنِ عَامِلِهَا كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ. وَالْمَعْنَى: مَا كُنْتَ مُقِيمًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ كَمَا يُقِيمُ الْمُسَافِرُونَ فَإِذَا قَفَلُوا مِنْ أَسْفَارِهِمْ أَخَذُوا يُحَدِّثُونَ قَوْمَهُمْ بِمَا شَاهَدُوا فِي الْبِلَادِ الْأُخْرَى.
وَالِاسْتِدْرَاكُ فِي قَوْلِهِ وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ظَاهِرٌ، أَيْ مَا كُنْتَ حَاضِرًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ فَتَعْلَمَ خَبَرَ مُوسَى عَنْ مُعَايَنَةٍ وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَكَ بِوَحْيِنَا فَعَلَّمْنَاكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُهُ أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا.
وَعَدَلَ عَنْ أَنْ يُقَالَ: وَلَكِنَّا أَوْحَيْنَا بِذَلِكَ، إِلَى قَوْلِهِ وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ لِأَنَّ الْمَقْصِدَ الْأَهَمَّ هُوَ إِثْبَاتُ وُقُوعِ الرِّسَالَةِ مِنَ اللَّهِ لِلرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي قَوْلِهِمْ وَقَوْلِ أَمْثَالِهِمْ مَا سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ [الْقَصَص: ٣٦] وَتُعْلَمَ رِسَالَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدَلَالَةِ الِالْتِزَامِ مَعَ مَا يَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً [الْقَصَص: ٤٦] الْآيَةَ فَالِاحْتِجَاجُ وَالتَّحَدِّي فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَالْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا تَحَدٍّ بِمَا علمه النبيء عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ خَبَرِ الْقِصَّة الْمَاضِيَة.
[٤٦]
[سُورَة الْقَصَص (٢٨) : آيَة ٤٦]
وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٦)
جَانِبُ الطُّورِ: هُوَ الْجَانِبُ الْغَرْبِيُّ، وَهُوَ الْجَانِبُ الْأَيْمَنُ الْمُتَقَدِّمُ وَصَفَهُ بِذَيْنِكَ
وَالِاسْتِدْرَاكُ فِي وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ اسْتِدْرَاكٌ عَلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ جُمْلَةُ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ أَيْ لَقَدْ بَلَغَكُمْ ذَلِكَ وَكَانَ الشَّأْنُ أَنْ تَسْتَعِدُّوا لَهُ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ، أَيْ: لَا تَتَصَدَّوْنَ لِلْعِلْمِ بِمَا فِيهِ النَّفْعُ بَلْ كَانَ دَأْبَكُمُ الْإِعْرَاضُ عَنْ تَصْدِيقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَفِي التَّعْبِيرِ بِنَفْيِ الْعِلْمِ وَقَصْدِ نَفْيِ الِاهْتِمَامِ بِهِ وَالْعِنَايَةِ بِتَلَقِّيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ التَّصَدِّيَ لِلتَّعَلُّمِ وَسِيلَة لحصوله.
[٥٧]
[سُورَة الرّوم (٣٠) : آيَة ٥٧]
فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٥٧)
تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ [الرّوم: ٥٥]. وَالَّذِينَ ظَلَمُوا هُمُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ أَقْسَمُوا مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ، فَالتَّعْبِيرُ عَنْهُمْ بِالَّذِينَ ظَلَمُوا إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِغَرَضِ التَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ بِوَصْفِ الظُّلْمِ وَهُوَ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ لِأَنَّهُ جَامِعٌ لِفُنُونِ الظُّلْمِ، فَفِيهِ الِاعْتِدَاءُ عَلَى حَقِّ اللَّهِ، وَظُلْمُ الْمُشْرِكِ نَفْسَهُ بِتَعْرِيضِهَا لِلْعَذَابِ، وَظُلْمُهُمُ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّكْذِيبِ، وَظُلْمُهُمُ الْمُؤْمِنِينَ بِالِاعْتِدَاءِ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَبْشَارِهِمْ.
وَالْمَعْذِرَةُ: اسْمُ مَصْدَرِ اعْتَذَرَ، إِذَا أَبْدَى عِلَّةً أَوْ حُجَّةً لِيَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ مُؤَاخَذَةً عَلَى ذَنْبٍ أَوْ تَقْصِيرٍ. وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ فِعْلِ عَذَرَهُ، إِذَا لَمْ يُؤَاخِذْهُ عَلَى ذَنْبٍ أَوْ تَقْصِيرٍ لِأَجْلِ ظُهُورِ سَبَبٍ يَدْفَعُ عَنْهُ الْمُؤَاخَذَةَ بِمَا فَعَلَهُ. وَإِضَافَةُ (مَعْذِرَةٍ) إِلَى ضَمِيرِ الَّذِينَ ظَلَمُوا تَقْتَضِي أَنَّ الْمَعْذِرَةَ وَاقِعَةٌ مِنْهُمْ. ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِضَافَةُ لِلتَّعْرِيفِ بِمَعْذِرَةٍ مَعْهُودَةً فَتَكُونُ هِيَ قَوْلُهُمْ مَا لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ [الرّوم: ٥٥] كَمَا تَقَدَّمَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّعْرِيفُ لِلْعُمُومِ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْمَصْدَرِ الْمُضَافِ، أَيْ: لَا تَنْفَعُهُمْ مَعْذِرَةٌ يَعْتَذِرُونَ بِهَا مِثْلَ قَوْلِهِمْ غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا [الْمُؤْمِنُونَ: ١٠٦] وَقَوْلِهِمْ هؤُلاءِ أَضَلُّونا [الْأَعْرَاف: ٣٨].
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا لَا يُنَافِي قَوْلَهُ تَعَالَى وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [المرسلات: ٣٦] الْمُقْتَضِي نَفْيَ وُقُوعِ الِاعْتِذَارِ مِنْهُمْ لِأَنَّ الِاعْتِذَارَ الْمَنْفِيَّ هُوَ الِاعْتِذَارُ الْمَأْذُونُ فِيهِ، أَيِ:
الْمَقْبُولُ، لِأَنَّ اللَّهَ لَوْ
بِتِلْكَ التَّوْبَةِ لِمَا فِي الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ مِنَ الْعِنَايَةِ.
وَذَكَرَ الْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكَاتِ وَالْمُؤْمِنَاتِ مَعَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي حِينِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ ذَلِكَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ الَّتِي شَاعَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ شُمُولُهُ لِلنِّسَاءِ نَحْوَ قَوْلِهِمْ: حَلَّ بِبَنِي فُلَانٍ مَرَضٌ يُرِيدُونَ وَبِنِسَائِهِمْ.
فَذِكْرُ النِّسَاءِ فِي الْآيَةِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ لَهُنَّ شَأْنًا كَانَ فِي حَوَادِثِ غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ مِنْ إِعَانَةٍ لِرِجَالِهِنَّ عَلَى كَيْدِ الْمُسْلِمِينَ وَبِعَكْسِ ذَلِكَ حَالُ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ.
وَجُمْلَةُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً بِشَارَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِأَنَّ اللَّهَ عَامَلَهُمْ بِالْغُفْرَانِ وَمَا تَقْتَضِيهِ صِفَةُ الرَّحْمَةِ.
مِنَ الْقَوَاطِعِ، وَيَكُونُ الْقَصْرُ إِضَافِيًّا أَيْ لَمْ يَبْقَ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ. وَقَدْ يُقَالُ: نُسَلِّمُ أَنَّ الطُّوفَانَ لَمْ يَعُمَّ الْأَرْضَ وَلَكِنَّهُ عَمَّ الْبَشَرَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُنْحَصِرِينَ فِي الْبِلَادِ الَّتِي أَصَابَهَا الطُّوفَانُ وَلَئِنْ كَانَتْ
أَدِلَّةُ عُمُومِ الطُّوفَانِ غَيْرَ قَطْعِيَّةٍ فَإِنَّ مُسْتَنَدَاتِ الَّذِينَ أَنْكَرُوهُ غَيْرُ نَاهِضَةٍ فَلَا تُتْرَكُ ظَوَاهِرُ الْأَخْبَارِ لِأَجْلِهَا.
وَزَادَ اللَّهُ فِي عِدَادِ كَرَامَةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَوْلَهُ: وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ، فَتِلْكَ نِعْمَةٌ خَامِسَةٌ.
وَالتَّرْكُ: حَقِيقَتُهُ تَخْلِيفُ شَيءٍ وَالتَّخَلِّي عَنْهُ. وَهُوَ هَنَا مُرَادٌ بِهِ الدَّوَامُ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ أَوِ الِاسْتِعَارَةِ، لِأَنَّ شَأْنَ النِّعَمِ فِي الدُّنْيَا أَنَّهَا مَتَاعٌ زَائِلٌ بَعْدُ، طَالَ مَكْثُهَا أَوْ قَصُرَ، فَكَأَنَّ زَوَالَهَا اسْتِرْجَاعٌ مِنْ مُعْطِيهَا كَمَا
جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى»
فَشَرَّفَ اللَّهُ نُوحًا بِأَنْ أَبْقَى نِعَمَهُ عَلَيْهِ فِي أُمَمٍ بَعْدَهُ.
وَظَاهِرُ الْآخِرِينَ أَنَّهَا بَاقِيَةٌ فِي جَمِيعِ الْأُمَمِ إِلَى انْقِضَاءِ الْعَالَمِ، وَقَرِينَةُ الْمَجَازِ تَعْلِيقُ عَلَيْهِ بِ تَرَكْنا لِأَنَّهُ يُنَاسِبُ الْإِبْقَاءَ، يُقَالُ: أَبْقَى عَلَى كَذَا، أَيْ حَافَظَ عَلَيْهِ لِيَبْقَى وَلَا يَنْدَثِرَ، وعَلى هَذَا لَا يَكُونُ لِ تَرَكْنا مَفْعُولٌ، وَبَعْضُهُمْ قَدَّرَ لَهُ مَفْعُولًا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ، أَي تركنَا ثَنَاء عَلَيْهِ، فَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَذَا الْإِبْقَاءِ تَعْمِيرُهُ أَلْفَ سَنَةٍ، فَهُوَ إِبْقَاءُ أَقْصَى مَا يُمْكِنُ إِبْقَاءُ الْحَيِّ إِلَيْهِ فَوْقَ مَا هُوَ مُتَعَارَفٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بَقَاءُ حُسْنِ ذِكْرِهِ بَيْنَ الْأُمَمِ كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشُّعَرَاء: ٨٤] فَكَانَ نُوحٌ مَذْكُورًا بِمَحَامِدِ الْخِصَالِ حَتَّى قِيلَ: لَا تَجْهَلُ أُمَّةٌ مِنْ أُمَمِ الْأَرْضِ نُوحًا وَفَضْلَهُ وَتَمْجِيدَهُ وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْأَسْمَاءُ الَّتِي يُسَمُّونَهُ بِهَا بِاخْتِلَافِ لُغَاتِهِمْ. فَجَاءَ فِي «سِفْرِ التَّكْوِينِ» الْإِصْحَاحِ التَّاسِعِ: كَانَ نُوحٌ رَجُلًا بَارًّا كَامِلًا فِي أَجْيَالِهِ وَسَارَ نُوحٌ مَعَ اللَّهِ. وَوَرَدَ ذِكْرُهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ فِي قَوْلِ النَّابِغَةِ:
فَأَلْفَيْتَ الْأَمَانَة لم تخنا كَذَلِكَ كَانَ نُوحٌ لَا يَخُونُ
وَذِكْرُهُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فِي مَعْرِضِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي قَوْلِهِ: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً [الْإِسْرَاء: ٣].
وَأَهْلِ الْجَدَلِ بَعْدَ تَقْرِيرِ الْمُقْدِمَاتِ وَالْحُجَجِ أَنْ يَهْجُمُوا عَلَى الْغَرَضِ الْمَقْصُودِ، فَوَعَظَهُمْ بِهَذِهِ الْمَوْعِظَةِ.
وَأَدْخَلَ قَوْمَهُ فِي الْخِطَابِ فَنَادَاهُمْ لِيَسْتَهْوِيَهُمْ إِلَى تَعْضِيدِهِ أَمَامَ فِرْعَوْنَ فَلَا يَجِدُ فِرْعَوْنُ بُدًّا مِنَ الِانْصِيَاعِ إِلَى اتِّفَاقِهِمْ وَتَظَاهُرِهِمْ، وَأَيْضًا فَإِنَّ تَشْرِيكَ قَوْمِهِ فِي الْمَوْعِظَةِ أَدْخَلُ فِي بَابِ النَّصِيحَةِ فَابْتَدَأَ بِنُصْحِ فِرْعَوْنَ لِأَنَّهُ الَّذِي بِيَدِهِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، وَثَنَّى بِنَصِيحَةِ الْحَاضِرِينَ مِنْ قَوْمِهِ تَحْذِيرًا لَهُمْ مِنْ مَصَائِبَ تُصِيبُهُمْ مِنْ جَرَّاءِ امْتِثَالِهِمْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ بِقَتْلِ مُوسَى فَإِنَّ ذَلِكَ يُهِمُّهُمْ كَمَا يُهِمُّ فِرْعَوْنَ. وَهَذَا التَّرْتِيبُ فِي إِسْدَاءِ النَّصِيحَةِ نَظِيرُ التَّرْتِيبِ
فِي قَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ»
(١). وَلَا يَخْفَى مَا فِي نِدَائِهِمْ بِعُنْوَانِ أَنَّهُمْ قَوَّمُهُ مِنَ الِاسْتِصْغَاءِ لِنُصْحِهِ وَتَرْقِيقِ قُلُوبِهِمْ لِقَوْلِهِ.
وَابْتِدَاءُ الْمَوْعِظَةِ بِقَوْلِهِ: لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ تَذْكِيرٌ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَتَمْهِيدٌ لِتَخْوِيفِهِمْ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ، يَعْنِي: لَا تَغُرَّنَّكُمْ عَظَمَتُكُمْ وَمُلْكُكُمْ فَإِنَّهُمَا
مُعَرَّضَانِ لِلزَّوَالِ إِنْ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ.
وَالْمَقْصُودُ: تَخْوِيفُ فِرْعَوْنَ مِنْ زَوَالِ مُلْكِهِ، وَلَكِنَّهُ جَعَلَ الْمُلْكَ لِقَوْمِهِ لِتَجَنُّبِ مُوَاجَهَةِ فِرْعَوْنَ بِفَرْضِ زَوَالِ مُلْكِهِ.
وَالْأَرْضُ: أَرْضُ مِصْرَ، أَيْ نَافِذًا حُكْمُكُمْ فِي هَذَا الصُّقْعِ.
وَفَرَّعَ عَلَى هَذَا التَّمْهِيدِ: فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا، وَ (مَنْ) لِلِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ عَنْ كُلِّ نَاصِرٍ، فَالْمَعْنَى: فَلَا نَصْرَ لَنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ. وَأَدْمَجَ نَفْسَهُ مَعَ قَوْمِهِ فِي يَنْصُرُنا وجاءَنا، لِيُرِيَهُمْ أَنَّهُ يَأْبَى لِقَوْمِهِ مَا يَأْبَاهُ لِنَفْسِهِ وَأَنَّ الْمُصِيبَةَ إِنْ حَلَّتْ لَا تُصِيبُ بَعْضَهُمْ دُونَ بَعْضٍ.
وَمَعْنَى ظاهِرِينَ غَالِبِينَ، وَتَقَدَّمَ آنِفًا، أَيْ إِنْ كُنْتُمْ قَادِرِينَ عَلَى قَتْلِ مُوسَى فَاللَّهُ قَادِرٌ عَلَى هَلَاكِكُمْ.
_________
(١) بعض حَدِيث أَوله:
الدَّين النَّصِيحَة قَالُوا لمن يَا رَسُول الله قَالَ لله وَلِرَسُولِهِ
إِلَخ.
وَلَمْ يَكُنْ مَبْنِيًّا عَلَى الْفَتْحِ، وَمَا وَقَعَ فِي «الْكَشَّافِ» مِمَّا يُوهِمُ هَذَا مُؤَوَّلٌ بِمَا سَمِعْتَ، وَلِذَلِكَ سَمَّاهُ صلَة، وَلم يسمه مُتَعَلِّقًا.
وَجُمْلَةُ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ مُسْتَأْنَفَةٌ. وَالْمَلْجَأُ: مَكَان اللجأ، وَاللَّجَأُ: الْمَصِيرُ
وَالِانْحِيَازُ إِلَى الشَّيْءِ، فَالْمَلْجَأُ: الْمَكَانُ الَّذِي يَصِيرُ إِلَيْهِ الْمَرْءُ لِلتَّوَقِّي فِيهِ، وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى النَّاصِرِ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، أَيْ مَا لَكُمْ مِنْ شَيْءٍ يَقِيكُمْ مِنَ الْعَذَابِ.
وَالنَّكِيرُ: اسْمُ مَصْدَرِ أَنْكَرَ، أَيْ مَا لَكُمْ إِنْكَارٌ لِمَا جُوزِيتُمْ بِهِ، أَيْ لَا يَسَعُكُمْ إِلَّا الِاعْتِرَافُ دُونَ تَنَصُّلٍ.
[٤٨]
[سُورَة الشورى (٤٢) : آيَة ٤٨]
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (٤٨)
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ.
الْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى قَوْلِهِ: اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ [الشورى: ٤٧] الْآيَةَ، وَهُوَ جَامِعٌ لِمَا تَقَدَّمَ كَمَا عَلِمْتَ إِذْ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيئَهُ بِدَعْوَتِهِمْ لِلْإِيمَانِ مِنْ قَوْلِهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها [الشورى: ٧] ثُمَّ قَوْلِهِ: فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ [الشورى: ١٥]. وَمَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ وَاعْتَرَضَهُ مِنْ تَضَاعِيفِ الْأَمْرِ الصَّرِيحِ وَالضِّمْنِيِّ إِلَى قَوْلِهِ:
اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ [الشورى: ٤٧] الْآيَةَ، ثُمَّ فَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ إِعْلَام الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَقَامِهِ وَعَمَلِهِ إِنْ أَعْرَضَ مُعْرِضُونَ مِنَ الَّذِينَ يَدْعُوهُمْ وَبِمَعْذِرَتِهِ فِيمَا قَامَ بِهِ وَأَنَّهُ غَيْرُ مُقَصِّرٍ، وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِتَسْلِيَتِهِ عَلَى مَا لَاقَاهُ مِنْهُمْ، وَالْمَعْنَى: فَإِنْ أَعْرَضُوا بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ حَفِيظًا عَلَيْهِمْ وَمُتَكَفِّلًا بِهِمْ إِذْ مَا عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ.
وَإِذْ قَدْ كَانَ مَا سَبَقَ مِنَ الْأَمْرِ بِالتَّبْلِيغِ وَالدَّعْوَةِ مُصَدَّرًا بَقَوْلِهِ أَوَائِلَ السُّورَةِ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ [الشورى: ٦]، لَا جَرَمَ نَاسَبَ أَنْ يُفَرِّعَ عَلَى تِلْكَ الْأَوَامِرِ بَعْدَ تَمَامِهَا مِثْلَ مَا قَدَّمَ لَهَا فَقَالَ: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ. وَهَذَا الِارْتِبَاطُ هُوَ نُكْتَةُ الِالْتِفَاتِ مِنَ الْخِطَابِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ [الشورى: ٤٧]
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ إِلَى السَّلْمِ بِفَتْحِ السِّينِ. وَقَرَأَهُ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَحَمْزَةَ بِكَسْرِ
السِّينِ وَهُمَا لُغَتَانِ. وَجُمْلَةُ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ عَطْفٌ عَلَى النَّهْيِ عَطْفُ الْخَبَرِ عَلَى الْإِنْشَاءِ، وَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْوَعْدِ.
وَالْأَعْلَوْنَ: مُبَالَغَةٌ فِي الْعُلُوِّ. وَهُوَ هُنَا بِمَعْنَى الْغَلَبَةِ وَالنَّصْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى لِمُوسَى:
إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى [طه: ٦٨]، أَيْ وَاللَّهُ جَاعِلُكُمْ غَالِبِينَ.
واللَّهُ مَعَكُمْ عَطْفٌ عَلَى الْوَعْدِ. وَالْمَعِيَّةُ مَعِيَّةُ الرِّعَايَةِ وَالْكَلَاءَةِ، أَيْ وَاللَّهُ حَافِظُكُمْ وَرَاعِيكُمْ فَلَا يَجْعَل الْكَافرين عَلَيْكُمْ سَبِيلًا. وَالْمَعْنَى: وَأَنْتُمُ الْغَالِبُونَ بِعِنَايَةِ اللَّهِ وَنَصْرِهِ.
وَصِيغَ كُلٌّ مِنْ جُمْلَتَيْ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ جُمْلَةً اسْمِيَّةً لِلدَّلَالَةِ عَلَى ثَبَاتِ الْغَلَبِ لَهُمْ وَثَبَاتِ عِنَايَةِ اللَّهِ بِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَعْدٌ بِتَسْدِيدِ الْأَعْمَالِ وَنَجَاحِهَا عَكْسُ قَوْلِهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ [مُحَمَّد: ١] فَكُنِّيَ عَنْ تَوْفِيقِ الْأَعْمَالِ وَنَجَاحِهَا بِعَدَمِ وَتْرِهَا، أَيْ نَقْصِهَا لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ لَا يَنْقُصُهَا فَبِالْحَرِيِّ أَنْ لَا يُبْطِلهَا، أَي أَن لَا يُخَيِّبُهَا، وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْله: وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ [مُحَمَّد: ٤، ٥].
يُقَالُ: وَتَرَهُ يَتِرَهُ وَتْرًا وَتِرَةً كَوَعَدَ، إِذَا نَقَصَهُ،
وَفِي حَدِيثِ «الْمُوَطَّأِ» «مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ»
. وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يُرَادَ مِنْهُ صَرِيحُهُ، أَيْ يَنْقُصَكُمْ ثَوَابَكُمْ عَلَى أَعْمَالِكُمْ، أَيِ الْجِهَادِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِ فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ فَيُفِيدُ التَّحْرِيضَ عَلَى الْجِهَادِ بِالْوَعْدِ بِأَجْرِهِ كَامِلًا.
[٣٦، ٣٧]
[سُورَة مُحَمَّد (٤٧) : الْآيَات ٣٦ الى ٣٧]
إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (٣٦) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (٣٧)
إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ.
تَعْلِيلٌ لِمَضْمُونِ قَوْلِهِ: فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ [مُحَمَّد: ٣٥] الْآيَةَ، وَافْتِتَاحُهَا بِ (إِنَّ) مُغْنٍ عَنِ افْتِتَاحِهَا بِفَاءِ التَّسَبُّبِ عَلَى مَا بَيَّنَهُ فِي دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ، وَلَيْسَ اتِّصَالُ
لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [النَّحْل: ٢٥].
وَفِي الْحَدِيثِ: «مَا مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا، ذَلِكَ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سنّ الْقَتْل»
. [٣٩]
[سُورَة النَّجْم (٥٣) : آيَة ٣٩]
وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ مَا سَعى (٣٩)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [النَّجْم: ٣٨]، فَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ عَطْفًا عَلَى الْمَجْرُورِ بِالْبَاءِ فَتَكُونَ (أَنْ) مُخَفِّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ عَطْفًا عَلَى أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى فَتَكُونَ أَنْ تَفْسِيرِيَّةً، وَعَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ تَكُونُ أَنْ تَأْكِيدًا لِنَظِيرَتِهَا فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا.
وَتَعْرِيفُ الْإِنْسَانِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، وَوُقُوعُهُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ يُفِيدُ الْعُمُومَ، وَالْمَعْنَى: لَا يَخْتَصُّ بِهِ إِلَّا مَا سَعَاهُ.
وَالسَّعْيُ: الْعَمَلُ وَالِاكْتِسَابُ، وَأَصْلُ السَّعْيِ: الْمَشْيُ، فَأُطْلِقَ عَلَى الْعَمَلِ مَجَازًا مُرْسَلًا أَوْ كِنَايَةً. وَالْمُرَادُ هُنَا عَمَلُ الْخَيْرِ بِقَرِينَةِ ذِكْرِ لَامِ الِاخْتِصَاصِ وَبِأَنْ جُعِلَ مُقَابِلًا لِقَوْلِهِ: أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [النَّجْم: ٣٨].
وَالْمَعْنَى: لَا تَحْصُلُ لِأَحَدٍ فَائِدَةُ عَمَلٍ إِلَّا مَا عَمِلَهُ بِنَفْسِهِ، فَلَا يَكُونُ لَهُ عَمَلُ غَيْرِهِ، وَلَامُ الِاخْتِصَاصِ يُرَجِّحُ أَنَّ الْمُرَادَ مَا سَعَاهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَبِذَلِكَ يَكُونُ ذِكْرُ هَذَا تَتْمِيمًا لِمَعْنَى أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى، احْتِرَاسًا مِنْ أَنْ يَخْطُرَ بِالْبَالِ أَنَّ الْمَدْفُوعَ عَنْ غَيْرِ فَاعِلِهِ هُوَ الْوِزْرُ، وَأَنَّ الْخَيْرَ يَنَالُ غَيْرَ فَاعِلِهِ.
وَمَعْنَى الْآيَةِ مَحْكِيٌّ فِي الْقُرْآنِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ فِي قَوْلِهِ عَنْهُ: إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشُّعَرَاء: ٨٩].
وَهَذِهِ الْآيَةُ حِكَايَةٌ عَنْ شَرْعَيْ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى، وَإِذْ قَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا مَا لَمْ يَرِدْ نَاسِخٌ، تَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ عَمَلَ أحد لَا يجزىء عَنْ أَحَدٍ
وَمُبَايَعَةِ الْمُؤْمِنَاتِ الْمُهَاجِرَاتِ لِيُعْرَفَ الْتِزَامُهُنَّ لِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ. وَهِيَ الْآيَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ.
وَتَحْرِيمِ تَزَوُّجِ الْمُسْلِمِينَ الْمُشْرِكَاتِ وَهَذَا فِي الْآيَتَيْنِ الْعَاشِرَةِ وَالْحَادِيَةَ عَشْرَةَ.
وَالنَّهْيِ عَنْ مُوَالَاةِ الْيَهُودِ وَأَنَّهُمْ أَشْبَهُوا الْمُشْرِكِينَ وَهِيَ الْآيَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ.
[١]
[سُورَة الممتحنة (٦٠) : آيَة ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي.
اتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ وَثَبَتَ فِي «صَحِيحِ الْأَحَادِيثِ» أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَضِيَّةِ الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَ بِهِ حَاطِبُ بِنُ أَبِي بَلْتَعَةَ حَلِيفُ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى مِنْ قُرَيْشٍ. وَكَانَ حَاطِبٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ أَصْحَابِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ أَهْلِ بَدْرٍ.
وَحَاصِلُ الْقِصَّةِ مَأْخُوذَةٌ مِمَّا
فِي «صَحِيحِ الْآثَارِ» وَمَشْهُورِ السِّيرَةِ: أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَدْ تَجَهَّزَ قَاصِدًا مَكَّةَ. قِيلَ لِأَجْلِ الْعُمْرَةِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَقِيلَ لِأَجْلِ فَتْحِ مَكَّةَ وَهُوَ لَا يَسْتَقِيمُ، فَقَدِمَتْ أَيَّامَئِذٍ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ امْرَأَةٌ تُسَمَّى سَارَةٌ مَوْلَاةٌ لِأَبِي عَمْرِو بْنِ صَيْفِيِّ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ وَكَانَتْ عَلَى دِينِ الشِّرْكِ فَقَالَتْ لرَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
كُنْتُمُ الْأَهْلَ وَالْمَوَالِيَ وَالْأَصْلَ وَالْعَشِيرَةَ وَقَدْ ذَهَبَ الْمُوَالِي (تَعْنِي مَنْ قُتِلَ مِنْ مَوَالِيهَا يَوْمَ بَدْرٍ). وَقَدِ اشْتَدَّتْ بِيَ الْحَاجَةُ فَقَدَمْتُ عَلَيْكُمْ لِتُعْطُونِي وَتَكْسُونِي فَحَثَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ عَلَى إِعْطَائِهَا، فَكَسَوْهَا وَأَعْطَوْهَا وَحَمَلُوهَا، وَجَاءَهَا حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ فَأَعْطَاهَا كِتَابًا لِتُبَلِّغَهُ إِلَى مَنْ كَتَبَ إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يُخْبِرُهُمْ بِعَزْمِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْخُرُوجِ إِلَيْهِمْ، وَآجَرَهَا عَلَى إِبْلَاغِهِ فَخَرَجَتْ، وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، فَبَعَثَ عَلِيًّا وَالزُّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ وَأَبَا مَرْثَدٍ الْغَنَوِيَّ، وَكَانُوا فُرْسَانًا. وَقَالَ: انْطَلَقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ، فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً وَمَعَهَا كِتَابٌ مِنْ حَاطِبٍ إِلَى الْمُشْرِكِينَ فَخُذُوهُ مِنْهَا وَخَلُّوا سَبِيلَهَا. فَخَرَجُوا تَتَعَادَى بِهِمْ خَيْلُهُمْ حَتَّى بَلَغُوا رَوْضَةَ خَاخٍ فَإِذَا هُمْ
وَكَلَامُ «الْكَشَّافِ» يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَصْلَ الظَّنِّ: عِلْمٌ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ وَلَكِنَّهُ قَدْ يَجْرِي مَجْرَى الْعِلْمِ لِأَنَّ الظَّنَّ الْغَالِبَ يُقَامُ مَقَامُ الْعِلْمِ فِي الْعَادَاتِ وَالْأَحْكَامِ، وَقَالَ: يُقَالُ: أَظُنُّ ظَنًّا كَالْيَقِينِ أَنَّ الْأَمْرَ كَيْتَ وَكَيْتَ، فَهُوَ عِنْدَهُ إِذَا أُطْلِقَ عَلَى الْيَقِينِ كَانَ مَجَازًا. وَهَذَا أَيْضًا رَأْيُ الْجَوْهَرِيِّ وَابْنِ سِيدَهْ وَالْفَيْرُوزَآبَادِيِّ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ [الجاثية: ٣٢] فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ لِأَنَّ تَنْكِيرَ ظَنًّا أُرِيدَ بِهِ التَّقْلِيلُ، وَأُكِدَّ، بِ مَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ فَاحْتَمَلَ الْاحْتِمَالَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٦٦] وَقَوْلِهِ: وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٍ [١١٨].
وَالْمَعْنَى: إِنِّي عَلِمْتُ فِي الدُّنْيَا أَنِّي أَلْقَى الْحِسَابَ، أَيْ آمَنَتُ بِالْبَعْثِ. وَهَذَا الْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً عَنِ اسْتِعْدَادِهِ لِلْحِسَابِ بِتَقْدِيمِ الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مِمَّا كَانَ سَبَبَ سَعَادَتِهِ.
وَجُمْلَةُ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ فِي مَوْقِعِ التَّعْلِيلِ لِلْفَرَحِ وَالْبَهْجَةِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا قَوْله: هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ وَبِذَلِكَ يَكُونُ حَرْفُ (إِنَّ) لِمُجَرَّدِ الْاهْتِمَامِ وَإِفَادَةِ التَّسَبُّبِ.
وَمَوْقِعُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ مَوْقِعُ التَّفْرِيعِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ إِيتَائِهِ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ وَمَا كَانَ لِذَلِكَ مِنْ أَثَرِ الْمَسَرَّةِ وَالْكَرَامَةِ فِي الْمَحْشَرِ، فَتَكُونُ الْفَاءُ لِتَفْرِيعِ ذِكْرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى ذِكْرِ مَا قَبْلَهَا. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهَا بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ فَإِنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ اشْتَمَلَ عَلَى أَنَّ قَائِلَهُ فِي نَعِيمٍ كَمَا تَقَدَّمَ وَإِعَادَةُ الْفَاءِ مَعَ الْجُمْلَةِ مِنْ إِعَادَةِ الْعَامِلِ فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ مَعَ الْبَدَلِ لِلتَّأْكِيدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا [الْمَائِدَة: ١١٤].
وَالْعِيشَةُ: حَالَةُ الْعَيْشِ وَهَيْئَتُهُ.
وَوَصْفُ عِيشَةٍ بِ راضِيَةٍ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِمُلَابَسَةِ الْعِيشَةِ حَالَةَ صَاحِبِهَا وَهُوَ الْعَائِشُ مُلَابَسَةَ الصِّفَةِ لِمَوْصُوفِهَا.
وَالرَّاضِي: هُوَ صَاحِبُ الْعِيشَةِ لَا الْعِيشَةُ، لِأَنَّ راضِيَةٍ اسْمُ فَاعِلِ رَضِيَتْ إِذَا حَصَلَ لَهَا الرِّضَى وَهُوَ الْفَرَحُ وَالْغِبْطَةُ.
أَيْ تُقَطَّعُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى وَلَا تَزَالُ تُخَلِّفُ مَا دَامَ الْمَاءُ يَنْزِلُ عَلَيْهَا، وَتُسَمَّى الْقَتَّ.
وَالزَّيْتُونُ: الثَّمَرُ الَّذِي يُعْصَرُ مِنْهُ الزَّيْتُ الْمَعْرُوفُ.
وَالنَّخْلُ: الشَّجَرُ الَّذِي ثَمَرَتُهُ التَّمْرُ وَأَطْوَارُهُ.
وَالْحَدَائِقُ: جَمْعُ حَدِيقَةٍ وَهِيَ الْجَنَّةُ مِنْ نَخْلٍ وَكَرْمٍ وَشَجَرٍ فواكه، وَعَطْفُهَا عَلَى النَّخْلِ مِنْ عَطْفِ الْأَعَمِّ عَلَى الْأَخَصِّ، وَلِأَنَّ فِي ذِكْرِ الْحَدَائِقِ إِدْمَاجًا لِلِامْتِنَانِ بِهَا لِأَنَّهَا مَوَاضِعُ تَنَزُّهِهِمْ وَاخْتِرَافِهِمْ.
وَإِنَّمَا ذُكِرَ النَّخْلُ دُونَ ثَمَرَتِهِ، وَهُوَ التَّمْرُ، خِلَافًا لِمَا قُرِنَ بِهِ مِنَ الثِّمَارِ وَالْفَوَاكِهِ وَالْكَلَأِ، لِأَنَّ مَنَافِعَ شَجَرِ النَّخِيلِ كَثِيرَةٌ لَا تَقْتَصِرُ عَلَى ثَمَرِهِ، فَهُمْ يَقْتَاتُونَ ثَمَرَتَهُ مِنْ تَمْرٍ وَرُطَبٍ وَبُسْرٍ، وَيَأْكُلُونَ جُمَّارَهُ، وَيَشْرَبُونَ مَاءَ عُودِ النَّخْلَةِ إِذَا شُقَّ عَنْهُ، وَيَتَّخِذُونَ مِنْ نَوَى التَّمْرِ عَلَفًا لِإِبِلِهِمْ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الطَّعَامِ، فَضْلًا عَنِ اتِّخَاذِهِمُ الْبُيُوتَ وَالْأَوَانِيَ مِنْ خَشَبِهِ، وَالْحُصْرَ مِنْ سَعَفِهِ، وَالْحِبَالَ مِنْ لِيفِهِ. فَذِكْرُ اسْمِ الشَّجَرَةِ الْجَامِعَةِ لِهَذِهِ الْمَنَافِعِ أَجْمَعُ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِمُخْتَلِفِ الْأَحْوَالِ وَإِدْمَاجِ الِامْتِنَانِ بِوَفْرَةِ النِّعَمِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي سُورَةِ النَّبَأِ.
وَالْغُلْبُ: جَمْعُ غَلْبَاءَ، وَهِيَ مُؤَنَّثُ الْأَغْلَبِ، وَهُوَ غَلِيظُ الرَّقَبَةِ، يُقَالُ: غَلِبَ كَفَرِحَ،
يُوصَفُ بِهِ الْإِنْسَانُ وَالْبَعِيرُ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِغِلَظِ أُصُولِ الشَّجَرِ فَوَصْفُ الْحَدَائِقِ بِهِ إِمَّا عَلَى تَشْبِيهِ الْحَدِيقَةِ فِي تَكَاثُفِ أَوْرَاقِ شَجَرِهَا وَالْتِفَافِهَا بِشَخْصٍ غَلِيظِ الْأَوْدَاجِ وَالْأَعْصَابِ فَتَكُونُ اسْتِعَارَةً، وَإِمَّا عَلَى تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ، أَيْ غُلْبٌ شَجَرُهَا، فَيَكُونُ نَعْتًا سَبَبِيًّا وَتَكُونُ الِاسْتِعَارَةُ فِي تَشْبِيهِ كُلِّ شَجَرَةٍ بِامْرَأَةٍ غَلِيظَةِ الرَّقَبَةِ، وَذَلِكَ مِنْ مَحَاسِنِ الْحَدَائِقِ لِأَنَّهَا تَكُونُ قَدِ اسْتَكْمَلَتْ قُوَّةَ الْأَشْجَارِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً [النبأ: ١٦].
وَخُصَّتِ الْحَدَائِقُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا مَوَاضِعُ التَّنَزُّهِ وَالِاخْتِرَافِ، وَلِأَنَّهَا تَجْمَعُ أَصْنَافًا مِنَ الْأَشْجَارِ.
وَالْفَاكِهَةُ: الثِّمَارُ الَّتِي تُؤْكَلُ لِلتَّفَكُّهِ لَا لِلِاقْتِيَاتِ، مِثْلَ الرُّطَبِ وَالْعِنَبِ الرَّطْبِ وَالرُّمَّانِ وَاللَّوْزِ.


الصفحة التالية
Icon