الَّتِي فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ مِنْ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ بِأَنْ تَصِيرَ الْفَاتِحَةُ هَكَذَا: (بِسْمِ اللَّهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ إِلَخْ).
وَأَنَا أَرَى فِي الِاسْتِدْلَالِ بِمَسْلَكِ الذَّوْقِ الْعَرَبِيِّ أَنْ يَكُونَ عَلَى مُرَاعَاةِ قَوْلِ الْقَائِلِينَ بِكَوْنِ الْبَسْمَلَةِ آيَةً مِنْ كُلِّ سُورَةٍ فَيَنْشَأُ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ أَنْ تَكُونَ فَوَاتِحُ سُوَرِ الْقُرْآنِ كُلُّهَا مُتَمَاثِلَةً وَذَلِكَ مِمَّا لَا يُحْمَدُ فِي كَلَامِ الْبُلَغَاءِ إِذِ الشَّأْنُ أَنْ يَقَعَ التَّفَنُّنُ فِي الْفَوَاتِحِ، بَلْ قَدْ عَدَّ عُلَمَاءُ الْبَلَاغَةِ أَهَمَّ مَوَاضِعِ التَّأَنُّقِ فَاتِحَةَ الْكَلَامِ وَخَاتِمَتِهِ، وَذَكَرُوا أَنَّ فَوَاتِحَ السُّوَرِ وَخَوَاتِمَهَا وَارِدَةٌ عَلَى أَحْسَنِ وُجُوهِ الْبَيَانِ وَأَكْمَلِهَا فَكَيْفَ يَسُوغُ أَنْ يُدَّعَى أَنَّ فَوَاتِحَ سُوَرِهِ جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ، مَعَ أَنَّ عَامَّةَ الْبُلَغَاءِ مِنَ الْخُطَبَاءِ وَالشُّعَرَاءِ وَالْكُتَّابِ يَتَنَافَسُونَ فِي تَفَنُّنِ فَوَاتِحِ مُنْشَآتِهِمْ وَيَعِيبُونَ مَنْ يَلْتَزِمُ فِي كَلَامِهِ طَرِيقَةً وَاحِدَةً فَمَا ظَنك بأبلغ كَلَام.
وَأَمَّا حُجَّةُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ بِأَنَّهَا آيَةٌ مِنْ سُورَة الْفَاتِحَة خَاصَّة فَأُمُورٌ كَثِيرَةٌ أَنْهَاهَا فَخْرُ الدِّينِ إِلَى سَبْعَ عَشْرَةَ حُجَّةً لَا يَكَادُ يَسْتَقِيمُ مِنْهَا بَعْدَ طَرْحِ الْمُتَدَاخِلِ وَالْخَارِجِ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ وَضَعِيفِ السَّنَدِ أَوْ وَاهِيهِ إِلَّا أَمْرَانِ: أحد هما أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا مَا
رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيءَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «فَاتِحَةُ الْكِتَابِ سَبْعُ آيَاتٍ أُولَاهُنَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَقَوْلُ أُمِّ سَلَمَةَ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفَاتِحَةَ وَعَدَّ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ
آيَةً. الثَّانِي: الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ مَا بَيْنَ الدِّفَّتَيْنِ كَلَامُ اللَّهِ.
وَالْجَوَابُ: أَمَّا عَنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَهُوَ لَمْ يُخْرِجْهُ أَحَدٌ مِنْ رِجَالِ الصَّحِيحِ إِنَّمَا خَرَّجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فَهُوَ نَازِلٌ عَنْ دَرَجَةِ الصَّحِيحِ فَلَا يُعَارِضُ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ، وَأَمَّا حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ فَلَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ رِجَالِ الصَّحِيحِ غَيْرُ أَبِي دَاوُدَ وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَل وَالْبَيْهَقِيّ، وصحيح بَعْضَ طُرُقِهِ وَقَدْ طَعَنَ فِيهِ الطَّحَاوِيُّ بِأَنَّهُ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، وَلَمْ يَثْبُتْ سَمَاعُ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ مِنْ أُمِّ سَلَمَةَ، يَعْنِي أَنَّهُ مَقْطُوعٌ، عَلَى أَنَّهُ رَوَى عَنْهَا مَا يُخَالِفُهُ، عَلَى أَنَّ شيخ الْإِسْلَام زَكَرِيَّاء قَدْ صَرَّحَ فِي «حَاشِيَتِهِ عَلَى تَفْسِيرِ الْبَيْضَاوِيِّ»
بِأَنَّهُ لَمْ يُرْوَ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُورِ وَإِنَّمَا رُوِيَ بِأَلْفَاظٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ بِسْمِ اللَّهِ آيَةٌ وَحْدَهَا، فَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ كَوْنُهَا مِنَ الْفَاتِحَةِ، عَلَى أَنَّ هَذَا يُفْضِي إِلَى إِثْبَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ بِغَيْرِ الْمُتَوَاتِرِ وَهُوَ مَا يَأْبَاهُ الْمُسْلِمُونَ.
وَأَمَّا عَنِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ كَلَامُ اللَّهِ، فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي إِلَّا أَنَّ الْبَسْمَلَةَ قُرْآنٌ وَهَذَا لَا نِزَاعَ فِيهِ، وَأَمَّا كَوْنُ الْمَوَاضِعِ الَّتِي رُسِمَتْ فِيهَا فِي الْمُصْحَفِ مِمَّا تَجِبُ قِرَاءَتُهَا
حَاصِلٌ مِنْ أَخِيهِ إِلَيْهِ، وَفِي هَذَا تَحْرِيضٌ لِمَنْ عُفِيَ لَهُ عَلَى أَنْ يَقْبَلَ مَا عُفِيَ لَهُ وَتَحْرِيضٌ لِأَخِيهِ عَلَى أَدَاءِ مَا بَذَلَهُ بِإِحْسَانٍ. وَالِاتِّبَاعُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْقَبُولِ وَالرِّضَا، أَيْ فَلْيَرْضَ بِمَا عُفِيَ لَهُ
كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ».
وَالضَّمِيرُ الْمُقَدَّرُ فِي (اتِّبَاعٌ) عَائِد إِلَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ وَالضَّمِيرُ الْمُقَدَّرُ فِي أَدَاءٌ عَائِدٌ
إِلَى (أَخِيه)، وَالْمعْنَى: فليرضى بِمَا بَذَلَ لَهُ مِنَ الصُّلْحِ الْمُتَيَسَّرِ، وَلْيُؤَدِّ بَاذِلُ الصُّلْحِ مَا بَذَلَهُ دُونَ مُمَاطَلَةٍ وَلَا نَقْصٍ، وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِاللَّامِ وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِإِلَى عَائِدَانِ عَلَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ.
وَمَقْصِدُ الْآيَةِ التَّرْغِيبُ فِي الرِّضَا بِأَخْذِ الْعِوَضِ عَنْ دَمِ الْقَتِيلِ بَدَلًا مِنَ الْقِصَاصِ لِتَغْيِيرِ مَا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَتَعَيَّرُونَ بِهِ مِنْ أَخْذِ الصُّلْحِ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ وَيُعِدُّونَهُ بَيْعًا لِدَمِ مَوْلَاهُمْ كَمَا قَالَ مُرَّةُ الْفَقْعَسِيُّ:

فَلَا تَأْخُذُوا عَقْلًا مِنَ الْقَوْمِ إِنَّنِي أَرَى الْعَارَ يَبْقَى وَالْمَعَاقِلَ تَذْهَبُ
وَقَالَ غَيْرُهُ يَذْكُرُ قَوْمًا لَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ صُلْحًا عَنْ قَتِيلٍ:
فَلَوْ أَنَّ حَيًّا يَقْبَلُ الْمَالَ فِدْيَةً لسقنا لَهُم سَببا مِنَ الْمَالِ مُفْعَمًا
وَلَكِنْ أَبَى قَوْمٌ أُصِيبَ أَخُوهُمْ رِضَا الْعَارِ فَاخْتَارُوا عَلَى اللَّبَنِ الدَّمَا
وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْعَفْوِ عَلَى قَتْلِ الْعَمْدِ وَأَمَّا قَتْلُ الْخَطَأِ فَإِنَّ شَأْنَهُ الدِّيَةُ عَنْ عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ.
وَإِطْلَاقُ وَصْفِ الْأَخِ عَلَى الْمُمَاثِلِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ تَأْسِيسُ أَصْلٍ جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ جَعَلَ بِهِ التَّوَافُقُ فِي الْعَقِيدَةِ كَالتَّوَافُقِ فِي نَسَبِ الْأُخُوَّةِ، وَحَقًّا فَإِنَّ التَّوَافُقَ فِي الدِّينِ آصِرَةٌ نَفْسَانِيَّةٌ وَالتَّوَافُقَ فِي النَّسَبِ آصِرَةٌ جَسَدِيَّةٌ وَالرُّوحُ أَشْرَفُ مِنَ الْجَسَدِ.
وَاحْتَجَّ ابْنُ عَبَّاسٍ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْخَوَارِجِ فِي أَنَّ الْمَعْصِيَةَ لَا تُزِيلُ الْإِيمَانَ، لِأَنَّ اللَّهَ سَمَّى الْقَاتِلَ أَخًا لِوَلِيِّ الدَّمِ وَتِلْكَ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ مَعَ كَوْنِ الْقَاتِلِ عَاصِيًا.
وَقَوْلُهُ: بِالْمَعْرُوفِ الْمَعْرُوفُ هُوَ الَّذِي تَأْلَفُهُ النُّفُوسُ وَتَسْتَحْسِنُهُ فَهُوَ مِمَّا تُسَرُّ بِهِ النُّفُوسُ وَلَا تَشْمَئِزُّ مِنْهُ وَلَا تُنْكِرُهُ، وَيُقَالُ لِضِدِّهِ مُنْكَرٌ وَسَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آلِ عمرَان: ١١٠] فِي سُورَة آل عِمْرَانَ.
وَقَوْلُهُ: فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ جِيءَ فِيهِ بِالْفَاءِ لِلتَّفْرِيعِ عَنْ كَوْنِهِ مَوْلًى، لِأَنَّ شَأْنَ الْمَوْلَى أَنْ يَنْصُرَ مَوْلَاهُ، وَمِنْ هُنَا يَظْهَرُ مَوْقِعُ التَّعْجِيبِ وَالتَّحْسِيرِ فِي قَوْلِ مُرَّةَ بْنِ عَدَّاءٍ الْفَقْعَسِيِّ:
رَأَيْتُ مَوَالِي الْأُلَى يَخْذُلُونَنِي عَلَى حَدَثَانِ الدَّهْرِ إِذْ يَتَقَلَّبُ
وَفِي التَّفْرِيعِ بِالْفَاءِ إِيذَانٌ بِتَأْكِيدِ طَلَبِ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ بِالنَّصْرِ، لِأَنَّهُمْ جَعَلُوهُ مُرَتَّبًا عَلَى وَصْفٍ مُحَقَّقٍ، وَهُوَ وِلَايَةُ اللَّهِ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَقَرَة:
٢٥٧]
وَفِي حَدِيثِ يَوْمِ أُحُدٍ لَمَّا قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: «لَنَا الْعُزَّى وَلَا عُزَّى لَكُمْ» قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أَجِيبُوهُ «اللَّهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ»
. وَوَجْهُ الِاهْتِمَامِ بِهَذِهِ الدَّعْوَةِ أَنَّهَا جَامِعَةٌ لِخَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِأَنَّهُمْ إِذَا نُصِرُوا عَلَى الْعَدُوِّ، فَقَدْ طَابَ عَيْشُهُمْ وَظَهَرَ دِينُهُمْ، وَسَلِمُوا مِنَ الْفِتْنَةِ، وَدَخَلَ النَّاسُ فِيهِ أَفْوَاجًا.
وَفِي «الصَّحِيحِ»، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ الْبَدْرِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَرَأَ الْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فِي لَيْلَةٍ، كَفَتَاهُ»
وَهُمَا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. قِيلَ مَعْنَاهُ كَفَتَاهُ عَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ، فَيَكُونُ مَعْنَى مَنْ قَرَأَ مَنْ صَلَّى بِهِمَا، وَقِيلَ مَعْنَاهُ كَفَتَاهُ بَرَكَةً وَتَعَوُّذًا مِنَ الشَّيَاطِينِ وَالْمَضَارِّ، وَلَعَلَّ كَلَا الِاحْتِمَالَيْنِ مُرَادٌ.
هُوَ إِيقَاعُ جِسْمٍ عَلَى جِسْمٍ وَقَرْعُهُ بِهِ، فَالسَّيْرُ ضَرْبٌ فِي الْأَرْضِ بِالْأَرْجُلِ، فَأُطْلِقَ عَلَى السَّفَرِ لِلتِّجَارَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [المزمل: ٢٠]، وَعَلَى مُطْلَقِ السَّفَرِ كَمَا هُنَا، وَعَلَى السَّفَرِ لِلْغَزْوِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا [النِّسَاء: ٩٤] وَقَوْلُهُ: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ [النِّسَاء: ١٠١] وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا السَّفَرُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَلُومُهُمْ عَلَيْهِ الْكُفَّارُ، وَقِيلَ: أُرِيدَ بِالضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ التِّجَارَةُ.
وَعَلَيْهِ يَكُونُ قَرْنُهُ مَعَ الْقَتْلِ فِي الْغَزْوِ لِكَوْنِهِمَا كَذَلِكَ فِي عَقِيدَةِ الْكُفَّارِ.
وغُزًّى جَمْعُ غَازٍ. وَفُعَّلٌ قَلِيلٌ فِي جَمْعِ فَاعِلٍ النَّاقِصِ. وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ فَصِيحٌ.
وَنَظِيرُهُ عُفًّى فِي قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
لَهَا قُلُبٌ عُفَّى الْحِيَاضِ أُجُونُ وَقَوْلُهُ: لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ عِلَّةٌ لِ (قَالُوا) بِاعْتِبَارِ مَا يَتَضَمَّنُهُ مِنَ اعْتِقَادِ ذَلِكَ مَعَ الْإِعْلَانِ بِهِ تَوْجِيهًا لِلنَّهْيِ عَنِ التَّشْبِيهِ بِهِمْ أَيْ فَإِنَّكُمْ إِنِ اعْتَقَدْتُمُ اعْتِقَادَهُمْ لَحِقَكُمْ أَثَرُهُ كَمَا لَحِقَهُمْ، فَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: (ذَلِكَ) إِلَى الْقَوْلِ الدَّالِّ عَلَى الِاعْتِقَادِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَالتَّعْلِيلُ خَارِجٌ عَنِ التَّشْبِيهِ. وَقِيلَ: اللَّامُ لَامُ الْعَاقِبَةِ، أَيْ: لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ
قَالُوا فَتَرَتَّبَ عَلَى قَوْلِهِمْ أَنْ كَانَ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: لِيَجْعَلَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ صِلَةِ (الَّذِينَ)، وَمِنْ جملَة الْأَحْوَال المشبّه بِهَا، فَيُعْلَمُ أَنَّ النّهي عَن التّشبّه بِهِمْ فِيهَا لِمَا فِيهَا مِنَ الضُّرِّ.
وَالْحَسْرَةُ: شِدَّةُ الْأَسَفِ أَيِ الْحُزْنِ، وَكَانَ هَذَا حَسْرَةً عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ تَوَهَّمُوا أَنَّ مُصَابَهُمْ نَشَأَ عَنْ تَضْيِيعِهِمُ الْحَزْمَ، وَأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا سَلَكُوا غَيْرَ مَا سَلَكُوهُ لَنَجَوْا فَلَا يَزَالُونَ متلهّفين على مافتهم. وَالْمُؤْمِنُ يَبْذُلُ جُهْدَهُ فَإِذَا خَابَ سَلَّمَ لِحُكْمِ الْقَدَرِ.
وَقَالُوا أَيْضًا: «انْتَهَزَ الْفُرْصَةَ»، وَالْفُرْصَةُ نَوْبَةُ الشُّرْبِ، وَقَالُوا: صدر ألوم عَنْ رَأْيِ فُلَانٍ وَوَرَدُوا عَلَى رَأْيِهِ.
وَقَوْلُهُ: مِنْهُمْ وَصْفٌ لِلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ، وَهُمْ خَاصَّةُ أُولِي الْأَمْرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، أَيْ يَرُدُّونَهُ إِلَى جَمَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ فَيَفْهَمُهُ الْفَاهِمُونَ مِنْ أُولِي الْأَمْرِ، وَإِذَا فَهِمَهُ جَمِيعُهُمْ فَأَجْدَرُ.
وَقَوْلُهُ: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ امْتِنَانٌ بِإِرْشَادِهِمْ إِلَى أَنْوَاعِ الْمَصَالِحِ، وَالتَّحْذِيرِ مِنَ الْمَكَائِدِ وَمِنْ حَبَائِلِ الشَّيْطَانِ وَأَنْصَارِهِ.
وَاسْتِثْنَاءُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْ عُمُومِ الْأَحْوَالِ الْمُؤَذّن بهَا لَاتَّبَعْتُمُ، أَيْ إِلَّا فِي أَحْوَالٍ قَلِيلَةٍ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ مَا يَشْمَلُ الْبَعْثَةَ فَمَا بَعْدَهَا، فَالْمُرَادُ بِالْقَلِيلِ الْأَحْوَالُ الَّتِي تَنْسَاقُ إِلَيْهَا النُّفُوسُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ بِالْوَازِعِ الْعَقْلِيِّ أَوِ الْعَادِيِّ، وَإِنْ أُرِيدَ بِالْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ النَّصَائِحُ وَالْإِرْشَادُ فَالْمُرَادُ بِالْقَلِيلِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ اسْتِثْنَاءً من ضمير لَاتَّبَعْتُمُ أَيْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ، فَالْمُرَادُ مِنَ الِاتِّبَاعِ اتِّبَاعُ مِثْلِ هَذِهِ الْمَكَائِدِ الَّتِي لَا تَرُوجُ عَلَى أَهْلِ الرَّأْيِ من الْمُؤمنِينَ.
[٨٤]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٨٤]
فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (٨٤)
تَفْرِيعٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ، وَمِنْ وَصْفِ الْمُثَبِّطِينَ عَنْهُ، وَالْمُتَذَمِّرِينَ مِنْهُ، وَالَّذِينَ يَفْتِنُونَ الْمُؤْمِنِينَ فِي شَأْنِهِ، لِأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ قَدْ أَفَادَ الِاهْتِمَامَ بِأَمْرِ الْقِتَالِ، وَالتَّحْرِيضِ عَلَيْهِ، فَتَهَيَّأَ الْكَلَامُ لِتَفْرِيعِ الْأَمْرِ بِهِ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْفَاءَ فَصِيحَةً بَعْدَ تِلْكَ الْجُمَلِ الْكَثِيرَةِ، أَيْ: إِذَا كَانَ كَمَا عَلِمْتَ فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَهَذَا عَوْدٌ إِلَى مَا مَضَى مِنَ التَّحْرِيضِ عَلَى الْجِهَادِ، وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ. فَالْآيَةُ أَوْجَبَتْ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
جَوَابِ الْقَسَمِ، وَلَعَلَّ هَذَا بَعْضُ مَا تَضَمَّنَهُ الْمِيثَاقُ، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ: لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ بَعْضُ مَا شَمِلَهُ قَوْلُهُ:
إِنِّي مَعَكُمْ.
وَالْمُرَادُ بِالزَّكَاةِ مَا كَانَ مَفْرُوضًا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ: مِنْ إِعْطَائِهِمْ عُشْرَ مَحْصُولَاتِ ثِمَارِهِمْ وَزَرْعِهِمْ، مِمَّا جَاءَ فِي الْفَصْلِ الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ الْعَدَدِ، وَالْفَصْلِ الرَّابِعَ عَشَرَ وَالْفَصْلِ التَّاسِعَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ التَّثْنِيَةِ. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٤٣].
وَالتَّعْزِيرُ: النَّصْرُ. يُقَالُ: عَزَرَهُ مُخَفَّفًا، وَعَزَّرَهُ مُشَدَّدًا، وَهُوَ مُبَالَغَةٌ فِي عَزَرَهُ عَزْرًا إِذَا نَصَرَهُ، وَأَصْلُهُ الْمَنْعُ، لِأَنَّ النَّاصِرَ يَمْنَعُ الْمُعْتَدِيَ عَلَى مَنْصُورِهِ.
وَمَعْنَى وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً الصَّدَقَاتُ غَيْرُ الْوَاجِبَةِ.
وَتَكْفِيرُ السَّيِّئَاتِ: مَغْفِرَةُ مَا فَرَطَ مِنْهُمْ مَنِ التَّعَاصِي لِلرَّسُولِ فَجَعَلَ الطَّاعَةَ وَالتَّوْبَةَ مُكَفِّرَتَيْنِ عَنِ الْمَعَاصِي.
وَقَوْلُهُ: فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أَيْ فَقَدْ حَادَ عَنِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ، وَذَلِكَ لَا عذر لسَائِر فِيهِ حِينَ يُضِلُّهُ، لِأَنَّ الطَّرِيقَ السَّوِيَّ لَا يُحْوِجُ السَّائِرَ فِيهِ إِلَى الرَّوَغَانِ فِي ثَنَيَاتٍ قَدْ تَخْتَلِطُ عَلَيْهِ وَتُفْضِي بِهِ إِلَى التِّيهِ فِي الضلال.
[١٣]
[سُورَة الْمَائِدَة (٥) : آيَة ١٣]
فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣)
قَوْلُهُ: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِهِ فِي قَوْلِهِ
وَقَوْلُهُ: فَلَمَسُوهُ عَطْفٌ عَلَى نَزَّلْنا. وَاللَّمْسُ وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الشَّيْءِ لِمَعْرِفَةِ وُجُودِهِ، أَوْ لِمَعْرِفَةِ وَصْفِ ظَاهِرِهِ مِنْ لِينٍ أَوْ خُشُونَةٍ، وَمِنْ بُرُودَةٍ أَوْ حَرَارَةٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.
فَقَوْلُهُ: بِأَيْدِيهِمْ تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى اللَّمْسِ لِرَفْعِ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا فِي التَّأَمُّلِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً، وَلِلْإِفْصَاحِ عَنْ مُنْتَهَى مَا اعْتِيدَ مِنْ مُكَابَرَتِهِمْ وَوَقَاحَتِهِمْ فِي الْإِنْكَارِ وَالتَّكْذِيبِ، وَلِلتَّمْهِيدِ لِقَوْلِهِ: لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ لِأَنَّ الْمَظَاهِرَ السِّحْرِيَّةَ تَخَيُّلَاتٌ لَا تُلْمَسُ.
وَجَاءَ قَوْلُهُ: الَّذِينَ كَفَرُوا دُونَ أَنْ يَقُولَ: لَقَالُوا، كَمَا قَالَ: فَلَمَسُوهُ إِظْهَارًا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِقَصْدِ تَسْجِيلِ أَنَّ دَافِعَهُمْ إِلَى هَذَا التَّعَنُّتِ هُوَ الْكُفْرُ، لِأَنَّ الْمَوْصُولَ يُؤْذِنُ
بِالتَّعْلِيلِ.
وَمَعْنَى: إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أَنَّهُمْ يُغَالِطُونَ أَنْفُسَهُمْ وَيُغَالِطُونَ قَوْمَهُمْ لِسَتْرِ مُكَابَرَتِهِمْ وَلِدَفْعِ مَا ظَهَرَ مِنَ الْغَلَبَةِ عَلَيْهِمْ. وَهَذَا شَأْنُ الْمَغْلُوبِ الْمَحْجُوجِ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْمَعَاذِيرِ الْكَاذِبَةِ.
وَالْمُبِينُ: الْبَيِّنُ الْوَاضِحُ، مُشْتَقٌّ مِنْ (أَبَانَ) مُرَادِفُ (بَانَ). وَتَقَدَّمَ مَعْنَى السِّحْرِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ فِي سُورَة الْبَقَرَة [].
[٨، ٩]
[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : الْآيَات ٨ إِلَى ٩]
وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (٩)
عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً، لِأَنَّ هَذَا خَبَرٌ عَنْ تَوَرُّكِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، وَمَا قَبْلَهُ بَيَانٌ لِعَدَمِ جَدْوَى مُحَاوَلَةِ مَا يُقْلِعُ عِنَادَهُمْ، فَذَلِكَ فَرْضٌ بِإِنْزَالِ كِتَابٍ عَلَيْهِمْ، مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ تَصْدِيقُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا حِكَايَةٌ لِاقْتِرَاحٍ مِنْهُمْ آيَةً يُصَدِّقُونَهُ بِهَا. وَفِي سِيرَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ وَاقِعٌ، وَأَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ قَالَ هَذَا زَمْعَةَ بْنَ الْأَسْوَدِ، وَالنَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ، وَعَبْدَةَ بْنَ عَبْدِ يَغُوثَ وَأُبَيَّ
مَا لَا يُلَاقِي وَاجِبَ شُكْرِ الْخَالِقِ وَهُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ: أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [الْأَنْعَام: ١٤٥] أَعْقَبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ مَا حَرَّمَهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ تَحْرِيمًا خَاصًّا لِحِكْمَةٍ خاصّة بأحوالهم، وموقّتة إِلَى مَجِيءِ الشَّرِيعَةِ الْخَاتِمَةِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الْأَخِيرِ: أَنْ يَظْهَرَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنَّ مَا حَرَّمُوهُ لَيْسَ مِنْ تَشْرِيعِ اللَّهِ فِي الْحَالِ وَلَا فِيمَا مَضَى، فَهُوَ ضَلَالٌ بَحْتٌ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى مُتَعَلَّقِهِ فِي قَوْلِهِ:
وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ، أَيْ عَلَيْهِمْ لَا عَلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ.
وَالظُّفُرُ: الْعَظْمُ الَّذِي تَحْتَ الْجِلْدِ فِي مُنْتَهَى أَصَابِعِ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ وَالْمَخَالِبِ، وَهُوَ يُقَابِلُ الْحَافِرَ وَالظِّلْفَ وَيَكُونُ لِلْإِبِلِ وَالسَّبُعِ وَالْكَلْبِ وَالْهِرِّ وَالْأَرْنَبِ وَالْوَبَرِ وَنَحْوِهَا فَهَذِهِ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الْيَهُودِ بِنَصِّ شَرِيعَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَفِي الْإِصْحَاحِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ التَّثْنِيَةِ: «الْجَمَلُ وَالْأَرْنَبُ وَالْوَبَرُ فَلَا تَأْكُلُوهَا».
وَالشُّحُومُ: جَمْعُ شَحْمٍ، وَهُوَ الْمَادَّةُ الدُّهْنِيَّةُ الَّتِي تَكُونُ مَعَ اللَّحْمِ فِي جَسَدِ الْحَيَوَانِ، وَقَدْ أَبَاحَ اللَّهُ لِلْيَهُودِ أَكْلَ لُحُومِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَحرم عَلَيْهِم شحومهما إِلَّا مَا كَانَ فِي الظَّهْرِ.
والْحَوايا مَعْطُوفٌ عَلَى ظُهُورُهُما. فَالْمَقْصُودُ الْعَطْفُ عَلَى الْمُبَاحِ لَا عَلَى الْمُحَرَّمِ، أَيْ: أَوْ مَا حَمَلَتِ الْحَوَايَا، وَهِيَ جَمْعُ حَوِيَّةٍ، وَهِيَ الْأَكْيَاسُ الشَّحْمِيَّةُ الَّتِي تَحْوِي الْأَمْعَاءَ.
أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ هُوَ الشَّحْمُ الَّذِي يَكُونُ مُلْتَفًّا عَلَى عَظْمِ الْحَيَوَانِ مِنَ السَّمْنِ فَهُوَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ لِعُسْرِ تَجْرِيدِهِ عَنْ عَظْمِهِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الشُّحُومَ كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِمْ بِشَرِيعَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السّلام، فَهِيَ غير الْمُحَرَّمَاتُ الَّتِي أَجْمَلَتْهَا آيَةُ سُورَةِ النِّسَاءِ
عَنْهُمْ بِذَلِكَ الْمَكَانِ دُونَ سِوَاهُمْ مِنَ الرِّجَالِ، وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ رِجَالٌ يَقَعُ لَهُمْ هَذَا الْخَبَرُ، فَذُكِرُوا هُنَا لِلِاعْتِبَارِ عَلَى وَجْهِ الْمُصَادَفَةِ، لَا لِقَصْدِ تَقْسِيمِ أَهْلِ الْآخِرَةِ وَأَمْكِنَتِهِمْ، وَلَعَلَّ تَوَهُّمَ أَنَّ تَخْصِيصَ الرِّجَالِ بِالذِّكْرِ لِقَصْدِ التَّقْسِيمِ قَدْ أَوْقَعَ بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ فِي حَيْرَةٍ لِتَطَلُّبِ الْمَعْنَى لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ أَهْلُ الْأَعْرَافِ قَدِ اسْتَحَقُّوا ذَلِكَ الْمَكَانَ لِأَجْلِ حَالَةٍ لَا حَظَّ لِلنِّسَاءِ فِيهَا، فَبَعْضُهُمْ حَمَلَ الرِّجَالَ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَتَطَلَّبَ عَمَلًا يَعْمَلُهُ الرِّجَالُ لَا حَظَّ لِلنِّسَاءِ فِيهِ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَيْسَ إِلَّا الْجِهَادُ، فَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: هَؤُلَاءِ قَوْمٌ جَاهَدُوا وَكَانُوا عَاصِينَ لِآبَائِهِمْ، وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ حَمَلَ الرِّجَالَ عَلَى الْمَجَازِ بِمَعْنَى الْأَشْخَاصِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، أُطْلِقَ عَلَيْهِمُ الرِّجَالَ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا إِنَاثًا كَمَا أُطْلِقَ عَلَى أَشْخَاصِ الْجِنِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ [الْجِنِّ: ٦] فَيَظْهَرُ وَجْهٌ لِتَخْصِيصِ الرِّجَالِ بِالذِّكْرِ تَبَعًا لِمَا فِي بَعْضِ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا.
وَأَمَّا مَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّ أَهْلَ الْأَعْرَافِ هُمْ قَوْمٌ اسْتَوَتْ مَوَازِينُ حَسَنَاتِهِمْ مَعَ مَوَازِينِ سَيِّئَاتِهِمْ، وَيَكُونُ إِطْلَاقُ الرِّجَالِ عَلَيْهِمْ تَغْلِيبًا، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ نِسَاءٌ، وَيُرْوَى فِيهِ أَخْبَارٌ مُسْنَدَةٌ إِلَى النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ تَبْلُغْ مَبْلَغَ الصَّحِيحِ وَلَمْ تَنْزِلْ إِلَى رُتْبَةِ الضَّعِيفِ:
رَوَى بَعْضُهَا ابْنُ مَاجَهْ، وَبَعْضُهَا ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَبَعْضُهَا الطَّبَرِيُّ، فَإِذَا صَحَّتْ فَإِنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا أَنَّ مَنْ كَانَتْ تِلْكَ حَالَتُهُمْ يَكُونُونَ مِنْ جُمْلَةِ أَهْلِ الْأَعْرَافِ الْمُخْبَرِ عَنْهُمْ فِي الْقُرْآنِ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَهُمْ يَطْمَعُونَ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهَا أَنَّهُمُ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْمُتَأَمِّلِ فِيهَا.
وَالَّذِي يَنْبَغِي تَفْسِيرُ الْآيَةِ بِهِ: أَنَّ هَذِهِ الْأَعْرَافَ جَعَلَهَا اللَّهُ مَكَانًا يُوقِفُ بِهِ مَنْ جَعَلَهُ اللَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ قَبْلَ دُخُولِهِ إِيَّاهَا، وَذَلِكَ ضَرْبٌ مِنَ الْعِقَابِ خَفِيفٌ، فَجَعَلَ الدَّاخِلِينَ إِلَى الْجَنَّةِ مُتَفَاوِتِينَ فِي السَّبْقِ تَفَاوُتًا يَعْلَمُ اللَّهُ أَسْبَابَهُ وَمَقَادِيرَهُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى [الْحَدِيد: ١٠] وَخَصَّ اللَّهُ
الْآيَةَ، فَهَذَا تَخْصِيصٌ لِظَاهِرِ الْعُمُومِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى [الْأَعْرَاف: ١٤٨] قُصِدَ بِهِ الِاحْتِرَاسُ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ ذَلِكَ قَدْ عَمِلَهُ قَوْمُ مُوسَى كُلُّهُمْ، وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى دَفْعِ هَذَا التَّوَهُّمِ، قُدِّمَ وَمِنْ قَوْمِ مُوسى عَلَى مُتَعَلِّقِهِ.
وَقَوْمُ مُوسَى هُمْ أَتْبَاعُ دِينِهِ مِنْ قَبْلِ بعثة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنْ بَقِيَ مُتَمَسِّكًا بَدِينِ مُوسَى، بَعْدَ بُلُوغِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ إِلَيْهِ، فَلَيْسَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى، وَلَكِنْ يُقَالُ هُوَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَوْ مِنَ الْيَهُودِ، لِأَنَّ الْإِضَافَةَ فِي قَوْمِ مُوسى تُؤْذِنُ بِأَنَّهُمْ مُتَّبِعُو دِينِهِ الَّذِي مِنْ جُمْلَةِ أُصُولِهِ تَرَقُّبُ مَجِيءِ الرَّسُول الْأُمِّي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأُمَّةٌ: جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ مُتَّفِقَةٌ فِي عَمَلٍ يَجْمَعُهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
أُمَّةً واحِدَةً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢١٣]، وَالْمُرَادُ أَنَّ مِنْهُمْ فِي كُلِّ زَمَانٍ قَبْلَ الْإِسْلَامِ.
ويَهْدُونَ بِالْحَقِّ أَيْ يَهْدُونَ النَّاسَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ بِبَثِّ فَضَائِلِ الدِّينِ الْإِلَهِيِّ، وَهُوَ الَّذِي سَمَّاهُ اللَّهُ بِالْحَقِّ ويعدلون أَيْ يَحْكُمُونَ حُكْمًا لَا جَوْرَ فِيهِ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ: وَبِهِ يَعْدِلُونَ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ وَلِرِعَايَةِ الْفَاصِلَةِ، إِذْ لَا مُقْتَضِي لِإِرَادَةِ الْقَصْرِ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: يَهْدُونَ بِالْحَقِّ حَيْثُ لَمْ يُقَدَّمِ الْمَجْرُورُ، وَالْمَعْنَى:
أَنَّهُمْ يَحْكُمُونَ بِالْعَدْلِ عَلَى بَصِيرَةٍ وَعِلْمٍ، وَلَيْسَ بِمُجَرَّدِ مُصَادَفَةِ الْحَقِّ عَنْ جَهْلٍ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ الْجَاهِلَ إِذَا قَضَى بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ أَحَدَ الْقَاضِيَيْنِ اللَّذَيْنِ فِي النَّارِ، وَلَوْ صَادَفَ الْحَقَّ، لِأَنَّهُ بِجَهْلِهِ قَدِ اسْتَخَفَّ بِحُقُوقِ النَّاسِ وَلَا تَنْفَعُهُ مُصَادَفَةُ الْحَقِّ لِأَنَّ تِلْكَ الْمُصَادَفَةَ لَا عَمَلَ لَهُ فِيهَا.
[١٦٠]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : آيَة ١٦٠]
وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١٦٠)
وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً.
عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ [الْأَعْرَاف: ١٥٩] إِلَخْ، فَإِنَّ ذَلِكَ التَّقْطِيعَ وَقَعَ فِي الْأُمَّةِ الَّذِينَ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ.
وَالتَّقْطِيعُ شِدَّةٌ فِي الْقَطْعِ وَهُوَ التَّفْرِيقُ، وَالْمُرَادُ بِهِ التَّقْسِيمُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَذَا الْخَبَرِ الذَّمَّ، وَلَا بِالتَّقْطِيعِ الْعِقَابَ، لِأَنَّ ذَلِكَ التَّقْطِيعَ مِنَّةٌ مِنَ اللَّهِ، وَهُوَ مِنْ مَحَاسِنِ سِيَاسَةِ الشَّرِيعَةِ الْمُوسَوِيَّةِ، وَمِنْ مُقَدِّمَاتِ نِظَامِ الْجَمَاعَةِ كَمَا فَصَّلَهُ السِّفْرُ الرَّابِعُ، وَهُوَ سِفْرُ عَدَدِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَتَقْسِيمِهِمْ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا فَعَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مِنْ تَدْوِينِ
وَقَصَرَ خَشْيَتَهُمْ عَلَى التَّعَلُّقِ بِجَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى بِصِيغَةِ الْقَصْرِ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُمْ لَا يَخَافُونَ شَيْئًا غَيْرَ اللَّهِ فَإِنَّهُمْ قَدْ يَخَافُونَ الْأَسَدَ وَيَخَافُونَ الْعَدُوَّ، وَلَكِنَّ مَعْنَاهُ إِذَا تَرَدَّدَ الْحَالُ بَيْنَ خَشْيَتِهِمُ اللَّهَ وَخَشْيَتِهِمْ غَيْرَهُ قَدَّمُوا خَشْيَةَ اللَّهِ عَلَى خَشْيَةِ غَيْرِهِ كَقَوْلِهِ آنِفًا أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ [التَّوْبَة: ١٣]، فَالْقَصْرُ إِضَافِيٌّ بِاعْتِبَارِ تَعَارُضِ خَشْيَتَيْنِ.
وَهَذَا مِنْ خَصَائِصِ الْمُؤْمِنِينَ: فَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَهُمْ يَخْشَوْنَ شُرَكَاءَهُمْ وَيَنْتَهِكُونَ حُرُمَاتِ اللَّهِ لِإِرْضَاءِ شُرَكَائِهِمْ، وَأَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ فَيَخْشَوْنَ النَّاسَ وَيَعْصُونَ اللَّهَ بِتَحْرِيفِ كَلِمِهِ وَمُجَارَاةِ أَهْوَاءِ الْعَامَّةِ، وَقَدْ ذَكَّرَهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ [الْمَائِدَة:
٤٤].
وَفَرَّعَ عَلَى وَصْفِ الْمُسْلِمِينَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ رَجَاءَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ، أَيْ مِنَ الْفَرِيقِ الْمَوْصُوفِ بِالْمُهْتَدِينَ وَهُوَ الْفَرِيقُ الَّذِي الِاهْتِدَاءُ خُلُقٌ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْأَعْمَالِ وَفِي غَيْرِهَا. وَوَجْهُ هَذَا الرَّجَاءِ أَنَّهُمْ لَمَّا أَتَوْا بِمَا هُوَ اهْتِدَاءٌ لَا مَحَالَةَ قَوِيَ الْأَمَلُ فِي أَنْ يَسْتَقِرُّوا عَلَى ذَلِكَ وَيَصِيرُ خُلُقًا لَهُمْ فَيَكُونُوا مِنْ أَهْلِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ وَلَمْ
يَقُلْ أَنْ يَكُونُوا مُهْتَدِينَ.
وَفِي هَذَا حَثُّ عَلَى الِاسْتِزَادَةِ مِنْ هَذَا الِاهْتِدَاءِ وَتَحْذِيرٌ مِنَ الْغُرُورِ وَالِاعْتِمَادِ عَلَى بَعْضِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ بِاعْتِقَادِ أَنَّ بَعْضَ الْأَعْمَالِ يُغْنِي عَنْ بَقِيَّتِهَا.
وَالتَّعْبِيرُ عَنْهُمْ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا هَذَا الْأَمَلَ فِيهِمْ بِسَبَبِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ الَّتِي عدّت لَهُم.
[١٩]
[سُورَة التَّوْبَة (٩) : آيَة ١٩]
أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩)
ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّهَا خِطَابٌ لِقَوْمٍ سَوَّوْا بَيْنَ سِقَايَةِ الْحَاجِّ وَعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَبَيْنَ الْجِهَادِ وَالْهِجْرَةِ، فِي أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِ الْبِرِّ، فَتُؤْذِنُ بِأَنَّهَا خِطَابٌ لِقَوْمٍ مُؤْمِنِينَ قَعَدُوا عَنِ الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ، بِعِلَّةِ اجْتِزَائِهِمْ بِالسِّقَايَةِ وَالْعِمَارَةِ. وَمُنَاسَبَتُهَا
فَقَوْلُهُ: كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ شَبَّهَ بِهِ ابْتِدَاءَ أَطْوَارِ الْحَيَاةِ مِنْ وَقْتِ الصِّبَا إِذْ لَيْسَ ثَمَّةَ سِوَى الْأَمَلِ فِي نَعِيمِ الْعَيْش ونضارته، فَلذَلِك الْأَمَلُ يُشْبِهُ حَالَ نُزُولِ الْمَطَرِ مِنَ السَّمَاءِ فِي كَوْنِهِ سَبَبَ مَا يُؤَمَّلُ مِنْهُ مِنْ زُخْرُفِ الْأَرْضِ وَنَضَارَتِهَا.
وَقَوْلُهُ: فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ شَبَّهَ بِهِ طَوْرَ ابْتِدَاءِ نَضَارَةِ الْعَيْشِ وَإِقْبَالِ زَهْرَةِ الْحَيَاةِ، فَذَلِكَ يُشْبِهُ خُرُوجَ الزَّرْعِ بُعَيْدَ الْمَطَرِ فِيمَا يُشَاهَدُ مِنْ بِوَارِقِ الْمَأْمُولِ، وَلِذَلِكَ عُطِفَ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ لِلْإِيذَانِ بِسُرْعَةِ ظُهُورِ النَّبَاتِ عَقِبَ الْمَطَرِ فَيُؤْذَنُ بِسُرْعَةِ نَمَاءِ الْحَيَاةِ فِي أَوَّلِ أَطْوَارِهَا. وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالِاخْتِلَاطِ بِالْمَاءِ بِحَيْثُ ظَهَرَ قَبْلَ جَفَافِ الْمَاءِ، أَيْ فَاخْتَلَطَ النَّبَاتُ بِالْمَاءِ أَيْ جَاوَرَهُ وَقَارَنَهُ.
وَقَوْلُهُ: مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ وَصْفٌ لِنَبَاتِ الْأَرْضِ الَّذِي مِنْهُ أَصْنَافٌ يَأْكُلُهَا النَّاس من الخضروات وَالْبُقُولِ، وَأَصْنَافٌ تَأْكُلُهَا الْأَنْعَامُ مِنَ الْعُشْبِ وَالْكَلَأِ، وَذَلِكَ يُشَبَّهُ بِهِ مَا يُنَعَّمُ بِهِ النَّاسُ فِي الْحَيَاةِ مِنَ اللَّذَّاتِ وَمَا يُنَعَّمُ بِهِ الْحَيَوَانُ، فَإِنَّ لَهُ حَظًّا فِي نَعِيمِ الْحَيَاةِ بِمِقْدَارِ نِطَاقِ حَيَاتِهِ.
وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ قَدْ تَضَمَّنَ الْمَأْكُولَ وَالْآكِلَ صَحَّ أَنْ تُشَبَّهَ بِهِ رَغَبَاتُ النَّاسِ فِي تَنَاوُلِ لَذَائِذِ الْحَيَاةِ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ مَرَاتِبِ الْهِمَمِ، وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ تَشْبِيهَ مَعَالِي الْأُمُورِ مِنْ نِعَمِ الدُّنْيَا الَّتِي تَسْمُو إِلَيْهَا الْهِمَمُ الْعَوَالِي بِالنَّبَاتِ الَّذِي يَقْتَاتُهُ النَّاسُ، وَتَشْبِيهَ سَفَاسِفِ الْأُمُورِ بِالنَّبَاتِ الَّذِي يَأْكُلُهُ الْأَنْعَامُ، وَيَتَضَمَّنُ تَشْبِيهَ الَّذِينَ يَجْنَحُونَ إِلَى تِلْكَ السَّفَاسِفِ بِالْأَنْعَامِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ [مُحَمَّد: ١٢].
وَالْقَوْلُ فِي حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها كَالْقَوْلِ فِي قَوْلِهِ: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ [يُونُس: ٢٢]، وَهُوَ غَايَةٌ شُبِّهَ بِهَا بُلُوغُ الِانْتِفَاعِ بِخَيْرَاتِ الدُّنْيَا إِلَى أَقْصَاهُ وَنُضُوجِهِ وَتَمَامِهِ وَتَكَاثُرِ أَصْنَافِهِ وَانْهِمَاكِ النَّاسِ فِي تَنَاوُلِهَا وَنِسْيَانِهِمُ الْمَصِيرَ إِلَى الْفَنَاءِ.
وَأَمْرُ اللَّهِ: تَقْدِيرُهُ وَتَكْوِينُهُ. وَإِتْيَانُهُ: إِصَابَةُ تِلْكَ الْأَرْضِ بِالْجَوَائِحِ الْمُعَجَّلَةِ لَهَا بِالْيُبْسِ وَالْفَنَاءِ.
وَ (مَا) فِي قَوْلِهِ: مَا يَعْبُدُ آباؤُنا مَوْصُولَةٌ صَادِقَةٌ عَلَى الْمَعْبُودَاتِ. وَمَعْنَى تَرَكِهَا تَرْكُ عِبَادَتِهَا كَمَا يُؤْذِنُ بِهِ فِعْلُ يَعْبُدُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةٌ بِتَقْدِيرِ: أَنْ نَتْرُكَ مِثْلَ عِبَادَةِ آبَائِنَا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ «أَصَلَوَاتُكَ» بِصِيغَةِ جَمْعِ صَلَاةٍ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ، وَخَلَفٌ «أَصَلَاتُكَ» بِصِيغَةِ الْمُفْرَدِ.
وأَوْ مِنْ قَوْلِهِ: أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا مَا نَشؤُا لِتَقْسِيمِ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَا يَتَّجِرُ فَلَا يُطَفِّفُ فِي الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ فَهُوَ قِسْمٌ آخَرُ مُتَمَيِّزٌ عَنْ بَقِيَّةِ الْأُمَّةِ بِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِتَرْكِ التَّطْفِيفِ. فَقَوْلُهُ: أَنْ نَفْعَلَ عَطْفٌ عَلَى مَا يَعْبُدُ آباؤُنا، أَيْ أَنْ نَتْرُكَ فِعْلَ مَا نَشَاءُ فِي أَمْوَالِنَا فَنَكُونَ طَوْعَ أَمْرِكَ نَفْعَلُ مَا تَأْمُرُنَا بِفِعْلِهِ وَنَتْرُكُ مَا تَأْمُرُنَا بِتَرْكِهِ.
وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنْ لَا دَاعِيَ إِلَى جَعْلِ أَوْ بِمَعْنَى وَاوِ الْجَمْعِ، كَمَا دَرَجَ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ
الْمُفَسِّرِينَ مِثْلَ الْبَيْضَاوِيُّ وَالْكَوَاشِيُّ وَجَعَلُوهُ عَطْفًا عَلَى نَتْرُكَ فَتَوَجَّسُوا عَدَمَ اسْتِقَامَةِ الْمَعْنَى كَمَا قَالَ الطَّبَرِيُّ. وَتَأَوَّلَهُ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَالْآخَرُ عَنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، أَحَدُهُمَا مَبْنِيٌّ عَلَى تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ وَالْآخَرُ عَلَى تَأْوِيلِ فِعْلِ تَأْمُرُكَ وَكِلَاهُمَا تَكَلُّفٌ. وَأَمَّا الْأَكْثَرُ فَصَارُوا إِلَى صَرْفِ أَوْ عَنْ مُتَعَارَفِ مَعْنَاهَا وَقَدْ كَانُوا فِي سَعَةٍ عَنْ ذَلِكَ. وَسَكَتَ عَنْهُ كَثِيرٌ مِثْلُ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ». وَأَوْمَأَ الْبَغَوِيُّ وَالنَّسَفِيُّ إِلَى مَا صَرَّحْنَا بِهِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ اسْتِئْنَافُ تَهَكُّمٍ آخَرَ. وَقَدْ جَاءَتِ الْجُمْلَةُ مُؤَكَّدَةٌ بِحَرْفِ (إِنَّ) وَلَامِ الْقَسَمِ، وَبِصِيغَةِ الْقَصْرِ فِي جُمْلَةِ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ فَاشْتَمَلَتْ عَلَى أَرْبَعَةِ مُؤَكِّدَاتٍ.
وَالْحَلِيمُ، زِيَادَةٌ فِي التَّهَكُّمِ: ذُو الْحِلْمِ أَيِ الْعَقْلِ، وَالرَّشِيدُ: الْحَسَنُ التَّدْبِيرِ فِي المَال.
وَجُمْلَةُ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ هِيَ نَتِيجَةٌ لِكَوْنِهِ رَبًّا وَاحِدًا. وَلكنهَا كَالنَّتِيجَةِ لِذَلِكَ فُصِلَتْ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الِاتِّصَالِ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورَيْنِ وَهُمَا عَلَيْهِ وإِلَيْهِ لِإِفَادَةِ اخْتِصَاصِ التَّوَكُّلِ وَالْمَتَابِ بِالْكَوْنِ عَلَيْهِ، أَيْ لَا عَلَى غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا تَوَحَّدَ بِالرُّبُوبِيَّةِ كَانَ التَّوَكُّلُ عَلَيْهِ، وَلَمَّا اتَّصَفَ بِالرَّحْمَانِيَّةِ كَانَ الْمَتَابُ إِلَيْهِ، لِأَنَّ رَحْمَانِيَّتَهُ مَظِنَّةٌ لِقَبُولِهِ تَوْبَةَ عَبْدِهِ.
وَالْمَتَابُ: مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ عَلَى وَزْنِ مَفْعَلٍ، أَيِ التَّوْبَةُ، يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَصَادِرِ الْمِيمِيَّةِ أَنَّهَا أَسْمَاءُ زَمَانٍ جُعِلَتْ كِنَايَةً عَنِ الْمَصْدَرِ، ثُمَّ شَاعَ اسْتِعْمَالُهَا حَتَّى صَارَتْ كَالصَّرِيحِ.
وَلَمَّا كَانَ الْمَتَابُ مُتَضَمِّنًا مَعْنَى الرُّجُوعِ إِلَى مَا يَأْمُرُ اللَّهُ بِهِ عُدِّيَ الْمَتَابُ بِحَرْفِ إِلَى.
وَأَصْلُ مَتابِ مَتَابِي- بِإِضَافَةٍ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ- فَحُذِفَتِ الْيَاءُ تَخْفِيفًا وَأُبْقِيَتِ الْكَسْرَةُ دَلِيلًا عَلَى الْمَحْذُوفِ كَمَا حذف فِي النادي الْمُضَافِ إِلَى الْيَاء.
[٣١]
[سُورَة الرَّعْد (١٣) : آيَة ٣١]
وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٣١)
وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً.
يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا أَنَّ رِسَالَتَهُ لَمْ تَكُنْ إِلَّا مِثْلَ رِسَالَةِ غَيْرِهِ مِنَ الرُّسُلِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ صِفَةُ أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ، فَتَكُونُ جُمْلَةُ وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً تَتِمَّةً لِلْجَوَابِ عَنْ قَوْلِهِمْ: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ.
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها مَا يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (٣١) مُسْتَأْنَفَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ، وَهِيَ كَلَامٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى مِثْلُ نَظِيرِهَا فِي آيَةِ قُلْ يَا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ [١٠]، وَلَيْسَتْ مِنْ حِكَايَةِ قَوْلِ الَّذِينَ اتَّقَوْا.
وَالَّذِينَ أَحْسَنُوا: هُمُ الْمُتَّقُونَ فَهُوَ مِنَ الْإِظْهَارِ فِي مقَام الْإِضْمَار توصّلا بِالْإِتْيَانِ بالموصول إِلَى الْإِيمَاء إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ، أَيْ جَزَاؤُهُمْ حَسَنَةٌ لِأَنَّهُمْ أَحْسَنُوا.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فِي هذِهِ الدُّنْيا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِفِعْلِ أَحْسَنُوا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا حَالًا مِنْ حَسَنَةٌ. وَانْظُرْ مَا يَأْتِي فِي نَظَرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ سُورَةِ الزُّمَرِ من نُكْتَة هَذَا التوسيط.
وَمَعْنَى وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ أَنَّهَا خَيْرٌ لَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا فَإِذَا كَانَتْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةٌ فَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ أَحْسَنُ، فَكَمَا كَانَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابُ الدُّنْيَا وَعَذَابُ جَهَنَّمَ كَانَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا خَيْرُ الدُّنْيَا وَخَيْرُ الْآخِرَةِ. فَهَذَا مُقَابِلُ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي حَقِّ الْمُشْرِكِينَ لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً [سُورَة النَّحْل: ٢٥] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ [سُورَة النَّحْل: ٢٦].
وَحَسَنَةُ الدُّنْيَا هِيَ الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ وَمَا فَتَحَ اللَّهُ لَهُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا مَعَ نِعْمَةِ الْإِيمَانِ.
وَخَيْرُ الْآخِرَةِ هُوَ النَّعِيمُ الدَّائِمُ، قَالَ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً
وَ (مِنْ) مَزِيدَةٌ بَعْدَ (إِنِ) النَّافِيَةِ لِتَأْكِيدِ اسْتِغْرَاقِ مَدْخُولِهَا بِاعْتِبَارِ الصِّفَةِ الْمُقَدَّرَةِ، أَيْ جَمِيعِ الْقُرَى الْكَافِرَةِ كَيْلَا يَحْسَبَ أَهْلُ مَكَّةَ عَدَمَ شُمُولِهِمْ.
وَالْكِتَابُ: مُسْتَعَارٌ لِعِلْمِ اللَّهِ وَسَابِقِ تَقْدِيرِهِ، فَتَعْرِيفُهُ لِلْعَهْدِ أَوْ أُرِيدَ بِهِ الْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، فَتَعْرِيفُهُ لِلْجِنْسِ فَيَشْمَلُ الْقُرْآنَ وَغَيْرَهُ.
وَالْمَسْطُورُ: الْمَكْتُوبُ، يُقَالُ: سَطَّرَ الْكِتَابَ إِذَا كَتَبَهُ سُطُورًا، قَالَ تَعَالَى: وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ [الْقَلَم: ١].
[٥٩]
[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧) : آيَة ٥٩]
وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (٥٩)
وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها هَذَا كَشْفُ شُبْهَةٍ أُخْرَى مِنْ شُبَهِ تَكْذِيبِهِمْ إِذْ كَانُوا يسْأَلُون النَّبِي أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِآيَاتٍ عَلَى حَسَبِ اقْتِرَاحِهِمْ، وَيَقُولُونَ: لَوْ كَانَ صَادِقًا وَهُوَ يَطْلُبُ مِنَّا أَنْ نُؤْمِنَ بِهِ لَجَاءَنَا بِالْآيَاتِ الَّتِي سَأَلْنَاهُ، غُرُورًا بِأَنْفُسِهِمْ أَنَّ اللَّهَ يَتَنَازَلُ لِمُبَارَاتِهِمْ.
وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها الْآيَة [الْإِسْرَاء:
٥٨]، أَيْ إِنَّمَا أَمْهَلْنَا الْمُتَمَرِّدِينَ عَلَى الْكُفْرِ إِلَى أَجَلِ نُزُولِ الْعَذَابِ وَلَمْ نُجِبْهُمْ إِلَى مَا طَلَبُوا مِنَ الْآيَاتِ لِعَدَمِ جَدْوَى إِرْسَالِ الْآيَاتِ للأولين من قبيلهم فِي الْكُفْرِ عَلَى حَسَبِ اقْتِرَاحِهِمْ فَكَذَّبُوا بِالْآيَاتِ.
وَحَقِيقَةُ الْمَنْعِ: كَفُّ الْفَاعِلِ عَنْ فِعْلٍ يُرِيد فعله أَوْ يَسْعَى فِي فِعْلِهِ، وَهَذَا مُحَالٌ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى إِذْ لَا مُكْرِهَ لِلْقَادِرِ الْمُخْتَارِ. فَالْمَنْعُ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلصَّرْفِ عَنِ الْفِعْلِ وَعَدَمِ إِيقَاعِهِ
دُونَ مُحَاوَلَةِ إِتْيَانِهِ.
وَالْإِرْسَالُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً فَيَكُونُ مَفْعُولُ أَنْ نُرْسِلَ مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُ نُرْسِلَ. وَالتَّقْدِيرُ: أَنْ نُرْسِلَ رَسُولَنَا، فَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِالْآياتِ
يُفِيدُ عُمُومَ تَصَرُّفِهِ تَعَالَى فِي سَائِرِ الْكَائِنَاتِ، ثُمَّ فَرَّعَ عَلَيْهِ أَمْرَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِعِبَادَتِهِ، فَقَدِ انْتَقَلَ الْخِطَابُ إِلَيْهِ.
وَارْتَفَعَ رَبُّ السَّماواتِ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ مُلْتَزِمَ الْحَذْفِ فِي الْمَقَامِ الَّذِي يُذْكَرُ فِيهِ أَحَدٌ بِأَخْبَارٍ وَأَوْصَافٍ ثُمَّ يُرَادُ تَخْصِيصُهُ بِخَبَرٍ آخَرَ. وَهَذَا الْحَذْفُ سَمَّاهُ السَّكَّاكِيُّ بِالْحَذْفِ الَّذِي اتُّبِعَ فِيهِ الِاسْتِعْمَالُ كَقَوْلِ الصَّوْلِيِّ أَوِ ابْنُ الزُّبَيْرِ- بِفَتْحِ الزَّايِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ-:
سَأَشْكُرُ عَمْرًا إِنْ تَرَاخَتْ مَنِيَّتِي أَيَادِيَ لَمْ تُمْنَنْ وَإِنْ هِيَ جَلَّتِ
فَتًى غَيْرُ مَحْجُوبِ الْغِنَى عَنْ صَدِيقِهِ وَلَا مُظْهِرِ الشَّكْوَى إِذَا النَّعْلُ زَلَّتِ
وَالسَّمَاوَاتُ: الْعَوَالِمُ الْعُلْوِيَّةُ. وَالْأَرْضُ: الْعَالَمُ السُّفْلِيُّ، وَمَا بَيْنَهُمَا: الْأَجْوَاءُ وَالْآفَاقُ. وَتِلْكَ الثَّلَاثَةُ تَعُمُّ سَائِرَ الْكَائِنَاتِ.
وَالْخِطَابُ فِي فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ وهَلْ تَعْلَمُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَتَفْرِيعُ الْأَمْرِ بِعِبَادَتِهِ عَلَى ذَلِكَ ظَاهِرُ الْمُنَاسِبَةِ وَيَحْصُلُ مِنْهُ التَّخَلُّصُ إِلَى التَّنْوِيهِ بِالتَّوْحِيدِ وَتَفْظِيعِ الْإِشْرَاكِ.
وَالِاصْطِبَارِ: شِدَّةُ الصَّبْرِ عَلَى الْأَمْرِ الشَّاقِّ، لِأَنَّ صِيغَةَ الِافْتِعَالِ تَرِدُ لِإِفَادَةِ قُوَّةِ الْفِعْلِ. وَكَانَ الشَّأْنُ أَنْ يُعَدَّى الِاصْطِبَارُ بِحَرْفِ (عَلَى) كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها [طه: ١٣٢] وَلكنه عُدِّيَ هُنَا بِاللَّامِ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى الثَّبَاتِ. أَيِ اثْبُتْ لِلْعِبَادَةِ، لِأَنَّ الْعِبَادَةَ مَرَاتِبٌ كَثِيرَةٌ مِنْ مُجَاهَدَةِ النَّفْسِ، وَقَدْ يَغْلِبُ بَعْضُهَا بَعْضَ النُّفُوسِ فَتَسْتَطِيعَ الصَّبْرَ عَلَى بَعْضِ الْعِبَادَاتِ دُونَ بَعْضٍ كَمَا
قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاةِ الْعِشَاءِ: «هِيَ
أَثْقَلُ صَلَاةٍ عَلَى الْمُنَافِقِينَ»

. فَلِذَلِكَ لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِالصَّبْرِ عَلَى الْعِبَادَةِ كُلِّهَا وَفِيهَا أَصْنَافٌِِ
إِلَى الْحِكَايَةِ عَنْ حَالِ أُمَمِهِمْ فِي حَيَاتِهِمْ أَوِ الَّذِينَ جَاءُوا بَعْدَهُمْ مِثْلَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى إِذْ نَقَضُوا وَصَايَا أَنْبِيَائِهِمْ. وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي تَكُونُ ضَمَائِرُ الْغَيْبَةِ الْتِفَاتًا.
ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ عَاطِفَةً قِصَّةً عَلَى قِصَّةٍ لِمُنَاسَبَةٍ وَاضِحَةٍ كَمَا عُطِفَ نَظِيرُهَا بِالْفَاءِ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ. وَيَجُوزُ كَوْنُهَا لِلْحَالِ، أَيْ أَمَرْنَا الرُّسُلَ بِمِلَّةِ الْإِسْلَامِ، وَهِيَ الْمِلَّةُ الْوَاحِدَةُ، فَكَانَ مِنْ ضَلَالِ الْمُشْرِكِينَ أَنْ تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ وَخَالَفُوا الرُّسُلَ وَعَدَلُوا عَنْ دِينِ
التَّوْحِيدِ وَهُوَ شَرِيعَةُ إِبْرَاهِيمَ أَصْلِهِمْ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْوَجْهَ أَنَّ نَظِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ جَاءَ فِيهِ الْعَطْفُ بِفَاءِ التَّفْرِيعِ.
وَالتَّقَطُّعُ: مُطَاوِعُ قَطَعَ، أَيْ تَفَرَّقُوا. وَأَسْنَدَ التَّقَطُّعَ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا أَنْفُسَهُمْ فِرَقًا فَعَبَدُوا آلِهَةً مُتَعَدِّدَةً وَاتَّخَذَتْ كُلُّ قَبِيلَةٍ لِنَفْسِهَا إِلَهًا مِنَ الْأَصْنَامِ مَعَ اللَّهِ، فَشَبَّهَ فِعْلَهُمْ ذَلِكَ بِالتَّقَطُّعِ.
وَفِي «جَمْهَرَةِ الْأَنْسَابِ» لِابْنِ حَزْمٍ: «كَانَ الْحُصَيْنُ بْنُ عُبَيْدٍ الْخُزَاعِيُّ، وَهُوَ وَالِدُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ لَقِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ: يَا حُصَيْنُ مَا تَعْبُدُ؟ قَالَ: عَشَرَةَ آلِهَةٍ، قَالَ: مَا هُمْ وَأَيْنَ هُمْ؟ قَالَ: تِسْعَةٌ فِي الْأَرْضِ وَوَاحِدٌ فِي السَّمَاءِ. قَالَ: فَمَنْ لِحَاجَتِكَ؟ قَالَ: الَّذِي فِي السَّمَاءِ، قَالَ: فَمَنْ لِطِلْبَتِكَ؟ قَالَ: الَّذِي فِي السَّمَاءِ، قَالَ: فَمَنْ لِكَذَا؟ فَمَنْ لِكَذَا؟ كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ: الَّذِي فِي السَّمَاءِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: فَأَلْغِ التِّسْعَةَ». وَفِي كِتَابِ الدَّعَوَاتِ: مِنْ «سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ» :«أَنَّهُ قَالَ: سَبْعَةً سِتَّةٌ فِي الْأَرْضِ وَوَاحِدٌ فِي السَّمَاءِ»
. وَالْأَمْرُ: الْحَالُ. وَالْمُرَادُ بِهِ الدِّينُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ فِي [سُورَةِ الْأَنْعَامِ: ١٥٩].
وَلَمَّا ضَمِنَ تَقَطَّعُوا مَعْنَى تَوَزَّعُوا عُدِّيَ إِلَى «دِينِهِمْ» فَنَصَبَهُ، وَالْأَصْلُ: تَقَطَّعُوا فِي دِينِهِمْ وَتَوَزَّعُوهُ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ سُورَةٌ مُبْتَدَأٌ وَيَكُونَ قَوْلُهُ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي [النُّور: ٢] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ خَبَرًا عَنْ سُورَةٌ وَيَكُونَ الِابْتِدَاءُ بِكَلِمَةِ سُورَةٌ ثُمَّ أُجْرِيَ عَلَيْهِ مِنَ الصِّفَاتِ تَشْوِيقًا إِلَى مَا يَأْتِي بَعْدَهُ مِثْلَ
قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَلِمَتَانِ حبيبتان إِلَى الرحمان خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ»
. وَأَحْسَنُ وُجُوهِ التَّقْدِيرِ مَا كَانَ مُنْسَاقًا إِلَيْهِ ذِهْنُ السَّامِعِ دُونَ كُلْفَةٍ، فَدَعْ عَنْكَ التَّقَادِيرَ الْأُخْرَى الَّتِي جَوَّزُوهَا هُنَا.
وَمَعْنَى سُورَةٌ جُزْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ مُعَيَّنٌ بِمَبْدَأٍ وَنِهَايَةٍ وَعَدَدِ آيَاتٍ. وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ الثَّامِنَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ.
وَجُمْلَةُ: أَنْزَلْناها وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِ سُورَةٌ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ تِلْكَ الْأَوْصَافِ التَّنْوِيهُ بِهَذِهِ السُّورَةِ لِيُقْبِلَ الْمُسْلِمُونَ بِشَرَاشِرِهِمْ عَلَى تَلَقِّي مَا فِيهَا. وَفِي ذَلِكَ امْتِنَانٌ على الْأمة بتحديد أَحْكَامِ سِيرَتِهَا فِي أَحْوَالِهَا.
فَفِي قَوْلِهِ: أَنْزَلْناها تَنْوِيهٌ بِالسُّورَةِ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ «أَنْزَلْنَا» مِنَ الْإِسْنَادِ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ الدَّالِّ عَلَى الْعِنَايَةِ بِهَا وَتَشْرِيفِهَا. وَعَبَّرَ بِ «أَنْزَلْنَا» عَنِ ابْتِدَاءِ إِنْزَالِ آيَاتِهَا بَعْدَ أَنْ قَدَّرَهَا اللَّهُ بِعِلْمِهِ بِكَلَامِهِ النَّفْسِيِّ. فَالْمَقْصُودُ مِنْ إِسْنَادِ إِنْزَالِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى تَنْوِيهٌ بِهَا. وَعَبَّرَ عَنْ إِنْزَالِهَا بِصِيغَةِ الْمُضِيِّ وَإِنَّمَا هُوَ وَاقِعٌ فِي الْحَالِ بِاعْتِبَارِ إِرَادَةِ إِنْزَالِهَا، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَرَدْنَا إِنْزَالَهَا وَإِبْلَاغَهَا، فَجُعِلَ ذَلِكَ الِاعْتِنَاءُ كَالْمَاضِي حِرْصًا عَلَيْهِ. وَهَذَا مِنَ اسْتِعْمَالِ الْفِعْلِ فِي مَعْنَى إِرَادَةِ وُقُوعِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [الْمَائِدَة: ٦] الْآيَةَ.
وَالْقَرِينَةُ قَوْلُهُ: وَفَرَضْناها وَمَعْنَى فَرَضْناها عِنْدَ الْمُفَسِّرِينَ: أَوْجَبْنَا الْعَمَلَ بِمَا فِيهَا. وَإِنَّمَا يَلِيقُ هَذَا التَّفْسِيرُ بِالنَّظَرِ إِلَى مُعْظَمِ هَذِهِ السُّورَةِ لَا إِلَى جَمِيعِهَا فَإِنَّ مِنْهَا مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ عَمَلٌ كَقَوْلِهِ: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [النُّور: ٣٥] الْآيَاتِ وَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ [النُّور: ٣٩].
نِظَامِ تِلْكَ الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا كَانَ حَالُ الْإِشْرَاكِ فِي الْعَرَبِ فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا لِأَنَّ اللَّهَ مِنْ جُمْلَةِ مَعْبُودِيهِمْ، أَيْ إِلَّا الرَّبَّ الَّذِي خَلَقَ الْعَوَالِمَ. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ أَصْنَامِ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ. وَانْظُرْ مَا يَأْتِي فِي سُورَة العنكبوت.
[٧٨- ٨٢]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ٧٨ إِلَى ٨٢]
الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (٨٢)
الْأَظْهَرُ أَنَّ الْمَوْصُولَ فِي مَوْضِعِ نَعْتٍ لِ رَبَّ الْعالَمِينَ [الشُّعَرَاء: ٧٧] وَأَنَّ فَهُوَ يَهْدِينِ عَطْفٌ عَلَى الصِّلَةِ مُفَرَّعٌ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ هُوَ الْخَالِقُ فَهُوَ الْأَوْلَى بِتَدْبِيرِ مَخْلُوقَاتِهِ دُونَ أَنْ يَتَوَلَّاهَا غَيْرُهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْصُولُ مُبْتَدَأً مُسْتَأْنَفًا بِهِ وَيَكُونَ فَهُوَ يَهْدِينِ خَبَرًا عَنْ الَّذِي. وَزِيدَتِ الْفَاءُ فِي الْخَبَرِ لِمُشَابَهَةِ الْمَوْصُولِ لِلشَّرْطِ. وَعَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ فَفِي الْمَوْصُولِيَّةِ إِيمَاءٌ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ وَهُوَ الِاسْتِدْرَاكُ بِالِاسْتِثْنَاءِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ [الشُّعَرَاء: ٧٧]، أَيْ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي أُخْلِصُ لَهُ لِأَنَّهُ خَلَقَنِي كَقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الْأَنْعَام: ٧٩].
وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ فِي قَوْلِهِ: فَهُوَ يَهْدِينِ دُونَ أَنْ يَقُولَ:
فَيَهْدِينِ، لِتَخْصِيصِهِ بِأَنَّهُ مُتَوَلِّي الْهِدَايَةِ دُونَ غَيْرِهِ لِأَنَّ الْمَقَامَ لِإِبْطَالِ اعْتِقَادِهِمْ تَصَرُّفَ أَصْنَامَهُمْ بِالْقَصْرِ الْإِضَافِيِّ، وَهُوَ قَصْرُ قَلْبٍ. وَلَيْسَ الضَّمِيرُ ضَمِيرَ فَصْلٍ لِأَنَّ ضَمِيرَ الْفَصْلِ لَا يَقَعُ بَعْدَ الْعَاطِفِ.
وَالتَّعْبِيرُ بِالْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: يَهْدِينِ لِأَنَّ الْهِدَايَةَ مُتَجَدِّدَةٌ لَهُ. وَجُعِلَ فِعْلُ الْهِدَايَةِ مُفَرَّعًا بِالْفَاءِ عَلَى فِعْلِ الْخَلْقِ لِأَنَّهُ مُعَاقِبٌ لَهُ لِأَنَّ الْهِدَايَةَ بِهَذَا الْمَعْنَى مِنْ مُقْتَضَى الْخَلْقِ لِأَنَّهَا نَاشِئَةٌ عَنْ خَلْقِ الْعَقْلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه:
٥٠]. وَالْمُرَادُ بِالْهِدَايَةِ الدَّلَالَةُ عَلَى طُرُقِ الْعِلْمِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [الْبَلَد: ١٠] فَيَكُونُ الْمَعْنَى: الَّذِي خَلَقَنِي جَسَدًا وَعَقْلًا. وَمِنَ الْهِدَايَةِ الْمَذْكُورَةِ دَفْعُ وَسَاوِسِ الْبَاطِلِ عَنِ الْعَقْلِ حَتَّى يَكُونَ إِعْمَالُ النَّظَرِ مَعْصُومًا مِنَ الْخَطَأِ.
الْأَشَاعِرَةِ أَنَّ اللَّهَ يُخَاطِبُ بِالْإِيمَانِ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ مِثْلَ أَبِي جَهْلٍ لِأَنَّ التَّعَلُّقَ التَّكْوِينِيَّ غَيْرُ التَّعَلُّقِ التَّشْرِيعِيِّ.
وَبَين هَواهُ وهُدىً جِنَاسٌ مُحَرَّفٌ وجناس خطّ.
[٥١]
[سُورَة الْقَصَص (٢٨) : آيَة ٥١]
وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥١)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ [الْقَصَص: ٤٧] الْآيَةَ، وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا مِنْ قَوْلِهِ فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسى [الْقَصَص: ٤٨].
وَالتَّوْصِيلُ: مُبَالَغَةٌ فِي الْوَصْلِ، وَهُوَ ضَمُّ بَعْضِ الشَّيْءِ إِلَى بَعْضٍ يُقَالُ: وَصَلَ الْحَبْلَ إِذَا ضَمَّ قِطَعَهُ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ فَصَارَ حَبْلًا.
وَالْقَوْلُ مُرَادٌ بِهِ الْقُرْآنُ قَالَ تَعَالَى إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ [الطارق: ١٣] وَقَالَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [الحاقة: ٤٠]، فَالتَّعْرِيفُ لِلْعَهْدِ، أَيِ الْقَوْلُ الْمَعْهُودُ. وَلِلتَّوْصِيلِ أَحْوَالٌ كَثِيرَةٌ فَهُوَ بِاعْتِبَارِ أَلْفَاظِهِ وُصِّلَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ وَلَمْ يَنْزِلْ جُمْلَةً وَاحِدَةً، وَبِاعْتِبَارِ مَعَانِيهِ وُصِّلَ أَصْنَافًا
مِنَ الْكَلَامِ: وَعْدًا، وَوَعِيدًا، وَتَرْغِيبًا، وَتَرْهِيبًا، وَقَصَصًا وَمَوَاعِظَ وَعِبَرًا، وَنَصَائِحَ يَعْقُبُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَيَنْتَقِلُ مِنْ فَنٍّ إِلَى فَنٍّ وَفِي كُلِّ ذَلِكَ عَوْنٌ عَلَى نَشَاطِ الذِّهْنِ لِلتَّذَكُّرِ وَالتَّدَبُّرِ.
وَاللَّامُ وَ (قَدْ) كِلَاهُمَا لِلتَّأْكِيدِ رَدًّا عَلَيْهِ إِذْ جَهِلُوا حِكْمَةَ تَنْجِيمِ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَذُكِرَتْ لَهُمْ حِكْمَةُ تَنْجِيمِهِ هُنَا بِمَا يَرْجِعُ إِلَى فَائِدَتِهِمْ بقوله لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. وَذُكِرَ فِي آيَةِ سُورَةِ الْفُرْقَانِ [٣٢] حِكْمَةٌ أُخْرَى رَاجِعَةٌ إِلَى فَائِدَةِ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا (١) لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَفُهِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمْ يَتَذَكَّرُوا.
وَضَمِيرُ لَهُمُ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْركين.
[٥٢- ٥٣]
_________
(١) فِي المطبوعة وَقَالُوا لَوْلَا.
وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ فِي قَوْلِهِ مِنَ النَّاسِ لِلتَّشْوِيقِ إِلَى تَلَقِّي خَبَرِهِ الْعَجِيبِ. وَالِاشْتِرَاءُ كِنَايَةٌ عَنِ الْعِنَايَةِ بِالشَّيْءِ وَالِاغْتِبَاطِ بِهِ وَلَيْسَ هُنَا اسْتِعَارَةً بِخِلَافِ قَوْلِهِ أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦] فَالِاشْتِرَاءُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي صَرِيحِهِ وَكِنَايَتِهِ: فَالصَّرِيحُ تَشْوِيهٌ لِاقْتِنَاءِ النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ قِصَصَ رُسْتَمَ وَإِسْفِنْدِيَارَ وَبَهْرَامَ، وَالْكِنَايَةُ تَقْبِيحٌ لِلَّذِينَ الْتَفُّوا حَوْلَهُ وَتَلَقَّوْا أَخْبَارَهُ، أَيْ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْغَلُهُ لَهْوُ الْحَدِيثِ وَالْوَلَعُ بِهِ عَنِ الِاهْتِدَاءِ بِآيَاتِ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ.
وَاللَّهْوُ: مَا يُقْصَدُ مِنْهُ تَشْغِيلُ الْبَالِ وَتَقْصِيرُ طُولِ وَقْتِ الْبِطَالَةِ دُونَ نَفْعٍ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَتْ فِي ذَلِكَ مَنْفَعَةٌ لَمْ يَكُنِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ اللَّهْوَ بَلْ تِلْكَ الْمَنْفَعَةُ. ولَهْوَ الْحَدِيثِ مَا كَانَ مِنَ الْحَدِيثِ مُرَادًا لِلَّهْوِ فَإِضَافَةُ لَهْوَ إِلَى الْحَدِيثِ عَلَى مَعْنَى مِنَ التَّبْعِيضِيَّةِ عَلَى رَأْيِ بَعْضِ النُّحَاةِ، وَبَعْضُهُمْ لَا يُثْبِتُ الْإِضَافَةَ عَلَى مَعْنَى مِنَ التَّبْعِيضِيَّةِ فَيَرُدُّهَا إِلَى مَعْنَى اللَّامِ.
وَتَقَدَّمَ اللَّهْوُ فِي قَوْلِهِ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٣٢].
وَالْأَصَحُّ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ أَنَّهُ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ فَإِنَّهُ كَانَ يُسَافِرُ فِي تِجَارَةٍ إِلَى بِلَادِ فَارِسَ فَيَتَلَقَّى أَكَاذِيبَ الْأَخْبَارِ عَنْ أَبْطَالِهِمْ فِي الْحُرُوبِ الْمَمْلُوءَةِ أُكْذُوبَاتٍ فَيَقُصُّهَا عَلَى قُرَيْشٍ فِي أَسْمَارِهِمْ وَيَقُولُ: إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ يُحَدِّثُكُمْ بِأَحَادِيثِ عَادٍ وَثَمُودَ فَأَنَا أُحَدِّثُكُمْ بِأَحَادِيثِ رُسْتَمَ وَإِسْفِنْدِيَارَ وَبَهْرَامَ. وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ قَالَ: إِنَّ النَّضْرَ كَانَ يَشْتَرِي مِنْ بِلَادِ فَارِسَ كُتُبَ أَخْبَارِ مُلُوكِهِمْ فَيُحَدِّثُ بِهَا قُرَيْشًا، أَيْ بِوَاسِطَةِ مَنْ يُتَرْجِمُهَا لَهُمْ. وَيَشْمَلُ لَفْظُ النَّاسِ أَهْلَ سَامِرِهِ الَّذِينَ يُنْصِتُونَ لِمَا يَقُصُّهُ عَلَيْهِمْ كَمَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى إِثْرَهُ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ.
وَقِيلَ الْمُرَادُ بِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ مَنْ يَقْتَنِي الْقَيْنَاتِ الْمُغَنِّيَاتِ.
رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ عَنِ الْقَاسِمِ بن عبد الرحمان عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: «لَا تَبِيعُوا الْقَيْنَاتِ وَلَا تَشْتَرُوهُنَّ وَلَا خَيْرَ فِي تِجَارَةٍ فِيهِنَّ وَثَمَنُهُنَّ حَرَامٌ»
، فِي مِثْلِ ذَلِكَ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِلَى آخَرِ الْآيَةِ. قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ إِنَّمَا
بِالصُّورَةِ الَّتِي كَانَتْ مُلْتَئَمَةً بِهَا حِينَ الْمَوْتِ ثُمَّ إِرْجَاعُ رُوحِ كُلِّ جَسَدٍ إِلَيْهِ بَعْدَ تَصْوِيرِهِ بِمَا سُمِّيَ بِالنَّفْخِ فَقَالَ: وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى [النَّجْم: ٤٧] وَقَالَ: أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ [ق: ١٥، ١٦] الْآيَةَ. أَيْ فَذَلِكَ يُشْبِهُ خَلْقَ آدَمَ مِنْ تُرَابِ الْأَرْضِ وَتَسْوِيَتِهِ وَنَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ وَذَلِكَ بَيَانٌ مُقْنِعٌ لِلْمُتَأَمِّلِ لَوْ نَصَبُوا أَنْفُسَهُمْ لِلتَّأَمُّلِ.
وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَى مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ مِنَ الْعَنَاصِرِ وَالْقُوَى الدَّقِيقَةِ أَجْزَاؤُهَا الْجَلِيلَةِ آثَارُهَا، وَتَسْيِيرُهَا بِمَا يَشْمَلُ الْأَرْوَاحَ الَّتِي تَحِلُّ فِي الْأَجْسَامِ وَالْقُوَى الَّتِي تودعها فِيهَا.
[٤، ٥]
[سُورَة سبإ (٣٤) : آيَة ٤]
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤)
، [سُورَة سبإ (٣٤) : آيَة ٥]
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (٥)
لَامُ التَّعْلِيلِ تَتَعَلَّقُ بِفعل لَتَأْتِيَنَّكُمْ [سبأ: ٣] دُونَ تَقْيِيدِ الْإِتْيَانِ بِخُصُوصِ الْمُخَاطَبِينَ بل المُرَاد من شَمَلَهُمْ وَغَيْرَهُمْ لِأَنَّ جَزَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا لَا عَلَاقَةَ لَهُ بِالْمُخَاطَبِينَ فَكَأَنَّهُ قِيلَ:
لَتَأْتِيَنَّ السَّاعَةُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ، وَهُمُ الْمُخَاطَبُونَ، وَضَمِيرُ «يَجْزِيَ» عَائِدٌ إِلَى عالِمِ الْغَيْبِ [سبأ: ٣].
وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي إِيجَادِ السَّاعَةِ لِلْبَعْثِ وَالْحَشْرِ هِيَ جَزَاءُ الصَّالِحِينَ عَلَى صَلَاحِ اعْتِقَادِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، أَيْ جَزَاءً صَالِحًا مُمَاثِلًا، وَجَزَاءُ الْمُفْسِدِينَ جَزَاءً سَيِّئًا، وَعُلِمَ نَوْعُ الْجَزَاءِ مِنْ وَصْفِ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ.
وَالْإِتْيَانُ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِكُلِّ فَرِيقٍ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ جَدِيرٌ بِمَا سَيَرِدُ بَعْدَ اسْمِ
الْإِشَارَةِ مِنَ الْحُكْمِ لِأَجْلِ مَا قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنَ الْأَوْصَافِ.
فَجُمْلَةُ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ.
وَجُمْلَةُ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ ابْتِدَائِيَّةٌ أَيْضًا.
وَالْمَعْنَى: فَفَكَّرَ فِي حِيلَةٍ يَخْلُو لَهُ بِهَا بُدُّ أَصْنَامِهِمْ فَقَالَ: إِنِّي سَقِيمٌ لِيَلْزَمَ مَكَانَهُ وَيُفَارِقُوهُ فَلَا يُرِيهم بَقَاؤُهُ حَوْلَ بُدِّهِمْ ثُمَّ يَتَمَكَّنُ مِنْ إِبْطَالِ مَعْبُودَاتِهِمْ بِالْفِعْلِ. وَالْوَجْهُ: أَنَّ التَّعْقِيبَ الَّذِي أَفَادَتْهُ الْفَاءُ مِنْ قَوْلِهِ: فَنَظَرَ تَعْقِيبٌ عُرْفِيٌّ، أَيْ لِكُلِّ شَيْءٍ نَحْسَبُهُ فَيُفِيدُ كَلَامًا مَطْوِيًّا يُشِيرُ إِلَى قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ الَّتِي قَالَ فِيهَا: إِنِّي سَقِيمٌ وَالَّتِي تَفَرَّعَ عَلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَراغَ إِلى أَهْلِهِ [الذاريات: ٢٦] إِلَخْ.
وَتَقْيِيدُ النَّظْرَةِ بِصِيغَةِ الْمَرَّةِ فِي قَوْلِهِ: نَظْرَةً إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ أَلْهَمَهُ الْمَكِيدَةَ وَأَرْشَدَهُ إِلَى الْحُجَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ [الْأَنْبِيَاء: ٥١].
وَقَوْلُهُ: إِنِّي سَقِيمٌ عُذْرٌ انْتَحَلَهُ لِيَتْرُكُوهُ فَيَخْلُو بِبَيْتِ الْأَصْنَامِ لِيَخْلُصَ إِلَيْهَا عَنْ كَثَبٍ فَلَا يَجِدُ مَنْ يَدْفَعُهُ عَنِ الْإِيقَاعِ بِهَا. وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ بَيَانٌ لِهَذَا لِأَنَّهُ غَنِيٌّ عَنِ الْبَيَانِ. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّهُ اعْتَذَرَ عَنْ خُرُوجِهِ مَعَ قَوْمِهِ مِنَ الْمَدِينَةِ فِي يَوْمِ عِيدٍ يَخْرُجُونَ فِيهِ فَزَعَمَ أَنَّهُ مَرِيضٌ لَا يَسْتَطِيعُ الْخُرُوجَ فَافْتَرَضَ إِبْرَاهِيمُ خُرُوجَهُمْ لِيَخْلُوَ بِبُدِّ الْأَصْنَامِ وَهُوَ الْمُلَائِمُ لِقَوْلِهِ: فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ.
وَالسَّقِيمُ: صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ وَهُوَ الْمَرِيضُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الصافات:
٨٤]. يُقَالُ: سَقِمَ بِوَزْنِ مَرِضَ، وَمَصْدَرُهُ السَّقَمُ بِالتَّحْرِيكِ، فَيُقَالُ: سِقَامٌ وَسُقْمٌ بِوَزْنِ قُفْلٍ.
وَالتَّوَلِّي: الْإِعْرَاضُ وَالْمُفَارَقَةُ.
لَمْ ينْطق إِبْرَاهِيم فَإِن النُّجُومَ دَلَّتْهُ عَلَى أَنَّهُ سَقِيمٌ وَلَكِنَّهُ لَمَّا جَعَلَ قَوْلَهُ: إِنِّي سَقِيمٌ مُقَارِنًا لِنَظَرِهِ فِي النُّجُوم أَو هم قَوْمَهَ أَنَّهُ عَرَفَ ذَلِكَ مِنْ دَلَالَةِ النُّجُومِ حَسَبَ أَوْهَامِهِمْ.
ومُدْبِرِينَ حَالٌ، أَيْ وَلَّوْهُ أَدْبَارَهُمْ، أَيْ: ظُهُورَهُمْ. وَالْمَعْنَى: ذَهَبُوا وَخَلَّفُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ بِحَيْثُ لَا يَنْظُرُونَهُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مُدْبِرِينَ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ وَهُوَ مِنَ التَّوْكِيدِ الْمُلَازِمِ لِفِعْلِ التَّوَلِّي غَالِبًا لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنَّهُ تَوَلِّي مُخَالَفَةٍ وَكَرَاهَةٍ دُونَ انْتِقَالِ. وَمَا وَقَعَ فِي التَّفَاسِيرِ فِي مَعْنَى نَظَرِهِ فِي النُّجُومِ وَفِي تَعْيِينِ سُقْمِهِ الْمَزْعُومِ كَلَامٌ لَا يُمْتِعُ بَيْنَ مَوَازِينِ الْمَفْهُومِ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلنُّجُومِ دَلَالَةً عَلَى حُدُوثِ شَيْءٍ مِنْ حَوَادِثِ الْأُمَمِ وَلَا الْأَشْخَاصِ وَمَنْ يَزْعُمْ ذَلِكَ فَقَدْ ضَلَّ
وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ كَذَلِكَ: إِلَى الضَّلَالِ الْمَأْخُوذِ مِنْ قَوْلِهِ: يُضِلُّ اللَّهُ أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ الضَّلَالِ يَضِلُّ اللَّهُ الْمُسْرِفِينَ الْمُرْتَابِينَ، أَيْ أَنَّ ضَلَالَ الْمُشْرِكِينَ فِي تَكْذِيبِهِمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ ضَلَالِ قَوْمِ فِرْعَوْنَ فِي تَكْذِيبِهِمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالْخِطَابُ بِالْكَافِ الْمُقْتَرِنَةِ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ خِطَابٌ لِلْمُسْلِمِينَ.
وَالْمُسْرِفُ: الْمُفْرِطُ فِي فِعْلٍ لَا خَيْرَ فِيهِ. والمرتاب: الشَّديد الرَّيْبِ، أَيِ الشَّكِّ.
وَإِسْنَادُ الْإِضْلَالِ إِلَى اللَّهِ كَإِسْنَادِ نَفْيِ الْهِدَايَةِ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ [غَافِر: ٢٨]، وَتَقَدَّمَ آنِفًا.
وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً خَبَرُهُ كَبُرَ مَقْتاً وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ (مَنْ) فِي قَوْلِهِ: مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ فبيّن أَن مَا صدق (مَنْ) جَمَاعَةٌ لَا وَاحِدٌ، فَرُوعِيَ فِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ لَفَظُ (مَنْ) فَأُخْبِرَ عَنْهُ بِالْإِفْرَادِ، وَرُوعِيَ فِي الْبَدَلِ مَعْنَى (مَنْ) فَأُبْدِلَ مِنْهُ مَوْصُولُ الْجَمْعِ. وَصِلَةُ الَّذِينَ عرف بهَا الْمُشْركُونَ من قُرَيْش قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا [فصلت:
٤٠] وَقَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٤] : مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ.
وَاخْتِيَارُ الْمُضَارِعِ فِي يُجادِلُونَ لِإِفَادَةِ تَجَدُّدِ مُجَادَلَتِهِمْ وَتَكَرُّرِهَا وَأَنَّهُمْ لَا يَنْفَكُّونَ عَنْهَا. وَهَذَا صَرِيحٌ فِي ذَمِّهِمْ وَكِنَايَةٌ عَنْ ذَمِّ جِدَالِهِمْ الَّذِي أَوْجَبَ ضَلَالَهُمْ.
وَفِي الْمَوْصُولِيَّةِ إِيمَاءٌ إِلَى عِلَّةِ إِضْلَالِهِمْ، أَيْ سَبَبُ خَلْقِ الضَّلَالِ فِي قُلُوبِهِمِ الْإِسْرَافُ بِالْبَاطِلِ تكَرر مُجَادَلَتِهُمْ قَصْدًا لِلْبَاطِلِ. وَالْمُجَادَلَةُ: تَكْرِيرُ الِاحْتِجَاجِ لِإِثْبَاتِ مَطْلُوبِ الْمُجَادِلِ وَإِبْطَالِ مَطْلُوبِ مَنْ يُخَالِفُهُ قَالَ تَعَالَى: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النَّحْل: ١٢٥]، فَمِنَ الْمُجَادَلَةِ فِي آيَاتِ اللَّهِ الْمُحَاجَّةُ لِإِبْطَالِ دَلَالَتِهَا، وَمِنْهَا الْمُكَابَرَةُ فِيهَا كَمَا قَالُوا:
وَأَصْلُ الْوَحْيِ: الْإِشَارَةُ الْخَفِيَّةُ، وَمِنْهُ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مَرْيَم:
١١]. وَيُطْلَقُ عَلَى مَا يَجِدُهُ الْمَرْءُ فِي نَفْسِهِ دَفْعَةً كَحُصُولِ مَعْنَى الْكَلَامِ فِي نَفْسِ السَّامِعِ قَالَ عَبِيدُ بْنُ الْأَبْرَصِ:
وَأَوْحَى إِلَيَّ اللَّهُ أَنَّ قَدْ تَآمَرُوا بِإِبْلِ أَبِي أَوْفَى فَقُمْتُ عَلَى رِجْلِ
وَهَذَا الْإِطْلَاقُ هُوَ الْمُرَادُ هُنَا بِقَرِينَةِ الْمُقَابَلَةِ بِالنَّوْعَيْنِ الْآخَرَيْنِ. وَمِنْ هُنَا أُطْلِقَ الْوَحْيُ عَلَى مَا فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْحَيَوَانَ مِنَ الْإِلْهَامِ الْمُتْقَنِ الدَّقِيقِ كَقَوْلِهِ: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [النَّحْلِ: ٦٨]. فَالْوَحْيُ بِهَذَا الْمَعْنَى نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ إِلْقَاءِ كَلَامِ اللَّهِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ وَهُوَ النَّوْعُ الْأَوَّلُ فِي الْعَدِّ، فَأُطْلِقَ الْوَحْيُ عَلَى الْكَلَامِ الَّذِي يَسْمَعُهُ النَّبِيءُ بِكَيْفِيَّةٍ غَيْرِ مُعْتَادَةٍ وَهَذَا الْإِطْلَاقُ مِنْ مُصْطَلَحِ الْقُرْآنِ وَهُوَ الْغَالِبُ فِي إِطْلَاقَاتِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمِنْهُ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ «فَعَلِمْتُ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ» فَقَرَأَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ [النِّسَاء: ٩٥]، وَلَمْ يقل فَنزل إِلَيْهِ جِبْرِيلُ.
وَالْوَحْيُ بِهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ الْوَحْيِ الَّذِي سَيَجِيءُ فِي قَوْلِهِ: أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشاءُ. وَالْمُرَادُ بِالْوَحْيِ هُنَا: إِيقَاعُ مُرَادِ اللَّهِ فِي نَفْسِ النَّبِيءِ يَحْصُلُ لَهُ بِهِ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَهُوَ حُجَّةٌ لِلنَّبِيءِ لِمَكَانِ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ، وَحُجَّةٌ لِلْأُمَّةِ لِمَكَانِ الْعِصْمَةِ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ، وَقَدْ يَحْصُلُ لِغَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُطَّرِدٍ وَلَا مُنْضَبِطٍ مَعَ أَنَّهُ وَاقِعٌ وَقَدْ قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ كَانَ فِيمَا مَضَى قَبْلَكُمْ مِنَ الْأُمَمِ مُحَدَّثُونَ فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي مِنْهُمْ أَحَدٌ فَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ» قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: مُحَدَّثُونَ: مُلْهَمُونَ.
وَمِنْ هَذَا الْوَحْيِ مَرَائِي الْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّهَا وَحْيٌ، وَهِيَ لَيْسَتْ بِكَلَامٍ يُلْقَى إِلَيْهِمْ،
فَفِي الحَدِيث «إِنِّي رَأَيْت دَارَ هِجْرَتِكُمْ وَهِيَ فِي حَرَّةٍ ذَاتِ نَخْلٍ فَوَقَعَ فِي وَهْلِي أَنَّهَا الْيَمَامَةُ أَوْ هَجَرُ فَإِذَا هِيَ طَابَةُ»
. وَقَدْ تَشْتَمِلُ الرُّؤْيَا عَلَى إِلْهَامٍ وَكَلَامٍ مِثْلَ
حَدِيثِ «رَأَيْتُ بَقَرًا تُذْبَحُ وَرَأَيْتُ وَاللَّهُ خَيْرٌ»
فِي رِوَايَةِ رَفْعِ اسْمِ الْجَلَالَةِ، أَيْ رَأَيْتُ هَذِهِ الْكَلِمَةَ، وَقَدْ أول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُؤْيَاهُ الْبَقَرَ الَّتِي تُذْبَحُ بِمَا أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَأَمَّا «وَاللَّهُ خَيْرٌ» فَهُوَ مَا أَتَى اللَّهُ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْخَيْرِ.
الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ: «لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ سُورَةٌ لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ ثُمَّ قَرَأَ إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً
[الْفَتْح: ١]. وَمَعْنَى قَوْلِهِ لَهِيَ
أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ [الْفَتْح: ٢].
وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «أُنْزِلَ عَلَى النَّبِيءِ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ إِلَى قَوْلِهِ: فَوْزاً عَظِيماً [الْفَتْح: ٢- ٥] مَرْجِعَهُ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ فَقَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آيَةٌ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ»
ثُمَّ قَرَأَهَا
. وَهِيَ السُّورَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ بَعْدَ الْمِائَةِ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ فِي قَوْلِ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ.
نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الصَّفِّ وَقَبْلَ سُورَةِ التَّوْبَةِ. وَعِدَّةُ آيِهَا تِسْعٌ وَعِشْرُونَ. وَسَبَبُ نُزُولِهَا مَا
رَوَاهُ الْوَاحِدِيُّ وَابْنُ إِسْحَاقَ عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ قَالَا: «نَزَلَتْ سُورَةُ الْفَتْحِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فِي شَأْنِ الْحُدَيْبِيَةِ وَقَدْ حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ نُسُكِنَا فَنَحْنُ بَيْنَ الْحُزْنِ وَالْكَآبَةِ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آيَةٌ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا»
وَفِي رِوَايَةٍ «مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا».
أَغْرَاضُهَا
تَضَمَّنَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِشَارَةَ الْمُؤْمِنِينَ بِحُسْنِ عَاقِبَةِ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ وَأَنَّهُ نَصْرٌ وَفَتْحٌ فَنَزَلَتْ بِهِ السَّكِينَةُ فِي قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ وَأَزَالَ حُزْنَهُمْ مِنْ صَدِّهِمْ عَنِ الِاعْتِمَارِ بِالْبَيْتِ وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ عِدَّةً لَا تُغْلَبُ مِنْ قِلَّةٍ فَرَأَوْا أَنَّهُمْ عَادُوا كَالْخَائِبِينَ فَأَعْلَمَهُمُ اللَّهُ بِأَنَّ الْعَاقِبَةَ لَهُمْ، وَأَنَّ دَائِرَةَ السَّوْءِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ. وَالتَّنْوِيهَ بكرامة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ رَبِّهِ وَوَعْدَهُ بِنَصْرٍ مُتَعَاقِبٍ. وَالثَّنَاءَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ عَزَّرُوهُ وَبَايَعُوهُ، وَأَنَّ اللَّهَ قَدَّمَ مَثَلَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَفِي الْإِنْجِيلِ.
فِيهِ الْآخَرُ، فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مُحْتَاجًا إِلَى الْآخَرِ لِيَرْضَى بِإِقْرَارِهِ عَلَى إِيجَادِ مَا أَوْجَدَهُ، وَإِلَّا لَقَدَرَ عَلَى نَقْضِ مَا فَعَلَهُ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَعَدِّدِ مُحْتَاجًا إِلَى مَنْ يَسْمَحُ لَهُ بِالتَّصَرُّفِ، قَالَ تَعَالَى: وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ [الْمُؤْمِنُونَ: ٩١] وَقَالَ: قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما تَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا [الْإِسْرَاء: ٤٢] وَقَالَ: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الْأَنْبِيَاء: ٢٢] فَانْتَهَى الْعَقْلُ لَا مَحَالَةَ إِلَى مُنْتَهى.
[٤٣]
[سُورَة النَّجْم (٥٣) : آيَة ٤٣]
وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (٤٣)
انْتِقَالٌ مِنَ الِاعْتِبَارِ بِأَحْوَالِ الْآخِرَةِ إِلَى الِاعْتِبَار بأحوال الْحَيَاة الدُّنْيَا وَضَمِيرُ هُوَ عَائِدٌ إِلَى رَبِّكَ مِنْ قَوْلِهِ: وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى [النَّجْم: ٤٢].
وَالضَّحِكُ: أَثَرُ سُرُورِ النَّفْسِ، وَالْبُكَاءُ: أَثَرُ الْحُزْنِ، وَكُلٌّ مِنَ الضَّحِكِ وَالْبُكَاءِ مِنْ خَوَاصِّ الْإِنْسَانِ وَكِلَاهُمَا خَلْقٌ عَجِيبٌ دَالٌّ عَلَى انْفِعَالٍ عَظِيمٍ فِي النَّفْسِ.
وَلَيْسَ لِبَقِيَّةِ الْحَيَوَانِ ضَحِكٌ وَلَا بُكَاءٌ وَمَا وَرَدَ مِنْ إِطْلَاقِ ذَلِكَ عَلَى الْحَيَوَانِ فَهُوَ كَالتَّخَيُّلِ أَوِ التَّشْبِيهِ كَقَوْلِ النَّابِغَة:
بكاء حَمَاقَة تَدْعُو هَدِيلًا مُطَوَّقَةٍ عَلَى فَنَنٍ تُغَنِّي
وَلَا يَخْلُو الْإِنْسَانُ مِنْ حَالَيْ حُزْنٍ وَسُرُورٍ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ حَزِينًا مَغْمُومًا كَانَ مَسْرُورًا لِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السُّرُورَ وَالِانْشِرَاحَ مُلَازِمًا لِلْإِنْسَانِ بِسَبَبِ سَلَامَةِ مَزَاجِهِ وَإِدْرَاكِهِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ سَالِمًا كَانَ نَشِيطَ الْأَعْصَابِ وَذَلِكَ النَّشَاطُ تَنْشَأُ عَنْهُ الْمَسَرَّةُ فِي الْجُمْلَةِ وَإِنْ كَانَتْ مُتَفَاوِتَةً فِي الضَّعْفِ وَالْقُوَّةِ، فَذِكْرُ الضَّحِكِ وَالْبُكَاءِ يُفِيدُ الْإِحَاطَةَ بِأَحْوَالِ الْإِنْسَانِ بِإِيجَازٍ وَيَرْمُزُ إِلَى أَسْبَابِ الْفَرَحِ وَالْحُزْنِ وَيُذَكِّرُ بِالصَّانِعِ الْحَكِيمِ، وَيُبَشِّرُ إِلَى أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِي الْإِنْسَانِ لِأَنَّهُ خَلَقَ أَسْبَابَ فَرَحِهِ وَنَكَدِهِ وَأَلْهَمَهُ إِلَى اجْتِلَابِ ذَلِكَ بِمَا فِي مَقْدُورِهِ وَجَعَلَ حَدًّا عَظِيمًا مِنْ ذَلِك خَارِجا عَن مَقْدُورِ الْإِنْسَانِ وَذَلِكَ لَا يَمْتَرِي فِيهِ أَحَدٌ إِذَا تَأَمَّلَ وَفِيهِ مَا يُرْشِدُ إِلَى
الْإِقْبَالِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَالتَّضَرُّعِ إِلَيْهِ لِيُقَدِّرَ لِلنَّاسِ أَسْبَابَ الْفَرَحِ، وَيَدْفَعَ عَنْهُمْ أَسْبَابَ الْحُزْنِ
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يَنْفَعُونَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَا لَكُمْ تَرْفُضُونَ حَقَّ اللَّهِ مُرَاعَاةً لَهُمْ وَهُمْ يَفِرُّونَ مِنْكُمْ يَوْمَ اشْتِدَادِ الْهَوْلِ، خَطَّأَ رَأْيَهُمْ فِي مُوَالَاةِ الْكُفَّارِ أَوَّلًا بِمَا يَرْجِعُ إِلَى حَالِ مَنْ وَالَوْهُ. ثُمَّ خَطَّأَهُ ثَانِيًا بِمَا يَرْجِعُ إِلَى حَالِ مَنِ اسْتَعْمَلُوا الْمُوَالَاةَ لِأَجْلِهِمْ، وَهُوَ تَقْسِيمٌ حَاصِرٌ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ مَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ حَاطِبٌ مِنْ أَيِّ جِهَةِ نَظَرٍ إِلَيْهِ يَكُونُ خَطَأً وَبَاطِلًا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ بِبِنَاءِ يَفْصِلُ لِلْمَجْهُولِ مُخَفَّفًا. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَيَعْقُوبُ يَفْصِلُ بِالْبِنَاءِ الْفَاعِل، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ لِعِلْمِهِ مِنَ الْمَقَامِ، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ يَفْصِلُ مُشَدَّدَ الصَّادِ مَكْسُورَةً مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ مُبَالَغَةً فِي الْفَصْلِ، وَالْفَاعِلُ ضَمِيرٌ يَعُودُ إِلَى اللَّهِ الْمَعْلُومِ مِنَ الْمَقَامِ.
وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ يَفْصِلُ بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَتَشْدِيدِ الصَّادِ مَفْتُوحَةً مَبْنِيًّا لِلنَّائِبِ مِنْ فَصَّلَ الْمُشَدِّدِ.
وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَعِيدٌ وَوَعْدٌ.
[٤]
[سُورَة الممتحنة (٦٠) : آيَة ٤]
قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٤)
قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ.
صَدْرُ هَذِهِ الْآيَةُ يُفِيدُ تَأْكِيدًا لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ إِنْ يَثْقَفُوكُمْ [الممتحنة: ٢] وَجُمْلَةِ لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ [الممتحنة: ٣]، لِأَنَّهَا بِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ أَنَّ الْمُوَجَّهِ إِلَيْهِمُ التَّوْبِيخُ خَالَفُوا الْأُسْوَةَ الْحَسَنَةَ تُقَوِّي إِثْبَاتَ الْخَطَأِ الْمُسْتَوْجِبِ لِلتَّوْبِيخِ.
ذَلِكَ أَنَّهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ بَيَانِ خَطَأِ مَنْ يُوَالِي عَدُوَّ اللَّهِ بِمَا يَجُرُّ إِلَى أَصْحَابِهِ مِنْ مَضَارٍّ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ تَحْذِيرًا لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ، انْتَقَلَ إِلَى تَمْثِيلِ الْحَالَةِ الصَّالِحَةِ بِمِثَالٍ مِنْ فِعْلِ أَهْلِ الْإِيمَانِ الصَّادِقِ وَالِاسْتِقَامَةِ الْقَوِيمَةِ وَنَاهِيكَ بِهَا أُسْوَةٌ.
وَافْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِكَلِمَتَيْ قَدْ كانَتْ لِتَأْكِيدِ الْخَبَرِ، فَإِنَّ قَدْ مَعَ فِعْلِ الْكَوْنِ يُرَادُ بِهِمَا التَّعْرِيضُ بِالْإِنْكَارِ عَلَى الْمُخَاطَبِ وَلَوْمِهِ فِي الْإِعْرَاضِ عَنِ الْعَمَلِ بِمَا
رَوَى مُقَاتِلٌ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا: أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ: إِنَّ مُحَمَّدًا شَاعِرٌ، وَأَنَّ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ قَالَ: هُوَ كَاهِنٌ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ الْآيَةَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِ رَسُولٍ كَرِيمٍ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا أُرِيدَ بِهِ فِي سُورَةِ التَّكْوِيرِ إِذِ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هُنَالِكَ جِبْرِيلُ كَمَا يَأْتِي.
وَفِي لَفْظِ رَسُولٍ إِيذَانٌ بِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مُرْسِلِهِ، أَيِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ أُكِّدَ هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ عَقِبَهُ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ.
وَوَصْفُ الرَّسُولِ بِ كَرِيمٍ لِأَنَّهُ الْكَرِيمُ فِي صِنْفِهِ، أَيِ النَّفِيسُ الْأَفْضَلُ مِثْلُ قَوْلِهِ:
إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [٢٩].
وَقَدْ أُثْبِتَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفَضْلُ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الرُّسُلِ بِوَصْفِ كَرِيمٍ، وَنَفْيِ أَنْ يَكُونَ شَاعِرًا أَوْ كَاهِنًا بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ عِنْدَ قَصْدِ رَدِّ أَقْوَالِهِمْ.
وَعَطْفُ وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ عَلَى جُمْلَةِ الْخَبَرِ فِي قَوْلِهِ: بِقَوْلِ شاعِرٍ، وَلَا النَّافِيَةُ تَأْكِيدٌ لِنَفْيِ مَا.
وَكُنِّيَ بِنَفْيِ أَنْ يَكُونَ قَوْلَ شَاعِرٍ، أَوْ قَوْلَ كَاهِنٍ عَنْ تَنْزِيهِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَنْ يَكُونَ شَاعِرًا أَو كَاهِنًا، رد لِقَوْلِهِمْ: هُوَ شَاعِرٌ أَوْ هُوَ كَاهِنٌ.
وَإِنَّمَا خُصَّ هَذَانِ بِالذِّكْرِ دُونَ قَوْلِهِمْ: افْتَرَاهُ، أَوْ هُوَ مَجْنُونٌ، لِأَنَّ الْوَصْفَ بِكَرِيمٍ كَافٍ فِي نَفْيِ أَنْ يَكُونَ مَجْنُونًا أَوْ كَاذِبًا إِذْ لَيْسَ الْمَجْنُونُ وَلَا الْكَاذِبُ بِكَرِيمٍ، فَأَمَّا الشَّاعِرُ وَالْكَاهِنُ فَقَدْ كَانَا مَعْدُودَيْنِ عِنْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الشَّرَفِ.
وَالْمَعْنَى: مَا هُوَ قَوْلُ شَاعِرٍ وَلَا قَوْلُ كَاهِنٍ تَلَقَّاهُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَنَسَبَهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
وقَلِيلًا فِي قَوْلِهِ: قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ مُرَادٌ بِهِ انْتِفَاءُ ذَلِكَ مِنْ أَصْلِهِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْلِيحِ الْقَرِيبِ مِنَ التَّهَكُّمِ كَقَوْلِهِ: فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا [النِّسَاء: ٤٦]، وَهُوَ أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ، قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
أُنِيحَتْ أَلْقَتْ بَلْدَةً فَوْقَ بَلْدَةٍ قَلِيلٍ بِهَا الْأَصْوَاتُ إِلَّا بُغَامُهَا
فَإِنَّ اسْتِثْنَاءَ بغام رَاحِلَته دلّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ مِنْ (قَلِيلٍ) عَدَمَ الْأَصْوَاتِ.
انْكِدَارٌ مِنْ تَكْدِيرِ الشَّمْسِ لَهَا حِينَ زَالَ عَنْهَا انْعِكَاسُ نُورِهَا، فَلِذَلِكَ ذُكِرَ مُطَاوِعُ كَدَّرَ دُونَ ذِكْرِ فَاعِلِ التَّكْدِيرِ.
وَالْكُدْرَةُ: ضِدُّ الصَّفَاءِ كَتَغَيُّرِ لَوْنِ الْمَاءِ وَنَحْوِهِ.
وَفُسِّرَ الِانْكِدَارُ بِالتَّسَاقُطِ وَالِانْقِضَاضِ، وَأَنْشَدُوا قَوْلَ الْعَجَّاجِ يَصِفُ بَازِيًا:
أَبْصَرَ خِرْبَانَ فَضَاءً فَانْكَدَرْ وَمَعْنَى تَسَاقُطِهَا تَسَاقُطُ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ وَاصْطِدَامُهَا بِسَبَبِ اخْتِلَالِ نِظَامِ الْجَاذِبِيَّةِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ لِإِمْسَاكِهَا إِلَى أَمَدٍ مَعْلُومٍ.
وَتَسْيِيرُ الْجِبَالِ انْتِقَالُهَا مِنْ أَمَاكِنِهَا بِارْتِجَاجِ الْأَرْضِ وَزِلْزَالِهَا. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النَّبَأِ.
والْعِشارُ جَمْعُ عُشَرَاءَ وَهِيَ النَّاقَةُ الْحَامِلُ إِذَا بَلَغَتْ عَشَرَةَ أَشْهُرٍ لِحَمْلِهَا فَقَارَبَتْ أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا لِأَنَّ النُّوقَ تَحْمِلُ عَامًا كَامِلًا، والْعِشارُ أَنْفَسُ مَكَاسِبِ الْعَرَبِ وَمَعْنَى عُطِّلَتْ تُرِكَتْ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا.
وَالْكَلَامُ كِنَايَةٌ عَنْ تَرْكِ النَّاسِ أَعْمَالَهُمْ لِشِدَّةِ الْهَوْلِ.
وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ فِي الْأَرْضِ فَيُنَاسِبُ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْعِشارُ مُسْتَعَارَةً لِلْأَسْحِبَةِ الْمُحَمَّلَةِ بِالْمَطَرِ، شُبِّهَتْ بِالنَّاقَةِ الْعُشَرَاءِ. وَهَذَا غَيْرُ بَعِيدٍ مِنَ الِاسْتِعْمَالِ، فَهُمْ يُطْلِقُونَ مِثْلَ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ لِلسَّحَابِ، كَمَا أَطْلَقُوا عَلَى السَّحَابَةِ اسْمَ بِكْرٍ فِي قَوْلِ عَنْتَرَةَ:
جَادَتْ عَلَيْهِ كُلُّ بِكْرٍ حُرَّةٍ فَتَرَكْنَ كُلَّ قَرَارَةٍ كَالدِّرْهَمِ
فَأَطْلَقَ عَلَى السَّحَابَةِ الْكَثِيرَةِ الْمَاءِ اسْمَ الْبِكْرِ الْحُرَّةِ، أَيِ الْأَصِيلَةِ مِنَ النُّوقِ وَهِيَ فِي حَمْلِهَا الْأَوَّلِ.
وَمَعْنَى تَعْطِيلِ الْأَسْحِبَةِ أَنْ يَعْرِضَ لَهَا مَا يَحْبِسُ مَطَرَهَا عَنِ النُّزُولِ، أَوْ مَعْنَاهُ أَنَّ الْأَسْحِبَةَ الثِّقَالَ لَا تَتَجَمَّعُ وَلَا تَحْمِلُ مَاءً، فَمَعْنَى تَعْطِيلِهَا تَكَوُّنُهَا، فَيَتَوَالَى الْقَحْطُ


الصفحة التالية
Icon