إِلَّا أَنَّ كَوْنَ التَّسْمِيَةِ مَكْتُوبَةً بِخَطِّ الْقُرْآنِ يُوهِنُ كَوْنَهَا لَيْسَتْ من الْقُرْآن فههنا لَا يُمْكِنُنَا الْحُكْمُ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا بِالدَّلِيلِ وَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي أَنَّ الدَّلِيلَ مَا هُوَ، فَثَبَتَ أَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي أَوْرَدَهُ الْقَاضِي لَازِمٌ عَلَيْهِ اهـ، وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ آلَ فِي اسْتِدْلَالِهِ إِلَى الْمُصَادَرَةِ إِذْ قَدْ صَارَ مَرْجِعُ اسْتِدْلَالِ الْغَزَالِيِّ وَفَخْرِ الدِّينِ إِلَى رَسْمِ الْبَسْمَلَةِ فِي الْمَصَاحِفِ، وَسَنَتَكَلَّمُ عَنْ تَحْقِيقِ ذَلِكَ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى مُدْرَكِ الشَّافِعِيِّ. وَتَعَقَّبَ ابْنُ رُشْدٍ فِي «بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ» كَلَامَ الْبَاقِلَّانِيِّ وَالْغَزَالِيِّ بِكَلَامٍ غَيْرِ مُحَرَّرٍ فَلَا نُطِيلُ بِهِ.
وَأَمَّا الْمَسْلَكُ
الثَّانِي: وَهُوَ الِاسْتِدْلَالُ مِنَ الْأَثَرِ فَلَا نَجِدُ فِي صَحِيحِ السُّنَّةِ مَا يَشْهَدُ بِأَنَّ الْبَسْمَلَةَ آيَةٌ مِنْ أَوَائِلِ سُوَرِ الْقُرْآنِ وَالْأَدِلَّةُ سِتَّةٌ:
الدَّلِيلُ الْأَوَّلُ:
مَا
رَوَى مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عبد الرَّحْمَن عَن أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى قَسَمْتُ الصَّلَاةَ نِصْفَيْنِ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي فَنِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، يَقُولُ الْعَبْدُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، فَأَقُولُ: حَمِدَنِي عَبْدِي»
إِلَخْ، وَالْمُرَادُ فِي الصَّلَاةِ الْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَاةِ وَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
الثَّانِي:
حَدِيثُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي «الْمُوَطَّأ» و «الصَّحِيحَيْنِ» أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «أَلَا أُعَلِّمُكَ سُورَةً لَمْ يَنْزِلْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ مِثْلُهَا قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ» ؟
قَالَ: بَلَى، فَلَمَّا قَارَبَ الْخُرُوجَ قَالَ لَهُ: كَيْفَ تَقْرَأُ إِذَا افْتَتَحْتَ الصَّلَاةَ؟ قَالَ أُبَيٌّ فَقَرَأْتُ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ حَتَّى أَتَيْتُ عَلَى آخِرِهَا
، فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَقْرَأْ مِنْهَا الْبَسْمَلَةَ.
الثَّالِثُ:
مَا
فِي «صَحِيح مُسلم» و «سنَن أبي دَاوُد» و «سنَن النَّسَائِيِّ» عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ أَنَّهُ قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَكَانُوا يستفتحون بِالْحَمْد لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا يَذْكُرُونَ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)، لَا فِي أَوَّلِ قِرَاءَةٍ وَلَا فِي آخِرِهَا.
الرَّابِعُ:
حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي «صَحِيح مُسلم» و «سنَن أَبِي دَاوُدَ» قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَسْتَفْتِحُ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَة بِالْحَمْد الله رَبِّ الْعَالَمِينَ.
الْخَامِسُ:
مَا
فِي «سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ» عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيءِ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَقُولُ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)، إِذَا أَنْتَ صَلَّيْتَ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.
وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْآيَةَ لَا دَلَالَةَ لَهَا عَلَى نَفْيِ الْقِصَاصِ بَيْنَ الْأَصْنَافِ الْمُخْتَلِفَةِ وَلَا عَلَى إِثْبَاتِهِ مِنْ جِهَةِ مَا وَرَدَ عَلَى كُلِّ تَأْوِيلٍ غَيْرِ ذَلِكَ مِنِ انْتِقَاضٍ بِجِهَةٍ أُخْرَى، فَتَعَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُ:
الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى مَحْمَلُهُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ هُوَ مُسَاوَاةُ أَفْرَادِ كُلِّ صِنْفٍ بَعْضِهَا مَعَ بَعْضٍ دُونَ تَفَاضُلٍ بَيْنَ الْأَفْرَادِ، ثُمَّ أَدِلَّةُ الْعُلَمَاءِ فِي تَسْوِيَةِ الْقِصَاصِ بَيْنَ
بَعْضِ الْأَصْنَافِ مَعَ بَعْضٍ الذُّكُورِ بِالْإِنَاثِ وَفِي عَدَمِهَا كَعَدَمِ تَسْوِيَةِ الْأَحْرَارِ بِالْعَبِيدِ عِنْدَ الَّذِينَ لَا يُسَوُّونَ بَيْنَ صِنْفَيْهِمَا خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَدَاوُدَ أَدِلَّةٌ أُخْرَى غَيْرُ هَذَا الْقَيْدِ الَّذِي فِي ظَاهِرِ الْآيَةِ، فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَأَخَذَ بِعُمُومِ قَوْلِهِ: الْقَتْلى وَلَمْ يُثْبِتْ لَهُ مُخَصِّصًا وَلَمْ يَسْتَثْنِ مِنْهُ إِلَّا الْقِصَاصَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ الْحَرْبِيِّ وَاسْتِثْنَاؤُهُ لَا خِلَافَ فِيهِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْحَرْبِيَّ غَيْرُ مَعْصُومِ الدَّمِ، وَأَمَّا الْمَعَاهَدُ فَفِي حُكْمِ قَتْلِ الْمُسْلِمِ إِيَّاهُ مَذَاهِبُ، وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فَنَفَيَا الْقِصَاصَ مِنَ الْمُسْلِمِ لِلذِّمِّيِّ وَالْمُعَاهَدِ وَأَخَذَا
بِحَدِيثِ «لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ»
، وَمَالِكٌ وَاللَّيْثُ قَالَا لَا قِصَاصَ مِنَ الْمُسْلِمِ إِذَا قَتَلَ الذِّمِّيَّ وَالْمُعَاهَدَ قَتْلَ عُدْوَانٍ وَأَثْبَتَا الْقِصَاصَ مِنْهُ إِذَا قَتَلَ غِيلَةً.
وَأَمَّا الْقِصَاصُ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ فِي قَطْعِ الْأَطْرَافِ فَلَيْسَ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ هَذِهِ الْآيَةِ وَسَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ [الْمَائِدَة: ٤٥] فِي سُورَةِ الْعُقُودِ. وَنَفَى مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ الْقِصَاصَ مِنَ الْحُرِّ لِلْعَبْدِ اسْتِنَادًا لِعَمَلِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَسُكُوتِ الصَّحَابَةِ، وَاسْتِنَادًا لِآثَارٍ مَرْوِيَّةٍ، وَقِيَاسًا عَلَى انْتِفَاءِ الْقِصَاصِ مِنَ الْحُرِّ فِي إِصَابَةِ أَطْرَافِ الْعَبْدِ فَالنَّفْسُ أَوْلَى بِالْحِفْظِ. وَالْقِصَاصُ مِنَ الْعَبْدِ لِقَتْلِهِ الْحُرَّ ثَابِتٌ عِنْدَهُمَا بِالْفَحْوَى، وَالْقِصَاصُ مِنَ الذَّكَرِ لِقَتْلِ الْأُنْثَى ثَابِتٌ بِلَحْنِ الْخِطَابِ.
فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ.
الْفَاءُ لِتَفْرِيعِ الْإِخْبَارِ أَيْ لِمُجَرَّدِ التَّرْتِيبِ اللَّفْظِيِّ لَا لِتَفْرِيعِ حُصُولِ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفَةُ بِهَا عَلَى حُصُولِ مَا تَضَمَّنَتْهُ مَا قَبْلَهَا، وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ أَنَّ أَخْذَ الْوَلِيِّ بِالْقِصَاصِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ صُوَرِ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى لَيْسَ وَاجِبًا عَلَيْهِ وَلَكِنَّهُ حَقٌّ لَهُ فَقَطْ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ أَنَّ الْأَخْذَ بِهِ وَاجِبٌ عَلَى وَلِيِّ الْقَتِيلِ، وَالتَّصَدِّي لِتَفْرِيعِ ذِكْرِ هَذَا بَعْدَ ذِكْرِ حَقِّ الْقِصَاصِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ الْأَوْلَى بِالنَّاسِ قَبُولُ الصُّلْحِ اسْتِبْقَاءً لِأَوَاصِرِ أُخُوَّةِ
التَّقْدِيرُ، قُولُوا: رَبَّنا لَا تُؤاخِذْنا إِلَى آخِرِ السُّورَةِ إِنَّ اللَّهَ بَعْدَ أَنْ قَرَّرَ لَهُمْ أَنَّهُ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، لَقَّنَهُمْ مُنَاجَاةً بِدَعَوَاتٍ هِيَ مِنْ آثَارِ انْتِفَاءِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ. وَالْمُرَادُ مِنَ الدُّعَاءِ بِهِ طَلَبُ الدَّوَامِ عَلَى ذَلِكَ لِئَلَّا يُنْسَخَ ذَلِكَ مِنْ جَرَّاءِ غَضَبِ اللَّهِ كَمَا غَضِبَ عَلَى الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النِّسَاء: ١٦٠].
وَالْمُؤَاخَذَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْأَخْذِ بِمَعْنَى الْعُقُوبَةِ، كَقَوْلِهِ: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ [هود: ١٠٢] وَالْمُفَاعَلَةُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ أَيْ لَا تَأْخُذْنَا بِالنِّسْيَانِ وَالْخَطَأِ.
وَالْمُرَادُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى النِّسْيَانِ وَالْخَطَأِ مِنْ فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ لَا يُرْضِيَانِ اللَّهَ تَعَالَى.
فَهَذِهِ دَعْوَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ دَعَوْهَا قَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ رَفَعَ عَنْهُمْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها
وَقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» وَفِي رِوَايَةٍ: «وُضِعَ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ
وَتَكَلَّمَ الْعُلَمَاءُ فِي صِحَّتِهِ، وَقَدْ حَسَّنَهُ النَّوَوِيُّ، وَأَنْكَرَهُ أَحْمَدُ، وَمَعْنَاهُ صَحِيحٌ فِي غَيْرِ مَا يرجع إِلَى الْخطاب الْوَضْعِ. فَالْمَعْنَى رَفَعَ اللَّهُ عَنْهُمُ الْمُؤَاخَذَةَ فَبَقِيَتِ الْمُؤَاخَذَةُ بِالْإِتْلَافِ وَالْغَرَامَاتِ وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي هَذِهِ الدَّعْوَةِ «لَا تُؤَاخِذْنَا» أَيْ لَا تُؤَاخِذْنَا بِالْعِقَابِ عَلَى فِعْلٍ: نِسْيَانٍ أَوْ خَطَأٍ، فَلَا يَرِدُ إِشْكَالُ الدُّعَاءِ بِمَا عُلِمَ حُصُولُهُ، حَتَّى نَحْتَاجَ إِلَى تَأْوِيلِ الْآيَةِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّسْيَانِ وَالْخَطَأِ سَبَبُهُمَا وَهُوَ التَّفْرِيطُ وَالْإِغْفَالُ كَمَا فِي «الْكَشَّافِ».
وَقَوْلُهُ: رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً إِلَخ فَصْلٌ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُتَعَاطِفَتَيْنِ، بِإِعَادَةِ النِّدَاءِ، مَعَ أَنَّهُ مُسْتَغْنًى عَنْهُ: لِأَنَّ مُخَاطَبَةَ الْمُنَادَى مُغْنِيَةٌ عَنْ إِعَادَةِ النِّدَاءِ لَكِنْ قُصِدَ مِنْ إِعَادَتِهِ إِظْهَارُ التَّذَلُّلِ. وَالْحَمْلُ مَجَازٌ فِي التَّكْلِيفِ بِأَمْرٍ شَدِيدٍ يَثْقُلُ عَلَى النَّفْسِ، وَهُوَ مُنَاسِبٌ لِاسْتِعَارَةِ الْإِصْرِ.
وَأَصْلُ مَعْنَى الْإِصْرِ مَا يُؤْصَرُ بِهِ أَيْ يُرْبَطُ، وَتُعْقَدُ بِهِ الْأَشْيَاءُ، وَيُقَالُ لَهُ: الْإِصَارُ- بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ- ثُمَّ اسْتُعْمِلَ مَجَازًا فِي الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ الْمُؤَكَّدِ فِيمَا يَصْعُبُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ فِي آلِ عمرَان [٨١] : قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي وَأُطْلِقَ أَيْضًا عَلَى مَا يَثْقُلُ عَمَلُهُ، وَالِامْتِثَالُ فِيهِ، وَبَذَلِكَ فَسَّرَهُ الزَّجَّاجُ وَالزَّمَخْشَرِيُّ هُنَا وَفِي قَوْلِهِ، فِي
مُسْتَعَارٌ لِفِعْلِ الْخَطِيئَةِ، وَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلتَّأْكِيدِ، مِثْلُ اسْتَفَادَ وَاسْتَبْشَرَ وَاسْتَنْشَقَ وَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
وَهُمْ قَتَلُوا الطَّائِيَّ بِالْجَوِّ عَنْوَةً | أَبَا جَابر فاستنكحنوا أُمَّ جَابِرِ |
وُقُوعِهِمْ فِي مَعْصِيَةِ الرَّسُولِ، فَهُوَ زَلَلٌ وَاقِعٌ.
وَالْمُرَادُ بِالزَّلَلِ الِانْهِزَامُ، وَإِطْلَاقُ الزَّلَلِ عَلَيْهِ مَعْلُومٌ مَشْهُورٌ كَإِطْلَاقِ ثَبَاتِ الْقَدَمِ عَلَى ضِدِّهِ وَهُوَ النَّصْرُ قَالَ تَعَالَى: وَثَبِّتْ أَقْدامَنا [آل عمرَان: ١٤٧].
وَالْبَاءُ فِي بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا لِلسَّبَبِيَّةِ وَأُرِيدَ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا مُفَارَقَةُ مَوْقِفِهِمْ، وَعِصْيَانُ أَمْرِ الرَّسُولِ، وَالتَّنَازُعُ، وَالتَّعْجِيلُ إِلَى الْغَنِيمَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ مَا أَصَابَهُمْ كَانَ مِنْ آثَار الشَّيْطَان، رماهم فِيهِ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا مِنْ صَنِيعِهِمْ، وَالْمَقْصِدُ مِنْ هَذَا إِلْقَاءُ تَبِعَةِ ذَلِكَ الِانْهِزَامِ عَلَى عَوَاتِقِهِمْ، وَإِبْطَالُ مَا عَرَّضَ بِهِ الْمُنَافِقُونَ مِنْ رَمْيِ تَبِعَتِهِ عَلَى أَمْرِ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِالْخُرُوجِ، وَتَحْرِيضِ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْجِهَادِ. وَذَلِكَ شَأْنُ ضِعَافِ الْعُقُولِ أَنْ يَشْتَبِهَ عَلَيْهِمْ مُقَارِنُ الْفِعْلِ بِسَبَبِهِ، وَلِأَجْلِ تَخْلِيصِ الْأَفْكَارِ مِنْ هَذَا الْغَلَطِ الْخَفِيِّ وَضَعَ أَهْلُ الْمَنْطِقِ بَابَ الْقَضِيَّةِ اللُّزُومِيَّةِ وَالْقَضِيَّةِ الِاتِّفَاقِيَّةِ.
وَمُنَاسَبَةُ ذِكْرِ هَذِهِ الْآيَةِ عَقِبَ الَّتِي قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ لَهُمْ مَرْتَبَةَ حَقِّ الْيَقِينِ بِقَوْلِهِ: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ انْتَقَلَ بِهِمْ إِلَى مَرْتَبَةِ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ، فَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ إِنْ كَانَ لِلْأَسْبَابِ تَأْثِيرٌ فَسَبَبُ مُصِيبَتِهِمْ هِيَ أَفْعَالُهُمُ الَّتِي أَمْلَاهَا الشَّيْطَانُ عَلَيْهِمْ وَأَضَلَّهُمْ، فَلَمْ يَتَفَطَّنُوا إِلَى السَّبَبِ، وَالْتُبِسَ عَلَيْهِمْ بِالْمُقَارَنِ، وَمِنْ شَأْنِ هَذَا الضَّلَالِ أَنْ يَحُولَ بَيْنَ الْمُخْطِئِ وَبَيْنَ تَدَارُكِ خَطَئِهِ وَلَا يَخْفَى مَا فِي الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَغْرَاضِ مِنَ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ، وَتَزْكِيَةِ النُّفُوسِ، وَتَحْبِيبِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَتَعْظِيمِهِ عِنْدَهُمْ، وَتَنْفِيرِهِمْ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَالْأَفْعَالِ الذَّمِيمَةِ، وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ، وَتَسْفِيهِ أَحْلَامِ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ.
وَعَلَى هَذَا فَالْمُرَادُ مِنَِِ
بَادَرُوا بِإِذَاعَتِهِ، أَوْ إِذَا سَمِعُوا خَبَرًا عَنِ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَعَنْ أَصْحَابِهِ، فِي تَدْبِيرِ أَحْوَالِ
الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَحْوَالِ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ، تَحَدَّثُوا بِتِلْكَ الْأَخْبَارِ فِي الْحَالَيْنِ، وَأَرْجَفُوهَا بَيْنَ النَّاسِ لِقَصْدِ التَّثْبِيطِ عَنِ الِاسْتِعْدَادِ، إِذَا جَاءَتْ أَخْبَارُ أَمْنٍ حَتَّى يُؤْخَذَ الْمُؤْمِنُونَ وَهُمْ غَارُّونَ، وَقَصْدِ التَّجْبِينِ إِذَا جَاءَتْ أَخْبَارُ الْخَوْفِ، وَاخْتِلَافِ الْمَعَاذِيرِ لِلتَّهْيِئَةِ لِلتَّخَلُّفِ عَنِ الْغَزْوِ إِذَا اسْتُنْفِرُوا إِلَيْهِ، فَحَذَّرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ مَكَائِدِ هَؤُلَاءِ، وَنَبَّهَ هَؤُلَاءِ عَلَى دَخِيلَتِهِمْ، وَقَطْعِ مَعْذِرَتِهِمْ فِي كَيْدِهِمْ بِقَوْلِهِ: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ إِلَخْ، أَيْ لَوْلَا أَنَّهُمْ يَقْصِدُونَ السُّوءَ لَاسْتَثْبَتُوا الْخَبَرَ مِنَ الرَّسُولِ وَمِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ.
وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ فَالْآيَةُ عِتَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي هَذَا التَّسَرُّعِ بِالْإِذَاعَةِ، وَأَمْرُهُمْ بِإِنْهَاءِ الْأَخْبَارِ إِلَى الرَّسُولِ وَقَادَةِ الصَّحَابَةِ لِيَضَعُوهُ مَوَاضِعَهُ وَيُعَلِّمُوهُمْ مَحَامِلَهُ.
وَقِيلَ: كَانَ الْمُنَافِقُونَ يَخْتَلِقُونَ الْأَخْبَارَ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ، وَهِيَ مُخَالِفَةٌ لِلْوَاقِعِ، لِيَظُنَّ الْمُسْلِمُونَ الْأَمْنَ حِينَ الْخَوْفِ فَلَا يَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ، أَوِ الْخَوْفَ حِينَ الْأَمْنِ فَتَضْطَرِبُ أُمُورُهُمْ وَتَخْتَلُّ أَحْوَالُ اجْتِمَاعِهِمْ، فَكَانَ دَهْمَاءُ الْمُسْلِمِينَ إِذَا سَمِعُوا ذَلِكَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ رَاجَ عِنْدَهُمْ فَأَذَاعُوا بِهِ، فَتَمَّ لِلْمُنَافِقِينَ الدَّسْتُ، وَتَمَشَّتِ الْمَكِيدَةُ، فَلَامَهُمُ اللَّهُ وَعَلَّمَهُمْ أَنْ يُنْهُوا الْأَمْرَ إِلَى الرَّسُولِ وَجِلَّةِ أَصْحَابِهِ قَبْلَ إِشَاعَتِهِ لِيَعْلَمُوا كُنْهَ الْخَبَرِ وَحَالَهُ مِنَ الصِّدْقِ أَوِ الْكَذِبِ، وَيَأْخُذُوا لِكُلِّ حَالَةٍ حَيْطَتَهَا، فَيَسْلَمُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ مَكْرِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِي قَصَدُوهُ.
وَهَذَا بَعِيدٌ مِنْ قَوْلِهِ: جاءَهُمْ وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: لَعَلِمَهُ هُوَ دَلِيلُ جَوَابِ (لَوْ) وَعِلَّتُهُ، فَجُعِلَ عِوَضَهُ وَحُذِفَ الْمَعْلُول، إِذْ الْمَقْصُود لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْ أُولِي الْأَمْرِ فَلَبَيَّنُوهُ لَهُمْ عَلَى وَجْهِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَ ذَلِكَ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ اخْتَلَقُوا الْخَبَرَ فَلَخَابُوا إِذْ يُوقِنُونَ بِأَنَّ حِيلَتَهُمْ لَمْ تَتَمَشَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَيَكُونُ الْمَوْصُولُ صَادِقًا عَلَى الْمُخْتَلِقِينَ بِدَلَالَةِ الْمَقَامِ، وَيَكُونُ ضَمِيرُ مِنْهُمْ الثَّانِي عَائِدًا عَلَى الْمُنَافِقِينَ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ.
وَالرَّدُّ حَقِيقَتُهُ إِرْجَاعُ شَيْءٍ إِلَى مَا كَانَ فِيهِ مِنْ مَكَانٍ أَوْ يَدٍ. وَاسْتُعْمِلَ هُنَا مَجَازًا فِي إِبْلَاغِ الْخَبَرِ إِلَى أَوْلَى النَّاسِ بِعِلْمِهِ. وَأُولُو الْأَمْرِ هُمْ كُبَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلُ الرَّأْيِ
كَقَوْلِهِ: مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا [يس: ٥٢]، وَقَوْلِهِ: فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ [الرّوم: ٥٦]. ثُمَّ شَاعَ هَذَا الْمَجَازُ حَتَّى بُنِيَ عَلَيْهِ مَجَازٌ آخَرُ بِإِطْلَاقِهِ عَلَى الْإِقَامَةِ الْمَجَازِيَّةِ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [آل عمرَان: ١٦٤]، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى إِثَارَةِ الْأَشْيَاءِ وَإِنْشَاءِ الْخَوَاطِرِ فِي النَّفْسِ. قَالَ مُتَمِّمُ بْنُ نُوَيْرَةَ:
فَقُلْتُ لَهُمْ إِنَّ الْأَسَى يَبْعَثُ الْأَسَى أَيْ أَنَّ الْحُزْنَ يُثِيرُ حُزْنًا آخَرَ. وَهُوَ هُنَا يَحْتَمِلُ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ وَالْمَعْنَى الثَّالِثَ.
وَالْعُدُولُ عَنْ طَرِيقِ الْغَيْبَةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ إِلَى طَرِيقِ التَّكَلُّمِ فِي قَوْلِهِ:
وَبَعَثْنا الْتِفَاتٌ.
وَالنَّقِيبُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ: إِمَّا مِنْ نَقَبَ إِذَا حَفَرَ مَجَازًا، أَوْ مِنْ نَقَّبَ إِذَا بَعَثَ فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ [ق: ٣٦]، وَعَلَى الْأَخِيرِ يَكُونُ صَوْغُ فَعِيلٍ مِنْهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَهُوَ وَارِدٌ كَمَا صِيغَ سَمِيعٌ مِنْ أَسْمَعَ فِي قَوْلِ عَمْرو بن معد يكرب:
أَمِنْ رَيْحَانَةَ الدَّاعِي السَّمِيعُ أَيِ الْمُسْمِعُ.
وَوَصْفُهُ تَعَالَى بِالْحَكِيمِ بِمَعْنَى الْمُحْكِمِ لِلْأُمُورِ. فَالنَّقِيبُ الْمَوْكُولُ إِلَيْهِ تَدْبِيرُ الْقَوْمِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَجْعَلُهُ بَاحِثًا عَنْ أَحْوَالِهِمْ فَيُطْلَقُ عَلَى الرَّئِيسِ وَعَلَى قَائِدِ الْجَيْشِ وَعَلَى الرَّائِدِ، وَمِنْهُ مَا فِي حَدِيثِ بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ أَنَّ نُقَبَاءَ الْأَنْصَارِ يَوْمَئِذٍ كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا.
وَالْمُرَادُ بِنُقَبَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ هُنَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا رُؤَسَاءَ جُيُوشٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا رُوَّادًا وَجَوَاسِيسَ، وَكِلَاهُمَا وَاقِعٌ فِي حَوَادِثِ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَيُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ الْبَعْثُ مَعَهُ بِمَعْنَى الْإِقَامَةِ، وَقَدْ أَقَامَ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ اثْنَيْ عَشَرَ رَئِيسًا عَلَى جَيْشِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى عَدَدِ الْأَسْبَاطِ الْمُجَنَّدِينَ، فَجَعَلَ لِكُلِّ سِبْطٍ نَقِيبًا، وَجَعَلَ لِسِبْطِ يُوسُفَ نَقِيبَيْنِ،
[].
وَالْإِهْلَاكُ: الْإِفْنَاءُ، وَهُوَ عِقَابٌ لِلْأُمَّةِ دَالٌّ عَلَى غَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهَا، لِأَنَّ فَنَاءَ الْأُمَمِ لَا
يَكُونُ إِلَّا بِمَا تَجُرُّهُ إِلَى نَفْسِهَا مِنْ سُوءِ فِعْلِهَا، بِخِلَافِ فَنَاءِ الْأَفْرَادِ فَإِنَّهُ نِهَايَةٌ مُحَتَّمَةٌ وَلَوِ اسْتَقَامَ الْمَرْءُ طُولَ حَيَاتِهِ، لِأَنَّ تَرْكِيبَ الْحَيَوَانِ مُقْتَضٍ لِلِانْتِهَاءِ بِالْفَنَاءِ عِنْدَ عَجْزِ الْأَعْضَاءِ الرَّئِيسِيَّةِ عَنْ إِمْدَادِ الْبَدَنِ بِمَوَادِّ الْحَيَاةِ فَلَا يَكُونُ عِقَابًا إِلَّا فِيمَا يَحُفُّ بِهِ مِنْ أَحْوَالِ الْخِزْيِ لِلْهَالِكِ.
وَالذُّنُوبُ هُنَا هِيَ الْكُفْرُ وَتَكْذِيبُ الرُّسُلِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ التَّنْظِيرُ بِحَالِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ هُنَا: بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ، وَمَا قَالَهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ الْآيَةَ.
وَقَوْلُهُ: وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ: الْإِنْشَاءُ الْإِيجَادُ الْمُبْتَكَرُ، قَالَ تَعَالَى:
إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً. وَالْمُرَادُ بِهِ إِنْشَاؤُهُمْ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ الَّتِي كَانَ الْقَرْنُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ التَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ وَالْإِسْعَافِ بِالْخِصْبِ، فَخَلَّفُوا الْقَرْنَ الْمُنْقَرِضِينَ سَوَاءٌ كَانَ إِنْشَاؤُهُمْ فِي دِيَارِ الْقَوْمِ الَّذِينَ هَلَكُوا، كَمَا أَنْشَأَ قُرَيْشًا فِي دِيَارِ جُرْهُمٍ، أَمْ فِي دِيَارٍ أُخْرَى كَمَا أَنْشَأَ اللَّهُ ثَمُودًا بَعْدَ عَادٍ فِي مَنَازِلَ أُخْرَى. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ الله مهلكهم ومنشىء مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي دِيَارِهِمْ. فَفِيهِ نِذَارَةٌ بِفَتْحِ مَكَّةَ وَسَائِرِ بِلَادِ الْعَرَبِ عَلَى أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْإِنْشَاءِ الْوِلَادَةُ وَالْخَلْقُ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ مُسْتَمِرٌّ فِي الْبَشَرِ لَا يَنْتَهِي، وَلَيْسَ فِيهِ عِظَةٌ وَلَا تهديد للجبايرة الْمُشْرِكِينَ. وَأَفْرَدَ قَرْناً مَعَ أَنَّ الْفِعْلَ النَّاصِبَ لَهُ مُقَيَّدٌ بِأَنَّهُ مِنْ بَعْدِ جَمْعِ الْقُرُونِ، عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِ كُلِّ قَرْنٍ مِنَ الْمُهْلِكِينَ قرنا آخَرين.
[٧]
[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : آيَة ٧]
وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧)
يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ عَاطِفَةً وَالْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ جُمْلَةَ وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَخْ، وَمَا بَيْنَهُمَا جُمَلًا تَعَلَّقَتْ بِالْجُمْلَةِ الْأُولَى عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِرَاضِ، فَلَمَّا ذَكَرَ الْآيَاتِ
يُحَرَّمْ بِمَكَّةَ غَيْرِهَا مِنْ لَحْمِ الْحَيَوَانِ الَّذِي يَأْكُلُونَهُ، وَهَذِه السّورة مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا عَلَى الصَّحِيحِ، ثُمَّ حَرَّمَ بِالْمَدِينَةِ أَشْيَاءَ أُخْرَى، وَهِيَ: الْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَأَكِيلَةُ السَّبُعِ بِآيَةِ سُورَةِ الْعُقُودِ [٣].
وَحَرَّمَ لَحْمَ الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ بِأَمْر النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ تَحْرِيمَهُ لِذَاتِهِ كَالْخِنْزِيرِ، أَوْ لِكَوْنِهَا يَوْمَئِذٍ حَمُولَةَ جَيْشِ خَيْبَرَ، وَفِي أَنَّ تَحْرِيمَهُ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ لِذَاتِهِ مُسْتَمِرٌّ أَوْ مَنْسُوخٌ، وَالْمَسْأَلَةُ لَيْسَتْ مِنْ غَرَضِ التَّفْسِيرِ فَلَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى مَا تَكَلَّفُوهُ مِنْ تَأْوِيلِ حَصْرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْمُحَرَّمَاتِ فِي الْأَرْبَعَةِ. وَكَذَلِكَ مَسْأَلَةُ تَحْرِيمِ لَحْمِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَلَحْمِ سِبَاعِ الطَّيْرِ وَقَدْ بَسَطَهَا الْقُرْطُبِيُّ وَتَقَدَّمَ مَعْنَى: أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فِي تَفْسِير سُورَةِ الْمَائِدَةِ [٣].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ- بِيَاءٍ تَحْتِيَّةٍ وَنَصْبِ مَيْتَةً وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا-
وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ- بِتَاءٍ فَوْقِيَّةٍ وَنَصْبِ مَيْتَةً وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ- عِنْدَ مَنْ عَدَا ابْنِ عَامِرٍ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ- بِتَاءٍ فَوْقِيَّةٍ وَرَفْعِ مَيْتَةً- وَيُشْكَلُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَى مَيْتَةً مَنْصُوبَاتٌ وَهِيَ: أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ. وَلَمْ يُعَرِّجْ عَلَيْهَا صَاحِبُ «الْكَشَّافِ»، وَقَدْ خُرِّجَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى أَنْ يَكُونَ: أَوْ دَماً مَسْفُوحاً عَطْفًا عَلَى أَنْ وَصِلَتِهَا لِأَنَّهُ مَحَلُّ نَصْبٍ بِالِاسْتِثْنَاءِ فَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا وُجُودَ مَيْتَةٍ، فَلَمَّا عَبَّرَ عَنِ الْوُجُودِ بِفِعْلِ يَكُونَ التَّامِّ ارْتَفَعَ مَا كَانَ مُضَافًا إِلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٧٣] فِي قَوْلِهِ: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ.
وَإِنَّمَا جَاءَ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ فِي جُمْلَةِ الْجَزَاءِ وَهُوَ رَبَّكَ مُعَرَّفًا بِالْإِضَافَةِ دُونَ الْعَلَمِيَّةِ كَمَا فِي آيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٩٢] : فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لِمَا يُؤْذِنُ بِهِ لَفْظُ الرَّبِّ مِنَ الرَّأْفَةِ وَاللُّطْفِ بِالْمَرْبُوبِ وَالْوِلَايَةِ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ هَذِهِ الرُّخْصَةَ
إِظْهَارَ هَذِهِ السَّبِيلِ عَوْجَاءَ، أَيْ يَخْتَلِقُونَ لَهَا نَقَائِصَ يُمَوِّهُونَهَا عَلَى النَّاسِ تَنْفِيرًا عَنِ الْإِسْلَامِ كَقَوْلِهِمْ: هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ [سبأ: ٧، ٨]، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٩٩].
وَوَرَدَ وَصْفُهُمْ بِالْكُفْرِ بِطَرِيقِ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى ثَبَاتِ الْكُفْرِ فِيهِمْ وَتَمَكُّنِهِ مِنْهُمْ، لِأَنَّ الْكُفْرَ مِنَ الِاعْتِقَادَاتِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي لَا يُنَاسِبُهَا التَّكَرُّرُ، فَلِذَلِكَ خُولِفَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَصْفِهِمْ بِالصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَبَغْيِ إِظْهَارِ الْعِوَجِ
فِيهَا، لِأَنَّ ذَيْنَكَ مِنَ الْأَفْعَالِ الْقَابِلَةِ لِلتَّكْرِيرِ، بِخِلَافِ الْكُفْرِ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْأَفْعَالِ، وَلَكِنَّهُ مِنَ الِانْفِعَالَاتِ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ [الشورى:
١٩].
[٤٦، ٤٧]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : الْآيَات ٤٦ إِلَى ٤٧]
وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (٤٦) وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لَا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٧)
تَقْدِيمُ وَبَيْنَهُما وَهُوَ خَبَرٌ عَلَى الْمُبْتَدَأِ لِلِاهْتِمَامِ بِالْمَكَانِ الْمُتَوَسِّطِ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَمَا ذُكِرَ مِنْ شَأْنِهِ. وَبِهَذَا التَّقْدِيمِ صَحَّ تَصْحِيحُ الِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ، وَالتَّنْكِيرُ لِلتَّعْظِيمِ.
وَضَمِيرُ بَيْنَهُما يَعُودُ إِلَى لَفْظَيِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ الْوَاقِعَيْنِ فِي قَوْلِهِ وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ [الْأَعْرَاف: ٤٤] وَهُمَا اسْمَا مَكَانٍ، فَيَصْلُحُ اعْتِبَارُ
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ نَعْتٌ لِاسْمِ الْجَلَالَةِ، دَالٌّ عَلَى الثَّنَاءِ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِلْقَصْرِ، أَيْ: لَا لِغَيْرِهِ مِمَّا يَعْبُدُهُ الْمُشْرِكُونَ، فَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ لِلرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ.
وَجُمْلَةُ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ حَالٌ مِنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قُوَّةِ مُتَفَرِّدًا بِالْإِلَهِيَّةِ، وَهَذَا قَصْرٌ حَقِيقِيٌّ لِتَحْقِيقِ صِفَةِ الْوَحْدَانِيَّةِ، لَا لِقَصْدِ الرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ.
وَجُمْلَةُ: يُحيِي وَيُمِيتُ حَالٌ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ الثَّلَاثَةِ: تَذْكِيرُ الْيَهُودِ، وَوَعْظُهُمْ، حَيْثُ جَحَدُوا نبوءة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَزَعَمُوا أَنَّهُ لَا رَسُولَ بَعْدَ مُوسَى، وَاسْتَعْظَمُوا دَعْوَةَ مُحَمَّدٍ، فَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ مُوسَى لَا يُشْبِهُهُ رَسُولٌ، فَذُكِّرُوا بِأَنَّ اللَّهَ مَالِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ وَاهِبُ الْفَضَائِلِ، فَلَا يُسْتَعْظَمُ أَنْ يُرْسِلَ رَسُولًا ثُمَّ يُرْسِلَ رَسُولًا آخَرَ، لِأَنَّ الْمُلْكَ بِيَدِهِ، وَبِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي لَا يُشَابِهُهُ أَحَدٌ فِي إِلُوهِيَّتِهِ، فَلَا يَكُونُ إِلَهَانِ لِلْخَلْقِ، وَأَمَّا مَرْتَبَةُ الرِّسَالَةِ فَهِيَ قَابِلَةٌ لِلتَّعَدُّدِ، وَبِأَنَّ اللَّهَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَكَذَلِكَ هُوَ يُمِيتُ شَرِيعَةً وَيُحْيِي شَرِيعَةً أُخْرَى، وَإِحْيَاءُ الشَّرِيعَةِ إِيجَادُهَا بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ: لِأَنَّ الْإِحْيَاءَ حَقِيقَتُهُ إِيجَادُ الْحَيَاةِ فِي الْمَوْجُودِ، ثُمَّ يُحَصَّلُ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ إِبْطَالُ عَقِيدَةِ الْمُشْرِكِينَ بِتَعَدُّدِ الْآلِهَةِ وَبِإِنْكَارِ الْحَشْرِ.
وَقَدِ انْتَظَمَ أَنْ يُفَرَّعَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلَاثِ الطَّلَبُ الْجَازِمُ بِالْإِيمَانِ بِهَذَا الرَّسُولِ فِي قَوْلِهِ: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيءِ الْأُمِّيِّ وَالْمَقْصُودُ طَلَبُ الْإِيمَانِ بِالنَّبِيءِ الْأُمِّيِّ لِأَنَّهُ
الَّذِي سِيقَ الْكَلَامُ لِأَجْلِهِ، وَلَكِنْ لَمَّا صَدَرَ الْأَمْرُ بِخِطَابِ جَمِيعِ الْبَشَرِ وَكَانَ فِيهِمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ، وَفِيهِمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَلَا يُؤْمِنُ بِالنَّبِيءِ الْأُمِّيِّ، جُمِعَ بَيْنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْإِيمَانِ بِالنَّبِيءِ الْأُمِّيِّ فِي طَلَبٍ وَاحِدٍ، لِيَكُونَ هَذَا الطَّلَبُ مُتَوَجِّهًا لِلْفِرَقِ كُلِّهِمْ، لِيَجْمَعُوا فِي إِيمَانِهِمْ بَيْنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالنَّبِيءِ الْأُمِّيِّ، مَعَ قَضَاءِ حَقِّ التَّأَدُّبِ مَعَ اللَّهِ بِجَعْلِ الْإِيمَانِ بِهِ مُقَدَّمًا عَلَى طَلَبِ الْإِيمَان بالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْإِيمَانَ بِالرَّسُولِ إِنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، عَلَى نَحْوِ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ [النِّسَاء: ١٥٠]، وَهَذَا الْأُسْلُوبُ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ [النِّسَاء: ١٧١]
وَ (مَساجِدَ اللَّهِ) مَوَاضِعُ عِبَادَتِهِ بِالسُّجُودِ وَالرُّكُوعِ: الْمُرَادُ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنَ الْمَسْعَى، وَعَرَفَةَ، وَالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، وَالْجَمَرَاتِ، وَالْمَنْحَرِ مِنْ مِنًى.
وَعَمْرُ الْمَسَاجِدِ: الْعِبَادَةُ فِيهَا لِأَنَّهَا إِنَّمَا وُضِعَتْ لِلْعِبَادَةِ، فَعَمْرُهَا بِمَنْ يَحِلُّ فِيهَا مِنَ الْمُتَعَبِّدِينَ، وَمِنْ ذَلِكَ اشْتُقَّتِ الْعُمْرَةُ، وَالْمَعْنَى: مَا يَحِقُّ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ فِي مَسَاجِدِ اللَّهِ. وَإِنَاطَةُ هَذَا النَّفْيِ بِهِمْ بِوَصْفِ كَوْنِهِمْ مُشْرِكِينَ: إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الشِّرْكَ مُوجِبٌ لِحِرْمَانِهِمْ مِنْ عِمَارَةِ مَسَاجِدِ اللَّهِ.
وَقَدْ جَاءَ الْحَالُ فِي قَوْلِهِ: شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ مُبَيِّنًا لِسَبَبِ بَرَاءَتِهِمْ مِنْ أَنْ
يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ، وَهُوَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ يَعْمُرُوا فَبَيَّنَ عَامِلَ الضَّمِيرِ وَهُوَ يَعْمُرُوا الدَّاخِلَ فِي حُكْمِ الِانْتِفَاءِ، أَيْ: انْتَفَى تَأَهُّلُهُمْ لِأَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ بِحَالِ شَهَادَتِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ، فَكَانَ لِهَذِهِ الْحَالِ مَزِيدُ اخْتِصَاصٍ بِهَذَا الْحِرْمَانِ الْخَاصِّ مِنْ عِمَارَةِ مَسَاجِدِ اللَّهِ، وَهُوَ الْحِرْمَانُ الَّذِي لَا اسْتِحْقَاقَ بَعْدَهُ.
وَالْمُرَادُ بِالْكُفْرِ: الْكُفْرُ بِاللَّهِ، أَيْ بِوَحْدَانِيَّتِهِ، فَالْكُفْرُ مُرَادِفٌ لِلشِّرْكِ، فَالْكُفْرُ فِي حَدِّ ذَاتِهِ مُوجِبٌ لِلْحِرْمَانِ مِنْ عِمَارَةِ أَصْحَابِهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ، لِأَنَّهَا مَسَاجِدُ اللَّهِ فَلَا حَقَّ لِغَيْرِ اللَّهِ فِيهَا، ثُمَّ هِيَ قَدْ أُقِيمَتْ لِعِبَادَةِ اللَّهِ لَا لِغَيْرِهِ، وَأَقَامَ إِبْرَاهِيمُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَوَّلَ مَسْجِدٍ وَهُوَ الْكَعْبَةُ عُنْوَانًا عَلَى التَّوْحِيدِ، وَإِعْلَانًا بِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٩٦]، فَهَذِهِ أَوَّلُ دَرَجَةٍ مِنَ الْحِرْمَانِ. ثُمَّ كَوْنُ كُفْرِهِمْ حَاصِلًا بِاعْتِرَافِهِمْ بِهِ مُوجِبٌ لِانْتِفَاءِ أَقَلِّ حَظٍّ مِنْ هَذِهِ الْعِمَارَةِ، وَلِلْبَرَاءَةِ مِنِ اسْتِحْقَاقِهَا، وَهَذِهِ دَرَجَةٌ ثَانِيَةٌ مِنَ الْحِرْمَانِ.
وَشَهَادَتُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ حَاصِلَةٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَقْوَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُونَ إِنْكَارَ ذَلِكَ، مِثْلَ قَوْلِهِمْ فِي التَّلْبِيَةِ «لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ»، وَمِثْلَ سُجُودِهِمْ لِلْأَصْنَامِ، وَطَوَافِهِمْ بِهَا، وَوَضْعِهِمْ إِيَّاهَا فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ وَحَوْلَهَا وَعَلَى سَطْحِهَا.
وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ: بِإِفْرَادِ مَسْجِدَ اللَّهِ أَيِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَهُوَ الْمَقْصُودُ، أَوِ التَّعْرِيفُ بِالْإِضَافَةِ لِلْجِنْسِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: مَساجِدَ اللَّهِ، فَيَعُمُّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَمَا عَدَدْنَاهُ مَعَهُ آنِفًا.
رَكِبَ كُلُّ وَاحِدٍ دَابَّتَهُ. فَالْمَعْنَى إِنَّمَا بَغْيُ كُلِّ أَحَدٍ عَلَى نَفْسِهِ، لِأَنَّ الشِّرْكَ لَا يَضُرُّ إِلَّا بِنَفْسِ الْمُشْرِكِ بِاخْتِلَالِ تَفْكِيرِهِ وَعَمَلِهِ ثُمَّ بِوُقُوعِهِ فِي الْعَذَابِ.
ومَتاعَ مَرْفُوعٌ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هُوَ مَتَاعُ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. وَقَرَأَهُ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ مِنْ (بَغْيُكُمْ). وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ انْتِصَابُهُ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ لِلْبَغْيِ، لِأَنَّ الْبَغْيَ مَصْدَرٌ مُشْتَقُّ فَهُوَ كَالْفِعْلِ فَنَابَ الْمَصْدَرُ عَنِ الظَّرْفِ بِإِضَافَتِهِ إِلَى مَا فِيهِ مَعْنَى الْمُدَّةِ. وَتَوْقِيتُ الْبَغْيِ بِهَذِهِ الْمُدَّةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ ذُكِرَ فِي مَعْرِضِ الْغَضَبِ عَلَيْهِمْ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَمْهَلَكُمْ إِمْهَالًا طَوِيلًا فَهَلَّا تَتَذَكَّرُونَ؟ فَلَا تَحْسَبُونَ الْإِمْهَالَ رِضًى بِفِعْلِكُمْ وَلَا عَجْزًا وَسَيُؤَاخِذُكُمْ بِهِ فِي الْآخِرَةِ. وَفِي كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ وُجُوهٌ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا.
وَالْمَتَاعُ: مَا يُنْتَفَعُ بِهِ انْتِفَاعًا غَيْرَ دَائِمٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٢٤]. وَالْمَعْنَى عَلَى كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ، أَيْ أَمْهَلْنَاكُمْ عَلَى إِشْرَاكِكُمْ مُدَّةَ الْحَيَاةِ لَا غَيْرَ ثُمَّ نُؤَاخِذُكُمْ عَلَى بَغْيِكُمْ عِنْدَ مَرْجِعِكُمْ إِلَيْنَا.
وَجُمْلَةُ: ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ عُطِفَتْ بِ (ثُمَّ) لِإِفَادَةِ التَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ لِأَنَّ مَضْمُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَصْرَحُ تَهْدِيدًا مِنْ مَضْمُونِ جُمْلَةِ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ: إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ، أَيْ تَرْجِعُونَ إِلَيْنَا لَا إِلَى غَيْرِنَا تَنْزِيلًا لِلْمُخَاطَبِينَ مَنْزِلَةَ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ لِأَنَّ حَالَهُمْ فِي التَّكْذِيبِ بِآيَاتِهِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ عِبَادَتِهِ إِلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ كَحَالِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ يُحْشَرُ إِلَى الْأَصْنَامِ وَإِنْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُنْكِرُونَ الْبَعْثَ مِنْ أَصْلِهِ.
وَتَفْرِيعُ فَنُنَبِّئُكُمْ عَلَى جُمْلَةِ: إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ تَفْرِيعُ وَعِيدٍ عَلَى تَهْدِيدٍ. وَاسْتُعْمِلَ الْإِنْبَاءُ كِنَايَةً عَنِ الْجَزَاءِ لِأَنَّ الْإِنْبَاءَ يَسْتَلْزِمُ الْعِلْمَ بِأَعْمَالِهِمُ السَّيِّئَةِ، وَالْقَادِرُ إِذَا عَلِمَ بِسُوءِ صَنِيعِ عَبْدِهِ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ عِقَابِهِ مَانِعٌ. وَفِي ذِكْرِ كُنْتُمْ وَالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ دَلَالَةٌ عَلَى تَكَرُّرِ عَمَلِهِمْ وَتَمَكُّنِهِ مِنْهُمْ. وَالْوَعِيدُ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ هَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ كَانَ فِي شَأْنِ أَعْظَمِ الْبَغْيِ فَكَانَ لِكُلِّ آتٍ مِنَ الْبَغي بِنَصِيب حظا مِنْ هَذَا الْوَعيد.
وَقَوْلُهُ: فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ [هود: ١١٦] وَقَالَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِيكَرِبَ أَوْ رُوَيْشِدٌ الطَّائِيُّ:
إِنْ تُذْنِبُوا ثُمَّ تَأْتِينِي بَقِيَّتُكُمْ | فَمَا عَلَيَّ بِذَنْبٍ مِنْكُمْ فَوْتٌ |
فُلَانٌ مِنْ بَقِيَّةِ أَهْلٍ، أَيْ مِنْ أَفَاضِلِهِمْ.
وَفِي كَلِمَةِ (الْبَقِيَّةِ) مَعْنًى آخَرُ وَهُوَ الْإِبْقَاءُ عَلَيْهِمْ، وَالْعَرَبُ يَقُولُونَ عِنْدَ طَلَبِ الْكَفِّ عَنِ الْقِتَالِ: ابْقُوا عَلَيْنَا، وَيَقُولُونَ «الْبَقِيَّةَ الْبَقِيَّةَ» بِالنَّصْبِ عَلَى الْإِغْرَاءِ، قَالَ الْأَعْشَى:
قَالُوا الْبَقِيَّةَ- وَالْهِنْدِيُّ يَحْصُدُهُمْ | وَلَا بَقِيَّةَ إِلَّا الثَّارُ- وَانْكَشَفُوا |
أُذَكَّرُ بِالْبُقْيَا عَلَى مَنْ أَصَابَنِي | وَبُقْيَايَ أَنِّي جَاهِدٌ غَيْرُ مُؤْتَلِي |
وَلَعَلَّ كَلَامَ شُعَيْبٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَدِ اشْتَمَلَ عَلَى جَمِيعِهَا فَحَكَاهُ الْقُرْآنُ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ الْجَامِعَةِ.
وَإِضَافَةُ (بَقِيَّةٍ) إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ عَلَى الْمَعَانِي كُلِّهَا جَمْعًا وَتَفْرِيقًا إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ وَتَيَمُّنٍ. وَهِيَ إِضَافَةٌ عَلَى مَعْنَى اللَّامِ لِأَنَّ الْبَقِيَّةَ مِنْ فَضْلِهِ أَوْ مِمَّا أَمَرَ بِهِ.
وَمَعْنَى إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِنْ كُنْتُمْ مُصَدِّقِينَ بِمَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ، لِأَنَّهُمْ لَا يَتْرُكُونَ مَفَاسِدَهُمْ وَيَرْتَكِبُونَ مَا أُمِرُوا بِهِ إِلَّا إِذَا صَدَّقُوا بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَهُنَالِكَ تَكُونُ بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرًا لَهُمْ، فَمَوْقِعُ الشَّرْطِ هُوَ كَوْنُ الْبَقِيَّةِ خَيْرًا لَهُمْ، أَيْ لَا تَكُونُ الْبَقِيَّةُ خَيْرًا إِلَّا لِلْمُؤْمِنِينَ.
وَلِذَلِكَ أُرْدِفَتِ الْجُمْلَة بقوله: لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ.
وَالْأُمَّةُ: هِيَ أُمَّةُ الدَّعْوَةِ فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ.
وَتَقَدَّمَ مَعْنَى قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ عِنْدَ قَوْلِهِ: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ [سُورَة آل عمرَان: ١٣٧]. وَيَتَضَمَّنُ قَوْلُهُ: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ التَّعْرِيضَ بِالْوَعِيدِ بِمِثْلِ مَصِيرِ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ الَّتِي كَذَّبَتْ رُسُلَهَا.
وَتَضَمَّنَ لَامُ التَّعْلِيلِ فِي قَوْله: لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ أَنَّ الْإِرْسَالَ لِأَجْلِ الْإِرْشَادِ وَالْهِدَايَةِ
بِمَا أَمَرَ اللَّهُ لَا لِأَجْلِ الِانْتِصَابِ لِخَوَارِقِ الْعَادَاتِ.
وَالتِّلَاوَةُ: الْقِرَاءَةُ. فَالْمَقْصُودُ لِتَقْرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، كَقَوْلِه: وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ [سُورَة النَّمْل: ٩٢] الْآيَةَ.
وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ مُعْجِزَتُهُ لِأَنَّهُ ذَكَرَهُ فِي مُقَابَلَةِ إِرْسَالِ الرُّسُلِ الْأَوَّلِينَ وَمُقَابَلَةِ قَوْلِهِ: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ [سُورَة الرَّعْد: ٧]. وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي قَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ [سُورَة العنكبوت: ٥١].
وَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا أُوتِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ»
. وَجُمْلَةُ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ، أَيْ أَرْسَلْنَاكَ بِأَوْضَحِ الْهِدَايَةِ وَهُمْ مُسْتَمِرُّونَ عَلَى الْكُفْرِ لَمْ تَدْخُلِ الْهِدَايَةُ قُلُوبَهُمْ، فَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ الْمَفْهُومِينَ مِنَ الْمَقَامِ لَا إِلَى أُمَّةٍ لِأَنَّ الْأُمَّةَ مِنْهَا مُؤْمِنُونَ.
وَالتَّعْبِيرُ بِالْمُضَارِعِ فِي يَكْفُرُونَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَجَدُّدِ ذَلِكَ وَاسْتِمْرَارِهِ. وَمَعْنَى كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ إِشْرَاكُهُمْ مَعَهُ غَيْرَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ، فَقَدْ أَبْطَلُوا حَقِيقَةَ الْإِلَهِيَّةِ فَكَفَرُوا بِهِ.
اضْطِرَابِ عُقُولِهِمْ يَحْسَبُونَ الْمَلَائِكَةَ إِنَّمَا يُجَرِّبُونَهُمْ بِالْعَذَابِ لِيَطَّلِعُوا عَلَى دَخِيلَةِ أَمْرِهِمْ، فَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ إِنْ كَذَبُوهُمْ رَاجَ كَذِبُهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَكَفُّوا عَنْهُمُ الْعَذَابَ، لِذَلِكَ جَحَدُوا أَنْ يَكُونُوا يَعْمَلُونَ سُوءًا مِنْ قَبْلُ.
وَلِذَلِكَ فَجُمْلَةُ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ جَوَابُ الْمَلَائِكَةِ لَهُمْ، وَلِذَلِكَ افْتُتِحَتْ بِالْحَرْفِ الَّذِي يَبْطُلُ بِهِ النَّفْيُ وَهُوَ بَلى. وَقَدْ جَعَلُوا عِلْمَ اللَّهِ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ كِنَايَةً عَنْ تَكْذِيبِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ: مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ، وَكِنَايَةً عَلَى أَنَّهُمْ مَا عَامَلُوهُمْ بِالْعَذَابِ إِلَّا بِأَمْرٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى الْعَالِمِ بِهِمْ.
وَأَسْنَدُوا الْعِلْمَ إِلَى اللَّهِ دُونَ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّا نَعْلَمُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، أَدَبًا مَعَ اللَّهِ وَإِشْعَارًا بِأَنَّهُمْ مَا عَلِمُوا ذَلِكَ إِلَّا بِتَعْلِيمٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَتَفْرِيعُ فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ عَلَى إِبْطَالِ نَفْيِهِمْ عَمَلَ السُّوءِ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ إِثْبَاتَ كَوْنِهِمْ كَانُوا يَعْمَلُونَ السُّوءَ يَقْتَضِي اسْتِحْقَاقَهُمُ الْعَذَاب، وَذَلِكَ عِنْد مَا كُشِفَ لَهُمْ عَنْ مَقَرِّهِمُ الْأَخِيرِ، كَمَا
جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «الْقَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ».
وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ [سُورَة الْأَنْفَال: ٥٠].
وَجُمْلَةُ فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ تَذْيِيلٌ. يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حِكَايَةَ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ الْحِكَايَةِ لَا مِنَ الْمَحْكِيِّ، وَوَصْفُهُمْ بِالْمُتَكَبِّرِينَ يُرَجِّحُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لِرَبْطِ هَذِهِ الصِّفَةِ بِالْمَوْصُوفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ [سُورَة النَّحْل: ٢٢]. وَاللَّامُ الدَّاخِلَةُ عَلَى «بِئْسَ» لَامُ الْقَسَمِ.
وَالْمَثْوَى. الْمَرْجِعُ. مِنْ ثَوَى إِذَا رَجَعَ، أَوِ الْمَقَامُ مِنْ ثَوَى إِذَا أَقَامَ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٢٨].
وَلَمْ يُعَبِّرْ عَنْ جَهَنَّمَ بِالدَّارِ كَمَا عَبَّرَ عَنِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَأْتِي بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ [سُورَة النَّحْل: ٣٠] تَحْقِيرًا لَهُمْ وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا فِي جَهَنَّمَ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الدَّارِ بَلْ هُمْ مُتَرَاصُّونَ فِي النَّارِ وَهُمْ فِي مَثْوًى، أَيْ مَحَلٍّ ثَوَاءٍ
[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧) : آيَة ٥٧]
أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (٥٧)وَالْإِشَارَةُ بِ أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ إِلَى النبيئين لِزِيَادَةِ تَمْيِيزِهِمْ.
وَالْمَعْنَى: أُولَئِكَ الَّذِينَ إِنْ دَعَوْا يُسْتَجَبْ لَهُمْ وَيُكْشَفْ عَنْهُمُ الضُّرُّ، وَلَيْسُوا كَالَّذِينَ تَدْعُونَهُمْ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ بِأَنْفُسِهِمْ وَلَا بِشَفَاعَتِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ كَمَا رَأَيْتُمْ مِنْ أَنَّهُمْ لَمْ يُغْنُوا عَنْكُمْ مِنَ الضُّرِّ كَشْفًا وَلَا صَرْفًا.
وَجُمْلَةُ يَبْتَغُونَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ يَدْعُونَ أَوْ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ يَدْعُونَ.
وَالْوَسِيلَةُ: الْمَرْتَبَةُ الْعَالِيَةُ الْقَرِيبَةُ مِنْ عَظِيمٍ كَالْمَلِكِ.
وأَيُّهُمْ أَقْرَبُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ ضَمِيرِ يَبْتَغُونَ بَدَلَ بَعْضٍ، وَتَكُونُ (أَي) مَوْصُولَة. وَالْمعْنَى: الَّذِي هُوَ أَقْرَبُ مِنْ رِضَى اللَّهِ يَبْتَغِي زِيَادَةَ الْوَسِيلَةِ إِلَيْهِ، أَيْ يَزْدَادُ عَمَلًا لِلِازْدِيَادِ مِنْ رِضَى اللَّهِ عَنْهُ وَاصْطِفَائِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ جُمْلَةِ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ، و (أَيُّ) اسْتِفْهَامِيَّةٌ، أَيْ يَبْتَغُونَ مَعْرِفَةَ جَوَابِ: أَيُّهُمْ أَقْرَبُ عِنْدَ اللَّهِ.
وَأَقْرَبُ: اسْمُ تَفْضِيلٍ، وَمُتَعَلِّقُهُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ. وَالتَّقْدِيرُ: أَيُّهُمْ أَقْرَبُ إِلَى رَبِّهِمْ.
وَذكر خوف الْعَذَاب بَعْدَ رَجَاءِ الرَّحْمَةِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمْ فِي مَوْقِفِ الْأَدَبِ مَعَ رَبِّهِمْ فَلَا يَزِيدُهُمُ الْقُرْبُ مِنْ رِضَاهُ إِلَّا إِجْلَالًا لَهُ وَخَوْفًا مِنْ غَضَبِهِ. وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذين ركبُوا رؤوسهم وَتَوَغَّلُوا فِي الْغُرُورِ فَزَعَمُوا أَنَّ شُرَكَاءَهُمْ شُفَعَاؤُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ.
فِي النُّزُولِ وَلِقَاءِ الرُّسُلِ، قَالَ تَعَالَى: لَا
يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ
[الْأَنْبِيَاء: ٢٧].
ونَتَنَزَّلُ مُرَادِفُ نَنْزِلُ، وَأَصْلُ التَّنَزُّلِ: تُكَلُّفُ النُّزُولِ، فَأُطْلِقَ ذَلِكَ عَلَى نُزُولِ الْمَلَائِكَةِ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ لِأَنَّهُ نُزُولٌ نَادِرٌ وَخُرُوجٌ عَنْ عَالَمِهِمْ فَكَأَنَّهُ مُتَكَلَّفٌ. قَالَ تَعَالَى: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها [الْقدر: ٤].
وَاللَّامُ فِي «لَهُ» لِلْمُلْكِ، وَهُوَ مُلْكُ التَّصَرُّفِ.
وَالْمُرَادُ بِ مَا بَيْنَ أَيْدِينا مَا هُوَ أَمَامَنَا، وبِ وَما خَلْفَنا: مَا هُوَ وَرَاءَنَا، وبِ وَما بَيْنَ ذلِكَ: مَا كَانَ عَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ، لِأَنَّ مَا كَانَ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ هُوَ بَيْنَ الْأَمَامِ وَالْخَلْفِ. وَالْمَقْصُودُ اسْتِيعَابُ الْجِهَاتِ.
وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مُخْبَرًا عَنْهُ بِأَنَّهُ مِلْكٌ لِلَّهِ تَعَيَّنَ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْكَائِنَاتُ الَّتِي فِي تِلْكَ الْجِهَاتِ، فَالْكَلَامُ مَجَازٌ مُرْسَلٌ بِعَلَاقَةِ الْحُلُول، مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يُوسُف: ٨٢]، فَيَعُمُّ جَمِيعَ الْكَائِنَاتِ، وَيَسْتَتْبِعُ عُمُومَ أَحْوَالِهَا وَتَصَرُّفَاتِهَا مِثْلَ التَّنَزُّلِ بِالْوَحْيِ. وَيَسْتَتْبِعُ عُمُومَ الْأَزْمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ وَالْمَاضِي وَالْحَالِ، وَقَدْ فُسِّرَ بِهَا قَوْلُهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ.
وَجُمْلَةُ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا على هَذَا الْوَجْهِ مِنَ الْكَلَامِ الْمُلَقَّنِ بِهِ جِبْرِيلُ جَوَابًا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ونَسِيًّا: صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ مِنْ نَسِيَ، أَيْ كَثِيرُ النِّسْيَانِ أَوْ شَدِيدُهُ.
وَالنِّسْيَانُ: الْغَفْلَةُ عَنْ تَوْقِيتِ الْأَشْيَاءِ بِأَوْقَاتِهَا، وَقَدْ فَسَّرُوهُ هُنَا بِتَارِكٍ، أَيْ مَا كَانَ رَبُّكَ تَارِكُكَ وَعَلَيْهِ فَالْمُبَالَغَةُ مُنْصَرِفَةٌ إِلَى
وَبِكَسْرِهَا- هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ [الْمُؤْمِنُونَ: ٥٢]، فَظَاهِرُ الْعَطْفِ يَقْتَضِي دُخُولَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً فِي الْكَلَامِ الْمُخَاطَبِ بِهِ الرُّسُل، والتأكيد عَن هَذَا الْوَجْهِ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ لِيَتَلَقَّاهُ الْأَنْبِيَاءُ بِقُوَّةِ عَزْمٍ، أَوْ رُوعِيَ فِيهِ حَالُ الْأُمَمِ الَّذِينَ يُبَلِّغُهُمْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْإِخْبَارَ بِاتِّحَادِ الْحَالِ الْمُخْتَلِفَةِ غَرِيبٌ قَدْ يُثِيرُ تَرَدُّدًا فِي الْمُرَادِ مِنْهُ فَقَدْ يُحْمَلُ عَلَى الْمَجَازِ فَأُكِّدَ بِرَفْعِ ذَلِكَ. وَهُوَ وَإِنْ كَانَ خِطَابًا لِلرُّسُلِ فَإِنَّ مِمَّا يُقْصَدُ مِنْهُ تَبْلِيغُ ذَلِكَ لِأَتْبَاعِهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ دِينَ اللَّهِ وَاحِدٌ، وَذَلِكَ عَوْنٌ عَلَى قَبُولِ كُلِّ أُمَّةٍ لِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُهَا لِأَنَّهُ مَعْضُودٌ بِشَهَادَةِ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافًا وَالْخِطَابُ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ أَنَّ هَذِهِ الْمِلَّةَ، وَهِيَ الْإِسْلَامُ، هِيَ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ لِسَائِرِ الرُّسُلِ، أَيْ أُصُولُهَا وَاحِدَةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً [الشورى: ١٣] الْآيَةَ. وَالتَّأْكِيدُ عَلَى هَذَا لِرَدِّ إِنْكَارِ مَنْ يُنْكِرُ ذَلِكَ مِثْلَ الْمُشْرِكِينَ.
وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: هذِهِ إِلَى مَا يُفَسِّرُهُ الْخَبَرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُمَّتُكُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ [الْكَهْف: ٧٨]. فَالْإِشَارَةُ إِلَى الْحَالَةِ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا يَعْنِي فِي أُمُورِ الدِّينِ كَمَا هُوَ شَأْنُ حَالِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ. فَمَا أَفَادَتْهُ الْإِشَارَةُ مِنَ التَّمْيِيزِ لِلْمُشَارِ إِلَيْهِ مَقْصُودٌ مِنْهُ جَمِيعُ مَا عَلَيْهِ الرُّسُلُ مِنْ أُصُولِ الشَّرَائِعِ وَهُوَ التَّوْحِيدُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ.
وَالْأُمَّةُ هُنَا بِمَعْنَى الْمِلَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف: ٢٢]، وَقَالَ النَّابِغَةُ:
حَلَفْتُ فَلَمْ أَتْرُكْ لِنَفْسِكَ رِيبَةً | وَهَلْ يَأْثَمَنْ ذُو أُمَّةٍ وَهُوَ طَائِعُ |
وَمِنْ آيَاتِهَا آيَاتُ قِصَّةِ الْإِفْكِ وَهِيَ نَازِلَةٌ عَقِبَ غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ مِنْ خُزَاعَةَ.
وَالْأَصَحُّ أَنَّ غَزْوَةَ بَنِي الْمُصْطَلِقِ كَانَتْ سَنَةَ أَرْبَعٍ فَإِنَّهَا قَبْلَ غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ.
وَمِنْ آيَاتِهَا وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ [النُّور: ٦] الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ تِسْعٍ بَعْدَ غَزْوَةِ تَبُوكَ فَتَكُونُ تِلْكَ الْآيَاتِ مِمَّا نَزَلَ بَعْدَ نُزُولِ أَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ مُنَجَّمَةً مُتَفَرِّقَةً فِي مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ وَأُلْحِقَ بَعْضُ آيَاتِهَا بِبَعْضٍ.
وَقَدْ عُدَّتْ هَذِهِ السُّورَةُ الْمِائَةَ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ سُوَرِ الْقُرْآنِ عِنْدَ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ: نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَقَبْلَ سُورَةِ الْحَجِّ، أَيْ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ سُورَةَ الْحَجِّ مَدَنِيَّةٌ.
وَآيُهَا اثْنَتَانِ وَسِتُّونَ فِي عَدِّ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ، وَأَرْبَعٌ وَسِتُّونَ فِي عَدِّ الْبَقِيَّةِ.
أَغْرَاضُ هَذِهِ السُّورَةُ
شَمِلَتْ مِنَ الْأَغْرَاضِ كَثِيرًا مِنْ أَحْكَامِ مُعَاشَرَةِ الرِّجَالِ لِلنِّسَاءِ. وَمِنْ آدَابِ الْخِلْطَةِ وَالزِّيَارَةِ.
- وَأَوَّلُ مَا نَزَلَتْ بِسَبَبِهِ قَضِيَّةُ التَّزَوُّجِ بِامْرَأَةٍ اشْتَهَرَتْ بِالزِّنَى وَصُدِّرَ ذَلِكَ بِبَيَانِ حَدِّ الزِّنَى.
- وَعِقَابِ الَّذِينَ يَقْذِفُونَ الْمُحْصَنَاتِ.
- وَحُكْمِ اللِّعَانِ.
- وَالتَّعَرُّضِ إِلَى بَرَاءَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مِمَّا أَرْجَفَهُ عَلَيْهَا أَهْلُ النِّفَاقِ، وَعِقَابِهِمْ، وَالَّذِينَ شَارَكُوهُمْ فِي التَّحَدُّثِ بِهِ.
- وَالزَّجْرِ عَنْ حُبِّ إِشَاعَةِ الْفَوَاحِشِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ.
- وَالْأَمْرِ بِالصَّفْحِ عَنِ الْأَذَى مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى قَضِيَّةِ مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ.
- وَأَحْكَامِ الِاسْتِئْذَانِ فِي الدُّخُولِ إِلَى بُيُوتِ النَّاسِ الْمَسْكُونَةِ، وَدُخُولِ الْبُيُوتِ غَيْرِ الْمَسْكُونَةِ.
وَ (بَلْ) فِي حِكَايَةِ جَوَابِ الْقَوْمِ لِإِضْرَابِ الِانْتِقَالِ مِنْ مَقَامِ إِثْبَاتِ صِفَاتِهِمْ إِلَى مَقَامٍ قَاطِعٍ لِلْمُجَادَلَةِ فِي نَظَرِهِمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ وَرِثُوا عِبَادَةَ هَذِهِ الْأَصْنَامِ، فَلَمَّا طَوَوْا بِسَاطَ الْمُجَادَلَةِ فِي صِفَاتِ آلِهَتِهِمْ وَانْتَقَلُوا إِلَى دَلِيلِ التَّقْلِيدِ تَفَادِيًا مِنْ كُلْفَةِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِالْمَصِيرِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِالِاقْتِدَاءِ بِالسَّلَفِ.
وَقَوْلُهُ: كَذلِكَ يَفْعَلُونَ تَشْبِيهُ فِعْلِ الْآبَاءِ بِفِعْلِهِمْ وَهُوَ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: يَفْعَلُونَ فِعْلًا كَذَلِكَ الْفِعْلِ. وَقُدِّمَ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ عَلَى يَفْعَلُونَ لِلِاهْتِمَامِ بِمَدْلُولِ اسْمِ الْإِشَارَةِ.
وَاقْتَصَرَ إِبْرَاهِيمُ فِي هَذَا الْمَقَامِ (الَّذِي رَجَّحْنَا أَنَّهُ أَوَّلُ مَقَامٍ قَامَ فِيهِ لِلدَّعْوَةِ) عَلَى أَنْ أَظْهَرَ قِلَّةَ اكْتِرَاثِهِ بِهَذِهِ الْأَصْنَامِ فَقَالَ: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي لِأَنَّهُ أَيْقَنَ بِأَنَّ سَلَامَتَهُ بَعْدَ ذَلِكَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَصْنَامَ لَا تَضُرُّ وَإِلَّا لَضَرَّتْهُ لِأَنَّهُ عَدُوُّهَا.
وَضَمِيرُ فَإِنَّهُمْ عَائِدٌ إِلَى مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ. وَقَوْلُهُ: وَآباؤُكُمُ عَطْفٌ عَلَى اسْمِ كُنْتُمْ. وَالْعَدُوُّ: مُشْتَقٌّ مِنَ الْعُدْوَانِ، وَهُوَ الْإِضْرَارُ بِالْفِعْلِ أَوِ الْقَوْلِ. وَالْعَدُوُّ: الْمُبْغَضُ، فَعَدُوٌّ: فَعُولٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ يُلَازِمُ الْإِفْرَادَ وَالتَّذْكِيرَ فَلَا تَلْحَقُهُ عَلَامَاتُ التَّأْنِيثِ (إِلَّا نَادِرًا كَقَوْلِ عُمَرَ لِنِسَاءٍ مِنَ الْأَنْصَارِ: يَا عَدُوَّاتِ أَنْفُسِهِنَّ). قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : حَمْلًا عَلَى الْمَصْدَرِ الَّذِي عَلَى وَزْنِ فُعُولٍ كَالْقُبُولِ وَالْوُلُوعِ.
وَالْأَصْنَامُ لَا إِدْرَاكَ لَهَا فَلَا تُوصَفُ بِالْعَدَاوَةِ. وَلِذَلِكَ فَقَوْلُهُ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي مِنْ قَبِيلِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، أَيْ هُمْ كَالْعَدُوِّ لِي فِي أَنِّي أُبْغِضُهُمْ وَأَضُرُّهُمْ. وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر: ٦] أَيْ عَامِلُوهُ مُعَامَلَةَ الْعَدُوِّ عَدُوَّهُ.
وَبِهَذَا الِاعْتِبَار جمع بني قَوْلِهِ لَكُمْ عَدُوٌّ [فاطر: ٦] وَقَوْلِهِ: فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر: ٦].
وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الْأَصْنَامِ بِضَمِيرِ جَمْعِ الْعُقَلَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّهُمْ دُونَ (فَإِنَّهَا) جَرْيٌ عَلَى غَالِبِ الْعِبَارَاتِ الْجَارِيَةِ بَيْنَهُمْ عَنِ الْأَصْنَامِ لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَهَا مُدْرِكَةً.
وَجُمْلَةُ: أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مُفَرَّعَةٌ عَلَى جُمَلِ كَلَامِ الْقَوْمِ الْمُتَضَمِّنَةِ عِبَادَتَهُمُ الْأَصْنَامَ وَأَنَّهُمْ مُقْتَدُونَ فِي ذَلِكَ بِآبَائِهِمْ. فَالْفَاءُ فِي أَفَرَأَيْتُمْ لِلتَّفْرِيعِ
وَ (أَنَّما) الْمَفْتُوحَةُ الْهَمْزَةِ تُفِيدُ الْحَصْرَ مِثْلَ (إِنَّمَا) الْمَكْسُورَةِ الْهَمْزَةِ لِأَنَّ الْمَفْتُوحَةَ الْهَمْزَةِ فَرْعٌ عَنِ الْمَكْسُورَتِهَا لَفْظًا وَمَعْنًى فَلَا محيص من إفادتها مُفَادِهَا، فَالتَّقْدِيرُ فَاعْلَمْ أَنَّهُمْ مَا يَتَّبِعُونَ إِلَّا أَهْوَاءَهُمْ. وَجِيءَ بِحَرْفِ (إِنَّ) الْغَالِبِ فِي الشَّرْطِ الْمَشْكُوكِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّهَكُّمِ أَوْ لِأَنَّهَا الْحَرْفُ الْأَصْلِيُّ. وَإِقْحَامُ فِعْلِ فَاعْلَمْ لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ الَّذِي بَعْدَهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [٢٤].
وَقَوْلِهِ أَتَّبِعْهُ جَوَابُ فَأْتُوا أَيْ إِنْ تَأْتُوا بِهِ أَتَّبِعْهُ، وَهُوَ مُبَالَغَةٌ فِي التَّعْجِيزِ لِأَنَّهُ إِذَا وَعَدَهُمْ بِأَنْ يَتَّبِعَ مَا يَأْتُونَ بِهِ فَهُوَ يَتَّبِعُهُمْ أَنْفُسَهُمْ وَذَلِكَ مِمَّا يُوَفِّرُ دَوَاعِيَهُمْ عَلَى مُحَاوَلَةِ الْإِتْيَانِ بِكِتَابٍ أَهْدَى مِنْ كِتَابِهِ لَوِ اسْتَطَاعُوهُ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَقَدْ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْحَقُّ وَوَجَبَتْ
عَلَيْهِمُ الْمَغْلُوبِيَّةُ فَكَانَ ذَلِكَ أَدُلَّ عَلَى عَجْزِهِمْ وَأَثْبُتَ فِي إِعْجَازِ الْقُرْآنِ.
وَهَذَا مِنَ التَّعْلِيقِ عَلَى مَا تَحَقَّقَ عَدَمُ وُقُوعِهِ، فَالْمُعَلَّقُ حِينَئِذٍ مُمْتَنِعُ الْوُقُوعِ كَقَوْلِهِ قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ [الزخرف: ٨١]. وَلِكَوْنِهِ مُمْتَنِعُ الْوُقُوعِ أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ أَنْ يَقُولَهُ. وَقَدْ فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا وَمِنْ إِقْحَامِ فَاعْلَمْ أَنَّهُمْ لَا يَأْتُونَ بِذَلِكَ الْبَتَّةَ وَهَذَا مِنَ الْإِعْجَازِ بِالْإِخْبَارِ عَنِ الْغَيْبِ.
وَجَاءَ فِي آخِرِ الْكَلَامِ تَذْيِيلٌ عَجِيبٌ وَهُوَ أَنَّهُ لَا أَحَدَ أَشَدُّ ضَلَالًا مِنْ أَحَدٍ اتَّبَعَ هَوَاهُ الْمُنَافِيَ لِهُدَى اللَّهِ.
ومَنْ اسْمُ اسْتِفْهَامٍ عَنْ ذَاتٍ مُبْهَمَةٍ وَهُوَ اسْتِفْهَامُ الْإِنْكَارِ فَأَفَادَ الِانْتِفَاءَ فَصَارَ مَعْنَى الِاسْمِيَّةِ الَّذِي فِيهِ فِي مَعْنَى نَكِرَةٍ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ أَفَادَتِ الْعُمُومَ فَشَمِلَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَغَيْرَهُمْ. وَبِهَذَا الْعُمُومِ صَارَ تَذْيِيلًا وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٤٠].
وَأَطْلَقَ الِاتِّبَاعَ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا تُمْلِيهِ إِرَادَةُ الْمَرْءِ النَّاشِئَةُ عَنْ مَيْلِهِ إِلَى الْمَفَاسِدِ وَالْأَضْرَارِ تَشْبِيهًا لِلْعَمَلِ بِالْمَشْيِ وَرَاءَ السَّائِرِ، وَفِيهِ تَشْبِيهُ الْهَوَى بِسَائِرٍ، وَالْهَوَى مَصْدَرٌ لِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَقَوْلِ جَعْفَرِ بْنِ عُلْبَةَ:
هَوَايَ مَعَ الرَّكْبِ الْيَمَانِينَ مُصْعِدٌ
[سُورَة لُقْمَان (٣١) : الْآيَات ٢ إِلَى ٥]
تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (٢) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (٣) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥)إِذَا كَانَتْ هَذِهِ السُّورَةُ نَزَلَتْ بِسَبَبِ سُؤَالِ قُرَيْشٍ عَنْ لُقْمَانَ وَابْنِهِ فَهَذِهِ الْآيَاتُ إِلَى قَوْلِهِ وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ [لُقْمَانَ: ١٢] بِمَنْزِلَةِ مُقَدِّمَةٍ لِبَيَانِ أَنَّ مَرْمَى الْقُرْآنِ مِنْ قَصِّ الْقِصَّةِ مَا فِيهَا مِنْ عِلْمٍ وَحِكْمَةٍ وَهَدًى وَأَنَّهَا مَسُوقَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ لَا لِلَّذِينَ سَأَلُوا عَنْهَا فَكَانَ سُؤَالُهُمْ نَفْعًا لِلْمُؤْمِنِينَ.
وَالْإِشَارَةُ بِ تِلْكَ إِلَى مَا سَيُذْكَرُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، فَالْمُشَارُ إِلَيْهِ مُقَدَّرٌ فِي الذِّهْنِ مُتَرَقَّبُ الذِّكْرِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ ذلِكَ الْكِتابُ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ [٢] وَفِي أَوَّلِ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [٢] وَالنَّمْلِ [١] وَالْقَصَصِ [٢].
وآياتُ الْكِتابِ خَبَرٌ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَفِي الْإِشَارَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى تَعْظِيمِ قَدْرِ تِلْكَ الْآيَاتِ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ اسْمُ الْإِشَارَةِ مِنَ الْبُعْدِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي رِفْعَةِ الْقَدْرِ، وَبِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ
إِضَافَةُ الْآيَاتِ إِلَى الْكِتَابِ الْمَوْصُوفِ بِأَنَّهُ الْحَكِيمُ وَأَنَّهُ هُدًى وَرَحْمَةٌ وَسَبَبٌ فلاح.
والْحَكِيمِ: وَصْفٌ لِلْكِتَابِ بِمَعْنَى ذِي الْحِكْمَةِ، أَيْ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْحِكْمَةِ.
فَوَصْفُ الْكِتابِ بِ الْحَكِيمِ كَوَصْفِ الرَّجُلِ بِالْحَكِيمِ، وَلِذَلِكَ قِيلَ: إِنَّ الْحَكِيمَ اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ، أَوْ بِعِبَارَةٍ أَرْشَقُ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ بِالرَّجُلِ الْحَكِيمِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحَكِيمُ بِمَعْنَى الْمُحْكَمِ بِصِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ وَصَفًا عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ كَقَوْلِهِمْ: عَسَلٌ عَقِيدٌ، لِأَنَّهُ أَحْكَمُ وَأَتْقَنُ فَلَيْسَ فِيهِ فضول وَلَا مَالا يُفِيدُ كَمَالًا نَفْسَانِيًّا. وَفِي وَصْفِ الْكِتابِ بِهَذَا الْوَصْفِ بَرَاعَةُ اسْتِهْلَالٍ لِلْغَرَضِ مِنْ ذِكْرِ حِكْمَةِ لُقْمَانَ. وَتَقَدَّمَ وَصْفُ الْكِتَابِ بِ الْحَكِيمِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ يُونُسَ [١].
وَانْتَصَبَ هُدىً وَرَحْمَةً عَلَى الْحَالِ مِنَ الْكِتابِ وَهِيَ قِرَاءَة الْجُمْهُور. وَإِذ كَانَ الْكِتابِ مُضَافًا إِلَيْهِ فَمُسَوِّغُ مَجِيءِ الْحَالِ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ أَنَّ الْكِتابِ
وَقَوْلِهِ:
أَتَانِي أَبَيْتَ اللَّعْنَ أَنَّكَ لُمْتَنِي وَمِنْ هَذَا يَنْتَقِلُونَ إِلَى تَعْدِيَةِ فِعْلِ (أَتَى) بِحَرْفِ (عَلَى) فَيَقُولُونَ: أَتَى عَلَى كَذَا، إِذَا اسْتَأْصَلَهُ. وَيَكْثُرُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ اسْتِعْمَالُ فِعْلِ (جَاءَ)، وَقَدْ يَكُونُ لِلْمَكْرُوهِ نَحْوُ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ [يُونُس: ٢٢].
عالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ.
عالِمِ الْغَيْبِ خَبَرٌ ثَانٍ عَنْ ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [سبأ: ١] فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَهُ بِالرَّفْعِ، وَصِفَةٌ لِ رَبِّي الْمُقْسَمِ بِهِ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَهُ بِالْجَرِّ وَقَدِ اقْتَضَتْ ذِكْرَهُ مُنَاسَبَةُ تَحْقِيقِ إِتْيَانِ السَّاعَةِ فَإِنَّ وَقْتَهَا وَأَحْوَالَهَا مِنَ الْأُمُورِ الْمُغَيَّبَةِ فِي عِلْمِ النَّاسِ.
وَفِي هَذِهِ الصِّفَةِ إِتْمَامٌ لِتُبَيِّنَ سَعَةَ عِلْمِهِ تَعَالَى فَبَعْدَ أَنْ ذُكِرَتْ إِحَاطَةُ عِلْمِهِ بِالْكَائِنَاتِ ظَاهِرِهَا وَخَفِيِّهَا جَلِيلِهَا وَدَقِيقِهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أُتْبِعَ بِإِحَاطَةِ عِلْمِهِ بِمَا سَيَكُونُ أَنَّهُ يَكُونُ وَمَتَى يَكُونُ.
وَالْغَيْبُ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [الْبَقَرَة: ٣] عَلَى مَعَانٍ ذُكِرَتْ هُنَالِكَ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ عالِمِ الْغَيْبِ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ، وَبِرَفْعِ عالِمِ عَلَى الْقَطْعِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ وَخَلَفٌ وَرَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ أَيْضًا وَمَجْرُورًا عَلَى الصِّفَةِ لِاسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: رَبِّي.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ عَلَّامِ بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ وَبِالْجَرِّ عَلَى النَّعْتِ. وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ إِتْبَاعُ ذِكْرِ السَّاعَةِ بِذِكْرِ انْفِرَادِهِ تَعَالَى بِعِلْمِهَا لِأَنَّ الْكَافِرِينَ بِهَا جَعَلُوا مِنْ عَدَمِ الْعِلْمِ بِهَا دَلِيلًا سُفُسْطَائِيًّا عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِوَاقِعَةٍ، وَلِذَلِكَ سَمَّاهَا الْقُرْآنُ الْوَاقِعَةَ فِي قَوْلِهِ: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ [الْوَاقِعَة: ١، ٢].
الِاعْتِقَادِ الْمُطَابِقِ لِلْوَاقِعِ وَلِذَلِكَ عَرَّفُوهُ بِأَنَّهُ: «صِفَةٌ تُوجِبُ تَمْيِيزًا لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ» وَلَا يَنْتَفِي احْتِمَالُ النَّقِيضِ إِلَّا مَتَى كَانَ مُوَافِقًا لِلْوَاقِعِ. وَكَثُرَ إِطْلَاقُ الظَّنِّ عَلَى التَّصْدِيقِ الْمُخْطِئِ وَالْجَهْلِ الْمُرَكَّبِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١١٦]. وَقَوْلِهِ: إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً [يُونُس: ٣٦].
وَقَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ»
. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اعْتِقَادَكُمْ فِي جَانِبِ رَبِّ الْعَالَمِينَ جَهْلٌ مُنْكَرٌ.
وَفِعْلُ الظَّنِّ إِذَا عُدِّيَ بِالْبَاءِ أَشْعَرَ غَالِبًا بِظَنٍّ صَادِقٍ قَالَ تَعَالَى: وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا [الْأَحْزَاب: ١٠] وَقَالَ: وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ [فصلت: ٢٣]. وَمِنْهُ إِطْلَاقُ الظَّنِينِ عَلَى الْمُتَّهَمِ فَإِنَّ أَصْلَهُ: ظَنِينٌ بِهِ، فَحُذِفَتِ الْبَاءُ وَوُصِلَ الْوَصْفُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا عُدِّيَ بِالْبَاءِ فَالْأَكْثَرُ حَذْفُ مَفْعُولِهِ وَكَانَتِ الْبَاءُ لِلْإِلْصَاقِ الْمَجَازِيِّ، أَيْ ظَنَّ ظَنًّا مُلْصَقًا بِاللَّه، أَي مدّعى تَعَلُّقَهُ بِاللَّهِ وَإِنَّمَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ مَا لَيْسَ لَائِقًا بِاللَّهِ. وَتَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ [١٠].
وَالْمَعْنَى: فَمَا ظنكم السيّء بِاللَّهِ، وَلَمَّا كَانَ الظَّنُّ مِنْ أَفْعَالِ الْقَلْبِ فَتَعْدِيَتُهُ إِلَى اسْمِ الذَّاتِ دُونَ إِتْبَاعِ الِاسْمِ بِوَصْفٍ مُتَعَيِّنَةٌ لِتَقْدِيرِ وَصْفٍ مُنَاسِبٍ. وَقَدْ حُذِفَ الْمُتَعَلِّقُ هُنَا لِقَصْدِ التَّوَسُّعِ فِي تَقْدِيرِ الْمَحْذُوفِ بِكُلِّ احْتِمَالٍ مُنَاسِبٍ تَكْثِيرًا لِلْمَعَانِي فَيَجُوزُ أَنْ تُعْتَبَرَ مِنْ ذَاتِ ربّ الْعَالمين أَو صافه. وَيَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ مِنْهَا الْكُنْهُ وَالْحَقِيقَةُ، فَاعْتِبَارُ الْوَصْفِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الْمَعْنَى الْمُشْتَقُّ مِنْهُ الرَّبُّ وَهُوَ الرُّبُوبِيَّةُ وَهِيَ تَبْلِيغُ الشَّيْءِ إِلَى كَمَالِهِ تَدْرِيجًا وَرِفْقًا فَإِنَّ الْمَخْلُوقَ مُحْتَاجٌ إِلَى الْبَقَاءِ وَالْإِمْدَادِ وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ يَشْكُرَ الْمُمَدُّ فَلَا يَصُدُّ عَنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: فَمَا ظَنُّكُمْ أَنَّ لَهُ شُرَكَاءَ وَهُوَ الْمُنْفَرِدُ بِاسْتِحْقَاقِ الشُّكْرِ الْمُتَمَثِّلِ فِي الْعِبَادَةِ لِأَنَّهُ الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِإِنْعَامِهِ.
وَثَانِيهِمَا: أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهِ مَعْنَى الْمَالِكِيَّةِ وَهِيَ أَحَدُ مَعْنَيَيِ الرَّبِّ وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِمَعْنَى
فَالْمَلَامُ مُتَوَجِّهٌ عَلَيْهِمْ لِتَقْصِيرِهِمْ فِي طَلَبِ مَا يُنْجِيهِمْ بَعْدَ الْمَوْتِ قَالَ تَعَالَى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها [الْإِسْرَاء: ١٨] الْآيَتَيْنِ.
وحَتَّى لِلْغَايَةِ وَغَايَتُهَا هُوَ مَضْمُونُ الْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَهَا وَهِيَ جُمْلَةُ: إِذا هَلَكَ، وإِذا هُنَا اسْمٌ لِزَمَانِ الْمُضِيِّ مَجْرُورَةٌ بِ (حَتَّى) وَلَيْسَتْ بِظَرْفٍ، أَيْ حَتَّى زَمَنِ هَلَاكِ يُوسُفَ قُلْتُمْ: لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا، أَيْ قَالَ أَسْلَافُكُمْ فِي وَقْتِ وَفَاةِ يُوسُفَ: لَا يَبْعَثُ اللَّهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَبَدًا رَسُولًا بَعْدَ يُوسُفَ، يَعَنُونَ: أَنَّا كُنَّا مُتَرَدِّدِينَ فِي الْإِيمَانِ بِيُوسُفَ فَقَدِ اسْتَرَحْنَا مِنَ التَّرَدُّدِ فَإِنَّهُ لَا يَجِيءُ مَنْ يَدَّعِي الرِّسَالَةَ عَنِ اللَّهِ مِنْ بَعْدِهِ، وَهَذَا قَوْلٌ جَرَى مِنْهُمْ عَلَى عَادَةِ الْمُعَانِدِينَ وَالْمُقَاوِمِينَ لِأَهْلِ الْإِصْلَاحِ وَالْفَضْلِ أَنْ يَعْتَرِفُوا بِفَضْلِهِمْ بَعْدَ الْمَوْتِ تَنَدُّمًا عَلَى مَا فَاتَهُمْ مِنْ خَيْرٍ كَانُوا يَدْعُونَهُمْ إِلَيْهِ.
وَفِيهِ ضَرْبٌ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي الْكَمَالِ فِي عَصْرِهِ كَمَا يُقَالُ: خَاتِمَةُ الْمُحَقِّقِينَ، وَبَقِيَّةُ الصَّالِحِينَ، وَمَنْ لَا يَأْتِي الزَّمَانُ بِمِثْلِهِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مِنْ بَعْثَةِ رَسُولٍ وَاحِدٍ، وَأَنَّهُمْ أَيْقَنُوا أَنَّ مَنْ يَدَّعِي الرِّسَالَةَ بَعْدَهُ كَاذِبٌ فَلِذَلِكَ كَذَّبُوا مُوسَى.
وَمَقَالَتُهُمْ هَذِهِ لَا تَقْتَضِي أَنَّهُمْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِأَنَّهُ رَسُولٌ ضَرُورَةَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مِنْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا أَرَادُوا بِهَا قَطْعَ هَذَا الِاحْتِمَالِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَكَشْفِ الشَّكِّ عَنْ نُفُوسِهِمْ وَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يُوسُفَ كَانَ رَسُولًا لِظَاهِرِ قَوْلِهِ: قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا أَن رَسُولا محَال مِنْ ضَمِيرِ مِنْ بَعْدِهِ. وَالْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: رَسُولًا مَفْعُولَ يَبْعَثَ وَأَنَّهُ لَا يَقْتَضِي وَصْفَ يُوسُفَ بِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي الْأَخْبَارِ عَدُّهُ فِي الرُّسُلِ وَلَا أَنَّهُ دَعَا إِلَى دِينٍ فِي مِصْرَ وَكَيْفَ وَاللَّهِ يَقُولُ: مَا كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [يُوسُف: ٧٦] وَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ نَبِيءٌ إِذَا وَجَدَ مَسَاغًا لِلْإِرْشَادِ أَظْهَرُهُ كَقَوْلِهِ: يَا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ [يُوسُف: ٣٩، ٤٠] وَقَوْلُهُ: إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [يُوسُف: ٣٧، ٣٨].
[سُورَة الشورى (٤٢) : آيَة ٥١]
وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١)عَطَفَ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ حِكَايَةِ تُرَّهَاتِهِمْ عَطْفَ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ وَهُوَ عَوْدٌ إِلَى إِبْطَالِ شُبَهِ الْمُشْرِكِينَ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الشورى: ٣]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ [الشورى:
١٣]، وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى تَفْصِيلِ ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَيَزِيدُهُ وُضُوحًا قَوْلُهُ عَقِبَهُ وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى: ٥٢]. وَهَذِهِ الْآيَةُ تُبْطِلُ الشُّبْهَةَ الثَّانِيَةَ فِيمَا عَدَدْنَاهُ مِنْ شُبُهَاتِهِمْ فِي كَوْنِ الْقُرْآنِ وَحْيًا مِنَ اللَّهِ إِلَى مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ زَعَمُوا أَن مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ كَانَ
مُرْسَلًا مِنَ اللَّهِ لَكَانَتْ مَعَهُ مَلَائِكَةٌ تُصَدِّقُ قَوْلَهُ أَوْ لَأُنْزِلَ عَلَيْهِ كِتَابٌ جَاهِزٌ مِنَ السَّمَاءِ يُشَاهِدُونَ نُزُولَهُ قَالَ تَعَالَى: وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً [الْفرْقَان: ٧] وَقَالَ وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً إِلَى أَنْ قَالَ: وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ [الْإِسْرَاء: ٩٠- ٩٣].
وَإِذْ قَدْ كَانَ أَهَمَّ غَرَضِ هَذِهِ السُّورَةِ إِثْبَاتَ كَوْنِ الْقُرْآنِ وَحْيًا مِنَ اللَّهِ إِلَى مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا أُوحِيَ مِنْ قَبْلِهِ لِلرُّسُلِ كَانَ الْعَوْدُ إِلَى ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ رَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ. فَبَيَّنَ اللَّهُ لِلْمُكَذِّبِينَ أَنَّ سُنَّةَ اللَّهِ فِي خِطَابِ رُسُلِهِ لَا تَعْدُو ثَلَاثَةَ أَنْحَاءٍ مِنَ الْخِطَابِ، مِنْهَا مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِدَعًا مِمَّا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ الْأَوَّلُونَ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُخَاطِبَ رُسُلَهُ عَلَى الْأَنْحَاءِ الَّتِي اقْتَرَحَهَا الْمُشْرِكُونَ على النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجِيءَ بِصِيغَةِ حَصْرٍ مُفْتَتَحَةٍ بِصِيغَةِ الْجُحُودِ الْمُفِيدَةِ مُبَالَغَةَ النَّفْيِ وَهِيَ وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ أَيْ لَمْ يَتَهَيَّأْ لِأَحَدٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ يَأْتِيَهُ خِطَابٌ مِنَ اللَّهِ بِنَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ.
وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى انْتِفَاءِ أَنْ يَكُونَ إِبْلَاغُ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى لِأُمَمِ الرُّسُلِ بِغَيْرِ أَحَدِ هَذِهِ
مُطِيعِينَ، وَأَمَّا هُنَالِكَ فَسَوَاءٌ قَاتَلُوا أَوْ لَمْ يُقَاتِلُوا لَا يَنْصُرُونَ فَلَمْ يَكُنْ لِلتَّعْلِيقِ أَيْ بِالشَّرْطِ هُنَالِكَ وَجْهٌ فَرُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وَهَاهُنَا جزم للتعليق اهـ. وَهُوَ دَقِيقٌ وَيُزَادُ أَنَّ الْفِعْلَ الْمَعْطُوفَ عَلَى الْجَزَاءِ فِي آيَةِ آلِ عِمْرَانَ وَقَعَ فِي آخِرِ الْفَاصِلَةِ الَّتِي جَرَتْ أَخَوَاتُهَا عَلَى حَرْفِ الْوَاوِ وَالنُّونِ فَلَوْ أُوثِرَ جَزْمُ الْفِعْلِ لَأُزِيلَتِ النُّونُ فَاخْتَلَّتِ الْفَاصِلَةُ.
وَ (ثُمَّ) لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ لِأَنَّ حُصُولَ الْجَزَاءِ أَهَمُّ مِنْ إِظْهَارِهِ أَوْ إِظْهَارِ الْمَجْزِيِّ عَنْهُ.
وَضَمِيرُ النَّصْبِ فِي قَوْلِهِ: يُجْزاهُ عَائِدٌ إِلَى السَّعْيِ، أَيْ يُجْزَى عَلَيْهِ، أَوْ يُجْزَى بِهِ فَحَذَفَ حَرْفَ الْجَرِّ وَنَصَبَ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ فَقَدْ كَثُرَ أَنْ يُقَالَ: جَزَاهُ عَمَلُهُ، وَأَصْلُهُ: جَزَاهُ عَلَى عَمَلِهِ أَوْ جَزَاهُ بِعَمَلِهِ.
وَالْأَوْفَى: اسْمُ تَفْضِيلٍ مِنَ الْوَفَاءِ وَهُوَ التَّمَامُ وَالْكَمَالُ، وَالتَّفْضِيلُ مُسْتَعْمَلٌ هُنَا فِي الْقُوَّةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ تَفْضِيلَهُ عَلَى غَيْرِهِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى الْفِعْلِ مِنْ حسن أَو سيء مُوَافِقٌ لِلْمَجَزِيِّ عَلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [النِّسَاء: ١٧٣] وَقَالَ: وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ [هود: ١٠٩] وَقَالَ: وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ [النُّور: ٣٩] وَقَالَ: فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً [الْإِسْرَاء: ٦٣].
وَانْتَصَبَ الْجَزاءَ الْأَوْفى عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْمُبَيِّنِ لِلنَّوْعِ.
وَقَدْ حَكَى اللَّهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ [الشُّعَرَاء: ٨٧].
[٤٢]
[سُورَة النَّجْم (٥٣) : آيَة ٤٢]
وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (٤٢)
الْقَوْلُ فِي مَوْقِعِهَا كَالْقَوْلِ فِي مَوْقِعِ جُمْلَةِ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى [النَّجْم: ٤٠] سَوَاءً، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى فَتَكُونَ تَتِمَّةً لِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ، وَيَكُونَ الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: إِلى رَبِّكَ الْتِفَاتًا مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ وَالْمُخَاطَبُ غَيْرُ مُعَيَّنٍ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَأَنَّ إِلَى رَبِّهِ الْمُنْتَهَى، وَقَدْ يَكُونُ نَظِيرُهَا مِنْ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ مَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ [الصافات: ٩٩].
وَيَجُوزُ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ صُحُفُ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ وَيَكُونُ عَطْفُهَا عَطْفَ مُفْرَدٍ عَلَى مُفْرَدٍ، فَيَكُونُ الْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مِنْ أَنَّ وَمَعْمُولَهَا مَدْخُولًا لِلْبَاءِ، أَيْ لَمْ يُنَبَّأْ بِأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى، وَالْخطاب للنبيء صلى الله
وَالْبَسْطُ: مُسْتَعَارٌ لِلْإِكْثَارِ لِمَا شَاعَ مِنْ تَشْبِيهِ الْكَثِيرِ بِالْوَاسِعِ وَالطَّوِيلِ، وَتَشْبِيهِ ضِدِّهِ
وَهُوَ الْقَبْضُ بِضِدِّ ذَلِكَ، فَبَسْطُ الْيَدِ الْإِكْثَارُ مِنْ عَمَلِهَا.
وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا: عَمَلُ الْيَدِ الَّذِي يَضُرُّ مِثْلُ الضَّرْبِ وَالتَّقْيِيدِ وَالطَّعْنِ، وَعَمَلِ اللِّسَانِ الَّذِي يُؤْذِي مِثْلِ الشَّتْمِ وَالتَّهَكُّمِ. وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: بِالسُّوءِ، فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِ يَبْسُطُوا الَّذِي مَفْعُولُهُ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ.
وَجُمْلَةُ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ يَكُونُوا، وَالْوَاوُ وَاوُ الْحَالِ، أَيْ وَهُمْ قَدْ وَدُّوا مِنَ الْآنِ أَنْ تَكْفُرُوا فَكَيْفَ لَوْ يَأْسِرُونَكُمْ أَلَيْسَ أَهَمُّ شَيْءٍ عِنْدَهُمْ حِينَئِذٍ أَنْ يَرُدُّوكُمْ كُفَّارًا، فَجُمْلَةُ الْحَالِ دَلِيلٌ عَلَى مَعْطُوفٍ مُقَدَّرٍ عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً إِلَى آخِرِهِ، وَيَرُدُّوكُمْ كُفَّارًا، وَلَيْسَتْ جُمْلَةُ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ الْجَوَابِ، لِأَنَّ مَحَبَّتَهُمْ أَنْ يَكْفُرَ الْمُسْلِمُونَ مَحَبَّةٌ غَيْرُ مُقَيَّدَةٍ بِالشَّرْطِ، وَلِذَلِكَ وَقَعَ فِعْلُ وَدُّوا مَاضِيًا وَلَمْ يَقَعْ مُضَارِعًا مِثْلَ الْأَفْعَالِ الثَّلَاثَةِ قَبْلَهُ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا لِيُعْلَمَ أَنَّهُ لَيْسَ مَعْطُوفًا عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ.
وَهَذَا الْوَجْهُ أَحْسَنُ مِمَّا فِي كِتَابِ «الْإِيضَاحِ» لِلْقَزْوِينِي فِي بَحْثِ تَقْيِيدِ الْمُسْنَدِ بِالشَّرْطِ، إِذِ اسْتَظْهَرَ أَنْ يَكُونَ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ إِنْ يَثْقَفُوكُمْ.
وَنَظَّرَهُ بِجُمْلَةِ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ فِي آلِ عِمْرَانَ [١١١]. فَإِنَّ الْمَعْطُوفَ بِ (ثُمَّ) فِيهَا عَطْفٌ عَلَى مَجْمُوعِ الشَّرْطِ وَفِعْلِهِ وَجَوَابِهِ لَا عَلَى جُمْلَةِ فِعْلِ الشَّرْطِ.
ولَوْ هُنَا مَصْدَرِيَّةٌ فَفِعْلُ تَكْفُرُونَ مُؤَوَّلٌ بِمَصْدَرٍ، أَيْ ودّوا كفركم.
[٣]
[سُورَة الممتحنة (٦٠) : آيَة ٣]
لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣)
تَخَلَّصَ مِنْ تَبْيِينِ سُوءِ عَاقِبَةِ مُوَالَاةِ أَعْدَاءِ الدِّينِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، إِلَى بَيَانِ سُوءِ
فَقَوْلُهُ لَهُ هُوَ خبر فَلَيْسَ لِأَنَّ الْمَجْرُورَ بِلَامِ الْاخْتِصَاصِ هُوَ مَحَطُّ الْإِخْبَارِ دُونَ ظَرْفِ الْمَكَانِ. وَقَوْلُهُ: هاهُنا ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِالْكَوْنِ الْمَنْوِيِّ فِي الْخَبَرِ بِحَرْفِ الْجَرِّ. وَهَذَا أَوْلَى مِنْ جَعْلِ هاهُنا خَبرا عَن فَلَيْسَ وَجَعْلِ لَهُ صِفَةً لِ حَمِيمٌ إِذْ لَا حَاجَةَ لِهَذَا الْوَصْفِ.
وَالْحَمِيمُ: الْقَرِيبُ، وَهُوَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ النَّصِيرِ إِذِ الْمُتَعَارَفُ عِنْدَ الْعَرَبِ أَنَّ أَنْصَارَ الْمَرْءِ هُمْ عَشِيرَتُهُ وَقَبِيلَتُهُ.
وَلا طَعامٌ عَطْفٌ عَلَى حَمِيمٌ.
وَالْغِسْلِينُ: بِكَسْرِ الْغَيْنِ مَا يَدْخُلُ فِي أَفْوَاهِ أَهْلِ النَّارِ مِنَ الْمَوَادِّ السَّائِلَةِ مِنَ الْأَجْسَادِ وَمَاءِ النَّارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَعْلَمُهُ اللَّهُ فَهُوَ عَلَمٌ عَلَى ذَلِكَ مِثْلُ سِجِّينٍ، وَسِرْقِينٍ، وَعِرْنِينٍ، فَقِيلَ إِنَّهُ فِعْلِينَ مِنَ الْغَسْلِ لِأَنَّهُ سَالَ مِنَ الْأَبْدَانِ فَكَأَنَّهُ غُسِلَ عَنْهَا. وَلَا مُوجِبَ لبَيَان اشتقاقه.
والْخاطِؤُنَ: أَصْحَابُ الْخَطَايَا يُقَال: خطىء إِذَا أَذْنَبَ.
وَالْمَعْنَى: لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا هُوَ وَأَمْثَالُهُ مِنَ الخاطئين.
وتعريف الْخاطِؤُنَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْكَمَالِ فِي الْوَصْفِ، أَيِ الْمُرْتَكِبُونَ أَشَدَّ الْخَطَأِ وَهُوَ الْإِشْرَاكُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُور الْخاطِؤُنَ بِإِظْهَارِ الْهَمْزَةِ، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ الْخَاطُونَ بِضَمِّ الطَّاءِ بَعْدَهَا وَاوٌ عَلَى حَذْفِ الْهَمْزَةِ تَخْفِيفًا بَعْدَ إِبْدَالِهَا يَاءً تَخْفِيفًا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قَرَأَ حَمْزَةُ عِنْدَ الْوَقْفِ الْخَاطِيُونَ بِإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ يَاءً وَلَمْ يَذْكُرْهُ عَنْهُ غير الطَّيِّبِيّ.
[٣٨- ٤٣]
[سُورَة الحاقة (٦٩) : الْآيَات ٣٨ إِلَى ٤٣]
فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (٣٨) وَما لَا تُبْصِرُونَ (٣٩) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (٤٢)
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٣)
الْفَاءُ هُنَا لِتَفْرِيعِ إِثْبَاتِ أَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَنَفْيِ مَا نَسَبَهُ الْمُشْرِكُونَ
وَعَلَى إِثْبَاتِ الْبَعْثِ وَابْتُدِئَ بِوَصْفِ الْأَهْوَالِ الَّتِي تَتَقَدَّمُهُ وَانْتُقِلَ إِلَى وَصْفِ أَهْوَالٍ
تَقَعُ عَقِبَهُ.
وَعَلَى التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْقُرْآنِ الَّذِي كَذَّبُوا بِهِ لِأَنَّهُ أَوْعَدَهُمْ بِالْبَعْثِ زِيَادَةً لِتَحْقِيقِ وُقُوعِ الْبَحْث إِذا رَمَوُا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجُنُونِ وَالْقُرْآنَ بِأَنَّهُ يَأْتِيهِ بِهِ شَيْطَان.
[١- ١٤]
[سُورَة التكوير (٨١) : الْآيَات ١ إِلَى ١٤]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (٤)وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (٥) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (٦) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (٧) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٩)
وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (١٠) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (١١) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (١٢) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (١٣) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (١٤)
الِافْتِتَاحُ بِ إِذَا افْتِتَاحٌ مُشَوِّقٌ لِأَنَّ إِذَا ظَرْفٌ يَسْتَدْعِي مُتَعَلَّقًا، وَلِأَنَّهُ أَيْضًا شَرْطٌ يُؤْذِنُ بِذِكْرِ جَوَابٍ بَعْدَهُ، فَإِذَا سَمِعَهُ السَّامِعُ تَرَقَّبَ مَا سَيَأْتِي بعده فَعِنْدَ مَا يَسْمَعُهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ نَفْسِهِ كَمَالَ تَمَكُّنٍ، وَخَاصَّةً بِالْإِطْنَابِ بِتَكْرِيرِ كَلِمَةِ إِذَا وَتَعَدُّدِ الْجُمَلِ الَّتِي أُضِيفَ إِلَيْهَا اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مَرَّةً، فَإِعَادَةُ كَلِمَةِ إِذَا بَعْدَ وَاوِ الْعَطْفِ فِي هَذِهِ الْجُمَلِ الْمُتَعَاطِفَةِ إِطْنَابٌ، وَهَذَا الْإِطْنَابُ اقْتَضَاهُ قَصْدُ التَّهْوِيلِ، وَالتَّهْوِيلُ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْإِطْنَابِ وَالتَّكْرِيرِ، كَمَا فِي قَصِيدَةِ الْحَارِثِ بْنِ عَبَّادٍ الْبَكْرِيِّ:
قَرِّبَا مَرْبَطَ النَّعَامَةِ مِنِّي إِلَخْ وَفِي إِعَادَةِ إِذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَضْمُونَ كُلِّ جُمْلَةٍ مِنْ هَذِهِ الْجُمَلِ الثِّنْتَيْ عَشْرَةَ مُسْتَقِلٌّ بِحُصُولِ مَضْمُونِ جُمْلَةِ الْجَوَابِ عِنْدَ حُصُولِهِ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ تَفَاوُتِ زَمَانِ حُصُولِ الشُّرُوطِ فَإِنَّ زَمَنَ سُؤَالِ الْمَوْءُودَةِ وَنَشْرِ الصُّحُفِ أَقْرَبُ لِعِلْمِ النُّفُوسِ بِمَا أَحْضَرَتْ أَقْرَبُ مِنْ زَمَانِ تَكْوِيرِ الشَّمْسِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ مِمَّا يَحْصُلُ قَبْلَ الْبَعْثِ.