مُقْتَضَى تَقْدِيرِ الِاسْمِ وَهُوَ كَوْنُهُ الْأَصْلَ فِي الْأَخْبَارِ وَالْحَالِيَّةِ، وَمُقْتَضَى تَقْدِيرِ الْفِعْلِ وَهُوَ كَوْنُهُ الْأَصْلَ فِي الْعَمَلِ لِأَنَّ مَا هُنَا ظَرْفُ لَغْوٍ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنْ يُعَدِّيَ الْأَفْعَالَ وَيَتَعَلَّقَ بِهَا، وَلِأَنَّ مَقْصِدَ الْمُبْتَدِئِ بِالْبَسْمَلَةِ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ عَمَلِهِ ذَلِكَ مُقَارِنًا لِبَرَكَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَلِذَلِكَ نَاسَبَ أَنْ يُقَدَّرَ
مُتَعَلِّقُ الْجَارِّ لَفْظًا دَالًّا عَلَى الْفِعْلِ الْمَشْرُوعِ فِيهِ. وَهُوَ أَنْسَبُ لِتَعْمِيمِ التَّيَمُّنِ لِأَجْزَاءِ الْفِعْلِ، فَالِابْتِدَاءُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ أَقَلُّ عُمُومًا، فَتَقْدِيرُ الْفِعْلِ الْعَامِّ يُخَصَّصُ وَتَقْدِيرُ الْفِعْلِ الْخَاصِّ يُعَمَّمُ وَهَذَا يُشْبِهُ أَنْ يُلْغَزَ بِهِ. وَهَذَا التَّقْدِيرُ مِنَ الْمُقَدَّرَاتِ الَّتِي دَلَّتْ عَلَيْهَا الْقَرَائِنُ كَقَوْلِ الدَّاعِي لِلْمُعَرِّسِ «بِالرِّفَاءِ وَالْبَنِينَ» (١) وَقَوْلِ الْمُسَافِرِ عِنْدَ حُلُولِهِ وَتَرْحَالِهِ «بِاسْمِ اللَّهِ وَالْبَرَكَاتِ» وَقَوْلِ نسَاء الْعَرَب عِنْد مَا يَزْفُفْنَ الْعَرُوسَ «بِالْيُمْنِ وَالْبَرَكَةِ وَعَلَى الطَّائِرِ الْمَيْمُونِ» وَلِذَلِكَ كَانَ تَقْدِيرُ الْفِعْلِ هَاهُنَا وَاضِحًا. وَقَدْ أُسْعِفَ هَذَا الْحَذْفُ بِفَائِدَةٍ وَهِيَ صَلُوحِيَّةُ الْبَسْمَلَةِ لِيَبْتَدِئَ بِهَا كُلُّ شَارِعٍ فِي فِعْلٍ فَلَا يَلْجَأُ إِلَى مُخَالَفَةِ لَفْظِ الْقُرْآنِ عِنْدَ اقْتِبَاسِهِ، وَالْحَذْفُ مِنْ قَبِيلِ الْإِيجَازِ لِأَنَّهُ حَذْفُ مَا قَدْ يُصَرَّحُ بِهِ فِي الْكَلَامِ، بِخِلَافِ مُتَعَلِّقَاتِ الظُّرُوفِ الْمُسْتَقِرَّةِ نَحْوَ عِنْدَكَ خَيْرٌ، فَإِنَّهُمْ لَا يُظْهِرُونَ الْمُتَعَلِّقَ فَلَا يَقُولُونَ خَيْرٌ كَائِنٌ عِنْدَكَ وَلِذَلِكَ عَدُّوا نَحْوَ قَوْلِهِ:
فَإِنَّكَ كَاللَّيْلِ الَّذِي هُوَ مُدْرِكِي
مِنَ الْمُسَاوَاةِ دُونَ الْإِيجَازِ يَعْنِي مَعَ مَا فِيهِ مِنْ حَذْفِ الْمُتَعَلِّقِ. وَإِذْ قَدْ كَانَ الْمُتَعَلِّقُ مَحْذُوفًا تَعَيَّنَ أَنْ يُقَدَّرَ فِي مَوْضِعِهِ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْمُتَعَلِّقِ بِهِ كَمَا هُوَ أَصْلُ الْكَلَامِ إِذْ لَا قَصْدَ هُنَا لِإِفَادَةِ الْبَسْمَلَةِ الْحَصْرَ، وَدَعْوَى صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» تَقْدِيرَهُ مُؤَخَّرًا تَعَمُّقٌ غَيْرُ مَقْبُولٍ، لَا سِيَّمَا عِنْدَ حَالَةِ الْحَذْفِ، فَالْأَنْسَبُ أَنْ يُقَدَّرَ عَلَى حَسَبِ الْأَصْلِ.
وَالْبَاءُ بَاء الملابسة والملابسة، هِيَ الْمُصَاحَبَةُ، وَهِيَ الْإِلْصَاقُ أَيْضًا فَهَذِهِ مُتَرَادِفَاتٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى وَهِيَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ [الْمُؤْمِنُونَ: ٢٠] وَقَوْلِهِمْ: «بِالرِّفَاءِ وَالْبَنِينَ» وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ أَكْثَرُ مَعَانِي الْبَاءِ وَأَشْهَرُهَا، قَالَ سِيبَوَيْهِ:
الْإِلْصَاقُ لَا يُفَارِقُ الْبَاءَ وَإِلَيْهِ تَرْجِعُ تَصَارِيفُ مَعَانِيهَا وَلِذَلِكَ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» :
«وَهَذَا الْوَجْهُ (أَيِ الْمُلَابَسَةُ) أَعْرَبُ وَأَحْسَنُ» أَيْ أَحْسَنُ مِنْ جَعْلِ الْبَاءِ لِلْآلَةِ أَيْ أَدْخَلَ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَأَحْسَنَ لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ التَّبَرُّكِ بِمُلَابَسَةِ جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْفِعْلِ لِاسْمِهِ تَعَالَى.
وَالِاسْمُ لَفْظٌ جُعِلَ دَالًّا عَلَى ذَاتٍ حِسِّيَّةٍ أَوْ مَعْنَوِيَّةٍ بِشَخْصِهَا أَوْ نَوْعِهَا، وَجَعَلَهُ أَئِمَّةُ الْبَصْرَةِ مُشْتَقًّا مِنَ السُّمُوِّ وَهُوَ الرِّفْعَةُ لِأَنَّهَا تَتَحَقَّقُ فِي إِطْلَاقَاتِ الِاسْمِ وَلَوْ بِتَأْوِيلٍ فَإِنَّ أَصْلَ
_________
(١) انْظُر: حَدِيث بِنَاء النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالسيدة عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا.
إِسْنَادٌ مَجَازِيٌّ إِلَى الْمَوْتِ لِأَنَّهُ حُضُورُ أَسْبَابِهِ، وَأَمَّا الْحُضُورُ فَمُسْتَعَارٌ لِلْعَرْوِ وَالظُّهُورِ، ثُمَّ إِنَّ إِطْلَاقَ الْمَوْتِ عَلَى أَسْبَابِهِ شَائِعٌ قَالَ رُوَيْشِدُ بْنُ كَثِيرٍ الطَّائِيُّ:

وَقُلْ لَهُمْ بَادِرُوا بِالْعَفْوِ والتمسوا قولا يبرّؤكم إِنِّي أَنَا الْمَوْتُ
وَالْخَيْرُ الْمَالُ وَقِيلَ الْكَثِيرُ مِنْهُ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ مَشْرُوعَةٌ فِي الْمَالِ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لَا تَجِبُ إِلَّا فِي الْمَالِ الْكَثِيرِ.
كَانَتْ عَادَةُ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنَّ الْمَيِّتَ إِذَا كَانَ لَهُ وَلَدٌ أَوْ أَوْلَادٌ ذُكُورٌ اسْتَأْثَرُوا بِمَالِهِ كُلِّهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ ذَكَرٌ اسْتَأْثَرَ بِمَالِهِ أَقْرَبُ الذُّكُورِ لَهُ مِنْ أَبٍ أَوْ عَمٍّ أَوِ ابْنِ عَمِّ الْأَدْنِينَ فَالْأَدْنِينَ، وَكَانَ صَاحِبُ الْمَالِ رُبَّمَا أَوْصَى بِبَعْضِ مَالِهِ أَوْ بِجَمِيعِهِ لِبَعْضِ أَوْلَادِهِ أَوْ قَرَابَتِهِ أَوْ أَصْدِقَائِهِ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ الْمُسْلِمُونَ بِدَارِ الْهِجْرَةِ وَاخْتَصُّوا بِجَمَاعَتِهِمْ شَرَّعَ اللَّهُ لَهُمْ تَشْرِيكَ بَعْضِ الْقَرَابَةِ فِي أَمْوَالِهِمْ مِمَّنْ كَانُوا قَدْ يُهْمِلُونَ تَوْرِيثَهُ مِنَ الْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ وَالْوَالِدَيْنِ فِي حَالِ وُجُودِ الْبَنِينَ وَلِذَلِكَ لَمْ يَذْكُرِ الْأَبْنَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
وَعَبَّرَ بِفِعْلِ (تَرَكَ) وَهُوَ مَاضٍ عَنْ مَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ أَيْ إِنْ يَتْرُكْ، لِلتَّنْبِيهِ عَلَى اقْتِرَابِ الْمُسْتَقْبَلِ مِنَ الْمُضِيِّ إِذَا أَوْشَكَ أَنْ يَصِيرَ مَاضِيًا، وَالْمعْنَى: إِن أوحشك إِنْ يَتْرُكَ خَيْرًا أَوْ
شَارَفَ أَنْ يَتْرُكَ خَيْرًا، كَمَا قَدَّرُوهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ [النِّسَاء: ٩] فِي سُورَةِ النِّسَاءِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يُونُس: ٩٦] فِي سُورَةِ يُونُسَ أَيْ حَتَّى يُقَارِبُوا رُؤْيَةَ الْعَذَابِ.
وَالْوَصِيَّةُ فَعِيلَةٌ من وصّى فَهُوَ الْمُوَصَّى بِهَا فَوَقَعَ الْحَذْفُ وَالْإِيصَالُ لِيَتَأَتَّى بِنَاءُ فَعِيلَةٍ بِمَعْنَى مُفَعُولَةٍ لِأَنَّ زِنَةَ فَعِيلَةٍ لَا تُبْنَى مِنَ الْقَاصِرِ. وَالْوَصِيَّةُ الْأَمْرُ بِفِعْلِ شَيْءٍ أَوْ تَرْكِهِ مِمَّا فِيهِ نَفْعٌ لِلْمَأْمُورِ أَوْ لِلْآمِرِ فِي مَغِيبِ الْآمِرِ فِي حَيَاتِهِ أَوْ فِيمَا بَعْدَ مَوْتِهِ، وَشَاعَ إِطْلَاقُهَا عَلَى أَمْرٍ بِشَيْءٍ يَصْلُحُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي وَفِي حَدِيثِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ: «وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَوْعِظَةً وَجَلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ وَذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَأَوْصِنَا إِلَخْ».
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْوَصِيَّةِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ أَيْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَكُمْ بِالْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، فَقَوْلُهُ: لِلْوالِدَيْنِ مُتَعَلِّقٌ بِالْوَصِيَّةِ مَعْمُولٌ لَهُ لِأَنَّ اسْمَ الْمَصْدَرِ يَعْمَلُ عَمَلَ الْمَصْدَرِ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيله بِأَن وَالْفِعْلِ، وَالْوَصِيَّة مَرْفُوعٌ نَائِبٌ عَنِ الْفَاعِلِ لِفِعْلِ كُتِبَ، وإِذا ظَرْفٌ.

[٢- ٤]

[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ٢ الى ٤]
اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٤)
اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ.
ابْتُدِئَ الْكَلَامُ بِمُسْنَدٍ إِلَيْهِ خَبَرُهُ فِعْلِيٌّ: لِإِفَادَةِ تَقْوِيَةِ الْخَبَرِ اهْتِمَامًا بِهِ.
وَجِيءَ بِالِاسْمِ الْعَلَمِ: لِتَرْبِيَةِ الْمَهَابَةِ عِنْدَ سَمَاعِهِ، ثُمَّ أَرْدَفَ بِجُمْلَةِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ، جُمْلَةً مُعْتَرِضَةً أَوْ حَالِيَّةً، رَدًّا عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَعَلَى النَّصَارَى خَاصَّةً. وَأُتْبِعَ بِالْوَصْفَيْنِ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لِنَفْيِ اللَّبْسِ عَنْ مُسَمَّى هَذَا الِاسْمِ، وَالْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ انْفِرَادِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ، وَأَنَّ غَيْرَهُ لَا يَسْتَأْهِلُهَا لِأَنَّهُ غَيْرُ حَيٍّ أَوْ غَيْرُ قَيُّومٍ، فَالْأَصْنَامُ لَا حَيَاةَ لَهَا، وَعِيسَى فِي اعْتِقَادِ النَّصَارَى قَدْ أُمِيتَ، فَمَا هُوَ الْآنَ بِقَيُّومٍ وَلَا هُوَ فِي حَالِ حَيَاتِهِ بِقَيُّومٍ عَلَى تَدْبِيرِ الْعَالَمِ، وَكَيْفَ وَقَدْ أُوذِيَ فِي اللَّهِ، وَكُذِّبَ، وَاخْتَفَى مِنْ أَعْدَائِهِ. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي مَعْنَى الْحَيُّ الْقَيُّومُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ.
وَقَوْلُهُ: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ خَبَرٌ عَنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ. وَالْخَبَرُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي الِامْتِنَانِ، أَوْ هُوَ تَعْرِيضٌ وَنِكَايَةٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ: الَّذِينَ أَنْكَرُوا ذَلِكَ. وَجِيءَ بِالْمُسْنَدِ فِعْلًا لِإِفَادَةِ تَقْوِيَةِ الْخَبَرِ، أَوْ لِلدَّلَالَةِ- مَعَ ذَلِكَ- عَلَى الِاخْتِصَاصِ: أَيِ اللَّهُ لَا غَيْرُهُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِبْطَالًا لِقَوْلِ الْمُشْرِكِينَ: إِنَّ الْقُرْآنَ مِنْ كَلَامِ الشَّيْطَانِ، أَوْ مِنْ طَرَائِقِ الْكِهَانَةِ، أَوْ يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ.
وَالتَّضْعِيفُ فِي نَزَّلَ لِلتَّعْدِيَةِ فَهُوَ يُسَاوِي الْهَمْزَ فِي أَنْزَلَ، وَإِنَّمَا التَّضْعِيفُ يُؤْذِنُ بِقُوَّةِ الْفِعْلِ فِي كَيْفِيَّتِهِ أَوْ كَمِّيَّتِهِ، فِي الْفِعْلِ الْمُتَعَدِّي بِغَيْرِ التَّضْعِيفِ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ قَدْ أَتَوْا بِبَعْضِ الْأَفْعَالِ الْمُتَعَدِّيَةِ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ، كَقَوْلِهِمْ: فَسَرَ وَفَسَّرَ، وَفَرَقَ وَفَرَّقَ، وَكَسَرَ وَكَسَّرَ، كَمَا أَتَوْا بِأَفْعَالٍ قَاصِرَةٍ بِصِيغَةِ الْمُضَاعَفَةِ، دُونَ تَعْدِيَةٍ لِلدَّلَالَةِ عَلَى قُوَّةِ الْفِعْلِ، كَمَا قَالُوا: مَاتَ وَمَوَّتَ وَصَاحَ وَصَيَّحَ. فَإِمَّا إِذَا صَارَ التَّضْعِيفُ لِلتَّعْدِيَةِ فَلَا أُوقِنُ بِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى تَقْوِيَةِ الْفِعْلِ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْعُدُولَ عَنِ التَّعْدِيَةِ بِالْهَمْزِ، إِلَى التَّعْدِيَةِ بِالتَّضْعِيفِ، لِقَصْدِ مَا عُهِدَ فِي التَّضْعِيفِ مِنْ تَقْوِيَةِ مَعْنَى الْفِعْلِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ:
مُعَرَّبُ (نَشْخُوَارْ) بِالْفَارِسِيَّةِ وَهُوَ مَا تُبْقِيهِ الدَّابَّةُ مِنْ عَلَفِهَا. وَقِيلَ: مُشْتَقَّةٌ مِنْ شَارَ الْعَسَل أَي جناه مِنَ الْوَقْبَةِ لِأَنَّ بِهَا يُسْتَخْرَجُ الْحَقُّ وَالصَّوَابُ، وَإِنَّمَا تَكُونُ فِي الْأَمْرِ الْمُهِمِّ الْمُشكل من شؤون الْمَرْءِ فِي نَفسه أَو شؤون الْقَبِيلَة أَو شؤون الْأُمَّةِ.
وَ (الْ) فِي الْأَمْرِ لِلْجِنْسِ، وَالْمُرَادُ بِالْأَمْرِ الْمُهِمُّ الَّذِي يُؤْتَمَرُ لَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: أَمْرٌ أَمِرٌ، وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ لِأَصْحَابِهِ- فِي حَدِيثِ هِرَقْلَ-: «لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ، إِنَّهُ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الْأَصْفَرِ». وَقِيلَ: أُرِيدَ بِالْأَمْرِ أَمْرُ الْحَرْبِ فَاللَّامُ لِلْعَهْدِ.
وَظَاهِرُ الْأَمْرِ أَنَّ الْمُرَادَ الْمُشَاوَرَةُ الْحَقِيقِيَّةُ الَّتِي يُقْصَدُ مِنْهَا الِاسْتِعَانَةُ بِرَأْيِ الْمُسْتَشَارِينَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَقِبَهُ: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فضمير الْجَمِيع فِي قَوْلِهِ:
وَشاوِرْهُمْ عَائِدٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ خَاصَّةً: أَيْ شَاوِرِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا مِنْ بَيْنِ مَنْ لِنْتَ لَهُمْ، أَيْ لَا يَصُدُّكَ خَطَلُ رَأْيِهِمْ فِيمَا بَدَا مِنْهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ عَنْ أَنْ تَسْتَعِينَ بِرَأْيِهِمْ فِي مَوَاقِعَ أُخْرَى، فَإِنَّمَا كَانَ مَا حَصَلَ فلتة مِنْهُم، وَعشرَة قَدْ أَقَلْتُهُمْ مِنْهَا.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ اسْتِشَارَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَأَصْحَابِهِ، فَالْمُرَادُ الْأَخْذُ بِظَاهِرِ أَحْوَالِهِمْ وَتَأْلِيفِهِمْ، لَعَلَّهُمْ أَنْ يُخْلِصُوا الْإِسْلَامَ أَوْ لَا يَزِيدُوا نِفَاقًا، وَقَطْعًا لِأَعْذَارِهِمْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ.
وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الشُّورَى مَأْمُورٌ بهَا الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِ (الْأَمْرِ) وَهُوَ مُهِمَّاتُ الْأُمَّةِ وَمَصَالِحُهَا فِي الْحَرْبِ وَغَيْرِهِ، وَذَلِكَ فِي غَيْرِ أَمْرِ التّشريع لأنّ أَمر التَّشْرِيعِ إِنْ كَانَ فِيهِ وَحْيٌ فَلَا مَحِيدَ عَنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ وَحْيٌ وَقُلْنَا بِجَوَازِ الِاجْتِهَاد للنّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي التَّشْرِيعِ فَلَا تَدْخُلُ فِيهِ الشُّورَى لِأَنَّ شَأْنَ الِاجْتِهَادِ أَنْ يَسْتَنِدَ إِلَى الْأَدِلَّةِ لَا لِلْآرَاءِ، وَالْمُجْتَهِدُ لَا يَسْتَشِيرُ غَيْرَهُ إِلَّا عِنْدَ الْقَضَاءِ بِاجْتِهَادِهِ. كَمَا فَعَلَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ.
فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمُشَاوَرَةَ الْمَأْمُورَ بِهَا هُنَا هِيَ الْمُشَاورَة فِي شؤون الْأُمَّةِ وَمَصَالِحِهَا، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِهَا هُنَا وَمَدَحَهَا فِي ذِكْرِ الْأَنْصَارِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ [الشورى:
٣٨]
السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَإِذَا قَالَ الرَّادُّ: «وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ» إِلَخْ، كَانَ قَدْ رَدَّهَا بِأَحْسَنَ مِنْهَا بِزِيَادَةِ الْوَاوِ، وَهَذَا وَهْمٌ.
وَمَعْنَى (رُدُّوهَا) رُدُّوا مِثْلَهَا، وَهَذَا كَقَوْلِهِمْ: عِنْدِي دِرْهَمٌ وَنِصْفُهُ، لِظُهُورِ تَعَذُّرِ رَدِّ ذَاتِ التَّحِيَّةِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها [النِّسَاء: ١٧٦] فَعَادَ ضَمِيرُ «وَهُوَ» وَهَاءُ «يَرِثُهَا» إِلَى اللَّفْظَيْنِ لَا إِلَى الذَّاتَيْنِ، وَدَلَّ الْأَمْرُ عَلَى وُجُوبِ رَدِّ السَّلَامِ، وَلَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى حُكْمِ الِابْتِدَاءِ بِالسَّلَامِ، فَذَلِكَ ثَابِتٌ بِالسُّنَّةِ لِلتَّرْغِيبِ فِيهِ. وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا لَا يُقَدِّمُونَ اسْمَ الْمُسَلَّمِ عَلَيْهِ الْمَجْرُورِ بِعَلَى فِي ابْتِدَاءِ السَّلَامِ إِلَّا فِي الرِّثَاءِ، فِي مِثْلِ قَوْلِ عَبْدَةَ بْنِ الطّيب:
عَلَيْك السَّلَام اللَّهِ قَيْسُ بْنَ عَاصِمٍ وَرَحْمَتُهُ مَا شَاءَ أَنْ يَتَرَحَّمَا
وَفِي قَوْلِ الشَّمَّاخِ:
عَلَيْكَ سَلَامٌ مِنْ أَمِيرٍ وَبَارَكَتْ يَدُ اللَّهِ فِي ذَاكَ الْأَدِيمِ الْمُمَزَّقِ
يَرْثِي عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ أَوْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ.
روى أَبُو دَاوُود أَنَّ جَابِرَ بْنَ سُلَيْمٍ سَلَّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: عَلَيْكَ السَّلَامُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ: «إِنَّ عَلَيْكَ السَّلَامُ تَحِيَّةُ الْمَوْتَى، قُلِ، السَّلَامُ عَلَيْكَ»
. وَالتَّذْيِيلُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً لِقَصْدِ الِامْتِنَانِ بِهَذِهِ التَّعْلِيمَاتِ النَّافِعَةِ.
وَالْحَسِيبُ: الْعَلِيمُ وَهُوَ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ: مِنْ حَسِبَ- بِكَسْرِ السِّينِ- الَّذِي هُوَ مِنْ أَفْعَالِ الْقَلْبِ، فَحُوِّلَ إِلَى فَعُلَ- بِضَمِّ عَيْنِهِ- لَمَّا أُرِيدَ بِهِ أَنَّ الْعِلْمَ وَصْفٌ ذَاتِيٌّ لَهُ، وَبِذَلِكَ نَقَصَتْ تَعْدِيَتُهُ فَاقْتَصَرَ عَلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ ضُمِّنَ مَعْنَى الْمُحْصِي فعدي إِلَيْهِ بعلى. وَيَجُوزُ كَوْنُهُ مِنْ أَمْثِلَةِ الْمُبَالَغَةِ. قِيلَ: الْحَسِيبُ هُنَا بِمَعْنَى الْمُحَاسِبِ، كَالْأَكِيلِ وَالشَّرِيبِ. فَعَلَى كَلَامِهِمْ يَكُونُ التَّذْيِيلُ وَعْدًا بِالْجَزَاءِ عَلَى قَدْرِ فَضْلِ رَدِّ السَّلَامِ، أَو بالجزاء السّيّء عَلَى تَرْكِ الرَّدِّ مِنْ أَصْلِهِ، وَقَدْ أُكِّدَ وَصْفُ اللَّهِ بِحَسِيبٍ بِمُؤَكِّدَيْنِ: حَرْفُ (إِنَّ) وَفِعْلُ (كَانَ) الدَّالُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ وَصْفٌ مقرّر أزلي.
وَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ عَلَى النَّصَارَى مِيثَاقًا عَلَى لِسَانِ الْمَسِيحِ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَبَعْضُهُ مَذْكُورٌ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْأَنَاجِيلِ.
وَقَوْلُهُ: فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ حَقِيقَةُ الْإِغْرَاءِ حَثُّ أَحَدٍ عَلَى فِعْلٍ وَتَحْسِينُهُ إِلَيْهِ حَتَّى لَا يَتَوَانَى فِي تَحْصِيلِهِ فَاسْتُعِيرَ الْإِغْرَاءُ لِتَكْوِينِ مُلَازَمَةِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ فِي نُفُوسِهِمْ، أَيْ لُزُومِهِمَا لَهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ، شُبِّهَ تَكْوِينُ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ مَعَ اسْتِمْرَارِهِمَا فِيهِمْ بِإِغْرَاءِ أَحَدٍ أحدا بِعَمَل يعْمل تَشْبِيهَ مَعْقُولٍ بِمَحْسُوسٍ. وَلَمَّا دَلَّ الظَّرْفُ، وَهُوَ بَيْنَهُمُ، عَلَى أَنَّهُمَا أُغْرِيَتَا بِهِمُ اسْتُغْنِيَ عَنْ ذِكْرِ متعلّق فَأَغْرَيْنا. وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: فَأَغْرَيْنَا الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ بِهِمْ كَائِنَتَيْنِ بَيْنَهُمْ. وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْعُدُولُ عَلَى تَعْدِيَةِ «أَغْرَيْنَا» بِحَرْفِ الْجَرِّ إِلَى تَعْلِيقِهِ بِالظَّرْفِ قَرِينَةً أَوْ تَجْرِيدًا لِبَيَانِ أَنَّ المُرَاد ب فَأَغْرَيْنا أَلْقَيْنَا.
وَمَا وَقَعَ فِي «الْكَشَّافِ» من تَفْسِير فَأَغْرَيْنا بِمَعْنَى أَلْصَقْنَا تَطَوُّحٌ عَنِ الْمَقْصُودِ إِلَى رَائِحَةِ الِاشْتِقَاقِ مِنِ الْغِرَاءِ، وَهُوَ الدُّهْنُ الَّذِي يُلْصَقُ الْخَشَبُ بِهِ، وَقَدْ تُنُوسِيَ هَذَا الْمَعْنَى فِي الِاسْتِعْمَالِ. وَالْعَدَاوَةُ وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِإِضَافَةِ بَيْنَ إِلَيْهِ يَعُودُ إِلَى النَّصَارَى لِتَنْتَسِقَ الضَّمَائِرُ.
وَالْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ اسْمَانِ لِمَعْنَيَيْنِ مِنْ جِنْسِ الْكَرَاهِيَةِ الشَّدِيدَةِ، فَهُمَا ضِدَّانِ لِلْمَحَبَّةِ.
وَظَاهِرُ عَطْفِ أَحَدِ الِاسْمَيْنِ عَلَى الْآخَرِ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي الْآيَتَيْنِ بَعْدَهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَفِي آيَةِ سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ، أَنَّهُمَا لَيْسَا مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمُتَرَادِفَةِ لِأَنَّ الْتِزَامَ الْعَطْفِ بِهَذَا التَّرْتِيب ببعد أَنْ يَكُونَ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ، فَلَيْسَ عَطْفُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ مِنْ قَبِيلِ عَطْفِ الْمُرَادِفِ لمجرّد التّأكيد، كَقَوْلِه عَدِيٍّ:
وَأَلْفَى قَوْلَهَا كَذِبًا وَمَيْنًا
أَنَّهُمْ كَانُوا فِي قَوْلِهِمْ ذَلِكَ قَاصِدِينَ التَّعْجِيزَ وَالِاسْتِهْزَاءَ مَعًا، لِأَنَّهُمْ مَا قَالُوهُ إِلَّا عَنْ يَقِينٍ مِنْهُمْ أَنَّ ذَلِكَ لَا يكون، فابتدئ الرَّدَّ عَلَيْهِمْ بِإِبْطَالِ ظَاهِرِ كَلَامِهِمْ بِقَوْلِهِ: وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ. ثُمَّ ثَنَّى بِتَهْدِيدِهِمْ عَلَى مَا أَرَادُوهُ مِنَ الِاسْتِهْزَاءِ، وَالْمَقْصُودُ مَعَ ذَلِكَ تَهْدِيدُهُمْ بِأَنَّهُمْ سَيَحِيقُ بِهِمُ الْعَذَابُ وَأَنَّ ذَلِكَ سُنَّةُ اللَّهِ فِي كُلِّ أُمَّةٍ اسْتَهْزَأَتْ بِرَسُولٍ لَهُ.
فَقَوْلُهُ: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ يَدُلُّ عَلَى جُمْلَةٍ مَطْوِيَّةٍ إيجازا، تقديرها:
واستهزأوا بِكَ وَلَقَدِ اسْتَهْزَأَ أُمَمٌ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ من قَبْلِكَ، لأنّ قَوْله مِنْ قَبْلِكَ يُؤْذِنُ بأنّه قد استهزىء بِهِ هُوَ أَيْضًا وَإِلَّا لَمْ تَكُنْ فَائِدَةٌ فِي وَصْفِ الرُّسُلِ بِأَنَّهُمْ مِنْ قَبْلِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ. وَحَذَفَ فَاعِلَ الِاسْتِهْزَاءِ فَبَنَى الْفِعْلَ إِلَى الْمَجْهُولِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا هُوَ تُرَتُّبُ أَثَرِ الِاسْتِهْزَاءِ لَا تَعْيِينُ الْمُسْتَهْزِئِينَ.
وَاللَّامُ لِلْقَسَمِ، وَقد لِلتَّحْقِيقِ، وَكِلَاهُمَا يَدُلُّ عَلَى تَأْكِيدِ الْخَبَرِ. وَالْمَقْصُودُ تَأْكِيدُهُ بِاعْتِبَارِ مَا تَفَرَّعَ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا إِلَخْ، لِأَنَّ حَالَ الْمُشْرِكِينَ حَالُ مَنْ يَتَرَدَّدُ فِي أَنَّ سَبَبَ هَلَاكِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ هُوَ الِاسْتِهْزَاءُ بِالرُّسُلِ، إِذْ لَوْلَا تَرَدُّدُهُمْ فِي ذَلِكَ لَأَخَذُوا الْحَيْطَةَ لِأَنْفُسِهِمْ مَعَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، الَّذِي جَاءَهُمْ فَنَظَرُوا فِي دَلَائِلِ صِدْقِهِ وَمَا أَعْرَضُوا، لِيَسْتَبْرِئُوا لِأَنْفُسِهِمْ مِنْ عَذَابٍ مُتَوَقَّعٍ، أَوْ نَزَلُوا مَنْزِلَةَ الْمُتَرَدِّدِ إِنْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ لِعَدَمِ جَرْيِهِمْ عَلَى مُوجِبِ عِلْمِهِمْ. وَاسْتِهْزَاؤُهُمْ لَهُ أَفَانِينُ، مِنْهَا قَوْلُهُمْ: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ.
وَمَعْنَى الِاسْتِهْزَاءِ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَهُوَ مُرَادِفٌ لِلسُّخْرِيَةِ فِي كَلَامِ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ، فَذَكَرَ اسْتُهْزِئَ أَوَّلًا لِأَنَّهُ أَشْهَرُ، وَلَمَّا أُعِيد عبّر ب سَخِرُوا، وَلَمَّا أُعِيدَ ثَالِثَ مَرَّةٍ رَجَعَ إِلَى فعل يَسْتَهْزِؤُنَ، لِأَنَّهُ أَخَفُّ مِنْ (يَسْخَرُونَ). وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ فَصَاحَةِ الْقُرْآنِ الْمُعْجِزَةِ.
وسَخِرُوا بِمَعْنى هزأوا، وَيَتَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ بِ مِنْ، قِيلَ: لَا يَتَعَدَّى بِغَيْرِهَا.
وَقِيلَ: يَتَعَدَّى بِالْبَاءِ. وَكَذَا الْخِلَافُ فِي تَعْدِيَةِ هَزَأَ وَاسْتَهْزَأَ. وَالْأَصَحُّ أَنَّ كِلَا الْفِعْلَيْنِ يَتَعَدَّى بِحَرْفِ (مِنْ) وَالْبَاءِ، وَأَنَّ الْغَالِبَ فِي (هَزَأَ) أَنْ يَتَعَدَّى بِالْبَاءِ، وَفِي سَخِرَ أَن يتعدّى بِمن. وَأَصْلُ مَادَّةِ سَخِرَ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ الْفَاعِلَ اتَّخَذَ الْمَفْعُولَ مُسَخَّرًا يَتَصَرَّفُ فِيهِ كَيْفَ شَاءَ بِدُونِ حُرْمَةٍ لِشِدَّةِ قُرْبِ مَادَّةِ سَخِرَ الْمُخَفَّفِ مِنْ مَادَّةِ التَّسْخِيرِ، أَيِ التَّطْوِيعِ فَكَأَنَّهُ حَوَّلَهُ عَنْ حَقِّ الْحُرْمَةِ الذَّاتِيَّةِ فَاتَّخَذَ مِنْهُ لِنَفْسِهِ سُخْرِيَةً.
وَالتَّحْلِيلِ مَا هُوَ إِلَّا بِأَنْ خَلَقَ اللَّهُ فِيهِمُ التَّمَكُّنَ مِنْ ذَلِكَ، فَيَحْسَبُونَ أَنَّهُ حِينَ لَمْ يُمْسِكْ عِنَانَ أَفْعَالِهِمْ كَانَ قَدْ رَضِيَ بِمَا فَعَلُوهُ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَا يَرْضَى بِهِ لَمَا عَجَزَ عَنْ سَلْبِ تَمَكُّنِهِمْ، يَحْسَبُونَ أَنَّ اللَّهَ يُهِمُّه سُوءَ تَصَرُّفِهِمْ فِيمَا فَطَرَهُمْ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ كَمَا يَتَوَهَّمُونَ لَكَانَ الْبَاطِلُ وَالْحَقُّ شَيْئًا وَاحِدًا، وَهَذَا مَا لَا يَفْهَمُهُ عَقْلٌ حَصِيفٌ، فَإِنَّ أَهْلَ الْعُقُولِ السَّخِيفَةِ حِينَ يَتَوَهَّمُونَ ذَلِكَ كَانُوا غَيْرَ مُلْتَفِتِينَ إِلَّا إِلَى جَانِبِ نِحْلَتِهِمْ وَمُعْرِضِينَ عَنْ جَانِبِ مُخَالِفِهِمْ، فَإِنَّهُمْ حِينَ يَقُولُونَ: لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنا غَافِلُونَ عَنْ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ. مِنْ جَانِبِ الرَّسُولِ: لَوْ شَاءَ الله مَا قُلْتُ لَكُمْ أَنَّ فِعْلَكُمْ ضَلَالٌ، فَيَكُونُ اللَّهُ عَلَى حَسَبِ شُبْهَتِهِمْ قَدْ شَاءَ الشَّيْءَ وَنَقِيضَهُ إِذْ شَاءَ أَنَّهُمْ يُشْرِكُونَ وَشَاءَ أَنْ يَقُولَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَا تُشْرِكُوا.
وَسَبَبُ هَذِهِ الضَّلَالَةِ الْعَارِضَةِ لِأَهْلِ الضَّلَالِ مِنَ الْأُمَمِ، الَّتِي تَلُوحُ فِي عُقُولِ بَعْضِ عَوَامِّ الْمُسْلِمِينَ فِي مَعَاذِيرِهِمْ لِلْمَعَاصِي وَالْجَرَائِمِ أَنْ يَقُولُوا: أَمْرُ اللَّهِ أَوْ مَكْتُوبٌ عِنْدَ اللَّهِ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، هُوَ الْجَهْلُ بِأَنَّ حِكْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى فِي وَضْعِ نِظَامِ هَذَا الْعَالَمِ اقْتَضَتْ أَنْ يَجْعَلَ حِجَابًا بَيْنَ تَصَرُّفِهِ تَعَالَى فِي أَحْوَالِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَبَيْنَ تَصَرُّفِهِمْ فِي أَحْوَالِهِمْ بِمُقْتَضَى إِرَادَتِهِمْ، وَذَلِكَ الْحِجَابُ هُوَ نَامُوسُ ارْتِبَاطِ الْمُسَبَّبَاتِ بِأَسْبَابِهَا، وَارْتِبَاطِ أَحْوَالِ الْمَوْجُودَاتِ فِي هَذَا الْعَالَمِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَمِنْهُ مَا يُسَمَّى بِالْكَسْبِ وَالِاسْتِطَاعَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْأَشَاعِرَةِ، وَيُسَّمَى بِالْقُدْرَةِ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ وَبَعْضِ الْأَشَاعِرَةِ، وَذَلِكَ هُوَ مَوْرِدُ التَّكْلِيفِ الدَّالِّ عَلَى مَا يَرْضَاهُ اللَّهُ وَمَا لَا يَرْضَى بِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ وَضَعَ نِظَامَ هَذَا الْعَالَمِ بِحِكْمَةٍ فَجَعَلَ قِوَامَهُ هُوَ تَدْبِيرُ الْأَشْيَاءِ أُمُورَهَا مِنْ ذَوَاتِهَا بِحَسَبِ قُوًى أَوْدَعَهَا فِي الْمَوْجُودَاتِ لِتَسْعَى لِمَا خُلِقَتْ لِأَجْلِهِ، وَزَادَ الْإِنْسَانَ مَزِيَّةً بِأَنْ وَضَعَ لَهُ عَقْلًا يُمَكِّنُهُ مِنْ تَغْيِيرِ أَحْوَالِهِ عَلَى حَسَبِ احْتِيَاجِهِ، وَوَضَعَ لَهُ فِي عَقْلِهِ وَسَائِلَ الِاهْتِدَاءِ إِلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، كَمَا قَيَّضَ لَهُ دُعَاةً إِلَى الْخَيْرِ تُنَبِّهُهُ إِلَيْهِ إِنْ عَرَتْهُ غَفْلَةٌ، أَوْ حَجَبَتْهُ شَهْوَةٌ، فَإِنْ هُوَ لَمْ يَرْعَوِ غَيِّهِ، فَقَدْ خَانَ بِسَاطَ عَقْلِهِ بِطَيِّهِ.
وَجُعِلَتِ الرَّحْمَةُ بِمَنْزِلَةِ الْآلَةِ لِلنَّيْلِ كَمَا يُقَالُ: نَالَ الثَّمَرَةَ بِمِحْجَنٍ. فَالْبَاءُ لِلْآلَةِ. أَوْ جُعِلَتِ الرَّحْمَةُ مُلَابَسَةً لِلنَّيْلِ فَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ. وَالنَّيْلُ هُنَا اسْتِعَارَةٌ، وَقَدْ عَمَدُوا إِلَى هَذَا الْكَلَامِ الْمُقَدَّرِ فَنَفَوْهُ فَقَالُوا: لَا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ.
وَهَذَا النّظم الَّذين حُكِيَ بِهِ قَسَمُهُمْ يُؤْذِنُ بِتَهَكُّمِهِمْ بِضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا، وَقَدْ أَغْفَلَ الْمُفَسِّرُونَ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ بِحَسَبِ نَظْمِهَا.
وَجُمْلَةُ: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ قِيلَ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ اخْتِصَارًا لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ، وَحَذْفُ الْقَوْلِ فِي مِثْلِهِ كَثِيرٌ وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْمَقُولُ جُمْلَةً إِنْشَائِيَّةً، وَالتَّقْدِيرُ: قَالَ لَهُمُ اللَّهُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ فَكَذَّبَ اللَّهُ قَسَمَكُمْ وَخَيَّبَ ظَنَّكُمْ، وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ كَلَامِ أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لِلدُّعَاءِ لِأَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِمْ بِهَؤُلَاءِ هُمْ أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْحِينَ قَدِ اسْتَقَرَّ فِيهِ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ وَأَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ، كَمَا تَقْتَضِيهِ الْآيَاتُ السَّابِقَةُ مِنْ قَوْلِهِ: وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ- إِلَى قَوْلِهِ- الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الْأَعْرَاف: ٤٦، ٤٧] فَلِذَلِكَ يَتَعَيَّنُ جَعْلُ الْأَمْرِ لِلدُّعَاءِ كَمَا فِي قَوْلِ الْمَعَرِّيِّ:
ابْقَ فِي نِعْمَةٍ بَقَاء الدّهور نَافِذا لحكم فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ
وَإِذْ قَدْ كَانَ الدُّخُولُ حَاصِلًا فَالدُّعَاءُ بِهِ لِإِرَادَةِ الدَّوَامِ كَمَا يَقُولُ الدَّاعِي عَلَى الْخَارِجِ: اخْرُجْ غَيْرَ مَأْسُوفٍ عَلَيْكَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ.
وَرُفِعَ خَوْفٌ مَعَ (لَا) لِأَنَّ أَسْمَاءَ أَجْنَاسِ الْمَعَانِي الَّتِي لَيْسَتْ لَهَا أَفْرَادٌ فِي الْخَارِجِ يَسْتَوِي فِي نَفْيِهَا بِلَا الرَّفْعُ وَالْفَتْحُ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الْأَعْرَاف: ٣٥].
[٥٠، ٥١]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : الْآيَات ٥٠ الى ٥١]
وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٥١)
وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا.
اجْتَرَحَتْهُ مِنَ الْمُخَالَفَاتِ وَالْمَعَاصِي تُبْقِي لَهَا عَقِبَ الْمَوْعِظَةِ أَثَرًا قَدْ تُعَيَّرُ الْأُمَّةُ بِهِ، وَلَكِن ذَلِك التعيير لَا يُؤْبَهُ بِهِ فِي جَانِبِ مَا يَحْصُلُ مِنَ النَّفْعِ لَهَا بِالْمَوْعِظَةِ، فَالْأُمَّةُ فِي خُوَيِّصَّتِهَا لَا يَهْتَمُّ قَادَتُهَا وَنُصَحَاؤُهَا إِلَّا بِإِصْلَاحِ الْحَالِ، وَإِنْ كَانَ فِي ذِكْرِ بَعْضِ تِلْكَ الْأَحْوَالِ غَضَاضَةٌ عِنْدَهَا وَامْتِعَاضٌ، فَإِذَا جَاءَ حُكْمُ التَّارِيخِ الْعَامِّ بَيْنَ الْأُمَمِ تَنَاوَلَتِ الْأُمَمُ أَحْوَالَ تِلْكَ الْأُمَّةِ بِالْحُكْمِ لَهَا وَعَلَيْهَا، فَبَقِيَتْ حَوَادِثُ فَلَتَاتِهَا مَغْمَزًا عَلَيْهَا وَمَعَرَّةً تُعَيَّرُ بِهَا، وَكَذَلِكَ كَانَ شَأْنُ الْيَهُودِ لَمَّا أَضَاعُوا مُلْكَهُمْ وَوَطَنَهُمْ وَجَاوَرُوا- أُمَمًا أُخْرَى فَأَصْبَحُوا يَكْتُمُونَ عَنْ أُولَئِكَ الجيرة مساوي تَارِيخِهِمْ، حَتَّى أَرْسَلَ الله مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَّمَهُ مِنْ أَحْوَالِهِمْ مَا فِيهِ مُعْجِزَةٌ لِأَسْلَافِهِمْ، وَمَا بَقِيَ مَعَرَّةً لِأَخْلَافِهِمْ، وَذَلِكَ تَحَدٍّ لَهُمْ، وَوَخْزٌ عَلَى سُوءِ تَلَقِّيهِمُ الدَّعْوَةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ بِالْمَكْرِ وَالْحَسَدِ.
فَالسُّؤَالُ هُنَا فِي معنى التقريع لِتَقْرِيعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَتَوْبِيخِهِمْ وَعَدِّ سَوَابِقِ عِصْيَانِهِمْ أَيْ لَيْسَ عِصْيَانُهُمْ إِيَّاكَ بِبِدْعٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ شِنْشِنَةٌ قَدِيمَةٌ فِيهِمْ، وَلَيْسَ سُؤَالَ الِاسْتِفَادَةِ لِأَن الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُعْلِمَ بِذَلِكَ مِنْ جَانِبِ رَبِّهِ تَعَالَى، وَهُوَ نَظِيرُ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ التقريري فوزان وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ وَزِانُ: أَعَدَوْتُمْ فِي السَّبْتِ، فَإِنَّ السُّؤَالَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ عَلَى نَوْعَيْنِ أَشْهَرُهُمَا أَنْ يَسْأَلَ السَّائِلُ عَمَّا لَا يُعلمهُ ليعلمه، والآخران يَسْأَلَ عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيرِ حِينَ يَكُونُ السَّائِلُ يَعْلَمُ حُصُولَ الْمَسْئُولِ عَنْهُ، وَيَعْلَمُ الْمَسْئُولُ أَنَّ السَّائِلَ عَالِمٌ وَأَنَّهُ إِنَّمَا سَأَلَهُ ليقرره.
وَجُمْلَة: وَسْئَلْهُمْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ [الْأَعْرَاف:
١٦١] وَاقِعَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ قَصَصِ الِامْتِنَانِ وَقَصَصِ الِانْتِقَامِ الْآتِيَةِ فِي قَوْله: وَقَطَّعْناهُمْ [الْأَعْرَاف: ١٦٨]، وَمُنَاسَبَةُ الِانْتِقَالِ إِلَى هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّ فِي كِلْتَا الْقِصَّتَيْنِ حَدِيثًا يَتَعَلَّقُ بِأَهْلِ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى بَنِي إِسْرَائِيلَ.
وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْقَرْيَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ الْآيَةَ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٦٥].
وَهَذِهِ الْقَرْيَةُ قِيلَ: (أَيْلَةُ) وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ الْيَوْمَ (الْعَقَبَةَ) وَهِيَ مَدِينَةٌ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ الْأَحْمَرِ قُرْبَ شِبْهِ جَزِيرَةِ طُورِ سِينَا، وَهِيَ مَبْدَأُ أَرْضِ الشَّامِ مِنْ جِهَةِ مِصْرَ، وَكَانَتْ مِنْ مَمْلَكَةِ إِسْرَائِيلَ فِي زَمَانِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَوُصِفَتْ بِأَنَّهَا حَاضِرَةُ الْبَحْرِ بِمَعْنَى الِاتِّصَالِ بِالْبَحْرِ وَالْقُرْبِ مِنْهُ، لِأَنَّ الْحُضُورَ يَسْتَلْزِمُ الْقُرْبَ، وَكَانَتْ (أَيْلَةُ) مُتَّصِلَةً بِخَلِيجٍ مِنَ الْبَحْرِ
الْأَحْمَرِ وَهُوَ الْقُلْزُمُ.
بُرْهَانٌ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْأَصْلُ، وَأَنَّ شُعَبَهُ الْمُتَوَلِّدَةَ مِنْهُ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ، وَأَنَّ مَا عَدَاهَا مِنَ الْمَكَارِمِ وَالْخَيْرَاتِ فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ فِي الْفَضْلِ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَإِنْ كَانَ كِلَا الصِّفَتَيْنِ لَا يَنْفَعُ إِلَّا إِذَا كَانَ مَعَ الْإِيمَانِ، وَخَاصَّةً الْجِهَادَ.
وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ: لَوْلَا الْجِهَادُ لَمَا كَانَ أَهْلُ السِّقَايَةِ وَعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ إِيمَانَهُمْ كَانَ مِنْ آثَارِ غَزْوَةِ فَتْحِ مَكَّةَ وَجَيْشِ الْفَتْحِ إِذْ آمَنَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَهُوَ صَاحِبُ السِّقَايَةِ، وَآمَنَ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ وَهُوَ صَاحِبُ عِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
فَأَمَّا مَا رَوَاهُ الطَّبَرَيُّ وَالْوَاحِدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مِنْ أَنَّ نُزُولَ هَذِهِ الْآيَةِ كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ، بِسَبَبِ الْمُمَارَاةِ الَّتِي وَقَعَتْ بَيْنَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَالْعَبَّاسِ، فَمَوْقِعُ التَّذْيِيلِ بِقَوْلِهِ:
وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ وَاضِحٌ: أَيْ لَا يَهْدِي الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَسْقُونَ الْحَاجَّ وَيَعْمُرُونَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، إِذْ لَا يُجْدِي ذَلِكَ مَعَ الْإِشْرَاكِ. فَتَبَيَّنَ أَنَّ مَا تَوَهَّمُوهُ مِنَ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ تِلْكَ الْأَعْمَالِ وَبَيْنَ الْجِهَادِ، وَتَنَازُعَهُمْ فِي ذَلِكَ، خَطَأٌ مِنَ النَّظَرِ، إِذْ لَا تَسْتَقِيمُ تَسْوِيَةُ التَّابِعِ بِالْمَتْبُوعِ وَالْفَرْعِ بِالْأَصْلِ، وَلَوْ كَانَتِ السِّقَايَةُ وَالْعِمَارَةُ مُسَاوِيَتَيْنِ لِلْجِهَادِ لَكَانَ أَصْحَابُهُمَا قَدِ اهْتَدَوْا إِلَى نَصْرِ الْإِيمَانِ، كَمَا اهْتَدَى إِلَى نَصْرِهِ الْمُجَاهِدُونَ، وَالْمُشَاهَدَةُ دَلَّتْ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ: فَإِنَّ الْمُجَاهِدِينَ كَانُوا مُهْتَدِينَ وَلَمْ يَكُنْ أَهْلُ السِّقَايَةِ وَالْعِمَارَةِ بِالْمُهْتَدِينَ. فَالْهِدَايَةُ شَاعَ إِطْلَاقُهَا مَجَازًا بِاسْتِعَارَتِهَا لِمَعْنَى الْإِرْشَادِ عَلَى الْمَطْلُوبِ، وَهِيَ بِحَسَبِ هَذَا الْإِطْلَاقِ مُرَادٌ بِهَا مَطْلُوبٌ خَاصٌّ وَهُوَ مَا يَطْلُبُهُ مَنْ يَعْمَلُ عَمَلًا يَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ، كَمَا يَقْتَضِيهِ تَعْقِيبُ ذِكْرِ سِقَايَةِ الْحَاجِّ وَعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ.
وَكُنِّيَ بِنَفْيِ الْهِدَايَةِ عَنْ نَفْيِ حُصُولِ الْغَرَضِ مِنَ الْعَمَلِ.
وَالْمَعْنَى: وَاللَّهُ لَا يَقْبَلُ مِنَ الْقَوْمِ الْمُشْرِكِينَ أَعْمَالَهُمْ.
وَنُسِبَ إِلَى ابْنِ وَرْدَانَ أَنَّهُ رَوَى عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ أَنَّهُ قَرَأَ: سُقَاةَ الْحَاجِّ- بِضَمِّ السِّينِ جَمْعُ السَّاقِي-
وَقَرَأَ وَعَمَرَةَ- بِالْعَيْنِ الْمَفْتُوحَةِ وَبِدُونِ أَلِفٍ وَبِفَتْحِ الرَّاءِ جَمْعُ عَامِرٍ- وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهَا عَنِ ابْن وردان.
وَالرَّهَقُ: الْغَشَيَانُ. وَفِعْلُهُ مِنْ بَابِ فَرح.
والقتر: لؤن هُوَ غُبْرَةٌ إِلَى السَّوَادِ. وَيُقَالُ لَهُ قَتَرَةٌ وَالَّذِي تَخَلَّصَ لِي من كَلَام الْأَئِمَّة والاستعمال أَن الفترة لَوْنٌ يَغْشَى جِلْدَةَ الْوَجْهِ مِنْ شِدَّةِ الْبُؤْسِ وَالشَّقَاءِ وَالْخَوْفِ. وَهُوَ مِنْ آثَارِ تَهَيُّجِ الْكَبِدِ مِنِ ارْتِجَافِ الْفُؤَادِ خَوْفًا وَتَوَقُّعًا.
وَالذِّلَّةُ: الْهَوَانُ. وَالْمُرَادُ أَثَرُ الذِّلَّةِ الَّذِي يَبْدُو عَلَى وَجْهِ الذَّلِيلِ. وَالْكَلَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي صَرِيحِهِ وَكِنَايَتِهِ، أَيْ لَا تَتَشَوَّهُ وُجُوهُهُمْ بِالْقَتَرِ وَأَثَرِ الذِّلَّةِ وَلَا يَحْصُلُ لَهُمْ مَا يُؤَثِّرُ الْقَتَرَ وَهَيْئَةَ الذِّلَّةِ.
وَلَيْسَ مَعْنَى نَفْيِ الْقَتَرِ وَالذِّلَّةِ عَنْهُمْ فِي جُمْلَةِ أَوْصَافِهِمْ مَدِيحًا لَهُمْ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْطُرُ بِالْبَالِ وُقُوعًا بَعْدَ أَنْ أَثْبَتَ لَهُمُ الْحُسْنَى وَزِيَادَةً بَلِ الْمَعْنَى التَّعْرِيضُ بِالَّذِينَ لَمْ يَهْدِهِمُ اللَّهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَهُمُ الَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ تَعْجِيلًا لِلْمَسَاءَةِ إِلَيْهِمْ بِطَرِيقِ التَّعْرِيضِ قَبْلَ التَّصْرِيحِ الَّذِي يَأْتِي فِي قَوْلِهِ: وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ إِلَى قَوْله: مُظْلِماً [يُونُس: ٢٧].
وَجُمْلَةُ: أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ نَتِيجَةٌ لِلْمُقَدِّمَةِ، فَبَيْنَهَا وَبَيْنَ الَّتِي قَبْلَهَا كَمَالُ الِاتِّصَالِ وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ عَنْهَا وَلَمْ تُعْطَفْ.
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ يَرْجِعُ إِلَى الَّذِينَ أَحْسَنُوا. وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا الْخُلُودَ لِأَجْلِ إِحْسَانِهِمْ نَظِيرَ قَوْلِهِ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: ٥].
[٢٧]
[سُورَة يُونُس (١٠) : آيَة ٢٧]
وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى [يُونُس: ٢٦]. وَعَبَّرَ فِي جَانِبِ الْمُسِيئِينَ بِفِعْلِ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ دُونَ فِعْلِ أَسَاءُوا الَّذِي عَبَّرَ بِهِ فِي جَانِبِ الَّذِينَ أَحْسَنُوا لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ إِسَاءَتَهُمْ مِنْ فِعْلِهِمْ وَسَعْيِهِمْ فَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ.
نَهْيُهُمْ عَنْ أَنْ يَجْعَلُوا الشِّقَاقَ سَبَبًا لِلْإِعْرَاضِ عَنِ النَّظَرِ فِي دَعْوَتِهِ، فَيُوقِعُوا أَنْفُسَهُمْ فِي أَنْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ مِثْلَ مَا أَصَابَ الْأُمَمَ قَبْلَهُمْ فَيَحْسَبُوا أَنَّهُمْ يَمْكُرُونَ بِهِ بِإِعْرَاضِهِمْ وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ.
وَلَقَدْ كَانَ فَضْحُ سُوءِ نَوَايَاهُمُ الدَّاعِيَةِ لَهُمْ إِلَى الْإِعْرَاضِ عَنْ دَعْوَتِهِ عَقِبَ إِظْهَارِ حُسْنِ نِيَّتِهِ مِمَّا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى مَا أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ [هود: ٨٨] مُصَادِفًا مَحَزَّ جَوْدَةِ الْخَطَابَةِ إِذْ رَمَاهُمْ بِأَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ بِضِدِّ مَا يُعَامِلُهُمْ بِهِ.
وَجُمْلَةُ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ النَّصْبِ فِي قَوْلِهِ:
أَنْ يُصِيبَكُمْ وَالْوَاوُ رَابِطَةُ الْجُمْلَةِ. وَلِمَعْنَى الْحَالِ هُنَا مَزِيدُ مُنَاسَبَةٍ لِمَضْمُونِ جُمْلَتِهَا إِذِ اعْتُبِرَ قُرْبُ زَمَانِهِمْ بِالْمُخَاطِبِينَ كَأَنَّهُ حَالَةٌ مِنْ أَحْوَالِ الْمُخَاطَبِينَ.
وَالْمُرَادُ بِالْبُعْدِ بُعْدُ الزَّمَنِ وَالْمَكَانِ وَالنَّسَبِ، فَزَمَنُ لُوطٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- غَيْرُ بَعِيدٍ فِي زَمَنِ شُعَيْبٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَالدِّيَارُ قَرِيبَةٌ مِنْ دِيَارِهِمْ، إِذْ مَنَازِلُ مَدْيَنَ عِنْدَ عَقَبَةِ أَيْلَةَ مُجَاوِرَةٌ مَعَانٍ مِمَّا يَلِي الْحِجَازَ، وَدِيَارُ قَوْمِ لُوطٍ بِنَاحِيَةٍ الْأُرْدُنِّ إِلَى الْبَحْرِ الْمَيِّتِ وَكَانَ مَدْيَنُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- وَهُوَ جَدُّ الْقَبِيلَةِ الْمُسَمَّاةِ بِاسْمِهِ، مُتَزَوِّجًا بِابْنَةِ لُوطٍ.
وَجُمْلَةُ وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي.
وَجُمْلَةُ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ تَعْلِيل الْأَمر بِاسْتِغْفَارِهِ وَالتَّوْبَةِ إِلَيْهِ، وَهُوَ تَعْلِيلٌ لِمَا
يَقْتَضِيهِ الْأَمْرُ مِنْ رَجَاءِ الْعَفْوِ عَنْهُمْ إِذَا اسْتَغْفَرُوا وَتَابُوا.
وَتَفَنَّنَ فِي إِضَافَةِ الرَّبِّ إِلَى ضَمِيرِ نَفْسِهِ مَرَّةً وَإِلَى ضَمِيرِ قَوْمِهِ أُخْرَى لِتَذْكِيرِهِمْ بِأَنَّهُ رَبُّهُمْ كَيْلَا يَسْتَمِرُّوا عَلَى الْإِعْرَاضِ وَلِلتَّشَرُّفِ بِانْتِسَابِهِ إِلَى مَخْلُوقِيَّتِهِ.
وَالرَّحِيمُ تَقَدَّمَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَحُلُّ خطابا للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ أَوْ تَحُلُّ أَنْتَ مَعَ الْجَيْشِ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ. وَالْحُلُولُ: النُّزُولُ.
وَتَحُلُّ: بِضَمِّ الْحَاءِ مُضَارِعُ حَلَّ اللَّازِمِ. وَقَدِ الْتُزِمَ فِيهِ الضَّمُّ. وَهَذَا الْفِعْلُ مِمَّا اسْتَدْرَكَهُ بُحْرُقٌ الْيَمَنِيُّ عَلَى ابْنِ مَالِكٍ فِي شرح لامية الْأَفْعَالِ، وَهُوَ وَجِيهٌ.
ووَعْدُ اللَّهِ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ عَلَى الْمَفْعُولِ، أَيْ مَوْعُودُ اللَّهِ، وَهُوَ مَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ [سُورَة آل عمرَان: ١٢]، فَأَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى اسْتِئْصَالِهِمْ لِأَنَّهَا ذَكَرَتِ الْغَلَبَ وَدُخُولَ جَهَنَّمَ، فَكَانَ الْمَعْنَى أَنَّهُ غَلَبَ الْقَتْلُ بِسُيُوفِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ الْبَطْشَةُ الْكُبْرَى. وَمِنْ ذَلِكَ يَوْمُ بَدْرٍ وَيَوْمُ حُنَيْنٍ وَيَوْمُ الْفَتْحِ.
وَإِتْيَانُ الْوَعْدِ: مَجَازٌ فِي وُقُوعِهِ وَحُلُولِهِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعادَ تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِيذَانًا بِأَنَّ إِتْيَانَ الْوَعْدِ الْمُغَيَّا بِهِ مُحَقِّقٌ وَأَنَّ الْغَايَةَ بِهِ غَايَةٌ بِأَمْرٍ قَرِيبِ الْوُقُوعِ. وَالتَّأْكِيدُ مُرَاعَاةً لإنكار الْمُشْركين.
[٣٢]
[سُورَة الرَّعْد (١٣) : آيَة ٣٢]
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٣٢)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ [سُورَة الرَّعْد: ٣١] إِلَخَّ، لِأَنَّ تِلْكَ الْمُثُلَ الثَّلَاثَةَ الَّتِي فُرِضَتْ أُرِيدَ بِهَا أُمُورٌ سَأَلَهَا الْمُشْرِكُونَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتِهْزَاءً وَتَعْجِيزًا لَا لِتَرَقُّبِ حُصُولِهَا.
وَجَاءَتْ عَقِبَ الْجُمْلَتَيْنِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْمُنَاسَبَةِ لَهُمَا مِنْ جِهَةِ الْمُثُلِ الَّتِي فِي الْأُولَى وَمِنْ جِهَةِ الْغَايَةِ الَّتِي فِي الثَّانِيَةِ.
وَ (مَا) مَوْصُولَةٌ، ماصدقها الْعَذَابُ الْمُتَوَعَّدُونَ بِهِ. وَالْبَاءُ فِي بِهِ لِلسَّبَبِيَّةِ. وَهُوَ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ هُوَ صِفَةٌ لِمَفْعُولٍ مُطْلَقٍ. وَالتَّقْدِيرُ: الَّذِي يَسْتَهْزِئُونَ اسْتِهْزَاءً بِسَبَبِهِ، أَيْ بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمْ وُقُوعَهُ. وَهَذَا اسْتِعْمَالٌ فِي مِثْلِهِ. وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ، مِنْ ذَلِكَ مَا فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ، وَلَيْسَتِ الْبَاءُ لتعدية فعل يَسْتَهْزِؤُنَ وَقُدِّمَ الْمَجْرُورُ عَلَى عَامِلِ مَوْصُوفِهِ لِلرِّعَايَةِ على الفاصلة.
[٣٥]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٣٥]
وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٣٥)
عَطْفُ قِصَّةٍ عَلَى قِصَّةٍ لِحِكَايَةِ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِ شُبُهَاتِهِمْ وَمُكَابَرَتِهِمْ وَبَابٌ مِنْ أَبْوَابِ تَكْذِيبِهِمْ.
وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُحَاوِلُونَ إِفْحَامَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ، وَإِنَّهُ الْقَادِرُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى آلِهَتِهِمْ، وَإِنَّهُ لَا يَرْضَى بِأَنْ يُعْبَدَ مَا سِوَاهُ، وَإِنَّهُ يَنْهَاهُمْ عَنِ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَنَحْوِهِمَا، فَحَسِبُوا أَنَّهُمْ خَصَمُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَاجُّوهُ فَقَالُوا لَهُ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ لَا نَعْبُدَ أَصْنَامًا لَمَا أَقْدَرَنَا عَلَى عِبَادَتِهَا، وَلَوْ شَاءَ أَنْ لَا نُحَرِّمَ مَا حَرَّمْنَا مِنْ نَحْوِ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ لَمَا أَقَرَّنَا عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ. وَذَلِكَ قَصْدُ إِفْحَامٍ وَتَكْذِيبٍ.
وَهَذَا رَدَّهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِتَنْظِيرِ أَعْمَالِهِمْ بِأَعْمَالِ الْأُمَمِ الَّذِينَ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ فَلَوْ كَانَ اللَّهُ يَرْضَى بِمَا عَمِلُوهُ لَمَا عَاقَبَهُمْ بِالِاسْتِئْصَالِ، فَكَانَتْ عَاقِبَتُهُمْ نُزُولُ الْعَذَابِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، ثُمَّ بِقَطْعِ الْمُحَاجَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ، أَيْ وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِ الرُّسُلِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- الْمُنَاظَرَةُ مَعَ الْأُمَّةِ.
وَالْفِتْنَةُ: اضْطِرَابُ الرَّأْيِ وَاخْتِلَالُ نِظَامِ الْعَيْشِ، وَتُطْلَقُ عَلَى الْعَذَابِ الْمُكَرَّرِ الَّذِي لَا يُطَاقُ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [البروج: ١٠]، وَقَالَ: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ [الذاريات: ١٣]. فَيَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى أَوَّلِ الْقَوْلَيْنِ فِي الرُّؤْيَا أَنَّهَا سَبَب فتْنَة الْمُشْركين بازدياد بعدهمْ عَن الْإِيمَان، وَيكون على القَوْل الثَّانِي أَن الْمَرْئِيُّ وَهُوَ عَذَابُهُمْ بِالسَّيْفِ فِتْنَةً لَهُمْ.
وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَالشَّجَرَةَ عَطْفٌ عَلَى الرُّؤْيَا، أَيْ مَا جَعَلْنَا ذِكْرَ الشَّجَرَةِ الْمَلْعُونَةِ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ. وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ [٦٤- ٦٦]، وَقَوْلِهِ: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الدُّخَانِ [٤٣- ٤٤]، وَقَوْلِهِ:
إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ [٥١- ٥٢].
رُوِيَ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ: «زَعَمَ صَاحِبُكُمْ أَنَّ نَارَ جَهَنَّمَ تَحْرِقُ الْحَجَرَ ثُمَّ يَقُولُ بِأَنَّ فِي النَّارِ شَجَرَةً لَا تَحْرِقُهَا النَّارُ». وَجَهِلُوا أَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ فِي النَّارِ شَجَرَةً لَا تَأْكُلُهَا النَّارُ. وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابِهِ فِي «أَسْبَابِ النُّزُول» لِلْوَاحِدِيِّ و «تَفْسِير الطَّبَرِيِّ». وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ الزِّبَعْرَى قَالَ: الزَّقُّومُ التَّمْرُ بِالزُّبْدِ بِلُغَةِ الْيَمَنِ، وَأَنَّ أَبَا جَهْلٍ أَمَرَ جَارِيَةً فَأَحْضَرَتْ تَمْرًا وَزُبْدًا وَقَالَ لأَصْحَابه: تمزقوا. فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ فَالْمَعْنَى: أَنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ سَبَب فتْنَة مكفرهم وَانْصِرَافِهِمْ عَنِ الْإِيمَانِ. وَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى جَعْلِ شَجَرَةِ الزَّقُّومِ فِتْنَةً عَلَى
هَذَا الْوَجْهِ أَنَّ ذِكْرَهَا كَانَ سَبَبَ فِتْنَةٍ بِحَذْفِ مُضَافٍ وَهُوَ ذِكْرٌ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ لِأَنَّ مَا وُصِفَتْ بِهِ فِي آيَاتِ الْقُرْآنِ لَعْنٌ لَهَا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: أَنَّ إِيجَادَهَا فِتْنَةٌ. أَيْ عَذَابٌ مُكَرَّرٌ، كَمَا قَالَ: إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ [الصافّات: ٦٣].
وَعَطْفُ (الشَّيَاطِينَ) عَلَى ضَمِيرِ الْمُشْرِكِينَ لِقَصْدِ تَحْقِيرِهِمْ بِأَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ مَعَ أَحْقَرِ جِنْسٍ وَأَفْسَدِهِ، وَلِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الشَّيَاطِينَ هُمْ سَبَبُ ضَلَالِهِمُ الْمُوجِبُ لَهُمْ هَذِهِ الْحَالَةَ، فَحَشَرَهُمْ مَعَ الشَّيَاطِين إنذار لَهُمْ بِأَنَّ مَصِيرَهُمْ هُوَ مَصِيرُ الشَّيَاطِينَ وَهُوَ مُحَقَّقٌ عِنْدَ النَّاسِ
كُلِّهِمْ. فَلِذَلِكَ عَطَفَ عَلَيْهِ جُمْلَةَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا، وَالضَّمِيرُ لِلْجَمِيعِ.
وَهَذَا إعداد آخر للتقريب مِنَ الْعَذَابِ فَهُوَ إِنْذَارٌ عَلَى إِنْذَارٍ وَتَدَرُّجٌ فِي إِلْقَاءِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِهِمْ. فَحَرْفُ ثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ لَا لِلْمُهْلَةِ إِذْ لَيْسَتِ الْمُهْلَةُ مَقْصُودَةٌ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ يُنْقَلُونَ مِنْ حَالَةِ عَذَابٍ إِلَى أَشَدَّ.
وجِثِيًّا حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ لَنُحْضِرَنَّهُمْ، وَالْجُثِيُّ: جَمْعُ جَاثٍ. وَوَزْنُهُ فُعُولٌ مِثْلُ: قَاعِدٍ وَقُعُودٍ وَجَالِسٍ وَجُلُوسٍ، وَهُوَ وَزْنٌ سَمَاعِيٌّ فِي جَمْعِ فَاعِلٍ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا [مَرْيَم: ٥٨]، فَأصل جثي جثور- بِوَاوَيْنِ- لِأَنَّ فِعْلَهُ وَاوِيٌّ، يُقَالُ:
جَثَا يَجْثُو إِذَا بَرَكَ عَلَى رُكْبَتَيهِ وَهِيَ هَيْئَةُ الْخَاضِعِ الذَّلِيلِ، فَلَمَّا اجْتَمَعَ فِي جُثُووٍ وَاوَانِ اسْتُثْقِلَا بَعْدَ ضَمَّةِ الثَّاءَ فَصِيرَ إِلَى تَخْفِيفِهِ بِإِزَالَةِ سَبَبِ الثِّقَلِ السَّابِقِ وَهُوَ الضَّمَّةُ فَعُوِّضَتْ بِكَسْرِ الثَّاءِ، فَلَمَّا كُسِرْتِ الثَّاءُ تَعَيَنَ قَلْبُ الْوَاوِ الْمُوَالِيَةِ لَهَا يَاءً لِلْمُنَاسَبَةِ فَاجْتَمَعَ الْوَاوُ وَالْيَاءُ وَسُبِقَ أَحدهمَا بِالسُّكُونِ فقلبت الْوَاوُ الْأُخْرَى يَاءً وَأُدْغِمَتَا فَصَارَ جثي.
وقرى حَمْزَة، وَالْكسَائِيّ، وَحَفْص، وَخلف- بِكَسْر الْجِيم- وَهُوَ كسر إتباع لحركة الثَّاء.
وَهَذَا الْجُثُوُّ هُوَ غَيْرُ جُثُوِّ النَّاسِ فِي الْحَشْرِ الْمَحْكِيِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا [الجاثية: ٢٨] فَإِن ذَلِكَ جُثُوُّ خُضُوعٍ لِلَّهِ، وَهَذَا الْجُثُوُّ حَوْلَ جَهَنَّمَ جُثُوُّ مَذَلَّةٍ.
وَالْقَوْلُ فِي عَطْفِ جُمْلَةِ ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ كَالْقَوْلِ فِي جُمْلَةِ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ. وَهَذِهِ حَالَةٌ أُخْرَى مِنَ الرُّعْبِ أَشَدُّ مِنَ

[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : الْآيَات ٩٦ إِلَى ٩٧]

حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (٩٦) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (٩٧)
(حَتَّى) ابْتِدَائِيَّةٌ. وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهَا كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ لَا مَحَلَّ لَهُ مِنَ الْإِعْرَابِ وَلَكِنْ (حَتَّى) تُكْسِبُهُ ارْتِبَاطًا بِالْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهُ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ: أَنَّ مَعْنَى الْغَايَةِ لَا يُفَارق (حتّى) حِينَ تَكُونُ لِلِابْتِدَاءِ، وَلِذَلِكَ عُنِيَ هُوَ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنَ الْمُفَسّرين بتطلب المغيّا بِهَا هَاهُنَا فَجَعَلَهَا فِي «الْكَشَّافِ» غَايَةً لِقَوْلِهِ وَحَرامٌ فَقَالَ: « (حَتَّى) مُتَعَلِّقَةٌ بِ حَرامٌ وَهِيَ غَايَةٌ لَهُ لِأَنَّ امْتِنَاعَ رُجُوعِهِمْ لَا يَزُولُ حَتَّى تَقُومَ الْقِيَامَةُ» اه. أَيْ: فَهُوَ مِنْ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ عَلَى أَمْرٍ لَا يَقَعُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ [الْأَعْرَاف: ٤٠]، وَيَتَرَكَّبُ عَلَى كَلَامِهِ الْوَجْهَانِ اللَّذَانِ تَقَدَّمَا فِي مَعْنَى الرُّجُوعِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنَّهُمْ لَا
يَرْجِعُونَ
[الْأَنْبِيَاء: ٩٥]، أَيْ لَا يَرْجِعُونَ عَنْ كُفْرِهِمْ حَتَّى يَنْقَضِيَ الْعَالَمُ، أَوِ انْتِفَاءُ رُجُوعِهِمْ إِلَيْنَا فِي اعْتِقَادِهِمْ يَزُولُ عِنْدَ انْقِضَاءِ الدُّنْيَا. فَيَكُونُ الْمَقْصُودُ الْإِخْبَارَ عَنْ دَوَامِ كُفْرِهِمْ عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ. وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ فَفَتْحُ يَاجُوجَ وَمَاجُوجَ هُوَ فَتْحُ السَّدِّ الَّذِي هُوَ حَائِلٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الِانْتِشَارِ فِي أَنْحَاءِ الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي قِصَّةِ ذِي الْقَرْنَيْنِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ.
وَتَوْقِيتُ وَعْدِ السَّاعَةِ بِخُرُوجِ يَاجُوجِ وَمَاجُوجِ أَنَّ خُرُوجَهُمْ أَوَّلُ عَلَامَاتِ اقْتِرَابِ الْقِيَامَةِ.
وَقَدْ عَدَّهُ الْمُفَسِّرُونَ مِنَ الْأَشْرَاطِ الصُّغْرَى لِقِيَامِ السَّاعَةِ.
يَكُونَ بِدَاعِي الْمَحَبَّةِ وَالْمُوَافَقَةِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ دُونَ عِوَضٍ، فَإِنْ كَانَ بِعِوَضٍ فَهُوَ الْبِغَاءُ يَكُونُ فِي الْحَرَائِرِ وَيَغْلِبُ فِي الْإِمَاءِ وَكَانُوا يَجْهَرُونَ بِهِ فَكَانَتِ الْبَغَايَا يَجْعَلْنَ رَايَاتٍ عَلَى بُيُوتِهِنَّ مِثْلَ رَايَةَ الْبَيْطَارِ لِيُعْرَفْنَ بِذَلِكَ وَكُلُّ ذَلِكَ يَشْمَلُهُ اسْمُ الزِّنَى فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ وَفِي الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الزِّنَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [٣٢].
وَالْجَلْدُ: الضَّرْبُ بِسَيْرٍ مِنْ جِلْدٍ. مُشْتَقٌّ مِنَ الْجِلْدِ بِكَسْرِ الْجِيمِ لِأَنَّهُ ضَرْبُ الْجِلْدِ.
أَيِ الْبَشْرَةِ. كَمَا اشْتُقَّ الْجَبْهُ، وَالْبَطْنُ، وَالرَّأْسُ فِي قَوْلِهِمْ جَبَهَهُ إِذَا ضَرَبَ جَبْهَتَهُ، وَبَطَنَهُ إِذَا ضَرَبَ بَطْنَهُ، وَرَأَسَهُ إِذَا ضَرَبَ رَأْسَهُ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : وَفِي لَفْظِ الْجَلْدِ إِشَارَةٌ إِلَى
أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَجَاوَزَ الْأَلَمُ إِلَى اللَّحْمِ اهـ. أَيْ لَا يَكُونُ الضَّرْبُ يُطَيِّرُ الْجِلْدَ حَتَّى يَظْهَرَ اللَّحْمُ، فَاخْتِيَارُ هَذَا اللَّفْظِ دُونَ الضَّرْبِ مَقْصُودٌ بِهِ الْإِشَارَةُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى عَلَى طَرِيقَةِ الْإِدْمَاجِ.
وَاتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى: أَنَّ ضَرْبَ الْجَلْدِ بِالسَّوْطِ. أَيْ بِسَيْرٍ مِنْ جِلْدٍ. وَالسَّوْطُ:
هُوَ مَا يَضْرِبُ بِهِ الرَّاكِبُ الْفَرَسَ وَهُوَ جِلْدٌ مَضْفُورٌ، وَأَنْ يَكُونَ السَّوْطُ مُتَوَسِّطَ اللِّينِ، وَأَنْ يَكُونَ رَفْعُ يَدِ الضَّارِبِ مُتَوَسِّطًا. وَمَحَلُّ الْجَلْدِ هُوَ الظّهْر عِنْد مَالِكٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ:
تُضْرَبُ سَائِرُ الْأَعْضَاءِ مَا عَدَا الْوَجْهِ وَالْفَرْجِ. وَأَجْمَعُوا عَلَى تَرْكِ الضَّرْبِ عَلَى الْمَقَاتِلِ، وَمِنْهَا الرَّأْسُ فِي الْحَدِّ. رَوَى الطَّبَرِيُّ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ حَدَّ جَارِيَةً أَحْدَثَتْ فَقَالَ لِلْجَالِدِ:
اجْلِدْ رِجْلَيْهَا وَأَسْفَلَهَا، فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ: فَأَيْنَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ فَقَالَ فَاقَتْهَا. وَقَوْلُهُ: كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما تَأْكِيدٌ لِلْعُمُومِ الْمُسْتَفَادِ مِنَ التَّعْرِيفِ فَلَمْ يَكْتَفِ بِأَنْ يُقَالَ: فَاجْلِدُوهُمَا، كَمَا قَالَ: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما [الْمَائِدَة: ٣٨] وَتَذْكِيرُ كُلِّ وَاحِدٍ تَغْلِيبٌ لِلْمُذَكَّرِ مِثْلَ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ [التَّحْرِيم:
١٢].
وَالْخِطَابُ بِالْأَمْرِ بِالْجَلْدِ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُسْلِمِينَ فَيَقُومُ بِهِ مَنْ يَتَوَلَّى أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْقُضَاةِ وَلَا يَتَوَلَّاهُ الْأَوْلِيَاءُ، وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ: يُقِيمُ السَّيِّدُ عَلَى عَبْدِهِ وَأَمَتِهِ حَدَّ الزِّنَى، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يُقِيمُهُ
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَعْنَى الْخِزْيِ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٨٥]. وَقَوْلِهِ: إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ فِي آلِ عِمْرَانَ [١٩٢].
وَضَمِيرُ يُبْعَثُونَ رَاجِعٌ إِلَى الْعِبَادِ الْمَعْلُومِ مِنَ الْمَقَامِ.
وَجُمْلَةُ: إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ تَعْلِيلٌ لِطَلَبِ الْمَغْفِرَةِ لِأَبِيهِ فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ سَأَلَ لَهُ مَغْفِرَةً خَاصَّةً وَهِيَ مَغْفِرَةُ أَكْبَرِ الذُّنُوبِ أَعْنِي الْإِشْرَاكَ بِاللَّهِ، وَهُوَ سُؤَالٌ اقْتَضَاهُ مَقَامُ الْخُلَّةِ وَقَدْ كَانَ أَبُوهُ حَيًّا حِينَئِذٍ لِقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا [مَرْيَم: ٤٧]. وَلَعَلَّ إِبْرَاهِيمَ عَلِمَ مِنْ حَالِ أَبِيهِ أَنَّهُ لَا يُرْجَى إِيمَانُهُ بِمَا جَاءَ بِهِ ابْنُهُ أَوْ أَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيْهِ بِذَلِكَ مَا تُرْشِدُ إِلَيْهِ آيَةُ وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ [التَّوْبَة: ١١٤]. وَيَجُوزُ أَنَّهُ لَمْ يَتَقَرَّرْ فِي شَرْعِ إِبْرَاهِيمَ حِينَئِذٍ حِرْمَانُ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْمَغْفِرَةِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ [التَّوْبَة: ١١٤]. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ طَلَبُ الْغُفْرَانِ لَهُ كِنَايَةً عَنْ سَبَبِ الْغُفْرَانِ وَهُوَ هِدَايَتُهُ إِلَى الْإِيمَانِ.
ويَوْمَ لَا يَنْفَعُ مالٌ إِلَخْ يَظْهَرُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَكُونُ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ بَدَلًا مِنْ يَوْمَ يُبْعَثُونَ قَصَدَ بِهِ إِظْهَارَ أَنَّ الِالْتِجَاءَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ وَلَا عَوْنَ فِيهِ بِمَا اعْتَادَهُ النَّاسُ فِي الدُّنْيَا مِنْ أَسْبَابِ الدَّفْعِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ.
وَاسْتَظْهَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَنَّ الْآيَاتِ الَّتِي أَوَّلُهَا يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ يُرِيدُ إِلَى قَوْلِهِ: فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشُّعَرَاء: ١٠٢] مُنْقَطِعَةٌ عَنْ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهِيَ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى صِفَةً لِلْيَوْمِ الَّذِي وَقَفَ إِبْرَاهِيمُ عِنْدَهُ فِي دُعَائِهِ أَنْ لَا يُخْزَى فِيهِ اه.
وَهُوَ اسْتِظْهَارٌ رَشِيقٌ فَيَكُونُ: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مالٌ اسْتِئْنَافًا خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: هُوَ يَوْمٌ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ. وَفَتْحَةُ يَوْمَ فَتْحَةُ بِنَاءٍ لِأَنَّ (يَوْمَ) ظَرْفٌ أُضِيفَ إِلَى فِعْلٍ مُعَرَّبٍ فَيَجُوزُ إِعْرَابُهُ وَيَجُوزُ بِنَاؤُهُ عَلَى الْفَتْحِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [الْمَائِدَة: ١١٩]. وَيَظْهَرُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ الْإِشَارَةُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَهُ

[سُورَة الْقَصَص (٢٨) : آيَة ٥٦]

إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٥٦)
لَمَّا ذَكَرَ مَعَاذِيرَ الْمُشْرِكِينَ وَكُفْرَهُمْ بِالْقُرْآنِ، وَأَعْلَمَ رَسُولَهُ أَنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَأَنَّهُمْ مُجَرَّدُونَ عَنْ هُدَى اللَّهِ، ثُمَّ أَثْنَى عَلَى فَرِيقٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْقُرْآنِ، وَكَانَ ذَلِك يحزن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعْرِضَ قُرَيْشٌ وَهُمْ أَخَصُّ النَّاسِ بِهِ عَنْ دَعْوَتِهِ أَقْبَلَ اللَّهُ على خطاب نبيئه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا يُسَلِّي نَفْسَهُ وَيُزِيلُ كَمَدَهُ بِأَنْ ذَكَرَّهُ بِأَنَّ الْهُدَى بِيَدِ اللَّهِ. وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْأَمْرِ بِالتَّفْوِيضِ فِي ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ. وَافْتِتَاحُهَا بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ اهْتِمَامٌ باستدعاء إقبال النبيء عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى عِلْمِ مَا تَضَمَّنَتْهُ عَلَى نَحْوِ مَا قَرَّرْنَاهُ آنِفًا فِي قَوْلِهِ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ
أَهْواءَهُمْ
[الْقَصَص: ٥٠]. وَمَفْعُولُ أَحْبَبْتَ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ لَا تَهْدِي.
وَالتَّقْدِيرُ: مَنْ أَحْبَبْتَ هَدْيَهُ أَو اهتداءه. وَمَا صدق مَنْ الْمَوْصُولَةِ كُلُّ مَنْ دَعَاهُ النَّبِيءُ إِلَى الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ يُحِبُّ اهْتِدَاءَهُ.
وَقَدْ تَضَافَرَتِ الرِّوَايَاتُ عَلَى أَنَّ مِنْ أَوَّلِ الْمُرَادِ بِذَلِكَ أَبَا طَالب عَم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ كَانَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِ اغْتَمَّ لِمَوْتِهِ عَلَى غَيْرِ الْإِسْلَامِ كَمَا فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: وَذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ مِنْ أَجْلِ امْتِنَاعِ أَبِي طَالِبٍ عَمِّهِ مِنْ إِجَابَتِهِ إِذْ دَعَاهُ إِلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهُوَ نَصُّ حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي بَرَاءَةٌ.
وَهَذَا مِنَ الْعَامِّ النَّازِلِ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ فَيَعُمُّهُ وَغَيْرَهُ وَهُوَ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ هَذِهِ السُّورَةُ نَزَلَتْ عَقِبَ مَوْتِ أَبِي طَالِبٍ وَكَانَتْ وَفَاةُ أَبِي طَالِبٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، أَوْ كَانَ وَضْعُ هَذِهِ الْآيَةِ عَقِبَ الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا بِتَوْقِيفٍ خَاصٍّ.
وَمَعْنَى وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ أَنَّهُ يَخْلُقُ مَنْ يَشَاءُ قَابِلًا لِلِاهْتِدَاءِ فِي مَدًى مُعَيَّنٍ وَبَعْدَ دَعَوَاتٍ مَحْدُودَةٍ حَتَّى يَنْشَرِحَ صَدْرُهُ لِلْإِيمَانِ فَإِذَا تَدَبَّرَ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَحَدَّدَهُ كَثُرَ فِي عِلْمِهِ وَإِرَادَتِهِ جَعَلَ مِنْهُ الِاهْتِدَاءَ، فَالْمُرَادُ الْهِدَايَةُ بِالْفِعْلِ. وَأَمَّا
وَجُمْلَةُ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ إِلَى آخِرِهَا نَتِيجَةُ الِاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ وَالدَّوَابِّ وَإِنْزَالِ الْمَطَرِ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ إِلَى مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ خَلَقَ السَّماواتِ إِلَى قَوْلِهِ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ. وَالْإِتْيَانُ بِهِ مُفْرَدًا بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ. وَالِانْتِقَالُ مِنَ التَّكَلُّمِ إِلَى الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ خَلْقُ اللَّهِ الْتِفَاتًا لِزِيَادَةِ التَّصْرِيحِ بِأَنَّ الْخِطَابَ وَارِدٌ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ وَكَذَلِكَ يَكُونُ الِانْتِقَالُ مِنَ التَّكَلُّمِ إِلَى الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ الْتِفَاتًا لِمُرَاعَاةِ الْعَوْدِ إِلَى الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ خَلْقُ اللَّهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الرُّؤْيَةُ مِنْ قَوْلِهِ فَأَرُونِي عَلَمِيَّةً، أَيْ فَأَنْبِئُونِي، وَالْفِعْلُ مُعَلَّقًا عَنِ الْعَمَلِ بِالِاسْتِفْهَامِ بِ مَاذَا.
فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ فَأَرُونِي تَهَكُّمًا لِأَنَّهُمْ لَا يُمْكِنُ لَهُمْ أَنْ يُكَافِحُوا اللَّهَ زِيَادَةً عَلَى كَوْنِ الْأَمْرِ مُسْتَعْمَلًا فِي التَّعْجِيزِ، لَكِنَّ التَّهَكُّمَ أَسْبَقُ لِلْقَطْعِ بِأَنَّهُمْ لَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ مُكَافَحَةِ اللَّهِ قَبْلَ أَنْ يُقْطَعُوا بِعَجْزِهِمْ عَنْ تَعْيِينِ مَخْلُوقٍ خَلَقَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَطْعًا نَظَرِيًّا.
وَصَوْغُ أَمْرِ التَّعْجِيزِ مِنْ مَادَّةِ الرُّؤْيَةِ الْبَصَرِيَّةِ أَشَدُّ فِي التَّعْجِيزِ لِاقْتِضَائِهَا الِاقْتِنَاعَ مِنْهُمْ بِأَنْ يُحْضِرُوا شَيْئًا يَدَّعُونَ أَنَّ آلِهَتَهُمْ خَلَقَتْهُ. وَهَذَا كَقَوْلِ حُطَائِطِ بْنِ يَعْفُرَ النَّهْشَلِيِّ (١) وَقِيلِ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ:
أَرِينِي جَوَادًا مَاتَ هَزْلًا (٢) لَعَلَّنِي أَرَى مَا تُزَيِّنُ أَوْ بَخِيلًا مُخَلَّدًا
أَيْ: أَحْضِرْنِي جَوَادًا مَاتَ مِنَ الْهُزَالِ وَأَرِينِيهِ لَعَلِّي أَرَى مِثْلَ مَا رَأَيْتِيهِ.
وَالْعَرَبُ يَقْصِدُونَ فِي مِثْلِ هَذَا الْغَرَضِ الرُّؤْيَةَ الْبَصَرِيَّةَ، وَلِذَلِكَ يَكْثُرُ أَنْ يَقُولَ: مَا
رَأَتْ عَيْنِي، وَانْظُرْ هَلْ تَرَى. وَقَالَ امْرِؤُ الْقَيْسِ:
فَلِلَّهِ عَيْنَا مَنْ رَأَى مِنْ تَفَرُّقٍ أَشَتَّ وَأَنْأَى مِنْ فِرَاقِ الْمُحَصَّبِ
وَإِجْرَاءُ اسْمِ مَوْصُولِ الْعُقَلَاءِ على الْأَصْنَام مجاراة للْمُشْرِكين إِذْ يعدّونهم عُقَلَاءَ.
_________
(١) حطائط بِضَم الْحَاء: الْقصير.
(٢) هزلا بِفَتْح الْهَاء: الهزال.

[سُورَة سبإ (٣٤) : الْآيَات ٧ إِلَى ٨]

وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧) أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (٨)
انْتِقَالٌ إِلَى قَوْلَةٍ أُخْرَى مِنْ شَنَاعَةِ أَهْلِ الشِّرْكِ مَعْطُوفَةٍ عَلَى وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ [سبأ: ٣]. وَهَذَا الْقَوْلُ قَائِمٌ مَقَامَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ دَعْوَى وَقَوْلُهُمْ: هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ مُسْتَنَدُ تِلْكَ الدَّعْوَى، وَلِذَلِكَ حُكِيَ بِمِثْلِ الْأُسْلُوبِ الَّذِي حُكِيَتْ بِهِ الدَّعْوَى فِي الْمُسْنَدِ وَالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ.
وَأَدْمَجُوا فِي الِاسْتِدْلَالِ التَّعْجِيبَ مِنَ الَّذِي يَأْتِي بِنَقِيضِ دَلِيلِهِمْ، ثُمَّ إِرْدَافُ ذَلِكَ
التَّعْجِيبِ بِالطَّعْنِ فِي الْمُتَعَجَّبِ بِهِ.
وَالْمُخَاطَبُ بِقَوْلِهِمْ: هَلْ نَدُلُّكُمْ غَيْرُ مَذْكُورٍ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِي الْآيَةِ الِاعْتِبَارُ بِشَنَاعَةِ الْقَوْلِ، وَلَا غَرَضَ يَتَعَلَّقُ بِالْمَقُولِ لَهُمْ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ هَذَا تَقَاوُلًا بَيْنَهُمْ، أَوْ يَقُولُهُ بَعْضُهُمْ لبَعض، أَو يَقُوله كُبَرَاؤُهُمْ لِعَامَّتِهِمْ وَدَهْمَائِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ كُفَّارِ مَكَّةَ لِلْوَارِدِينَ عَلَيْهِمْ فِي الْمَوْسِمِ. وَهَذَا الَّذِي يُؤْذِنُ بِهِ فِعْلُ نَدُلُّكُمْ مِنْ أَنَّهُ خِطَابٌ لِمَنْ لَمْ يَبْلُغْهُمْ قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْعَرْضِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى [النازعات: ١٨] وَهُوَ عَرْضٌ مكنّى بِهِ عَن التَّعْجِيبِ، أَيْ هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى أُعْجُوبَةٍ مِنْ رَجُلٍ يُنْبِئُكُمْ بِهَذَا النَّبَأِ الْمُحَالِ.
وَالْمَعْنَى: تَسْمَعُونَ مِنْهُ مَا سَمِعْنَاهُ مِنْهُ فَتَعْرِفُوا عُذْرَنَا فِي مُنَاصَبَتِهِ الْعَدَاءَ. وَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ هَيَّأُوا مَا يَكُونُ جَوَابًا لِلَّذِينَ يَرِدُونَ عَلَيْهِمْ فِي الْمَوْسِمِ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ يَتَسَاءَلُونَ عَنْ خَبَرِ هَذَا الَّذِي ظَهَرَ فِيهِمْ يَدَّعِي أَنَّهُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ إِلَى النَّاسِ، وَعَنِ الْوَحْيِ الَّذِي يُبَلِّغُهُ عَنِ اللَّهِ كَمَا وَرَدَ فِي خَبَرِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ إِذْ قَالَ لِقُرَيْشٍ: إِنَّهُ قَدْ حَضَرَ هَذَا الْمَوْسِمُ وَأَنَّ وُفُودَ الْعَرَبِ سَتَقْدَمُ عَلَيْكُمْ فِيهِ، وَقَدْ سَمِعُوا بِأَمْرِ صَاحِبِكُمْ هَذَا، فَأَجْمِعُوا فِيهِ رَأْيًا وَاحِدًا وَلَا تَخْتَلِفُوا فَيُكَذِّبَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَيَرُدَّ قَوْلُكُمْ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَقَالُوا: فَأَنْتَ يَا أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ فَقُلْ وَأَقِمْ لَنَا رَأَيًا نَقُولُ بِهِ. قَالَ:
وَإِنَّ الْحَقَّ مَقْطَعُهُ ثَلَاثٌ يَمِينٌ أَوْ نِفَارٌ أَوْ جَلَاءُ
وَلِذَلِكَ لَمَّا أُمِرَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهِجْرَةِ مِنْ مَكَّة لم يتَعَرَّض لَهُ قُرَيْش فِي بادىء الْأَمْرِ ثُمَّ خَافُوا أَنْ تَنْتَشِرَ دَعْوَتُهُ فِي الْخَارِجِ فَرَامُوا اللَّحَاقَ بِهِ فَحَبَسَهُمُ اللَّهُ عَنْهُ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَالَ ذَلِكَ فِي أَهْلِهِ الَّذِينَ يُرِيدُ أَنْ يَخْرُجَ بِهِمْ مَعَهُ فَمَعْنَى ذاهِبٌ إِلى رَبِّي مُهَاجِرٌ إِلَى حَيْثُ أَعْبُدُ رَبِّي وَحْدَهُ وَلَا أَعْبُدُ آلِهَةً غَيْرَهُ وَلَا أُفْتَنُ فِي عِبَادَتِهِ كَمَا فُتِنْتُ فِي بَلَدِهِمْ.
وَمُرَادُ اللَّهِ أَنْ يُفْضِيَ إِلَى بُلُوغِ مَكَّةَ لِيُقِيمَ هُنَالِكَ أَوَّلَ مَسْجِدٍ لِإِعْلَانِ تَوْحِيدِ اللَّهِ فَسَلَكَ
بِهِ الْمَسَالِكَ الَّتِي سَلَكَهَا حَتَّى بَلَغَ بِهِ مَكَّةَ وَأَوْدَعَ بِهَا أَهْلًا وَنَسْلًا، وَأَقَامَ بِهَا قَبِيلَةً دِينُهَا التَّوْحِيدُ، وَبَنَى لِلَّهِ مَعْبَدًا، وَجَعَلَ نَسْلَهُ حَفَظَةَ بَيْتِ اللَّهِ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَطْلَعَهُ عَلَى تِلْكَ الْغَايَةِ بِالْوَحْيِ أَوْ سَتَرَهَا عَنْهُ حَتَّى وَجَدَ نَفْسَهُ عِنْدَهَا فَلِذَلِكَ أَنْطَقَهُ بِأَنَّ ذَهَابَهُ إِلَى اللَّهِ نُطْقًا عَنْ عِلْمٍ أَوْ عَنْ تَوْفِيقٍ.
وَجُمْلَةُ سَيَهْدِينِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالًا وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِأَنَّهُ أَرَادَ إِعْلَامَ قَوْمِهِ بِأَنَّهُ وَاثِقٌ بِرَبِّهِ وَأَنَّهُ لَا تَرَدُّدَ لَهُ فِي مُفَارَقَتِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اسْتِئْنَافًا فَعَلَى الْأَوَّلِ هِيَ حَالٌ مِنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ جَعْلِ الْجُمْلَةِ حَالًا اقْتِرَانُهَا بِحَرْفِ الِاسْتِقْبَالِ فَإِنَّ حَرْفَ الِاسْتِقْبَالِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي مُقَدِّرًا، كَمَا لَمْ يَمْتَنِعْ مَجِيءُ الْحَالِ مَعْمُولًا لِعَامِلٍ مُسْتَقْبَلٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غَافِر:
٦٠] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشُّعَرَاء: ٦٢] وَقَوْلِ سَعْدِ بْنِ نَاشِبٍ:
سَأَغْسِلُ عَنِّي الْعَارَ بِالسَّيْفِ جَالِبًا عَلِيَّ قَضَاءُ اللَّهِ مَا كَانَ جَالِبَا
وَامْتِنَاعُ اقْتِرَانِ جُمْلَةِ الْحَالِ بِعَلَامَةِ الِاسْتِقْبَالِ فِي الْإِثْبَاتِ أَوِ النَّفْيِ مَذْهَبٌ بَصْرِيٌّ، وَهُوَ نَاظِرٌ إِلَى غَالِبِ أَحْوَالِ اسْتِعْمَالِ الْحَالِ، وَجَوَازُهُ مَذْهَبٌ كُوفِيٌّ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي «الْإِنْصَافِ»، وَالْحَقُّ فِي جَانِبِ نُحَاةِ الْكُوفَةِ. وَقَدْ تَلَقَّفَ الْمَذْهَبَ الْبَصْرِيَّ مُعْظَمُ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ وَتَحَيَّرَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْهُمْ فِي تَأْيِيدِهِ فَلَجَأُوا إِلَى أَنَّ عِلَّتَهُ اسْتِبْشَاعُ الْجَمْعِ بَيْنَ كَوْنِ الْكَلِمَةِ حَالًا وَبَيْنَ اقْتِرَانِهَا بِعَلَامَةِ الِاسْتِقْبَالِ. وَنُبَيِّنُهُ بِأَنَّ الْحَالَ مَا سُمِّيَتْ حَالًا إِلَّا لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا ثُبُوتُ وَصْفٍ فِي الْحَالِ وَهَذَا يُنَافِي اقْتِرَانَهَا
وَجُمْلَةُ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً مُعْتَرِضَةٌ لِلِاحْتِرَاسِ مِنْ أَنْ يَظُنَّ (هَامَانُ) وَقَوْمُهُ أَنَّ دَعْوَةَ مُوسَى أَوْهَنَتْ مِنْهُ يَقِينَهُ بِدِينِهِ وَآلِهَتِهِ وَأَنَّهُ يَرُومُ أَنْ يَبْحَثَ بَحْثَ مُتَأَمِّلٍ نَاظِرٍ فِي أَدِلَّةِ الْمَعْرِفَةِ فَحَقَّقَ لَهُمْ أَنَّهُ مَا أَرَادَ بِذَلِكَ إِلَّا نَفِيَ مَا ادَّعَاهُ مُوسَى بِدَلِيلِ الْحِسِّ. وَجِيءَ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ الْمُعَزَّزِ بِلَامِ الِابْتِدَاءِ لِيَنْفِيَ عَنْ نَفْسِهِ اتِّهَامَ وَزِيرِهِ إِيَّاهُ بِتَزَلْزُلِ اعْتِقَادِهِ فِي دِينِهِ. وَالْمَعْنَى: أَنِّي أَفْعَلُ ذَلِكَ لِيَظْهَرَ كَذِبُ مُوسَى.
وَالظَّنُّ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الْيَقِينِ وَالْقَطْعِ، وَلِذَلِكَ سَمَّى اللَّهُ عَزْمَهُ هَذَا كَيْدًا فِي قَوْلِهِ: وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ.
وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ جُمْلَةُ وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ عَطَفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَقالَ فِرْعَوْنُ لِبَيَانِ حَالِ اعْتِقَادِهِ وَعَمَلِهِ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ حَالَ أَقْوَالِهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ قَالَ قَوْلًا مُنْبَعِثًا عَنْ ضَلَالِ اعْتِقَاد ومغريا بِفساد الْأَعْمَالِ. وَلِهَذَا الِاعْتِبَارِ اعْتِبَارُ جَمِيعِ أَحْوَالِ فِرْعَوْنَ لَمْ تُفْصَلْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا إِذْ لَمْ يُقْصَدْ بِهَا ابْتِدَاءُ قِصَّةٍ أُخْرَى، وَهَذَا مِمَّا سَمَّوْهُ بِالتَّوَسُّطِ بَيْنَ كَمَالِيِّ الِاتِّصَالِ وَالِانْقِطَاعِ فِي بَابِ الْفَصْلِ وَالْوَصْلِ مِنْ عِلْمِ الْمَعَانِي. وَافْتِتَاحُهَا بِ كَذلِكَ كَافْتِتَاحِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٤٣]، أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ التَّزْيِينِ أَي تَزْيِين عَمَلِ فِرْعَوْنَ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ مُبَالَغَةً فِي أَنَّ تَزْيِينَ عَمَلِهِ لَهُ بَلَغَ مِنَ الْقُوَّةِ فِي نَوْعِهِ مَا لَا يُوجَدُ لَهُ شِبْهٌ يُشَبَّهُ بِهِ فَمَنْ أَرَادَ تَشْبِيهَهُ فَلْيُشَبِّهْهُ بِعَيْنِهِ.
وَبُنِيَ فِعْلُ زُيِّنَ إِلَى الْمَجْهُولِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مَعْرِفَةُ مَفْعُولِ التَّزْيِينِ لَا مَعْرِفَةُ فَاعِلِهِ، أَيْ حَصَلَ لَهُ تَزْيِينُ سُوءِ عَمَلِهِ فِي نَفْسِهِ فَحَسِبُ الْبَاطِلَ حَقًّا وَالضَّلَالَ اهْتِدَاءً.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَصُدَّ بِفَتْحِ الصَّادِ وَهُوَ يَجُوزُ اعْتِبَارُهُ قَاصِرًا الَّذِي مُضَارِعُهُ يَصِدُّ بِكَسْرِ الصَّادِ، وَيَجُوزُ اعْتِبَارُهُ مُتَعَدِّيًا الَّذِي مُضَارِعُهُ يَصُدُّ بِضَمِّ الصَّادِ، أَيْ
أَحْسَبُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ تَحَاشَوْا عَنِ التَّصْرِيحِ بِأَنَّهَا حَادِثَةٌ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ ذَلِكَ دَهْمَاءَ الْأُمَّةِ إِلَى اعْتِقَادِ حُدُوثِ صِفَاتِ اللَّهِ، أَوْ يُؤَدِّيَ إِلَى إِبْطَالِ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ، لِأَنَّ تِبْيَانَ حَقِيقَةِ مَعْنَى الْإِضَافَةِ فِي قَوْلِهِمْ:
كَلَامُ اللَّهِ، دَقِيقٌ جِدًّا يَحْتَاجُ مُدْرِكُهُ إِلَى شَحْذِ ذِهْنِهِ بِقَوَاعِدِ الْعُلُومِ، وَالْعَامَّةُ عَلَى بَوْنٍ مِنْ ذَلِكَ. وَاشْتُهِرَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ زَمَنَ فِتْنَةِ خَلْقِ الْقُرْآنِ. وَكَانَ فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ فِي زَمَنِ الْعُبَيْدِيِّينَ مُلْتَزِمِينَ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ بن أَبِي زَيْدٍ فِي «الرِّسَالَةِ» :«وَإِنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ فَيَبِيدَ وَلَا صِفَةٍ لِمَخْلُوقٍ فَيَنْفَدَ». وَقَدْ نَقَشُوا عَلَى إِسْطُوَانَةٍ مِنْ أَسَاطِينِ الْجَامِعِ بِمَدِينَةِ سُوسَةَ هَذِهِ الْعِبَارَةَ: «الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ وَلَيْسَ بِمَخْلُوقٍ» وَهِيَ مَاثِلَةٌ إِلَى الْآنِ.
قَالَ فَخْرُ الدِّينِ: وَاتَّفَقَ أَنِّي قُلْتُ يَوْمًا لِبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ: لَوْ تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ إِمَّا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهَا دَفْعَةً وَاحِدَةً أَوْ عَلَى التَّعَاقُبِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ التَّكَلُّمَ بِهَا دَفْعَةً وَاحِدَةً
لَا يُفِيدُ هَذَا النَّظْمَ الْمُرَكَّبَ عَلَى التَّعَاقُبِ وَالتَّوَالِي، وَالثَّانِي بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَوْ تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهَا عَلَى التَّوَالِي كَانَتْ مُحْدَثَةً، فَلَمَّا سَمِعَ مِنِّي هَذَا الْكَلَامَ قَالَ: «الْوَاجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نُقِرَّ وَنُمُرَّ» يَعْنِي نُقِرُّ بِأَنَّ الْقُرْآنَ قَدِيمٌ وَنَمُرُّ عَلَى هَذَا الْكَلَامِ عَلَى وَفْقِ مَا سَمِعْنَاهُ قَالَ: فَتَعَجَّبْتُ مِنْ سَلَامَةِ قَلْبِ ذَلِكَ الْقَائِلِ.
وَمِنَ الْغَرِيبِ جِدًّا مَا يُعْزَى إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ كَرَّامٍ وَأَصْحَابِهِ الْكَرَّامِيَّةِ مِنَ الْقَوْلِ بِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ تَعَالَى، وَقَالُوا: لَا يَلْزَمُ أَنَّ كُلَّ صِفَةٍ لِلَّهِ قَدِيمَةٌ، وَنُسِبَ مِثْلُ هَذَا إِلَى الْحَشَوِيَّةِ، وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَأَثْبَتُوا لِلَّهِ أَنَّهُ مُتَكَلِّمٌ وَمَنَعُوا أَنْ تَكُونَ لَهُ صِفَةٌ تُسَمَّى الْكَلَامَ، وَالَّذِي دَعَاهُمْ إِلَى ذَلِكَ هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ مَا شَاعَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَعِنْدَ السَّلَفِ مِنْ إِسْنَادِ الْكَلَامِ إِلَى اللَّهِ وَإِضَافَتِهِ إِلَيْهِ وَقَالُوا: إِنَّ اشْتِقَاقَ الْوَصْفِ لَا يَسْتَلْزِمُ قِيَامَ الْمَصْدَرِ بِالْمَوْصُوفِ، وَتِلْكَ طَرِيقَتُهُمْ فِي صِفَاتِ الْمَعَانِي كُلِّهَا، وَزَادُوا فَقَالُوا: مَعْنَى كَوْنِهِ مُتَكَلِّمًا أَنَّهُ خَالِقُ الْكَلَامِ.
وَأَمَّا الْأَشْعَرِيُّ وَأَصْحَابُهُ فَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي نَقُولُ: إِنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ الْمُرَكَّبُ مِنْ حُرُوفٍ وَأَصْوَاتٍ، الْمَتْلُوُّ بِأَلْسِنَتِنَا، الْمَكْتُوبُ فِي مَصَاحِفِنَا، إِنَّهُ حَادِثٌ وَلَيْسَ هُوَ صِفَةَ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا صِفَةُ اللَّهِ مَدْلُولُ ذَلِكَ الْكَلَامِ الْمُرَكَّبِ مِنَ الْحُرُوفِ
النُّفُوسِ وَتَزْكِيَتِهَا بِالْإِيمَانِ وَصَالِحِ الْأَعْمَالِ حَتَّى يَنْتَشِرَ الْخَيْرُ بِانْتِشَارِ الدِّينِ وَيَصِيرُ الصَّلَاحُ خُلُقًا لِلنَّاسِ يَقْتَدِي فِيهِ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ وَكُلُّ هَذَا إِنَّمَا يُنَاسِبُ فَتْحَ مَكَّةَ وَهَذَا هُوَ مَا تَضَمَّنَتْهُ
سُورَةُ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ مِنْ قَوْلِهِ: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً [النَّصْر: ١- ٣] أَيْ إِنَّهُ حِينَئِذٍ قَدْ غُفِرَ لَكَ أَعْظَمَ مَغْفِرَةٍ وَهِيَ الْمَغْفِرَةُ الَّتِي تَلِيقُ بِأَعْظَمِ مَنْ تَابَ عَلَى تَائِبٍ، وَلَيْسَتْ إِلَّا مَغْفِرَةَ جَمِيعِ الذُّنُوبِ سَابِقِهَا وَمَا عَسَى أَنْ يَأْتِيَ مِنْهَا مِمَّا يعده النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَنْبًا لِشِدَّةِ الْخَشْيَةِ مِنْ أَقَلِّ التَّقْصِيرِ كَمَا يُقَالُ: حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ، وَإِنْ كَانَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْصُومًا مِنْ أَنْ يَأْتِيَ بَعْدَهَا بِمَا يُؤَاخَذُ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَإِنَّمَا الْمَعْنَى التَّشْرِيفُ بِهَذَا الْحُكْمِ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُ ذُنُوبٌ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى اللَّطِيفِ الْجَلِيلِ كَانَتْ سُورَةُ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ مُؤْذِنَةً بِاقْتِرَابِ أجل النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا فَهِمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالتَّقَدُّمُ وَالتَّأَخُّرُ مِنَ الْأَحْوَالِ النِّسْبِيَّةِ لِلْمَوْجُودَاتِ الْحَقِيقِيَّةِ أَوِ الِاعْتِبَارِيَّةِ يُقَالُ: تَقَدَّمَ السَّائِرُ فِي سَيْرِهِ عَلَى الرَّكْبِ، وَيُقَال: تقدم نُزُولُ سُورَةِ كَذَا عَلَى سُورَةِ كَذَا وَلِذَلِكَ يَكْثُرُ الِاحْتِيَاجُ إِلَى بَيَانِ مَا كَانَ بَيْنَهُمَا تَقَدَّمَ وَتَأَخَّرَ بِذَكَرِ مُتَعَلِّقٍ بِفِعْلٍ تَقَدَّمَ وتأخّر. وَقَدْ يُتْرَكُ ذَلِكَ اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرِينَةِ، وَقَدْ يُقْطَعُ النَّظَرُ عَلَى اعْتِبَارِ مُتَعَلِّقٍ فَيَنْزِلُ الْفِعْلُ مَنْزِلَةَ الْأَفْعَالِ غَيْرِ النِّسْبِيَّةِ لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ فِي الْمُتَعَلِّقَاتِ وَأَكْثَرُ ذَلِكَ إِذَا جُمِعَ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ كَقَوْلِهِ هُنَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الْفَتْح: ٢]. وَالْمُرَادُ بِ مَا تَقَدَّمَ: تَعْمِيمُ الْمَغْفِرَةِ لِلذَّنْبِ كَقَوْلِهِ: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ [الْبَقَرَة: ٢٥٥]، فَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنَّهُ فَرَطَ مِنْهُ ذَنْبٌ أَوْ أَنَّهُ سَيَقَعُ مِنْهُ ذَنْبٌ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَنَّهُ تَعَالَى رَفَعَ قَدْرَهُ رَفْعَةَ عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ بِذَنْبٍ لَوْ قُدِّرَ صُدُورُهُ مِنْهُ وَقَدْ مَضَى شَيْءٌ مِنْ بَيَانِ مَعْنَى الذَّنْبِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ فِي سُورَةِ الْقِتَالِ [٥٥].
وَإِنَّمَا أُسْنِدَ فِعْلُ لِيَغْفِرَ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ الْعَلَمِ وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُسْنَدَ إِلَى الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ قَصْدًا لِلتَّنْوِيهِ بِهَذِهِ الْمَغْفِرَةِ لِأَنَّ الِاسْمَ الظَّاهِرَ أَنْفُذُ فِي السَّمْعِ وَأَجْلَبُ لِلتَّنْبِيهِ وَذَلِكَ لِلِاهْتِمَامِ بِالْمُسْنَدِ وَبِمُتَعَلِّقِهِ لِأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ أُنُفٌ لَمْ يكن
إِلَى أَنَّ الْبُوَيْضَةَ الَّتِي هِيَ نُطْفَةُ الْمَرْأَةِ حَاصِلَةٌ فِي الرَّحِمِ فَإِذَا أُمْنِيَتْ عَلَيْهَا نُطْفَةُ الذَّكَرِ أَخَذَتْ فِي التَّخَلُّقِ إِذَا لَمْ يَعُقْهَا عَائِقٌ.
ثُمَّ لِمَا فِي فِعْلِ تُمْنى مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ النُّطْفَةَ تُقَطَّرُ وَتُصَبُّ عَلَى شَيْءٍ آخَرَ لِأَنَّ الصَّبَّ يَقْتَضِي مَصْبُوبًا عَلَيْهِ فيشير إِلَى أَن التَّخَلُّقِ إِنَّمَا يَحْصُلُ مِنِ انْصِبَابِ النُّطْفَةِ عَلَى أُخْرَى، فَعِنْدَ اخْتِلَاطِ الْمَاءَيْنِ يَحْصُلُ تَخَلُّقُ النَّسْلِ فَهَذَا سِرُّ التَّقْيِيدِ بِقَوْلِهِ: إِذا تُمْنى.
وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ لِمَا بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مِنْ شِبْهِ التَّضَادِّ.
وَلَمْ يُؤْتَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ بَضَمِيرِ الْفَصْلِ كَمَا فِي اللَّتَيْنِ قَبْلَهَا لِعَدَمِ الدَّاعِي إِلَى الْقَصْرِ إِذْ لَا يُنَازِعُ أَحَدٌ فِي أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ الْخَلْقِ وَمَوْقِعُ جُمْلَةِ وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ إِلَى آخِرِهَا كَمَوْقِعِ جُمْلَةِ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى [النَّجْم: ٤٠].
[٤٧]
[سُورَة النَّجْم (٥٣) : آيَة ٤٧]
وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (٤٧)
كَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ مِنَ التَّنْظِيرِ أَنْ يُقَدَّمَ قَوْلُهُ: وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى [النَّجْم: ٤٨] عَلَى قَوْلِهِ: وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى لِمَا فِي قَوْلِهِ: وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى مِنَ الِامْتِنَانِ وَإِظْهَارِ الِاقْتِدَارِ الْمُنَاسِبَيْنِ لِقَوْلِهِ: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ [النَّجْم: ٤٣- ٤٥] إِلَخْ. إِذْ يَنْتَقِلُ مِنْ نِعْمَةِ الْخَلْقِ إِلَى نِعْمَةِ الرِّزْقِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ [الشُّعَرَاء:
٧٨، ٧٩] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ [الرّوم: ٤٠] وَلَكِنْ عَدَلَ عَنْ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقَةٍ تُشْبِهُ الِاعْتِرَاضَ لِيُقْرَنَ بَيْنَ الْبَيَانَيْنِ ذِكْرُ قُدْرَتِهِ عَلَى النَّشْأَتَيْنِ.
وَمِمَّا يُشَابِهُ هَذَا مَا قَالَهُ الْوَاحِدِيُّ فِي شَرْحِ قَوْلِ الْمُتَنَبِّي فِي سَيْفِ الدَّوْلَةِ:
وَقَفْتَ وَمَا فِي الْمَوْتِ شَكٌّ لِوَاقِفٍ كَأَنَّك فِي جن الرَّدَى وَهْوَ نَائِمُ
تَمُرُّ بِكَ الْأَبْطَالُ كَلْمَى هزيمَة ووجهك وضاء وَثَغْرُكَ بَاسِمُ
أَنَّهُ لَمَّا أَنْشَدَ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ أَنْكَرَ عَلَيْهِ سَيْفُ الدَّوْلَةِ تَطْبِيقَ عَجُزَيِ الْبَيْتَيْنِ عَلَىِِ
الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشُّعَرَاء: ٧٨- ٨٢].
فَإِنَّ التَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ فِي أُمُورِ الْحَيَاةِ بِسُؤَالِهِ النَّجَاحَ فِي مَا يُصْلِحُ أَعْمَالَ الْعَبْدِ فِي مَسَاعِيهِ وَأَعْظَمُهُ النَّجَاحَ فِي دِينِهِ وَمَا فِيهِ قِوَامُ عَيْشِهِ ثُمَّ مَا فِيهِ دَفْعُ الضُّرِّ. وَقَدْ جَمَعَهَا قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ هُنَاكَ فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ.
وَهَذَا جَمَعَهُ قَوْلُهُ هُنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ جَمَعَهُ قَوْلُهُ: وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ فَإِنَّ الْمَصِيرَ مَصِيرَانِ مَصِيرٌ بَعْدَ الْحَيَاةِ وَمَصِيرٌ بَعْدَ الْبَعْثِ.
وَقَوْلُهُ: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي فَإِنَّ وَسِيلَة الطمع هِيَ التَّوْبَة وَقد تضمنها قَوْلُهُ: وَإِلَيْكَ أَنَبْنا.
وَعَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي هُوَ تَعْلِيمٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَصْرِفُوا تَوَجُّهَهُمْ إِلَى اللَّهِ بِإِرْضَائِهِ وَلَا يَلْتَفِتُوا إِلَى مَا لَا يَرْضَاهُ وَإِنْ حَسِبُوا أَنَّهُمْ يَنْتَفِعُونَ بِهِ فَإِنَّ رِضَى اللَّهِ مُقَدَّمٌ عَلَى مَا دُونَهُ.
وَالْقَوْلُ فِي مَعْنَى التَّوَكُّلِ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٥٩].
وَالْإِنَابَةُ: التَّوْبَةُ، وَتَقَدَّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ فِي سُورَةِ هُودٍ [٧٥]، وَعِنْدَ قَوْلِهِ: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ فِي سُورَةِ الرُّومِ [٣١].
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى هَذِهِ الْأَفْعَالِ لِإِفَادَةِ الْقَصْرِ، وَهُوَ قَصْرٌ بَعْضُهُ ادِّعَائِيٌّ وَبَعْضُهُ حَقِيقِيٌّ كَمَا تُصْرَفُ إِلَيْهِ الْقَرِينَةُ.
وَإِعَادَةُ النِّدَاءِ بِقَوْلِهِمْ: رَبَّنا إِظْهَارٌ لِلتَّضَرُّعِ مَعَ كُلِّ دَعْوَةٍ مِنَ الدَّعْوَات الثَّلَاث.
[٥]
[سُورَة الممتحنة (٦٠) : آيَة ٥]
رَبَّنا لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٥)
رَبَّنا لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا.
الْفِتْنَةُ: اضْطِرَابُ الْحَال وفساده، وَهِي اسْمُ مَصْدَرٍ فَتَجِيءُ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ، [الْبَقَرَة: ١٩١] وَتَجِيءُ وَصْفًا لِلْمَفْتُونِ وَالْفَاتِنِ.
وَأَمَّا مَوْقِعُ تَفْرِيعِ قَوْلِهِ: فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ فَهُوَ شَدِيدُ الْاتِّصَالِ بِمَا اسْتَتْبَعَهُ فَرْضُ التَّقَوُّلِ مِنْ تَأْيِيسِهِمْ مِنْ أَنْ يَتَقَوَّلَ عَلَى اللَّهِ كَلَامًا لَا يَسُوءُهُمْ، فَفِي تِلْكَ الْحَالَةِ مِنْ أَحْوَالِ التَّقَوُّلِ لَوْ أَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ فَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ، لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنْكُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِكُمْ أَنْ يَحْجِزَ عَنْهُ ذَلِكَ الْعِقَابَ، وَبِدُونِ هَذَا الْاتِّصَالِ لَا يَظْهَرُ مَعْنَى تَعْجِيزِهِمْ عَنْ نَصْرِهِ إِذْ لَيْسُوا مِنَ الْوَلَاءِ لَهُ بِمَظِنَّةِ نَصْرِهِ، فَمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ يَحُومُ حَوْلَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً [الْإِسْرَاء: ٧٣- ٧٥].
وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: مِنْكُمْ لِلْمُشْرِكِينَ.
وَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ أَحَدٍ وَهُوَ مُفْرَدٌ بِ حاجِزِينَ جَمْعًا لِأَنَّ أَحَدٍ هُنَا وَإِنْ كَانَ لَفْظُهُ مُفْرَدًا فَهُوَ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ لِأَنَّ أَحَدٍ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى ذَاتٍ أَوْ شَخْصٍ لَا يَقَعُ إِلَّا فِي سِيَاقِ النَّفْيِ مِثْلُ عَرِيبٍ، وَدَيَّارٍ وَنَحْوِهِمَا مِنَ النَّكِرَاتِ الَّتِي لَا تُسْتَعْمَلُ إِلَّا مَنْفِيَّةً فَيُفِيدُ الْعُمُومَ، أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ لَا يَسْتَطِيعُ الْحَجْزَ عَنْهُ وَيَسْتَوِي فِي لَفْظِهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ وَالْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ قَالَ تَعَالَى: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [الْبَقَرَة: ٢٨٥] وَقَالَ: لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ [الْأَحْزَاب: ٣٢].
وَالْمَعْنَى: مَا مِنْكُمْ أُنَاسٌ يَسْتَطِيعُونَ الْحَجْزَ عَنْهُ.
وَالْحَجْزُ: الدَّفْعُ وَالْحَيْلُولَةُ، أَيْ لَا أَحَدَ مِنْكُمْ يَحْجِزُنَا عَنْهُ. وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى رَسُولٍ كَرِيمٍ [الحاقة: ٤٠].
ومِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ أَحَدٍ مَزِيدَةٌ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ وَلِلتَّنْصِيصِ عَلَى الْعُمُومِ. وَذُكْرُ مِنْكُمْ مَعَ عَنْهُ تَجْنِيسٌ مُحَرَّفٌ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُبْقِي أَحَدًا يَدَّعِي أَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيْهِ كَلَامًا يُبَلِّغُهُ إِلَى النَّاس، وَأَنه يَجْعَل بِهَلَاكِهِ.
فَأَمَّا من يَدعِي النبوءة دُونَ ادِّعَاءِ قَوْلٍ أُوحِيَ إِلَيْهِ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ يُهْلِكُهُ بَعْدَ حِينٍ كَمَا كَانَ فِي أَمْرِ الْأَسْوَدِ الْعَنْسِيِّ الَّذِي ادّعى النبوءة بِالْيَمَنِ، وَمُسَيْلَمَةَ الْحَنَفِيِّ الَّذِي
«الْكَشَّافِ». وَذَكَرَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ اسْتَدَلَّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» :«وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَطْفَالَ الْمُشْرِكِينَ لَا يعذّبون وَإِذا بكّت اللَّهُ الْكَافِرَ بِبَرَاءَةِ الْمَوْءُودَةِ مِنَ الذَّنْبِ فَمَا أَقْبَحَ بِهِ وَهُوَ الَّذِي لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ أَنْ يَكِرَّ عَلَى هَذَا التَّبْكِيتِ فَيَفْعَلَ بِهَا مَا تَنْسَى عِنْدَهُ فِعْلَ الْمُبَكَّتِ مِنَ الْعَذَابِ السَّرْمَدِيِّ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَاحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ اهـ. فَأَشَارَ إِلَى ثَلَاثَةِ أَدِلَّةٍ:
أَحَدُهَا: دِلَالَةُ الْإِشَارَةِ، أَيْ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ يُشِيرُ إِلَى أَنَّهَا لَا ذَنْبَ لَهَا، وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ ضَعِيفٌ لِأَنَّ الذَّنْبَ الْمَنْفِيَّ وَجُودُهُ بِطَرِيقَةِ الِاسْتِفْهَامِ الْمَشُوبِ بِإِنْكَارٍ إِنَّمَا هُوَ الذَّنْبُ الَّذِي يُخَوِّلُ لِأَبِيهَا وَأْدَهَا لَا إِثْبَاتَ حُرْمَتِهَا وَعِصَمِةَ دَمِهَا فَتِلْكَ قَضِيَّةٌ أُخْرَى عَلَى تَفْصِيلٍ فِيهَا.
الثَّانِي: قَاعِدَةُ إِحَالَةِ فِعْلِ الْقَبِيحِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى قَاعِدَةِ التَّحْسِينِ، وَالتَّقْبِيحِ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ وَإِحَالَتِهِمُ الظُّلْمَ عَلَى اللَّهِ إِذَا عَذَّبَ أَحَدًا بِدُونِ فِعْلِهِ، وَهُوَ أَصْلٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَ الْأَشَاعِرَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ. فَعِنْدَنَا أَنَّ تَصَرُّفَ اللَّهِ فِي عَبِيدِهِ لَا يُوصَفُ بِالظُّلْمِ خِلَافًا لَهُمْ عَلَى أَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَسَاسِ الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ غَيْرُ سَالِمٍ مِنَ النَّقْضِ.
الثَّالِثُ: مَا نَسَبَهُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ يُشِيرُ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِسَنَدِهِ إِلَى عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَطْفَالُ الْمُشْرِكِينَ فِي الْجَنَّةِ، فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُمْ فِي النَّارِ فَقَدْ كَذَّبَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ وَقَدْ أُجِيبَ عَنِ الْقَوْلِ الْمَرْوِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ مَبْلَغَ الصِّحَّةِ. وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ لَا يُكْتَفَى فِيهَا إِلَّا بِالدَّلِيلِ الْقَاطِعِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ فِي حُكْمِ أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ مُتَعَارِضَةٌ،
فَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ أَوْلَادِ أَوْ ذَرَارِيِّ الْمُشْرِكِينَ.
فَقَالَ: «اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ»

، وَهَذَا الْجَوَابُ يَحْتَمِلُ الْوَقْفَ عَنِ الْجَوَابِ، أَيِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِحَالِهِمْ كَقَوْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ [طه: ٥٢] جَوَابًا لِقَوْلِ فِرْعَوْنَ: فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى [طه: ٥١]. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمَعْنَى اللَّهُ أَعْلَمُ بِحَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَوْ كَبَرَ مَاذَا يَكُونُ عَامِلًا مِنْ كُفْرٍ أَوْ إِيمَانٍ، أَيْ فَيُعَامِلُهُ بِمَا عَلِمَ مِنْ حَالِهِ.


الصفحة التالية
Icon