نُزُولِ السُّوَرِ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَإِنَّهَا قَدْ سَمَّاهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَأَمَرَ بِأَنْ تَكُونَ أَوَّلَ الْقُرْآنِ.
قُلْتُ: وَلَا يُنَاكِدُ ذَلِكَ نُزُولُهَا بَعْدَ سُوَرٍ أُخْرَى لِمَصْلَحَةٍ اقْتَضَتْ سَبْقَهَا قَبْلَ أَنْ يَتَجَمَّعَ مِنَ الْقُرْآنِ مِقْدَارٌ يَصِيرُ بِهِ كِتَابًا فَحِينَ تَجَمَّعَ ذَلِكَ أُنْزِلَتِ الْفَاتِحَةُ لِتَكُونَ دِيبَاجَةَ الْكِتَابِ.
وَأَغْرَاضُهَا قَدْ عُلِمَتْ مِنْ بَيَانِ وَجْهِ تَسْمِيَتِهَا أُمَّ الْقُرْآنِ.
وَهِيَ سَبْعُ آيَاتٍ بِاتِّفَاقِ الْقُرَّاءِ وَالْمُفَسِّرِينَ، وَلَمْ يَشِذَّ عَنْ ذَلِكَ إِلَّا الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، قَالَ هِيَ ثَمَانِ آيَاتٍ، وَنُسِبَ أَيْضًا لِعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ وَإِلَى الْحُسَيْنِ الْجُعْفِيِّ (١) قَالَ هِيَ سِتُّ آيَاتٍ، وَنُسِبَ إِلَى بَعْضِهِمْ غَيْرِ مُعَيَّنٍ أَنَّهَا تِسْعُ آيَاتٍ، وَتَحْدِيدُ هَذِهِ الْآيَاتِ السَّبْعِ هُوَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ
حَدِيثُ «الصَّحِيحَيْنِ» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، قَسَمْتُ الصَّلَاةَ نِصْفَيْنِ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي فَنِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، يَقُولُ الْعَبْدُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، فَأَقُولُ: حَمِدَنِي عَبْدِي، فَإِذَا قَالَ: الْعَبْدُ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، يَقُولُ اللَّهُ: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ، قَالَ اللَّهُ:
مَجَّدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، قَالَ اللَّهُ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ [الْفَاتِحَة: ٢- ٧]، قَالَ اللَّهُ: هَؤُلَاءِ لعبدي ولعَبْد مَا سَأَلَ»
اهـ. فَهُنَّ ثَلَاثٌ ثُمَّ وَاحِدَةٌ ثُمَّ ثَلَاثٌ، فَعِنْدَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَا تُعَدُّ الْبَسْمَلَةُ آيَةً وَتُعَدُّ: أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ آيَةً، وَعِنْدَ أَهْلِ مَكَّةَ وَأَهْلِ الْكُوفَةِ تُعَدُّ الْبَسْمَلَةُ آيَةً وَتُعَدُّ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ جُزْءَ آيَةٍ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ عَدَّ الْبَسْمَلَةَ آيَةً وَعَدَّ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ آيَةً.
_________
(١) هُوَ حُسَيْن بن عَليّ بن الْوَلِيد الْجعْفِيّ مَوْلَاهُم الْكُوفِي الْمُتَوفَّى سنة ٢٠٠ هـ أحد أَعْلَام الْمُحدثين روى عَن الْأَعْمَش وروى عَنهُ أَحْمد بن حَنْبَل وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه، وَيحيى بن معِين.
بدين لَهُ فِي ذِمَّةِ الْآخَرِ فَشُبِّهَ التَّنَاصُفُ بِالْقَطْعِ لِأَنَّهُ يَقْطَعُ النِّزَاعَ النَّاشِبَ قَبْلَهُ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْقَوْدُ وَهُوَ تَمْكِينُ وَلِيِّ الْمَقْتُولِ مِنْ قَتْلِ قَاتِلِ مَوْلَاهُ قِصَاصًا قَالَ تَعَالَى:
وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ [الْبَقَرَة: ١٧٩]، وَسُمِّيتْ عُقُوبَةُ مَنْ يَجْرَحُ أَحَدًا جُرْحًا عَمْدًا
عُدْوَانًا بِأَنْ يَجْرَحَ ذَلِكَ الْجَارِحَ مِثْلَ مَا جَرَحَ غَيْرَهُ قِصَاصًا قَالَ تَعَالَى: وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ [الْمَائِدَة: ٤٥] وَسَمُّوا مُعَامَلَةَ الْمُعْتَدِي بِمِثْلِ جُرْمِهِ قِصَاصًا وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ [الْبَقَرَة: ١٩٤]، فَمَاهِيَّةُ الْقِصَاصِ تَتَضَمَّنُ مَاهِيَّةَ التَّعْوِيضِ وَالتَّمَاثُلِ.
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى يَتَحَمَّلُ مَعْنَى الْجَزَاءِ عَلَى الْقَتْلِ بِالْقَتْلِ لِلْقَاتِلِ وَتَتَحَمَّلُ مَعْنَى التَّعَادُلِ وَالتَّمَاثُلِ فِي ذَلِكَ الْجَزَاءِ بِمَا هُوَ كَالْعِوَضِ لَهُ وَالْمِثْلِ، وَتَتَحَمَّلُ مَعْنَى أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ غَيْرُ الْقَاتِلِ مِمَّنْ لَا شَرِكَةَ لَهُ فِي قَتْلِ الْقَتِيلِ فَأَفَادَ قَوْلُهُ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ حَقَّ الْمُؤَاخَذَةِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي قَتْلِ الْقَتْلَى فَلَا يَذْهَبُ حَقُّ قَتِيلٍ بَاطِلًا وَلَا يُقْتَلُ غَيْرُ الْقَاتِلِ بَاطِلًا، وَذَلِكَ إِبْطَالٌ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ إِهْمَالِ دَمِ الْوَضِيعِ إِذَا قَتَلَهُ الشَّرِيفُ وَإِهْمَالِ حَقِّ الضَّعِيفِ إِذَا قَتَلَهُ الْقَوِيُّ الَّذِي يُخْشَى قَوْمُهُ، وَمِنْ تَحَكُّمِهِمْ بِطَلَبِ قَتْلِ غَيْرِ الْقَاتِلِ إِذَا قَتَلَ أَحَدٌ رَجُلًا شَرِيفًا يَطْلُبُونَ قَتْلَ رَجُلٍ شَرِيفٍ مِثْلِهِ بِحَيْثُ لَا يَقْتُلُونَ الْقَاتِلَ إِلَّا إِذَا كَانَ بَوَاءً للمقتول أَي كف ءا لَهُ فِي الشَّرَفِ وَالْمَجْدِ وَيَعْتَبِرُونَ قِيمَةَ الدِّمَاءِ مُتَفَاوِتَةً بِحَسب تفَاوت السودد وَالشَّرَفِ وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ التَّفَاوُتَ تَكَايُلًا مِنَ الْكَيْلِ، قَالَتِ ابْنَةُ بَهْدَلِ بْنِ قَرَقَةَ الطَّائِيِّ تَسْتَثِيرُ رَهْطَهَا عَلَى قَتْلِ رَجُلٍ قَتَلَ أَبَاهَا وَتَذْكُرُ أَنَّهَا مَا كَانَتْ تَقْنَعُ بِقَتْلِهِ بِهِ لَوْلَا أَنَّ الْإِسْلَامَ أَبْطَلَ تَكَايُلَ الدِّمَاءِ:
أَمَا فِي بَنِي حِصْنٍ مِنِ ابْنِ كَرِيهَةَ | مِنَ الْقَوْمِ طَلَّابِ التِّرَاتِ غَشَمْشَمِ |
فَيَقْتُلُ جَبْرًا بِامْرِئٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ | بَوَاءً وَلَكِنْ لَا تَكَايُلَ بِالدَّمِ (١) |
وَقَدْ ثَبَتَ بِهَذِهِ الْآيَةِ شَرْعُ الْقِصَاصِ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ، وَحِكْمَةُ ذَلِكَ رَدْعُ أَهْلِ الْعُدْوَانِ عِنْدَ الْإِقْدَامِ عَلَى قَتْلِ الْأَنْفُسِ إِذَا عَلِمُوا أَنَّ جَزَاءَهُمُ الْقَتْلُ، فَإِنَّ الْحَيَاةَ أَعَزُّ شَيْءٍ عَلَى الْإِنْسَانِ فِي الْجِبِلَّةِ فَلَا تُعَادِلُ عُقُوبَةٌ الْقَتْلَ فِي الرَّدْعِ وَالِانْزِجَارِ، وَمِنْ حِكْمَةِ ذَلِكَ تَطْمِينُ أَوْلِيَاءِ الْقَتْلَى بِأَنَّ الْقَضَاءَ يَنْتَقِمُ لَهُمْ مِمَّنِ اعْتَدَى عَلَى قَتِيلِهِمْ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً [الْإِسْرَاء: ٣٣] أَيْ لِئَلَّا يَتَصَدَّى أَوْلِيَاءُ الْقَتِيلِ لِلِانْتِقَامِ مِنْ قَاتِلِ مَوْلَاهُمْ
_________
(١) جبر هُوَ اسْم قَاتل أَبِيهَا.
شَهِيرًا، دَعَا إِلَيْهِ الْتِزَامُ الْفَرِيقَيْنِ لِلَوَازِمِ أُصُولِهِمْ وَقَوَاعِدِهِمْ فَقَالَتِ الْأَشَاعِرَةُ: يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ بِنَاءً عَلَى قَاعِدَتِهِمْ فِي نَفْيِ وُجُوبِ الصَّلَاحِ عَلَى اللَّهِ، وَأَنَّ مَا يَصْدُرُ مِنْهُ تَعَالَى كُلُّهُ عَدْلٌ لِأَنَّهُ مَالِكُ الْعِبَادِ، وَقَاعِدَتُهُمْ فِي أَنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ، وَعَلَى قَاعِدَتِهِمْ فِي أَنَّ ثَمَرَةَ التَّكْلِيفِ لَا تَخْتَصُّ بِقَصْدِ الِامْتِثَالِ بَلْ قَدْ تَكُونُ لِقَصْدِ التَّعْجِيزِ وَالِابْتِلَاءِ وَجَعْلِ الِامْتِثَالِ عَلَامَةً عَلَى السَّعَادَةِ، وَانْتِفَائِهِ عَلَامَةً عَلَى الشَّقَاوَةِ، وَتَرَتُّبِ الْإِثْم لأنّ الله تَعَالَى إِثَابَةَ
الْعَاصِي، وَتَعْذِيبَ الْمُطِيعِ، فَبِالْأَوْلَى تَعْذِيبُ مَنْ يَأْمُرُهُ بِفِعْلٍ مُسْتَحِيلٍ، أَوْ مُتَعَذَّرٍ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ تَكْلِيفِ الْمُصَوِّرِ بِنَفْخِ الرُّوحِ فِي الصُّورَةِ وَمَا هُوَ بِنَافِخٍ، وَتَكْلِيفِ الْكَاذِبِ فِي الرُّؤْيَا بِالْعَقْدِ بَيْنَ شَعِيرَتَيْنِ وَمَا هُوَ بِفَاعِلٍ. وَلَا دَلِيلَ فِيهِ لِأَنَّ هَذَا فِي أُمُورِ الْآخِرَةِ، وَلِأَنَّهُمَا خَبَرَا آحَادٍ لَا تَثْبُتُ بِمِثْلِهَا أُصُولُ الدِّينِ. وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: يَمْتَنِعُ التَّكْلِيفُ بِمَا لَا يُطَاقُ بِنَاءً عَلَى قَاعِدَتِهِمْ فِي أنّه يجب الله فِعْلُ الصَّلَاحِ وَنَفْيُ الظُّلْمِ عَنْهُ، وَقَاعِدَتِهِمْ فِي أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَخْلُقُ الْمُنْكَرَاتِ مِنَ الْأَفْعَالِ، وَقَاعِدَتِهِمْ فِي أَنَّ ثَمَرَةَ التَّكْلِيفِ هُوَ الِامْتِثَالُ وَإِلَّا لَصَارَ عَبَثًا وَهُوَ مُسْتَحِيلٌ عَلَى اللَّهِ، وَأَنَّ اللَّهَ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ تَعْذِيبُ الْمُطِيعِ وَإِثَابَةُ الْعَاصِي.
وَاسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَبِالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أُصُولِهَا: مِثْلِ وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الْكَهْف: ٤٩] وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الْإِسْرَاء: ١٥] قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ [الْأَعْرَاف: ٢٨] إِلَخ.
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الَّذِي جَرَّ إِلَى الْخَوْضِ فِي الْمَسْأَلَةِ هُوَ الْمُنَاظَرَةُ فِي خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ فَإِنَّ الْأَشْعَرِيَّ لَمَّا نَفَى قُدْرَةَ الْعَبْدِ، وَقَالَ بِالْكَسْبِ، وَفَسَّرَهُ بِمُقَارَنَةِ قُدْرَةِ الْعَبْدِ لِحُصُولِ الْمَقْدُورِ دُونَ أَنْ تَكُونَ قُدْرَتُهُ مُؤَثِّرَةً فِيهِ، أَلْزَمَهُمُ الْمُعْتَزِلَةُ الْقَوْلَ بِأَنَّ اللَّهَ كَلَّفَ الْعِبَادَ بِمَا لَيْسَ فِي مَقْدُورِهِمْ، وَذَلِكَ تَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُطَاقُ، فَالْتَزَمَ الْأَشْعَرِيُّ ذَلِكَ، وَخَالَفَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ الأشعريّ فِي جَوَازِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ وَالْآيَةُ لَا تَنْهَضُ حجَّة على كلا الْفَرِيقَيْنِ فِي حُكْمِ إِمْكَانِ ذَلِكَ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمُجَوِّزُونَ: هَلْ هُوَ وَاقِعٌ، وَقَدْ حَكَى الْقُرْطُبِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ الْوُقُوعِ وَهُوَ الصَّوَابُ فِي الْحِكَايَةِ، وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ- فِي «الْبُرْهَانِ» -: «وَالتَّكَالِيفُ كُلُّهَا عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ مِنَ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ، لِأَنَّ الْمَأْمُورَاتِ كُلَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِأَفْعَالٍ هِيَ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ غَيْرُ مَقْدُورَةٍ لِلْمُكَلَّفِ، فَهُوَ مَأْمُورٌ بِالصَّلَاةِ وَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا
فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَنَالُ مِنَّا وَنَنَالُ مِنْهُ، فَقَالَ هِرَقْلُ: وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ حَتَّى يَتِمَّ. فَظَنُّهُمْ ذَلِكَ لَيْسَ بِحَقٍّ.
وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ ظَنُّ الْجَاهِلِيَّةَ الَّذِينَ لَمْ يَعْرِفُوا الْإِيمَانَ أَصْلًا فَهَؤُلَاءِ الْمُتَظَاهِرُونَ بِالْإِيمَانِ لَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِهِمْ فَبَقِيَتْ مَعَارِفُهُمْ كَمَا هِيَ مِنْ عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَالْجَاهِلِيَّةُ صِفَةٌ جَرَتْ عَلَى مَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ يُقَدَّرُ بِالْفِئَةِ أَوِ الْجَمَاعَةِ، وَرُبَّمَا أُرِيدَ بِهِ حَالَةُ الْجَاهِلِيَّةِ فِي قَوْلِهِمْ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ نِسْبَةٌ إِلَى الْجَاهِلِ أَيِ الَّذِي لَا يَعْلَمُ الدِّينَ وَالتَّوْحِيدَ، فَإِنَّ الْعَرَبَ أَطْلَقَتِ الْجَهْلَ عَلَى مَا قَابَلَ الْحِلْمَ، قَالَ ابْنُ الرُّومِيِّ:
بِجَهْلٍ كَجَهْلِ السَّيْفِ وَالسَّيْفُ مُنْتَضَى | وَحِلْمٍ كَحِلْمِ السَّيْفِ وَالسَّيْفُ مُغْمَدُ |
فَلَيْسَ سَوَاءٌ عَالِمٌ وَجَهُولُ وَقَالَ النَّابِغَةُ:
وَلَيْسَ جَاهِلُ شَيْءٍ مِثْلَ مَنْ عَلِمَا وَأَحْسَبُ أَنَّ لَفْظَ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ مُبْتَكَرَاتِ الْقُرْآنِ، وَصَفَ بِهِ أَهْلَ الشِّرْكِ تَنْفِيرًا مِنَ الْجَهْلِ، وَتَرْغِيبًا فِي الْعِلْمِ، وَلِذَلِكَ يَذْكُرُهُ الْقُرْآنُ فِي مَقَامَاتِ الذَّمِّ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ: أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ [الْمَائِدَة: ٥٠] وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى [الْأَحْزَاب: ٣٣] إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ [الْفَتْح: ٢٦]. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَمِعْتُ أَبِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُ: اسْقِنَا كَأْسًا دِهَاقًا، وَفِي حَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ: أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَشْيَاءَ كَانَ يَتَحَنَّثُ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ صَدَقَةٍ وَعَتَاقَةٍ وَصِلَةِ رَحِمٍ. وَقَالُوا: شِعْرُ الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَيَّامُ الْجَاهِلِيَّةِ. وَلَمْ يُسْمَعْ ذَلِكَ كُلُّهُ إِلَّا بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْمُسْلِمِينَ.
وَقَوْلُهُ: غَيْرَ الْحَقِّ مُنْتَصِبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ يَظُنُّونَ كَأَنَّهُ قِيلَ الْبَاطِلُ. وَانْتَصَبَ قَوْلُهُ: ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمُبَيِّنِ لِلنَّوْعِ إِذْ كُلُّ أَحَدٍ يَعْرِفُ عَقَائِدَ الْجَاهِلِيَّةِ إِنْ كَانَ مُتَلَبِّسًا بِهَا أَو تَارِكًا بهَا.
أَيْ أَمْرُنَا أَوْ شَأْنُنَا طَاعَةٌ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ [يُوسُف: ١٨]. وَلَيْسَ هُوَ نَائِبًا عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْآتِي بَدَلًا مِنَ الْفِعْلِ الَّذِي يُعْدَلُ عَنْ نَصْبِهِ إِلَى الرَّفْعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الثَّبَاتِ مِثْلَ «قَالَ سَلَامٌ»، إِذْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ هُنَا إِحْدَاثَ الطَّاعَةِ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَنَّنَا سَنُطِيعُ وَلَا يَكُونُ مِنَّا عِصْيَانٌ.
وَمَعْنَى بَرَزُوا خَرَجُوا، وَأَصْلُ مَعْنَى الْبُرُوزِ الظُّهُورُ، وَشَاعَ إِطْلَاقُهُ عَلَى الْخُرُوجِ مَجَازًا مُرْسَلًا.
وبَيَّتَ هُنَا بِمَعْنَى قَدَّرَ أَمْرًا فِي السِّرِّ وَأَضْمَرَهُ، لِأَنَّ أَصْلَ الْبَيَاتِ هُوَ فِعْلُ شَيْءٍ فِي اللَّيْلِ، وَالْعَرَبُ تَسْتَعِيرُ ذَلِكَ إِلَى مَعْنَى الْإِسْرَارِ، لِأَنَّ اللَّيْلَ أَكْتَمُ لِلسِّرِّ، وَلِذَلِكَ يَقُولُونَ: هَذَا
أَمْرٌ قُضِيَ بِلَيْلٍ، أَيْ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ:
أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ بِلَيْلٍ فَلَمَّا | أَصْبَحُوا أَصْبَحَتْ لَهُمْ ضَوْضَاءُ |
لَنَقْتُلَنَّهُمْ لَيْلًا. وَقَالَ: وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ
[النِّسَاء: ١٠٨]. وَتَاءُ الْمُضَارَعَةِ فِي غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ لِلْمُؤَنَّثِ الْغَائِبِ، وَهُوَ الطَّائِفَةُ وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ خِطَابُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ لَهُمْ أَنْتَ، فَيُجِيبُونَ عَنْهُ بِقَوْلِهِمْ: طَاعَةٌ. وَمَعْنَى وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ التَّهْدِيدُ بِإِعْلَامِهِمْ أَنَّهُ لَنْ يُفْلِتَهُمْ مِنْ عِقَابِهِ، فَلَا يَغُرَّنَّهُمْ تَأَخُّرُ الْعَذَابِ مُدَّةً.
وَقَدْ دَلَّ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: يَكْتُبُ عَلَى تَجَدُّدِ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَا يُضَاعُ مِنْهُ شَيْءٌ.
وَقَوْلُهُ: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أَمْرٌ بِعَدَمِ الِاكْتِرَاثِ بِهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَا يُخْشَى خِلَافُهُمْ، وَأَنَّهُ يَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا أَيْ مُتَوَكَّلًا عَلَيْهِ، وَلَا يَتَوَكَّلُ عَلَى طَاعَةِ هَؤُلَاءِ وَلَا يُحْزِنُهُ خِلَافُهُمْ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بَيَّتَ طائِفَةٌ- بِإِظْهَارِ تَاءِ (بَيَّتَ) مِنْ طَاءِ (طَائِفَةٍ) -. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو، وَحَمْزَةُ، وَيَعْقُوبُ، وَخَلَفٌ- بِإِدْغَامِ التَّاءِ فِي الطَّاءِ- تَخْفِيفًا لقرب مخرجيهما.
الثَّالِثَةُ: أَنْ تُحْذَفَ (أَنْ) وَيُرْفَعَ الْفِعْلُ عَمَلًا عَلَى الْقَرِينَةِ، كَمَا رُوِيَ بَيْتُ طَرَفَةَ (أَحْضُرُ) بِرَفْعِ أَحْضُرُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْمَثَلِ (تَسْمَعُ بِالْمُعَيْدِيِّ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَرَاهُ)،
وَفِي الْحَدِيثِ «تَحْمِلُ لِأَخِيكَ الرِّكَابَ صَدَقَةٌ»
. الرَّابِعَةُ: عَوْدُ الضَّمِيرِ عَلَى الْفِعْلِ مُرَادًا بِهِ الْمَصْدَرُ، كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ اقْتَصَرَ عَلَيْهَا النُّحَاةُ فِي التَّمْثِيلِ حَتَّى يُخَيَّلَ لِلنَّاظِرِ أَنَّهُ مِثَالٌ فَذٌّ فِي بَابِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً [الْكَهْف: ٤]. وَأَمْثِلَتُهُ كَثِيرَةٌ: مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ [الْكَهْف: ٥]، فَضَمِيرُ بِهِ عَائِدٌ إِلَى الْقَوْلِ الْمَأْخُوذِ مِنْ قالُوا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ [الْحَج:
٣٠]، فَضَمِيرُ فَهُوَ عَائِدٌ لِلتَّعْظِيمِ الْمَأْخُوذِ مِنْ فِعْلِ يُعَظِّمْ، وَقَوْلُ بَشَّارٍ:
وَاللَّهِ رَبِّ مُحَمَّدٍ | مَا إِنْ غَدَرْتُ وَلَا نَوَيْتُهُ |
وَمَعْنَى أَقْرَبُ لِلتَّقْوى أَيْ لِلتَّقْوَى الْكَامِلَةِ الَّتِي لَا يَشِذُّ مَعَهَا شَيْءٌ مِنَ الْخَيْرِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَدْلَ هُوَ مِلَاكُ كَبْحِ النَّفْسِ عَنِ الشَّهْوَةِ وَذَلِكَ ملاك التّقوى.
[٩، ١٠]
[سُورَة الْمَائِدَة (٥) : الْآيَات ٩ إِلَى ١٠]
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٠)
عُقِّبَ أَمْرُهُمْ بِالتَّقْوَى بِذِكْرِ مَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ الْمُتَّقِينَ تَرْغِيبًا فِي الِامْتِثَالِ، وَعُطِفَ عَلَيْهِ حَالُ أَضْدَادِ الْمُتَّقِينَ تَرْهِيبًا. فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا. وَمَفْعُولُ وَعَدَ الثَّانِي مَحْذُوفٌ تَنْزِيلًا لِلْفِعْلِ مَنْزِلَةَ الْمُتَعَدِّي إِلَى وَاحِدٍ.
وَجُمْلَةُ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا، فَاسْتُغْنِيَ بِالْبَيَانِ عَنِ الْمَفْعُولِ، فَصَارَ التَّقْدِيرُ: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا لَهُمْ.
وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْ هَذَا النَّظْمِ لِمَا فِي إِثْبَاتِ الْمَغْفِرَةِ لَهُمْ بِطَرِيقِ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى الثَّبَاتِ وَالتَّقَرُّرِ.
أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَاتِ فِي قَوْلِهِ: مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ مَا عَدَا الْقُرْآنَ. وَهُوَ تَخْصِيصٌ لَا يُنَاسِبُ مَقَامَ كَوْنِ الْقُرْآنِ أَعْظَمَهَا.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَسَوْفَ فَاءُ التَّسَبُّبِ عَلَى قَوْلِهِ: كَذَّبُوا بِالْحَقِّ، أَيْ يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ إِصَابَتُهُمْ بِمَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ اللَّهُ.
وَحَرْفُ التَّسْوِيفِ هُنَا لِتَأْكِيدِ حُصُولِ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَاسْتَعْمَلَ الْإِتْيَانَ هُنَا فِي الْإِصَابَةِ وَالْحُصُولِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ. وَالْأَنْبَاءُ جَمْعُ نَبَأٍ، وَهُوَ الْخَبَرُ الَّذِي لَهُ أَهَمِّيَّةٌ.
وَأَطْلَقَ النَّبَأَ هُنَا عَلَى تَحْقِيقِ مَضْمُونِ الْخَبَرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ، أَيْ تَحَقُّقَ نَبَئِهِ، لِأَنَّ النَّبَأَ نَفْسَهُ قَدْ عُلِمَ مِنْ قَبْلُ.
وَمَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ هُوَ الْقُرْآنُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً فَإِنَّ الْقُرْآنَ مُشْتَمِلٌ عَلَى وَعِيدِهِمْ بِعَذَابِ الدُّنْيَا بِالسَّيْفِ، وَعَذَابِ الْآخِرَةِ. فَتِلْكَ أَنْبَاءٌ أَنْبَأَهُمْ بهَا فكذبّوه واستهزؤا بِهِ فَتَوَعَّدَهُمُ اللَّهُ بِأَنَّ تِلْكَ الْأَنْبَاءَ سَيُصِيبُهُمْ مَضْمُونُهَا. فَلَمَّا قَالَ لَهُمْ: مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ عَلِمُوا أَنَّهَا أَنْبَاءُ الْقُرْآنِ لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ يَسْتَهْزِئُونَ بِالْقُرْآنِ
وَعَلِمَ السَّامِعُونَ أَنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا مُسْتَهْزِئِينَ بِالْقُرْآنِ. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الِاسْتِهْزَاءِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ.
[٦]
[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : آيَة ٦]
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٦)
هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ: فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ. جَاءَ بَيَانُهَا بِطَرِيقَةِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ عَنْ عَدَمِ رُؤْيَةِ الْقُرُونِ الْكَثِيرَةِ الَّذِينَ أَهْلَكَتْهُمْ حَوَادِثُ خَارِقَةٌ لِلْعَادَةِ يَدُلُّ حَالُهَا عَلَى أَنَّهَا مُسَلَّطَةٌ عَلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ عِقَابًا لَهُمْ عَلَى التَّكْذِيبِ.
بِالِازْدِيَادِ وَالتَّمَلِّي مِنْ تِلْكَ الْأَحْوَالِ، حَتَّى تَصِيرَ فِيهِمْ مَلِكَةً وَسَجِيَّةً، فَيَتَعَذَّرُ إِقْلَاعُهُمْ عَنْهَا، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ إِنَّ مُفِيدَةً مَعْنَى التَّعْلِيلِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ تَهْدِيدًا وَوَعِيدًا لَهُمْ، إِنْ لَمْ يُقْلِعُوا عَمَّا هُمْ فِيهِ، بِأَنَّ اللَّهَ يَحْرِمُهُمُ التَّوْفِيقَ وَيَذَرَهُمْ فِي غَيِّهِمْ وَعَمَهِهِمْ، فَاللَّهُ هَدَى كَثِيرًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ هُمُ الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فِي الشِّرْكِ، أَيْ لَمْ يَكُونُوا قَادَةً وَلَا مُتَصَلِّبِينَ فِي شِرْكِهِمْ، وَالَّذِينَ كَانُوا بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ هُمُ الَّذِينَ حَرَمَهُمُ اللَّهُ الْهُدَى، مِثْلُ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ أَصْحَابِ الْقَلِيبِ يَوْمَ بَدْرٍ، فَأَمَّا الَّذِينَ اتَّبَعُوا الْإِسْلَامَ بِالْقِتَالِ مِثْلُ مُعْظَمِ أَهْلِ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَكَذَلِكَ هَوَازِنَ وَمَنْ
بَعْدِهَا، فَهَؤُلَاءِ أَسْلَمُوا مُذْعِنِينَ ثُمَّ عَلِمُوا أَنَّ آلِهَتَهُمْ لَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ شَيْئًا فَحَصَلَ لَهُمُ الْهُدَى بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَانُوا مِنْ خِيرَةِ الْمُسْلِمِينَ وَنَصَرُوا اللَّهَ حَقَّ نَصْرِهِ. فَالْمُرَادُ مِنْ نَفْيِ الْهُدَى عَنْهُمْ: إِمَّا نَفْيُهُ عَنْ فَرِيقٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ مَاتُوا عَلَى الشِّرْكِ، وَإِمَّا نَفْيُ الْهُدَى الْمَحْضِ الدَّالِّ عَلَى صَفَاءِ النَّفْسِ وَنُورِ الْقَلْبِ، دُونَ الْهُدَى الْحَاصِلِ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، فَذَلِكَ هُدًى فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى [الْحَدِيد: ١٠].
[١٤٥]
[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : آيَة ١٤٥]
قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤٥)
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ نَشَأَ عَنْ إِبْطَالِ تَحْرِيمِ مَا حَرَّمَهُ الْمُشْرِكُونَ، إِذْ يَتَوَجَّهُ سُؤَالُ سَائِلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ الثَّابِتَةِ، إِذْ أُبْطِلَتِ الْمُحَرَّمَاتُ الْبَاطِلَةُ،
الْجَنَّةِ دُونَ ضَمِيرِهِمْ تَوْطِئَةً لِذِكْرِ نِدَاءِ أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ وَنِدَاءِ أَصْحَابِ النَّارِ، لِيُعَبِّرَ عَنْ كُلِّ فَرِيقٍ بِعُنْوَانِهِ وَلِيُكُونَ مِنْهُ مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ فِي مُقَابَلَتِهِ بِقَوْلِهِ: أَصْحابَ النَّارِ.
وَهَذَا النِّدَاءُ خِطَابٌ مِنْ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ، عَبَّرَ عَنْهُ بِالنِّدَاءِ كِنَايَةً عَنْ بُلُوغِهِ إِلَى أَسْمَاعِ أَصْحَابِ النَّارِ مِنْ مَسَافَةٍ سَحِيقَةِ الْبُعْدِ، فَإِنَّ سِعَةَ الْجَنَّةِ وَسِعَةَ النَّارِ تَقْتَضِيَانِ ذَلِكَ لَا سِيَّمَا قَوْلِهِ: وَبَيْنَهُما حِجابٌ [الْأَعْرَاف: ٤٦]، وَوَسِيلَةُ بُلُوغِ هَذَا الْخِطَابِ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى أَصْحَابِ النَّارِ وَسِيلَةٌ عَجِيبَةٌ غَيْرُ مُتَعَارَفَةٍ. وَعِلْمُ اللَّهِ وَقُدْرَتُهُ لَا حَدَّ لِمُتَعَلَّقَاتِهِمَا.
وَ (أَنْ) فِي قَوْلِهِ: أَنْ قَدْ وَجَدْنا تَفْسِيرِيَّةٌ لِلنِّدَاءِ. وَالْخَبَرُ الَّذِي هُوَ قَدْ وَجَدْنا مَا وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِ مَعْنَاهُ وَهُوَ الِاغْتِبَاطُ بِحَالِهِمْ، وَتَنْغِيصُ أَعْدَائِهِمْ بِعِلْمِهِمْ بِرَفَاهِيَةِ حَالِهِمْ، وَالتَّوَرُّكُ عَلَى الْأَعْدَاءِ إِذْ كَانُوا يَحْسَبُونَهُمْ قَدْ ضَلُّوا حِينَ فَارَقُوا دِينَ آبَائِهِمْ، وَأَنَّهُمْ حَرَمُوا أَنْفُسَهُمْ طَيِّبَاتِ الدُّنْيَا بِالِانْكِفَافِ عَنِ الْمَعَاصِي، وَهَذِهِ مَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٌ كُلُّهَا مِنْ لَوَازِمِ الْإِخْبَارِ، وَالْمَعَانِي الْكِنَائِيَّةُ لَا يَمْتَنِعُ تَعَدُّدُهَا لِأَنَّهَا تَبَعٌ لِلَّوَازِمِ الْعَقْلِيَّةِ، وَهَذِهِ الْكِنَايَةُ
جُمِعَ فِيهَا بَيْنَ الْمَعْنَى الصَّرِيحِ وَالْمَعَانِي الْكِنَائِيَّةِ، وَلَكِنَّ الْمَعَانِي الْكِنَائِيَّةَ هِيَ الْمَقْصُودَةُ إِذْ لَيْسَ الْقَصْدُ أَنْ يَعْلَمَ أَهْلُ النَّارِ بِمَا حَصَلَ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ وَلَكِنَّ الْقَصْدَ مَا يَلْزَمُ عَنْ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْمَعَانِي الصَّرِيحَةُ فَمَدْلُولَةٌ بِالْأَصَالَةِ عِنْدَ عَدَمِ الْقَرِينَةِ الْمَانِعَةِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي جُمْلَةِ: فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا مُرْسَلًا بِعَلَاقَةِ اللُّزُومِ فِي تَوْقِيفِ الْمُخَاطَبِينَ عَلَى غَلَطِهِمْ، وَإِثَارَةِ نَدَامَتِهِمْ وَغَمِّهِمْ عَلَى مَا فَرَطَ مِنْهُمْ، وَالشَّمَاتَةِ بِهِمْ فِي عَوَاقِبِ عِنَادِهِمْ. وَالْمَعَانِي الْمَجَازِيَّةُ الَّتِي عَلَاقَتُهَا اللُّزُومُ يَجُوزُ تَعَدُّدُهَا مِثْلُ الْكِنَايَةِ، وَقَرِينَةُ الْمَجَازِ هِيَ: ظُهُورُ أَنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ يَعْلَمُونَ أَنَّ أَصْحَابَ النَّارِ وَجَدُوا وَعْدَهُ حَقًّا.
وَالْوُجْدَانُ: إِلْفَاءُ الشَّيْءِ وَلُقِيُّهُ، قَالَ تَعَالَى: فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ [الْقَصَص:
١٥] وَفِعْلُهُ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، قَالَ تَعَالَى: وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ [النُّور: ٣٩] وَيَغْلِبُ أَنْ
الْمَأْكُولَاتِ وَصِفَاتِهَا، وَمَا جُهِلَتْ بَعْضُ صِفَاتِهِ وَحَرَّمَتْهُ الشَّرِيعَةُ مِثْلُ تَحْرِيمِ الْخِنْزِيرِ.
وَوَضْعُ الْإِصْرِ إِبْطَالُ تَشْرِيعِهِ، أَيْ بِنَسْخِ مَا كَانَ فِيهِ شِدَّةٌ مِنَ الشَّرَائِعِ الْإِلَهِيَّةِ السَّابِقَةِ، وَحَقِيقَةُ الْوَضْعِ الْحَطُّ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى سُفْلٍ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي إِبْطَالِ التَّكْلِيفِ بِالْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ.
وَحَقُّهُ التَّعْدِيَةُ إِلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي بِحَرْفِ (فِي) الظَّرْفِيَّةِ، فَإِذَا عُدِّيَ إِلَيْهِ بِ (عَنْ) دَلَّ
عَلَى نَقْلِ الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ مِنْ مَدْخُولِ (عَنْ) وَإِذَا عُدِّيَ إِلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي بِ (عَلَى) كَانَ دَالًّا عَلَى حَطِّ الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ فِي مَدْخُولِ (عَلَى) حَطًّا مُتَمَكِّنًا، فَاسْتُعِيرَ يَضَعُ عَنْهُمْ هُنَا إِلَى إِزَالَةِ التَّكْلِيفَاتِ الَّتِي هِيَ كَالْإِصْرِ وَالْأَغْلَالِ فَيَشْمَلُ الْوَضْعُ مَعْنَى النَّسْخِ وَغَيْرِهِ، كَمَا سَيَأْتِي.
وَ «الْإِصْرُ» ظَاهِرُ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي «الْكَشَّاف» و «الأساس» إِنَّه حَقِيقَة فِي الثِّقَلِ، (بِكَسْرِ الثَّاءِ) الْحِسِّيِّ بِحَيْثُ يَصْعُبُ مَعَهُ التَّحَرُّكُ، وَلَمْ يُقَيِّدْهُ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ دَوَاوِينِ اللُّغَةِ، وَهَذَا الْقَيْدُ مِنْ تَحْقِيقَاتِهِ، وَهُوَ الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ فِي «الْأَحْكَامِ»، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا التَّكَالِيفُ الشَّاقَّةُ وَالْحَرَجُ فِي الدِّينِ، فَإِنْ كَانَ كَمَا قَيَّدَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ يَكُنْ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ تَمْثِيلِيَّةً بِتَشْبِيهِ حَالِ الْمُزَالِ عَنْهُ مَا يُحْرِجُهُ مِنَ التَّكَالِيفِ بِحَالِ مَنْ كَانَ مُحَمَّلًا بِثِقَلٍ فَأُزِيلَ عَنْ ظَهْرِهِ ثِقَلُهُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ [الْأَنْعَام: ٣١] وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَ «الْإِصْرُ» اسْتِعَارَةً مَكْنِيَّةً وَيَضَعُ تَخْيِيلًا، وَهُوَ أَيْضًا اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ لِلْإِزَالَةِ.
وَقَدْ كَانَتْ شَرِيعَةُ التَّوْرَاةِ مُشْتَمِلَةً عَلَى أَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ شَاقَّةٍ مِثْلِ الْعُقُوبَةِ بِالْقَتْلِ عَلَى مَعَاصٍ كَثِيرَةٍ، مِنْهَا الْعَمَلُ يَوْمَ السَّبْتِ، وَمِثْلُ تَحْرِيمِ مَأْكُولَاتٍ كَثِيرَةٍ طَيِّبَةٍ وَتَغْلِيظِ التَّحْرِيمِ فِي أُمُورٍ هَيِّنَةٍ، كَالْعَمَلِ يَوْمَ السَّبْتِ، وَأَشَدُّ مَا فِي شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ مِنَ الْإِصْرِ أَنَّهَا لَمْ تُشْرَعْ فِيهَا التَّوْبَةُ مِنَ الذُّنُوبِ، وَلَا اسْتِتَابَةُ الْمُجْرِمِ، وَالْإِصْرُ قَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٨٦] وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحْدَهُ فِي الْقِرَاءَاتِ الْمَشْهُورَةِ، (آصَارَهُمْ) بِلَفْظِ الْجَمْعِ، وَالْجَمْعُ وَالْإِفْرَادُ فِي الْأَجْنَاسِ سَوَاءٌ.
والْأَغْلالَ جَمْعُ غُلٍّ- بِضَمِّ الْغَيْنِ- وَهُوَ إِطَارٌ مِنْ حَدِيدٍ يُجْعَلُ فِي رَقَبَةِ الْأَسِيرِ
وَالنَّصْرُ حُصُولُ عَاقِبَةِ الْقِتَالِ الْمَرْجُوَّةِ. وَتَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ.
وَالشِّفَاءُ: زَوَالُ الْمَرَضِ وَمُعَالَجَةُ زَوَالِهِ. أُطْلِقَ هُنَا اسْتِعَارَةً لِإِزَالَةِ مَا فِي النُّفُوسِ مِنْ تَعَبِ الْغَيْظِ وَالْحِقْدِ، كَمَا اسْتُعِيرَ ضِدُّهُ وَهُوَ الْمَرَضُ لِمَا فِي النُّفُوسِ مِنَ الْخَوَاطِرِ الْفَاسِدَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [الْبَقَرَة: ١٠] قَالَ قَيْسُ بْنُ زُهَيْرٍ:
شَفَيْتُ النَّفْسَ مِنْ حمل بن يدّر | وَسَيْفِي مِنْ حُذَيْفَةَ قَدْ شفاني |
وَعَطْفُ فِعْلِ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ عَلَى فِعْلِ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، يُؤْذِنُ بِاخْتِلَافِ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَيَكْفِي فِي الِاخْتِلَافِ بَيْنَهُمَا اخْتِلَافُ الْمَفْهُومَيْنِ وَالْحَالَيْنِ، فَيَكُونُ ذَهَابُ غَيْظِ الْقُلُوبِ مُسَاوِيًا لِشِفَاءِ الصُّدُورِ، فَيَحْصُلُ تَأْكِيدُ الْجُمْلَةِ الْأُولَى بِالْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ، مَعَ بَيَانِ مُتَعَلِّقِ الشِّفَاءِ وَيَجُوزُ أَنْ يكون الِاخْتِلَاف بالمصداق مَعَ اخْتِلَافِ
الْمَفْهُومِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِشِفَاءِ الصُّدُورِ مَا يَحْصُلُ مِنَ الْمَسَرَّةِ وَالِانْشِرَاحِ بِالنَّصْرِ، وَالْمُرَادُ بِذَهَابِ الْغَيْظِ اسْتِرَاحَتَهُمْ مِنْ تَعَبِ الْغَيْظِ، وَتَحَرُّقِ الْحِقْدِ. وَضَمِيرُ قُلُوبِهِمْ عَائِدٌ إِلَى قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ فَهُمْ مَوْعُودُونَ بِالْأَمْرَيْنِ: شِفَاءُ صُدُورِهِمْ مِنْ عَدُوِّهِمْ، وَذَهَابُ غَيْظِ قُلُوبِهِمْ عَلَى نَكْثِ الَّذِينَ نَكَثُوا عَهْدَهُمْ.
وَالْغَيْظُ: الْغَضَبُ الْمَشُوبُ بِإِرَادَةِ الِانْتِقَامِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ
وَقَدْ عُدَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَمْثِلَةِ الِالْتِفَاتِ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ فِي ضَمَائِرِ الْغَيْبَةِ كُلِّهَا تَبَعًا «لِلْكَشَّافِ» بِنَاءً عَلَى جَعْلِ ضَمَائِرِ الْخِطَابِ لِلْمُشْرِكِينَ وَجَعْلِ ضَمَائِرِ الْغَيْبَةِ لَهُمْ أَيْضًا، وَمَا نَحَوْتُهُ أَنَا أَلْيَقُ.
وَابْتُدِئَ الْإِتْيَانُ بِضَمِيرِ الْغَيْبَةِ مِنْ آخِرِ ذِكْرِ النِّعْمَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ لِلتَّصْرِيحِ بِأَنَّ النِّعْمَةَ شَمِلَتْهُمْ، وَلِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ مَجِيءَ الْعَاصِفَةِ فَجْأَةً فِي حَالِ الْفَرَحِ مُرَادٌ مِنْهُ ابْتِلَاؤُهُمْ وَتَخْوِيفُهُمْ. فَهُوَ تَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ: وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ.
وَالسَّيْرُ فِي الْبَرِّ مَعْرُوفٌ لِلْعَرَبِ. وَكَذَلِكَ السَّيْرُ فِي الْبَحْرِ. كَانُوا يَرْكَبُونَ الْبَحْرَ إِلَى الْيَمَنِ وَإِلَى بِلَادِ الْحَبَشَةِ. وَكَانَتْ لِقُرَيْشٍ رِحْلَةُ الشِّتَاءِ إِلَى الْيَمَنِ وَقَدْ يَرْكَبُونَ الْبَحْرَ لِذَلِكَ.
وَقَدْ وَصَفَ طَرَفَةُ بْنُ الْعَبْدِ السُّفُنَ وَسَيْرَهَا، وَذَكَرَهَا عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ فِي مُعَلَّقَتِهِ، وَالنَّابِغَةُ فِي دَالِيَّتِهِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُسَيِّرُكُمْ- بِتَحْتِيَّةٍ فِي أَوَّلِهِ مَضْمُومَةٍ فَسِينٍ مُهْمَلَةٍ بَعْدَهَا تَحْتِيَّةٌ بَعْدَهَا رَاءٌ- مِنَ السَّيْرِ، أَيْ يَجْعَلُكُمْ تَسِيرُونَ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ يَنْشُرُكُمْ بِتَحْتِيَّةٍ مَفْتُوحَةٍ فِي أَوَّلِهِ بَعْدَهَا نُونٌ ثُمَّ شِينٌ مُعْجَمَةٌ ثُمَّ رَاءٌ- مِنَ النَّشْرِ، وَهُوَ التَّفْرِيقُ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ [الرّوم: ٢٠] وَقَوْلِهِ: فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ [الْجُمُعَة: ١٠].
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ عَوْفِ بْنِ أَبِي جَمِيلَةَ وَأَبِي الزَّغَلِ: كَانُوا (أَيْ أهل الْكُوفَة) يقرأون يَنْشُرُكُمْ فَنَظَرُوا فِي مُصْحَفِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَوَجَدُوهَا يُسَيِّرُكُمْ (أَيْ بِتَحْتِيَّةٍ فَسِينٍ مُهْمَلَةٍ فَتَحْتِيَّةٍ) فَأَوَّلُ مَنْ كَتَبَهَا كَذَلِكَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ، أَيْ أَمَرَ بكتبها فِي مصاحب أَهْلِ الْكُوفَةِ.
وحَتَّى غَايَةٌ لِلتَّسْيِيرِ. وَهِيَ هُنَا ابْتِدَائِيَّةٌ أُعْقِبَتْ بِحَرْفِ الْمُفَاجَأَةِ وَجَوَابِهِ، وَالْجُمْلَةُ وَالْغَايَةُ هِيَ مُفَادُ جَوَابِ إِذا وَهُوَ قَوْلُهُ: جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ، فَمَجِيءُ الرِّيحِ الْعَاصِفِ هُوَ غَايَةُ التَّسْيِيرِ الْهَنِيءِ الْمُنْعَمِ بِهِ، إِذْ حِينَئِذٍ يَنْقَلِبُ التَّسْيِيرُ كَارِثَةً وَمُصِيبَةً.
وَالْفُلْكُ: اسْمٌ لِمَرْكَبِ الْبَحْرِ، وَاسْمُ جَمْعٍ لَهُ بِصِيغَةٍ وَاحِدَةٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٤]. وَهُوَ هَنَا مُرَادٌ بِهِ الْجَمْعُ.
إِنَّ قَوْلَهُ: وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا [مَرْيَم: ٢٨] مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، أَيْ بَاغِيَةٌ. وَقِيلَ: أَصْلُهُ فَعُولٌ بَغُويٌ فَوَقَعَ إِبْدَالٌ وَإِدْغَامٌ. وَتَأَوَّلَ الزَّمَخْشَرِيُّ مَا هُنَا عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ، أَيْ بِمَكَانٍ بَعِيدٍ، أَوْ بِشَيْء بعيد عَن الِاحْتِمَالَيْنِ فِي مُعَادِ ضمير هِيَ.
[٨٤- ٨٦]
[سُورَة هود (١١) : الْآيَات ٨٤ إِلَى ٨٦]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (٨٤) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٨٥) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (٨٦)
قَوْلُهُ: وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً- إِلَى قَوْلِهِ- مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ نَظِيرُ قَوْلِهِ: وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً [هود: ٦١] إِلَخْ.
أَمَرَهُمْ بِثَلَاثَةِ أُمُورٍ:
أَحَدُهَا: إِصْلَاحُ الِاعْتِقَادِ، وَهُوَ مِنْ إِصْلَاحِ الْعُقُولِ وَالْفِكْرِ.
وَثَالِثُهَا: صَلَاحُ الْأَعْمَالِ وَالتَّصَرُّفَاتِ فِي الْعَالَمِ بِأَنْ لَا يُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ.
وَوَسَّطَ بَيْنَهُمَا الثَّانِي: وَهُوَ شَيْءٌ مِنْ صَلَاحِ الْعَمَلِ خُصَّ بِالنَّهْيِ لِأَنَّ إِقْدَامَهُمْ عَلَيْهِ كَانَ فَاشِيًا فِيهِمْ حَتَّى نَسُوا مَا فِيهِ مِنْ قُبْحٍ وَفَسَادٍ، وَهَذَا هُوَ الْكَفُّ عَنْ نَقْصِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ.
فَابْتَدَأَ بِالْأَمْرِ بِالتَّوْحِيدِ لِأَنَّهُ أَصْلُ الصَّلَاحِ ثُمَّ أَعْقَبَهُ بِالنَّهْيِ عَنْ مَظْلَمَةٍ كَانَتْ مُتَفَشِّيَةً فِيهِمْ، وَهِيَ خِيَانَةُ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ
وَلِذَلِكَ تَعَيَّنَ أَنَّ مَوْقِعَ جُمْلَةِ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ مَوْقِعَ الْخَبَرِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي تعجيب الرَّسُول- عَلَيْهِ الصَّلَاة والسّلام- مِنْ شِدَّةِ ضَلَالِهِمْ بِحَيْثُ يُوقِنُ مَنْ شَاهَدَ حَالَهُمْ أَنَّ الضَّلَالَ وَالِاهْتِدَاءَ بِيَدِ اللَّهِ وَأَنَّهُمْ لَوْلَا أَنَّهُمْ جُبِلُوا مِنْ خِلْقَةِ عُقُولِهِمْ عَلَى اتِّبَاعِ الضَّلَالِ لَكَانُوا مُهْتَدِينَ لِأَنَّ أَسْبَابَ الْهِدَايَةِ وَاضِحَةٌ.
وَتَحْتَ هَذَا التَّعْجِيبِ معَان أُخْرَى:
أَحدهَا: أَنَّ آيَاتِ صِدْقِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاضِحَةٌ لَوْلَا أَنَّ عُقُولَهُمْ لَمْ تُدْرِكْهَا لِفَسَادِ إِدْرَاكِهِمْ.
الثَّانِي: أَنَّ الْآيَاتِ الْوَاضِحَةَ الْحِسِّيَّةَ قَدْ جَاءَتْ لِأُمَمٍ أُخْرَى فَرَأَوْهَا وَلَمْ يُؤْمِنُوا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها [سُورَة الْإِسْرَاء: ٥٩].
الثَّالِثُ: أَنَّ لِعَدَمِ إِيمَانِهِمْ أَسْبَابًا خَفِيَّةً يَعْلَمُهَا اللَّهُ قَدْ أُبْهِمَتْ بِالتَّعْلِيقِ عَلَى الْمَشِيئَةِ فِي قَوْلِهِ: يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ مِنْهَا مَا يومىء إِلَيْهِ قَوْلُهُ فِي مُقَابَلَةِ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ.
وَذَلِكَ أَنَّهُمْ تَكَبَّرُوا وَأَعْرَضُوا حِينَ سَمِعُوا الدَّعْوَةَ إِلَى التَّوْحِيدِ فَلَمْ يَتَأَمَّلُوا، وَقَدْ أُلْقِيَتْ إِلَيْهِمُ الْأَدِلَّةُ الْقَاطِعَةُ فَأَعْرَضُوا عَنْهَا وَلَوْ أَنَابُوا وَأَذْعَنُوا لَهَدَاهُمُ اللَّهُ وَلَكِنَّهُمْ نَفَرُوا. وَبِهَذَا يَظْهَرُ مَوْقِعُ مَا أُمِرَ الرَّسُولُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- أَنْ يُجِيبَ بِهِ عَنْ قَوْلِهِمْ: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ بِأَنْ يَقُولَ: إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ، وَأَنَّ ذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُمْ مِمَّنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونُوا ضَالِّينَ وَبِأَنَّ حَالَهُمْ مَثَارُ تَعْجَبٍ.
وَالْإِنَابَةُ: حَقِيقَتُهَا الرُّجُوعُ. وَأُطْلِقَتْ هُنَا عَلَى الِاعْتِرَافِ بِالْحَقِّ عِنْدَ ظُهُورِ دَلَائِلِهِ لِأَنَّ النَّفْسَ تَنْفِرُ مِنَ الْحَقِّ ابْتِدَاءً ثُمَّ تَرْجِعُ إِلَيْهِ، فَالْإِنَابَةُ هُنَا ضد النفور.
وَ (ثُمَّ) لِلتَّرْتِيبِ الرُّتَبِيِّ، فَإِنَّ خِزْيَ الْآخِرَةِ أَعْظَمُ مِنَ اسْتِئْصَالِ نَعِيمِ الدُّنْيَا.
وَالْخِزْيُ: الْإِهَانَةُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٨٥].
وَتَقْدِيمُ الظَّرْفِ لِلِاهْتِمَامِ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ لِأَنَّهُ يَوْمُ الْأَحْوَالِ الْأَبَدِيَّةِ فَمَا فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ مُهَوِّلٌ لِلسَّامِعِينَ.
وأَيْنَ لِلِاسْتِفْهَامِ عَنِ الْمَكَانِ، وَهُوَ يَقْتَضِي الْعِلْمَ بِوُجُودِ مَنْ يَحُلُّ فِي الْمَكَانِ.
وَلَمَّا كَانَ الْمَقَامُ هُنَا مَقَامَ تَهَكُّمٍ كَانَ الِاسْتِفْهَامُ عَنِ الْمَكَانِ مُسْتَعْمَلًا فِي التَّهَكُّمِ لِيَظْهَرَ لَهُمْ كَالطَّمَاعِيَةِ لِلْبَحْثِ عَنْ آلِهَتِهِمْ، وَهُمْ عَلِمُوا أَنْ لَا وُجُودَ لَهُمْ وَلَا مَكَانَ لِحُلُولِهِمْ.
وَإِضَافَةُ الشُّرَكَاءِ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ زِيَادَةٌ فِي التَّوْبِيخِ، لِأَنَّ مَظْهَرَ عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى يَوْمَئِذٍ لِلْعَيَانِ يُنَافِي أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ، فَالْمُخَاطَبُونَ عَالِمُونَ حِينَئِذٍ بِتَعَذُّرِ الْمُشَارَكَةِ.
وَالْمَوْصُولُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى ضَلَالِهِمْ وَخَطَئِهِمْ فِي ادِّعَاءِ الْمُشَارَكَةِ مِثْلُ الَّذِي فِي قَوْلِ عَبْدَةَ:
إِنَّ الَّذِينَ تَرَوْنَهُمْ إِخْوَانَكُمْ | يَشْفِي غَلِيلَ صُدُورِهِمْ أَنْ تُصْرَعُوا |
وَقَرَأَ نَافِع تشقون- بِكَسْرِ النُّونِ- عَلَى حَذْفِ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، أَيْ تُعَانِدُونَنِي، وَذَلِكَ بِإِنْكَارِهِمْ مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَرَأَ الْبَقِيَّةُ تُشَاقُّونَ- بِفَتْحِ النُّونِ- وَحَذْفِ الْمَفْعُولِ لِلْعِلْمِ، أَيْ تُعَانِدُونَ مَنْ يَدْعُوكُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ.
وَ (فِي) لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ مَعَ حَذْفِ مُضَافٍ، إِذِ الْمُشَاقَّةُ لَا تَكُونُ فِي الذَّوَاتِ بَلْ فِي الْمَعَانِي. وَالتَّقْدِيرُ: فِي إِلَهِيَّتِهِمْ أَوْ فِي شَأْنِهِمْ.
وَتَغْيِيرُ أُسْلُوبِ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بَعْدَ قَوْلِهِ: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ [الْإِسْرَاء: ٥٤] إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَائِدٌ إِلَى شَأْن من شؤون النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي لَهَا مَزِيدُ اخْتِصَاصٍ بِهِ، تَقْفِيَةً عَلَى إِبْطَالِ أَقْوَالِ الْمُشْركين فِي شؤون الصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، بِإِبْطَالِ أَقْوَالِهِمْ فِي أَحْوَال النَّبِي. ذَلِك أَن الْمُشْركين لم يقبلُوا دَعْوَة النَّبِيءِ بِغُرُورِهِمْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ عُظَمَاءِ أَهْلِ بِلَادِهِمْ وَقَادَتِهِمْ، وَقَالُوا: أَبَعَثَ اللَّهُ يَتِيمَ أَبِي طَالِبٍ رَسُولًا، أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا، فَأَبْكَتَهُمُ اللَّهُ بِهَذَا الرَّدِّ بِقَوْلِهِ: وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَهُوَ الْعَالِمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ.
وَكَانَ قَوْلُهُ: وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كَالْمُقَدِّمَةِ لِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيئِينَ الْآيَةَ. أَعَادَ تَذْكِيرَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ أعلم مِنْهُم بالمستأهل لِلرِّسَالَةِ بِحَسَبِ
مَا أَعَدَّهُ اللَّهُ فِيهِ مِنَ الصِّفَاتِ الْقَابِلَةِ لِذَلِكَ، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى عَنْهُمْ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَاتِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٢٤].
وَكَانَ الْحُكْمُ فِي هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ عَلَى عُمُومِ الْمَوْجُودَاتِ لِتَكُونَ بِمَنْزِلَةِ الْكُلِّيَّةِ الَّتِي يُؤْخَذ مِنْهَا كُلُّ حُكْمٍ لِجُزْئِيَّاتِهَا، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْإِبْطَالِ مِنْ أَقْوَالِ الْمُشْرِكِينَ جَامِعٌ لِصُوَرٍ كَثِيرَةٍ مِنْ أَحْوَالِ الْمَوْجُودَاتِ مِنَ الْبَشَرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَأَحْوَالِهِمْ لِأَنَّ بَعْضَ الْمُشْرِكِينَ أَحَالُوا إِرْسَالَ رَسُولٍ مِنَ الْبَشَرِ، وَبَعْضُهُمْ أَحَالُوا إِرْسَالَ رَسُولٍ لَيْسَ مِنْ عُظَمَائِهِمْ، وَبَعْضُهُمْ أَحَالُوا إِرْسَالَ مَنْ لَا يَأْتِي بِمِثْلِ مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام-. وَذَلِكَ يُثِيرُ أَحْوَالًا جَمَّةً مِنَ الْعُصُورِ وَالرِّجَالِ وَالْأُمَمِ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا. فَلَا جَرَمَ كَانَ لِلتَّعْمِيمِ مَوْقِعٌ عَظِيمٌ فِي قَوْلِهِ: بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ أَيْضًا كَالْمُقَدِّمَةِ لِجُمْلَةِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيئِينَ عَلَى بَعْضٍ، مُشِيرًا إِلَى أَنَّ تفاضل الْأَنْبِيَاء ناشىء عَلَى مَا أَوْدَعَهُ اللَّهُ فِيهِمْ مِنْ مُوجِبَاتِ التَّفَاضُلِ. وَهَذَا إِيجَازٌ تضمن إِثْبَات النبوءة وَتَقَرُّرَهَا فِيمَا مضى مَا لَا قِبَلَ لَهُمْ بِإِنْكَارِهِ، وَتَعَدُّدَ الْأَنْبِيَاءِ مِمَّا
وَحَرْفُ (سَوْفَ) دَالُّ عَلَى أَنَّ لِقَاءَهُمُ الْغَيَّ مُتَكَرِّرٌ فِي أَزْمِنَةِ الْمُسْتَقْبَلِ مُبَالَغَةً فِي وَعِيدِهِمْ وَتَحْذِيرًا لَهُمْ مِنَ الْإِصْرَارِ عَلَى ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ جِيءَ فِي جَانِبِهِمْ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ إِشَادَةً بِهِمْ وَتَنْبِيهًا لَهُمْ لِلتَّرْغِيبِ فِي تَوْبَتِهِمْ مِنَ الْكُفْرِ. وَجِيءَ بِالْمُضَارِعِ الدَّالِّ عَلَىِ الْحَالِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمْ لَا يُمْطَلُونَ فِي الْجَزَاءِ. وَالْجَنَّةُ: عَلَمٌ لِدَارِ الثَّوَابِ وَالنَّعِيمِ. وَفِيهَا جَنَّاتٌ كَثِيرَةٌ كَمَا
وَرَدَ فِي الحَدِيث: «أَو جنّة وَاحِدَةٌ هِيَ إِنَّهَا لَجِنَانٌ كَثِيرَةٌ»
. وَالظُّلْمُ: هُنَا بِمَعْنَىِ النَّقْصِ وَالْإِجْحَافِ وَالْمَطْلِ. كَقَوْلِهِ كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً فِي سُورَة الْكَهْف [٣٣].
وشي: اسْمٌ بِمَعْنَى ذَاتٍ أَوْ مَوْجُودٍ وَلَيْسَ الْمُرَادُ مَصْدَرُ الظُّلْمِ.
وَذِكْرُ شَيْئاً فِي سِيَاقِ النَّفْيِ يُفِيدُ نَفْيَ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ النَّقْصِ وَالْإِجْحَافِ وَالْإِبْطَاءِ، فَيُعَلَمُ انْتِفَاءُ النَّقْصِ الْقَوِيِّ بِالْفَحْوَى دَفَعًا لِمَا عَسَى أَنْ يُخَالِجَ نُفُوسَهُمْ مِنَ الِانْكِسَارِ بعد الْإِيمَان يظنّ أَنَّ سَبْقَ الْكُفْرِ يَحُطُّ مِنْ حُسْنِ مَصِيرِهِمْ.
وجَنَّاتِ بَدَلٌ مِنَ الْجَنَّةَ. جِيءَ بِصِيغَةِ جَمْعِ جَنَّاتٍ مَعَ أَنَّ الْمُبْدَلَ مِنْهُ مُفْرَدٌ لِأَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى جَنَّاتٍ كَثِيرَةٍ كَمَا عَلِمْتَ، وَهُوَ بَدَلٌ مُطَابِقٌ وَلَيْسَ بَدَلَ اشْتِمَالٍ.
وعَدْنٍ: الْخُلْدُ وَالْإِقَامَةُ، أَيْ جَنَّاتِ خُلْدٍ وَوَصْفُهَا بِ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ لزِيَادَة تَشْرِيفِهَا وَتَحْسِينِهَا. وَفِي ذَلِكَ إِدْمَاجٌ لِتَبْشِيرِ الْمُؤْمِنِينَ السَّابِقَيْنَ فِي أَثْنَاءِ وَعْدِ الْمَدْعُوِّينَ إِلَىِ الْإِيمَانِ.
وَالْغَيْبُ: مَصْدَرُ غَابَ، فَكُلُّ مَا غَابَ عَنِ الْمُشَاهَدَةِ فَهُوَ غَيْبٌ.
وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ
كُلَّهَا بِالْمَصِيرِ إِلَيْكَ مَصِيرًا أَبَدِيًّا فَإِرْثُكَ خَيْرُ إِرْثٍ لِأَنَّهُ أَشْمَلُ وَأَبْقَى وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ فِي تَحَقُّقِ هَذَا الْوَصْفِ.
وَإِصْلَاحُ زَوْجِهِ: جَعَلَهَا صَالِحَةً لِلْحَمْلِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ عَاقِرًا.
وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ زَكَرِيَّاءَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ وَذِكْرُ زَوْجِهِ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ.
إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ جُمْلَةٌ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِلْجُمَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي الثَّنَاءِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ الْمَذْكُورِينَ، وَمَا أُوتُوهُ مِنَ النَّصْرِ، وَاسْتِجَابَةِ الدَّعَوَاتِ، وَالْإِنْجَاءِ مِنْ كَيْدِ الْأَعْدَاءِ، وَمَا تَبِعَ ذَلِكَ، ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً [الْأَنْبِيَاء: ٤٨]. فَضَمَائِرُ الْجَمْعِ عَائِدَةٌ إِلَى الْمَذْكُورِينَ. وَحَرْفُ التَّأْكِيدِ مُفِيدٌ مَعْنَى التَّعْلِيلِ وَالتَّسَبُّبِ، أَيْ مَا اسْتَحَقُّوا مَا أُوتُوهُ إِلَّا لِمُبَادَرَتِهِمْ إِلَى مَسَالِكِ الْخَيْرِ وَجِدِّهِمْ فِي تَحْصِيلِهَا.
وَأَفَادَ فِعْلُ الْكَوْنِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ دَأْبَهُمْ وَهَجِيرَاهُمْ.
وَالْمُسَارَعَةُ: مُسْتَعَارَةٌ لِلْحِرْصِ وَصَرْفِ الْهِمَّةِ وَالْجِدِّ لِلْخَيْرَاتِ، أَيْ لِفِعْلِهَا، تَشْبِيهًا لِلْمُدَاوَمَةِ وَالِاهْتِمَامِ بِمُسَارَعَةِ السَّائِرِ إِلَى الْمَكَانِ الْمَقْصُودِ الْجَادِّ فِي مَسَالِكِهِ.
وَالْخَيْرَاتُ: جَمْعُ خَيْرٍ- بِفَتْحِ الْخَاءِ وَسُكُونِ الْيَاءِ- وَهُوَ جَمْعٌ بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَهُوَ مِثْلُ سُرَادِقَاتٍ وَحَمَّامَاتٍ وَاصْطَبْلَاتٍ. وَالْخَيْرُ ضِدُّ الشَّرِّ، فَهُوَ مَا فِيهِ نَفْعٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ [الرَّحْمَن: ٧٠]
وَ (الْكَرِيمِ) بِالْجَرِّ صِفَةُ الْعَرْشِ. وَكَرَمُ الْجِنْسِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَوْفِيًا فَضَائِلَ جِنْسِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ فِي سُورَة النَّمْل [٢٩].
[١١٧]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : آيَة ١١٧]
وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لَا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (١١٧)
لَمَّا كَانَ أَعْظَمُ مَا دَعَا اللَّهُ إِلَيْهِ تَوْحِيدَهُ وَكَانَ أصل ضلال الْمُشْرِكِينَ إِشْرَاكَهُمْ أُعْقِبَ وَصْفُ اللَّهِ بِالْعُلُوِّ الْعَظِيمِ وَالْقُدْرَةِ الْوَاسِعَةِ بِبَيَانِ أَنَّ الْحِسَابَ الْوَاقِعَ بَعْدَ الْبَعْثِ يَنَالُ الَّذِينَ دَعَوْا مَعَ اللَّهِ آلِهَةً دَعْوَى لَا عُذْرَ لَهُمْ فِيهَا لِأَنَّهَا عَرِيَّةٌ عَنِ الْبُرْهَانِ أَيِ الدَّلِيلِ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يُثْبِتُوا لِلَّهِ الْمُلْكَ الْكَامِلَ إِذْ أَشْرَكُوا مَعَهُ آلِهَةً وَلَمْ يُثْبِتُوا مَا يَقْتَضِي لَهُ عَظِيمَ التَّصَرُّفِ إِذْ أَشْرَكُوا مَعَهُ تَصَرُّفَ آلِهَةٍ. فَقَوْلُهُ: لَا بُرْهانَ لَهُ بِهِ حَالٌ مِنْ مَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ، وَهِيَ حَالٌ لَازِمَةٌ لِأَنَّ دَعْوَى الْإِلَهِ مَعَ اللَّهِ لَا تَكُونُ إِلَّا عَرِيَّةً عَنِ الْبُرْهَانِ وَنَظِيرُ هَذَا الْحَالِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ [الْقَصَص: ٥٠].
وَالْقَصْرُ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ قَصْرٌ حَقِيقِيٌّ. وَفِيهِ إِثْبَاتُ الْحِسَابِ وَأَنَّهُ لله وَحده مُبَالغَة فِي تَخْطِئَتِهِمْ وَتَهْدِيدِهِمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَصْرُ إِضَافِيًّا تطمينا للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يُؤَاخِذُهُ بِاسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى
الْكُفْرِ كَقَوْلِهِ إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ [الشورى: ٤٨] وَقَوْلِهِ: لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشُّعَرَاء: ٣] وَهَذَا أسعد بقوله بعده وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ [الْمُؤْمِنُونَ: ١١٨].
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ تَذْيِيلُهُ بِجُمْلَةِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ. وَفِيهِ ضَرْبٌ مِنْ رَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ إِذِ افْتُتِحَتِ السُّورَةُ بِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١] وَخُتِمَتْ بِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ وَهُوَ نَفْيُ الْفَلَاحِ عَنِ الْكَافِرِينَ ضد الْمُؤمنِينَ.
[١١٨]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : آيَة ١١٨]
وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ
أَنْ يَضْرِبَ بِعَصَاهُ الْبَحْرَ وَانْفَلَقَ الْبَحْرُ طُرُقًا مَرَّتْ مِنْهَا أَسْبَاطُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَاقْتَحَمَ فِرْعَوْنُ الْبَحْرَ فَمُدَّ الْبَحْرُ عَلَيْهِمْ حِينَ تَوَسَّطُوهُ فَغَرِقَ جَمِيعُهُمْ.
وَالْفِرْقُ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ: الْجُزْءُ الْمَفْرُوقُ مِنْهُ، وَهُوَ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِثْلُ الْفَلَقِ. وَالطَّوْدُ: الْجَبَلُ.
وأَزْلَفْنا قَرَّبْنَا وَأَدْنَيْنَا، مُشْتَقٌّ مِنَ الزَّلَفِ بِالتَّحْرِيكِ وَهُوَ الْقُرْبُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ فِعْلَهُ كَفَرِحَ. وَيُقَالُ: ازْدَلَفْ: اقْتَرَبَ، وَتَزَلَّفَ: تَقَرَّبَ، فَهَمْزَةُ أَزْلَفْنا لِلتَّعْدِيَةِ.
وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ جَرَّأَهُمْ حَتَّى أَرَادُوا اقْتِحَامَ طُرُقِ الْبَحْرِ كَمَا رَأَوْا فِعْلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَظُنُّونَ أَنَّهُ مَاءٌ غَيْرُ عَمِيقٍ.
وَالْآخَرُونَ: هُمْ قَوْمُ فِرْعَوْنَ لِوُقُوعِهِ فِي مُقَابَلَةِ فَرِيقِ بني إِسْرَائِيل.
[٦٧، ٦٨]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ٦٧ إِلَى ٦٨]
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٦٧) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦٨)
تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِهِ آنِفًا قَبْلَ قِصَّةِ مُوسَى. وَكَانَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ آيَةً لِأَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الِانْقِلَابَ الْعَظِيمَ فِي أَحْوَالِ الْفَرِيقَيْنِ الْخَارِجَ عَنْ مُعْتَادِ تَقَلُّبَاتِ الدُّوَلِ وَالْأُمَمِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ تَصَرُّفٌ إِلَهِيٌّ خَاصٌّ أَيَّدَ بِهِ رَسُولَهُ وَأُمَّتَهُ وَخَضَّدَ بِهِ شَوْكَةَ أَعْدَائِهِمْ وَمَنْ كَفَرُوا بِهِ، فَهُوَ آيَةٌ عَلَى عَوَاقِبِ تَكْذِيبِ رُسُلِ اللَّهِ مَعَ مَا تَتَضَمَّنُهُ الْقِصَّةُ مِنْ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ.
وَوَجْهُ تَذْيِيلِ كُلِّ اسْتِدْلَالٍ مِنْ دَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَصِدْقِ الرُّسُلِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِجُمْلَةِ:
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً إِلَى آخِرِهَا تَقَدَّمَ فِي طَالِعَةِ هَذِه السُّورَة.
وَضَمِيرُ تُصِيبَهُمْ عَائِدٌ إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ لَمْ يَأْتِهِمْ نَذِيرٌ مِنْ قَبْلُ. وَالْمُرَادُ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ مَا سَلَفَ مِنَ الشِّرْكِ.
وَالْمُصِيبَةُ: مَا يُصِيبُ الْإِنْسَانَ، أَيْ يَحِلُّ بِهِ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَغَلَبَ اخْتِصَاصُهَا بِمَا يَحِلُّ بِالْمَرْءِ مِنَ الْعُقُوبَةِ وَالْأَذَى.
وَالْبَاءُ فِي بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ عُقُوبَةٌ كَانَ سَبَبُهَا مَا سَبَقَ عَلَى أَعْمَالِهِمُ السَّيِّئَةِ. وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا عَذَابُ الدُّنْيَا بِالِاسْتِئْصَالِ وَنَحْوِهِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٦٢]. وَهِي مَا يجترجونه مِنَ الْأَعْمَالِ الْفَاحِشَةِ.
وَ (مَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) مَا اعْتَقَدُوهُ مِنَ الْإِشْرَاكِ وَمَا عَمِلُوهُ مِنْ آثَارِ الشِّرْكِ.
وَالْأَيْدِي مُسْتَعَارٌ لِلْعُقُولِ الْمُكْتَسِبَةِ لِعَقَائِدِ الْكُفْرِ. فَشُبِّهَ الِاعْتِقَادُ الْقَلْبِيُّ بِفِعْلِ الْيَدِ تَشْبِيهَ مَعْقُولٍ بِمَحْسُوسٍ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ تَقْتَضِي أَنَّ الْمُشْرِكِينَ يَسْتَحِقُّونَ الْعِقَابَ بِالْمَصَائِبِ فِي الدُّنْيَا وَلَوْ لَمْ يَأْتِهِمْ رَسُولٌ لِأَنَّ أَدِلَّةَ وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ مُسْتَقِرَّةٌ فِي الْفِطْرَةِ وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ أَدْرَكَتْهُمْ فَلَمْ يُصِبْهُمْ بِالْمَصَائِبِ حَتَّى أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا.
وَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى أُصُولِ الْأَشْعَرِيِّ وَمَا بَيَّنَهُ أَصْحَابُ طَرِيقَتِهِ مِثْلُ الْقُشَيْرِيِّ وَأَبِي بَكْرِ ابْن الْعَرَبِيِّ: أَنَّ ذَنْبَ الْإِشْرَاكِ لَا عُذْرَ فِيهِ لِصَاحِبِهِ لِأَنَّ تَوْحِيدَ الله قد دعِي إِلَيْهِ الْأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ مِنْ عَهْدِ آدَمَ بِحَيْثُ لَا يُعْذَرُ بِجَهْلِهِ عَاقِلٌ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ وَضَعَهُ فِي الْفِطْرَةِ إِذْ أَخَذَ عَهْدَهُ
بِهِ عَلَى ذُرِّيَّةِ آدَمَ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذرياتهم وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى كَمَا بَيَّنَاهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٧٢].
وَلَكِنَّ اللَّهَ يَرْأَفُ بِعِبَادِهِ إِذَا طَالَتِ السُّنُونَ وَانْقَرَضَتِ الْقُرُونُ وَصَارَ النَّاسُ مَظِنَّةَ الْغَفْلَةِ فَيَتَعَهَّدُهُمْ بِبِعْثَةِ الرُّسُلِ لِلتَّذْكِيرِ بِمَا فِي الْفِطْرَةِ وَلِيُشَرِّعُوا لَهُمْ مَا بِهِ صَلَاحُ الْأُمَّةِ.
فَالْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ انْقَرَضُوا قَبْلَ الْبِعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ مُؤَاخَذُونَ بِشِرْكِهِمْ وَمُعَاقَبُونَ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَعَاقَبَهُمْ عَلَيْهِ بِالدُّنْيَا بِالِاسْتِئْصَالِ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَمْهَلَهُمْ،
الْإِجْرَامِ، وَالظُّلْمِ، وَالْكُفْرِ، وَعَدَمِ الْعِلْمِ فَهُوَ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِلتَّصْرِيحِ بِمَسَاوِيهِمْ.
قِيلَ: كَانَ مِنْهُمُ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ. وَمَعْنَى لَا يُوقِنُونَ أَنَّهُمْ لَا يُوقِنُونَ بِالْأُمُورِ الْيَقِينِيَّةِ، أَيِ الَّتِي دَلَّتْ عَلَيْهَا الدَّلَائِلُ الْقَطْعِيَّةُ فَهُمْ مُكَابِرُونَ.
الْكَمَالَاتِ الَّتِي بِهَا اسْتِقَامَةُ السِّيَرِ، وَإِزَالَةُ الْغِيَرِ، وَنُزُولُ الْغُيُوثِ بِالْمَطَرِ. وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْهُ مَسَارِحُ أَنْظَارِ الْمُتَفَكِّرِينَ، وَمَنَابِتُ أَرْزَاقِ الْمُرْتَزَقِينَ، وَمَيَادِينُ نُفُوسِ السَّائِرِينَ.
وَفِي هَذِهِ الصِّلَةِ تَعْرِيضٌ بِكُفْرَانِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ حَمِدُوا أَشْيَاءَ لَيْسَ لَهَا فِي هَذِهِ الْعَوَالِمِ أَدْنَى تَأْثِيرٍ وَلَا لَهَا بِمَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ أَدْنَى شُعُورٍ، وَنَسُوا حَمْدَ مَالِكِهَا وَسَائِرِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَجُمْلَةُ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ عَطْفٌ عَلَى الصِّلَةِ، أَيْ وَالَّذِي لَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ، وَهَذَا إِنْبَاءٌ بِأَنَّهُ مَالِكُ الْأَمْرِ كُلِّهِ فِي الْآخِرَةِ.
وَفِي هَذَا التَّحْمِيدِ بَرَاعَةُ اسْتِهْلَالِ الْغَرَضِ مِنَ السُّورَةِ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِإِفَادَةِ الْحَصْرِ، أَيْ لَا حَمْدَ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا لَهُ، فَلَا تَتَوَجَّهُ النُّفُوسُ إِلَى حَمْدِ غَيْرِهِ لِأَنَّ النَّاسَ يَوْمَئِذٍ فِي عَالَمِ الْحَقِّ فَلَا تَلْتَبِسُ عَلَيْهِمُ الصُّوَرُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ جُمْلَةَ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَإِنِ اقْتَضَتْ قَصْرَ الْحَمْدِ عَلَيْهِ تَعَالَى قَصْرًا مَجَازِيًا لِلْمُبَالِغَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سَوَّرَةِ الْفَاتِحَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ حَمْدَ غَيْرِ اللَّهِ لِلِاعْتِدَادِ بِأَنَّ نِعْمَةَ اللَّهِ جَرَتْ عَلَى يَدَيْهِ، فَلَمَّا شَاعَ ذَلِكَ فِي جُمْلَةِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَأُرِيدَ إِفَادَةُ أَنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ تَعَالَى فِي الْآخِرَةِ حَقِيقَةً غُيَّرَتْ صِيغَةُ الْحَمْدِ الْمَأْلُوفَةِ إِلَى صِيغَةِ لَهُ الْحَمْدُ لِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَهَذَا نَظِيرُ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [غَافِر: ١٦]، فَالْمَعْنَى:
أَنَّ قَصْرَ الْحَمْدِ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ أَحَقُّ لِأَنَّ التَّصَرُّفَاتِ يَوْمَئِذٍ مَقْصُورَةٌ عَلَيْهِ لَا يَلْتَبِسُ فِيهَا تَصَرُّفُ غَيْرِهِ بِتَصَرُّفِهِ.
وَلَمَّا نِيطَ حَمْدُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِمَا اقْتَضَى مَرْجِعَ التَّصَرُّفَاتِ إِلَيْهِ فِي الدَّارَيْنِ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِصِفَتَيِ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ، لِأَنَّ الَّذِي أَوْجَدَ أَحْوَالَ النَّشْأَتَيْنِ هُوَ الْعَظِيمُ الْحِكْمَةِ الْخَبِيرُ بِدَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ وَأَسْرَارِهَا. فَالْحِكْمَةُ: إِتْقَانُ التَّصَرُّفِ بِالْإِيجَادِ وَضِدِّهِ، وَالْخِبْرَةُ تَقْتَضِي الْعِلْمَ بِأَوَائِلِ الْأُمُورِ وَعَوَاقِبِهَا.
وَالْقَرْنُ بَيْنَ الصِّفَتَيْنِ هُنَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ تَدُلُّ عَلَى مَعْنًى أَصْلِيٍّ وَمَعْنًى لُزُومِيٍّ، وَهُمَا مُخْتَلِفَانِ، فَالْمَعْنَى الْأَصْلِيُّ لِلْحَكِيمِ أَنَّهُ مُتْقِنُ التَّصَرُّفِ وَالصُّنْعِ لِأَنَّ الْحَكِيمَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْإِحْكَامِ وَهُوَ الْإِتْقَانُ، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ الْعِلْمَ بِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَالْخَبِيرُ هُوَ الْعَلِيمُ بِدَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ وَظَوَاهِرِهَا بِالْأَوْلَى بِحَيْثُ لَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ
وَمَا لَاقَاهُ مِنْهُمْ وَكَيْفَ أَيَّدَهُ اللَّهُ وَنَجَّاهُ مِنْهُمْ، وَقَعَ هَذَا التَّخَلُّصُ إِلَيْهِ بِوَصْفِهِ مِنْ شِيعَةِ نُوحٍ لِيُفِيدَ بِهَذَا الْأُسْلُوبِ الْوَاحِدِ تَأْكِيدَ الثَّنَاءِ عَلَى نُوحٍ وَابْتِدَاءَ الثَّنَاءِ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَتَخْلِيدَ مَنْقَبَةٍ لِنُوحٍ أَنْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ الرَّسُولُ الْعَظِيمُ مِنْ شِيعَتِهِ وَنَاهِيكَ بِهِ. وَكَذَلِكَ جمع محامد لإِبْرَاهِيم فِي كَلِمَةِ كَوْنِهِ مِنْ شِيعَةِ نُوحٍ الْمُقْتَضِي مُشَارَكَتَهُ لَهُ فِي صِفَاتِهِ كَمَا سَيَأْتِي، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ [الْإِسْرَاء: ٣].
وَالشِّيعَةُ: اسْمٌ لِمَنْ يُنَاصِرُ الرَّجُلَ وَأَتْبَاعَهُ وَيَتَعَصَّبُ لَهُ فَيَقَعُ لَفْظُ شِيعَةٍ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ. وَقَدْ يُجْمَعُ عَلَى شِيَعٍ وَأَشْيَاعٍ إِذَا أُرِيدَ: جَمَاعَاتٌ كُلُّ جَمَاعَةٍ هِيَ شِيعَةٌ لِأَحَدٍ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [١٠]، وَعِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً فِي سُورَةِ الْقَصَصِ [٤].
وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ وَكَانَ دِينُهُ مُوَافِقًا لِدِينِ نُوحٍ فِي أَصْلِهِ وَهُوَ نَبْذُ الشِّرْكِ.
وَجَعَلَ إِبْرَاهِيمَ مِنْ شِيعَةِ نُوحٍ لِأَنَّ نُوحًا قَدْ جَاءَتْ رُسُلٌ عَلَى دِينِهِ قَبْلَ إِبْرَاهِيمَ مِنْهُمْ هُودٌ وَصَالِحٌ فَقَدْ كَانَا قَبْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَنَّ الْقُرْآنَ ذَكَرَهُمَا غَيْرَ مَرَّةٍ عَقِبَ ذِكْرِ نُوحٍ وَقَبْلَ ذِكْرِ لُوطٍ مُعَاصِرِ إِبْرَاهِيمَ. وَلِقَوْلِ هُودٍ لِقَوْمِهِ: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ [الْأَعْرَاف: ٦٩]، وَلِقَوْلِ صَالِحٍ لِقَوْمِهِ: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ [الْأَعْرَاف: ٧٤]، وَقَوْلِ شُعَيْبٍ لِقَوْمِهِ: وَيا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ [هود: ٨٩]. فَجَعَلَ قَوْمَ لُوطٍ أَقْرَبَ زَمَنًا لِقَوْمِهِ دُونَ قَوْمِ هُودٍ وَقَوْمِ صَالِحٍ. وَكَانَ لُوطٌ مُعَاصِرَ إِبْرَاهِيمَ فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ شِيعَةٌ لِنُوحٍ وَإِبْرَاهِيمُ مِنْ تِلْكَ الشِّيعَةِ وَهَذِهِ نِعْمَةٌ حَادِيَةَ عَشْرَةَ.
وتوكيد الْخَبَر ب إِنَّ وَلَامِ الِابْتِدَاءِ لِلرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ عَلَى مِلَّةِ
إِبْرَاهِيمَ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الْبَقَرَة: ١٣٥].
وإِذْ ظَرْفٌ لِلْمَاضِي وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالْكَوْنِ الْمُقَدَّرِ لِلْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ الْوَاقِعَيْنِ خَبَرًا عَنْ إِنَّ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ، أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِلَفْظِ شِيعَةٍ لِمَا فِيهِ مِنْ
يَظْلِمَ عِبَادَهُ وَلَكِنَّهُمْ يَظْلِمُونَ أنفسهم بِاتِّبَاع أئمتهم عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [يُونُس: ٤٤] وبظلمهم دعاتهم وأئمتهم كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ [هود: ١٠١]، فَلَمْ يَخْرُجْ تَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَنْ مَهْيَعِ اسْتِعْمَالِهِ فِي إِفَادَةِ قَصْرِ الْمُسْنَدِ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فَتَأَمّله.
[٣٢- ٣٣]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : الْآيَات ٣٢ إِلَى ٣٣]
وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (٣٢) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣)
أَعْقَبَ تَخْوِيفَهُمْ بِعِقَابِ الدُّنْيَا الَّذِي حَلَّ مَثَلُهُ بِقَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ بِأَنْ خَوَّفَهُمْ وَأَنْذَرَهُمْ عَذَابَ الْآخِرَةِ عَاطِفًا جُمْلَتَهُ عَلَى جُمْلَةِ عَذَابِ الدُّنْيَا.
وَأَقْحَمَ بَيْنَ حَرْفِ الْعَطْفِ وَالْمَعْطُوفِ نِدَاءَ قَوْمِهِ لِلْغَرَضِ الَّذِي تَقَدَّمَ آنِفًا.
ويَوْمَ التَّنادِ هُوَ يَوْمَ الْحِسَابِ وَالْحَشْرِ، سُمِّيَ يَوْمَ التَّنادِ لِأَنَّ الْخَلْقَ يَتَنَادُونَ يَوْمَئِذٍ: فَمِنْ مُسْتَشْفِعٍ وَمِنْ مُتَضَرِّعٍ وَمن مسلّم ومهنّىء وَمِنْ مُوَبِّخٍ وَمِنْ مُعْتَذِرٍ وَمِنْ آمِرٍ وَمِنْ مُعْلِنٍ بِالطَّاعَةِ قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يُنادِيهِمْ [فصلت: ٤٧]، أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ [فصلت:
٤٤]، وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ [الْأَعْرَاف: ٤٤]، وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ [الْأَعْرَاف: ٥٠]، يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ [الْإِسْرَاء: ٧١]، دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً [الْفرْقَان: ١٣]، يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ [الْقَمَر: ٦] وَنَحْوَ ذَلِكَ.
وَمِنْ بَدِيعِ الْبَلَاغَةِ ذِكْرُ هَذَا الْوَصْفِ لِلْيَوْمِ فِي هَذَا الْمَقَامِ لِيُذَكِّرَهُمْ أَنَّهُ فِي مَوْقِفِهِ بَيْنَهُمْ يُنَادِيهِمْ بِ (يَا قَوْمِ) نَاصِحًا وَمُرِيدًا خَلَاصَهُمْ مِنْ كُلِّ نِدَاءٍ مُفْزِعٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَتَأْهِيلَهُمْ لِكُلِّ نِدَاءٍ سَارٍّ فِيهِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَوْمَ التَّنادِ بِدُونِ يَاءٍ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ وَهُوَ غَيْرُ مُنَوَّنٍ وَلَكِنْ عُومِلَ مُعَامَلَةَ الْمَنُونِ لِقَصْدِ الرِّعَايَةِ عَلَى الْفَوَاصِلِ، كَقَوْلِ التَّاسِعَةِ مِنْ نِسَاءِ
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ تَقَدَّمَ بَسْطُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ آنِفًا وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى: ٣٠].
وَالْحُكْمُ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ جُمْلَةُ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ جُمْلَةِ الشَّرْطِ كُلِّهَا، وَلِذَلِكَ أُعِيدَ حَرْفُ التَّأْكِيدِ فِيهَا بَعْدَ أَنْ صُدِّرَتْ بِهِ الْجُمْلَةُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى الشَّرْطِ لِيُحِيطَ التَّأْكِيدُ بِكِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ، وَقَدْ أَفَادَ ذَلِكَ أَنَّ مِنْ عَوَارِضِ صِفَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ عُرُوضَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ لَهَا، لِأَنَّ فِي طَبْعِ الْإِنْسَانِ تَطَلُّبَ مَسَالِكِ النَّفْعِ وَسَدَّ مَنَافِذِ الضُّرِّ مِمَّا يَنْجَرُّ إِلَيْهِ مِنْ أَحْوَالٍ لَا تَدْخُلُ بَعْضُ أَسْبَابِهَا فِي مَقْدُورِهِ، وَمِنْ طَبْعِهِ النَّظَرُ فِي الْوَسَائِلِ الْوَاقِيَةِ لَهُ بِدَلَائِلِ الْعَقْلِ الصَّحِيحِ، وَلَكِنْ مِنْ طَبْعِهِ تَحْرِيكُ خَيَالِهِ فِي تَصْوِيرِ قُوًى تُخَوِّلُهُ تِلْكَ الْأَسْبَابَ فَإِذَا أَمْلَى عَلَيْهِ خَيَالُهُ وُجُودَ قُوًى مُتَصَرِّفَةٍ فِي النَّوَامِيسِ الْخَارِجَةِ عَنْ مَقْدُورِهِ خَالَهَا ضَالَّتَهُ الْمَنْشُودَةَ، فَرَكَنَ إِلَيْهَا وَآمَنَ بِهَا وَغَابَ عَنْهُ دَلِيلُ الْحَقِّ، إِمَّا لِقُصُورِ تَفْكِيرِهِ عَنْ دَرَكِهِ وَانْعِدَامِ الْمُرْشِدِ إِلَيْهِ، أَوْ لِغَلَبَةِ هَوَاهُ الَّذِي يُمْلِي عَلَيْهِ عِصْيَانَ الْمُرْشِدِينَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ وَالْحُكَمَاءِ الصَّالِحِينَ إِذْ لَا يَتْبَعُهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَهْتَدِي بِالْعَقْلِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ إِلَّا الْأَقَلُّ مِثْلَ الْحُكَمَاءِ، فَغَلَبَ عَلَى نَوْعِ الْإِنْسَانِ الْكُفْرُ بِاللَّهِ عَلَى الْإِيمَانِ بِهِ كَمَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها. وَلِذَلِكَ عَقَّبَ هَذَا الْحُكْمَ عَلَى النَّوْعِ بَقَوْلِهِ: لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ [الشورى: ٤٩]. وَلَمْ يَخْرُجْ عَنْ هَذَا الْعُمُومِ إِلَّا الصَّالِحُونَ مِنْ نَوْعِ الْإِنْسَانِ عَلَى تَفَاوُتٍ بَيْنِهِمْ فِي كَمَالِ الْخُلُقِ وَقَدِ اسْتُفِيدَ خُرُوجُهُمْ مِنْ آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [التِّين: ٤- ٦].
وَقَدْ شَمِلَ وَصْفُ كَفُورٌ مَا يَشْمَلُ كُفْرَانُ النِّعْمَةِ وَهُمَا مُتَلَازِمَانِ فِي الْأَكْثَرِ.
[٤٩، ٥٠]
[سُورَة الشورى (٤٢) : الْآيَات ٤٩ الى ٥٠]
لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٥٠)
لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ.
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ مَا سَبَقَهُ مِنْ عَجِيبِ خُلُقِ الْإِنْسَانِ الَّذِي لَمْ يُهَذِّبْهُ الْهَدْيُ الْإِلَهِيُّ يُثِيرُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ سُؤَالًا عَنْ فَطْرِ الْإِنْسَانِ عَلَى هَاذِينَ الْخُلُقَيْنِ اللَّذَيْنِ
وَالضِّغْنُ: الْعَدَاوَةُ، وَتَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ [مُحَمَّد: ٢٩].
وَالْمَعْنَى: يَمْنَعُوا الْمَالَ وَيُظْهِرُوا الْعِصْيَانَ وَالْكَرَاهِيَةَ، فَلُطْفُ اللَّهِ بِالْكَثِيرِ مِنْهُمُ اقْتَضَى أَنْ لَا يَسْأَلَهُمْ مَالًا عَلَى وَجْهِ الْإِلْزَامِ ثُمَّ زَالَ ذَلِكَ شَيْئًا فَشَيْئًا لَمَّا تَمَكَّنَ الْإِيمَانُ مِنْ قُلُوبِهِمْ فَأَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْإِنْفَاقَ فِي الْجِهَادِ.
وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي وَيُخْرِجْ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ، وَجُوِّزَ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْبُخْلِ الْمَأْخُوذِ مِنْ قَوْلِهِ: تَبْخَلُوا أَيْ مِنْ قَبِيلِ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [الْمَائِدَة: ٨]. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُخْرِجْ بِيَاءٍ تَحْتِيَّةٍ فِي أَوَّلِهِ. وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ بِنُونٍ فِي أَوَّلِهِ.
[٣٨]
[سُورَة مُحَمَّد (٤٧) : آيَة ٣٨]
هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (٣٨)
هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ
كَلَامُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ قَوْله: وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: عَنْ نَفْسِهِ [مُحَمَّد: ٣٦- ٣٨]
يُعْرِبُ عَنْ حَيْرَةٍ فِي مُرَادِ اللَّهِ بِهَذَا الْكَلَامِ. وَقَدْ فَسَّرْنَاهُ آنِفًا بِمَا يَشْفِي وَبَقِيَ عَلَيْنَا قَوْلُهُ: هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا إِلَخْ كَيْفَ مَوْقِعُهُ بَعْدَ قَوْله: وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ فَإِنَّ الدَّعْوَةَ لِلْإِنْفَاقِ عَيْنُ سُؤَالِ الْأَمْوَالِ فَكَيْفَ يُجْمَعُ بَيْنَ مَا هُنَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ آنِفا وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ.
فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِتَدْفَعُوا أَعْدَاءَكُمْ عَنْكُمْ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِيَنْتَفِعَ بِهِ اللَّهُ كَمَا قَالَ: وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ. وَنَظْمُ الْكَلَامِ يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ دَعْوَةٌ لِلْإِنْفَاقِ فِي الْحَالِ وَلَيْسَ إِعْلَامًا لَهُمْ بِأَنَّهُمْ سَيُدْعَوْنَ لِلْإِنْفَاقِ فَهُوَ طَلَبٌ حَاصِلٌ.
وَيُحْمَلُ تُدْعَوْنَ عَلَى مَعْنَى تُؤْمَرُونَ أَيْ أَمْرُ إِيجَابٍ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ تُدْعَوْنَ عَلَى دَعْوَةِ التَّرْغِيبِ، فَتَكُونُ الْآيَةُ تَمْهِيدًا لِلْآيَاتِ الْمُقْتَضِيَةِ إِيجَابَ الْإِنْفَاقِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِثْلَ آيَةِ وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التَّوْبَة: ٤١] وَنَحْوِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِعْلَامًا بِأَنَّهُمْ سَيُدْعَوْنَ إِلَى الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِيمَا بَعْدَ هَذَا الْوَقْتِ فَيَكُونُ الْمُضَارِعُ مُسْتَعْمَلًا فِي زَمَنِ الِاسْتِقْبَالِ وَالْمُضَارِعُ يَحْتَمِلُهُ فِي أَصْلِ وَضْعِهِ.
الصَّالِحَةِ من قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَتَسْبِيحٍ وَتَحْمِيدٍ وَنَحْوِهِمَا وَصَلَاةٍ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِهَذَا يَكُونُ تَحْرِيرُ مَحَلِّ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْفَرَسِ مِنَ الْخِلَافِ فِي نَقْلِ عَمِلِ أَحَدٍ إِلَى غَيْرِهِ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: «الدُّعَاءُ يَصِلُ ثَوَابُهُ إِلَى الْمَيِّتِ وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ وَهُمَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِمَا.
وَكَذَلِكَ قَضَاءُ الدَّيْنِ» اه. وَحَكَى ابْنُ الْفَرَسِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَالْخِلَافُ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ.
وَقَالَ مَالِكٌ: «يُتَطَوَّعُ عَنِ الْمَيِّتِ فَيُتَصَدَّقُ عَنْهُ أَوْ يُعْتَقُ عَنْهُ أَوْ يُهْدَى عَنهُ، وَأما مَا كَانَ مِنَ الْقُرَبِ الْوَاجِبَةِ مُرَكَّبًا مِنْ عَمِلِ الْبَدَنِ وَإِنْفَاقِ الْمَالِ مِثْلَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالْجِهَادِ» فَقَالَ الْبَاجِيُّ: «حَكَى الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنِ الْمَذْهَبِ أَنَّهَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهَا» وَقَالَ ابْنُ الْقَصَّارِ: «لَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهَا». وَهُوَ الْمُشْتَهِرُ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ وَمَبْنَى اخْتِلَافِهِمَا أَنَّ مَالِكًا كَرِهَ أَنْ يَحُجَّ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ إِلَّا أَنَّهُ إِنْ أَوْصَى بِذَلِكَ نَفَذَتْ وَصِيَّتُهُ وَلَا تُسْقِطُ الْفَرْضَ.
وَرَجَّحَ الْبَاجِيُّ الْقَوْلَ بِصِحَّةِ النِّيَابَةِ فِي ذَلِكَ بِأَنَّ مَالِكًا أَمْضَى الْوَصِيَّةَ بِذَلِكَ، وَقَالَ:
لَا يُسْتَأْجَرُ لَهُ إِلَّا مَنْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ فَلَا يحجّ عَنهُ ضرروة، فَلَوْلَا أَنَّ حَجَّ الْأَجِيرِ عَلَى وَجْهِ النِّيَابَةِ عَنِ الْمُوصِي لَمَا اعْتُبِرَتْ صفة الْمُبَاشر لِلْحَجِّ. قَالَ ابْنُ الْفَرَسِ: «أَجَازَ مَالِكٌ الْوَصِيَّةَ بِالْحَجِّ الْفَرْضِ، وَرَأَى أَنَّهُ إِذَا أَوْصَى بِذَلِكَ فَهُوَ مِنْ سَعْيِهِ وَالْمُحَرَّرُ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ صِحَّةُ النِّيَابَةِ فِي الْحَجِّ لِغَيْرِ الْقَادِرِ بِشَرْطِ دَوَامِ عَجْزِهِ إِلَى الْمَوْتِ فَإِنْ زَالَ عَجْزُهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ بِنَفْسِهِ، وَقَدْ يُنْقَلُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ غَيْرُ ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ.
وَجَوَّزَ الشَّافِعِيُّ الْحَجَّ عَنِ الْمَيِّتِ وَوَصِيَّةَ الْمَيِّتِ بِالْحَجِّ عَنْهُ. قَالَ ابْنُ الْفَرَسِ:
«وَلِلشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعى اه.
وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ جَوَازُهُ وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ إِعَادَةُ الْحَجِّ إِنْ زَالَ عُذْرُهُ.
وَأَمَّا الْقُرَبُ غَيْرُ الْوَاجِبَةِ وَغَيْرُ الرَّوَاتِبِ مِنْ جَمِيعِ أَفْعَالِ الْبَرِّ وَالنَّوَافِلِ فَأَمَّا الْحَجُّ عَنْ غَيْرِ الْمُسْتَطِيعِ فَقَالَ الْبَاجِيُّ: «قَالَ ابْنُ الْجَلَّابِ فِي «التَّفْرِيعِ» يُكْرَهُ أَنْ
وَقَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي شَرْطٌ ذُيِّلَ بِهِ النَّهْيُ مِنْ قَوْلِهِ: لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ. وَهَذَا مَقَامٌ يُسْتَعْمَلُ فِي مِثْلِهِ الشَّرْطُ بِمَنْزِلَةِ التَّتْمِيمِ لِمَا قَبْلَهُ دُونَ قَصْدِ تَعْلِيقِ مَا قَبْلَهُ بِمَضْمُونِ فِعْلِ الشَّرْطِ، أَيْ لَا يُقْصَدُ أَنَّهُ إِذَا انْتَفَى فِعْلُ الشَّرْطِ انْتَفَى مَا عُلِّقَ عَلَيْهِ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي الشُّرُوطِ بَلْ يَقْصِدُ تَأْكِيدَ الْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهُ بِمَضْمُونِ فِعْلِ الشَّرْطِ فَيَكُونُ كَالتَّعْلِيلِ لِمَا قَبْلَهُ، وَإِنَّمَا يُؤْتَى بِهِ فِي صُورَةِ الشَّرْطِ مَعَ ثِقَةِ الْمُتَكَلِّمِ بِحُصُولِ مَضْمُونِ فِعْلِ الشَّرْطِ بِحَيْثُ لَا يُتَوَقَّعُ مِنَ السَّامِعِ أَنْ يَحْصُلَ مِنْهُ غَيْرُ مَضْمُونِ فِعْلِ الشَّرْطِ فَتَكُونُ صِيغَةُ الشَّرْطِ مُرَادًا بِهَا التَّحْذِيرُ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ فِي الْمُرَكَّبِ لِأَنَّ مَعْنَى الشَّرْطِ يَلْزَمُهُ التَّرَدُّدُ غَالِبًا. وَلِهَذَا يُؤْتَى بِمِثْلِ هَذَا الشَّرْطِ إِذَا كَانَ الْمُتَكَلِّمُ وَاثِقًا بِحُصُولِ مَضْمُونِهِ مُتَحَقِّقًا صِحَّةَ مَا يَقُولُهُ قَبْلَ الشَّرْطِ. كَمَا ذُكِرَ فِي «الْكَشَّافِ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [٥١]، فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ بِكَسْرِ هَمْزَةِ (إِنَّ) وَهِيَ قِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ فَتَكُونُ (إِنْ) شَرْطِيَّةٌ مَعَ أَنَّهُمْ مُتَحَقِّقُونَ أَنَّهُمْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ فَطَمِعُوا فِي مَغْفِرَةِ خَطَايَاهُمْ لِتَحَقُّقِهِمْ أَنَّهُمْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَكُونُ الشَّرْطُ فِي مِثْلِهِ بِمَنْزِلَةِ التَّعْلِيلِ وَتَكُونُ أَدَاةُ الشَّرْطِ مِثْلَ (إِذْ) أَوْ لَامِ التَّعْلِيلِ.
وَقَدْ يَأْتِي بِمِثْلِ هَذَا الشَّرْطِ مَنْ يُظْهِرُ وُجُوبَ الْعَمَلِ عَلَى مُقْتَضَى مَا حَصَلَ مِنْ فِعْلِ الشَّرْطِ وَأَنْ لَا يُخَالِفَ مُقْتَضَاهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ [الْأَنْفَال: ٤١] إِلَى قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا [الْأَنْفَال: ٤١]، أَيْ فَإِيمَانُكُمْ وَيَقِينُكُمْ مِمَّا أَنْزَلْنَا يُوجِبَانِ أَنْ تَرْضَوْا بِصَرْفِ الْغَنِيمَةِ لِلْأَصْنَافِ الْمُعَيَّنَةِ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ. وَمِنْهُ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ إِذَا تَتَبَّعْتَ مَوَاقِعَهُ.
وَيَغْلِبُ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ الشَّرْطِ فِي مِثْلِهِ فِعْلَ كَوْنٍ إِيذَانًا بِأَنَّ الشَّرْطَ مُحَقَّقُ الْحُصُولِ.
وَمَا وَقَعَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فَالْمَقْصُودُ اسْتِقْرَارُ النَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ عَدُوِّ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَعَقَّبَ بِفَرْضٍ شَرْطُهُ مَوْثُوقٌ بِأَنَّ الَّذِينَ نُهُوا مُتَلَبِّسُونَ بِمَضْمُونِ فِعْلِ الشَّرْطِ بِلَا رَيْبٍ، فَكَانَ ذِكْرُ الشَّرْطِ مِمَّا يَزِيدُ تَأْكِيدَ الِانْكِفَافِ.
وَلِذَلِكَ يُجَاءُ بِمِثْلِ هَذَا الشَّرْطِ فِي آخِرِ الْكَلَامِ إِذْ هُوَ يُشْبِهُ التَّتْمِيمَ وَالتَّذْيِيلَ، وَهَذَا مِنْ دَقَائِقِ الِاسْتِعْمَالِ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ.
وَضَمِيرُ لَيْتَها عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ السِّيَاقِ، أَيْ لَيْتَ حَالَتِي، أَوْ لَيْتَ مُصِيبَتِي كَانَتِ الْقَاضِيَةَ.
والْقاضِيَةَ: الْمَوْتُ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَقُولُ الْكافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
[النبأ: ٤٠]، أَيْ مَقْبُورًا فِي التُّرَابِ.
وَجُمْلَةُ يَا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ مِنَ الْكَلَامِ الصَّالِحِ لِأَنْ يَكُونَ مَثَلًا لِإِيجَازِهِ وَوَفْرَةِ
دَلَالَتِهِ وَرَشَاقَةِ مَعْنَاهُ عَبَّرَ بِهَا عَمَّا يَقُولُهُ مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ مِنَ التَّحَسُّرِ بِالْعِبَارَةِ الَّتِي يَقُولُهَا الْمُتَحَسِّرُ فِي الدُّنْيَا بِكَلَامٍ عَرَبِيٍّ يُؤَدِّي الْمَعْنَى الْمَقْصُودَ. وَنَظِيرُهُ مَا حُكِيَ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً [الْفرْقَان: ١٣] وَقَوْلِهِ: يَا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا [الْفرْقَان: ٢٨] وَقَوْلِهِ: يَا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ الْآيَة [الْكَهْف: ٤٩].
ثُمَّ أَخَذَ يَتَحَسَّرُ عَلَى مَا فرط فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ فِي الدُّنْيَا بِالْإِقْبَالِ عَلَى مَا لَمْ يَجِدْهُ فِي الْعَالَمِ الْأَبَدِيِّ فَقَالَ: مَا أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ، أَيْ يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَذَا سُلْطَانٍ مِنْ ذَلِكَ الْفَرِيقِ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِ الْإِشْرَاكِ وَالْكُفْرِ، فَمَا ظَنُّكَ بِحَسْرَةِ مَنِ اتَّبَعُوهُمْ وَاقْتَدُوا بِهِمْ إِذَا رَأَوْهُمْ كَذَلِكَ، وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِسَادَةِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ مَثْلُ أَبِي جَهْلٍ وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ قَالَ تَعَالَى: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ [المزمل: ١١].
وَفِي أَغْنى عَنِّي الْجِنَاسُ الْخَطِّيُّ وَلَوْ مَعَ اخْتِلَافٍ قَلِيلٍ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ «غَرَّكَ عِزُّكَ فَصَارَ قُصَارَى ذَلِكَ ذُلُّكَ».
وَمَعْنَى هَلَاكِ السُّلْطَانِ: عَدَمُ الْانْتِفَاعِ بِهِ يَوْمَئِذٍ فَهُوَ هَلَاكٌ مَجَازِيٌّ. وَضُمِّنَ هَلَكَ مَعْنَى (غَابَ) فَعُدِّيَ بِ (عَنْ)، أَيْ لَمْ يَحْضُرْنِي سُلْطَانَي الَّذِي عَهِدْتُهُ.
وَالْقَوْلُ فِي هَاءَاتِ كِتابِيَهْ، وحِسابِيَهْ، ومالِيَهْ، وسُلْطانِيَهْ، كَالْقَوْلِ فِيمَا تَقَدَّمَ إِلَّا أَنَّ حَمْزَةَ وَخَلَفًا قَرَآ هُنَا مَا أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ بِدُونِ هَاءٍ فِي حَالَة الْوَصْل.
[٣٠- ٣٧]
[سُورَة الحاقة (٦٩) : الْآيَات ٣٠ إِلَى ٣٧]
خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (٣٠) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (٣١) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (٣٢) إِنَّهُ كانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (٣٣) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣٤)
فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (٣٥) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (٣٦) لَا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ
وَأُطْنِبَ بِتَعْدَادِ هَؤُلَاءِ الْأَقْرِبَاءِ دُونَ أَنْ يُقَالَ: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَقْرَبِ قَرَابَتِهِ مَثَلًا لِإِحْضَارِ صُورَةِ الْهَوْلِ فِي نَفْسِ السَّامِعِ.
وَكُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ الْقَرَابَةِ إِذَا قَدَّرْتَهُ هُوَ الْفَارَّ كَانَ مَنْ ذُكِرَ مَعَهُ مَفْرُورًا مِنْهُ إِلَّا قَوْلَهُ:
وَصاحِبَتِهِ لِظُهُورِ أَنَّ مَعْنَاهُ: وَالْمَرْأَةِ مِنْ صَاحِبِهَا، فَفِيهِ اكْتِفَاءٌ، وَإِنَّمَا ذُكِرَتْ بِوَصْفِ الصَّاحِبَةِ الدَّالِّ عَلَى الْقُرْبِ وَالْمُلَازَمَةِ دُونَ وَصْفِ الزَّوْجِ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ تَكُونُ غَيْرَ حَسَنَةِ الْعِشْرَةِ لِزَوْجِهَا فَلَا يَكُونُ فِرَارُهُ مِنْهَا كِنَايَةً عَنْ شِدَّةِ الْهَوْلِ فَذُكِرَ بِوَصْفِ الصَّاحِبَةِ.
وَالْأَقْرَبُ أَنَّ هَذَا فِرَارُ الْمُؤْمِنِ مِنْ قَرَابَتِهِ الْمُشْرِكِينَ خَشْيَةَ أَنْ يُؤَاخَذَ بِتَبِعَتِهِمْ إِذْ بَقُوا عَلَى الْكُفْرِ.
وَتَعْلِيقُ جَارِ الْأَقْرِبَاءِ بِفِعْلِ: يَفِرُّ الْمَرْءُ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ قَدْ وَقَعُوا فِي عَذَابٍ يَخْشَوْنَ تَعَدِّيَهُ إِلَى مَنْ يَتَّصِلُ بِهِمْ.
وَقَدِ اجْتَمَعَ فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ إِلَى آخِرِهِ أَبْلَغُ مَا يُفِيدُ هَوْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ بِحَيْثُ لَا يَتْرُكُ هَوْلُهُ لِلْمَرْءِ بَقِيَّةً مِنْ رُشْدِهِ فَإِنَّ نَفْسَ الْفِرَارِ لِلْخَائِفِ مَسَبَّةٌ فِيمَا تَعَارَفُوهُ لِدِلَالَتِهِ عَلَى جُبْنِ صَاحِبِهِ وَهُمْ يَتَعَيَّرُونَ بِالْجُبْنِ وَكَوْنَهُ يَتْرُكُ أَعَزَّ الْأَعِزَّةِ عَلَيْهِ مَسَبَّةٌ عُظْمَى.
وَجُمْلَةُ: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا لِزِيَادَةِ تَهْوِيلِ الْيَوْمِ، وَتَنْوِينُ شَأْنٌ لِلتَّعْظِيمِ.
وَحَيْثُ كَانَ فِرَارُ الْمَرْءِ مِنَ الْأَقْرِبَاءِ الْخَمْسَةِ يَقْتَضِي فِرَارَ كُلِّ قَرِيبٍ مِنْ أُولَئِكَ مِنْ مِثْلِهِ كَانَ الِاسْتِئْنَافُ جَامِعًا لِلْجَمِيعِ تَصْرِيحًا بِذَلِكَ الْمُقْتَضَى، فَقَالَ: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ أَيْ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِغَيْرِهِ مِنَ الْمَذْكُورَاتِ بَلْهَ الِاشْتِغَالَ عَمَّنْ هُوَ دُونَ أُولَئِكَ فِي الْقَرَابَةِ وَالصُّحْبَةِ.
وَالشَّأْنُ: الْحَالُ الْمُهِمُّ.
وَتَقْدِيمُ الْخَبَرِ فِي قَوْلِهِ: لِكُلِّ امْرِئٍ عَلَى الْمُبْتَدَأِ لِيَتَأَتَّى تَنْكِيرُ شَأْنٌ الدَّالِّ عَلَى التَّعْظِيمِ لِأَنَّ الْعَرَبَ لَا يَبْتَدِئُونَ بِالنَّكِرَةِ فِي جُمْلَتِهَا إِلَّا بِمُسَوِّغٍ مِنْ مُسَوِّغَاتٍ عَدَّهَا النُّحَاةُ بِضْعَةَ عَشَرَ مُسَوِّغًا، وَمِنْهَا تَقْدِيمُ الْخَبَرِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ.