فِي كِتَابِ «الْيَوَاقِيتِ» : الْأَفْعَالُ الَّتِي نُحِتَتْ مِنْ أَسْمَائِهَا سَبْعَةٌ: بَسْمَلَ فِي بِسْمِ اللَّهِ، وَسَبْحَلَ فِي سُبْحَانَ اللَّهِ، وَحَيْعَلَ فِي حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، وَحَوْقَلَ فِي لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَحَمْدَلَ فِي الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَهَلَّلَ فِي لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَجَيْعَلَ إِذَا قَالَ: جُعِلْتُ فدَاك، وَزَاد الطّبقلة فِي أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَكَ، وَالدَّمْعَزَةَ فِي أَدَامَ اللَّهُ عِزَّكَ.
وَلَمَّا كَانَ كثير من أيمة الدِّينِ قَائِلًا بِأَنَّهَا آيَةٌ مِنْ أَوَائِلِ جَمِيعِ السُّوَرِ غَيْرَ بَرَاءَةَ أَوْ بَعْضِ السُّوَرِ تَعَيَّنَ عَلَى الْمُفَسِّرِ أَنْ يُفَسِّرَ مَعْنَاهَا وَحُكْمَهَا وَمَوْقِعَهَا عِنْدَ مَنْ عَدُّوهَا آيَةً مِنْ بَعْضِ السُّوَرِ. وَيَنْحَصِرُ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي ثَلَاثَةِ مَبَاحِثَ. الْأَوَّلُ: فِي بَيَانِ أَهِيَ آيَةٌ مِنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ أَمْ لَا؟. الثَّانِي: فِي حُكْمِ الِابْتِدَاءِ بِهَا عِنْدَ الْقِرَاءَةِ. الثَّالِثُ فِي تَفْسِيرِ مَعْنَاهَا الْمُخْتَصِّ بِهَا.
فَأَمَّا الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ فَهُوَ أَنْ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَنْ لَفْظَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هُوَ لَفْظٌ قُرْآنِيٌّ لِأَنَّهُ جُزْءُ آيَةٍ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [النَّمْل: ٣٠] كَمَا أَنَّهُمْ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّ الِافْتِتَاحَ بِالتَّسْمِيَةِ فِي الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ ذَوَاتِ الْبَالِ وَرَدَ فِي الْإِسْلَامِ،
وَرُوِيَ فِيهِ حَدِيثُ: «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِسْمَ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَهُوَ أَقْطَعُ»
لَمْ يَرْوِهِ أَصْحَابُ «السُّنَنِ» وَلَا «الْمُسْتَدْرَكَاتِ»، وَقَدْ وُصِفَ بِأَنَّهُ حَسَنٌ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ إِنَّ الْبَسْمَلَةَ رَسَمَهَا الَّذِينَ كَتَبُوا الْمَصَاحِفَ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ مَا عَدَا سُورَةِ بَرَاءَةَ، كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ مُحَادَثَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَعَ عُثْمَانَ، وَقَدْ مَضَتْ فِي الْمُقَدِّمَةِ الثَّامِنَةِ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّهَا كُتِبَتْ فِي الْمُصْحَفِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ وَذَلِكَ لَيْسَ مَوْضِعَ فَصْلِ السُّورَةِ عَمَّا قَبْلَهَا، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْبَسْمَلَةَ هَلْ هِيَ آيَةٌ مِنْ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ وَمِنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ غَيْرِ بَرَاءَةَ، بِمَعْنَى أَنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ لَيْسَ فِي كَوْنِهَا قُرْآنًا، وَلَكِنَّهُ فِي تَكَرُّرِ قُرْآنِيَّتِهَا كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ فِي «الْبِدَايَةِ»، فَذَهَبَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَفُقَهَاءُ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ وَالْبَصْرَةِ- وَقِيلَ بِاسْتِثْنَاءِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ابْن شِهَابٍ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ- إِلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِآيَةٍ مِنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ لَكِنَّهَا جُزْءُ آيَةٍ مِنْ سُورَةِ النَّمْلِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَفُقَهَاءُ مَكَّةَ وَالْكُوفَةِ غَيْرَ أَبِي حَنِيفَةَ، إِلَى أَنَّهَا آيَةٌ فِي
أَوَّلِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ خَاصَّةً، وَذَهَبَ عَبْدُ الله بن الْمُبَارك وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَهُوَ الْأَصَحُّ عَنْهُ إِلَى أَنَّهَا آيَةٌ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ. وَلَمْ يُنْقُلْ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ فِيهَا شَيْءٌ، وَأَخَذَ مِنْهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ السُّوَرِ عِنْدَهُ فَعَدَّهُ فِي الَّذِينَ قَالُوا بِعَدَمِ
إِذَا قَتَلَ حُرًّا وَالْعَبْدِ إِذَا قَتَلَ عَبْدًا وَالْأُنْثَى إِذَا قَتَلَتْ أُنْثَى وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِأَحَدِ النَّوْعَيْنِ إِذَا قَتَلَ الْآخَرَ، فَالْآيَةُ مُحْكَمَةٌ وَفِيهَا إِجْمَالٌ يُبَيِّنُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ [الْمَائِدَة: ٤٥] الْآيَة اهـ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَالتَّقْيِيدُ لِبَيَانِ عَدَمِ التَّفَاضُلِ فِي أَفْرَادِ النَّوْعِ، وَلَا
مَفْهُومَ لَهُ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ تَفَاضُلِ الْأَنْوَاعِ إِثْبَاتًا وَلَا نَفْيًا، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ قَالُوا: لَنَقْتُلَنَّ الْحُرَّ بِالْعَبْدِ وَالذَّكَرَ بِالْأُنْثَى، وَذَلِكَ وَقَعَ فِي قِتَالٍ بَيْنَ حَيَّيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَلَمْ يَثْبُتْ هَذَا الَّذِي رَوَاهُ وَهُوَ لَا يُغْنِي فِي إِقَامَةِ مَحْمَلِ الْآيَةِ.
وَعَلَى هَذَيْنِ التَّأْوِيلَيْنِ لَا اعْتِبَارَ بِعُمُومِ مَفْهُومِ الْقَيْدِ لِأَنَّ شَرْطَ اعْتِبَارِهِ أَلَّا يَظْهَرَ لِذِكْرِ الْقَيْدِ سَبَبٌ إِلَّا الِاحْتِرَازَ عَنْ نَقِيضِهِ، فَإِذَا ظَهَرَ سَبَبٌ غَيْرُ الِاحْتِرَازِ بَطَلَ الِاحْتِجَاجُ بِالْمَفْهُومِ، وَحِينَئِذٍ فَلَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى أَلَّا يُقْتَلَ حُرٌّ بِعَبْدٍ وَلَا أُنْثَى بِذَكَرٍ وَلَا عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ، وَإِنَّ دَلِيلَ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْأُنْثَى وَالذَّكَرِ وَعَدَمِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالْحُرِّ عِنْدَ مَنْ نَفَى الْمُسَاوَاةَ مُسْتَنْبَطٌ مِنْ أَدِلَّةٍ أُخْرَى.
الثَّالِثُ: نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ هَذَا كَانَ حُكْمًا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ نُسِخَ بِآيَةِ الْمَائِدَةِ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [الْمَائِدَة: ٤٥] وَنَقَلَهُ فِي «الْكَشَّافِ» عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالنَّخَعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَرَدَّهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالْقُرْطُبِيُّ بِأَنَّ آيَةَ الْمَائِدَةِ حِكَايَةٌ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَكَيْفَ تَصْلُحُ نَسْخًا لِحُكْمٍ ثَبَتَ فِي شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ، أَيْ حَتَّى عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا فَمَحَلُّهُ مَا لم يَأْتِي فِي شَرْعِنَا خِلَافُهُ.
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْأَحْكَامِ» عَنِ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فِي الْقَتْلى هُوَ نِهَايَةُ الْكَلَامِ وَقَوْلَهُ: الْحُرُّ بِالْحُرِّ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَدْ ثَبَتَ عُمُومُ الْمُسَاوَاةِ بِقَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى لِأَنَّ الْقَتْلَى عَامٌّ وَخُصُوصُ آخِرِ الْآيَةِ لَا يُبْطِلُ عُمُومَ أَوَّلِهَا، وَلِذَلِكَ قَالُوا يُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ، قُلْتُ: يَرِدُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي التَّفْصِيلِ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا وَأَنَّ الْكَلَامَ بِأَوَاخِرِهِ فَالْخَاصُّ يُخَصِّصُ الْعَامَّ لَا مَحَالَةَ، وَأَنَّهُ لَا مَحِيصَ مِنِ اعْتِبَارِ كَوْنِهِ تَفْصِيلًا إِلَّا أَنْ يَقُولُوا إِنَّ ذَلِكَ كَالتَّمْثِيلِ، وَالْمَنْقُولُ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ فِي «الْكَشَّافِ» هُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا.
وَيَبْقَى بَعْدَ هَاتِهِ التَّأْوِيلَاتِ سُؤَالٌ قَائِمٌ عَنْ وَجْهِ تَخْصِيصِ الْأُنْثَى بَعْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَهَلْ تَخْرُجُ الْأُنْثَى عَنْ كَوْنِهَا حُرَّةً أَوْ أَمَةً بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدِ الْجِنْسَانِ إِذْ لَيْسَ صِيغَةُ الذُّكُورِ فِيهَا لِلِاحْتِرَازِ عَنِ النِّسَاءِ مِنْهُمْ فَإِنَّ (الْ)
النَّفْسُ وَتُطَاوِعُهُ وَذَلِكَ تَبْغِيضٌ مِنَ اللَّهِ لِلنَّاسِ فِي الذُّنُوبِ. وَاخْتِيرَ الْفِعْلُ الدَّالُّ عَلَى اخْتِيَارِ النَّفْسِ لِلْحَسَنَاتِ، إِشَارَةً إِلَى أَنَّ اللَّهَ يَسُوقُ إِلَيْهَا النَّاسَ بِالْفِطْرَةِ، وَوَقَعَ فِي «الْكَشَّافِ» أَنَّ فِعْلَ الْمُطَاوَعَةِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى الِاعْتِمَالِ، وَكَانَ الشَّرُّ مُشْتَهًى لِلنَّفْسِ، فَهِيَ تَجِدُّ تَحْصِيلِهِ، فَعَبَّرَ عَنْ فِعْلِهَا ذَلِكَ بالاكتساب.
وَالْمرَاد بِمَا اكْتَسَبَتْ الشُّرُورُ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ ظَنَّ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْكَسْبَ هُوَ اجْتِنَاءُ الْخَيْرِ، وَالِاكْتِسَابُ هُوَ اجْتِنَاءُ الشَّرِّ، وَهُوَ خِلَافُ التَّحْقِيقِ فَفِي الْقُرْآنِ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها [الْأَنْعَام: ١٦٤]- ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ [يُونُس: ٥٢]- وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ اكْتَسَبَ إِذَا اجْتَمَعَ مَعَ كَسَبَ خُصَّ
بِالْعَمَلِ الَّذِي فِيهِ تَكَلُّفٌ. لَكِنْ لَمْ يرد التَّعْبِير باكتسبت فِي جَانِبِ فِعْلِ الْخَيْرِ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مَأْخَذٌ حَسَنٌ لِأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ فِي تَسْمِيَتِهِ اسْتِطَاعَةَ الْعَبْدِ كَسْبًا وَاكْتِسَابًا فَإِنَّ اللَّهَ وَصَفَ نَفْسَهُ بِالْقُدْرَةِ. وَلَمْ يَصِفِ الْعِبَادَ بِالْقُدْرَةِ، وَلَا أَسْنَدَ إِلَيْهِمْ فِعْلَ قَدَرَ وَإِنَّمَا أَسْنَدَ إِلَيْهِمُ الْكَسْبَ، وَهُوَ قَوْلٌ يَجْمَعُ بَيْنَ الْمُتَعَارِضَاتِ وَيَفِي بِتَحْقِيقِ إِضَافَةِ الْأَفْعَالِ إِلَى الْعِبَادِ، مَعَ الْأَدَبِ فِي عَدَمِ إِثْبَاتِ صِفَةِ الْقُدْرَةِ لِلْعِبَادِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ أَوَّلَ مَنِ اسْتَعْمَلَ كَلِمَةَ الْكَسْبِ هُوَ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ النَّجَّارُ، رَأْسُ الْفِرْقَةِ النَّجَّارِيَّةِ مِنَ الْجَبْرِيَّةِ، كَانَ مُعَاصِرًا لِلنَّظَّامِ فِي الْقَرْنِ الثَّالِثِ، وَلَكِنِ اشْتُهِرَ بِهَا أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ حَتَّى قَالَ الطَّلَبَةُ فِي وَصْفِ الْأَمْرِ الْخَفِيِّ: «أَدَقُّ مِنْ كَسْبِ الْأَشْعَرِيِّ».
وَتَعْرِيفُ الْكَسْبِ، عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ: هُوَ حَالَة للْعَبد يُقَارِنُهَا خَلْقُ اللَّهِ فِعْلًا مُتَعَلِّقًا بِهَا.
وَعَرَّفَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ بِأَنَّهُ صِفَةٌ تَحْصُلُ بِقُدْرَةِ الْعَبْدِ لِفِعْلِهِ الْحَاصِلِ بِقُدْرَةِ اللَّهِ. وَلِلْكَسْبِ تَعَارِيفُ أُخَرُ.
وَحَاصِلُ مَعْنَى الْكَسْبِ، وَمَا دَعَا إِلَى إِثْبَاتِهِ: هُوَ أَنَّهُ لَمَّا تَقَرَّرَ أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى جَمِيعِ الْكَائِنَاتِ الْخَارِجَةِ عَنِ اخْتِيَارِ الْعَبْدِ، وَجَبَ أَنْ يُقَرِّرَ عُمُومَ قُدْرَتِهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ لِئَلَّا تَكُونَ قُدْرَةُ اللَّهِ غَيْرَ مُتَسَلِّطَةٍ عَلَى بَعْضِ الْكَائِنَاتِ، إِعْمَالًا لِلْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَلَيْسَ لِعُمُومِ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ دَلِيلٌ يُخَصِّصُهُ، فَوَجَبَ إِعْمَالُ هَذَا الْعُمُومِ. ثُمَّ إِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُدَّعَى كَوْنُ الْعَبْدِ مَجْبُورًا عَلَى أَفْعَالِهِ، لِلْفَرْقِ الضَّرُورِيِّ بَيْنَ الْأَفْعَالِ الِاضْطِرَارِيَّةِ، كَحَرَكَةِ الْمُرْتَعِشِ، وَالْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ،
لَقَّنَ اللَّهُ رَسُولَهُ الْجَوَابَ عَنْ قَوْلِهِمْ: لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا.
وَالْجَوَابُ إِبْطَالٌ لِقَوْلِهِمْ، وَتَعْلِيمٌ لِلْمُؤْمِنِينَ لِدَفْعِ مَا عَسَى أَنْ يَقَعَ فِي نُفُوسِهِمْ مِنَ الرَّيْبِ، إِذَا سَمِعُوا كَلَامَ الْمُنَافِقِينَ، أَوْ هُوَ جَوَابٌ لِلْمُنَافِقِينَ وَيَحْصُلُ بِهِ عِلْمٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَفُصِلَتِ الْجُمْلَةُ جَرْيًا عَلَى حِكَايَةِ الْمُقَاوَلَةِ كَمَا قَرَّرْنَا غَيْرَ مَرَّةٍ. وَهَذَا الْجَوَابُ جَارٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَهِيَ جَرَيَانُ الْأَشْيَاءِ عَلَى قَدَرٍ مِنَ اللَّهِ وَالتَّسْلِيمُ لِذَلِكَ بَعْدَ اسْتِفْرَاغِ الْجُهْدِ فِي مُصَادَفَةِ الْمَأْمُولِ، فَلَيْسَ هَذَا الْجَوَابُ وَنَظَائِرُهُ بِمُقْتَضٍ تَرْكَ الْأَسْبَابِ، لِأَنَّ قَدَرَ اللَّهِ تَعَالَى وَقَضَاءَهُ غَيْرُ مَعْلُومَيْنِ لَنَا إِلَّا بَعْدَ الْوُقُوعِ، فَنَحْنُ مَأْمُورُونَ بِالسَّعْيِ فِيمَا عَسَاهُ أَنْ يَكُونَ كَاشِفًا عَنْ مُصَادَفَةِ قدر اللَّهِ لِمَأْمُولِنَا، فَإِنِ اسْتَفْرَغْنَا جُهُودَنَا وَحُرِمْنَا الْمَأْمُولَ، عَلِمْنَا أَنَّ قَدَرَ اللَّهِ جَرَى مِنْ قَبْلُ عَلَى خِلَافِ مُرَادِنَا. فَأَمَّا تَرْكُ الْأَسْبَابِ فَلَيْسَ مِنْ شَأْنِنَا، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا أَرَادَ اللَّهُ مِنَّا، وَإِعْرَاضٌ عَمَّا أَقَامَنَا اللَّهُ فِيهِ فِي هَذَا الْعَالَمِ وَهُوَ تَحْرِيفٌ لِمَعْنَى الْقَدَرِ. وَالْمَعْنَى: لَوْ لَمْ تَكُونُوا هَاهُنَا وَكُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَخَرَجَ الَّذِينَ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَمُوتُوا مَقْتُولِينَ فَقُتِلُوا فِي مَضَاجِعِهِمُ الَّتِي اضْطَجَعُوا فِيهَا يَوْمَ أُحُدٍ أَيْ مَصَارِعِهِمْ فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: كُتِبَ قدّر، وَمعنى لَبَرَزَ خَرَجَ إِلَى الْبَرَازِ وَهُوَ الْأَرْضُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بَاءَ (بُيُوتِكُمْ) - بِالْكَسْرِ-. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو، وَوَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ، وَحَفْصٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ- بِالضَّمِّ-.
وَالْمَضَاجَعُ جَمْعُ مَضْجَعٍ- بِفَتْحِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْجِيمِ- وَهُوَ مَحَلُّ الضُّجُوعِ، وَالضُّجُوعُ:
وَضْعُ الْجَنْبِ بِالْأَرْضِ لِلرَّاحَةِ وَالنَّوْمِ، وَفِعْلُهُ مِنْ بَابِ مَنَعَ وَمَصْدَرُهُ الْقِيَاسِيُّ الضَّجْعُ، وَأَمَّا الضُّجُوعُ فَغَيْرُ قِيَاسِيٍّ، ثُمَّ غَلَبَ إِطْلَاقُ الْمَضْجَعِ عَلَى مَكَانِ النَّوْمِ قَالَ تَعَالَى: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ [السَّجْدَة: ١٦] وَفِي حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ: «مَضْجَعُهُ كَمَسَلِّ شَطْبَةٍ». فَحَقِيقَةُ الضُّجُوعِ هُوَ وَضْعُ الْجَنْبِ لِلنَّوْمِ وَالرَّاحَةِ وَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى مَصَارِعِ الْقَتْلَى عَلَى سَبِيلِ
الِاسْتِعَارَةِ، وَحُسْنُهَا أَنَّ الشُّهَدَاءَ أَحْيَاءٌ، فَهُوَ اسْتِعَارَةٌ أَوْ مُشَاكَلَةٌ تَقْدِيرِيَّةٌ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ، مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا يَتَضَمَّنُ مَعْنَى أَنَّ الشُّهَدَاءَ كَانُوا يَبْقُونَ فِي بُيُوتِهِمْ مُتَمَتِّعِينَ بِفُرُوشِهِمْ.
لَهُمْ خَيْرٌ عَظِيمٌ، وَلَمَا بَقُوا عَلَى فِتْنَتِهِمُ الَّتِي هِيَ سَبَبُ إِضْمَارِهِمُ الْكُفْرَ مَعَ إِظْهَارِهِمُ الْإِسْلَامَ. وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ صَالِحٌ بِحَالِهِمْ، إِلَّا أَنَّ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ أَشَدُّ ارْتِبَاطًا بِمَا حُكِيَ عَنْهُمْ مِنْ أَحْوَالِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ إِلَخْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى الْجُمْلَةِ الِاسْتِفْهَامِيَّةِ فَيَكُونُوا أُمِرُوا بِالتَّدَبُّرِ فِي تَفَاصِيلِهِ، وَأُعْلِمُوا بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَذَلِكَ انْتِفَاءُ الِاخْتِلَافِ مِنْهُ، فَيَكُونُ الْأَمْرُ بِالتَّدَبُّرِ عَامًّا، وَهَذَا جُزْئِيٌّ مِنْ جُزْئِيَّاتِ التَّدَبُّرِ ذُكِرَ هُنَا انْتِهَازًا لِفُرْصَةِ الْمُنَاسَبَةِ لَغَمْرِهِمْ بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ، فَيَكُونُ زَائِدًا عَلَى الْإِنْكَارِ الْمَسُوقِ لَهُ الْكَلَامُ، تَعَرَّضَ لَهُ لِأَنَّهُ مِنَ الْمُهِمِّ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ إِذْ كَانُوا فِي شَكٍّ مِنْ أَمْرِهِمْ. وَهَذَا الْإِعْرَابُ أَلْيَقُ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ مِنْ مَعْنَيَيِ التَّدَبُّرِ هُنَا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ حَالًا مِنَ «الْقُرْآنِ»، وَيَكُونُ قَيْدًا لِلتَّدَبُّرِ، أَيْ أَلَا يَتَدَبَّرُونَ انْتِفَاءَ الِاخْتِلَافِ مِنْهُ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَهَذَا أَلْيَقُ بِالْمَعْنَى الثَّانِي مِنْ مَعْنَيَيِ التَّدَبُّرِ.
وَمِمَّا يُسْتَأْنَسُ بِهِ لِلْإِعْرَابِ الْأَوَّلِ عَدَمُ ذِكْرِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ فِي الْآيَةِ الْمُمَاثِلَةِ لِهَذِهِ مِنْ سُورَةِ الْقِتَالِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ إِلَى قَوْلِهِ: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها
[مُحَمَّد: ٢٠- ٢٤] وَهَذِهِ دَقَائِقُ مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَةِ أَهْمَلَهَا جَمِيعُ الْمُفَسِّرِينَ.
وَالِاخْتِلَافُ يَظْهَرُ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ اخْتِلَافُ بَعْضِهِ مَعَ بَعْضٍ، أَيِ اضْطِرَابُهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ اخْتِلَافُهُ مَعَ أَحْوَالِهِمْ: أَيْ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا بَيْنَ مَا يَذْكُرُهُ مِنْ أَحْوَالِهِمْ وَبَيْنَ الْوَاقِعِ فَلْيَكْتَفُوا بِذَلِكَ فِي الْعِلْمِ بِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، إِذْ كَانَ يَصِفُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ وَصْفَ الْمُطَّلِعِ عَلَى الْغُيُوبِ، وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ وَجِيزٌ وَعَجِيبٌ قُصِدَ مِنْهُ قَطْعُ مَعْذِرَتِهِمْ فِي اسْتِمْرَارِ كُفْرِهِمْ.
وَوُصِفَ الِاخْتِلَافُ بِالْكَثِيرِ فِي الطَّرَفِ الْمُمْتَنِعِ وُقُوعُهُ بِمَدْلُولِ (لَوْ). لِيَعْلَمَ الْمُتَدَبِّرُ أَنَّ انْتِفَاءَ
الِاخْتِلَافِ مِنْ أَصْلِهِ أَكْبَرُ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَهَذَا الْقَيْدُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي الطَّرَفِ الْمُقَابِلِ لِجَوَابِ (لَوْ)، فَلَا يُقَدَّرُ ذَلِكَ الطَّرَفُ مُقَيَّدًا بِقَوْلِهِ: كَثِيراً بَلْ يُقَدَّرُ هَكَذَا: لَكِنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَلَا اخْتِلَافَ فِيهِ أصلا.
بِالْمُسْلِمِينَ حِينَ نُزُولِ الْمُسْلِمِينَ بِالْحُدَيْبِيَةِ عَامَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ ثُمَّ عَدَلُوا عَنْ ذَلِكَ. وَقَدْ أَشَارَتْ إِلَيْهَا الْآيَةُ:
وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ [الْفَتْح: ٢٤] الْآيَةَ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى عَزْمِ أَهْلِ خَيْبَرَ وَأَنْصَارِهِمْ مِنْ غَطَفَانَ وَبَنِي أَسَدٍ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ حِينَ حِصَارِ خَيْبَرَ، ثُمَّ رَجَعُوا عَنْ عَزْمِهِمْ وَأَلْقَوْا بِأَيْدِيهِمْ، وَهِيَ الَّتِي أَشَارَتْ إِلَيْهَا آيَةُ: وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ [الْفَتْح: ٢٠]. وَعَنْ قَتَادَةَ: سَبَبُ الْآيَةِ مَا هَمَّتْ بِهِ بَنُو مُحَارِبٍ وَبَنُو ثَعْلَبَةَ يَوْمَ ذَاتِ الرِّقَاعِ مِنَ الْحَمْلِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ فَأَشْعَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِذَلِكَ، وَنَزَلَتْ صَلَاةُ الْخَوْفِ، وَكَفَّ اللَّهُ أَيْدِيَهُمْ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَأَمَّا مَا يُذْكَرُ مِنْ غَيْرِ هَذَا مِمَّا هَمَّ بِهِ بَنُو النَّضِيرِ مِنْ قتل النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ جَاءَهُمْ يَسْتَعِينُهُمْ عَلَى دِيَةِ الْعَامِرِيَّيْنِ فَتَآمَرُوا عَلَى أَنْ يَقْتُلُوهُ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ بِذَلِكَ فَخَرَجَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ. وَكَذَا مَا يُذْكَرُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ قِصَّةُ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي اخْتَرَطَ سَيْفَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ قَائِلٌ فِي مُنْصَرَفِهِ مِنْ إِحْدَى غَزَوَاتِهِ، فَذَلِكَ لَا يُنَاسِبُ خِطَابَ الَّذِينَ آمَنُوا، وَلَا يُنَاسِبُ قِصَّةَ الْأَعْرَابِيِّ لِأَنَّ الَّذِي أَهَمَّ بِالْقَتْلِ وَاحِدٌ لَا قَوْمٌ.
وَبَسْطُ الْيَدِ مَجَازٌ فِي الْبَطْشِ قَالَ تَعَالَى: وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ [الممتحنة: ٢] وَيُطْلَقُ عَلَى السُّلْطَةِ مَجَازًا أَيْضًا، كَقَوْلِهِمْ: يَجِبُ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ عَلَى كُلِّ مَنْ بُسِطَتْ يَدُهُ فِي الْأَرْضِ وَعَلَى الْجُودِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ [الْمَائِدَة: ٦٤]. وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي مُحَاوَلَةِ الْإِمْسَاكِ بِشَيْءٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ ابْنِ آدَمَ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ [الْمَائِدَة: ٢٨].
وَأَمَّا كَفُّ الْيَدِ فَهُوَ مَجَازٌ عَنِ الْإِعْرَاضِ عَنِ السُّوءِ خَاصَّةً وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ [الْفَتْح: ٢٠].
ثُمَّ يُطْلَقُ عَلَى التَّثْبِيتِ وَالتَّقْوِيَةِ وَالِاسْتِقْلَالِ بِالْأَمْرِ. وَيُقَالُ: هُوَ مَكِينٌ بِمَعْنَى مُمَكَّنٍ، فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ. قَالَ تَعَالَى: إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ فَهُوَ كِنَايَةٌ أَيْضًا بِمَرْتَبَةٍ ثَانِيَةٍ، أَوْ هُوَ مَجَازٌ مُرْسَلٌ مُرَتَّبٌ عَلَى الْمَعْنَى الْكِنَائِيِّ. وَالتَّمْكِينُ فِي الْأَرْضِ تَقْوِيَةُ التَّصَرُّفِ فِي مَنَافِعِ الأَرْض والاستظهار بأساباب الدُّنْيَا، بِأَنْ يَكُونَ فِي مَنَعَةٍ مِنَ الْعَدُوِّ وَفِي سِعَةٍ فِي الرِّزْقِ وَفِي حُسْنِ حَالٍ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ، وَقَالَ: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ الْآيَةَ. فَمَعْنَى مَكَّنَهُ: جَعَلَهُ مُتَمَكِّنًا وَمَعْنَى مَكَّنَ لَهُ:
جَعَلَهُ مُتَمَكِّنًا لِأَجْلِهِ، أَيْ رَعْيًا لَهُ، مِثْلَ حَمِدَهُ وَحَمِدَ لَهُ، فَلَمْ تزِدْه اللَّام ومجروورها إِلَّا إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْفَاعِلَ فَعَلَ ذَلِكَ رَغْبَةً فِي نَفْعِ الْمَفْعُولِ، وَلَكِنَّ الِاسْتِعْمَالَ أَزَالَ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا وَصَيَّرَ مَكَّنَهُ وَمَكَّنَ لَهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَكَانَتِ اللَّامُ زَائِدَةً كَمَا قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ. وَدَلِيلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: هُنَا مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْفِعْلَيْنِ هُنَا شَيْءٌ وَاحِدٌ لِتَعَيُّنِ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْفِعْلَيْنِ مُسْتَوِيًا، لِيَظْهَرَ وَجْهُ فَوْتِ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ فِي التَّمْكِينِ عَلَى تَمْكِينِ الْمُخَاطَبِينَ، إِذِ التَّفَاوُتُ لَا يَظْهَرُ إِلَّا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَلِأَنَّ كَوْنَ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ أَقْوَى تَمَكُّنًا مِنَ الْمُخَاطَبِينَ كَانَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ الْمُقْتَرِنُ بِلَامِ الْأَجَلِ فِي جَانِبِهِمْ لَا فِي جَانِبِ الْمُخَاطَبِينَ، وَقَدْ عُكِسَ هُنَا. وَبِهَذَا الْبَيَانِ نَجْمَعُ بَيْنَ قَوْلِ الرَّاغِبِ بِاسْتِوَاءِ فِعْلِ مَكَّنَهُ وَمَكَّنَ لَهُ، وَقَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ بِأَنَّ: مَكَّنَ لَهُ بِمَعْنَى جَعَلَ لَهُ مَكَانًا، وَمَكَّنَهُ بِمَعْنَى أَثْبَتَهُ. وَكَلَامُ الرَّاغِبِ أَمْكَنُ عَرَبِيَّةً. وَقَدْ أَهْمَلَتِ التَّنْبِيهَ عَلَى هَذَيْنِ الرَّأْيَيْنِ كُتُبُ اللُّغَةِ.
وَاسْتِعْمَالُ التَّمْكِينِ فِي مَعْنَى التَّثْبِيتِ وَالتَّقْوِيَةِ كِنَايَة أَو مجَاز مُرْسل لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ التَّقْوِيَةَ. وَقَدْ شَاعَ هَذَا الِاسْتِعْمَالُ حَتَّى صَارَ كَالصَّرِيحِ أَوْ كَالْحَقِيقَةِ.
وَمَا مَوْصُولَةٌ مَعْنَاهَا التَّمْكِينُ، فَهِيَ نَائِبَةٌ عَنْ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ تَمْكِينًا لَمْ نُمَكِّنْهُ لَكُمْ، فَتَنْتَصِبُ (مَا) عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ الْمُبَيِّنَةِ لِلنَّوْعِ. وَالْمَقْصُودُ مَكَّنَّاهُمْ تَمْكِينًا لَمْ نُمَكِّنْهُ لَكُمْ، أَيْ هُوَ أَشَدُّ مِنْ تَمْكِينِكُمْ فِي الْأَرْضِ.
وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: لَكُمْ الْتِفَاتٌ مُوَجَّهٌ إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا لِأَنَّهُمُ الْمُمَكَّنُونَ فِي
الْأَرْضِ وَقْتَ نُزُولِ الْآيَةِ، وَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ تَمْكِينٌ. وَالِالْتِفَاتُ هُنَا عَكْسُ الِالْتِفَاتِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ. وَالْمَعْنَى أَنَّ الْأُمَمَ الْخَالِيَةَ مِنَ
وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٤٩]، وَبِذَلِكَ تَكُونُ الْآيَةُ قَاصِرَةً عَلَى بَيَانِ مُحَرَّمِ الْمَأْكُولَاتِ.
وَقَوْلُهُ: يَطْعَمُهُ صِفَةٌ لِ طاعِمٍ وَهِيَ صِفَةٌ مُؤَكِّدَةٌ مِثْلُ قَوْلِهِ: وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الْأَنْعَام: ٣٨].
وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ عُمُومِ الْأَكْوَانِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا وُقُوعُ النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ. أَيْ لَا أَجِدُ كَائِنًا مُحَرَّمًا إِلَّا كَوْنَهُ مَيْتَةً إِلَخْ أَيْ: إِلَّا الْكَائِنَ مَيْتَةً إِلَخْ، فَالِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ.
وَالْحَصْرُ الْمُسْتَفَاد من النّفي وَالِاسْتِثْنَاءِ حَقِيقِيٌّ بِحَسَبِ وَقْتِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ. فَلَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ مِنْ مُحَرَّمَاتِ الْأَكْلِ غَيْرَ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ لِأَنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ ثُمَّ نَزَلَتْ سُورَةُ الْمَائِدَةِ بِالْمَدِينَةِ فَزِيدَ فِي الْمُحَرَّمَاتِ كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا.
وَالْمَسْفُوحُ: الْمَصْبُوبُ السَّائِلُ، وَهُوَ مَا يَخْرُجُ مِنَ الْمَذْبَحِ وَالْمَنْحَرِ. أَوْ مِنَ الْفَصْدِ فِي بَعْضِ عُرُوقِ الْأَعْضَاءِ فَيَسِيلُ. وَقَدْ كَانَ الْعَرَبُ يَأْكُلُونَ الدَّمَ الَّذِي يَسِيلُ مِنْ أَوْدَاجِ الذَّبِيحَةِ أَوْ مِنْ مَنْحَرِ الْمَنْحُورَةِ وَيَجْمَعُونَهُ فِي مَصِيرٍ أَوْ جِلْدٍ وَيُجَفِّفُونَهُ ثُمَّ يَشْوُونَهُ، وَرُبَّمَا فَصَدُوا مِنْ قَوَائِمِ الْإِبِلِ مُفَصَّدًا فَأَخَذُوا مَا يَحْتَاجُونَ مِنَ الدَّمِ بِدُونِ أَنْ يَهْلِكَ الْبَعِيرُ، وَرُبَّمَا خَلَطُوا الدَّمَ بِالْوَبَرِ وَيُسَمُّونَهُ (الْعِلْهِزَ)، وَذَلِكَ فِي الْمَجَاعَاتِ. وَتَقْيِيدُ الدَّمِ بِالْمَسْفُوحِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى الْعَفْوِ عَنِ الدَّمِ الَّذِي يَنِزُّ مِنْ عُرُوقِ اللَّحْمِ عِنْدَ طَبْخِهِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ.
وَقَوْلُهُ: فَإِنَّهُ رِجْسٌ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمَعْطُوفَاتِ، وَالضَّمِيرُ قِيلَ: عَائِدٌ إِلَى لَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَعُودَ إِلَى جَمِيعِ مَا قَبْلَهُ، وَإِنَّ إِفْرَادَ الضَّمِيرِ عَلَى تَأْوِيلِهِ بِالْمَذْكُورِ، أَيْ فَإِنَّ الْمَذْكُورَ رِجْسٌ، كَمَا يُفْرَدُ اسْمُ الْإِشَارَةِ مِثْلُ قَوْلِهِ: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً [الْفرْقَان: ٦٨].
رَحْمَةِ اللَّهِ، زِيَادَةً فِي التَّأْيِيسِ لَهُمْ، أَوْ دُعَاءً عَلَيْهِمْ بِزِيَادَةِ الْبُعْدِ عَنِ الرَّحْمَةِ، بِتَضْعِيفِ الْعَذَابِ أَوْ تَحْقِيقِ الْخُلُودِ، وَوُقُوعُ هَذَا التَّأْذِينِ عَقِبَ الْمُحَاوَرَةِ يُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالظَّالِمِينَ، وَمَا تَبِعَهُ مِنَ الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ، هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ تِلْكَ الصِّفَاتِ تَفْظِيعُ حَالِهِمْ، وَالنِّدَاءُ عَلَى خُبْثِ نُفُوسِهِمْ، وَفَسَادِ مُعْتَقَدِهِمْ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَعَاصِمٌ، وَقُنْبُلٌ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ: أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ- بِتَخْفِيفِ نُونِ (أَنَّ) - عَلَى أَنَّهَا تَفْسِيرِيَّةٌ لِفِعْلِ (أَذَّنَ) وَرَفْعِ (لَعْنَةُ) عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْجُمْلَةُ تَفْسِيرِيَّةٌ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ- بِتَشْدِيدِ النُّونِ وَبِنَصْبِ (لَعْنَةُ) عَلَى (أَنَّ) الْجُمْلَةَ مَفْعُولُ (أَذَّنَ) لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الْقَوْلِ، وَالتَّقْدِيرُ: قَائِلًا أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ.
وَالتَّعْبِيرُ عَنْهُمْ بِالظَّالِمِينَ تَعْرِيفٌ لَهُمْ بِوَصْفٍ جَرَى مَجْرَى اللَّقَبِ تُعْرَفُ بِهِ جَمَاعَتُهُمْ، كَمَا يُقَالُ: الْمُؤْمِنِينَ، لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ، فَلَا يُنَافِي أَنَّهُمْ حِينَ وُصِفُوا بِهِ لَمْ يَكُونُوا ظَالِمِينَ، لِأَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا بُطْلَانَ الشِّرْكِ حَقَّ الْعِلْمِ وَشَأْنُ اسْمِ الْفَاعِلِ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً فِي الْحَالِ مَجَازًا فِي الِاسْتِقْبَالِ، وَلَا يَكُونُ لِلْمَاضِي، وَأَمَّا إِجْرَاءُ الصِّلَةِ عَلَيْهِمْ بِالْفِعْلَيْنِ الْمُضَارِعَيْنِ فِي قَوْلِهِ: يَصُدُّونَ وَقَوْلِهِ: وَيَبْغُونَها وَشَأْنُ الْمُضَارِعِ الدَّلَالَةُ عَلَى حَدَثٍ حَاصِلٍ فِي زَمَنِ الْحَالِ، وَهُمْ فِي زَمَنِ التَّأْذِينِ لَمْ يَكُونُوا مُتَّصِفِينَ بِالصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَا بِبَغْيِ عِوَجِ السَّبِيلِ، فَذَلِكَ لِقَصْدِ مَا يُفِيدُهُ الْمُضَارِعُ مِنْ تَكَرُّرِ حُصُولِ الْفِعْلِ تَبَعًا لِمَعْنَى التَّجَدُّدِ، وَالْمَعْنَى وَصْفُهُمْ بِتَكَرُّرِ ذَلِكَ مِنْهُمْ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ عُلَمَاءِ الْمَعَانِي اسْتِحْضَارُ الْحَالَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْحِكَايَةِ عَنْ نُوحٍ: وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ [هود: ٣٨] مَعَ أَنَّ زَمَنَ صُنْعِ الْفُلْكِ مَضَى، وَإِنَّمَا قُصِدَ اسْتِحْضَارُ حَالَةِ التَّجَدُّدِ، وَكَذَلِكَ وَصْفُهُمْ بِاسْمِ الْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ: وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ فَإِنَّ حَقَّهُ الدَّلَالَةُ عَلَى زَمَنِ الْحَالِ، وَقَدِ اسْتُعْمِلَ هُنَا فِي الْمَاضِي: أَيْ كَافِرُونَ بِالْآخِرَةِ فِيمَا مَضَى مِنْ حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا، وَكُلُّ ذَلِكَ اعْتِمَادٌ عَلَى قَرِينَةِ حَالِ السَّامِعِينَ الْمَانِعَةِ مِنْ إِرَادَةِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ مِنْ صِيغَةِ الْمُضَارِعِ وَصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ، إِذْ قَدْ عَلِمَ كُلُّ سَامِعٍ أَنَّ الْمَقْصُودِينَ صَارُوا غَيْرَ مُتَلَبِّسِينَ بِتِلْكَ الْأَحْدَاثِ فِي وَقْتِ التَّأْذِينِ، بَلْ تَلَبَّسُوا بِنَقَائِضِهَا، فَإِنَّهُمْ
عَلِمْتُمْ مِنْ شَهَادَةِ التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل بنبوءته، وَمِنَ اتِّصَافِ شَرْعِهِ بِالصِّفَةِ الَّتِي سَمِعْتُمْ، عَلِمْتُمْ أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا هَدْيَهُ، هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ تَعْرِيفِ الْمُسْنَدِ وَمِنْ ضَمِيرِ الْفَصْلِ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ، أَيْ هُمُ الَّذِينَ أَفْلَحُوا أَيْ دُونَ مَنْ كَفَرَ بِهِ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ، لِأَنَّ مَقَامَ دُعَاءِ مُوسَى يَقْتَضِي أَنَّهُ أَرَادَ الْمَغْفِرَةَ وَالرَّحْمَةَ وَكِتَابَةَ الْحَسَنَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِكُلِّ مَنِ اتَّبَعَ دِينَهُ، وَلَا يُرِيدُ مُوسَى شُمُولَ ذَلِكَ لِمَنْ لَا يَتَّبِعُ الْإِسْلَامَ بَعْدَ مَجِيء مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنْ جَرَى الْقَصْرُ عَلَى مَعْنَى الِاحْتِرَاسِ مِنَ الْإِيهَامِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَصْرُ ادِّعَائِيًّا، دَالًّا عَلَى مَعْنَى كَمَالِ صِفَةِ الْفَلَاحِ لِلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ النَّبِيءَ الْأُمِّيَّ، فَفَلَاحُ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الْمُفْلِحِينَ الَّذِينَ سَبَقُوهُمْ كَلَا فَلَاحٍ، إِذَا نُسِبَ إِلَى فَلَاحِهِمْ، أَيْ أَنَّ الْأُمَّةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ أَفْضَلُ الْأُمَمِ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَأَنَّهُمُ الَّذِينَ تَنَالُهُمُ الرَّحْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ الَّتِي تَسَعُ كُلَّ شَيْء من شؤونهم قَالَ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ
[الْأَنْبِيَاء: ١٠٧].
وَمَعْنَى عَزَّرُوهُ أَيَّدُوهُ وَقَوَّوْهُ، وَذَلِكَ بِإِظْهَارِ مَا تَضَمَّنَتْهُ كُتُبُهُمْ مِنَ الْبِشَارَةِ بِصِفَاتِهِ، وَصِفَاتِ شَرِيعَتِهِ، وَإِعْلَانِ ذَلِكَ بَيْنَ النَّاسِ، وَذَلِكَ شَيْءٌ زَائِدٌ عَلَى الْإِيمَانِ بِهِ، كَمَا فَعَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، وَكَقَوْلِ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ: «هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى»، وَهُوَ أَيْضًا مُغَايِرٌ لِلنَّصْرِ، لِأَنَّ النَّصْرَ هُوَ الْإِعَانَةُ فِي الْحَرْبِ بِالسِّلَاحِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ عُطِفَ عَلَيْهِ وَنَصَرُوهُ.
وَاتِّبَاعُ النُّورِ تَمْثِيلٌ لِلِاقْتِدَاءِ بِمَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ: شُبِّهَ حَالُ الْمُقْتَدِي بِهَدْيِ الْقُرْآنِ، بِحَالِ السَّارِي فِي اللَّيْلِ إِذَا رَأَى نُورًا يَلُوحُ لَهُ اتَّبَعَهُ، لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ يَجِدُ عِنْدَهُ مَنْجَاةً مِنَ الْمَخَاوِفِ وَأَضْرَارِ السَّيْرِ، وَأَجْزَاءُ هَذَا التَّمْثِيلِ اسْتِعَارَاتٌ، فَالِاتِّبَاعُ يَصْلُحُ مُسْتَعَارًا لِلِاقْتِدَاءِ، وَهُوَ مَجَازٌ شَائِعٌ فِيهِ، وَالنُّورُ يَصْلُحُ مُسْتَعَارًا لِلْقُرْآنِ لِأَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي يُعَلِّمُ الْحَقَّ وَالرُّشْدَ يُشَبَّهُ بِالنُّورِ، وَأَحْسَنُ التَّمْثِيلِ مَا كَانَ صَالِحًا لِاعْتِبَارِ التَّشْبِيهَاتِ الْمُفْرَدَةِ فِي أَجْزَائِهِ.
وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِهِمْ، وَلِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِمْ بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ صَارُوا أَحْرِيَاءَ بِمَا يُخْبَرُ بِهِ عَنْهُمْ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ كَقَوْلِهِ:
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: ٥].
وَحَسِبْتُمْ: ظَنَنْتُمْ. وَمَصْدَرُ حَسِبَ، بِمَعْنَى ظَنَّ الْحِسْبَانُ- بِكَسْرِ الْحَاءِ- فَأَمَّا مَصْدَرُ
حَسِبَ بِمَعْنَى أَحْصَى الْعَدَدَ فَهُوَ بِضَمِّ الْحَاءِ.
وَالتَّرْكُ افْتِقَادُ الشَّيْءِ وَتَعَهُّدُهُ، أَيْ: أَنْ يَتْرُكَكُمُ اللَّهُ، فَحُذِفَ فَاعِلُ التَّرْكِ لِظُهُورِهِ.
وَلَا بُدَّ لِفِعْلِ التَّرْكِ مِنْ تَعْلِيقِهِ بِمُتَعَلِّقٍ: مِنْ حَالٍ أَوْ مَجْرُورٍ، يَدُلُّ عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي يُفَارِقُ فِيهَا التَّارِكُ مَتْرُوكَهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ [العنكبوت: ٢] وَمِثْلِ قَوْلِ عَنْتَرَةَ:
فَتَرَكْتُهُ جَزَرَ السِّبَاعِ يَنُشْنَهُ وَقَوْلِ كَبْشَةَ بِنْتِ مَعْدِ يكَرِبَ، عَلَى لِسَانِ شَقِيقِهَا عَبْدِ اللَّهِ حِينَ قَتَلَتْهُ بَنُو مَازِنِ بْنِ زُبَيْدٍ فِي بَلَدِ صَعْدَةَ مِنْ بِلَادِ الْيَمَنِ:
وَأُتْرَكُ فِي بَيْتٍ بِصَعْدَةِ مُظْلِمِ وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ تُتْرَكُوا فِي الْآيَةِ: لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ، أَيْ أَنْ تُتْرَكُوا دُونَ جِهَادٍ، أَيْ أَنْ تُتْرَكُوا فِي دَعَةٍ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ.
وَالْمَعْنَى: كَيْفَ تَحْسَبُونَ أَنْ تُتْرَكُوا، أَيْ لَا تَحْسَبُوا أَنْ تُتْرَكُوا دُونَ جِهَادٍ لِأَعْدَاءِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
وَجُمْلَةُ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ إِلَخْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ تُتْرَكُوا أَيْ لَا تَظُنُّوا أَنْ تُتْرَكُوا فِي حَالِ عَدَمِ تَعَلُّقِ عِلْمِ اللَّهِ بِوُقُوعِ ابْتِدَارِ الْمُجَاهِدِينَ لِلْجِهَادِ، وَحُصُولِ تَثَاقُلِ مَنْ تَثَاقَلُوا، وَحُصُولِ تَرْكِ الْجِهَادِ مِنَ التَّارِكِينَ.
ولَمَّا حَرْفٌ لِلنَّفْيِ، وَهِيَ أُخْتُ (لَمْ). وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ (لَمْ) عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ [الْبَقَرَة: ٢١٤] وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٤٢].
وَمَعْنَى عِلْمِ اللَّهِ بِالَّذِينَ جَاهَدُوا: عِلْمُهُ بِوُقُوعِ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَحُصُولِ امْتِثَالِهِمْ، وَهُوَ مِنْ تَعَلُّقِ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ بِالْأُمُورِ الْوَاقِعَةِ، وَهُوَ أَخَصُّ مِنْ عِلْمِهِ تَعَالَى الْأَزَلِيِّ بِأَنَّ الشَّيْءَ يَقَعُ أَوْ لَا يَقَعُ، وَيَجْدُرُ أَنْ يُوصَفَ بِالتَّعَلُّقِ التَّنْجِيزِيِّ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ
وَجُمْلَةُ: دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ جَوَابُ إِذا. وَمَعْنَى مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ مُمْحِضِينَ لَهُ الْعِبَادَةَ فِي دُعَائِهِمْ، أَيْ دَعَوْهُ وَلَمْ يَدْعُوا مَعَهُ أَصْنَامَهُمْ. وَلَيْسَ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ أَقْلَعُوا عَنِ الْإِشْرَاكِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ بَلْ تِلْكَ حَالَتُهُمْ فِي الدُّعَاءِ عِنْدَ الشَّدَائِدِ. وَهَذَا إِقَامَةُ حُجَّةٍ عَلَيْهِمْ بِبَعْضِ أَحْوَالِهِمْ، مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ [الْأَنْعَام: ٤٠، ٤١].
وَجُمْلَةُ: لَئِنْ أَنْجَيْتَنا بَيَانٌ لِجُمْلَةِ دَعَوُا لِأَنَّ مَضْمُونَهَا هُوَ الدُّعَاءُ.
وَالْإِشَارَةُ بِ هذِهِ إِلَى حَالَةٍ حَاضِرَةٍ لَهُمْ، وَهِيَ حَالَةُ إِشْرَافِهِمْ عَلَى الْغَرَقِ، فَالْمُشَارُ إِلَيْهِ هُوَ الْحَالَةُ الْمُشَاهَدَةُ لَهُمْ.
وَقَدْ أَكَّدَ وَعْدَهُمْ بِالشُّكْرِ بِثَلَاثِ مُؤَكِّدَاتٍ: لَامِ تَوْطِئَةِ الْقَسَمِ، وَنُونِ التَّوْكِيدِ، وَالتَّعْبِيرِ بِصِيغَةِ مِنَ الشَّاكِرِينَ دُونَ لَنَكُونَنَّ شَاكِرِينَ، لِمَا يُفِيدُهُ مِنْ كَوْنِهِمْ مِنْ هَذِهِ الزُّمْرَةِ الَّتِي دَيْدَنُهَا الشُّكْرُ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ خُصُوصِيَّةِ مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٥٦].
وَأَتَى بِحَرْفِ (إِذَا) الْفُجَائِيَّةِ فِي جَوَابِ (لَمَّا) لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَعْجِيلِهِمْ بِالْبَغْيِ فِي الْأَرْضِ عَقِبَ النَّجَاةِ.
وَالْبَغْيُ: الِاعْتِدَاءُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٣٣]. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْإِشْرَاكُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي نَظِيرِهَا فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت: ٦٥]. وَسُمِّيَ الشِّرْكُ بَغْيًا لِأَنَّهُ اعْتِدَاءٌ عَلَى حَقِّ الْخَالِقِ وَهُوَ أَعْظَمُ اعْتِدَاءٍ، كَمَا يُسَمَّى ظُلْمًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا قَوْلُهُ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَان: ١٣].
وَلَا يَحْسُنُ تَفْسِيرُ الْبَغْيِ هُنَا بِالظُّلْمِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، إِذْ لَيْسَ ذَلِكَ شَأْنُ جَمِيعِهِمْ فَإِنَّ مِنْهُمْ حُلَمَاءَ قَوْمِهِمْ، وَلِأَنَّهُ لَا يُنَاسِبُ قَوْلَهُ بَعْدَ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ. وَلِمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْقُرْآنِ نَظَائِرُ، كَقَوْلِهِ: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ [الزمر: ٨] الْآيَةَ.
وَزِيَادَةُ فِي الْأَرْضِ لِمُجَرَّدِ تَأْكِيدِ تَمَكُّنِهِمْ مِنَ النَّجَاةِ. وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا
نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ
[لُقْمَان: ٣٢] أَيْ جَعَلُوا مَكَانَ أَثَرِ النِّعْمَةِ بِالنَّجَاةِ مَكَانًا لِلْبَغْيِ.
يُلَابِسُهُ الْقِسْطُ، أَيِ الْعَدْلُ تَعْلِيلًا لِلْأَمْرِ بِهِ، لِأَنَّ الْعَدْلَ مَعْرُوفٌ حَسَنٌ، وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ ضِدَّهُ ظُلْمٌ وَجُورٌ وَهُوَ قَبِيحٌ مُنْكَرٌ.
وَالْقِسْطُ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قائِماً بِالْقِسْطِ فِي آلِ عِمْرَانَ [١٨].
وَالْبَخْسُ: النَّقْصُ. وَتَقَدَّمَ فِي قِصَّتِهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ مُفَسَّرًا. وَذِكْرُ ذَلِكَ بَعْدَ النَّهْيِ عَنْ نَقْصِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ تَذْيِيلٌ بِالتَّعْمِيمِ بَعْدَ تَخْصِيصٍ. لِأَنَّ التَّطْفِيفَ مِنْ بَخْسِ النَّاسِ فِي أَشْيَائِهِمْ، وَتَعْدِيَةُ تَبْخَسُوا إِلَى مَفْعُولَيْنِ بِاعْتِبَارِهِ ضِدَّ أَعْطَى فَهُوَ مِنْ بَابِ كَسَا.
وَالْعَثْيُ- بِالْيَاءِ- مِنْ بَابِ سَعَى وَرَمَى وَرَضِيَ، وَبِالْوَاوِ كَدَعَا، هُوَ: الْفَسَادُ. وَلِذَلِكَ فَقَوْلُهُ مُفْسِدِينَ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ لِعَامِلِهَا مِثْلَ التَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ مُبَالَغَةً فِي النَّهْيِ عَنِ الْفَسَادِ.
وَالْمُرَادُ: النَّهْيُ عَنِ الْفَسَادِ كُلِّهِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فِي الْأَرْضِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ تَعْمِيمُ أَمَاكِنِ الْفَسَادِ.
وَالْفَسَادُ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١١].
وَقَدْ حَصَلَ النَّهْيُ عَنِ الْأَعَمِّ بَعْدَ النَّهْيِ عَنِ الْعَامِّ، وَبِهِ حَصَلَتْ خَمْسَةُ مُؤَكِّدَاتٍ:
بِالْأَمْرِ بَعْدَ النَّهْيِ عَنِ الْفَسَادِ الْخَاصِّ، ثُمَّ بِالتَّعْمِيمِ بَعْدَ التَّخْصِيصِ، ثُمَّ بِزِيَادَةِ التَّعْمِيمِ، ثُمَّ بِتَأْكِيدِ التَّعْمِيمِ الْأَعَمِّ بِتَعْمِيمِ الْمَكَانِ، ثُمَّ بِتَأْكِيدِهِ بِالْمُؤَكِّدِ اللَّفْظِيِّ.
وَسَلَكَ فِي نَهْيِهِمْ عَنِ الْفَسَادِ مَسْلَكَ التَّدَرُّجِ فَابْتَدَأَهُ بنهيهم عَن نوح مِنَ الْفَسَادِ فَاشٍ فِيهِمْ وَهُوَ التَّطْفِيفُ. ثُمَّ ارْتَقَى فَنَهَاهُمْ عَنْ جِنْسِ ذَلِكَ النَّوْعِ وَهُوَ أَكْلُ أَمْوَالِ النَّاسِ. ثُمَّ ارْتَقَى فَنَهَاهُمْ عَنِ الْجِنْسِ الْأَعْلَى لِلْفَسَادِ الشَّامِلِ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْمَفَاسِدِ وَهُوَ الْإِفْسَادُ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُ. وَهَذَا مِنْ أَسَالِيبِ الْحِكْمَةِ فِي تَهْيِئَةِ النُّفُوسِ بِقَبُولِ الْإِرْشَادِ وَالْكَمَالِ.
وَالذِّكْرُ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ ذِكْرُ اللَّهِ بِاللِّسَانِ فَإِنَّ إِجْرَاءَهُ عَلَى اللِّسَانِ يُنَبِّهُ الْقُلُوبَ إِلَى مُرَاقَبَتِهِ.
وَهَذَا وَصْفٌ لِحُسْنِ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَمُقَايَسَتِهِ بِسُوءِ حَالَةِ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ غَمَرَ الشَّكُّ قُلُوبَهُمْ، قَالَ تَعَالَى: بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ: ٦٣].
وَاخْتِيرَ الْمُضَارِعُ فِي تَطْمَئِنُّ مَرَّتَيْنِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى تَجَدُّدِ الِاطْمِئْنَانِ وَاسْتِمْرَارِهِ وَأَنَّهُ لَا يَتَخَلَّلُهُ شَكٌّ وَلَا تَرَدُّدٌ.
وَافْتُتِحَتْ جُمْلَةُ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ اهْتِمَامًا بِمَضْمُونِهَا وَإِغْرَاءً بِوَعْيِهِ. وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ لِمَا فِي تَعْرِيفِ الْقُلُوبُ مِنَ التَّعْمِيمِ. وَفِيهِ إِثَارَةُ الْبَاقِينَ عَلَى الْكُفْرِ عَلَى أَنْ يَتَّسِمُوا بِسِمَةِ الْمُؤمنِينَ من التَّدْبِير فِي الْقُرْآنِ لِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُهُمْ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِذَا عَلِمْتُمْ رَاحَةَ بَالِ الْمُؤْمِنِينَ فَمَاذَا يَمْنَعُكُمْ بِأَنْ تَكُونُوا مِثْلَهُمْ فَإِنَّ تِلْكَ فِي مُتَنَاوَلِكُمْ لِأَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ بِمَسَامِعِكُمْ.
وَطُوبَى: مَصْدَرٌ مِنْ طَابَ طِيبًا إِذَا حَسُنَ، وَهِيَ بِوَزْنِ الْبُشْرَى وَالزُّلْفَى، قُلِبَتْ يَاؤُهَا وَاوًا لِمُنَاسَبَةِ الضَّمَّةِ، أَيْ لَهُمُ الْخَيْرُ الْكَامِلُ لِأَنَّهُمُ اطْمَأَنَّتْ قُلُوبُهُمْ بِالذِّكْرِ، فَهُمْ فِي طِيبِ حَالٍ: فِي الدُّنْيَا بِالِاطْمِئْنَانِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالنَّعِيمِ الدَّائِمِ وَهُوَ حُسْنُ الْمَئَابِ وَهُوَ مَرْجِعُهُمْ فِي آخِرِ أَمْرِهِمْ.
وَإِطْلَاقُ الْمَآبِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ آخِرُ أَمْرِهِمْ وَقَرَارِهِمْ كَمَا أَنَّ قَرَارَ الْمَرْءِ بَيْتُهُ يَرْجِعُ إِلَيْهِ بَعْدَ الِانْتِشَارِ مِنْهُ. عَلَى أَنَّهُ يُنَاسِبُ مَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْأَرْوَاحَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، أَيْ مِنْ عَالَمِ الْمَلَكُوتِ وَهُوَ عَالَمُ الْخُلْدِ فَمَصِيرُهَا إِلَى الْخُلْدِ رُجُوعٌ إِلَى عَالَمِهَا الْأَوَّلِ. وَهَذَا مُقَابِلُ قَوْلِهِ فِي الْمُشْرِكِينَ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لَهُمُ للْملك.
[سُورَة النَّحْل (١٦) : الْآيَات ٢٨ إِلَى ٢٩]
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٢٩)الْقَرِينَةُ ظَاهِرَةٌ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ لَيْسَتْ مِنْ مَقُولِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِذْ لَا مُنَاسَبَةَ لِأَنْ يُعَرَّفَ الْكَافِرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَنَّهُمُ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَإِنَّ صِيغَةَ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ قَرِيبَةٌ مِنَ الصَّرِيحِ فِي أَنَّ هَذَا التَّوَفِّيَ مَحْكِيٌّ فِي حَالِ حُصُولِهِ وَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَضَتْ وَفَاتُهُمْ وَلَا فَائِدَةَ أُخْرَى فِي ذكر ذَلِك يَوْمَئِذٍ، فَالْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا.
وَعَنْ عِكْرِمَةَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِالْمَدِينَةِ فِي قَوْمٍ أَسْلَمُوا بِمَكَّةَ وَلَمْ يُهَاجِرُوا فَأَخْرَجَهُمْ قُرَيْشٌ إِلَى بَدْرٍ كُرْهًا فَقُتِلُوا بِبَدْرٍ.
فَالْوَجْهُ أَنَّ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ بَدَلٌ مِنَ الَّذِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ [سُورَة النَّحْل: ٢٢] أَوْ صِفَةٌ لَهُم، كَمَا يومىء إِلَيْهِ وَصْفُهُمْ فِي آخِرِ الْآيَةِ بِالْمُتَكَبِّرِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ، فَهُمُ الَّذِينَ وُصِفُوا فِيمَا قَبْلُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ [سُورَة النَّحْل: ٢٢]، وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ. وَإِنْ أَبَيْتَ ذَلِكَ لِبُعْدِ مَا بَيْنَ الْمَتْبُوعِ وَالتَّابِعِ فَاجْعَلِ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. وَالتَّقْدِيرُ:
هُمُ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ.
وَحَذْفُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ جَارٍ عَلَى الِاسْتِعْمَالِ فِي أَمْثَالِهِ مِنْ كُلِّ مُسْنَدٍ إِلَيْهِ جَرَى فِيمَا سَلَفَ مِنَ الْكَلَامِ. أُخْبِرَ عَنْهُ وَحُدِّثَ عَنْ شَأْنِهِ، وَهُوَ مَا يُعْرَفُ عِنْدَ السَّكَّاكِيِّ بِالْحَذْفِ الْمُتَّبَعُ فِيهِ الِاسْتِعْمَالُ. وَيُقَابِلُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِيمَا يَأْتِي: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ [سُورَة النَّحْل: ٣٢] فَإِنَّهُ صِفَةٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا [سُورَة النَّحْل: ٣٠] فَهَذَا نَظِيرُهُ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الصِّلَةِ وَصْفُ حَالَةِ الَّذِينَ يَمُوتُونَ عَلَى الشِّرْكِ فَبَعْدَ أَنْ ذَكَرَ حَالَ حُلُولِ الْعَذَابِ بِمَنْ حَلَّ بِهِمْ الِاسْتِئْصَالُ وَمَا يَحِلُّ بِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وَأَمَّا الزَّبُورُ فَذُكِرَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ [١٦٣].
وَالزَّبُور: اسْم لمجموع أَقْوَال دَاوُود- عَلَيْهِ السَّلَامُ- الَّتِي بَعْضُهَا مِمَّا أَوْحَاهُ إِلَيْهِ وَبَعْضُهَا مِمَّا أُلْهِمَهُ مِنْ دَعَوَاتٍ وَمُنَاجَاةٍ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ الْيَوْمَ بِكِتَابِ الْمَزَامِيرِ مِنْ كُتُبِ الْعَهْد الْقَدِيم.
[٥٦]
[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧) : آيَة ٥٦]
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (٥٦)
لَمْ أَرَ لِهَذِهِ الْآيَة تَفْسِيرا ينثلج لَهُ الصَّدْرُ، وَالْحَيْرَةُ بَادِيَةٌ عَلَى أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ فِي مَعْنَاهَا وَانْتِظَامِ مَوْقِعِهَا مَعَ سَابِقِهَا، وَلَا حَاجَةَ إِلَى اسْتِقْرَاءِ كَلِمَاتِهِمْ. وَمَرْجِعُهَا إِلَى طَرِيقَتَيْنِ فِي مَحْمَلِ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ إِحْدَاهُمَا فِي «تَفْسِيرِ الطَّبَرِيِّ» وَابْنِ عَطِيَّةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنِ. وَثَانِيَتُهُمَا فِي «تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ» وَالْفَخْرِ غَيْرُ مَعْزُوَّةٍ لِقَائِلٍ.
وَالَّذِي أَرَى فِي تَفْسِيرِهَا أَنَّ جُمْلَةَ قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ إِلَى تَحْوِيلًا مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النبيئين [الْإِسْرَاء: ٥٥] وَجُمْلَةِ أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ [الْإِسْرَاء: ٥٧]. وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا جَرَى ذِكْرُ الْأَفْضَلِينَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِي أَثْنَاءِ آيَةِ الرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَقَالَتَهُمْ فِي اصطفاء مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلرِّسَالَةِ وَاصْطِفَاءِ أَتْبَاعِهِ لِوِلَايَتِهِ وَدِينِهِ، وَهِيَ آيَةُ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْإِسْرَاء: ٥٥] إِلَى آخِرِهَا، جَاءَتِ الْمُنَاسَبَةُ لِرَدِّ مَقَالَةٍ أُخْرَى مِنْ مَقَالَاتِهِمُ الْبَاطِلَةِ وَهِيَ اعْتِذَارُهُمْ عَنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ بِأَنَّهُمْ مَا يَعْبُدُونَهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُوهُمْ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى، فَجَعَلُوهُمْ عِبَادًا مُقَرَّبِينَ وَوَسَائِلَ لَهُمْ إِلَى اللَّهِ، فَلَمَّا جَرَى ذِكْرُ الْمُقَرَّبِينَ حَقًّا انْتُهِزَتْ مُنَاسَبَةُ ذِكْرِهِمْ لِتَكُونَ مَخْلَصًا إِلَى إِبْطَالِ مَا ادَّعَوْهُ مِنْ وَسِيلَةِ أَصْنَامِهِمْ عَلَى عَادَةِ إِرْشَادِ الْقُرْآنِ مِنِ اغْتِنَامِ
وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ | بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ |
وَالرِّزْقُ: الطَّعَامُ.
وَجِيءَ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى ثَبَاتِ ذَلِكَ وَدَوَامِهِ، فَيُفِيدُ التَّكَرُّرَ الْمُسْتَمِرَ وَهُوَ أَخَصُّ مِنَ التَّكَرُّرِ الْمُفَادِ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ وَأَكْثَرَ. وَتَقْدِيمُ الظَّرْفِ لِلِاهْتِمَامِ بِشَأْنِهِمْ، وَإِضَافَةُ رزق إِلَى ضميرهم لِزِيَادَةِ الِاخْتِصَاصِ.
وَالْبُكْرَةُ: النِّصْفُ الأول من النَّهَار، وَالْعَشِيُّ: النِّصْفُ الْأَخِيرُ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا كِنَايَةٌ عَنِ اسْتِغْرَاقِ الزَّمَنِ، أَيْ لَهُمْ رِزْقُهُمْ غَيْرُ مَحْصُورٍ وَلَا مُقَدَّرٍ بَلْ كُلَّمَا شَاءُوا فَلِذَلِكَ لَمْ يَذْكُرِ اللَّيْلَ.
وَجُمْلَةُ تِلْكَ الْجَنَّةُ مُسْتَأْنَفَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ لِزِيَادَةِ التَّمْيِيزِ تَنْوِيهًا بِشَأْنِهَا وَأُجْرِيتَ عَلَيْهَا الصِّفَةُ بِالْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ تَنْوِيهًا بِالْمُتَّقِينَ وَأَنَّهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمرَان: ١٣٣].
ونُورِثُ نَجْعَلُ وَارِثًا، أَيْ نُعْطِي الْإِرْثَ. وَحَقِيقَةُ الْإِرْثِ: انْتِقَالُ مَالِ الْقَرِيبِ إِلَى قَرِيبِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ لِأَنَّهُ أَوْلَى النَّاسِ بِمَالِهِ فَهُوَ انْتِقَالٌ مُقَيَّدٌ بِحَالَةٍ. وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِلْعَطِيَّةِ الْمُدَّخَرَةِ لِمُعْطَاهَا، تَشْبِيهًا بِمَالِ الِمَوْرُوثِ الَّذِي يَصِيرُ إِلَى وَارِثِهِ آخِرَ الْأَمر.
وَقَرَأَ الجمور نُورِثُ بِسُكُونِ الْوَاوِ بَعْدَ الضَّمَّةِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ، وَقَرَأَهُ رُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ: نُوَرِّثُ- بِفَتْحِ الْوَاوِ تَشْدِيد الرَّاءِ- مِنْ ورّثه المضاعف.
الصِّلَةِ أَيْضًا، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَالَّتِي نَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا، لِأَنَّ كِلَا الْأَمْرَيْنِ مُوجِبُ ثَنَاءٍ. وَقَدْ أَرَادَ اللَّهُ إِكْرَامَهَا بِأَنْ تَكُونَ مَظْهَرَ عَظِيمِ قُدْرَتِهِ فِي مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ الْبَشَرِيَّةِ لِحُصُولِ حَمْلِ أُنْثَى دُونَ قُرْبَانِ ذَكَرٍ، لِيَرَى النَّاسُ مِثَالًا مِنَ التَّكْوِينِ الْأَوَّلِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ
مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
[آل عمرَان: ٥٩].
وَالنَّفْخُ، حَقِيقَتُهُ: إِخْرَاجُ هَوَاءِ الْفَمِ بِتَضْيِيقِ الشَّفَتَيْنِ. وَأُطْلِقَ هُنَا تَمْثِيلًا لِإِلْقَاءِ رُوحِ التَّكْوِينِ لِلنَّسْلِ فِي رَحِمِ الْمَرْأَةِ دَفْعَةً وَاحِدَةً بِدُونِ الْوَسَائِلِ الْمُعْتَادَةِ تَشْبِيهًا لِهَيْئَةِ التَّكْوِينِ السَّرِيعِ بِهَيْئَةِ النَّفْخِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْمَلَكَ نَفَخَ مِمَّا هُوَ لَهُ كَالْفَمِ.
وَالظَّرْفِيَّةُ الْمُفَادَةُ بِ (فِي) كَوْنُ مَرْيَمَ ظَرْفًا لِحُلُولِ الرُّوحِ الْمَنْفُوخِ فِيهَا إِذْ كَانَتْ وِعَاءَهُ، وَلِذَلِكَ قِيلَ فِيها وَلم يقل (فِيهِ) لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْحَمْلَ الَّذِي كُوِّنَ فِي رَحِمِهَا حَمْلٌ مِنْ غَيْرِ الطَّرِيقِ الْمُعْتَادِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَنَفَخْنَا فِي بَطْنِهَا. وَذَلِكَ أَعْرَقُ فِي مُخَالَفَةِ الْعَادَةِ لِأَنَّ خَرْقَ الْعَادَةِ تَقْوَى دَلَالَتُهُ بِمِقْدَارِ مَا يَضْمَحِلُّ فِيهِ مِنَ الْوَسَائِلِ الْمُعْتَادَةِ.
وَالرُّوحُ: هُوَ الْقُوَّةُ الَّتِي بِهَا الْحَيَاةُ، قَالَ تَعَالَى: فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [الْحجر: ٢٩]، أَي جعلت فِي آدَمَ رُوحًا فَصَارَ حَيًّا. وَحَرْفُ (مِنْ) تَبْعِيضِيٌّ، وَالْمَنْفُوخُ رُوحٌ لِأَنَّهُ جُعِلَ بَعْضَ رُوحِ اللَّهِ، أَيْ بَعْضَ جِنْسِ الرُّوحِ الَّذِي بِهِ يَجْعَلُ اللَّهُ الْأَجْسَامَ ذَاتَ حَيَاةٍ.
وَإِضَافَةُ الرُّوحِ إِلَى اللَّهِ إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ لِأَنَّهُ رُوحٌ مَبْعُوثٌ مِنْ لَدُنِ
كَأَصْنَامِ الْعَرَبِ آيَةٌ أَيْضًا. فَحَصَلَ مِنْ مَجْمُوعِ ذَلِكَ آيَتَانِ دَالَّتَانِ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ إِبْرَاهِيمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ فِي الْبَقَرَةِ [١٢٤].
وإِذْ قالَ ظَرْفٌ، أَيْ حِينَ قَالَ. وَالْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِلنَّبَأِ، لِأَنَّ الْخَبَرَ عَنْ قِصَّةٍ مَضَتْ فَنَاسَبَ أَنْ تُبَيَّنَ بِاسْمِ زَمَانٍ مُضَافٍ إِلَى مَا يُفِيدُ الْقِصَّةَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ الْآيَةَ فِي سُورَةِ يُونُسَ [٧١].
وَمَا اسْمُ اسْتِفْهَامٍ يُسْأَلُ بِهِ عَنْ تَعْيِينِ الْجِنْسِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَما رَبُّ الْعالَمِينَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٢٣]. وَالِاسْتِفْهَامُ صُورِيٌّ فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ أَصْنَامًا وَلَكِنَّهُ أَرَادَ بِالِاسْتِفْهَامِ افْتِتَاحَ الْمُجَادَلَةِ مَعَهُمْ فَأَلْقَى عَلَيْهِمْ هَذَا السُّؤَالَ لِيَكُونُوا هُمُ الْمُبْتَدِئِينَ بِشَرْحِ حَقِيقَةِ عِبَادَتِهِمْ وَمَعْبُودَاتِهِمْ، فَتَلُوحُ لَهُمْ مِنْ خِلَالِ شَرْحِ ذَلِكَ لَوَائِحُ مَا فِيهِ مِنْ فَسَادٍ، لِأَنَّ الَّذِي يَتَصَدَّى لِشَرْحِ الْبَاطِلِ يُشْعِرُ بِمَا فِيهِ مِنْ بُطْلَانٍ عِنْدَ نَظْمِ مَعَانِيهِ أَكْثَرَ مِمَّا يُشْعِرُ بِذَلِكَ مَنْ يَسْمَعُهُ، وَلِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ جَوَابَهُمْ يَنْشَأُ عَنْهُ مَا يُرِيدُهُ مِنَ الِاحْتِجَاجِ عَلَى فَسَادِ دِينِهِمْ وَقَدْ أَجَابُوا اسْتِفْهَامَهُ بِتَعْيِينِ نَوْعِ مَعْبُودَاتِهِمْ.
وَأَدْخَلَ أَبَاهُ فِي إِلْقَاءِ السُّؤَالِ عَلَيْهِمْ: إِمَّا لِأَنَّهُ كَانَ حَاضِرًا فِي مَجْلِسِ قَوْمِهِ إِذْ كَانَ سَادِنَ بَيْتِ الْأَصْنَامِ كَمَا رُوِيَ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ سَأَلَهُ عَلَى انْفِرَادٍ وَسَأَلَ قَوْمَهُ مَرَّةً أُخْرَى فَجَمَعَتِ الْآيَةُ حِكَايَةَ ذَلِكَ.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ ابْتَدَأَ بِمُحَاجَّةِ أَبِيه فِي خاصتهما ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى مُحَاجَّةِ قَوْمِهِ، وَأَنَّ هَذِهِ هِيَ الْمُحَاجَّةُ الْأُولَى فِي مَلَأِ أَبِيهِ وَقَوْمِهِ أَلْقَى فِيهَا دَعْوَتَهُ فِي صُورَةِ سُؤَالِ اسْتِفْسَارٍ غَيْرِ إِنْكَارٍ اسْتِنْزَالًا لِطَائِرِ نُفُورِهِمْ، وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ [الصافات ٨٥، ٨٦] فَذَلِكَ مَقَامٌ آخَرُ لَهُ فِي قومه كَانَ بعد الدعْوَة الأولى المحكية فِي سُورَة الصافات. وَلأَجل ذَلِك كَانَ الِاسْتِفْهَام مُقْتَرِنًا بِمَا يَقْتَضِي
التَّعَجُّبَ مِنْ حَالِهِمْ بِزِيَادَةِ كَلِمَةِ (ذَا) بَعْدَ (مَا) الِاسْتِفْهَامِيَّةِ فِي سُورَة الْأَنْبِيَاء. وَكَلِمَةُ (ذَا) إِذَا وَقَعَتْ بعد (مَا) تؤول إِلَى مَعْنَى اسْمِ الْمَوْصُولِ فَصَارَ الْمَعْنَى فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ: مَا هَذَا الَّذِي تَعْبُدُونَهُ، فَصَارَ الْإِنْكَارُ مُسَلَّطًا إِلَى كَوْنِ تِلْكَ الْأَصْنَامِ تُعْبَدُ.
فَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ هَذَا مِنْ إِلْزَامِ الْمُمَاثِلِ بِفِعْلٍ مَثِيلِهِ لِأَنَّ الْإِشْرَاكَ يَجْمَعُ الْفَرِيقَيْنِ فَتَكُونُ أُصُولُ تَفْكِيرِهِمْ وَاحِدَةً وَيِتَّحِدُ بُهْتَانُهُمْ، فَإِنَّ الْقِبْطَ أَقْدَمُ مِنْهُمْ فِي دِينِ الشِّرْكِ فَهُمْ أُصُولُهُمْ فِيهِ وَالْفَرْعُ يَتْبَعُ أَصْلَهُ وَيَقُولُ بُقُولِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى كَذلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ [الذاريات: ٥٢، ٥٣] أَيْ مُتَمَاثِلُونَ فِي سَبَبِ الْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ فَلَا يَحْتَاجُ بَعْضُهُمْ إِلَى وَصِيَّةِ بَعْضٍ بِأُصُولِ الْكُفْرِ. وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ [الرّوم: ٢- ٣ ثُمَّ قَالَ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ [الرّوم: ٤- ٥] أَيْ بِنَصْرِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ إِذْ نَصَرَ الْمُمَاثِلِينَ فِي كَوْنِهِمْ غَيْرَ مُشْرِكِينَ إِذْ كَانَ الرُّومُ يَوْمَئِذٍ عَلَى دِينِ الْمَسِيحِ.
فَقَوْلُهُمْ لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسى مِنْ بَابِ التَّسْلِيمِ الْجَدَلِيِّ، أَوْ مِنِ اضْطِرَابِهِمْ فِي كُفْرِهِمْ فَمَرَّةً يَكُونُونَ مُعَطِّلِينَ وَمَرَّةً يَكُونُونَ مُشْتَرِطِينَ. وَالْوَجْهُ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَجْحَدُونَ رِسَالَةَ الرُّسُلِ قَاطِبَةً. وَكَذَلِكَ حِكَايَةُ قَوْلِهِمْ سَاحِرَانِ تَظَاهَرَا مِنْ قَوْلِ مُشْرِكِي مَكَّةَ فِي مُوسَى وَهَارُونَ لَمَّا سَمِعُوا قِصَّتَهُمَا أَوْ فِي مُوسَى وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَهُوَ الْأَظْهَرُ وَهُوَ الَّذِي يَلْتَئِمُ مَعَ قَوْلِهِ بَعْدَهُ وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما [الْقَصَص: ٤٨- ٤٩].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سَاحِرَانِ تَثْنِيَةَ سَاحِرٍ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ قالُوا سِحْرانِ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ، أَيْ قَالُوا: هُمَا ذَوَا سِحْرٍ.
وَالتَّظَاهُرُ: التَّعَاوُنُ.
وَالتَّنْوِينُ فِي بِكُلٍّ تَنْوِينُ عِوَضٍ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ فَيُقَدَّرُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ بِحَسَبِ الِاحْتِمَالَيْنِ إِمَّا بِكُلٍّ مِنَ السَّاحِرَيْنِ، وَإِمَّا أَنْ يُقَدَّرَ بِكُلِّ مَنِ ادَّعَى رِسَالَةً وَهُوَ أَنْسَبُ بُقُولِ قُرَيْشٍ لِأَنَّهُمْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: ٩١].
وَأَمَّا الْقَوْلُ بِاسْتِثْنَاءِ آيَتَيْنِ وَثَلَاثٍ فَمُسْتَنِدٌ إِلَى مَا
رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ وَعَنْ سَعِيدِ
ابْن جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ [لُقْمَان:
٢٧] إِلَى آخَرِ الْآيَتَيْنِ أَوِ الثَّلَاثِ نَزَلَتْ بِسَبَبِ مُجَادَلَةٍ كَانَتْ مِنَ الْيَهُودِ أَنَّ أَحْبَارَهُمْ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ أَرَأَيْتَ قَوْلَهُ وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الْإِسْرَاء: ٨٥] إِيَّانَا تُرِيدُ أَمْ قَوْمَكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُلًّا أَرَدْتُ. قَالُوا: أَلَسْتَ تَتْلُو فِيمَا جَاءَكَ أَنَّا قَدْ أُوتِينَا التَّوْرَاةَ فِيهَا تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهَا فِي عِلْمِ اللَّهِ قَلِيلٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ
الْآيَاتِ. وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ بِأَسَانِيدَ ضَعِيفَةٍ وَعَلَى تَسْلِيمِهَا فَقَدْ أُجِيبُ بِأَنَّ الْيَهُودَ جَادَلُوا فِي ذَلِكَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ بِأَنْ لَقَّنُوا ذَلِكَ وَفْدًا مِنْ قُرَيْشٍ وَفَدَ إِلَيْهِمْ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَهَذَا أَقْرَبُ لِلتَّوْفِيقِ بَيْنَ الْأَقْوَالِ. وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ ثَابِتَةٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ إِلَّا أَنَّ مِثْلَ هَذَا يُكْتَفَى فِيهِ بِالْمَقْبُولِ فِي الْجُمْلَةِ. قَالَ أَبُو حَيَّانَ: سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ أَنَّ قُرَيْشًا سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قِصَّةِ لُقْمَانَ مَعَ ابْنِهِ، أَيْ سَأَلُوهُ سُؤَالَ تَعَنُّتٍ وَاخْتِبَارٍ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو حَيَّان يُؤَيّدهُ تَصْدِيرَ السُّورَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ [لُقْمَان: ٦].
وَهَذِهِ السُّورَةُ هِيَ السَّابِعَةُ وَالْخَمْسُونَ فِي تَعْدَادِ نُزُولِ السُّوَرِ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الصَّافَّاتِ وَقَبْلَ سُورَةِ سَبَأٍ. وَعُدَّتْ آيَاتُهَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ فِي عَدِّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ، وَأَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ فِي عَدِّ أَهَّلِ الشَّامِ وَالْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ.
أَغْرَاضُ هَذِهِ السُّورَةِ
الْأَغْرَاضُ الَّتِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْهَا هَذِهِ السُّورَةُ تَتَّصِلُ بِسَبَبِ نُزُولِهَا الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ سَأَلُوا عَنْ قِصَّةِ لُقْمَانَ وَابْنِهِ، وَإِذَا جَمَعْنَا بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا سَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ [لُقْمَان: ٦] مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ إِذْ كَانَ يُسَافِرُ إِلَى بِلَادِ الْفُرْسِ فَيَقْتَنِي كُتُبَ قِصَّةِ إِسْفِنْدِيَارَ وَرُسْتَمَ وَبَهْرَامَ، وَكَانَ يَقْرَؤُهَا عَلَى قُرَيْشٍ وَيَقُولُ: يُخْبِرُكُمْ مُحَمَّدٌ عَنْ عَادٍ وَثَمُودَ وَأُحَدِّثُكُمْ أَنَا عَنْ رُسْتَمَ وَإِسْفِنْدِيَارَ وَبَهْرَامَ فَصُدِّرَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِالتَّنْوِيهِ بِهَدْيِ الْقُرْآنِ لِيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّهُ لَا
الْحَقِيقَةِ دُونَ الْمَجَازِ وَدُونَ الْكِنَايَةِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَعْطِفِ السَّمَاءَ عَلَى الْأَرْضِ فِي الْآيَةِ فَلَمْ يَقُلْ: يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، وَمَا يَخْرُجُ مِنْهُمَا، وَلَمْ يَكْتَفِ بِإِحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ عَنِ الْأُخْرَى. وَقَدْ لَاحَ لِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ يَنْبَغِي أَنْ تُجْعَلَ مِنَ الْإِنْشَاءِ مِثْلَ مَا اصْطَلَحَ عَلَى تَسْمِيَتِهِ بِصَرَاحَةِ اللَّفْظِ. وَلِذَلِكَ أَلْحَقْتُهَا بِكِتَابِي «أَصُولُ الْإِنْشَاءِ وَالْخَطَابَةِ» بَعْدَ تَفَرُّقِ نُسَخِهِ بِالطَّبْعِ، وَسَيَأْتِي نَظِيرُ هَذِهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْحَدِيدِ.
وَلَمَّا كَانَ مِنْ جُمْلَةِ أَحْوَالِ مَا فِي الْأَرْضِ أَعْمَالُ النَّاسِ وَأَحْوَالُهُمْ مِنْ عَقَائِدَ وَسِيَرٍ، وَمِمَّا يَعْرُجُ فِي السَّمَاءِ الْعَمَلُ الصَّالِحُ وَالْكَلِمُ الطَّيِّبُ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ أَيِ الْوَاسِعُ الرَّحْمَةِ وَالْوَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ. وَهَذَا إِجْمَالٌ قُصِدَ مِنْهُ حَثُّ النَّاسِ عَلَى طَلَبِ أَسْبَابِ الرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ الْمَرْغُوبِ فِيهِمَا، فَإِنَّ مَنْ رَغِبَ فِي تَحْصِيلِ شَيْءٍ بَحَثَ عَنْ
وَسَائِلِ تَحْصِيلِهِ وَسَعَى إِلَيْهَا. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ أَنْ يَتُوبُوا عَنِ الشِّرْكِ فَيَغْفِرُ لَهُمْ مَا قَدَّمُوهُ.
[٣]
[سُورَة سبإ (٣٤) : آيَة ٣]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٣)
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ.
كَانَ ذِكْرُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا مُشْعِرًا بِحَالِ الْمَوْتَى عِنْدَ وُلُوجِهِمُ الْقُبُورَ وَعِنْدَ نَشْرِهِمْ مِنْهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً [المرسلات: ٢٥، ٢٦] وَقَالَ: يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ [ق: ٤٤]، وَكَانَ ذِكْرُ مَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا مُومِيًا إِلَى عُرُوجِ الْأَرْوَاحِ عِنْدَ مُفَارَقَةِ الْأَجْسَادِ وَنُزُولِ الْأَرْوَاحِ لِتُرَدَّ إِلَى الْأَجْسَادِ الَّتِي تُعَادُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَكَانَ ذَلِكَ مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ [سبأ: ١] مُنَاسِبَةٌ لِلتَّخَلُّصِ إِلَى ذِكْرِ إِنْكَارِ الْمُشْرِكِينَ الْحَشْرَ لِأَنَّ إِبْطَالَ زَعْمِهِمْ مِنْ أَهَمِّ مَقَاصِدِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَكَانَ التَّخَلُّصُ بُقُولِهِ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ، قَالُوا واعتراضية لِلِاسْتِطْرَادِ وَهِيَ فِي الْأَصْلِ وَاوُ عَطْفِ الْجُمْلَةِ الْمُعْتَرِضَةِ عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنَ الْكَلَامِ. وَلَمَّا لَمْ تُفِدْ إِلَّا التَّشْرِيكَ فِي الذِّكْرِ دُونَ الْحُكْمِ دَعَوْهَا بِالْوَاوِ الِاعْتِرَاضِيَّةِ وَلَيْسَتْ هُنَا لِلْعَطْفِ لِعَدَمِ التَّنَاسُبِ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ وَإِنَّمَا جَاءَتِ الْمُنَاسَبَةُ مِنْ أَجْزَاءِ الْجُمْلَةِ الْأُولَى فَكَانَتِ الثَّانِيَةُ اسْتِطْرَادًا وَاعْتِرَاضًا، وَتَقَدَّمَ آنِفًا مَا قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ كَانَتْ سَبَبَ نُزُولِ السُّورَةِ.
ثُمَّ إِنَّ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ قَابِلَةٌ لِلِازْدِيَادِ فَكَانَ حَظُّ إِبْرَاهِيمَ مِنْهَا حَظًّا كَامِلًا لَعَلَّهُ أَكْمَلُ مِنْ حَظّ نوح بِنَاء عَلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ أَفْضَلُ الرُّسُلِ بعد مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَادَّخَرَ اللَّهُ مُنْتَهَى كَمَالِهَا لرَسُوله مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلِذَلِكَ
قَالَ: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ»
، وَلِذَلِكَ أَيْضًا وُصِفَتْ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ بِالْحَنِيفِيَّةِ وَوُصِفَ الْإِسْلَامُ بِزِيَادَةِ ذَلِكَ
فِي قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ»
. وَتَعْلِيقُ كَوْنِهِ مِنْ شِيعَةِ نُوحٍ بِهَذَا الْحِينِ الْمُضَافِ إِلَى تِلْكَ الْحَالَةِ كِنَايَةٌ عَنْ وَصْفِ نُوحٍ بِسَلَامَةِ الْقَلْبِ أَيْضًا يَحْصُلُ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ إِثْبَاتُ مِثْلِ صِفَاتِ نُوحٍ لِإِبْرَاهِيمَ وَمِنْ قَوْلِهِ: إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ إِثْبَاتُ صِفَةٍ مِثْلِ صِفَةِ إِبْرَاهِيمَ لِنُوحٍ عَلَى طَرِيقِ الْكِنَايَةِ فِي الْإِثْبَاتَيْنِ، إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ أُثْبِتَ لِإِبْرَاهِيمَ بِالصَّرِيحِ وَيَثْبُتُ لِنُوحٍ بِاللُّزُومِ فَيَكُونُ أَضْعَفَ فِيهِ مِنْ إِبْرَاهِيمَ.
وإِذْ قالَ لِأَبِيهِ بَدَلٌ مِنْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ بَدَلَ اشْتِمَالٍ فَإِنَّ قَوْلَهُ هَذَا لَمَّا نَشَأَ عَنِ امْتِلَاءِ قَلْبِهِ بِالتَّوْحِيدِ وَالْغَضَبِ لِلَّهِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ كَانَ كَالشَّيءِ الْمُشْتَمِلِ عَلَيْهِ قَلْبُهُ السَّلِيمُ فَصَدَرَ عَنْهُ.
وماذا تَعْبُدُونَ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ على أَن يعبدوا مَا يَعْبُدُونَهُ وَلِذَلِكَ أَتْبَعَهُ بِاسْتِفْهَامٍ آخَرَ إنكاري وَهُوَ أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ. وَهَذَا الَّذِي اقْتَضَى الْإِتْيَانَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ بَعْدَ «مَا» الِاسْتِفْهَامِيَّةِ الَّذِي هُوَ مُشْرَبٌ مَعْنَى الْمَوْصُولِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ، فَاقْتَضَى أَنَّ مَا يَعْبُدُونَهُ مُشَاهَدٌ لِإِبْرَاهِيمَ فَانْصَرَفَ الِاسْتِفْهَامُ بِذَلِكَ إِلَى مَعْنًى دُونَ الْحَقِيقِيِّ وَهُوَ مَعْنَى الْإِنْكَارِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [٧٠] فَإِنَّهُ اسْتِفْهَامٌ عَلَى مَعْبُودَاتِهِمْ وَلِذَلِكَ أَجَابُوا عَنْهُ قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ [٧١]، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِالِاسْتِفْهَامِ هُنَالِكَ التَّمْهِيدَ إِلَى الْمُحَاجَّةِ فَصَوَّرَهُ فِي صُورَةِ الِاسْتِفْهَامِ لِسَمَاعِ جَوَابِهِمْ فَيَنْتَقِلُ إِلَى إِبْطَالِهِ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنْ تَرْتِيبِ حِجَاجِهِ هُنَالِكَ، فَذَلِكَ حِكَايَةٌ لِقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ فِي ابْتِدَاءِ دَعْوَتِهِ قَوْمَهُ، وَأَمَّا مَا هُنَا فَحِكَايَةٌ لِبَعْضِ أَقْوَالِهِ فِي إِعَادَةِ الدَّعْوَةِ وتأكيدها.
وَجُمْلَة أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ مَاذَا تَعْبُدُونَ بَيَّنَ بِهِ مَصَبَّ الْإِنْكَارِ فِي قَوْلِهِ: مَاذَا تَعْبُدُونَ وَإِيضَاحَهُ، أَيْ كَيْفَ تُرِيدُونَ آلِهَةً إِفْكًا.
الشَّخْصِ وَعَقْلَهُ خَلْقًا غَيْرَ قَابِلٍ لِمَعَانِي الْحَقِّ وَالصَّوَابِ، وَلَا يَنْفَعِلُ لِدَلَائِلِ الِاعْتِقَادِ الصَّحِيحِ.
وَأَرَادَ مِنْ هَذِهِ الصِّلَةِ الْعُمُومَ الشَّامِلَ لِكُلِّ مَنْ حَرَمَهُ اللَّهُ التَّوْفِيقَ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِتَوَقُّعِهِ أَنْ يَكُونَ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ مِنْ جُمْلَةِ هَذَا الْعُمُومِ، وَآثَرَ لَهُمْ هَذَا دُونَ أَنْ يَقُولَ: وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ [الزمر: ٣٧] لِأَنَّهُ أَحَسَّ مِنْهُمُ الْإِعْرَاضَ وَلَمْ يَتَوَسَّمْ فِيهِمْ مَخَائِلَ الِانْتِفَاعِ بِنُصْحِهِ وَمَوْعِظَتِهِ.
[٣٤- ٣٥]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : الْآيَات ٣٤ الى ٣٥]
وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (٣٤) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (٣٥)
وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا.
تَوَسُّمَ فِيهِمْ قِلَّةَ جَدْوَى النُّصْحِ لَهُمْ وَأَنَّهُمْ مُصَمِّمُونَ عَلَى تَكْذِيبِ مُوسَى فَارْتَقَى فِي مَوْعِظَتِهِمْ إِلَى اللَّوْمِ عَلَى مَا مَضَى، وَلِتَذْكِيرِهِمْ بِأَنَّهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ كَذَّبُوا يُوسُفَ لَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَتَكْذِيبُ الْمُرْشِدِينَ إِلَى الْحَقِّ شَنْشَنَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي أَسْلَافِهِمْ فَتَكُونُ سَجِيَّةً فِيهِمْ.
وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ (قَدْ) وَلَامِ الْقِسْمِ لِتَحْقِيقِهِ لِأَنَّهُمْ مَظِنَّةٌ أَنْ يُنْكِرُوهُ لِبُعْدِ عَهْدِهِمْ بِهِ.
فَالْمَجِيءُ فِي قَوْلِهِ: جاءَكُمْ مُسْتَعَارٌ لِلْحُصُولِ وَالظُّهُورِ وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ وَلَقَدْ ظَهَرَ لَكُمْ يُوسُفُ بِبَيِّنَاتٍ. وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ إِظْهَارُ الْبَيِّنَاتِ مُقَارِنًا دَعْوَةً إِلَى شَرْعٍ لِأَنَّهُ لَمَّا
أَظْهَرَ الْبَيِّنَاتِ وَتَحَقَّقُوا مَكَانَتَهُ كَانَ عَلَيْهِمْ بِحُكْمِ الْعَقْلِ السَّلِيمِ أَنْ يَتَبَيَّنُوا آيَاتِهِ وَيَسْتَهْدُوا طَرِيقَ الْهُدَى وَالنَّجَاةِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْ يُوسُفَ بِأَنْ يَدْعُوَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ، لِحِكْمَةٍ لَعَلَّهَا هِيَ انْتِظَارُ الْوَقْتِ وَالْحَالِ الْمُنَاسِبِ الَّذِي ادَّخَرَهُ اللَّهُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَالْبَيِّنَاتُ: الدَّلَائِلُ الْبَيِّنَةُ الْمُظْهِرَةُ أَنَّهُ مُصْطَفَى مِنَ اللَّهِ لِلْإِرْشَادِ إِلَى الْخَيْرِ، فَكَانَ عَلَى كُلِّ عَاقِلٍ أَنْ يَتَّبِعَ خُطَاهُ وَيَتَرَسَّمَ آثَارَهُ وَيَسْأَلَهُ عَمَّا وَرَاءَ هَذَا الْعَالَمِ
وَقَوْلُهُ: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ [الْبَقَرَة: ٣٤].
يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً.
بَدَلَ مِنْ جُمْلَةِ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ بَدَلَ اشْتِمَالٍ لِأَنَّ خَلْقَهُ مَا يَشَاءُ يَشْتَمِلُ عَلَى هِبَتِهِ لِمَنْ يَشَاءُ مَا يَشَاءُ. وَهَذَا الْإِبْدَالُ إِدْمَاجُ مَثَلٍ جَامِعٍ لِصُوَرِ إِصَابَةِ الْمَحْبُوبِ وَإِصَابَةِ الْمَكْرُوهِ فَإِنَّ قَوْلَهُ وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً هُوَ مِنَ الْمَكْرُوهِ عِنْدَ غَالِبِ الْبَشَرِ وَيَتَضَمَّنُ ضَرْبًا مِنْ ضُرُوبِ الْكُفْرَانِ وَهُوَ اعْتِقَادُ بَعْضِ النِّعْمَةِ سَيِّئَةً فِي عَادَةِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ تَطَيُّرِهِمْ بِوِلَادَةِ الْبَنَاتِ لَهُمْ، وَقَدْ أُشِيرَ إِلَى التَّعْرِيضِ بِهِمْ فِي ذَلِكَ بِتَقْدِيمِ الْإِنَاثِ عَلَى الذُّكُورِ فِي ابْتِدَاءِ تَعْدَادِ النِّعَمِ الْمَوْهُوبَةِ عَلَى عَكْسِ الْعَادَةِ فِي تَقْدِيمِ الذُّكُورِ عَلَى الْإِنَاثِ حَيْثُمَا ذُكِرَا فِي الْقُرْآنِ فِي نَحْوِ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى [الحجرات: ١٣] وَقَوْلِهِ: فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى [الْقِيَامَة: ٣٩] فَهَذَا مِنْ دَقَائِقِ هَذِهِ الْآيَةِ.
وَالْمُرَادُ: يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا فَقَطْ وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ فَقَطْ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً. وَتَنْكِيرُ إِناثاً لِأَنَّ التَّنْكِيرَ هُوَ الْأَصْلُ فِي أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ وَتَعْرِيفُ الذُّكُورَ بِاللَّامِ لِأَنَّهُمُ الصِّنْفُ الْمَعْهُودُ لِلْمُخَاطَبِينَ، فَاللَّامُ لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ وَإِنَّمَا يُصَارُ إِلَى تَعْرِيفِ الْجِنْسِ لِمَقْصِدٍ، أَيْ يَهَبُ ذَلِكَ الصِّنْفَ الَّذِي تَعْهَدُونَهُ وَتَتَحَدَّثُونَ بِهِ وَتَرْغَبُونَ فِيهِ عَلَى حَدِّ قَوْلِ الْعَرَبِ: أَرْسَلَهَا الْعِرَاكُ، وَتَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ. وأَوْ لِلتَّقْسِيمِ.
وَالتَّزْوِيجُ قَرْنُ الشَّيْءِ بِشَيْءٍ آخَرَ فَيَصِيرَانِ زَوْجًا. وَمِنْ مَجَازِهِ إِطْلَاقُهُ عَلَى إِنْكَاحِ الرَّجُلِ امْرَأَةً لِأَنَّهُمَا يَصِيرَانِ كَالزَّوْجِ، وَالْمُرَادُ هُنَا: جَعَلَهُمْ زَوْجًا فِي الْهِبَةِ، أَيْ يَجَمْعُ لِمَنْ يَشَاءُ فَيَهَبُ لَهُ ذُكْرَانًا مُشْفَعِينَ بِإِنَاثٍ فَالْمُرَادُ التَّزْوِيجُ بِصِنْفٍ آخَرَ لَا مُقَابَلَةُ كُلِّ فَرْدٍ مِنَ الصِّنْفِ بِفَرْدٍ مِنَ الصِّنْفِ الْآخَرِ.
الدِّينِ الدَّمَامِينِيُّ فِي شَرْحِهِ «الْمَزْجِ عَلَى الْمُغْنِي»، وَذَكَرَ فِي شَرْحِهِ الَّذِي بِالْقَوْلِ الْمُشْتَهِرِ بِ «الْحَوَاشِي الْهِنْدِيَّةِ» أَنَّ تَمْثِيلَ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي «الْمُفَصَّلِ» بقوله: هَا إِنَّ زَيْدًا مُنْطَلَقٌ يَقْتَضِي جَوَازَ: هَا أَنَا أَفْعَلُ، لَكِنَّ الرَّضِيَّ قَالَ: لَمْ أَعْثُرْ بِشَاهِدٍ عَلَى وُقُوعِ ذَلِكَ.
وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ تَذْيِيلٌ لِلشَّيْءِ قَبْلَهَا فَاللَّهُ الْغَنِيُّ الْمُطْلَقُ، وَالْغَنِيُّ الْمُطْلَقُ لَا يَسْأَلُ النَّاسَ مَالًا فِي شَيْءٍ، وَالْمُخَاطَبُونَ فُقَرَاءُ فَلَا يُطْمَعُ مِنْهُمُ الْبَذْلُ فَتَعَيَّنَ أَنَّ دُعَاءَهُمْ لِيُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ دُعَاءٌ بِصَرْفِ أَمْوَالِهِمْ فِي مَنَافِعِهِمْ كَمَا أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ:
وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ.
وَالتَّعْرِيفُ بِاللَّامِ فِي الْغَنِيُّ وَفِي الْفُقَراءُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، وَهُوَ فِيهِمَا مُؤْذِنٌ بِكَمَالِ الْجِنْسِ فِي الْمُخْبَرِ عَنْهُ، وَلَمَّا وَقَعَا خَبَرِينِ وَهُمَا مَعْرِفَتَانِ أَفَادَا الْحَصْرَ، أَيْ قَصْرُ الصِّفَةِ عَلَى الْمَوْصُوفِ، أَيْ قَصْرُ جِنْسِ الْغَنِيِّ عَلَى اللَّهِ وَقَصْرُ جِنْسِ الْفُقَرَاءِ عَلَى الْمُخَاطِبِينَ بِ أَنْتُمْ وَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ فِيهِمَا مُرَتَّبٌ عَلَى دَلَالَةِ أَلْ عَلَى مَعْنَى كَمَالِ الْجِنْسِ، فَإِنَّ كَمَالَ الْغِنَى لِلَّهِ لَا مَحَالَةَ لِعُمُومِهِ وَدَوَامِهِ، وَإِنْ كَانَ يُثْبِتُ بَعْضَ جِنْسِ الْغِنَى لِغَيْرِهِ. وَأَمَّا كَمَالُ الْفَقْرِ لِلنَّاسِ فَبِالنِّسْبَةِ إِلَى غِنَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ كَانُوا قَدْ يُغْنَوْنَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ لَكِنَّ ذَلِكَ غِنًى قَلِيلٌ وَغَيْرُ دَائِمٍ.
وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ.
عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ [مُحَمَّد: ٣٦]. وَالتَّوَلِّي:
الرُّجُوعُ، وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِاسْتِبْدَالِ الْإِيمَانِ بِالْكُفْرِ، وَلِذَلِكَ جُعِلَ جَزَاؤُهُ اسْتِبْدَالَ قَوْمٍ غَيْرِهِمْ
كَمَا اسْتَبْدَلُوا دِينَ اللَّهِ بِدِينِ الشِّرْكِ.
وَالِاسْتِبْدَالُ: التَّبْدِيلُ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ، ومفعوله قَوْماً أَو المستبدل بِهِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَى تَقْدِيرِهِ قَوْلُهُ غَيْرَكُمْ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُسْتَبْدَلَ بِهِ هُوَ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ (غَيْرُ) لِتَعَيُّنِ انْحِصَارِ الِاسْتِبْدَالِ فِي شَيْئَيْنِ، فَإِذَا ذُكِرَ أَحَدَهُمَا عُلِمَ الْآخَرُ. وَالتَّقْدِيرُ: يَسْتَبْدِلُ قَوْمًا بِكُمْ لِأَنَّ الْمُسْتَعْمَلَ فِي فِعْلِ الِاسْتِبْدَالِ وَالتَّبْدِيلِ أَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ هُوَ الْمُعَوِّضُ وَمَجْرُورُ الْبَاءِ هُوَ الْعِوَضُ كَقَوْلِهِ: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ فِي تَطَوُّعِ أَحَدٍ عَنْ أَحَدٍ بِقُرْبَةٍ، وَأَمَّا الِاسْتِئْجَارُ عَلَى النِّيَابَةِ فِي الْقُرَبِ: فَأَمَّا الْحَجُّ فَقَدْ ذَكَرُوا فِيهِ جَوَازَ الِاسْتِئْجَارِ بِوَصِيَّةٍ، أَوْ بِغَيْرِهَا، لِأَنَّ الْإِنْفَاقَ مِنْ مُقَوِّمَاتِ الْحَجِّ، وَيَظْهَرُ أَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ لَا يَجُوزُ أَخْذُ فَاعِلِهَا أُجْرَةً عَلَى فِعْلِهَا كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ لَا يَصِحُّ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الِاسْتِنَابَةِ فِيهَا، وَأَنَّ الْقُرَبَ الَّتِي يَصِحُّ أَخْذُ الْأَجْرِ عَلَيْهَا يَصِحُّ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى النِّيَابَةِ فِيهَا مِثْلَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، فَقَدَ أَقَرَّ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِعْلَ الَّذِينَ أَخَذُوا أَجْرًا عَلَى رُقْيَةِ الْمَلْدُوغِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ.
وَإِذَا عَلِمْتَ هَذَا كُلَّهُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعى هُوَ حُكْمٌ كَانَ فِي شَرِيعَةٍ سَالِفَةٍ، فَالْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ لَا يَنْسَحِبُ عَلَيْنَا لَمْ يَكُنْ فِيمَا وَرَدَ مِنَ الْأَخْبَارِ بِصِحَّةِ
النِّيَابَةِ فِي الْأَعْمَالِ فِي دِينِنَا مَعَارِضٌ لِمُقْتَضَى الْآيَةِ، وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّ شَرْعَ غَيْرِنَا شَرْعٌ لَنَا مَا لَمْ يَرِدْ نَاسِخٌ، مِنْهُمْ مَنْ أَعْمَلَ عُمُومَ الْآيَةِ وَتَأَوَّلَ الْأَخْبَارَ الْمُعَارِضَةَ لَهَا بِالْخُصُوصِيَّةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا مُخَصِّصَةً لِلْعُمُومِ، أَوْ نَاسِخَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَ ظَاهِرَ الْآيَةِ بِأَنَّ الْمُرَادَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ حَقِيقَةً بِحَيْثُ يَعْتَمِدُ عَلَى عَمَلِهِ، أَوْ تَأَوَّلَ السَّعْيَ بِالنِّيَّةِ. وَتَأَوَّلَ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ:
لِلْإِنْسانِ بِمَعْنى (على)، أَي لَيْسَ عَلَيْهِ سَيِّئَاتُ غَيْرِهِ.
وَفِي تَفْسِير سُورَة الرحمان مِنَ «الْكَشَّافِ» : أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ طَاهِرٍ قَالَ لِلْحُسَيْنِ بْنِ الْفَضْلِ: أُشْكِلَتْ عَلَيَّ ثَلَاثُ آيَاتٍ. فَذَكَرَ لَهُ مِنْهَا قَوْلَهُ تَعَالَى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعى فَمَا بَالُ الْأَضْعَافِ، أَيْ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً [الْبَقَرَة: ٢٤٥]، فَقَالَ الْحُسَيْنُ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إِلَّا مَا سَعَى عَدْلًا، وَلِي أَنْ أُجْزِيَهُ بِوَاحِدَةٍ ألفا فضلا (١).
[٤٠، ٤١]
[سُورَة النَّجْم (٥٣) : الْآيَات ٤٠ إِلَى ٤١]
وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (٤٠) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (٤١)
يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [النَّجْم: ٣٨] فَهِيَ مِنْ تَمام تَفْسِير بِما فِي صُحُفِ مُوسى وَإِبْراهِيمَ [النَّجْم: ٣٦، ٣٧] فَيَكُونُ تَغْيِيرُ الْأُسْلُوبِ إِذْ جِيءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِحَرْفِ أَنَّ الْمُشَدَّدَةِ لِاقْتِضَاءِ الْمَقَامِ أَنْ يَقَعَ الْإِخْبَارُ عَنْ سَعْيِ الْإِنْسَانِ بِأَنَّهُ
_________
(١) انْظُر مَا يَأْتِي عِنْد قَوْله تَعَالَى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ فِي سُورَة الرحمان [٢٩].
تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ.
يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ بَيَانًا لِجُمْلَةِ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ، أَوْ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْهَا فَإِنَّ الْإِسْرَارَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ مِمَّا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْإِلْقَاءُ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ. وَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّوْبِيخِ وَالتَّعْجِيبِ، فَالتَّوْبِيخُ مُسْتَفَادٌ مِنْ إِيقَاعِ الْخَبَرِ عَقِبَ النَّهْيِ الْمُتَقَدِّمِ، وَالتَّعْجِيبُ مُسْتَفَادٌ مِنْ تَعْقِيبِهِ بِجُمْلَةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ، أَيْ كَيْفَ تَظُنُّونَ أَنَّ إِسْرَارَكُمْ إِلَيْهِمْ يَخْفَى عَلَيْنَا وَلَا نُطْلِعُ عَلَيْهِ رَسُولَنَا.
وَالْإِسْرَارُ: التَّحَدُّثُ وَالْإِخْبَارُ سِرًّا.
وَمَفْعُولُ تُسِرُّونَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَحْذُوفًا يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، أَيْ تُخْبِرُونَهُمْ أَحْوَالَ الْمُسْلِمِينَ سِرًّا.
وَجِيءَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِتَصْوِيرِ حَالَةِ الْإِسْرَارِ إِلَيْهِ تَفْظِيعًا لَهَا.
وَالْبَاءُ فِي بِالْمَوَدَّةِ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ تُخْبِرُونَهُمْ سِرًّا بِسَبَبِ الْمَوَدَّةِ أَيْ بِسَبَبِ طَلَبِ الْمَوَدَّةِ لَهُمْ كَمَا هُوَ فِي قَضِيَّةِ كِتَابِ حَاطِبٍ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِالْمَوَدَّةِ فِي مَحَلِّ الْمَفْعُولِ لِفِعْلِ تُسِرُّونَ وَالْبَاءُ زَائِدَةً لِتَأْكِيدِ الْمَفْعُولِيَّةِ كَالْبَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [الْمَائِدَة: ٦].
وَجُمْلَةُ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ تُسِرُّونَ أَوْ مُعْتَرِضَةٌ، وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ.
وَهَذَا مَنَاطُ التَّعْجِيبِ مِنْ فِعْلِ الْمُعَرَّضِ بِهِ وَهُوَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ. وَتَقْدِيمُ الْإِخْفَاءِ لِأَنَّهُ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ: وَأَنَا أَعْلَمُ. وَلِمُوَافَقَتِهِ لِلْقِصَّةِ.
وأَعْلَمُ اسْمُ تَفْضِيلٍ وَالْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ مَعْلُومٌ مِنْ قَوْلِهِ: تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ فَالتَّقْدِيرُ:
أَعْلَمُ مِنْهُمْ وَمِنْكُمْ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ.
وَالْبَاءُ مُتَعَلِّقَةٌ بِاسْمِ التَّفْضِيلِ وَهِيَ بِمَعْنَى الْمُصَاحِبَةِ.
وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ.
وَتَقْدِيمُ الْجَحِيمَ عَلَى عَامِلِهِ لِتَعْجِيلِ الْمَسَاءَةِ مَعَ الرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ وَكَذَلِكَ تَقْدِيمُ فِي سِلْسِلَةٍ على عَامله.
واقتران فعل فَاسْلُكُوهُ بِالْفَاءِ إِمَّا لِتَأْكِيدِ الْفَاءِ الَّتِي اقْتَرَنَتْ بِفِعْلِ فَغُلُّوهُ، وَإِمَّا لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ الْفِعْلَ مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ جَزَاءِ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ، وَهَذَا الْحَذْفُ يُشْعِرُ بِهِ تَقْدِيمُ الْمَعْمُولِ غَالِبًا كَأَنَّهُ قِيلَ: مَهْمَا فَعَلْتُمْ بِهِ شَيْئًا فَاسْلُكُوهُ فِي سِلْسِلَةٍ، أَوْ مَهْمَا يَكُنْ شَيْءٌ فَاسْلُكُوهُ.
وَالْمَقْصُودُ تَأْكِيدُ وُقُوعِ ذَلِكَ وَالْحَثُّ عَلَى عَدَمِ التَّفْرِيطِ فِي الْفِعْلِ وَأَنَّهُ لَا يُرْجَى لَهُ تَخْفِيفٌ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [المدثر: ٣- ٥]، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا فِي سُورَةِ [يُونُسَ: ٥٨].
وَالسِّلْسِلَةُ: اسْمٌ لِمَجْمُوعِ حِلَقٍ مِنْ حَدِيدٍ دَاخِلٍ بَعْضُ تِلْكَ الْحِلَقِ فِي بَعْضٍ تُجْعَلُ لِوِثَاقِ شَخْصٍ كَيْ لَا يَزُولَ مِنْ مَكَانِهِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ
وَالسَّلاسِلُ
فِي سُورَةِ غَافِرٍ [٧١].
وَجُمْلَةُ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً صِفَةُ سِلْسِلَةٍ وَهَذِهِ الصِّفَةُ وَقَعَتْ مُعْتَرِضَةً بَيْنَ الْمَجْرُورِ وَمُتَعَلَّقِهِ لِلتَّهْوِيلِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ بِالْقَارِعَةِ، وَلَيْسَتِ الْجُمْلَةُ مِمَّا خُوطِبَ الْمَلَائِكَةُ الْمُوَكَّلُونَ بِسَوْقِ الْمُجْرِمِينَ إِلَى الْعَذَابِ، وَلِذَلِكَ فَعَدَدُ السَّبْعِينَ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الْكَثْرَةِ عَلَى طَرِيقَةِ الْكِنَايَةِ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [التَّوْبَة: ٨٠].
وَالذَّرْعُ: كَيْلُ طُولِ الْجِسْمِ بِالذِّرَاعِ وَهُوَ مِقْدَارٌ مِنَ الطُّولِ مُقَدَّرٌ بِذِرَاعِ الْإِنْسَانِ، وَكَانُوا يُقَدِّرُونَ بِمَقَادِيرِ الْأَعْضَاءِ مِثْلُ الذِّرَاعِ، وَالْأُصْبُعِ، وَالْأُنْمُلَةِ، وَالْقَدَمِ، وَبِالْأَبْعَادِ الَّتِي بَيْنَ الْأَعْضَاءِ مِثْلُ الشِّبْرِ، وَالْفِتْرِ، وَالرَّتَبِ (بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالتَّاءِ)، وَالْعَتَبِ، وَالْبُصْمِ، وَالْخُطْوَةِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّهُ كانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ فِي مَوْضِعِ الْعِلَّةِ لِلْأَمْرِ بِأَخْذِهِ وَإِصْلَائِهِ الْجَحِيمَ.
وَوَصْفُ اللَّهِ بِالْعَظِيمِ هُنَا إِيمَاءٌ إِلَى مُنَاسَبَةِ عِظَمِ الْعَذَابِ لِلذَّنْبِ إِذْ كَانَ الذَّنْبُ كُفْرَانًا بِعَظِيمٍ فَكَانَ جَزَاءً وَفَاقًا.
وَ (ضاحِكَةٌ) أَيْ كِنَايَةٌ عَنِ السُّرُورِ.
وَ (مُسْتَبْشِرَةٌ) مَعْنَاهُ فَرِحَةٌ، وَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ مِثْلَ: اسْتَجَابَ، وَيُقَالُ: بَشَرَ،
أَيْ فَرِحَ وَسُرَّ، قَالَ تَعَالَى: قالَ يَا بُشْرى هَذَا غُلامٌ [يُوسُف: ١٩] أَيْ يَا فَرْحَتِي.
وَإِسْنَادُ الضَّحِكِ وَالِاسْتِبْشَارِ إِلَى الْوُجُوهِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّ الْوُجُوهَ مَحَلُّ ظُهُورِ الضَّحِكِ وَالِاسْتِبْشَارِ، فَهُوَ مِنْ إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى مَكَانِهِ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْوُجُوهَ كِنَايَةً عَنِ الذَّوَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ [الرَّحْمَن: ٢٧].
وَهَذِهِ وُجُوهُ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْمُطْمَئِنِّينَ بَالًا الْمُكْرَمِينَ عَرْضًا وَحُضُورًا.
وَالْغَبَرَةُ بِفَتْحَتَيْنِ الْغُبَارُ كُلُّهُ، وَالْمُرَادُ هُنَا أَنَّهَا مُعَفَّرَةٌ بِالْغُبَارِ إِهَانَةً وَمِنْ أَثَرِ الْكَبَوَاتِ.
وتَرْهَقُها تَغْلِبُ عَلَيْهَا وَتَعْلُوهَا.
وَالْقَتَرَةُ: بِفَتْحَتَيْنِ شِبْهُ دُخَانٍ يَغْشَى الْوَجْهَ مِنَ الْكَرْبِ وَالْغَمِّ، كَذَا قَالَ الرَّاغِبُ، وَهُوَ غَيْرُ الْغَبَرَةِ كَمَا تَقْتَضِيهِ الْآيَةُ لِئَلَّا يَكُونَ مِنَ الْإِعَادَةِ، وَهِيَ خِلَافُ الْأَصْلِ وَلَا دَاعِيَ إِلَيْهَا.
وَسَوَّى بَيْنَهُمَا الْجَوْهَرِيُّ وَتَبِعَهُ ابْنُ مَنْظُورٍ وَصَاحِبُ «الْقَامُوسِ».
وَهَذِهِ وُجُوهُ أَهْلِ الْكُفْرِ، يُعْلَمُ ذَلِكَ مِنْ سِيَاقِ هَذَا التَّنْوِيعِ، وَقَدْ صُرِّحَ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ:
أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ زِيَادَةً فِي تَشْهِيرِ حَالِهِمُ الْفَظِيعِ لِلسَّامِعِينَ.
وَجِيءَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِزِيَادَةِ الْإِيضَاحِ تَشْهِيرًا بِالْحَالَةِ الَّتِي سَبَّبَتْ لَهُمْ ذَلِكَ.
وَضَمِيرُ الْفَصْلِ هُنَا لِإِفَادَةِ التَّقْوَى.
وَأُتْبِعَ وَصْفُ الْكَفَرَةُ بِوَصْفِ الْفَجَرَةُ مَعَ أَنَّ وَصْفَ الْكُفْرِ أَعْظَمُ مِنْ وَصْفِ الْفُجُورِ لِمَا فِي مَعْنَى الْفُجُورِ مِنْ خَسَاسَةِ الْعَمَلِ فَذُكِرَ وصفاهم الدالان على مَجْمُوعِ فَسَادِ الِاعْتِقَادِ وَفَسَادِ الْعَمَلِ.
وَذِكْرُ وَصْفِ الْفَجَرَةُ بِدُونِ عَاطِفٍ يُفِيدُ أَنَّهُمْ جَمَعُوا بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْفُجُورِ.