مِنْ أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ كَمَا فَعَلَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَالْبَيْضَاوِيُّ.
وَاخْتَلَفُوا فِي قِرَاءَةِ الْبَسْمَلَةِ فِي غَيْرِ الشُّرُوعِ فِي قِرَاءَةِ سُورَةٍ مِنْ أَوَّلِهَا، أَيْ فِي قِرَاءَةِ الْبَسْمَلَةِ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ.
فَوَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَحَمْزَةُ، وَيَعْقُوبُ، وَخَلَفٌ، لَا يُبَسْمِلُونَ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ وَذَلِكَ يُعَلَّلُ بِأَنَّ التَّشَبُّهَ بِفِعْلِ كُتَّابِ الْمُصْحَفِ خَاصٌّ بِالِابْتِدَاءِ، وَبِحَمْلِهِمْ رَسْمَ الْبَسْمَلَةِ فِي الْمُصْحَفِ عَلَى أَنَّهُ عَلَامَةٌ عَلَى ابْتِدَاءِ السُّورَةِ لَا عَلَى الْفَصْلِ، إِذْ لَوْ كَانَتِ الْبَسْمَلَةُ عَلَامَةً عَلَى الْفَصْلِ بَيْنَ السُّورَةِ وَالَّتِي تَلِيهَا لَمَا كُتِبَتْ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ، فَكَانَ صَنِيعُهُمْ وَجِيهًا لِأَنَّهُمْ جَمَعُوا بَيْنَ مَا رَوَوْهُ عَنْ سَلَفِهِمْ وَبَيْنَ دَلِيلِ قَصْدِ التَّيَمُّنِ، وَدَلِيلُ رَأْيِهِمْ أَنَّ الْبَسْمَلَةَ لَيْسَتْ آيَةً مِنْ أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ.
وَقَالُونُ عَنْ نَافِعٍ وَابْنُ كَثِيرٍ وَعَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ يُبَسْمِلُونَ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ سِوَى مَا بَيْنَ الْأَنْفَالِ وَبَرَاءَةَ، وَعَدُّوهُ مِنْ سُنَّةِ الْقِرَاءَةِ، وَلَيْسَ حَظُّهُمْ فِي ذَلِكَ إِلَّا اتِّبَاعَ سَلَفِهِمْ، إِذْ لَيْسَ جَمِيعُهُمْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، وَلَعَلَّهُمْ طَرَدُوا قَصْدَ التَّيَمُّنِ بِمُشَابَهَةِ كُتَّابِ الْمُصْحَفِ فِي الْإِشْعَارِ بِابْتِدَاءِ السُّورَةِ وَالْإِشْعَارِ بِانْتِهَاءِ الَّتِي قَبْلَهَا.
وَاتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَرْكِ الْبَسْمَلَةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ بَرَاءَةَ وَقَدْ تَبَيَّنَ وَجْهُ ذَلِكَ آنِفًا، وَوَجَّهَهُ الْأَئِمَّةُ بِوُجُوهٍ أُخَرَ تَأَتَّى فِي أَوَّلِ سُورَةِ بَرَاءَةَ، وَذَكَرَ الْجَاحِظُ فِي «الْبَيَانِ وَالتَّبْيِينِ» (١) أَنَّ مُؤَرِّجًا السَّدُوسِيَّ الْبَصْرِيَّ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: «أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَرُدُّ عَلَى الْمَظْلُومِ» فَرَجَعَ مُؤَرِّجٌ إِلَى مُصْحَفِهِ فَرَدَّ عَلَى بَرَاءَةَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَيُحْمَلُ هَذَا الَّذِي صَنَعَهُ مُؤَرِّجٌ- إِنْ صَحَّ عَنْهُ- إِنَّمَا هُوَ عَلَى التَّمْلِيحِ وَالْهَزْلِ وَلَيْسَ عَلَى الْجِدِّ.
وَفِي هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اخْتِلَافَ مَذَاهِبِ الْقُرَّاءِ فِي قِرَاءَةِ الْبَسْمَلَةِ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ ابْتِدَاءً وَوَصْلًا كَمَا تَقَدَّمَ لَا أَثَرَ لَهُ فِي الِاخْتِلَافِ فِي حُكْمِ قِرَاءَتِهَا فِي الصَّلَاةِ، فَإِنَّ قِرَاءَتَهَا فِي الصَّلَاةِ تَجْرِي عَلَى إِحْكَامِ النَّظَرِ فِي الْأَدِلَّة، وَلَيْسَ مَذَاهِبُ الْقُرَّاءِ بِمَعْدُودَةٍ مِنْ أَدِلَّةِ الْفِقْهِ، وَإِنَّمَا قِرَاءَاتُهُمْ رِوَايَاتٌ وَسُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ دُونَ اسْتِنَادٍ إِلَى اعْتِبَارِ أَحْكَامِ رِوَايَةِ الْقُرْآنِ مِنْ تَوَاتُرٍ وَدُونِهِ، وَلَا إِلَى وُجُوبٍ واستحباب وتخيير، فالقارىء يَقْرَأُ كَمَا رُوِيَ عَنْ مُعَلِّمِيهِ
_________
(١) صفحة ١٣٠ جُزْء ٢ طبع الرحمانية- الْقَاهِرَة.
حُكْمُ الْقِصَاصِ لَمَا ارْتَدَعَ النَّاسُ لِأَنَّ أَشَدَّ مَا تَتَوَقَّاهُ نُفُوسُ الْبَشَرِ مِنَ الْحَوَادِثِ هُوَ الْمَوْتُ، فَلَوْ عَلِمَ الْقَاتِلُ أَنَّهُ يَسْلَمُ مِنَ الْمَوْتِ لَأَقْدَمَ عَلَى الْقَتْلِ مُسْتَخِفًّا بِالْعُقُوبَاتِ كَمَا قَالَ سَعْدُ بْنُ نَاشِبٍ لَمَّا أَصَابَ دَمًا وَهَرَبَ فَعَاقَبَهُ أَمِيرُ الْبَصْرَةِ بِهَدْمِ دَارِهِ بِهَا:

سَأَغْسِلُ عَنِّي الْعَارَ بِالسَّيْفِ جَالِبًا عَلِيَّ قَضَاءَ اللَّهِ مَا كَانَ جَالِبَا
وَأَذْهَلُ عَنْ دَارِي وَأَجْعَلُ هَدْمَهَا لِعِرْضِي مِنْ بَاقِي الْمَذَمَّةِ حَاجِبَا
وَيَصْغُرُ فِي عَيْنِي تِلَادِي إِذَا انْثَنَتْ يَمِينِي بِإِدْرَاكِ الَّذِي كُنْتُ طَالِبَا
وَلَوْ تُرِكَ الْأَمْرُ لِلْأَخْذِ بِالثَّأْرِ كَمَا كَانَ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَأَفْرَطُوا فِي الْقَتْلِ وَتَسَلْسَلَ الْأَمْرُ كَمَا تَقَدَّمَ، فَكَانَ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْقِصَاصِ حَيَاةٌ عَظِيمَةٌ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَلَيْسَ التَّرْغِيبُ فِي
أَخْذِ مَالِ الصُّلْحِ وَالْعَفْوِ بِنَاقِضٍ لِحِكْمَةِ الْقِصَاصِ لِأَنَّ الِازْدِجَارَ يَحْصُلُ بِتَخْيِيرِ الْوَلِيِّ فِي قَبُولِ الدِّيَةِ فَلَا يَطْمَئِنُّ مُضْمِرُ الْقَتْلِ إِلَى عَفْوِ الْوَلِيِّ إِلَّا نَادِرًا وَكَفَى بِهَذَا فِي الِازْدِجَارِ.
وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أُولِي الْأَلْبابِ تَنْبِيهٌ بِحَرْفِ النِّدَاءِ عَلَى التَّأَمُّلِ فِي حِكْمَةِ الْقِصَاصِ وَلِذَلِكَ جِيءَ فِي التَّعْرِيفِ بِطَرِيقِ الْإِضَافَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعُقُولِ الْكَامِلَةِ لِأَنَّ حِكْمَةَ الْقِصَاصِ لَا يُدْرِكُهَا إِلَّا أَهْلُ النَّظَرِ الصَّحِيحِ إِذْ هُوَ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ كَأَنَّهُ عُقُوبَةٌ بِمِثْلِ الْجِنَايَةِ لِأَنَّ فِي الْقِصَاصِ رَزِيَّةً ثَانِيَةً لَكِنَّهُ عِنْدَ التَّأَمُّلِ هُوَ حَيَاةٌ لَا رَزِيَّةٌ لِلْوَجْهَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ.
وَقَالَ: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ إِكْمَالًا لِلْعِلَّةِ أَيْ تَقْرِيبًا لِأَنْ تَتَّقُوا فَلَا تَتَجَاوَزُوا فِي أَخْذِ الثَّأْرِ حَدَّ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ. وَلَعَلَّ لِلرَّجَاءِ وَهِيَ هُنَا تَمْثِيلٌ أَوِ اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ- إِلَى قَوْلِهِ- لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الْبَقَرَة: ٢١] فِي أَوَّلِ السُّورَةِ.
وَقَوْلُهُ: فِي الْقِصاصِ حَياةٌ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ فَاقَ مَا كَانَ سَائِرًا مَسْرَى الْمَثَلِ عِنْدَ الْعَرَبِ وَهُوَ قَوْلُهُمْ (الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ) وَقَدْ بَيَّنَهُ السَّكَّاكِيُّ فِي «مِفْتَاح الْعُلُوم» و «ذيله» مَنْ جَاءَ بَعْدَهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَعَانِي، وَنَزِيدُ عَلَيْهِمْ: أَنَّ لَفْظَ الْقِصَاصِ قَدْ دَلَّ عَلَى إِبْطَالِ التَّكَايُلِ بِالدِّمَاءِ وَعَلَى إِبْطَالِ قَتْلِ وَاحِدٍ مِنْ قَبِيلَةِ الْقَاتِلِ إِذَا لَمْ يَظْفَرُوا بِالْقَاتِلِ وَهَذَا لَا تُفِيدُهُ كلمتهم الجامعة.
شُرَكَاءَ، أَوِ اتَّخَذُوا لَهُ أَبْنَاءَ، وَتَهْدِيدِ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ أَمْرَهُمْ إِلَى زَوَالٍ، وَأَلَّا يَغُرَّهُمْ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْبَذَخِ، وَأَنَّ مَا أُعِدَّ لِلْمُؤْمِنِينَ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ، وَتَهْدِيدِهِمْ بِزَوَالِ سُلْطَانِهِمْ، ثُمَّ الثَّنَاءِ عَلَى عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَآلِ بَيْتِهِ، وَذِكْرِ مُعْجِزَةِ ظُهُورِهِ، وَأَنَّهُ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ، وَذِكْرِ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ حَقًا. وَإِبْطَال إلاهية عِيسَى، وَمِنْ ثَمَّ أَفْضَى
إِلَى قَضِيَّةِ وَفْدِ نَجْرَانَ وَلَجَاجَتِهِمْ، ثُمَّ مُحَاجَّةِ أَهِلَ الْكِتَابَيْنِ فِي حَقِيقَةِ الْحَنِيفِيَّةِ وَأَنَّهُمْ بُعَدَاءُ عَنْهَا، وَمَا أَخَذَ اللَّهُ مِنَ الْعَهْدِ عَلَى الرُّسُلِ كُلِّهِمْ: أَنْ يُؤْمِنُوا بِالرَّسُولِ الْخَاتَمِ، وَأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْكَعْبَةَ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ، وَقَدْ أَعَادَ إِلَيْهِ الدِّينَ الْحَنِيفَ كَمَا ابْتَدَأَهُ فِيهِ، وَأَوْجَبَ حَجَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَأَظْهَرَ ضَلَالَاتِ الْيَهُودِ، وَسُوءَ مَقَالَتِهِمْ، وَافْتِرَائِهِمْ فِي دِينِهِمْ وَكِتْمَانِهِمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ. وَذَكَّرَ الْمُسْلِمِينَ بِنِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ بِدِينِ الْإِسْلَامِ، وَأَمَرَهُمْ بِالِاتِّحَادِ وَالْوِفَاقِ، وَذَكَّرَهُمْ بِسَابِقِ سُوءِ حَالِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَهَوَّنَ عَلَيْهِمْ تَظَاهُرَ مُعَانِدِيهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ، وَذَكَّرَهُمْ بِالْحَذَرِ مِنْ كَيْدِهِمْ وَكَيْدِ الَّذِينَ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ ثُمَّ عَادُوا إِلَى الْكُفْرِ فَكَانُوا مَثَلًا لِتَمْيِيزِ الْخَبِيثِ مِنَ الطِّيبِ، وَأَمَرَهُمْ بِالِاعْتِزَازِ بِأَنْفُسِهِمْ، وَالصَّبْرِ عَلَى تَلَقِّي الشَّدَائِدِ، وَالْبَلَاءِ، وَأَذَى الْعَدُوِّ، وَوَعَدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِالنَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ وَإِلْقَاءِ الرُّعْبِ مِنْهُمْ فِي نُفُوسِ عَدُوِّهِمْ، ثُمَّ ذَكَّرَهُمْ بِيَوْمِ أُحُدٍ، وَيَوْمِ بَدْرٍ، وَضَرَبَ لَهُمُ الْأَمْثَالَ بِمَا حَصَلَ فِيهِمَا، وَنَوَّهَ، بِشَأْنِ الشُّهَدَاءِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَرَ الْمُسْلِمِينَ بِفَضَائِلِ الْأَعْمَالِ: مِنْ بَذْلِ الْمَالِ فِي مُوَاسَاةِ الْأُمَّةِ، وَالْإِحْسَانِ، وَفَضَائِلِ الْأَعْمَالِ، وَتَرْكِ الْبُخْلِ، وَمَذَمَّةِ الرِّبَا وَخُتِمَتِ السُّورَةُ بِآيَاتِ التَّفْكِيرِ فِي مَلَكُوتِ الله.
وَقد عملت أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ قَضِيَّةُ وَفْدِ نَجْرَانَ مِنْ بِلَادِ الْيَمَنِ. وَوَفْدُ نَجْرَانَ هُمْ قَوْمٌ مِنْ نَجْرَانَ بَلَغَهُمْ مبعث النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ أَهْلُ نَجْرَانَ مُتَدَيِّنِينَ بِالنَّصْرَانِيَّةِ، وَهُمْ مِنْ أَصْدَقِ الْعَرَبِ تَمَسُّكًا بِدِينِ الْمَسِيحِ، وَفِيهِمْ رُهْبَانٌ مَشَاهِيرُ، وَقَدْ أَقَامُوا لِلْمَسِيحِيَّةِ كَعْبَةً بِبِلَادِهِمْ هِيَ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا الْأَعْشَى حِينَ مَدَحَهُمْ بِقَوْلِهِ:
فَكَعْبَةُ نَجْرَان حتم عَلَيْك حَتَّى تُنَاخِي بِأَبْوَابِهَا فَاجْتَمَعَ وَفْدٌ مِنْهُمْ يَرْأَسُهُ الْعَاقِبُ- فِيهِ سِتُّونَ رَجُلًا- وَاسْمُهُ عَبْدُ الْمَسِيحِ، وَهُوَ أَمِيرُ الْوَفْدِ، وَمَعَهُ السَّيِّدُ وَاسْمُهُ الْأَيْهَمُ، وَهُوَ ثِمَالُ الْقَوْمِ وَوَلِيُّ تَدْبِيرِ الْوَفْدِ، وَمُشِيرُهُ وَذُوِِ
وَاللِّينُ هُنَا مَجَازٌ فِي سِعَةِ الْخَلْقِ مَعَ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَفِي الصَّفْحِ عَنْ جَفَاءِ الْمُشْرِكِينَ، وَإِقَالَةِ الْعَثَرَاتِ. وَدَلَّ فِعْلُ الْمُضِيِّ فِي قَوْلِهِ: لِنْتَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ وَصْفٌ تَقَرَّرَ وَعُرِفَ مِنْ خُلُقِهِ، وَأَنَّ فِطْرَتَهُ عَلَى ذَلِكَ بِرَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ إِذْ خَلَقَهُ كَذَلِكَ واللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الْأَنْعَام: ١٢٤]، فَخُلُقُ الرَّسُولِ مُنَاسِبٌ لِتَحْقِيقِ حُصُولِ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ إِرْسَالِهِ، لِأَنَّ الرَّسُولَ يَجِيءُ بِشَرِيعَةٍ يُبَلِّغُهَا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، فَالتَّبْلِيغُ مُتَعَيَّنٌ لَا مُصَانَعَةَ فِيهِ، وَلَا يَتَأَثَّرُ بِخُلُقِ الرَّسُولِ، وَهُوَ أَيْضًا مَأْمُورٌ بِسِيَاسَةِ أُمَّتِهِ بِتِلْكَ الشَّرِيعَةِ، وَتَنْفِيذِهَا فِيهِمْ،
وَهَذَا عَمَلٌ لَهُ ارْتِبَاطٌ قَوِيٌّ بِمُنَاسَبَةِ خُلُقِ الرَّسُولِ لِطِبَاعِ أُمَّتِهِ حَتَّى يُلَائِمَ خُلُقَهُ الْوَسَائِلُ الْمُتَوَسَّلُ بِهَا لِحَمْلِ أُمَّتِهِ عَلَى الشَّرِيعَةِ النَّاجِحَةِ فِي الْبُلُوغِ بِهِمْ إِلَى مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُمْ.
أرسل محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَفْطُورًا عَلَى الرَّحْمَة، فَكَانَ لينه رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ بِالْأُمَّةِ فِي تَنْفِيذِ شَرِيعَتِهِ بِدُونِ تَسَاهُلٍ وَبِرِفْقٍ وَإِعَانَةٍ عَلَى تَحْصِيلِهَا، فَلِذَلِكَ جُعِلَ لِينُهُ مُصَاحِبًا لِرَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ أَوْدَعَهَا اللَّهُ فِيهِ، إِذْ هُوَ قد بُعِثَ لِلنَّاسِ كَافَّةً، وَلَكِنِ اخْتَارَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ دَعْوَتُهُ بَيْنَ الْعَرَبِ أَوَّلَ شَيْءٍ لِحِكْمَةٍ أَرَادَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي أَنْ يَكُونَ الْعَرَبُ هُمْ مُبَلِّغِي الشَّرِيعَةِ لِلْعَالَمِ.
وَالْعَرَبُ أُمَّةٌ عُرِفَتْ بِالْأَنَفَةِ، وَإِبَاءِ الضَّيْمِ، وَسَلَامَةِ الْفِطْرَةِ. وَسُرْعَةِ الْفَهْمِ. وَهُمُ الْمُتَلَقُّونَ الْأَوَّلُونَ لِلدِّينِ فَلَمْ تَكُنْ تَلِيقُ بِهِمُ الشِّدَّةُ وَالْغِلْظَةُ، وَلَكِنَّهُمْ مُحْتَاجُونَ إِلَى اسْتِنْزَالِ طَائِرِهِمْ فِي تَبْلِيغِ الشَّرِيعَةِ لَهُمْ، لِيَتَجَنَّبُوا بِذَلِكَ الْمُكَابَرَةَ الَّتِي هِيَ الْحَائِلُ الْوَحِيدُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِذْعَانِ إِلَى الْحَقِّ. وَوَرَدَ أَنَّ صفح النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَفْوَهُ وَرَحْمَتَهُ كَانَ سَبَبًا فِي دُخُولِ كَثِيرٍ فِي الْإِسْلَامِ، كَمَا ذَكَرَ بَعْضُ ذَلِكَ عِيَاضٌ فِي كِتَابِ الشِّفَاءِ.
فَضَمِيرُ لَهُمْ عَائِدٌ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى مَقَامِ التَّشْرِيعِ وَسِيَاسَةِ الْأُمَّةِ، وَلَيْسَ عَائِدًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ عَصَوْا أَمْرَ الرَّسُولِ يَوْمَ أُحُدٍ، لِأَنَّهُ لَا يُنَاسِبُ قَوْلَهُ بَعْدَهُ:
لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ إِذْ لَا يُظَنُّ ذَلِكَ بِالْمُسْلِمِينَ، وَلِأَنَّهُ لَا يُنَاسِبُ قَوْلَهُ بَعْدَهُ:
وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ إِذَا كَانَ الْمُرَادُ الْمُشَاوَرَةَ

[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٨٦]

وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (٨٦)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً [النِّسَاء: ٨٥] بِاعْتِبَارِ مَا قُصِدَ مِنَ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ عَلَيْهَا، وَهُوَ التَّرْغِيبُ فِي الشَّفَاعَةِ الْحَسَنَةِ وَالتَّحْذِيرُ مِنَ الشَّفَاعَةِ السَّيِّئَةِ، وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ التَّرْغِيبَ فِي قَبُولِ الشَّفَاعَةِ الْحَسَنَةِ وَرَدِّ الشَّفَاعَةِ السَّيِّئَةِ. وَإِذْ قَدْ كَانَ مِنْ شَأْنِ الشَّفِيعِ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى الْمُسْتَشْفَعِ إِلَيْهِ بِالسَّلَامِ اسْتِئْنَاسًا لَهُ لِقَبُولِ الشَّفَاعَةِ، فَالْمُنَاسَبَةُ فِي هَذَا الْعَطْفِ هِيَ أَنَّ الشَّفَاعَةَ تَقْتَضِي حُضُورَ الشَّفِيعِ عِنْدَ الْمَشْفُوعِ إِلَيْهِ، وَأَنَّ صِفَةَ تَلَقِّي الْمَشْفُوعِ إِلَيْهِ لِلشَّفِيعِ تُؤْذِنُ بِمِقْدَارِ اسْتِعْدَادِهِ لِقَبُولِ الشَّفَاعَةِ، وَأَنَّ أَوَّلَ بَوَادِرِ اللِّقَاءِ هُوَ السَّلَامُ وَرَدُّهُ، فَعَلَّمَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ أَدَبَ الْقَبُولِ وَاللِّقَاءِ فِي الشَّفَاعَةِ وَغَيْرِهَا- وَقَدْ كَانَ لِلشَّفَاعَاتِ عِنْدَهُمْ شَأْنٌ عَظِيمٌ.
وَفِي الْحَدِيثِ: مَرَّ رَجُلٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: مَاذَا تَقُولُونَ فِيهِ؟ قَالُوا: هَذَا جَدِيرٌ إِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ
... الْحَدِيثَ- حَتَّى إِذَا قَبِلَ الْمُسْتَشْفَعُ إِلَيْهِ الشَّفَاعَةَ كَانَ قَدْ طَيَّبَ خَاطِرَ الشَّفِيعِ، وَإِذَا لَمْ يَقْبَلْ كَانَ فِي حُسْنِ التَّحِيَّةِ مَرْضَاةٌ لَهُ عَلَى الْجُمْلَةِ. وَهَذَا دَأْبُ الْقُرْآنِ فِي انْتِهَازِ فُرَصِ الْإِرْشَادِ وَالتَّأْدِيبِ.
وَبِهَذَا الْبَيَانِ تَنْجَلِي عَنْكَ الْحَيْرَةُ الَّتِي عَرَضَتْ فِي تَوْجِيهِ انْتِظَامِ هَذِهِ الْآيَةِ مَعَ سَابِقَتِهَا، وَتَسْتَغْنِي عَنِ الِالْتِجَاءِ إِلَى الْمُنَاسَبَاتِ الضَّعِيفَةِ الَّتِي صَارُوا إِلَيْهَا.
وَقَدْ دَلَّ قَوْلُهُ: فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها عَلَى الْأَمْرِ بِرَدِّ السَّلَامِ، وَوُجُوبِ الرَّدِّ لأنّ أصل صغية الْأَمْرِ أَنْ يَكُونَ لِلْوُجُوبِ عَلَى مُقْتَضَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ فِي مَحْمَلِ صِيغَةِ الْأَمْرِ،
وَلِذَلِكَ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ رَدِّ السَّلَامِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا إِذَا كَانَ الْمُسَلَّمُ عَلَيْهِمْ جَمَاعَةً هَلْ يَجِبُ الرَّدُّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ: فَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْجَمَاعَةِ وُجُوبَ الْكِفَايَةِ فَإِذَا رَدَّ وَاحِدٌ مِنَ الْجَمَاعَةِ أَجْزَأَ عَنْهُمْ، وَوَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَتِ الْجَمَاعَةُ كَثِيرَةً يَصِيرُ رَدُّ الْجَمِيعِ غَوْغَاءَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الرَّدُّ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ شَخْصٍ مِنَ الْجَمَاعَةِ بِعَيْنِهِ. وَلَعَلَّ دَلِيلَهُ فِي ذَلِكَ الْقِيَاسُ.
وَالْخَائِنَةُ: الْخِيَانَةُ فَهُوَ مَصْدَرٌ عَلَى وَزْنِ الْفَاعِلَةِ، كَالْعَاقِبَةِ، وَالطَّاغِيَةِ. وَمِنْهُ يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ [غَافِر: ١٩]. وَأَصْلُ الْخِيَانَةِ: عَدَمُ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَلَعَلَّ أَصْلَهَا إِظْهَارُ خِلَافِ الْبَاطِنِ. وَقِيلَ: خائِنَةٍ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ، أَيْ فِرْقَةٌ خَائِنَةٌ.
وَاسْتَثْنَى قَلِيلًا مِنْهُمْ جُبِلُوا عَلَى الْوَفَاءِ، وَقَدْ نَقَضَ يَهُودُ الْمَدِينَةِ عَهْدَهُمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ وَالْمُسْلِمِينَ فَظَاهَرُوا الْمُشْرِكِينَ فِي وَقْعَةِ الْأَحْزَابِ، قَالَ تَعَالَى: وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ [الْأَحْزَاب: ٢٦]. وَأَمْرُهُ بِالْعَفْوِ عَنْهُمْ وَالصَّفْحِ حُمِلَ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَذَلِكَ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى سُوءِ معاملتهم للنّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَيْسَ الْمَقَامُ مَقَامَ ذِكْرِ الْمُنَاوَاةِ الْقَوْمِيَّةِ أَوِ الدِّينِيَّةِ، فَلَا يُعَارِضُ هَذَا قَوْلُهُ فِي بَرَاءَةٍ قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ [التَّوْبَة: ٢٩] لِأَنَّ تِلْكَ أَحْكَامُ التَّصَرُّفَاتِ الْعَامَّةِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نُسِخَتْ بِآيَة بَرَاءَة.
[١٤]
[سُورَة الْمَائِدَة (٥) : آيَة ١٤]
وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١٤)
ذُكِرَ بَعْدَ مِيثَاقِ الْيَهُودِ مِيثَاقُ النَّصَارَى. وَجَاءَتِ الْجُمْلَة على سبه اشْتِغَالِ الْعَامِلِ عَنِ الْمَعْمُولِ بِضَمِيرِهِ حَيْثُ قُدِّمَ مُتَعَلِّقٌ أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ وَفِيهِ اسْمٌ ظَاهِرٌ، وَجِيءَ بِضَمِيرِهِ مَعَ الْعَامِلِ لِلنُّكْتَةِ الدَّاعِيَةِ لِلِاشْتِغَالِ مِنْ تَقْرِيرِ الْمُتَعَلِّقِ وَتَثْبِيتِهِ فِي الذِّهْنِ إِذْ يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِاسْمِهِ
الظَّاهِرِ وَبِضَمِيرِهِ، فَالتَّقْدِيرُ: وَأَخَذْنَا، مِنَ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّا نَصَارَى، مِيثَاقَهُمْ، وَلَيْسَ تَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ بِالْحَرْفِ لِقَصْدِ الْحَصْرِ. وَقِيلَ: ضَمِيرُ مِيثاقَهُمْ عَائِدٌ إِلَى الْيَهُودِ، وَالْإِضَافَةُ عَلَى مَعْنَى التَّشْبِيهِ، أَيْ مِنَ النَّصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَ الْيَهُودِ، أَيْ مِثْلَهُ، فَهُوَ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ حُذِفَتِ الْأَدَاةُ
النُّبُوءَةِ، وَلَكِنَّ الْآيَاتِ تَأْتِي عَنْ مَحْضِ اخْتِيَارٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ مَسْأَلَةٍ. وَإِنَّمَا أَجَابَ اللَّهُ اقْتِرَاحَ الْحَوَارِيِّينَ إِنْزَالَ الْمَائِدَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا صَالِحِينَ، وَمَا أَرَادُوا إِلَّا خَيْرًا. وَلَكِنَّ اللَّهَ أَنْبَأَهُمْ أَنَّ إِجَابَتَهُمْ لِذَلِكَ لِحِكْمَةٍ أُخْرَى وَهِيَ تَسْتَتْبِعُ نَفْعًا لَهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، فَكَانُوا أَحْرِيَاءَ بِأَنْ يَشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِيمَا فِيهِ اسْتِبْقَاءٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا مُوَفَّقِينَ. وَسَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً زِيَادَةُ بَيَانٍ لِهَذَا.
وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ من فسّر لَقُضِيَ الْأَمْرُ بِمَعْنَى هَلَاكِهِمْ مِنْ هَوْلِ رُؤْيَةِ الْمَلَكِ فِي صُورَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ. وَلَيْسَ هَذَا بِلَازِمٍ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْأَلُوا ذَلِكَ. وَلَا يَتَوَقَّفُ تَحَقُّقُ مَلَكِيَّتِهِ عِنْدَهُمْ عَلَى رُؤْيَةِ صُورَةٍ خَارِقَةٍ لِلْعَادَةِ، بَلْ يَكْفِي أَنْ يَرَوْهُ نَازِلًا مِنَ السَّمَاءِ مَثَلًا حَتَّى يُصَاحِبَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ الْآتِي: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا.
وَقَوْلُهُ: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ فَهُوَ جَوَابٌ ثَانٍ عَنْ مُقْتَرَحِهِمْ، فِيهِ ارْتِقَاءٌ فِي الْجَوَابِ، وَذَلِكَ أَنَّ مُقْتَرَحَهُمْ يَسْتَلْزِمُ الِاسْتِغْنَاءَ عَنْ بَعْثَةِ رَسُولٍ مِنَ الْبَشَرِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَتْ دَعْوَةُ الرَّسُولِ الْبَشَرِيِّ غَيْرَ مَقْبُولَةٍ عِنْدَهُمْ إِلَّا إِذَا قَارَنَهُ مَلَكٌ يَكُونُ مَعَهُ نَذِيرًا كَمَا قَالُوهُ وَحُكِيَ عَنْهُمْ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَدْ صَارَ مَجِيءُ رَسُولٍ بَشَرِيٍّ إِلَيْهِمْ غَيْرَ مُجْدٍ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِالْمَلَكِ الَّذِي يُصَاحِبُهُ، عَلَى أَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِهَذَا اللَّازِمِ فِيمَا حُكِيَ عَنْهُمْ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً، فَجَاءَ هَذَا الْجَوَابُ الثَّانِي صَالِحًا لَرَدَّ الِاقْتِرَاحَيْنِ، وَلَكِنَّهُ رُوعِيَ فِي تَرْكِيبِ أَلْفَاظِهِ مَا يُنَاسب الْمَعْنى الثَّانِي لِكَلَامِهِمْ فَجِيءَ بِفعل جعلنَا المقتي تَصْيِيرَ شَيْءٍ آخَرَ أَوْ تَعْوِيضَهُ بِهِ. فَضَمِيرُ جَعَلْناهُ عَائِدٌ إِلَى الرَّسُولِ الَّذِي عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ، أَيْ وَلَوِ اكْتَفَيْنَا عَنْ إِرْسَالِ رَسُولٍ مِنْ نَوْعِ الْبَشَرِ وَجَعَلْنَا الرَّسُولَ إِلَيْهِمْ مَلَكًا
لَتَعَيَّنَ أَنْ نُصَوِّرَ ذَلِكَ الْمَلَكَ بِصُورَةِ رَجُلٍ، لِأَنَّهُ لَا مَحِيدَ عَنْ تَشَكُّلِهِ بِشَكْلٍ لِتَمَكُّنِ إِحَاطَةِ أَبْصَارِهِمْ بِهِ وَتَحَيُّزِهِ فَإِذَا تَشَكَّلَ فَإِنَّمَا يَتَشَكَّلُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ لِيُطِيقُوا رُؤْيَتَهُ وَخِطَابَهُ، وَحِينَئِذٍ يَلْتَبِسُ عَلَيْهِمْ أَمْرُهُ كَمَا الْتَبَسَ عَلَيْهِمْ أَمْرُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَكَذَّبُوكَ فِي نَفْيِ تَحْرِيمِ اللَّهِ مَا زَعَمُوا أَنَّهُ حَرَّمَهُ فَذَكِّرْهُمْ بِبَأْسِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ عَمَّا زَعَمُوهُ، وَذَكِّرْهُمْ بِرَحْمَتِهِ الْوَاسِعَةِ لَعَلَّهُمْ يُبَادِرُونَ بِطَلَبِ مَا يُخَوِّلُهُمْ رَحْمَتَهُ مِنِ اتِّبَاعِ هَدْيِ الْإِسْلَامِ، فَيَعُودُ ضَمِيرُ: كَذَّبُوكَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَام: سابقه وَلَا حَقه، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي قَوْلِهِ: فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ تَنْبِيهٌ لَهُمْ بِأَنَّ تَأْخِيرَ الْعَذَابِ عَنْهُمْ هُوَ إِمْهَالٌ دَاخِلٌ فِي رَحْمَةِ اللَّهِ رَحْمَةً مُؤَقَّتَةً، لَعَلَّهُمْ يُسْلِمُونَ. وَعَلَيْهِ يَكُونُ مَعْنَى فِعْلِ: كَذَّبُوكَ الِاسْتِمْرَارَ، أَيْ إِنِ اسْتَمَرُّوا عَلَى التَّكْذِيبِ بَعْدَ هَذِهِ الْحُجَجِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ إِلَى الَّذِينَ هادُوا [الْأَنْعَام: ١٤٦]، تَكْمِلَةً لِلِاسْتِطْرَادِ وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ: أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لَمْ يُحَرِّمِ اللَّهُ عَلَيْنَا شَيْئًا وَإِنَّمَا حَرَّمْنَا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ: فَرْضَ تَكْذِيبِهِمْ قَوْلَهُ: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا [الْأَنْعَام: ١٤٦] إِلَخْ، لِأَنَّ أَقْوَالَهُمْ تُخَالِفُ ذَلِكَ فَهُمْ بِحَيْثُ يُكَذِّبُونَ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَيَشْتَبِهُ عَلَيْهِمِ الْإِمْهَالُ بِالرِّضَى، فَقِيلَ لَهُمْ: رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ. وَمِنْ رَحْمَتِهِ إِمْهَالُهُ الْمُجْرِمِينَ فِي الدُّنْيَا غَالِبًا.
وَقَوْلُهُ: وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ فِيهِ إِيجَازٌ بِحَذْفٍ تَقْدِيرُهُ: وَذُو بَأْسٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ إِذَا أَرَادَهُ. وَهَذَا وَعِيدٌ وَتَوَقُّعٌ وَهُوَ تَذْيِيلٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ يَعُمُّهُمْ وَغَيْرَهُمْ وَهُوَ يَتَضَمَّنُ أَنهم مجرمون.
[١٤٨]
[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : آيَة ١٤٨]
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ
وَالنِّدَاءُ يُؤْذِنُ بِبُعْدِ الْمُخَاطَبِ فَيَظْهَرُ أَنَّ أَهْلَ الْأَعْرَافِ لَمَّا تَطَلَّعُوا بِأَبْصَارِهِمْ إِلَى النَّارِ عَرَفُوا رِجَالًا، أَوْ قَبْلَ ذَلِكَ لَمَّا مُرَّ عَلَيْهِمْ بِأَهْلِ النَّارِ عَرَفُوا رِجَالًا كَانُوا جَبَّارِينَ فِي الدُّنْيَا.
وَالسِّيمَا هُنَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَا الْمُشَخِّصَاتِ الذَّاتِيَّةَ الَّتِي تَتَمَيَّزُ بِهَا الْأَشْخَاصُ، وَلَيْسَتِ السِّيمَا الَّتِي يَتَمَيَّزُ بِهَا أَهْلُ النَّارِ كُلُّهُمْ كَمَا هُوَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ.
فَالْمَقْصُودُ بِهَذِهِ الْآيَةِ ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ، فِيهِ نِذَارَةٌ وَمَوْعِظَةٌ لِجَبَابِرَةِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ الَّذِينَ كَانُوا يُحَقِّرُونَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَفِيهِمْ عَبِيدٌ وَفُقَرَاءُ فَإِذَا سَمِعُوا بِشَارَاتِ الْقُرْآنِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْجَنَّةِ سَكَتُوا عَمَّنْ كَانَ مِنْ أَحْرَارِ الْمُسْلِمِينَ وَسَادَتِهِمْ. وَأَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ أُولَئِكَ الضِّعَافُ وَالْعَبِيدُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ، أَيْ لَوْ فَرَضُوا صِدْقَ وُجُودِ جَنَّةٍ، فَلَيْسَ هَؤُلَاءِ بِأَهْلٍ لِسُكْنَى الْجَنَّةِ لِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالْجَنَّةِ، وَقَصْدُهُمْ مِنْ هَذَا تَكْذِيب النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِظْهَارِ مَا يَحْسَبُونَهُ خَطَلًا مِنْ أَقْوَالِهِ، وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِمْ: هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [سبأ: ٧] فَجَعَلُوا تَمَزُّقَ الْأَجْسَادِ وَفَنَاءَهَا دَلِيلًا عَلَى إِبْطَالِ الْحَشْرِ، وَسَكَتُوا عَنْ حَشْرِ الْأَجْسَادِ الَّتِي لَمْ تُمَزَّقْ. وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ سُوءِ الْفَهْمِ وَضَعْفِ الْإِدْرَاكِ وَالتَّخْلِيطِ بَيْنَ الْعَادِيَّاتِ وَالْعَقْلِيَّاتِ.
قَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ: «يُنَادِي أَهْلُ الْأَعْرَافِ وَهُمْ عَلَى السُّورِ يَا وَلِيدُ بْنَ الْمُغِيرَةِ يَا أَبَا جَهْلَ بْنَ هِشَامٍ يَا فُلَانُ وَيَا فُلَانُ» فَهَؤُلَاءِ مِنَ الرِّجَالِ الَّذِينَ يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَكَانُوا مِنْ أَهْلِ الْعِزَّةِ وَالْكِبْرِيَاءِ.
وَمَعْنَى جَمْعُكُمْ يَحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ النَّاسِ، أَيْ مَا أَغْنَتْ عَنْكُمْ كَثْرَتُكُمُ الَّتِي تَعْتَزُّونَ بِهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ مِنَ الْجَمْعِ الْمَصْدَرُ بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ. أَيْ مَا جَمَعْتُمُوهُ مِنَ الْمَالِ وَالثَّرْوَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ [الحاقة: ٢٨].
وَكَذَلِكَ اخْتِلَافُ التَّعْبِيرِ فِي قَوْلِهِ هُنَا: وَكُلُوا وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٥٨] فَكُلُوا فَإِنَّهُ قَدْ قِيلَ لَهُمْ بِمَا يُرَادِفُ فَاءَ التَّعْقِيبِ، كَمَا جَاءَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، لِأَنَّ التَّعْقِيبَ مَعْنًى زَائِدٌ عَلَى مُطْلَقِ الْجَمْعِ الَّذِي تُفِيدُهُ وَاوُ الْعَطْفِ، وَاقْتُصِرَ هُنَا عَلَى حِكَايَةِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ، وَكَانَتْ آيَةُ الْبَقَرَةِ أَوْلَى بِحِكَايَةِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ فَاءُ التَّعْقِيبِ، لِأَنَّ آيَةَ الْبَقَرَةِ سِيقَتْ مَسَاقَ التَّوْبِيخِ فَنَاسَبَهَا مَا هُوَ أَدَلُّ عَلَى الْمِنَّةِ، وَهُوَ تَعْجِيلُ الِانْتِفَاعِ بِخَيْرَاتِ الْقَرْيَةِ، وَآيَاتُ الْأَعْرَافِ سِيقَتْ لِمُجَرَّدِ الْعِبْرَةِ بِقِصَّةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
وَلِأَجْلِ هَذَا الِاخْتِلَافِ مُيِّزَتْ آيَةُ الْبَقَرَةِ بِإِعَادَةِ الْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ فِي قَوْلِهِ: فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً [الْبَقَرَة: ٥٩] وَعُوِّضَ عَنْهُ هُنَا بِضَمِيرِ الَّذِينَ ظَلَمُوا، لِأَنَّ الْقَصْدَ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ بَيَانُ سَبَبِ إِنْزَالِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ مَرَّتَيْنِ أُشِيرَ إِلَى أُولَاهُمَا بِمَا يُومِئُ إِلَيْهِ الْمَوْصُولُ مِنْ عِلَّةِ الْحُكْمِ، وَإِلَى الثَّانِيَةِ بِحَرْفِ السَّبَبِيَّةِ، وَاقْتُصِرَ هُنَا عَلَى الثَّانِي.
وَقَدْ وَقَعَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٥٩] لَفْظُ فَأَنْزَلْنا وَوَقَعَ هُنَا لَفْظُ فَأَرْسَلْنا وَلَمَّا قُيِّدَ كِلَاهُمَا بِقَوْلِهِ: مِنَ السَّماءِ كَانَ مُفَادُهُمَا وَاحِدًا، فَالِاخْتِلَافُ لِمُجَرَّدِ التَّفَنُّنِ بَيْنَ الْقِصَّتَيْنِ.
وَعُبِّرَ هُنَا بِما كانُوا يَظْلِمُونَ وَفِي الْبَقَرَةِ [٥٩] بِما كانُوا يَفْسُقُونَ لِأَنَّهُ لَمَّا اقْتَضَى الْحَالُ فِي الْقِصَّتَيْنِ تَأْكِيدَ وَصْفِهِمْ بِالظُّلْمِ وَأُدِّيَ ذَلِكَ فِي الْبَقَرَةِ [٥٩] بُقُولِهِ: فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا، اسْتُثْقِلَتْ إِعَادَةُ لَفْظِ الظُّلْمِ هُنَالِكَ ثَالِثَةً، فَعُدِلَ عَنْهُ إِلَى مَا يُفِيدُ مُفَادَهُ، وَهُوَ الْفِسْقُ، وَهُوَ أَيْضًا أَعَمُّ، فَهُوَ أَنْسَبُ بِتَذْيِيلِ التَّوْبِيخِ، وَجِيءَ هُنَا بِلَفْظِ يَظْلِمُونَ لِئَلَّا يَفُوتَ تَسْجِيلُ الظُّلْمِ عَلَيْهِمْ مَرَّةً ثَالِثَةً، فَكَانَ تَذْيِيلُ آيَةِ الْبَقَرَةِ أَنْسَبَ بِالتَّغْلِيطِ فِي ذَمِّهِمْ، لِأَنَّ مَقَامَ التَّوْبِيخِ يَقْتَضِيهِ.
وَوَقَعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَلَمْ يَقَعْ لَفْظُ مِنْهُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَوَجْهُ زِيَادَتِهَا هُنَا التَّصْرِيحُ بِأَنَّ تَبْدِيلَ الْقَوْلِ لَمْ يَصْدُرْ مِنْ جَمِيعِهِمْ، وَأُجْمِلَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ لِأَنَّ آيَةَ الْبَقَرَةِ لَمَّا سِيقَتْ مَسَاقَ التَّوْبِيخِ نَاسَبَ إِرْهَابُهُمْ بِمَا يُوهِمُ أَنَّ الَّذِينَ فَعَلُوا ذَلِكَ هُمْ جَمِيعُ الْقَوْمِ، لِأَنَّ تَبِعَاتِ بَعْضِ الْقَبِيلَةِ تُحْمَلُ عَلَى جَمَاعَتِهَا.
وَقُدِّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٥٨] قَوْلُهُ: وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً عَلَى قَوْلِهِ: وَقُولُوا حِطَّةٌ [الْبَقَرَة: ٥٨] وَعُكِسَ هُنَا وَهُوَ اخْتِلَافٌ فِي الْإِخْبَارِ لِمُجَرَّدِ التَّفَنُّنِ، فَإِنَّ كِلَا الْقَوْلَيْنِ وَاقِعٌ قُدِّمَ أَوْ أُخِّرَ.
وَأَمَّا الْأَعِنَّةُ وَالْقُبَّةُ فَقُبَّةٌ يَضْرِبُونَهَا يَجْتَمِعُونَ إِلَيْهَا عِنْدَ تَجْهِيزِ الْجَيْشِ وَسُمِّيَتِ الْأَعِنَّةَ وَكَانَتْ لِبَنِي مَخْزُومٍ. وَهُمْ أَبْنَاءُ عَمِّ قُصَيٍّ، وَجَاءَ الْإِسْلَامُ وَهِيَ بِيَدِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ.
وَأَمَّا الْحُكُومَةُ وَأَمْوَالُ الْآلِهَةِ- وَلَمْ أَقِفْ عَلَى حَقِيقَتِهَا- فَأَحْسَبُ أَنَّ تَسْمِيَتَهَا الْحُكُومَةَ لِأَنَّ الْمَالَ الْمُتَجَمِّعَ بِهَا هُوَ مَا يُحَصَّلُ مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ أَوْ فِي الْإِحْرَامِ. وَأَمَّا تَسْمِيَتُهَا أَمْوَالَ الْآلِهَةِ لِأَنَّهَا أَمْوَالٌ تُحَصَّلُ مِنْ نَحْوِ السَّائِبَةِ وَالْبَحِيرَةِ وَمَا يُوهَبُ لِلْآلِهَةِ مِنْ سِلَاحٍ وَمَتَاعٍ. فَكَانَتْ لِبَنِي سَهْمٍ وَهُمْ أَبْنَاءُ عَمٍّ لِقُصَيٍّ. وَجَاءَ الْإِسْلَامُ وَهِيَ بِيَدِ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ سَهْمٍ.
وَأَمَّا الْأَيْسَارُ وَهِيَ الْأَزْلَامُ الَّتِي يَسْتَقْسِمُونَ بِهَا فَكَانَتْ لِبَنِي جُمَحٍ وَهُمْ أَبْنَاءُ عَمٍّ لِقُصَيٍّ، وَجَاءَ الْإِسْلَامُ وَهِيَ بِيَدِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ.
وَقَدْ أَبْطَلَ الْإِسْلَامُ جَمِيعَ هَذِهِ الْمَنَاصِبِ، عَدَا السِّدَانَةَ وَالسِّقَايَةَ،
لِقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ «أَلَا إِنَّ كُلَّ مَأْثُرَةٍ مِنْ مَآثِرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ إِلَّا سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَسِدَانَةَ الْبَيْتِ»
(١).
وَكَانَتْ مَنَاصِبُ الْعَرَبِ الَّتِي بِيَدِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابٍ خَمْسَةً: الْحِجَابَةَ، وَالسِّقَايَةَ، وَالرِّفَادَةَ، وَالنَّدْوَةَ، وَاللِّوَاءَ- فَلَمَّا كَبُرَ قُصَيٌّ جَعَلَ الْمَنَاصِبَ لِابْنِهِ عَبْدِ الدَّارِ، ثُمَّ اخْتَصَمَ أَبْنَاءُ قُصَيٍّ بَعْدَ مَوْتِهِ وَتَدَاعَوْا لِلْحَرْبِ، ثُمَّ تَدَاعَوْا لِلصُّلْحِ، عَلَى أَنْ يُعْطُوا بَنِي عَبْدِ الدَّارِ الْحِجَابَةَ وَاللِّوَاءَ وَالنَّدْوَةَ، وَأَنْ يُعْطُوا بَنِي عَبْدَ مَنَافٍ السِّقَايَةَ وَالرِّفَادَةَ، وَأُحْدِثَتْ مَنَاصِبُ لِبَعْضٍ مِنْ قُرَيْشٍ غَيْرِ أَبْنَاءِ قُصَيٍّ فَانْتَهَتِ الْمَنَاصِبُ إِلَى عَشْرَةٍ كَمَا ذَكَرْنَا.
وَذِكْرُ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ لَيْسَ لِأَنَّهُ مَحَلُّ التَّسْوِيَةِ الْمَرْدُودَةِ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَدَّعُوا التَّسْوِيَةَ بَيْنَ السِّقَايَةِ أَوِ الْعِمَارَةِ بِدُونِ الْإِيمَانِ، بَلْ ذِكْرُ الْإِيمَانِ إِدْمَاجٌ، لِلْإِيمَاءِ إِلَى
أَنَّ الْجِهَادَ أَثَرُ الْإِيمَانِ، وَهُوَ مُلَازِمٌ لِلْإِيمَانِ، فَلَا يَجُوزُ لِلْمُؤْمِنِ التَّنَصُّلُ مِنْهُ بِعِلَّةِ اشْتِغَالِهِ بِسِقَايَةِ الْحَاجِّ وَعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَلَيْسَ ذِكْرُ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ لِكَوْنِ الَّذِينَ جَعَلُوا مَزِيَّةَ سِقَايَةِ الْحَاجِّ وَعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِثْلَ مَزِيَّةِ الْإِيمَانِ
_________
(١) رَوَاهُ ابْن الْأَثِير فِي «النِّهَايَة» فِي مَادَّة (أثر) ومادة (سقى).
كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ [يُونُس: ٢٤] تَذْيِيلًا وَكَانَ شَأْنُ التَّذْيِيلِ أَنْ يَكُونَ كَامِلًا جَامِعًا مُسْتَقِلًّا جُعِلَتِ الْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفَةُ عَلَيْهَا مِثْلَهَا فِي الِاسْتِقْلَالِ فَعُدِلَ فِيهَا عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى الْإِظْهَارِ إِذْ وُضِعَ قَوْله: وَاللَّهُ يَدْعُوا مَوْضِعَ نَدْعُو لِأَنَّ الْإِضْمَارَ فِي الْجُمْلَةِ يَجْعَلُهَا مُحْتَاجَةً إِلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي فِيهَا الْمُعَادُ.
وَحذف مفعول يَدْعُوا لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ، أَيْ يَدْعُو كُلَّ أَحَدٍ. وَالدَّعْوَةُ هِيَ: الطَّلَبُ وَالتَّحْرِيضُ. وَهِيَ هُنَا أَوَامِرُ التَّكْلِيفِ وَنَوَاهِيهِ.
وَدَارُ السَّلَامِ: الْجَنَّةُ، قَالَ تَعَالَى: لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُ تَسْمِيَتِهَا بِذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٢٧].
وَالْهِدَايَةُ: الدَّلَالَةُ عَلَى الْمَقْصُودِ النَّافِعِ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا خَلْقُ الِاهْتِدَاءِ إِلَى الْمَقْصُودِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: مَنْ يَشاءُ بَعْدَ قَوْله: وَاللَّهُ يَدْعُوا الْمُفِيدِ التَّعْمِيمَ فَإِنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى الْجَنَّةِ دَلَالَةٌ عَلَيْهَا فَهِيَ هِدَايَةٌ بِالْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ فَتَعَيَّنَ أَنَّ يَهْدِي هُنَا مَعْنَاهُ إِيجَادُ الْهِدَايَةِ بِمَعْنًى آخَرَ، وَهِيَ حُصُولُ الِاهْتِدَاءِ بِالْفِعْلِ، أَيْ خَلْقُ حُصُولِهِ بِأَمْرِ التَّكْوِينِ، كَقَوْلِهِ: فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ [الْأَعْرَاف: ٣٠] وَهَذَا التَّكْوِينُ يَقَعُ إِمَّا فِي كُلِّ جُزْئِيَّةٍ مِنْ جُزْئِيَّاتِ الِاهْتِدَاءِ عَلَى طَرِيقَةِ الْأَشَاعِرَةِ، وَإِمَّا بِخَلْقِ الِاسْتِعْدَادِ لَهُ بِحَيْثُ يَقْدِرُ عَلَى الِاهْتِدَاءِ عِنْدَ حُصُولِ الْأَدِلَّةِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُعْتَزِلَةِ وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ فِي الْحَال، وشؤون الْغَيْبِ خَفِيَّةٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الْفَاتِحَة: ٦].
والصراط الْمُسْتَقِيمَ: الطَّرِيق الْموصل.
[٢٦]
[سُورَة يُونُس (١٠) : آيَة ٢٦]
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٦)
هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [يُونُس: ٢٥] لِأَنَّ الْهِدَايَةَ
فَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ أَنَّهُ مَا يُرِيدُ مُجَرَّدَ الْمُخَالَفَةِ كَشَأْنِ الْمُنْتَقِدِينَ الْمُتَقَعِّرِينَ وَلَكِنْ يُخَالِفُهُمْ لِمَقْصِدٍ سَامٍ وَهُوَ إِرَادَةُ إِصْلَاحِهِمْ. وَمِنْ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ لَمَّا جَاءَ وَفْدُ فَزَارَة إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: «أَمِّرِ الْأَقْرَعَ بْنَ
حَابِسٍ، وَقَالَ عُمَرُ: أَمِّرْ فُلَانًا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ: مَا أَرَدْتَ إِلَى خِلَافِي، فَقَالَ عُمَرُ: مَا أَرَدْتُ إِلَى خِلَافِكَ»
. فَهَذَا التَّفْسِيرُ لَهُ وَجْهٌ وَجِيهٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَفِي هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُنْتَقِدِينَ قِسْمَانِ قِسْمٌ يَنْتَقِدُ الشَّيْءَ وَيَقِفُ عِنْدَ حَدِّ النَّقْدِ دُونَ ارْتِقَاءٍ إِلَى بَيَانِ مَا يُصْلِحُ الْمَنْقُودَ. وَقِسْمٌ يَنْتَقِدُ لِيُبَيِّنَ وَجْهَ الْخَطَأِ ثُمَّ يُعْقِبُهُ بِبَيَانِ مَا يُصْلِحُ خَطَأَهُ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَتَعَلَّقُ إِلى مَا أَنْهاكُمْ بِفِعْلِ أُرِيدُ وَكَذَلِكَ أَنْ أُخالِفَكُمْ يَتَعَلَّقُ بِ أُرِيدُ عَلَى حَذْفِ حَرْفِ لَامِ الْجَرِّ. وَالتَّقْدِيرُ: مَا أُرِيدُ إِلَى النَّهْيِ لِأَجْلِ أَنْ أُخَالِفَكُمْ، أَيْ لِمَحَبَّةِ خِلَافِكُمْ.
وَجُمْلَةُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ مَا أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى مَا أَنْهاكُمْ عَنْهُ لِأَنَّ انْتِفَاءَ إِرَادَةِ الْمُخَالَفَةِ إِلَى مَا نَهَاهُمْ عَنْهُ مُجْمَلٌ فِيمَا يُرِيدُ إِثْبَاتَهُ مِنْ أَضْدَادِ الْمَنْفِيِّ فَبَيَّنَهُ بِأَنَّ الضِّدَّ الْمُرَادَ إِثْبَاتُهُ هُوَ الْإِصْلَاحُ فِي جَمِيعِ أَوْقَاتِ اسْتِطَاعَتِهِ بِتَحْصِيلِ الْإِصْلَاحِ، فَالْقَصْرُ قَصْرُ قَلْبٍ.
وَأَفَادَتْ صِيغَةُ الْقَصْرِ تَأْكِيدُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْقَصْرَ قَدْ كَانَ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الِاقْتِصَارِ عَلَى النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ نَحْوَ أَنْ يَقُولَ: مَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ أُرِيدُ الْإِصْلَاحَ، كَقَوْلِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْحَارِثِيِّ أَوِ السَّمَوْأَلِ:
تَسِيلُ عَلَى حَدِّ الظُّبَاتِ نُفُوسُنَا وَلَيْسَتْ عَلَى غَيْرِ الظُّبَاتِ تَسِيلُ
وَلَمَّا بَيَّنَ لَهُمْ حَقِيقَةَ عَمَلِهِ وَكَانَ فِي بَيَانِهِ مَا يَجُرُّ الثَّنَاءَ عَلَى نَفْسِهِ أَعْقَبَهُ بِإِرْجَاعِ الْفَضْلِ فِي ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ فَقَالَ: وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ فَسَمَّى إِرَادَتَهُ الْإِصْلَاحَ تَوْفِيقًا وَجَعَلَهُ مِنَ اللَّهِ لَا يَحْصُلُ فِي وَقْتٍ إِلَّا بِاللَّهِ، أَيْ بِإِرَادَتِهِ وَهَدْيِهِ، فَجُمْلَةُ وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ أُرِيدُ.
وَ (يَيْأَسِ) بِمَعْنَى يُوقِنُ وَيَعْلَمُ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ هَذَا الْفِعْلُ إِلَّا مَعَ أَنَّ الْمَصْدَرِيَّةَ، وَأَصْلُهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْيَأْسِ الَّذِي هُوَ تَيَقُّنُ عَدَمِ حُصُولِ الْمَطْلُوبِ بَعْدَ الْبَحْثِ، فَاسْتُعْمِلَ فِي مُطْلَقِ الْيَقِينِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ بِعَلَاقَةِ اللُّزُومِ لِتَضَمُّنِ مَعْنَى الْيَأْسِ مَعْنَى الْعِلْمِ وَشَاعَ ذَلِكَ حَتَّى صَارَ حَقِيقَةً، وَمِنْهُ قَوْلُ سُحَيْمِ بْنِ وَثِيلٍ الرَّيَاحِيِّ:
أَقُولُ لَهُمْ بِالشِّعْبِ إِذْ يَيْسَرُونَنِي أَلَمْ تَأْيَسُوا أَنِّي ابْنُ فَارِسِ زَهْدَمِ
وَشَوَاهِدُ أُخْرَى.
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ اسْتِعْمَالَ يَئِسَ بِمَعْنَى عَلِمَ لُغَةُ هَوَازِنَ أَوْ لُغَةُ بَنِي وَهْبِيلَ (فَخِذٌ مِنِ النَّخْعِ سُمِّيَ بِاسْمِ جَدٍّ). وَلَيْسَ هُنَالك مَا يلجىء إِلَى هَذَا. هَذَا إِذَا جُعِلَ أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ
مَفْعُولًا لِ يَيْأَسِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلَّقُ يَيْأَسِ مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ. تَقْدِيرُهُ: مِنْ إِيمَانِ هَؤُلَاءِ، وَيَكُونُ أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ مَجْرُورًا بِلَامِ تَعْلِيلٍ مَحْذُوفَةٍ. وَالتَّقْدِيرُ: لِأَنَّهُ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ، فَيَكُونُ تَعْلِيلًا لِإِنْكَارِ عَدَمِ يَأْسِهِمْ عَلَى تَقْدِيرِ حُصُولِهِ.
وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعادَ.
مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ عَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ فِي تِلْكَ الْجُمْلَةِ. وَهِيَ تَهْدِيدٌ بِالْوَعِيدِ عَلَى تَعَنُّتِهِمْ وَإِصْرَارِهِمْ عَلَى عَدَمِ الِاعْتِرَافِ بِمُعْجِزَةِ الْقُرْآنِ، وَتَهَكُّمِهِمْ بِاسْتِعْجَالِ الْعَذَابِ الَّذِي تُوُعِّدُوا بِهِ، فَهُدِّدُوا بِمَا سَيَحُلُّ بِهِمْ مِنَ الْخَوْفِ بِحُلُولِ الْكَتَائِبِ وَالسَّرَايَا بِهِمْ تَنَالُ الَّذِينَ حلّت فيهم وَتَخْفِيف مَنْ حَوْلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ بِيَوْمِ بَدْرٍ أَوْ فَتْحِ مَكَّةَ.

[سُورَة النَّحْل (١٦) : الْآيَات ٣٣ إِلَى ٣٤]

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٣٣) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٤)
اسْتِئْنَاف بياني ناشىء عَنْ جُمْلَةِ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [سُورَة الرَّعْد: ٤٢] لِأَنَّهَا تُثِيرُ سُؤَالَ مَنْ يَسْأَلُ عَنْ إِبَّانِ حُلُولِ الْعَذَابِ عَلَى هَؤُلَاءِ كَمَا حَلَّ بِالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَقِيلَ: مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا أَحَدَ أَمْرَيْنِ هُمَا مَجِيءُ الْمَلَائِكَةِ لَقَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ فَيَحِقُّ عَلَيْهِمُ الْوَعِيدُ الْمُتَقَدِّمُ، أَوْ أَنْ يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ. وَالْمُرَادُ بِهِ الِاسْتِئْصَالُ الْمُعَرَّضُ بِالتَّهْدِيدِ فِي قَوْلِهِ: فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ [سُورَة النَّحْل: ٢٦].
وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ فِي مَعْنَى النَّفْيِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ بعده الِاسْتِثْنَاء.
ونْظُرُونَ
هُنَا بِمَعْنَى الِانْتِظَارِ وَهُوَ النِّظَرَةُ. وَالْكَلَامُ مُوَجَّهٌ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَذْكِيرًا بِتَحْقِيقِ الْوَعِيدِ وَعَدَمِ اسْتِبْطَائِهِ وَتَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ بِالتَّحْذِيرِ مِنَ اغْتِرَارِهِمْ بِتَأَخُّرِ الْوَعِيدِ وَحَثًّا لَهُمْ عَلَى الْمُبَادَرَةِ بِالْإِيمَانِ.
وَإِسْنَادُ الِانْتِظَارِ الْمَذْكُور إِلَيْهِم جَار عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ بِتَنْزِيلِهِمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يَنْتَظِرُ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ، لِأَنَّ حَالَهُمْ مِنَ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْوَعِيدِ وَعَدَمِ التَّفَكُّرِ فِي دَلَائِلِ صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ ظُهُورِ تِلْكَ الدَّلَائِلِ وَإِفَادَتِهَا التَّحَقُّقَ كَحَالِ مَنْ أَيْقَنَ حُلُولَ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ بِهِ فَهُوَ يَتَرَقَّبُ أَحَدَهُمَا، كَمَا تَقُولُ لِمَنْ لَا يَأْخُذُ حَذَرَهُ مِنَ الْعَدُوِّ: مَا تَتَرَقَّبُ إِلَّا أَنْ تَقَعَ أَسِيرًا. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ [سُورَة يُونُس: ١٠٢] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ [سُورَة الْقَصَص: ١٩]. وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ وَمَا هُوَ بِذَلِكَ.
تَخْوِيفٌ مِنَ الْعَذَابِ وَاللَّهُ أَرَادَ الْإِبْقَاءَ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ قَالَ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الْأَنْفَال: ٣٣] الْآيَةَ، فَعَوَّضْنَا تَخْوِيفَهُمْ بَدَلًا عَنْ إِرْسَالِ الْآيَاتِ الَّتِي اقْتَرَحُوهَا.
وَالْقَوْلُ فِي تَعْدِيَةِ وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ كَالْقَوْلِ فِي وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ مَعْنًى وَتَقْدِيرًا عَلَى الْوَجْهَيْنِ.
وَالتَّخْوِيفُ: جَعْلُ الْمَرْءِ خَائِفًا.
وَالْقَصْرُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا تَخْوِيفاً لِقَصْرِ الْإِرْسَالِ بِالْآيَاتِ عَلَى عِلَّةِ التَّخْوِيفِ، وَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ، أَيْ لَا مُبَارَاةَ بَيْنَ الرُّسُلِ وَأَقْوَامِهِمْ أَوْ لَا طَمَعًا فِي إِيمَانِ الْأَقْوَامِ فَقَدْ عَلِمْنَا
أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ.
[٦٠]
[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧) : آيَة ٦٠]
وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (٦٠)
وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ هَذِهِ تَسْلِيَة للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حُزْنِهِ مِنْ تَكْذِيبِ قَوْمِهِ إِيَّاهُ، وَمِنْ إِمْهَالِ عُتَاةِ أَعْدَاءِ الدِّينِ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ، فَذَكَّرَهُ اللَّهُ بِوَعْدِهِ نَصْرَهُ.
وَقَدْ أَوْمَأَ جَعْلُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ لَفْظَ الرَّبِّ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ الرَّسُولِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مَسُوقٌ مَسَاقَ التَّكْرِمَةِ لِلنَّبِيءِ وَتَصْبِيرِهِ، وَأَنَّهُ بِمَحَلِّ عِنَايَةِ اللَّهِ بِهِ إِذْ هُوَ رَبُّهُ وَهُوَ نَاصِرُهُ قَالَ تَعَالَى:
وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [الطّور: ٤٨].
فَجُمْلَةُ وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِلَخْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ [الْإِسْرَاء: ٥٩] وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُعْتَرِضَةً.
وَ (إِذْ) مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيِ اذْكُرْ إِذْ قُلْنَا لَكَ كَلَامًا هُوَ وَعْدٌ بِالصَّبْرِ، أَيِ اذْكُرْ لَهُمْ ذَلِكَ وَأَعِدْهُ عَلَى أَسْمَاعِهِمْ، أَوْ هُوَ فِعْلُ «اذْكُرْ»
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَإِذا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا إِنْكَارٌ لِتَحْقِيقِ وُقُوعِ الْبَعْثِ، فَلِذَلِكَ أُتِيَ بِالْجُمْلَةِ الْمُسَلَّطِ عَلَيْهَا الْإِنْكَارُ مُقْتَرِنَةً بِلَامِ الِابْتِدَاءِ الدَّالَةِ عَلَى تَوْكِيدِ الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ هِيَ فِيهَا، أَيْ يَقُولُ لَا يَكُونُ مَا حَقَّقْتُمُوهُ مِنْ إِحْيَائِي فِي الْمُسْتَقْبَلِ.
وَمُتَعَلِّقُ أُخْرَجُ مَحْذُوفٌ أَيْ أُخْرَجُ مِنَ الْقَبْرِ.
وَقَدْ دَخَلَتْ لَامُ الِابْتِدَاءِ فِي قَوْلِهِ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا على الْمُضَارِعِ الْمُسْتَقْبَلِ بِصَرِيحِ وُجُودِ حَرْفِ الِاسْتِقْبَالِ، وَذَلِكَ حُجَّةٌ لِقَوْلِ ابْنِ مَالِكٍ بِأَنَّ لَامَ الِابْتِدَاءِ تَدْخُلُ عَلَى الْمُضَارِعِ الْمُرَادِ بِهِ الِاسْتِقْبَالُ وَلَا تُخَلِّصُهُ لِلْحَالِ. وَيَظْهَرُ أَنَّهُ مَعَ الْقَرِينَةِ الصَّرِيحَةِ لَا يَنْبَغِي الِاخْتِلَافُ فِي عَدَمِ تَخْلِيصِهَا الْمُضَارِعَ لِلْحَالِ، وإِنْ صَمَّمَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى مَنْعِهِ، وَتَأَوَّلَ مَا هُنَا بِأَنَّ اللَّامَ مَزِيدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ وَلَيْسَتْ لَامَ الِابْتِدَاءِ، وَتَأَوَّلَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى [الضُّحَى: ٥] بِتَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ وَلَأَنْتَ سَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى، فَلَا تَكُونُ اللَّامُ دَاخِلَةً عَلَى الْمُضَارِعِ، وَكُلُّ ذَلِكَ تكلّف لَا ملجىء إِلَيْهِ.
وَجُمْلَةُ أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ يَقُولُ الْإِنْسانُ، أَيْ يَقُولُ ذَلِكَ وَمِنَ النَّكِيرِ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَتَذَكَّرُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلِ وُجُودِهِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارٌ وَتَعْجِيبٌ مِنْ ذُهُولِ الْإِنْسَانِ الْمُنْكِرِ الْبَعْثَ عَنْ خَلْقِهِ الْأَوَّلِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَوَلا يَذْكُرُ بِسُكُونِ الذَّالِ وَضَمِّ الْكَافِ- مِنَ الذُّكْرِ- بِضَمِّ الذَّالِ-. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ بِفَتْحِ الذَّالِ وَتَشْدِيدِ الْكَافِ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ يَتَذَكَّرُ فَقُلِبَتِ التَّاءُ الثَّانِيَةُ ذَالًا لِقُرْبِ مَخْرَجَيْهِمَا.
وَالشَّيْءُ: هُوَ الْمَوْجُودُ، أَيْ أَنَّا خَلَقْنَاهُ وَلَمْ يَكُ مَوْجُودًا.
أَيْ مَمْنُوعٌ عَلَى قَرْيَةٍ قَدَّرْنَا إِهْلَاكَهَا أَنْ لَا يَرْجِعُوا، فَ حَرامٌ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ وأَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ فِي قُوَّةِ مَصْدَرٍ مُبْتَدَأٌ. وَالْخَبَرُ عَنْ (أَنْ) وَصِلَتِهَا لَا يَكُونُ إِلَّا مُقَدَّمًا، كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي «أَمَالِيهِ» فِي ذِكْرِ هَذِهِ الْآيَةِ.
وَفِعْلُ أَهْلَكْناها مُسْتَعْمَلٌ فِي إِرَادَةِ وُقُوعِ الْفِعْلِ، أَيْ أَرَدْنَا إِهْلَاكَهَا.
وَالرُّجُوعُ: الْعَوْدُ إِلَى مَا كَانَ فِيهِ الْمَرْءُ فَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ رُجُوعُهُمْ عَنِ الْكُفْرِ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ تَكُونَ (لَا) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَرْجِعُونَ زَائِدَةً لِلتَّوْكِيدِ، لِأَنَّ (حَرَامٌ) فِي مَعْنَى النَّفْيِ وَ (لَا) نَافِيَةٌ وَنَفْيُ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ، فَيَصِيرُ الْمَعْنَى مَنْعَ عَدَمِ رُجُوعِهِمْ إِلَى الْإِيمَانِ، فَيُؤَوَّلُ إِلَى أَنَّهُمْ رَاجِعُونَ إِلَى الْإِيمَانِ. وَلَيْسَ هَذَا بِمُرَادٍ فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمَعْنَى: مُنِعَ عَلَى قَرْيَةٍ قَدَّرْنَا هَلَاكَهَا أَنْ يَرْجِعُوا عَنْ ضَلَالِهِمْ لِأَنَّهُ قَدْ سَبَقَ تَقْدِيرُ هَلَاكِهَا. وَهَذَا إِعْلَامٌ بِسُنَّةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي تَصَرُّفِهِ فِي الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ مَقْصُودٌ مِنْهُ التَّعْرِيضُ بِتَأْيِيسِ فَرِيقٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْمَصِيرِ إِلَى الْإِيمَانِ وَتَهْدِيدُهُمْ بِالْهَلَاكِ. وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ قَدَّرَ اللَّهُ هَلَاكَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ بِسُيُوفِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ رُجُوعُهُمْ إِلَى الْآخِرَةِ بِالْبَعْثِ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِتَفْرِيعِهِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٩٣] فَتَكُونَ (لَا) نَافِيَةً. وَالْمَعْنَى: مَمْنُوعٌ عَدَمُ رُجُوعِهِمْ إِلَى الْآخِرَةِ الَّذِي يَزْعُمُونَهُ، أَيْ دَعْوَاهُمْ بَاطِلَةٌ، أَيْ فَهُمْ رَاجِعُونَ إِلَيْنَا فَمُجَازَوْنَ عَلَى كُفْرِهِمْ، فَيَكُونَ إِثْبَاتًا لِلْبَعْثِ بِنَفْيِ ضِدِّهِ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ صَرِيحِ الْإِثْبَاتِ لِأَنَّهُ إِثْبَاتٌ بِطَرِيقِ الْمُلَازَمَةِ فَكَأَنَّهُ إِثْبَاتُ الشَّيْءِ بِحُجَّةٍ. وَيُفِيدُ تَأْكِيدًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ [الْأَنْبِيَاء:
٩٣].
وَجُمْلَةُ أَهْلَكْناها إِدْمَاجٌ لِلْوَعِيدِ بِعَذَابِ الدُّنْيَا قَبْلَ عَذَابِ الْآخِرَةِ.
وَفِعْلُ أَهْلَكْناها مُسْتَعْمَلٌ فِي أَصْلِ مَعْنَاهُ، أَيْ وَقَعَ إِهْلَاكُنَا إِيَّاهَا. وَالْمَعْنَى: مَا مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَانْقَرَضَتْ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا وَهُمْ رَاجِعُونَ
الْيَقِينِيَّةِ بِجَعْلِهِ كَالْعِلْمِ الْحَاصِلِ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَهُ الذِّهْنُ، أَيِ الْعِلْمُ الَّذِي شَأْنُهُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا، فَشُبِّهَ جَهْلُهُ بِالنِّسْيَانِ وَشُبِّهَ عِلْمُهُ بِالتَّذَكُّرِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَذَكَّرُونَ بِتَشْدِيدِ الذَّالِ وَأَصْلُهُ تَتَذَكَّرُونَ فَأُدْغِمَ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ وَخَلَفٌ تَذَكَّرُونَ بِتَخْفِيفِ الذَّالِ فحذفت إِحْدَى التَّاءَيْنِ اخْتِصَارًا.
[٢]
[سُورَة النُّور (٢٤) : آيَة ٢]
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢)
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ.
ابْتِدَاءُ كَلَامٍ وَهُوَ كَالْعُنْوَانِ وَالتَّرْجَمَةِ فِي التَّبْوِيبِ فَلِذَلِكَ أُتِيَ بَعْدَهُ بِالْفَاءِ الْمُؤْذِنَةِ بِأَنَّ مَا بَعْدَهَا فِي قُوَّةِ الْجَوَابِ وَأَنَّ مَا قَبْلَهَا فِي قُوَّةِ الشَّرْطِ. فَالتَّقْدِيرُ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي مِمَّا أُنْزِلَتْ لَهُ هَذِهِ السُّورَةُ وَفُرِضَتْ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا يَسْتَدْعِي اسْتِشْرَافَ السَّامِعِ كَانَ الْكَلَامُ فِي قُوَّةِ: إِنْ أَرَدْتُمْ حُكْمَهُمَا فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ. وَهَكَذَا شَأْنُ هَذِهِ الْفَاءِ كُلَّمَا جَاءَتْ بَعْدَ مَا هُوَ فِي صُورَةِ الْمُبْتَدَأِ فَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ الْمُبْتَدَأُ فِي مَعْنًى مَا لِلسَّامِعِ رَغْبَةٌ فِي اسْتِعْلَامِ حَالِهِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ، وَهُوَ مِنْ شَوَاهِدِ «كِتَابِ سِيبَوَيْهِ» الَّتِي لَمْ يُعْرَفْ قَائِلُهَا:
وَقَائِلَةٌ:
خَوْلَانَ فَانْكِحْ فَتَاتَهُمْ وَأُكْرُومَةُ الْحَيَّيْنِ خَلُّو كَمَا هِيَا
التَّقْدِيرُ: هَذِهِ خَوْلَانُ، أَوْ خَوْلَانُ مِمَّا يُرْغَبُ فِي صِهْرِهَا فَانْكِحْ فَتَاتَهُمْ إِنْ رَغِبْتَ.
وَمَنْ صَرَفُوا ذِهْنَهُمْ عَنْ هَذِهِ الدَّقَائِقِ فِي الِاسْتِعْمَالِ قَالُوا الْفَاءُ زَائِدَةٌ فِي الْخَبَرِ. وَتَقَدَّمَ زِيَادَةُ الْفَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [٣٨].
وَصِيغَتَا الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي صِيغَةُ اسْمِ فَاعِلٍ وَهُوَ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي أَصْلِ مَعْنَاهُ وَهُوَ اتِّصَافُ صَاحِبِهِ بِمَعْنَى مَادَّتِهِ فَلِذَلِكَ يُعْتَبَرُ بِمَنْزِلَةِ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الِاتِّصَافِ بِالْحَدَثِ فِي زَمَنِ الْحَالِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: الَّتِي تَزْنِي
ابْتِهَالٌ أَرْجَى لِلْقَبُولِ كَالدُّعَاءِ عَقِبَ الصَّلَوَاتِ وَعِنْدَ إِفْطَارِ الصَّائِمِ وَدُعَاءِ يَوْمِ عَرَفَةَ وَالدُّعَاءِ عِنْدَ الزَّحْفِ، وَكُلُّهَا فَرَاغٌ مِنْ عِبَادَاتٍ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ دُعَاؤُهُ عِنْدَ الِانْتِهَاءِ مِنْ بِنَاءِ أَسَاسِ الْكَعْبَةِ الْمَحْكِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ إِلَى قَوْلِهِ: رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ إِلَى إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الْبَقَرَة: ١٢٧- ١٢٩] وَابْتَدَأَ بِنَفْسِهِ فِي أَعْمَالِ هَذَا الدِّينِ كَمَا قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الْأَعْرَاف: ١٤٣]، وَكَمَا أُمِرَ رَسُولُهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ قَالَ: وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ [الزمر: ١٢].
وَلِلْأَوَّلِيَّاتِ فِي الْفَضَائِلِ مَرْتَبَةٌ مَرْغُوبَةٌ، قَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ «أَنَا أَوَّلُ مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ». وَبِضِدِّ ذَلِك أوليات المساويء
فَفِي الْحَدِيثِ: «مَا مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ»
. وَقَدْ قَابَلَ إِبْرَاهِيمُ فِي دُعَائِهِ النِّعَمَ الْخَمْسَ الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِ الْمَذْكُورَةَ فِي قَوْلِهِ:
الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ إِلَى قَوْلِهِ: يَوْمَ الدِّينِ [الشُّعَرَاء: ٧٨- ٨٢] الرَّاجِعَةَ إِلَى مَوَاهِبَ حِسِّيَّةٍ بِسُؤَالِ خَمْسِ نِعَمٍ رَاجِعَةٍ إِلَى الْكَمَالِ النَّفْسَانِيِّ كَمَا أَوْمَأَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ وَأَقْحَمَ بَيْنَ طَلَبَاتِهِ سُؤَالَهُ الْمَغْفِرَةَ لِأَبِيهِ لِأَنَّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ: وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ.
فَابْتِدَاءُ دُعَائِهِ بِأَنْ يعْطى حكما. وَالْحكم: هُوَ الْحِكْمَةُ وَالنُّبُوءَةُ، قَالَ تَعَالَى عَنْ يُوسُفَ: آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً [الْقَصَص: ١٤] أَيِ النُّبُوءَةَ، وَقَدْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ حِينَ دَعَا نَبِيئًا فَلِذَلِكَ كَانَ السُّؤَالُ طَلَبًا لِلِازْدِيَادِ لِأَنَّ مَرَاتِبَ الْكَمَالِ لَا حَدَّ لَهَا بِأَنْ يُعْطَى الرِّسَالَةَ مَعَ
النُّبُوءَةِ أَوْ يُعْطَى شَرِيعَةً مَعَ الرِّسَالَةِ، أَوْ سَأَلَ الدَّوَامَ عَلَى ذَلِكَ.
ثُمَّ ارْتَقَى فَطَلَبَ إِلْحَاقَهُ بِالصَّالِحِينَ. وَلَفْظُ الصَّالِحِينَ يَعُمُّ جَمِيعَ الصَّالِحِينَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، فَيَكُونُ قَدْ سَأَلَ بُلُوغَ دَرَجَاتِ الرُّسُلِ أُولِي الْعَزْمِ نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ فَجَعَلَ الصَّالِحِينَ آخِرًا لِأَنَّهُ يَعُمُّ، فَكَانَ تَذْيِيلًا.
ثُمَّ سَأَلَ بَقَاءَ ذِكْرٍ لَهُ حَسَنٍ فِي الْأُمَمِ وَالْأَجْيَالِ الْآتِيَةِ مِنْ بَعْدِهِ. وَهَذَا يَتَضَمَّنُ سُؤَالَ الدَّوَامِ وَالْخِتَامِ عَلَى الْكَمَالِ وَطَلَبَ نَشْرِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَهَذَا مَا تَتَغَذَّى بِهِ الرُّوحُ
وَفَائِدَةُ هَذَا الْمَجَازِ إِظْهَارُ الْعِنَايَةِ حَتَّى كَأَنَّ الْمُثِيبَ يُعْطِي ثُمَّ يُكَرِّرُ عَطَاءَهُ فَفِي يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ تَمْثِيلَةٌ.
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «ثَلَاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكتاب آمن بنبيئه وَأَدْرَكَنِي فَآمَنَ بِي وَاتَّبَعَنِي وَصَدَّقَنِي فَلَهُ أَجْرَانِ، وَعَبْدٌ مَمْلُوكٌ أَدَّى حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقَّ سَيِّدِهِ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَرَجُلٌ كَانَتْ لَهُ أُمَّةٌ فَغَذَّاهَا فَأَحْسَنَ غِذَاءَهَا ثُمَّ أَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا فَلَهُ أَجْرَانِ»
. رَوَاهُ الشَّعْبِيُّ وَقَالَ لِعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ: خُذْهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ فَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَرْحَلُ فِيمَا دُونَ هَذَا إِلَى الْمَدِينَةِ.
وَالثَّانِيَةُ: الصَّبْرُ، وَالصَّبْرُ مِنْ أَعْظَمِ خِصَالِ الْبِرِّ وَأَجْمَعِهَا لِلْمَبَرَّاتِ، وَأَعْوَنِهَا عَلَى الزِّيَادَةِ وَالْمُرَادُ بِالصَّبْرِ صَبْرُهُمْ عَلَى أَذَى أَهْلِ مِلَّتِهِمْ أَوْ صَبْرُهُمْ عَلَى أَذَى قُرَيْشٍ، وَهَذَا يَتَحَقَّقُ فِي مِثْلِ الْوَفْدِ الْحَبَشِيِّ. وَلَعَلَّهُمُ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَلِذَلِكَ أتبع بقوله وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَقَوْلِهِ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ.
وَالْخَصْلَةُ الثَّالِثَةُ: دَرْؤُهُمُ السَّيِّئَةَ بِالْحَسَنَةِ وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ خِصَالِ الْخَيْرِ وَأَدْعَاهَا إِلَى حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ قَالَ تَعَالَى وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت: ٣٤]، فَيَحْصُلُ بِذَلِكَ فَائِدَةُ دَفْعِ مَضَرَّةِ الْمُسِيءِ.
عَنِ النَّفْسِ، وَإِسْدَاءُ الْخَيْرِ إِلَى نَفْسٍ أُخْرَى، فَهُمْ لَمْ يَرُدُّوا جَلَافَةَ أَبِي جَهْلٍ بِمِثْلِهَا وَلَكِنْ بِالْإِعْرَاضِ مَعَ كَلِمَةٍ حَسَنَةٍ وَهِيَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ.
وَأَمَّا الْإِنْفَاقُ فَلَعَلَّهُمْ كَانُوا يُنْفِقُونَ عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ بِمَكَّةَ، وَهُوَ الْخَصْلَةُ الرَّابِعَةُ وَلَا يَخْفَى مَكَانُهَا مِنَ الْبَرِّ.
وَالْخَصْلَةُ الْخَامِسَةُ: الْإِعْرَاضُ عَنِ اللَّغْوِ، وَهُوَ الْكَلَامُ الْعَبَثُ الَّذِي لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَهَذَا الْخُلُقُ مِنْ مَظَاهِرِ الْحِكْمَةِ، إِذْ لَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَشْغَلَ سَمْعَهُ وَلُبَّهُ بِمَا لَا جَدْوَى لَهُ وَبِالْأَوْلَى يَتَنَزَّهُ عَنْ أَنْ يَصْدُرَ مِنْهُ ذَلِكَ.
وَالْخَصْلَةُ السَّادِسَةُ: الْكَلَامُ الْفَصْلُ وَهُوَ قَوْلُهُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ مَا يُجَاب بِهِ السُّفَهَاءُ وَهُوَ أَقْرَبُ لِإِصْلَاحِهِمْ وَأَسْلَمُ مِنْ تَزَايُدِ سَفَهِهِمْ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ فِي أُذُنَيْهِ بِسُكُونِ الذَّالِ لِلتَّخْفِيفِ لِأَجْلِ ثِقَلِ الْمُثَنَّى، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِضَمِّ الذَّالِ عَلَى الْأَصْلِ. وَقَدْ تَرَتَّبَ عَلَى هَذِهِ الْأَعْمَالِ الَّتِي وُصِفَ بِهَا أَنْ أَمْرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُوعِدَهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ. وَإِطْلَاقُ الْبِشَارَةِ هُنَا اسْتِعَارَةٌ تَهَكُّمِيَّةٌ، كَقَوْلِ عَمْرِو بْنِ كُلْثُومَ:
فَعَجَّلْنَا الْقِرَى أَنْ تَشْتُمُونَا وَقَدْ عُذِّبَ النَّضْرُ بِالسَّيْفِ إِذْ قُتِلَ صَبْرًا يَوْمَ بَدْرٍ، فَذَلِكَ عَذَابُ الدُّنْيَا، وَعَذَابُ الْآخِرَة أَشد.
[٨- ٩]
[سُورَة لُقْمَان (٣١) : الْآيَات ٨ إِلَى ٩]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (٨) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩)
لَمَّا ذَكَرَ عَذَابَ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَتْبَعَ بِبِشَارَةِ الْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ وَصِفُوا بِأَنَّهُمْ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ إِلَى قَوْلِهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [لُقْمَان: ٥].
وَانْتَصَبَ وَعْدَ اللَّهِ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ النَّائِبِ عَنْ فِعْلِهِ، وَانْتَصَبَ حَقًّا عَلَى الْحَالِ الْمُؤَكِّدَةِ لِمَعْنَى عَامِلِهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي صَدْرِ سُورَةِ يُونُسَ. وَإِجْرَاءُ الِاسْمَيْنِ الْجَلِيلَيْنِ عَلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ لِتَحْقِيقِ وَعْدِهِ لِأَنَّهُ لِعِزَّتِهِ لَا يُعْجِزُهُ الْوَفَاءُ بِمَا وَعَدَ، ولحكمته لَا يخطىء وَلَا يَذْهَلُ عَمَّا وَعَدَ، فَمَوْقِعُ جُمْلَةِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ مَوْقِعُ التذييل بالأعم.
[١٠- ١١]
[سُورَة لُقْمَان (٣١) : الْآيَات ١٠ إِلَى ١١]
خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (١٠) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١١)
اسْتِئْنَافٌ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى الَّذِينَ دَأْبُهُمُ الْإِعْرَاضُ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ خَالِقُ الْمَخْلُوقَاتِ فَلَا يَسْتَحِقُّ غَيْرُهُ أَنْ تُثْبَتَ لَهُ الْإِلَهِيَّةُ فَكَانَ ادِّعَاءُ الْإِلَهِيَّةِ لِغَيْرِ اللَّهِ
بِالْإِبْطَالِ وَهِيَ طَرِيقَةُ عَضُدِ الدِّينِ فِي كِتَابِ «الْمَوَاقِفُ»، وَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَشْيَاخِنَا يَحْكِي انْتِقَادَ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ طَرِيقَتَهُ فَلذَلِك خالفها
التفتازانيّ فِي كِتَابِ «الْمَقَاصِدُ».
وَالْحَقُّ أَنَّ الطَّرِيقَتَيْنِ جَادَّتَانِ وَقَدْ سُلِكَتَا فِي الْقُرْآنِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ [سبأ: ٥] فَبَعْدَ أَنْ أُورِدَتْ جُمْلَةُ وَالَّذِينَ سَعَوْا لِمُقَابَلَةِ جُمْلَةِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [سبأ: ٤] الَخْ اعْتُبِرَتْ مَقْصُودًا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى فَكَانَتْ بِحَاجَةٍ إِلَى رَدِّ مَضْمُونِهَا بِجُمْلَةِ وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الَّذِينَ سَعَوْا فِي الْآيَاتِ أَهْلُ جَهَالَةٍ فَيَكُونُ ذِكْرُهَا بَعْدَهَا تَعْقِيبًا لِلشُّبْهَةِ بِمَا يُبْطِلُهَا وَهِيَ الطَّرِيقَةُ الْأُخْرَى.
وَالرُّؤْيَةُ عِلْمِيَّةٌ. وَاخْتِيرَ فِعْلُ الرُّؤْيَةِ هُنَا دُونَ (وَيَعْلَمُ) لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ عِلْمٌ يَقِينِيٌّ بِمَنْزِلَةِ الْعِلْمِ بِالْمَرْئِيَّاتِ الَّتِي عِلْمُهَا ضَرُورِيٌّ، وَمَفْعُولَا (يَرَى) الَّذِي أُنْزِلَ والْحَقَّ. وَضَمِيرُ هُوَ فَصْلٌ يُفِيدُ حَصْرَ الْحَقِّ فِي الْقُرْآنِ حَصْرًا إِضَافِيًّا، أَيْ لَا مَا يَقُولُهُ الْمُشْرِكُونَ مِمَّا يُعَارِضُونَ بِهِ الْقُرْآنَ، وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يُفِيدَ قَصْرًا حَقِيقِيًّا ادِّعَائِيًّا، أَيْ قَصْرُ الْحَقِّيَةِ الْمَحْضِ عَلَيْهِ لِأَنَّ غَيْرَهُ مِنَ الْكُتُبِ خُلِطَ حَقُّهَا بِبَاطِلٍ.
والَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ فَسَّرَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ بِأَنَّهُمْ عُلَمَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَيَكُونُ هَذَا إِخْبَارًا عَمَّا فِي قُلُوبِهِمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي شَأْنِ الرُّهْبَانِ وَإِذا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ [الْمَائِدَة:
٨٣]، فَهَذَا تَحَدٍّ لِلْمُشْرِكِينَ وَتَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤمنِينَ وَلَيْسَ احتجاجا بِأَهْل الْكتاب لأَنهم لم يعلنوا بِهِ وَلَا آمن أَكْثَرهم، أَو هُوَ احْتِجَاجٌ بِسُكُوتِهِمْ عَلَى إِبْطَالِهِ فِي أَوَائِلِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ يَدْعُوَهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِبَشَائِرِ رُسُلِهِمْ وَأَنْبِيَائِهِمْ بِهِ فَعَانَدَ أَكْثَرُهُمْ حِينَئِذٍ تَبَعًا لِعَامَّتِهِمْ.
وَبِهَذَا تَتَبَيَّنُ أَنَّ إِرَادَةَ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ لَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ نَازِلَةً بِالْمَدِينَةِ حَتَّى يَتَوَهَّمَ الَّذِينَ تَوَهَّمُوا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ مَكِّيَّاتِ السُّورَةِ كَمَا تَقَدَّمَ.
تَنْحِتُونَ جَوَابًا وَبَيَانًا لِمَا يَسْأَلُ عَنهُ، وَذَلِكَ منبىء عَنْ رِبَاطَةِ جَأْشِ إِبْرَاهِيمَ إِذْ لَمْ يَتَلَقَّ الْقَوْمَ بِالِاعْتِذَارِ وَلَا بِالِاخْتِفَاءِ، وَلَكِنَّهُ لَقِيَهُمْ بِالتَّهَكُّمِ بِهِمْ إِذْ قَالَ: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا كَمَا فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [٦٣]. ثُمَّ أَنْحَى عَلَيْهِمْ بِاللَّائِمَةِ وَالتَّوْبِيخِ وَتَسْفِيهِ أَحْلَامِهِمْ إِذْ بَلَغُوا مِنَ السَّخَافَةِ أَنْ يَعْبُدُوا صُوَرًا نَحَتُوهَا بِأَيْدِيهِمْ أَوْ نَحَتَهَا أَسْلَافُهُمْ، فَإِسْنَادُ النَّحْتِ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ مِنْ قَبِيلِ إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى الْقَبِيلَةِ إِذَا فَعَلَهُ بَعْضُهَا كَقَوْلِهِمْ: بَنُو أَسَدٍ قَتَلُوا حُجْرَ بْنَ عَمْرٍو أَبَا امْرِئِ الْقَيْسِ.
وَالنَّحْتُ: بَرْيُ الْعُودِ لِيَصِيرَ فِي شَكْلٍ يُرَادُ، فَإِنْ كَانَتِ الْأَصْنَامُ مِنَ الْخَشَبِ فَإِطْلَاقُ النَّحْتِ حَقِيقَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ حِجَارَةٍ كَمَا قِيلَ، فَإِطْلَاقُ النَّحْتِ عَلَى نَقْشِهَا وَتَصْوِيرِهَا مَجَازٌ.
وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ وَالْإِتْيَانُ بِالْمَوْصُولِ وَالصِّلَةِ لِمَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الصِّلَةُ مِنْ تَسَلُّطِ فِعْلِهِمْ عَلَى مَعْبُودَاتِهِمْ، أَيْ أَنَّ شَأْنَ الْمَعْبُودِ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا لَا مُنْفَعِلًا، فَمِنَ الْمُنْكَرِ أَنْ تَعْبُدُوا أَصْنَامًا أَنْتُمْ نَحَتُّمُوهَا وَكَانَ الشَّأْنُ أَنْ تَكُونَ أَقَلَّ مِنْكُمْ.
وَالْوَاوُ فِي وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ وَاوُ الْحَالِ، أَيْ أَتَيْتُمْ مُنْكَرًا إِذْ عَبَدْتُمْ مَا تَصْنَعُونَهُ بِأَيْدِيكُمْ وَالْحَالُ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ، أَوْ وَأَنْتُمْ مُشْرِكُونَ مَعَهُ فِي الْعِبَادَةِ مَخْلُوقَاتٍ دُونَكُمْ. وَالْحَالُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّعْجِيبِ لِأَنَّ فِي الْكَلَامِ حَذْفًا بَعْدَ وَاوِ الْحَالِ إِذِ التَّقْدِيرُ: وَلَا تَعْبُدُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَلَقَكُمْ وَخَلَقَ مَا نَحَتُّمُوهُ.
وَمَا مَوْصُولَةٌ وتَعْمَلُونَ صِلَةُ الْمَوْصُولِ، وَالرَّابِطُ مَحْذُوفٌ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْكَثِيرَةِ، أَيْ وَمَا تَعْمَلُونَهَا. وَمَعْنَى تَعْمَلُونَ تَنْحِتُونَ. وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْ إِعَادَةِ فِعْلِ تَنْحِتُونَ لِكَرَاهِيَةِ تَكْرِيرِ الْكَلِمَةِ فَلَمَّا تَقَدَّمَ لَفْظُ تَنْحِتُونَ عَلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِ مَا تَعْمَلُونَ ذَلِكَ الْمَعْمُولُ الْخَاصُّ وَهُوَ الْمَعْمُولُ لِلنَّحْتِ لِأَنَّ الْعَمَلَ أَعَمُّ. يُقَالُ: عَمِلَتُ قَمِيصًا وَعَمِلَتُ خَاتَمًا.
وَفِي حَدِيثِ صُنْعِ الْمِنْبَرِ «أَرْسَلَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِامْرَأَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ أَنْ مُرِي غُلَامَكِ النَّجَّارَ يَعْمَلُ لِي أَعْوَادًا أُكَلِّمُ عَلَيْهَا النَّاسَ»
. وَخَلْقُ اللَّهِ إِيَّاهَا ظَاهِرٌ، وَخُلْقُهُ مَا يَعْمَلُونَهَا: هُوَ خَلْقُ الْمَادَّةِ الَّتِي تُصْنَعُ مِنْهَا
وَالْجَبَّارُ: مِثَالُ مُبَالَغَةٍ مِنَ الْجَبْرِ، وَهُوَ الْإِكْرَاهُ، فَالْجَبَّارُ: الَّذِي يُكْرِهُ النَّاسَ عَلَى مَا لَا يُحِبُّونَ عَمَلَهُ لِظُلْمِهِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ بِإِضَافَةِ قَلْبِ إِلَى مُتَكَبِّرٍ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحْدَهُ وَابْنُ ذكْوَان عَن ابْن عَامِرٍ بِتَنْوِينِ قَلْبِ عَلَى أَنْ يَكُونَ مُتَكَبِّرٍ وجَبَّارٍ صِفَتَيْنِ لِ قَلْبِ، وَوَصْفُ الْقَلْبِ بِالتَّكَبُّرِ وَالْجَبْرِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ. وَالْمَقْصُودُ وَصْفُ صَاحِبِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [الْبَقَرَة: ٢٨٣] لِأَنَّهُ سَبَبُ الْإِثْمِ كَمَا يُقَالُ: رَأَتْ عَيْنِي وَسَمِعَتْ أُذُنِي.
[٣٦- ٣٧]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : الْآيَات ٣٦ الى ٣٧]
وَقالَ فِرْعَوْنُ يَا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (٣٦) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (٣٧)
وَقالَ فِرْعَوْنُ يَا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (٣٦) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً
هَذِهِ مَقَالَةٌ أُخْرَى لِفِرْعَوْنَ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ غَيْرِ الْمَجْلِسِ الَّذِي حَاجَّهُ فِيهِ مُوسَى وَلِذَلِكَ عَطَفَ قَوْلَهُ بِالْوَاوِ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِيمَا عَطَفَ مِنَ الْأَقْوَالِ السَّابِقَةِ آنِفًا، وَكَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ هُنَالِكَ مُسْتَوْفَى عَلَى نَظِيرِ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى حَسَبِ ظَاهِرِهَا، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ (هَامَانَ) وَالصَّرْحِ هُنَالِكَ.
وَقَدْ لَاحَ لِي هُنَا مَحْمَلٌ آخَرُ أَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ يَنْتَظِمُ مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ هُنَالِكَ فِي الْغَايَةِ وَيُخَالِفُهُ فِي الدَّلَالَةِ، وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ فِرْعَوْنُ أَمَرَ بِبِنَاءِ صَرْحِ لَا لِقَصْدِ الِارْتِقَاءِ إِلَى السَّمَاوَاتِ بَلْ لِيَخْلُوَ بِنَفْسِهِ رِيَاضَةً لِيَسْتَمِدَّ الْوَحْيَ مِنَ الرَّبِّ الَّذِي ادَّعَى مُوسَى أَنَّهُ أَوْحَى إِلَيْهِ إِذْ قَالَ: إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [طه: ٤٨]
فَإِنَّ الِارْتِيَاضَ فِي مَكَانٍ مُنْعَزِلٍ عَنِ النَّاسِ كَانَ مِنْ شِعَارِ الِاسْتِيحَاءِ الْكَهْنُوتِيِّ عِنْدَهُمْ، وَكَانَ فِرْعَوْنُ يَحْسَبُ نَفْسَهُ أَهْلًا لِذَلِكَ لِزَعْمِهِ أَنَّهُ ابْنُ الْآلِهَةِ وَحَامِي الْكَهَنَةِ وَالْهَيَاكِلِ. وَإِنَّمَا كَانَ يَشْغَلُهُ تَدْبِيرُ أَمْرِ الْمَمْلَكَةِ فَكَانَ يكل شؤون الدِّيَانَةِ إِلَى الْكَهَنَةِ فِي مَعَابِدِهِمْ، فَأَرَادَ فِي هَذِهِ الْأَزْمَةِ الْجَدَلِيَّةِ أَنْ يَتَصَدَّى لِذَلِكَ بِنَفْسِهِ لِيَكُونَ قَوْلُهُ الْفَصْلَ فِي نَفْيِ وُجُودِ إِلَهٍ آخَرَ تَضْلِيلًا لِدَهْمَاءَ أُمَّتِهِ، لِأَنَّهُ أَرَادَ التَّوْطِئَةَ لِلْإِخْبَارِ بِنَفْيِ إِلَهٍ آخَرَ غَيْرِ آلِهَتِهِمْ فَأَرَادَ أَنْ يَتَوَلَّى وَسَائِلَ النَّفْيِ بِنَفْسِهِ كَمَا
مُرْسِلٌ رَسُولًا. وَقَرَأَ فَيُوحِيَ بِسُكُونِ الْيَاءِ بَعْدَ كَسْرَةِ الْحَاءِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ أَوْ يُرْسِلَ بِنَصْبِ الْفِعْلِ عَلَى تَقْدِيرِ (أَنْ) مَحْذُوفَةٍ دَلَّ عَلَيْهَا الْعَطْفُ عَلَى الْمَصْدَرِ فَصَارَ الْفِعْلُ الْمَعْطُوفُ فِي مَعْنَى الْمَصْدَرِ، فَاحْتَاجَ إِلَى تَقْدِيرِ
حَرْفِ السَّبْكِ. وَقَرَأُوا فَيُوحِيَ بِفَتْحَةٍ عَلَى الْيَاءِ عَطْفًا عَلَى يُرْسِلَ.
وَمَا صدق مَا يَشاءُ كَلَامٌ، أَيْ فَيُوحِيَ كَلَامًا يَشَاؤُهُ اللَّهُ فَكَانَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي مَعْنَى الصِّفَةِ لِ (كَلَامًا) الْمُسْتَثْنَى الْمَحْذُوفِ، وَالرَّابِطُ هُوَ مَا يَشاءُ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى:
كَلَامًا، فَهُوَ كَرَبْطِ الْجُمْلَةِ بِإِعَادَةِ لَفْظِ مَا هِيَ لَهُ أَوْ بِمُرَادِفِهِ نَحْوَ الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ [الْحَاقَّةُ:
١، ٢]. وَالتَّقْدِيرُ: أَوْ إِلَّا كَلَامًا مَوْصُوفًا بِأَنَّ اللَّهَ يُرْسِلُ رَسُولًا فَيُوحِي بِإِذْنِهِ كَلَامًا يَشَاؤُهُ فَإِنَّ الْإِرْسَالَ نَوْعٌ مِنَ الْكَلَامِ الْمُرَادِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
وَالْآيَةُ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ الثَّلَاثَةَ أَنْوَاعٌ لِكَلَامِ اللَّهِ الَّذِي يُخَاطِبُ بِهِ عِبَادَهُ.
وَذِكْرُ النَّوْعَيْنِ: الْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ صَرِيحٌ فِي أَنَّ إِضَافَةَ الْكَلَامِ الْمُنَوَّعِ إِلَيْهَا إِلَى اللَّهِ أَوْ إِسْنَادَهُ إِلَيْهِ حَيْثُمَا وَقَعَ فِي أَلْفَاظِ الشَّرِيعَةِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التَّوْبَة: ٦] وَقَوْلِهِ: قالَ يَا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ برسالتي وبكلامي [الْأَعْرَاف: ١٤٤] وَقَوْلُهُ:
وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً [النِّسَاء: ١٦٤] يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَلَامٌ لَهُ خُصُوصِيَّةٌ هِيَ أَنَّهُ أَوْجَدَهُ اللَّهُ إِيجَادًا بِخَرْقِ الْعَادَةِ لِيَكُونَ بِذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ مَدْلُولَ أَلْفَاظِهِ مُرَادٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَمَقْصُودٌ لَهُ كَمَا سُمِّيَ الرُّوحُ الَّذِي تَكَوَّنَ بِهِ عِيسَى رُوحَ اللَّهِ لِأَنَّهُ تَكَوَّنَ عَلَى سَبِيلِ خَرْقِ الْعَادَةِ، فَاللَّهُ خَلَقَ الْكَلَامَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى مُرَادِهِ خَلْقًا غَيْرَ جَارٍ عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ فِي تَكْوِينِ الْكَلَامِ لِيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ إِعْلَامَهُمْ بِأَنَّهُ أَرَادَ مَدْلُولَاتِ ذَلِكَ الْكَلَامِ بِآيَةِ أَنَّهُ خَرَقَ فِيهِ عَادَةَ إِيجَادِ الْكَلَامِ فَكَانَ إِيجَادًا غَيْرَ مُتَوَلِّدٍ مِنْ عِلَلٍ وَأَسْبَابٍ عَادِيَّةٍ فَهُوَ كَإِيجَادِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِيجَادِ آدَمَ فِي أَنَّهُ غَيْرُ مُتَوَلِّدٍ مِنْ عِلَلٍ وَأَسْبَابٍ فِطْرِيَّةٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ حَقِيقَةَ الْإِلَهِيَّةِ لَا تَقْتَضِي لِذَاتِهَا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا كَمَا تَقْتَضِي أَنَّهُ وَاحِدٌ حَيٌّ عَالِمٌ قَدِيرٌ مُرِيدٌ، وَمَنْ حَاوَلَ جَعَلَ صِفَةَ الْكَلَامِ مِنْ مُقْتَضَى الْإِلَهِيَّةِ عَلَى تَنْظِيرِ الْإِلَهِ بِالْمُلْكِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُلْكَ يَقْتَضِي مُخَاطَبَةَ الرَّعَايَا بِمَا يُرِيدُ الْمَلِكُ مِنْهُمْ، فَقَدْ جَاءَ بِحُجَّةٍ خَطَابِيَّةٍ، بَلِ الْحَقُّ أَنَّ الَّذِي اقْتَضَى إِثْبَاتَ كَلَامِ اللَّهِ هُوَ
الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً [الْفَتْح: ١٨].
الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها [الْفَتْح: ١٩].
الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً [الْفَتْح: ٢٧].
وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ هُوَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ، وَجَعَلُوا إِطْلَاقَ اسْمِ الْفَتْحِ عَلَيْهِ مَجَازًا مُرْسَلًا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ آلَ إِلَى فَتْحِ خَيْبَرَ وَفَتْحِ مَكَّةَ، أَوْ كَانَ سَبَبًا فِيهِمَا فَعَنِ الزُّهْرِيِّ «لَقَدْ كَانَ يَوْمُ الْحُدَيْبِيَةِ أَعْظَمَ الْفُتُوحِ ذَلِكَ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ إِلَيْهَا فِي أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ فَلَمَّا وَقَعَ صُلْحٌ مَشَى النَّاسُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ، أَيْ تَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ فَدَخَلَ بَعْضُهُمْ أَرْضَ بَعْضٍ مِنْ أَجْلِ الْأَمْنِ بَيْنَهُمْ، وَعَلِمُوا وَسَمِعُوا عَنِ اللَّهِ فَمَا أَرَادَ أَحَدٌ الْإِسْلَامَ إِلَّا تَمَكَّنَ مِنْهُ، فَمَا مَضَتْ تِلْكَ السَّنَتَانِ إِلَّا والمسلمون قد جاؤوا إِلَى مَكَّةَ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ» اهـ،
وَفِي رِوَايَةٍ «فَلَمَّا كَانَتِ الْهُدْنَةُ أَمِنَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَالْتَقَوْا وَتَفَاوَضُوا الْحَدِيثَ وَالْمُنَاظَرَةَ فَلَمْ يُكَلَّمْ أَحَدٌ يَعْقِلُ بِالْإِسْلَامِ إِلَّا دَخَلَ فِيهِ»
. وَعَلَى هَذَا فَالْمَجَازُ فِي إِطْلَاقِ مَادَّةِ الْفَتْحِ عَلَى سَبَبِهِ وَمَآلِهِ لَا فِي صُورَةِ الْفِعْلِ، أَيِ التَّعْبِيرِ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِلَفْظِ الْمَاضِي لِأَنَّهُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ الْمَجَازِيِّ قَدْ وَقَعَ فِيمَا مَضَى فَيَكُونُ اسْمُ الْفَتْحِ اسْتُعْمِلَ اسْتِعْمَالَ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ، وَصِيغَةُ الْمَاضِي اسْتُعْمِلَتْ فِي مَعْنَيَيْهَا فَيَظْهَرُ وَجْهُ الْإِعْجَازِ فِي إِيثَارِ هَذَا التَّرْكِيبِ.
وَقِيلَ: هُوَ فَتْحُ خَيْبَرَ الْوَاقِعِ عِنْدَ الرُّجُوعِ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ كَمَا يَجِيءُ فِي قَوْلِهِ: إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها [الْفَتْح: ١٥].
وَعَلَى هَذِهِ الْمَحَامِلِ فَتَأْكِيدُ الْكَلَامِ بِ (إِنَّ) لِمَا فِي حُصُولِ ذَلِكَ مِنْ تَرَدُّدِ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ أَو تساؤلهم،
فَعَن عُمَرَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً قَالَ: «أَو فتح هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُ لَفَتْحٌ».
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: أَقْبَلَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ رَاجِعًا فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
وَالله مَا هَذَا بِفَتْحٍ صُدِدْنَا عَنِ الْبَيْتِ وَصُدَّ هَدْيُنَا. فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: بِئْسَ الْكَلَامُ
هَذَا بَلْ هُوَ أَعْظَمُ الْفَتْحِ لَقَدْ رَضِيَ الْمُشْرِكُونَ أَنْ يَدْفَعُوكُمْ بِالرَّاحِ عَنْ بِلَادِهِمْ وَيَسْأَلُوكُمُ الْقَضِيَّةَ وَيُرَغِّبُونَ إِلَيْكُمُ الْأَمَانَ وَقَدْ كَرِهُوا مِنْكُمْ مَا كَرِهُوا وَلَقَدْ أَظْفَرَكُمُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَدَّكُمْ سَالِمِينَ غَانِمِينَ

[سُورَة النَّجْم (٥٣) : الْآيَات ٤٥ إِلَى ٤٦]

وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (٤٦)
هَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَقِلَّةً بِإِفَادَةِ أَنَّ اللَّهَ خَالِقٌ الْأَزْوَاجَ مِنَ الْإِنْسَانِ خَلْقًا بَدِيعًا مِنْ نُطْفَةٍ فَيَصِيرُ إِلَى خَصَائِصِ نَوْعِهِ وَحَسْبُكَ بِنَوْعِ الْإِنْسَانِ تَفْكِيرًا أَوْ مَقْدِرَةً وَعَمَلًا، وَذَلِكَ مَا لَا يَجْهَلُهُ الْمُخَاطَبُونَ فَمَا كَانَ ذِكْرُهُ إِلَّا تَمْهِيدًا وَتَوْطِئَةً لِقَوْلِهِ: وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى [النَّجْم: ٤٧] عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الْأَنْبِيَاء: ١٠٤] وَبِاعْتِبَارِ اسْتِقْلَالِهَا بِالدَّلَالَةِ عَلَى عَجِيبِ تَكْوِينِ نَسْلِ الْإِنْسَانِ، عُطِفَتْ عَلَيْهَا جُمْلَةُ وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى [النَّجْم: ٤٧] وَإِلَّا لَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى بِدُونِ عَطْفٍ وَبِكَسْرِ هَمْزَةِ (إِنَّ).
وَمُنَاسَبَةُ الِانْتِقَالِ إِلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّ فِيهَا كَيْفِيَّةَ ابْتِدَاءِ الْحَيَاةِ.
وَالْمُرَادُ بِالزَّوْجَيْنِ: الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى مِنْ خُصُوصِ الْإِنْسَانِ لِأَنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ لِلِاعْتِبَارِ بِبَدِيعِ صُنْعِ اللَّهِ وَذَلِكَ أَشَدُّ اتِّفَاقًا فِي خِلْقَةِ الْإِنْسَانِ، وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ النَّاسِ بِمَا فِي أَحْوَالِ أَنْفُسِهِمْ أَقْرَبُ وَأَمْكَنُ وَلِأَنَّ بَعْضَ الْأَزْوَاجِ مِنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ لَا يَتَخَلَّقُ مِنْ نُطْفَةٍ بَلْ مِنْ بَيْضٍ وَغَيْرِهِ.
وَلَعَلَّ وَجْهَ ذِكْرِ الزَّوْجَيْنِ وَالْبَدَلِ مِنْهُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى دُونَ أَنْ يَقُولَ: وَأَنَّهُ خَلَقَهُ، أَيِ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ، كَمَا قَالَ: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ [الطارق: ٥، ٦] الْآيَةَ أَمْرَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِدْمَاجُ الِامْتِنَانِ فِي أَثْنَاءِ ذِكْرِ الِانْفِرَادِ بِالْخَلْقِ بِنِعْمَةِ أَنْ خَلَقَ لِكُلِّ إِنْسَانٍ زَوْجَةً كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها [الرّوم:
٢١] الْآيَةَ.
الثَّانِي: الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ لِكِلَا الزَّوْجَيْنِ حَظًّا مِنَ النُّطْفَةِ الَّتِي مِنْهَا يُخْلَقُ الْإِنْسَانُ فَكَانَتْ لِلذَّكَرِ نُطْفَةٌ وَلِلْمَرْأَةِ نُطْفَةٌ كَمَا
وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ «إِذَا سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلِ أَشْبَهَ الْمَوْلُودُ أَبَاهُ وَإِنْ سَبَقَ مَاءُ الْمَرْأَةِ أَشْبَهَ الْمَوْلُودُ أُمَّهُ»
، وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ لِكُلٍّ مِنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى نُطْفَةً وَإِنْ كَانَ الْمُتَعَارَفُ عِنْدَ النَّاسِ قَبْلَ الْقُرْآنِ أَنَّ النُّطْفَةَ
يَسْتَطِيعُهُ أَمْثَالُهُمْ مِنْ دَرَجَاتِ تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ وَهُوَ التَّغْيِيرُ بِالْلِّسَانِ إِذْ لَيْسُوا بِمُسْتَطِيعِينَ تَغْيِيرِ مَا عَلَيْهِ قَوْمُهُمْ بِالْيَدِ لِقِلَّتِهِمْ وَضَعْفِهِمْ بَيْنَ قَوْمِهِمْ.
والْعَداوَةُ الْمُعَامَلَةُ بِالسُّوءِ وَالِاعْتِدَاءِ.
والْبَغْضاءُ: نَفْرَةُ النَّفْسِ، وَالْكَرَاهِيَةُ وَقَدْ تُطْلَقُ إِحْدَاهُمَا فِي مَوْضِعِ الْأُخْرَى إِذَا افْتَرَقَتَا، فَذِكْرُهُمَا مَعًا هُنَا مَقْصُودٌ بِهِ حُصُولُ الْحَالَتَيْنِ فِي أَنْفُسِهِمْ: حَالَةُ الْمُعَامَلَةِ بِالْعُدْوَانِ، وَحَالَةُ النُّفْرَةِ وَالْكَرَاهِيَةِ، أَيْ نُسِيءُ مُعَامَلَتَكُمْ وَنُضْمِرُ لَكُمُ الْكَرَاهِيَة حَتَّى تؤمنوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ دُونَ إِشْرَاكٍ.
وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ هَذَا لِقَوْمِهِمْ أَنَّهُمْ قَالُوهُ مَقَالَ الصَّادِقِ فِي قَوْلِهِ، فَالِائْتِسَاءِ بِهِمْ فِي ذَلِكَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ بِمَا يُتَرْجِمُ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِمَّا فِي النُّفُوسِ، فَالْمُؤْتَسَى بِهِ أَنَّهُمْ كَاشَفُوا قَوْمَهُمْ بِالْمُنَافَرَةِ، وَصَرَّحُوا لَهُمْ بِالْبَغْضَاءِ لِأَجْلِ كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ وَلِمَ يُصَانِعُوهُمْ وَيَغُضُّوا عَنْ كُفْرِهِمْ لِاكْتِسَابِ مَوَدَّتِهِمْ كَمَا فَعَلَ الْمُوَبَّخُ بِهَذِهِ الْآيَةِ.
إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ.
الْأَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمَلِ حِكَايَةِ مَقَالِ إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ وَجُمْلَةِ لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الممتحنة: ٦]، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ إِذْ لَيْسَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْ جِنْسِ قَوْلهم: إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ إِلَخْ، فَإِنَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ رِفْقٌ بِأَبِيهِ وَهُوَ يُغَايِرُ التَّبَرُّؤَ مِنْهُ، فَكَانَ الِاسْتِثْنَاءُ فِي مَعْنَى الِاسْتِدْرَاكِ عَنْ قَوْلِهِ: إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ الشَّامِلِ لِمَقَالَةِ إِبْرَاهِيمَ مَعَهُمْ لِاخْتِلَافِ جِنْسَيِ الْقَوْلَيْنِ.
قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إِلَّا آلَ لُوطٍ فِي سُورَة الْحجر (١) [٥٨، ٥٩]. أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ مِنْ قَوْمٍ لِأَنَّ الْقَوْمَ مَوْصُوفُونَ بِالْإِجْرَامِ فَاخْتَلَفَ لِذَلِكَ الْجِنْسَانِ اهـ. فَجَعَلَ اخْتِلَافَ جِنْسَيِ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مُوجِبًا اعْتِبَارَ الِاسْتِثْنَاءِ مُنْقَطِعًا. وَفَائِدَةُ الِاسْتِدْرَاكِ هُنَا التَّعْرِيضُ بِخَطَأِ حَاطِبِ ابْن أَبِي بَلْتَعَةَ، أَيْ إِنْ كُنْتُمْ مُعْتَذِرِينَ فَلْيَكُنْ عُذْرُكُمْ فِي مُوَاصَلَةِ أَعْدَاءِ اللَّهِ بِأَنْ تَوَدُّوا لَهُمُ مَغْفِرَةَ كُفْرِهِمْ بِاسْتِدْعَاءِ سَبَبِ الْمَغْفِرَةِ وَهُوَ أَنْ يَهْدِيَهُمُ اللَّهُ إِلَى
_________
(١) فِي المطبوعة (الشُّعَرَاء) وَهُوَ خطأ.
دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَتَقَوَّلْهُ عَلَى اللَّهِ، فَإِنَّ لَوْ تَقْتَضِي انْتِفَاءَ مَضْمُونِ شَرْطِهَا لِانْتِفَاءِ مَضْمُونِ جَوَابِهَا.
فَحَصَلَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ غَرَضَانِ مُهِمَّانِ:
أَحَدُهُمَا: يَعُودُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ أَيْ زِيَادَةِ إِبْطَالٍ لِمَزَاعِمِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ الْقُرْآنَ شِعْرٌ أَوْ كَهَانَةٌ إِبْطَالًا جَامِعًا لِإِبْطَالِ النَّوْعَيْنِ، أَيْ وَيُوَضِّحُ مُخَالَفَةَ الْقُرْآنِ لِهَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ مِنَ الْكَلَامِ أَنَّ الْآتِيَ بِهِ يَنْسُبُهُ إِلَى وَحْيِ اللَّهِ وَمَا عَلِمْتُمْ شَاعِرًا وَلَا كَاهِنًا يَزْعُمُ أَنَّ كَلَامَهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
وَثَانِيهُمَا: إِبْطَالُ زَعْمٍ لَهُمْ لَمْ يَسْبِقِ التَّصْرِيحُ بِإِبْطَالِهِ وَهُوَ قَوْلُ فَرِيقٍ مِنْهُم افْتَراهُ [يُونُس: ٣٨]، أَيْ نَسَبَهُ إِلَى اللَّهِ افْتِرَاءً وَتَقَوَّلَهُ عَلَى اللَّهِ قَالَ تَعَالَى أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ [الطّور: ٣٣] فَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ لَوِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ لَمَا أَقَرَّهُ عَلَى ذَلِكَ.
ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْغَرَضَ يَسْتَتْبِعُ غَرَضًا آخَرَ وَهُوَ تَأْيِيسُهُمْ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ بِقُرْآنٍ لَا يُخَالِفُ دِينَهُمْ وَلَا يُسَفِّهُ أَحْلَامَهُمْ وَأَصْنَامَهُمْ، قَالَ تَعَالَى: قالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ [يُونُس: ١٥]. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَطْفَ اعْتِرَاضٍ فَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْوَاوَ اعْتِرَاضِيَّةً فَإِنَّهُ لَا مَعْنَى لِلْوَاوِ الْاعْتِرَاضِيَّةِ إِلَّا ذَلِكَ.
وَالتَّقَوُّلُ: نِسْبَةُ قَوْلٍ لِمَنْ لَمْ يَقُلْهُ، وَهُوَ تَفَعُّلٌ مِنَ الْقَوْلِ صِيغَتْ هَذِهِ الصِّيغَةَ الدَّالَّةَ عَلَى التَّكَلُّفِ لِأَنَّ الَّذِي يُنْسَبُ إِلَى غَيْرِهِ قَوْلًا لَمْ يَقُلْهُ يَتَكَلَّفُ وَيَخْتَلِقُ ذَلِكَ الْكَلَامَ، وَلِكَوْنِهِ فِي مَعْنَى كَذِبٍ عُدِّيَ بِ (عَلَى).
وَالْمَعْنَى: لَوْ كَذَبَ عَلَيْنَا فَأَخْبَرَ أَنَّا قُلْنَا قَوْلًا لَمْ نَقُلْهُ إِلَخْ.
وبَعْضَ اسْمٌ يَدُلُّ عَلَى مِقْدَارٍ مِنْ نَوْعِ مَا يُضَافُ هُوَ إِلَيْهِ، وَهُوَ هُنَا مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ لِ تَقَوَّلَ.
والْأَقاوِيلِ: جَمْعُ أَقْوَالٍ الَّذِي هُوَ جَمْعُ قَوْلٍ، أَيْ بَعْضًا مِنْ جِنْسِ الْأَقْوَالِ الَّتِي
هِيَ كَثِيرَةٌ فَلِكَثْرَتِهَا جِيءَ لَهَا بِجَمْعِ الْجَمْعِ الدَّالِّ عَلَى الْكَثْرَةِ، أَيْ وَلَوْ نَسَبَ إِلَيْنَا قَلِيلًا مِنْ أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ صَادِقَةٍ يَعْنِي لَوْ نَسَبَ إِلَيْنَا شَيْئًا قَلِيلًا مِنَ الْقُرْآنِ لَمْ نُنْزِلْهُ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، إِلَى آخِرِهِ.
وَمَعْنَى لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ لَأَخَذْنَاهُ بِقُوَّةٍ، أَيْ دُونَ إِمْهَالٍ فَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ.
كَمَا يَقْتَضِي ذَلِكَ جَعْلَ هَذَا السُّؤَالِ وَقْتًا تَعْلَمُ عِنْدَهُ كُلُّ نَفْسٍ مَا أَحْضَرَتْ فَهُوَ مِنْ أَوَّلِ مَا يُعْلَمُ بِهِ حِينَ الْجَزَاءِ.
وَالْوَأْدُ: دَفْنُ الطِّفْلَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ: قِيلَ هُوَ مَقْلُوبُ آدَاهُ، إِذَا أَثْقَلَهُ لِأَنَّهُ إِثْقَالُ الدَّفِينَةِ بِالتُّرَابِ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» :«كَانَ الرَّجُلُ إِذَا وُلِدَتْ لَهُ بِنْتٌ فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَحْيِيَهَا الْبَسْهَا جُبَّةً مِنْ صُوفٍ أَوْ شَعْرٍ تَرْعَى لَهُ الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ فِي الْبَادِيَةِ، وَإِنْ أَرَادَ قَتْلَهَا تَرَكَهَا حَتَّى إِذَا كَانَتْ سُدَاسِيَّةً يَقُولُ لِأُمِّهَا طَيِّبِيهَا وَزَيِّنِيهَا حَتَّى أَذْهَبَ بِهَا إِلَى أَحْمَائِهَا وَقَدْ حَفَرَ لَهَا بِئْرًا فِي الصَّحْرَاءِ فَيَبْلُغُ بِهَا الْبِئْرَ فَيَقُولُ لَهَا: انْظُرِي فِيهَا ثُمَّ يَدْفَعُهَا مِنْ خَلْفِهَا وَيُهِيلُ عَلَيْهَا التُّرَابَ حَتَّى تَسْتَوِيَ الْبِئْرُ بِالْأَرْضِ. وَقِيلَ: كَانَتِ الْحَامِلُ إِذَا أَقْرَبَتْ حَفَرَتْ حُفْرَةً فَتَمَخَّضَتْ عَلَى رَأْسِ الْحُفْرَةِ فَإِذَا وَلَدَتْ بِنْتًا رَمَتْ بِهَا فِي الْحُفْرَةِ وَإِنْ وَلَدَتِ ابْنًا حَبَسَتْهُ اهـ.
وَكَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ خَشْيَةً مِنْ إِغَارَةِ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ فَيَسْبِي نِسَاءَهُمْ وَلِخَشْيَةِ الْإِمْلَاقِ فِي سِنِيِّ الْجَدْبِ لِأَنَّ الذَّكَرَ يَحْتَالُ لِلْكَسْبِ بِالْغَارَةِ وَغَيْرِهَا وَالْأُنْثَى عَالَةٌ عَلَى أَهْلِهَا، قَالَ تَعَالَى: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ [الْإِسْرَاء: ٣١] وَقَالَ: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى
ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ مَا يَحْكُمُونَ
[النَّحْل: ٥٨، ٥٩].
وَإِذْ قَدْ فَشَا فِيهِمْ كَرَاهِيَةُ وِلَادَةِ الْأُنْثَى فَقَدْ نَمَا فِي نُفُوسِهِمْ بُغْضُهَا فَتَحَرَّكَتْ فِيهَا الْخَوَاطِرُ الْإِجْرَامِيَّةُ فَالرَّجُلُ يَكْرَهُ أَنْ تُولَدَ لَهُ أُنْثَى لِذَلِكَ، وَامْرَأَتُهُ تَكْرَهُ أَنْ تُولَدَ لَهَا أُنْثَى خَشْيَةً مِنْ فِرَاقِ زَوْجِهَا إِيَّاهَا وَقَدْ يَهْجُرُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إِذَا وَلَدَتْ أُنْثَى.
وَقَدْ تَوَارَثَتْ هَذَا الْجَهْلَ أَكْثَرُ الْأُمَمِ عَلَى تَفَاوُتٍ بَيْنَهُمْ فِيهِ، وَمِنْ كَلَامِ بَعْضِهِمْ وَقَدْ مَاتَتِ ابْنَتُهُ: «نِعْمَ الصِّهْرُ الْقَبْرُ»
.
وَمِنْ آثَارِ هَذَا الشُّعُورِ حِرْمَانُ الْبَنَاتِ مِنْ أَمْوَالِ آبَائِهِنَّ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْحِيَلِ مِثْلَ وَقْفِ أَمْوَالِهِمْ عَلَى الذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: إِنَّ ذَلِكَ مِنْ سُنَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَرَأَى ذَلِكَ الْحُبْسَ بَاطِلًا، وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْ أَقْرِبَاءِ الْمَيِّتِ يُلْجِئُونَ بَنَاتَهُ إِلَى إِسْقَاطِ حَقِّهِنَّ فِي مِيرَاث أيهن لِإِخْوَتِهِنَّ فِي فَوْرِ الْأَسَفِ عَلَى مَوْتِ أَبِيهِنَّ فَلَا


الصفحة التالية
Icon