لَكِنَّ أَهْلَ الْأَثَرِ تَكَلَّمُوا فِيهَا وَهِيَ «تَفْسِيرُ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ الْكَلْبِيِّ» الْمُتَوَفَّى سَنَةَ ١٤٦ هـ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ رُمِيَ أَبُو صَالِحٍ بِالْكَذِبِ حَتَّى لُقِّبَ بِكَلِمَةِ «دروغدت» بِالْفَارِسِيَّةِ بِمَعْنَى الْكَذَّابِ (١) وَهِيَ أَوْهَى الرِّوَايَاتِ فَإِذَا انْضَمَّ إِلَيْهَا رِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ السُّدِّيِّ عَنِ الْكَلْبِيِّ فَهِيَ سِلْسِلَةُ الْكَذِبِ (٢)، أَرَادُوا بِذَلِكَ أَنَّهَا ضِدُّ مَا لَقَّبُوهُ بِسِلْسِلَةِ الذَّهَبِ، وَهِيَ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ. وَقَدْ قِيلَ إِنَّ الْكَلْبِيَّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَبَأٍ الْيَهُودِيِّ الْأَصْلِ، الَّذِي أَسْلَمَ وَطَعَنَ فِي الْخُلَفَاءِ الثَّلَاثَةِ وَغَلَا فِي حُبِّ عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ، وَقَالَ إِنَّ عَلِيًّا لَمْ يَمُتْ وَأَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى الدُّنْيَا وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ ادَّعَى إلهية عَليّ.
وَهنا لَك رِوَايَةُ مُقَاتِلٍ وَرِوَايَةُ الضَّحَّاكِ، وَرِوَايَةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الْهَاشِمِيِّ كُلُّهَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَصَحُّهَا رِوَايَةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، وَهِيَ الَّتِي اعْتَمَدَهَا الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ مِنْ «صَحِيحِهِ» فِيمَا يَصْدُرُ بِهِ مِنْ تَفْسِيرِ الْمُفْرَدَاتِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّعْلِيقِ، وَقَدْ خَرَّجَ فِي «الْإِتْقَانِ»، جَمِيعَ مَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ تَفْسِيرِ الْمُفْرَدَاتِ، عَنِ ابْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مُرَتَّبَةً عَلَى سُوَرِ الْقُرْآنِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الرِّوَايَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَدِ اتَّخَذَهَا الْوَضَّاعُونَ وَالْمُدَلِّسُونَ مَلْجَأً لِتَصْحِيحِ مَا يَرْوُونَهُ كَدَأْبِ النَّاسِ فِي نِسْبَةِ كُلِّ أَمْرٍ مَجْهُولٍ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالنَّوَادِرِ، لِأَشْهَرِ النَّاسِ فِي ذَلِك الْمَقْصد.
وَهنا لَك رِوَايَاتٌ تُسْنَدُ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَكْثَرُهَا مِنَ الْمَوْضُوعَاتِ، إِلَّا مَا رُوِيَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، مِثْلَ مَا فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» وَنَحْوِهِ، لِأَنَّ لِعَلِيٍّ أَفْهَامًا فِي الْقُرْآنِ كَمَا
وَرَدَ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: قُلْتُ لَعَلِيٍّ هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِنَ الْوَحْيِ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَقَالَ: «لَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، مَا أَعْلَمُهُ إِلَّا فَهْمًا يُعْطِيهِ اللَّهُ رَجُلًا فِي الْقُرْآن»
ثمَّ تَلا حق الْعُلَمَاءُ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَسَلَكَ كُلُّ فَرِيقٍ مَسْلَكًا يَأْوِي إِلَيْهِ وَذَوْقًا يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ.
فَمِنْهُمْ مَنْ سَلَكَ مَسْلَكَ نَقْلِ مَا يُؤْثَرُ عَنِ السَّلَفِ، وَأَوَّلُ مَنْ صَنَّفَ فِي هَذَا الْمَعْنَى، مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَكَذَلِكَ الدَّاوُدِيُّ تِلْمِيذُ السَّيُوطِيِّ فِي «طَبَقَاتِ الْمُفَسِّرِينَ»، وَذَكَرَهُ عِيَاضٌ فِي «الْمَدَارِكِ» إِجْمَالًا. وَأَشْهَرُ أَهْلِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ فِيمَا هُوَ بِأَيْدِي النَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ.
_________
(١) «تَفْسِير الْقُرْطُبِيّ».
(٢) «الإتقان».
لِيَشْهَدُوا عَلَى الْأُمَمِ لِأَنَّ الْآيَاتِ الْوَاقِعَةَ بَعْدَهَا هِيَ فِي ذِكْرِ أَمْرِ الْقِبْلَةِ وَهَذِهِ الْآيَةُ لَا تَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ الْقِبْلَةُ.
وَقَوْلُهُ: وَكَذلِكَ مُرَكَّبٌ مِنْ كَافِ التَّشْبِيهِ وَاسْمِ الْإِشَارَةِ فَيَتَعَيَّنُ تَعَرُّفُ الْمُشَارِ إِلَيْهِ وَمَا هُوَ الْمُشَبَّهُ بِهِ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» :«أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ الْجَعْلِ الْعَجِيبِ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا» فَاخْتَلَفَ شَارِحُوهُ فِي تَقْرِير كَلَامه وَتبين مُرَادِهِ، فَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: «الْإِشَارَةُ إِلَى الْمَفْهُومِ أَيْ مَا فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الْبَقَرَة: ١٤٢] أَيْ كَمَا جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا أَوْ كَمَا جَعَلَنَا قِبْلَتَكُمْ أَفْضَلَ قِبْلَةٍ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا» اهـ. أَيْ أَنَّ قَوْلَهُ:
يَهْدِي مَنْ يَشاءُ يُومِئُ إِلَى أَنَّ الْمَهْدِيَّ هُمُ الْمُسْلِمُونَ وَإِلَى أَنَّ الْمَهْدِيَّ إِلَيْهِ هُوَ اسْتِقْبَالُ الْكَعْبَةِ وَقْتَ قَوْلِ السُّفَهَاءِ مَا وَلَّاهُمْ [الْبَقَرَة: ١٤٢] عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ وَهَذَا يَجْعَلُ الْكَافَ بَاقِيَةً عَلَى مَعْنَى التَّشْبِيهِ وَلَمْ يُعَرِّجْ عَلَى وَصْفِ «الْكَشَّافِ» الْجَعْلِ بِالْعَجِيبِ كَأَنَّهُ رَأَى أَنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ لَا يَتَعَيَّنُ لِلْحَمْلِ عَلَى أَكْثَرَ مِنَ الْإِشَارَةِ وَإِنْ كَانَ إِشَارَةَ الْبَعِيدِ فَهُوَ يُسْتَعْمَلُ غَالِبًا مِنْ دُونِ إِرَادَةِ بُعْدٍ وَفِيهِ نَظَرٌ، وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَعْنًى تَقَدَّمَ فِي الْكَلَامِ السَّابِقِ فَالْإِشَارَةُ حِينَئِذٍ إِلَى مَذْكُورٍ مُتَقَرِّرٍ فِي الْعِلْمِ فَهِيَ جَارِيَةٌ عَلَى سَنَنِ الْإِشَارَاتِ.
وَحَمَلَ شُرَّاحُ «الْكَشَّافِ» الْكَافَ عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِ التَّشْبِيهِ، فَأَمَّا الطِّيبِيُّ وَالْقُطْبُ فَقَالَا الْكَافُ فِيهِ اسْمٌ بِمَعْنَى مِثْلِ مُنْتَصِبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ لِجَعَلْنَاكُمْ أَيْ مِثْلُ الْجَعْلِ الْعَجِيبِ جَعَلْنَاكُمْ فَلَيْسَ تَشْبِيهًا وَلَكِنَّهُ تَمْثِيلٌ لِحَالَةٍ وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ مَا يُفْهَمُ مِنْ مَضْمُونِ قَوْلِهِ:
يَهْدِي وَهُوَ الْأَمْرُ الْعَجِيبُ الشَّأْنِ أَيِ الْهُدَى التَّامُّ، وَوَجْهُ الْإِتْيَانِ بِإِشَارَةِ الْبَعِيدِ التَّنْبِيهُ عَلَى تَعْظِيمِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ وَهُوَ الَّذِي عَنَاهُ فِي «الْكَشَّافِ» بِالْجَعْلِ الْعَجِيبِ، فَالتَّعْظِيمُ هُنَا
لِبَدَاعَةِ الْأَمْرِ وَعَجَابَتِهِ، ثُمَّ إِنَّ الْقُطْبَ سَاقَ كَلَامًا نَقَضَ بِهِ صَدْرَ كَلَامِهِ.
وَأَمَّا الْقَزْوِينِيُّ صَاحب «الْكَشْف» والتفتازانيّ فَبَيَّنَاهُ بِأَنَّ الْكَافَ مُقْحَمَةٌ كَالزَّائِدَةِ لَا تَدُلُّ عَلَى تَمْثِيلٍ وَلَا تَشْبِيهٍ فَيَصِيرُ اسْمُ الْإِشَارَةِ عَلَى هَذَا نَائِبًا مَنَابَ مَفْعُولٍ مُطْلَقٍ لِجَعَلْنَاكُمْ كَأَنَّهُ قِيلَ ذَلِكَ الْجَعْلَ جَعَلْنَاكُمْ أَيْ فَعَدَلَ عَنِ الْمَصْدَرِ إِلَى اسْمِ إِشَارَتِهِ النَّائِبِ عَنْهُ لِإِفَادَةِ عَجَابَةِ هَذَا الْجَعْلِ بِمَا مَعَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنْ عَلَامَةِ الْبُعْدِ الْمُتَعَيِّنِ فِيهَا لِبُعْدِ الْمَرْتَبَةِ. وَالتَّشْبِيهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَقْصُودٌ مِنْهُ الْمُبَالَغَةُ بِإِيهَامِ أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ الْمُشَبِّهُ أَنْ يُشَبِّهَ هَذَا فِي غَرَابَتِهِ لَمَا وَجَدَ لَهُ إِلَّا أَنْ يُشَبِّهَهُ بِنَفْسِهِ وَهَذَا قريب من قَوْله النَّابِغَةِ: «وَالسَّفَاهَةُ كَاسْمِهَا»
التَّنْصِيصِ عَلَى إِرَادَةِ نَفْيِ الْجِنْسِ إِلَى بِنَاءِ الِاسْمِ عَلَى الْفَتْحِ، بِخِلَافِ نَحْوِ لَا رَجُلَ فِي الدَّارِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَلِهَذَا جَاءَتِ الرِّوَايَةُ فِي قَوْلِ إِحْدَى صَوَاحِبِ أُمِّ زَرْعٍ «زَوْجِي كَلَيْلِ تِهِامَةَ لَا حَرٌّ وَلَا قُرٌّ وَلَا مَخَافَةٌ وَلَا سَآمَةٌ» بِالرَّفْعِ لَا غَيْرُ، لِأَنَّهَا أَسْمَاءُ أَجْنَاسٍ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ بِالْفَتْحِ لِنَفْيِ الْجِنْسِ نَصًّا فَالْقِرَاءَتَانِ مُتَسَاوِيَتَانِ مَعْنًى، وَمِنَ التَّكَلُّفِ هُنَا قَوْلُ الْبَيْضَاوِيِّ إِنَّ وَجْهَ قِرَاءَةِ الرَّفْعِ وُقُوعُ النَّفْيِ فِي تَقْدِيرِ جَوَابٍ لِسُؤَالٍ قَائِلٍ هَلْ بَيْعٌ فِيهِ أَوْ خُلَّةٌ أَوْ شَفَاعَةٌ.
وَالشَّفَاعَةُ الْوَسَاطَةُ فِي طَلَبِ النَّافِعِ، وَالسَّعْيُ إِلَى مَنْ يُرَادُ اسْتِحْقَاقُ رِضَاهُ عَلَى مَغْضُوبٍ مِنْهُ عَلَيْهِ أَوْ إِزَالَةُ وَحْشَةٍ أَوْ بَغْضَاءَ بَيْنَهُمَا، فَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الشَّفْعِ ضِدِّ الْوَتْرِ، يُقَالُ شَفَعَ كَمَنَعَ إِذَا صَيَّرَ الشَّيْءَ شَفْعًا، وَشَفَعَ أَيْضًا كَمَنَعَ إِذَا سَعَى فِي الْإِرْضَاءِ وَنَحْوِهِ لِأَنَّ الْمَغْضُوبَ عَلَيْهِ وَالْمَحْرُومَ يَبْعُدُ عَنْ وَاصِلِهِ فَيَصِيرُ وَتْرًا فَإِذَا سَعَى الشَّفِيعُ بِجَلْبِ الْمَنْفَعَةِ وَالرِّضَا فَقَدْ أَعَادَهُمَا شَفْعًا، فَالشَّفَاعَةُ تَقْتَضِي مَشْفُوعًا إِلَيْهِ وَمَشْفُوعًا فِيهِ، وَهِيَ- فِي عُرْفِهِمْ- لَا يَتَصَدَّى لَهَا إِلَّا مَنْ يَتَحَقَّقُ قَبُولَ شَفَاعَتِهِ، وَيُقَالُ شَفَعَ فُلَانٌ عِنْدَ فُلَانٍ فِي فُلَانٍ فَشَفَّعَهُ فِيهِ أَيْ فَقَبِلَ شَفَاعَتَهُ،
وَفِي الْحَدِيثِ: «قَالُوا هَذَا جَدِيرٌ إِنْ خَطَبَ بِأَنْ يُنْكَحَ وَإِنْ شَفَعَ بِأَنْ يُشَفَّعَ»
. وَبِهِذَا يَظْهَرُ أَنَّ الشَّفَاعَةَ تَكُونُ فِي دَفْعِ الْمَضَرَّةِ وَتَكُونُ فِي جَلْبِ الْمَنْفَعَةِ قَالَ:
فَذَاكَ فَتًى إِنْ تَأْتِهِ فِي صَنِيعَةٍ | إِلَى مَالِهِ لَا تَأْتِهِ بِشَفِيعِ |
فَالشَّفَاعَةُ- فِي الْعُرْفِ- تَقْتَضِي إِدْلَالَ الشَّفِيعِ عِنْدَ الْمَشْفُوعِ لَدَيْهِ، وَلِهَذَا نَفَاهَا اللَّهُ تَعَالَى هُنَا بِمَعْنَى نَفْيِ اسْتِحْقَاقِ أَحَدٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ أَنْ يَكُونَ شَفِيعًا عِنْدَ اللَّهِ بِإِدْلَالٍ، وَأَثْبَتَهَا فِي آيَاتٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ- قَرِيبًا- مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الْبَقَرَة: ٢٥٥] وَقَوْلِهِ:
وَإِنَّمَا كَانَتِ الْأَوَّلِيَّةُ مُوجِبَةَ التَّفْضِيلِ لِأَنَّ مَوَاضِعَ الْعِبَادَةِ لَا تَتَفَاضَلُ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادَةِ، إِذْ هِيَ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَلَكِنَّهَا تَتَفَاضَلُ بِمَا يَحُفُّ بِذَلِكَ مِنْ طُولِ أَزْمَانِ التَّعَبُّدِ فِيهَا، وَبِنِسْبَتِهَا إِلَى بَانِيهَا، وَبِحُسْنِ الْمَقْصِدِ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ [التَّوْبَة: ١٠٨].
وَقَدْ جَمَعَتِ الْكَعْبَةُ جَمِيعَ هَذِهِ الْمَزَايَا فَكَانَتْ أَسْبَقَ بُيُوتِ الْعِبَادَةِ الْحَقِّ، وَهِيَ أَسْبَقُ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِتِسْعَةِ قُرُونٍ. فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ بَنَى الْكَعْبَةَ فِي حُدُودِ سَنَةِ ١٩٠٠ قَبْلَ الْمَسِيحِ وَسُلَيْمَانُ بَنَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ سَنَةَ ١٠٠٠ قَبْلَ الْمَسِيحِ، وَالْكَعْبَةُ بَنَاهَا إِبْرَاهِيمُ بِيَدِهِ فَهِيَ مَبْنِيَّةٌ بِيَدِ رَسُولٍ. وَأَمَّا بَيْتُ الْمَقْدِسِ فَبَنَاهَا الْعَمَلَةُ لِسُلَيْمَانَ بِأَمْرِهِ.
وَرُوِيَ فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ»، عَنْ أَبِي ذَرٍّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ: أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَوَّلَ؟ قَالَ:
الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى، قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ:
أَرْبَعُونَ سَنَةً. فَاسْتَشْكَلَهُ الْعُلَمَاءُ بِأَنَّ بَيْنَ إِبْرَاهِيمَ وَسُلَيْمَانَ قُرُونًا فَكَيْفَ تَكُونُ أَرْبَعِينَ سَنَةً،
وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ بِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ بَنَى مَسْجِدًا فِي مَوْضِعِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ثُمَّ دُرِسَ فَجَدَّدَهُ سُلَيْمَان.
وَأَقُول: لَا شكّ أَنَّ بَيْتَ الْمَقْدِسِ مِنْ بِنَاءِ سُلَيْمَانَ كَمَا هُوَ نَصُّ كِتَابِ الْيَهُودِ، وَأَشَارَ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ فِي قَوْلِهِ: يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ [سبأ: ١٣] الْآيَةَ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا مَرَّ بِبِلَادِ الشَّامِ وَوَعَدَهُ اللَّهُ أَنْ يُورِثَ تِلْكَ الْأَرْضَ نَسْلَهُ عَيَّنَ الله لَهُ الْوَضع الَّذِي سَيَكُونُ بِهِ أَكْبَرُ مَسْجِدٍ تَبْنِيهِ ذُرِّيَّتُهُ، فَأَقَامَ هُنَالِكَ مَسْجِدًا صَغِيرًا شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَجَعَلَهُ عَلَى الصَّخْرَةِ الْمَجْعُولَةِ مَذْبَحًا لِلْقُرْبَانِ. وَهِيَ الصَّخْرَةُ الَّتِي بَنَى سُلَيْمَانُ عَلَيْهَا الْمَسْجِدَ، فَلَمَّا كَانَ أَهْلُ ذَلِكَ الْبَلَدِ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكِينَ دُثِرَ ذَلِكَ الْبِنَاءُ حَتَّى هَدَى اللَّهُ سُلَيْمَانَ إِلَى إِقَامَةِ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى عَلَيْهِ، وَهَذَا مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي أَهْمَلَتْهُ كُتُبُ الْيَهُودِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ بَنَى مَذَابِحَ فِي جِهَاتٍ مَرَّ عَلَيْهَا مِنْ أَرْضِ الْكَنْعَانِيِّينَ لِأَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ يُعْطِي تِلْكَ الْأَرْضَ لِنَسْلِهِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بَنَى أَيْضًا بِمَوْضِعِ مَسْجِدِ أُرْشَلِيمَ مَذْبَحًا.
وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ اعْتِرَاضٌ جَمَعَ مَعَانِيَ شَتَّى، أَنَّهُ أَمْرٌ، وَقَيْدٌ لِلْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا إِلَخْ وَقَدْ تَحُولُ الشَّهْوَةُ وَالْعَجَلَةُ دُونَ تَحْقِيقِ شُرُوطِ اللَّهِ تَعَالَى، فَأَحَالَهُمْ عَلَى إِيمَانِهِمُ الْمُطَّلِعِ عَلَيْهِ رَبُّهُمْ. وَمِنْ تِلْكَ الْمَعَانِي أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِنِكَاحِ الْإِمَاءِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْحَرَائِرِ، وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا يَرْضَوْنَ بِنِكَاحِ الْأَمَةِ وَجَعْلِهَا حَلِيلَةً، وَلَكِنْ يَقْضُونَ مِنْهُنَّ شَهَوَاتِهِمْ بِالْبِغَاءِ، فَأَرَادَ اللَّهُ إِكْرَامَ الْإِمَاءِ الْمُؤْمِنَاتِ، جَزَاءً عَلَى إِيمَانِهِنَّ، وَإِشْعَارًا بِأَنَّ وَحْدَةَ الْإِيمَانِ قَرَّبَتِ الْأَحْرَارَ مِنَ الْعَبِيدِ، فَلَمَّا شَرَعَ ذَلِكَ كُلَّهُ ذَيَّلَهُ بُقُولِهِ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ، أَيْ بِقُوَّتِهِ، فَلَمَّا كَانَ الْإِيمَانُ، هُوَ الَّذِي رَفَعَ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ اللَّهِ دَرَجَاتٍ كَانَ إِيمَانُ الْإِمَاءِ مُقْنِعًا لِلْأَحْرَارِ بِتَرْكِ الِاسْتِنْكَافِ عَنْ تَزَوُّجِهِنَّ، وَلِأَنَّهُ رُبَّ أَمَةٍ يَكُونُ إِيمَانُهَا خَيْرًا مِنْ إِيمَانِ رَجُلٍ حُرٍّ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات: ١٣]. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا الْأَخِيرِ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ»، وَابْنُ عَطِيَّةَ.
وَقَوْلُهُ: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ تَذْيِيلٌ ثَانٍ أَكَّدَ بِهِ الْمَعْنَى الثَّانِيَ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: وَاللَّهُ
أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ
فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ قَرَّبَ إِلَيْهِمُ الْإِمَاءَ مِنْ جَانِبِ الْوَحْدَةِ الدِّينِيَّةِ قَرَّبَهُنَّ إِلَيْهِمْ مِنْ جَانِبِ الْوَحْدَةِ النَّوْعِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الْأَحْرَارَ وَالْعَبِيدَ كُلَّهُمْ مِنْ بَنِي آدَمَ فَ (مِنْ) اتِّصَالِيَّةٌ.
وَفَرَّعَ عَنِ الْأَمْرِ بِنِكَاحِ الْإِمَاءِ بَيَانَ كَيْفِيَّةِ ذَلِكَ فَقَالَ: فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَشَرَطَ الْإِذْنَ لِئَلَّا يَكُونَ سِرًّا وَزِنًى، وَلِأَنَّ نِكَاحَهُنَّ دُونَ ذَلِكَ اعْتِدَاءٌ عَلَى حُقُوقِ أَهْلِ الْإِمَاءِ.
وَالْأَهْلُ هُنَا بِمَعْنَى السَّادَةِ الْمَالِكِينَ، وَهُوَ إِطْلَاقٌ شَائِعٌ عَلَى سَادَةِ الْعَبِيدِ فِي كَلَامِ الْإِسْلَامِ. وَأَحْسَبُ أَنَّهُ مِنْ مُصْطَلَحَاتِ الْقُرْآنِ تَلَطُّفًا بِالْعَبِيدِ، كَمَا وَقَعَ النَّهْيُ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ لِسَيِّدِهِ: سَيِّدِي، بَلْ يَقُولُ: مَوْلَايَ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ بَرِيرَةَ «أَنَّ أَهْلَهَا أَبَوْا إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ لَهُمْ».
وَالْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى وَلَايَةِ السَّيِّدِ لِأَمَتِهِ، وَأَنَّهُ إِذَا نَكَحَتِ الْأَمَةُ بِدُونِ إِذَنِ السَّيِّدِ فَالنِّكَاحُ مَفْسُوخٌ، وَلَوْ أَجَازَهُ سَيِّدُهَا. وَاخْتُلِفَ فِي الْعَبْدِ: فَقَالَ الشَّعْبِيُّ: وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَدَاوُدُ: هُوَ كَالْأَمَةِ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ: إِذَا أَجَازَهُ السَّيِّدُ جَازَ، وَيُحْتَجُّ بِهَا لِاشْتِرَاطِ أَصْلِ الْوَلَايَةِ فِي الْمَرْأَةِ، احْتِجَاجًا ضَعِيفًا، وَاحْتَجَّ بِهَا
وَهُمْ لَمَّا سَأَلُوا مُوسَى أَنْ يُرِيَهُمُ اللَّهَ جَهْرَةً مَا أَرَادُوا التَّيَمُّنَ بِاللَّهِ، وَلَا التَّنَعُّمَ بِالْمُشَاهَدَةِ، وَلَكِنَّهُمْ أَرَادُوا عَجَبًا يَنْظُرُونَهُ، فَلِذَلِكَ قَالُوا: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً، وَلَمْ يَقُولُوا:
لَيْتَنَا نَرَى رَبَّنَا. وجَهْرَةً ضِدُّ خُفْيَةٍ، أَيْ عَلَنًا، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلرُّؤْيَةِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ (أَرِنَا)، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْمَرْفُوعِ فِي (أَرِنَا) : أَيْ حَالَ كَوْنِكَ مُجَاهِرًا لَنَا فِي رُؤْيَتِهِ غَيْرَ مُخْفٍ رُؤْيَتَهُ.
وَاسْتَطْرَدَ هُنَا مَا لَحِقَهُمْ مِنْ جَرَّاءِ سُؤَالِهِمْ هَذِهِ الرُّؤْيَةَ وَمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ فَقَالَ:
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ، وَهُوَ مَا حَكَاهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٥٥] بِقَوْلِهِ:
فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ. وَكَانَ ذَلِكَ إِرْهَابًا لَهُمْ وَزَجْرًا، وَلِذَلِكَ قَالَ:
بِظُلْمِهِمْ.
وَالظُّلْمُ هُوَ الْمَحْكِيُّ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنِ امْتِنَاعِهِمْ مِنْ تَصْدِيقِ مُوسَى إِلَى أَنْ يَرَوُا اللَّهَ جَهْرَةً، وَلَيْسَ الظُّلْمُ لِمُجَرَّدِ طَلَبِ الرُّؤْيَةِ لِأَنَّ مُوسَى قَدْ سَأَلَ مِثْلَ سُؤَالِهِمْ مَرَّةً أُخْرَى:
حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ الْآيَةَ
فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٤٣]. وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَمْ يَرْدَعْهُمْ ذَلِكَ فَاتَّخَذُوا الْعِجْلَ إِلَهًا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَنَفْيِ الشَّرِيكِ وَعُطِفَتْ جُمْلَةُ اتِّخَاذِهِمُ الْعَجَلَ بِحَرْفِ (ثُمَّ) الْمُفِيدِ فِي عَطْفِهِ الْجُمَلَ مَعْنَى التَّرَاخِي الرُّتَبِيِّ. فَإِنَّ اتِّخَاذَهُمُ الْعِجْلَ إِلَهًا أَعْظَمُ جُرْمًا مِمَّا حُكِيَ قَبْلَهُ، وَمَعَ ذَلِكَ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ وَآتَى مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا، أَيْ حُجَّةً وَاضِحَةً عَلَيْهِمْ فِي تَمَرُّدِهِمْ، فَصَارَ يَزْجُرُهُمْ وَيُؤَنِّبُهُمْ. وَمِنْ سُلْطَانِهِ الْمُبِينِ أَنْ أَحْرَقَ لَهُمُ الْعِجْلَ الَّذِي اتَّخَذُوهُ إِلَهًا.
ثُمَّ ذَكَرَ آيَاتٍ أُخْرَى أَظْهَرَهَا اللَّهُ لَهُمْ وَهِيَ: رَفْعُ الطُّورِ، وَالْأَمْرُ بِقِتَالِ أَهْلِ أَرِيحَا، وَدُخُولِهِمْ بَابَهَا سُجَّدًا. وَالْبَابُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ بَابُ مَدِينَةِ أَرِيحَا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ بَابُ الْمَمَرِّ بَيْنَ الْجِبَالِ وَنَحْوِهَا، كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ رَجُلانِ مِنَ
وَإِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَصُمْ وَأَفْطِرْ وَقُمْ وَنَمْ».
وَحَدِيثِ سَلْمَانَ مَعَ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّ سَلْمَانَ زَارَ أَبَا الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ أَبُو الدَّرْدَاءِ طَعَامًا فَقَالَ لِسَلْمَانَ: كُلْ فَإِنِّي صَائِمٌ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ، فَقَالَ: نَمْ، فَنَامَ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ فَقَالَ: نَمْ، فَنَامَ. فَلَمَّا كَانَ آخِرُ اللَّيْلِ قَالَ سَلْمَانُ: قُمِ الْآنَ، وَقَالَ سَلْمَانُ: إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ. فَأتى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ. فَقَالَ النَّبِيءُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:
«صَدَقَ سَلْمَانُ».
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أنّ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «أَمَّا أَنَا فَأَقُومُ وَأَرْقُدُ وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي».
وَالنَّهْيُ إنّما هُوَ عَن تَحْرِيمُ ذَلِكَ عَلَى النَّفْسِ. أَمَّا تَرْكُ تَنَاوُلِ بَعْضِ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ مِنْ غَيْرِ الْتِزَامٍ وَلِقَصْدِ التَّرْبِيَةِ لِلنَّفْسِ عَلَى التَّصَبُّرِ عَلَى الْحِرْمَانِ عِنْدَ عَدَمِ الْوِجْدَانِ، فَلَا بَأْسَ بِهِ بِمِقْدَارِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ فِي رِيَاضَةِ النَّفْسِ. وَكَذَلِكَ الْإِعْرَاضُ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لِلتَّطَلُّعِ عَلَى مَا هُوَ أَعْلَى مِنْ عِبَادَةٍ أَوْ شُغْلٍ بِعَمَلٍ نَافِعٍ وَهُوَ أَعْلَى الزُّهْدِ، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ سُنَّةَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَاصَّةً مِنْ أَصْحَابِهِ، وَهِيَ حَالَةٌ تُنَاسِبُ مَرْتَبَتَهُ وَلَا تَتَنَاسَبُ مَعَ بَعْضِ مَرَاتِبِ النَّاسِ، فَالتَّطَلُّعُ إِلَيْهَا تَعْسِيرٌ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ كَانَ يَتَنَاوَلُ الطَّيِّبَاتِ دُونَ تَشَوُّفٍ وَلَا تَطَلُّعٍ. وَفِي تَنَاوُلِهَا شُكْرٌ لِلَّهِ تَعَالَى، كَمَا وَرَدَ فِي قِصَّةِ أَبِي الدَّحْدَاحِ حِينَ حَلَّ رَسُولُ اللَّهِ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فِي حَائِطِهِ وَأَطْعَمَهُمْ وَسَقَاهُمْ. وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: أَنَّهُ دُعِيَ إِلَى طَعَامٍ وَمَعَهُ فَرْقَدٌ السَّبَخِيُّ (١) وَأَصْحَابُهُ فَجَلَسُوا عَلَى مَائِدَةٍ فِيهَا أَلْوَانٌ مِنَ الطَّعَامِ دَجَاجٌ مُسَمَّنٌ
وَفَالَوْذٌ فَاعْتَزَلَ فَرْقَدٌ نَاحِيَةً. فَسَأَلَهُ الْحَسَنُ: أَصَائِمٌ أَنْتَ، قَالَ: لَا وَلَكِنِّي أَكْرَهُ الْأَلْوَانَ لِأَنِّي
_________
(١) فرقد بن يَعْقُوب الأرميني من أَصْحَاب الْحسن توفّي سنة ١٣١ نزيل السبخة، مَوضِع بِالْبَصْرَةِ.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الِابْتِغَاءِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٨٣].
وَقَوْلُهُ: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا مِنْ تَمَامِ الْقَوْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ. وَالْوَاوُ لِلْحَالِ أَيْ لَا أَعْدِلُ عَنِ التَّحَاكُمِ إِلَيْهِ. وَقَدْ فَصَّلَ حُكْمَهُ بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ إِلَيْكُمْ لِتَتَدَبَّرُوهُ فَتَعْلَمُوا مِنْهُ صِدْقِي، وَأَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَقَدْ صِيغَتْ جُمْلَةُ الْحَالِ عَلَى الِاسْمِيَّةِ الْمَعْرِفَةِ الْجُزْأَيْنِ لِتُفِيدَ الْقَصْرَ مَعَ إِفَادَةِ أَصْلِ الْخَبَرِ. فَالْمَعْنَى: وَالْحَالُ أَنَّهُ أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ وَلَمْ يُنْزِلْهُ غَيْرُهُ، وَنُكْتَةُ ذَلِكَ أَنَّ فِي الْقُرْآنِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِمَا فِيهِ مِنَ الْإِعْجَازِ، وَبِأُمِّيَّةِ الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ. وَأَنَّ فِيهِ دَلَالَةً عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَبَعًا لِثُبُوتِ كَوْنِهِ مُنَزَّلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ أرسل محمّدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنَّاسِ كَافَّةً، وَفِي تَضَاعِيفِ حُجَجِ الْقُرْآنِ وَأَخْبَارِهِ دَلَالَةٌ عَلَى صِدْقِ مَنْ جَاءَ بِهِ فَحَصَلَ بِصَوْغِ جُمْلَةِ الْحَالِ عَلَى صِيغَةِ الْقَصْرِ الدَّلَالَةُ عَلَى الْأَمْرَيْنِ: أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَالْحُكْمِ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالصِّدْقِ.
وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ الْقُرْآنُ، وَالتَّعْرِيفُ لِلْعَهْدِ الْحُضُورِيِّ، وَالضَّمِيرُ فِي إِلَيْكُمُ خِطَابٌ لِلْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ إِلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ لِلِاهْتِدَاءِ بِهِ، فَكَمَا قَالَ اللَّهُ: بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النِّسَاء: ١٦٦] قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً [النِّسَاء: ١٧٤] وَفِي قَوْلِهِ: إِلَيْكُمُ هُنَا تَسْجِيلٌ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ قَدْ بَلَغَهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَجَاهُلًا.
وَالْمُفَصَّلُ الْمُبَيَّنُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ التَّفْصِيلِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٥٥].
وَجُمْلَةُ وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْقَوْلِ الْمَحْذُوفِ، فَتَكُونُ اسْتِئْنَافًا مِثْلَهُ، أَوْ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي أَوْ عَلَى
أَنْ نَوَّهَ اللَّهُ بِالْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ إِلَى الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَيَّنَ أَنَّ حِكْمَةَ إِنْزَالِهِ لِلْإِنْذَارِ وَالذِّكْرَى، أَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ إِلَيْهِمْ، كُلٌّ يَتَّبِعُ مَا هُوَ بِهِ أَعْلَقُ، وَالْمُشْرِكُونَ أَنْزَلَ إِلَيْهِمُ الزَّجْرَ عَنِ الشِّرْكِ وَالِاحْتِجَاجَ عَلَى ضَلَالِهِمْ، وَالْمُسْلِمُونَ أَنْزَلَ إِلَيْهِمُ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالتَّكْلِيفَ، فَكُلٌّ مَأْمُورٌ بِاتِّبَاعِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ، وَالْمَقْصُودُ الْأَجْدَرُ هُمُ الْمُشْرِكُونَ تَعْرِيضًا بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِنِعْمَةِ رَبِّهِمْ، فَوَصْفُ (الرَّبِّ) هُنَا دُونَ اسْمِ الْجَلَالَةِ: لِلتَّذْكِيرِ بِوُجُوبِ اتِّبَاعِ أَمْرِهِ، لِأَنَّ وَصْفَ الرُّبُوبِيَّةِ يَقْتَضِي الِامْتِثَالَ لِأَوَامِرِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنِ اتِّبَاعِ أَوْلِيَائِهِمُ الَّذِينَ جَعَلُوهُمْ آلِهَةً دُونَهُ، وَالْمُوَجَّهُ إِلَيْهِمُ النَّهْيُ هُمُ الْمُشْرِكُونَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ.
وَالِاتِّبَاعُ حَقِيقَتُهُ الْمَشْيُ وَرَاءَ مَاشٍ، فَمَعْنَاهُ يَقْتَضِي ذاتين: تَابعا ومتوبعا، يُقَالُ: اتَّبَعَ وَتَبِعَ، وَيُسْتَعَارُ لِلْعَمَلِ بِأَمْرِ الْآمِرِ نَحْوَ: مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي [طه: ٩٢، ٩٣] وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى تَشْبِيهِ حَالَتَيْنِ، وَيُسْتَعَارُ لِلِاقْتِدَاءِ بِسِيرَةٍ أَوْ قَوْلٍ نَحْوَ: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ [الْبَقَرَة: ١٦٨] وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ مُصَرَّحَةٌ تَنْبَنِي عَلَى تَشْبِيهِ الْمَحْسُوسِ بِالْمَعْقُولِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ [الْأَنْعَام: ٥٠]، وَمِنْهُ قَوْلُهُ هُنَا: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ.
وَالْمُرَادُ بِمَا أُنْزِلَ هُوَ الْكِتَابُ الْمَذْكُورُ بِقَوْلِهِ: كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ [الْأَعْرَاف: ٢].
وَقَوْلُهُ: وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ تَصْرِيحٌ بِمَا تَضَمَّنَهُ: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ لِأَنَّ فِيمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ أَنَّ اللَّهَ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّهُ الْوَلِيُّ، وَأَنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ، أَيْ مُجَازِيهِمْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ فِعْلُهُمْ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ آيِ الْقُرْآنِ وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا النَّهْيِ تَأْكِيدُ مُقْتَضَى الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمِ اهْتِمَامًا بِهَذَا الْجَانِبِ مِمَّا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ، وَتَسْجِيلًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَقَطْعًا لَمَعَاذِيرِهِمْ أَنْ يَقُولُوا إِنَّنَا اتَّبَعْنَا مَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا، وَمَا نَرَى أَوْلِيَاءَنَا إِلَّا شُفَعَاءَ لَنَا عِنْدَ اللَّهِ فَمَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُمَوِّهُونَ
وَجْهُ التَّعْبِيرِ بِ رِسالاتِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ فِي نَظِيرِهَا مِنْ قِصَّةِ قَوْمِ نُوحٍ.
وَنِدَاؤُهُ قَوْمَهُ نِدَاء تحسر وتبرئ مِنْ عَمَلِهِمْ، وَهُوَ مِثْلُ قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، حِينَ وَقَفَ عَلَى الْقَلِيبِ الَّذِي أُلْقِيَ فِيهِ قَتْلَى الْمُشْرِكِينَ فَنَادَاهُمْ بِأَسْمَاءِ صَنَادِيدِهِمْ ثُمَّ
قَالَ: «لَقَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا»
وَجَاءَ بِالِاسْتِفْهَامِ
الْإِنْكَارِيِّ فِي قَوْلِهِ: فَكَيْفَ آسَى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ مُخَاطِبًا نَفْسَهُ عَلَى طَرِيقَةِ التَّجْرِيدِ، إِذْ خَطَرَ لَهُ خَاطِرُ الْحُزْنِ عَلَيْهِمْ فَدَفَعَهُ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَحِقُّونَ أَنْ يُؤْسَفَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمُ اخْتَارُوا ذَلِكَ لِأَنْفُسِهِمْ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ مِنْ تَحْذِيرِهِمْ مَا لَوْ أَلْقَاهُ إِلَيْهِمْ لَأَقْلَعُوا عَمَّا هُمْ فِيهِ فَلَمْ يَبْقَ مَا يُوجِبُ أَسَفَهُ وَنَدَامَتَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [الْكَهْف: ٦] وَقَوْلِهِ: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ [فاطر: ٨].
فَالْفَاءُ فِي فَكَيْفَ آسَى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى قَوْلِهِ: لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ إِلَخْ... فَرَّعَ الِاسْتِفْهَامَ الْإِنْكَارِيَّ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا أَبْلَغَهُمْ وَنَصَحَ لَهُمْ وَأَعْرَضُوا عَنْهُ، فَقَدِ اسْتَحَقُّوا غَضَبَ مَنْ يَغْضَبُ لِلَّهِ، وَهُوَ الرَّسُولُ، وَيَرَى اسْتِحْقَاقَهُمُ الْعِقَابَ فَكَيْفَ يَحْزَنُ عَلَيْهِمْ لِمَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ.
وَالْأَسَى: شِدَّةُ الْحُزْنِ، وَفعله كرضي، و «آسى» مُضَارِعٌ مُفْتَتَحٌ بِهَمْزَةِ التَّكَلُّمِ، فَاجْتَمَعَ هَمْزَتَانِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ الْإِنْكَارِيُّ مُوَجَّهًا إِلَى نَفْسِهِ فِي الظَّاهِرِ، وَالْمَقْصُودُ نَهْيُ مَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْأَسَى عَلَى قَوْمِهِمُ الْهَالِكِينَ، إِذْ يَجُوزُ أَنْ يَحْصُلَ فِي نُفُوسِهِمْ حُزْنٌ عَلَى هَلْكَى قَوْمِهِمْ وَإِنْ كَانُوا قَدِ اسْتَحَقُّوا الْهَلَاكَ.
وَقَوْلُهُ: عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ: لِيَتَأَتَّى وَصْفُهُمْ بِالْكُفْرِ زِيَادَةً فِي تَعْزِيَةِ نَفْسِهِ وَتَرْكِ الْحُزْنِ عَلَيْهِمْ.
وَقَدْ نَجَّى اللَّهُ شُعَيْبًا مِمَّا حَلَّ بِقَوْمِهِ بِأَنْ فَارِقَ دِيَارَ الْعَذَابِ، قِيلَ: إِنَّهُ خَرَجَ مَعَ مَنْ آمَنَ بِهِ إِلَى مَكَّةَ وَاسْتَقَرُّوا بِهَا إِلَى أَنْ تُوُفُّوا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُمْ سَكَنُوا مَحَلَّةً خَاصَّةً بِهِمْ فِي بَلَدِهِمْ رَفَعَ اللَّهُ عَنْهَا الْعَذَابَ، فَإِنَّ بَقِيَّةَ مَدْيَنَ لَمْ يَزَالُوا بِأَرْضِهِمْ، وَقَدْ ذَكَرَتِ التَّوْرَاةُ أَنَّ شُعَيْبًا كَانَ بِأَرْضِ قَوْمِهِ حِينَمَا مَرَّتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَلَى دِيَارِهِمْ فِي خُرُوجِهِمْ من مصر.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً [الْأَنْفَال: ٢٩] وَقَدْ كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ فَارِقًا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ لِأَنَّهُ أَوَّلُ يَوْمٍ ظَهَرَ فِيهِ نَصْرُ الْمُسْلِمِينَ الضُّعَفَاءِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الْأَقْوِيَاءِ، وَهُوَ نَصْرُ الْمُحِقِّينَ الْأَذِلَّةِ عَلَى الْأَعِزَّةِ الْمُبْطِلِينَ، وَكَفَى بِذَلِكَ فُرْقَانًا وَتَمْيِيزًا بَيْنَ مَنْ هُمْ عَلَى الْحَقِّ، وَمَنْ هُمْ عَلَى الْبَاطِلِ.
فَإِضَافَةُ يَوْمَ إِلَى الْفُرْقانِ إِضَافَةُ تَنْوِيهٍ بِهِ وَتَشْرِيفٍ، وَقَوْلُهُ: يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ بَدَلٌ مِنْ يَوْمَ الْفُرْقانِ فَإِضَافَةُ يَوْمَ إِلَى جُمْلَةِ: الْتَقَى الْجَمْعانِ لِلتَّذْكِيرِ بِذَلِكَ الِالْتِقَاءِ الْعَجِيبِ الَّذِي كَانَ فِيهِ نَصْرُهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْجَمْعانِ لِلْعَهْدِ. وَهُمَا جَمْعُ الْمُسْلِمِينَ وَجَمْعُ الْمُشْرِكِينَ.
وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ اعْتِرَاضٌ بِتَذْيِيلِ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِبَعْضِ جُمْلَةِ الشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ: وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَإِنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَعَاصَى عَلَى قُدْرَتِهِ شَيْءٌ، فَإِنَّ مَا أَسْدَاهُ إِلَيْكُمْ يَوْمَ بَدْرٍ لَمْ يَكُنْ جَارِيًا عَلَى مُتَعَارَفِ الْأَسْبَابِ الْمُعْتَادَةِ، فَقُدْرَةُ اللَّهِ قَلَبَتِ الْأَحْوَالَ وَأَنْشَأَتِ الْأَشْيَاءَ مِنْ غَيْرِ مَجَارِيهَا وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مِنْ سَبَبِ تَسْمِيَةِ ذَلِكَ الْيَوْمِ يَوْمَ الْفُرْقانِ أَنَّهُ أُضِيفَ إِلَى الْفُرْقَانِ الَّذِي هُوَ لَقَبُ الْقُرْآنِ، فَإِنَّ الْمَشْهُورَ أَنَّ ابْتِدَاءَ نُزُولِ الْقُرْآنِ كَانَ يَوْمَ سَبْعَةَ عَشَرَ مِنْ رَمَضَانَ، فَيَكُونُ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي معنييه.
[٤٢]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ٤٢]
إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (٤٢)
إِذْ بَدَلٌ مِنْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ [الْأَنْفَال: ٤١] فَهُوَ ظَرْفٌ ل أَنْزَلْنا [الْأَنْفَال: ٤١] أَيْ زَمَنَ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا، وَقَدْ أُرِيدَ مِنْ هَذَا الظَّرْفِ وَمَا أُضِيفَ إِلَيْهِ تَذْكِيرُهُمْ بِحَالَةٍ حَرِجَةٍ كَانَ الْمُسْلِمُونَ
[سُورَة التَّوْبَة (٩) : آيَة ٩٩]
وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٩)هَؤُلَاءِ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ وَفَّاهُمُ اللَّهُ حَقَّهُمْ مِنَ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ أَضْدَادُ الْفَرِيقَيْنِ الْآخَرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي قَوْلِهِ: الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً [التَّوْبَة: ٩٧]- وَقَوْلِهِ- وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَماً [التَّوْبَة: ٩٧]. قِيلَ: هُمْ بَنُو مُقَرِّنٍ مِنْ مُزَيْنَةَ الَّذِينَ نَزَلَ فِيهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ [التَّوْبَة: ٩٢] الْآيَةَ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَمِنْ هَؤُلَاءِ عَبْدُ اللَّهِ ذُو الْبِجَادَيْنِ الْمُزَنِيُّ- هُوَ ابْنُ مُغَفَّلٍ-. وَالْإِنْفَاقُ هُنَا هُوَ الْإِنْفَاقُ هُنَاكَ.
وَتَقَدَّمَ قَرِيبًا مَعْنَى يَتَّخِذُ.
وقُرُباتٍ- بِضَمِّ الْقَافِ وَضَمِّ الرَّاءِ-: جَمْعُ قُرْبَةٍ بِسُكُونِ الرَّاءِ. وَهِيَ تُطْلَقُ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ، أَيِ الْقُرْبِ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، أَيْ يَتَّخِذُونَ مَا يُنْفِقُونَ تَقَرُّبًا عِنْدَ اللَّهِ. وَجَمْعُ قُرُبَاتٍ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ الْإِنْفَاقِ، فَكُلُّ إِنْفَاقٍ هُوَ قُرْبَةٌ عِنْدَ اللَّهِ لِأَنَّهُ يُوجِبُ زِيَادَةَ الْقُرْبِ. قَالَ تَعَالَى:
يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ [الْإِسْرَاء: ٥٧]. فَ قُرُباتٍ هُنَا مَجَازٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي رِضَى اللَّهِ وَرَفْعِ الدَّرَجَاتِ فِي الْجَنَّةِ، فَلِذَلِكَ وُصِفَتْ بِ عِنْدَ الدَّالَّةِ عَلَى مَكَانِ الدُّنُوِّ.
وَ (عِنْدَ) مَجَازٌ فِي التَّشْرِيفِ وَالْعِنَايَةِ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ تُشَبَّهُ بِدَارِ الْكَرَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ. قَالَ تَعَالَى:
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [الْقَمَر: ٥٤، ٥٥].
ووَ صَلَواتِ الرَّسُولِ دَعَوَاتِهِ. وَأَصْلُ الصَّلَاةِ الدُّعَاءُ. وَجُمِعَتْ هُنَا لِأَنَّ كُلَّ إِنْفَاقٍ يُقَدِّمُونَهُ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو لَهُمْ بِسَبَبِهِ دَعْوَةً، فَبِتَكَرُّرِ الْإِنْفَاقِ تَتَكَرَّرُ الصَّلَاةُ. وَكَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عَلَى كُلِّ مَنْ يَأْتِيهِ بِصَدَقَتِهِ وَإِنْفَاقِهِ امْتِثَالًا لِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ [التَّوْبَة: ١٠٣]. و
[سُورَة هود (١١) : آيَة ١١]
إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١١)احْتِرَاسٌ بِاسْتِثْنَاءٍ مِنَ (الْإِنْسَانِ). وَالْمُرَادُ بِالَّذِينِ صَبَرُوا الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ لِأَنَّ الصَّبْرَ مِنْ مُقَارَنَاتِ الْإِيمَانِ فَكَنَّيَ بِالَّذِينِ صَبَرُوا عَنِ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّ الْإِيمَانَ يُرَوِّضُ صَاحِبَهُ عَلَى مُفَارَقَةِ الْهَوَى وَنَبْذِ مُعْتَادِ الضَّلَالَةِ. قَالَ تَعَالَى: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ [الْعَصْر: ٣].
وَمِنْ مَعَانِي الصَّبْرِ انْتِظَارُ الْفَرَجِ وَلِذَلِكَ أُوثِرَ هُنَا وَصْفُ (صَبَرُوا) دُونَ (آمَنُوا) لِأَنَّ الْمُرَادَ مُقَابَلَةُ حَالِهِمْ بِحَالِ الْكُفَّارِ فِي قَوْله: إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ [هود: ٩]. وَدَلَّ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى أَنَّهُمْ مُتَّصِفُونَ بِضِدِّ صِفَاتِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُمْ. وَفِي هَذَا تَحْذِيرٌ مِنَ الْوُقُوعِ فِيمَا يُمَاثِلُ صِفَاتِ الْكَافِرِينَ عَلَى اخْتِلَافِ مَقَادِيرٍ. وَقَدْ نُسِجَتِ الْآيَةُ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ مِنَ الْإِجْمَالِ لِتَذْهَبَ نُفُوسُ السَّامِعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي طُرُقِ الْحَذَرِ مِنْ صِفَتَيِ الْيَأْسِ وَكُفْرَانِ النِّعْمَةِ، وَمِنْ صِفَتَيِ الْفَرَحِ وَالْفَخْرِ كُلَّ مَذْهَبٍ مُمْكِنٍ.
وَجُمْلَةُ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ مُسْتَأْنَفَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ. وَالْإِتْيَانُ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ عَقِبَ وَصْفِهِمْ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْتِثْنَاءُ وَبِالصَّبْرِ وَعَمِلَ الصَّالِحَات تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا مَا يُذْكَرُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ لِأَجْلِ مَا ذُكِرَ قَبْلَهُ مِنَ الْأَوْصَافِ كَقَوْلِهِ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الْبَقَرَة: ٥].
[١٢]
[سُورَة هود (١١) : آيَة ١٢]
فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٢)
تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ- إِلَى قَوْله- يَسْتَهْزِؤُنَ [هود: ٧، ٨] مَنْ ذِكْرِ تَكْذِيبِهِمْ وَعِنَادِهِمْ. وَيُشِير هَذَا التَّفْرِيعُ
وَالرِّحَالُ: جَمْعُ رَحْلٍ، وَهُوَ مَا يُوضَعُ عَلَى الْبَعِيرِ مِنْ مَتَاعِ الرَّاكِبِ، وَلِذَا سُمِّيَ الْبَعِيرُ رَاحِلَةً.
وَالِانْقِلَابُ: الرُّجُوعُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فِي [سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: ١٤٤].
وَجُمْلَةُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ جَوَابٌ لِلْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لِأَنَّهُ لَمَّا أَمَرَهُمْ بِالرُّجُوعِ اسْتَشْعَرَ بِنَفَاذِ رَأْيِهِ أَنَّهُمْ قَدْ يَكُونُونَ غَيْرَ وَاجِدِينَ بِضَاعَةً لِيَبْتَاعُوا بِهَا الْمِيرَةَ لِأَنَّهُ رَأَى مَخَايِلَ الضّيق عَلَيْهِم.
[٦٣، ٦٤]
[سُورَة يُوسُف (١٢) : الْآيَات ٦٣ إِلَى ٦٤]
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يَا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٦٣) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٦٤)
مَعْنَى مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْكَيْلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، لِأَنَّ رُجُوعَهُمْ بِالطَّعَامِ الْمُعَبَّرِ عَنهُ بالجهاز قرينَة أَنَّ الْمَنْعَ مِنَ الْكَيْلِ يَقَعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَلِأَنَّ تَرْكِيبَ مُنِعَ مِنَّا يُؤْذِنُ بِذَلِكَ، إِذْ جَعَلُوا الْكَيْلَ مَمْنُوعَ الِابْتِدَاءِ مِنْهُمْ لِأَنَّ مِنْ حَرْفُ ابْتِدَاءٍ.
وَالْكَيْلُ مَصْدَرٌ صَالِحٌ لِمَعْنَى الْفَاعِلِيَّةِ وَالْمَفْعُولِيَّةِ، وَهُوَ هُنَا بِمَعْنَى الْإِسْنَادِ إِلَى الْفَاعِلِ، أَيْ لَنْ نَكِيلَ، فَالْمَمْنُوعُ هُوَ ابْتِدَاءُ الْكَيْلِ مِنْهُمْ. وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ بِيَدِهِمْ مَا يُكَالُ تَعَيَّنَ تَأْوِيلُ الْكَيْلِ بِطَلَبِهِ، أَيْ مُنِعَ مِنَّا ذَلِكَ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ لِأَنَّنَا لَا نُمْنَحُهُ إِلَّا إِذَا وَفَّيْنَا بِمَا وَعَدْنَا مِنْ إِحْضَارِ أَخِينَا. وَلِذَلِكَ صَحَّ تَفْرِيعُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا عَلَيْهِ، فَصَارَ تَقْدِير الْكَلَامِ:
مُنِعْنَا مِنْ أَنْ نَطْلُبَ الْكَيْلَ إِلَّا إِذَا حَضَرَ
وَهَذَا تَعْرِيضٌ لِتَهْدِيدٍ وَوَعِيدٍ مُؤَيَّدٍ بِتَنْظِيرِهِمْ بِالْمُكَذِّبِينَ السَّالِفِينَ.
وَإِنَّمَا ذَكَرَ حَالَ الْقُرَى الَّتِي أُهْلِكَتْ مِنْ قَبْلُ لِتَذْكِيرِ هَؤُلَاءِ بِسُنَّةِ اللَّهِ فِي إِمْهَالِ الظَّالِمِينَ لِئَلَّا يَغُرَّهُمْ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ التَّمَتُّعِ فَيَحْسَبُوا أَنَّهُمْ أَفْلَتُوا مِنَ الْوَعِيدِ. وَهَذَا تَهْدِيدٌ لَا يَقْتَضِي أَنَّ
الْمُشْرِكِينَ قَدَّرَ اللَّهُ أَجَلًا لِهَلَاكِهِمْ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَسْتَأْصِلْهُمْ وَلَكِنْ هَدَى كَثِيرًا مِنْهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ بِالسَّيْفِ وَأَهْلَكَ سَادَتَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ.
وَالْقَرْيَةُ: الْمَدِينَةُ. وَتَقَدَّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٥٩].
وَالْكِتَابُ: الْقَدَرُ الْمَحْدُودُ عِنْدَ اللَّهِ. شُبِّهَ بِالْكِتَابِ فِي أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنَّقْصَ.
وَهُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَ اللَّهِ، لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى.
وَجُمْلَةُ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَكَفَاكَ عِلْمًا عَلَى ذَلِكَ اقْتِرَانُهَا بِالْوَاوِ فَهِيَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ عُمُومِ أَحْوَالٍ، وَصَاحِبُ الْحَالِ هُوَ قَرْيَةٍ وَهُوَ وَإِنْ كَانَ نَكِرَةً فَإِنَّ وُقُوعَهَا فِي سِيَاقِ النَّفْيِ سَوَّغَ مَجِيءَ الْحَالِ مِنْهُ كَمَا سَوَّغَ الْعُمُومُ صِحَّةَ الْإِخْبَارِ عَنِ النَّكِرَةِ.
وَجُمْلَةُ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها بَيَانٌ لِجُمْلَةِ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ لِبَيَانِ فَائِدَةِ التَّحْدِيدِ: أَنَّهُ عَدِمَ الْمُجَاوَزَةِ بَدْءًا وِنَهَايَةً.
وَمَعْنَى (تَسْبِقُ أَجَلَهَا) تَفُوتُهُ، أَيْ تُعْدَمُ قَبْلَ حُلُولِهِ، شَبَّهَ ذَلِكَ بِالسَّبْقِ.
ويَسْتَأْخِرُونَ: يَتَأَخَّرُونَ. فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلتَّأْكِيدِ.
وَأُنِّثَ مُفْرَدًا ضَمِيرُ الْأُمَّةِ مَرَّةً مُرَاعَاةً لِلَّفْظِ، وَجُمِعَ مُذَكَّرًا مُرَاعَاةً لِلْمَعْنَى. وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ يَسْتَأْخِرُونَ لِلْعِلْمِ بِهِ، أَيْ وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ عَنهُ.
وَفِي هَذَا الْوَصْفِ بِصِيغَةِ التَّفْضِيلِ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ وَضْعِهَا مُعْجِزَةٌ خَفِيَّةٌ مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُ سَيَكُونُ بَيْنَ الْمَسْجِدَيْنِ مَسْجِدٌ عَظِيمٌ هُوَ مَسْجِدُ طِيبَةَ الَّذِي هُوَ قَصِيٌّ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَيَكُونُ مَسْجِدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَقْصَى مِنْهُ حِينَئِذٍ.
فَتَكُونُ الْآيَةُ مُشِيرَةً إِلَى جَمِيعِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ الْمُفَضَّلَةِ فِي الْإِسْلَامِ عَلَى جَمِيعِ الْمَسَاجِدِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَالَّتِي بَينهَا
قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ:
مَسْجِدُ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدُ الْأَقْصَى، وَمَسْجِدِي»
. وَفَائِدَةُ ذِكْرِ مَبْدَأِ الْإِسْرَاءِ وَنِهَايَتِهِ بِقَوْلِهِ: مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى أَمْرَانِ:
- أَحَدُهُمَا: التَّنْصِيصُ عَلَى قِطَعِ الْمَسَافَةِ الْعَظِيمَةِ فِي جُزْءِ لَيْلَةٍ، لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الظَّرْفِ وَهُوَ لَيْلًا وَمِنَ الْمَجْرُورَيْنِ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى قَدْ تَعَلَّقَ بِفِعْلِ أَسْرى، فَهُوَ تَعَلُّقٌ يَقْتَضِي الْمُقَارَنَةَ، لِيُعْلَمَ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْمُعْجِزَاتِ.
- وَثَانِيهِمَا: الْإِيمَاءُ إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَجْعَلُ هَذَا الْإِسْرَاءَ رَمْزًا إِلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ جَمَعَ مَا جَاءَتْ بِهِ شَرَائِعُ التَّوْحِيدِ وَالْحَنِيفِيَّةِ مِنْ عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- الصَّادِرُ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى مَا تَفَرَّعَ عَنْهُ مِنَ الشَّرَائِعِ الَّتِي كَانَ مَقَرُّهَا بَيْتَ الْمَقْدِسِ ثُمَّ إِلَى خَاتِمَتِهَا الَّتِي ظَهَرَتْ مِنْ مَكَّةَ أَيْضًا فَقَدْ صَدَرَتِ الْحَنِيفِيَّةُ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَتَفَرَّعَتْ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى. ثُمَّ عَادَتْ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَا عَادَ الْإِسْرَاءُ إِلَى مَكَّةَ لِأَنَّ كُلَّ سُرًى يَعْقُبُهُ تَأْوِيبٌ. وَبِذَلِكَ حَصَلَ رَدُّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ.
وَمِنْ هُنَا يَظْهَرُ مُنَاسَبَةُ نزُول التشريع الاجماعي فِي هَذِهِ السُّورَةِ فِي الْآيَاتِ الْمُفْتَتَحَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ، فَفِيهَا: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ
إِلَّا بِالْحَقِّ، وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ،
مُوسَى وَإِنْكَارِهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَنْكَرَ عَلَيْهِ فَعْلَاتِهِ الثَّلَاثَ كَانَ يُؤَيِّدُ إِنْكَارَهُ بِمَا يَقْتَضِي أَنَّهُ تَصَرَّفَ عَنْ خَطَأٍ.
وَانْتَصَبَ رَحْمَةً عَلَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ فَيُنَازِعُهُ كُلٌّ من (أردْت)، و (أردنَا)، و (أَرَادَ رَبُّكَ).
وَجُمْلَةُ ذلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً فَذْلَكَةٌ لِلْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهَا ابْتِدَاءٌ مِنْ
قَوْلِهِ أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ، فَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى الْمَذْكُورِ فِي الْكَلَامِ السَّابِقِ وَهُوَ تَلْخِيصٌ لِلْمَقْصُودِ كَحَوْصَلَةِ الْمُدَرِّسِ فِي آخِرِ دَرْسِهِ.
وتَسْطِعْ مُضَارِعُ (اسْطَاعَ) بِمَعْنَى (اسْتَطَاعَ). حَذَفَ تَاءَ الِاسْتِفْعَالِ تَخْفِيفًا لِقُرْبِهَا مِنْ مَخْرَجِ الطَّاءِ، وَالْمُخَالَفَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً لِلتَّفَنُّنِ تَجَنُّبًا لِإِعَادَةِ لَفَظٍ بِعَيْنِهِ مَعَ وُجُودِ مُرَادِفِهِ. وَابْتُدِئَ بِأَشْهَرِهِمَا اسْتِعْمَالًا وَجِيءَ بِالثَّانِيَةِ بِالْفِعْلِ الْمُخَفَّفِ لِأَنَّ التَّخْفِيفَ أَوْلَى بِهِ لِأَنَّهُ إِذَا كَرَّرَ تَسْتَطِعْ يَحْصُلُ مِنْ تَكْرِيرِهِ ثِقَلٌ.
وَأَكَدَّ الْمَوْصُولَ الْأَوَّلَ الْوَاقِعَ فِي قَوْلِهِ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً تَأْكِيدًا لِلتَّعْرِيضِ بِاللَّوْمِ عَلَى عَدَمِ الصَّبْرِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ قِصَّةَ مُوسَى وَالْخَضِرِ قَدِ اتَّخَذَتْهَا طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ النِّحَلِ الْإِسْلَامِيَّةِ أَصْلًا بَنَوْا عَلَيْهِ قَوَاعِدَ مَوْهُومَةً.
فَأَوَّلُ مَا أَسَّسُوهُ مِنْهَا أَنَّ الْخَضِرَ لَمْ يَكُنْ نَبِيئًا وَإِنَّمَا كَانَ عَبْدًا صَالِحًا، وَأَنَّ الْعِلْمَ الَّذِي أُوتِيَهُ لَيْسَ وَحْيًا وَلَكِنَّهُ إِلْهَامٌ، وَأَنَّ تَصَرُّفَهُ الَّذِي تَصَرَفَهُ فِي الْمَوْجُودَاتِ أَصْلٌ لِإِثْبَاتِ الْعُلُومِ الْبَاطِنِيَّةِ، وَأَنَّ الْخَضِرَ مَنَحَهُ اللَّهُ الْبَقَاءَ إِلَى انْتِهَاءِ مُدَّةِ الدُّنْيَا لِيَكُونَ مَرْجِعًا لِتَلَقِّي الْعُلُومِ
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ قُلْ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ، وَخَلَفٌ قالَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي، وَكَذَلِكَ هِيَ مَرْسُومَةٌ فِي الْمُصْحَفِ الْكُوفِيِّ قَالَهُ أَبُو شَامَةَ، أَيْ قَالَ الرَّسُولُ لَهُمْ، حَكَى اللَّهُ مَا قَالَهُ الرَّسُولُ لَهُمْ، وَإِنَّمَا قَالَهُ عَنْ وَحْيٍ فَكَانَ فِي مَعْنَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ قُلْ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ لِأَنَّهُ إِذَا أَمَرَ بِأَنْ يَقَوْلَهُ فَقَدْ قَالَهُ.
وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ يَعْلَمُ السِّرَّ لِمُرَاعَاةِ الْعِلْمِ بِأَنَّ الَّذِي قَالُوهُ مِنْ قَبِيلِ السِّرِّ وَأَنَّ إِثْبَاتَ عِلْمِهِ بِكُلِّ قَوْلٍ يَقْتَضِي إِثْبَاتَ عِلْمِهِ بِالسِّرِّ وَغَيْرِهِ بِنَاءً عَلَى مُتَعَارَفِ النَّاسِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي سُورَةِ [الْفُرْقَانِ: ٦] قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَلَمْ يَتَقَدَّمْ قَبْلَهُ ذِكْرٌ لِلْإِسْرَارِ، وَكَانَ قَوْلُ الَّذِينَ كَفَرُوا: إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ [الْفرْقَان: ٤] صَادِرًا مِنْهُمْ تَارَةً جَهْرًا وَتَارَةً سِرًّا فَأَعْلَمَهُمُ اللَّهُ بِاطِّلَاعِهِ عَلَى سِرِّهِمْ. وَيُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَى جَهْرِهِمْ بطريقة الفحوى.
[٥]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : آيَة ٥]
بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥)
بَلْ الْأُولَى مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى إِضْرَابُ انْتِقَالٍ مِنْ حِكَايَةِ قَوْلِ فَرِيقٍ مِنْهُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ الْأَنْبِيَاء: ٣] إِلَى حِكَايَةِ قَوْلٍ آخَرَ مِنْ أَقْوَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ زَعْمُهُمْ أَنَّ مَا يُخْبِرُ عَنْهُ وَيَحْكِيهِ هُوَ أَحْلَامٌ يَرَاهَا فَيَحْكِيهَا، فَضَمِيرُ قالُوا لِجَمَاعَةِ الْمُشْرِكِينَ لَا لِخُصُوصِ الْقَائِلِينَ الْأَوَّلِينَ.
وبَلْ الثَّانِيَةُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْكَلَامِ الْمَحْكِيِّ عَنْهُمْ وَهِيَ إِضْرَابُ انْتِقَالٍ فِيمَا يَصِفُونَ بِهِ الْقُرْآنَ. وَالْمَعْنَى: بَلِ افْتَرَاهُ وَاخْتَلَقَهُ مِنْ غَيْرِ أَحْلَامٍ، أَيْ هُوَ كَلَامٌ مَكْذُوبٌ.
فَلِذَلِكَ ضَبَطَتِ الشَّرِيعَةُ اسْتِعْمَالَهُمَا بِأَنْ يَكُونَ فِي الْأُمُورِ الصَّالِحَةِ الَّتِي أَرْشَدَتْ إِلَيْهَا الدِّيَانَةُ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنُ لَهُ الْجَنَّةَ»
. وَاللَّوْمُ: الْإِنْكَارُ عَلَى الْغَيْرِ مَا صَدَرَ مِنْهُ مِنْ فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ لَا يَلِيقُ عِنْدَ الْمُلَائِمِ، وَهُوَ مُرَادِفُ الْعَذْلِ وَأَضْعَفُ مِنَ التَّعْنِيفِ.
ووَراءَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ. وَأَصْلُ الْوَرَاءِ اسْمُ الْمَكَانِ الَّذِي فِي جِهَةِ الظَّهْرِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الشَّيْءِ الْخَارِجِ عَنِ الْحَدِّ الْمَحْدُودِ تَشْبِيهًا لِلْمُتَجَاوِزِ الشَّيْءَ بِشَيْءٍ مَوْضُوعٍ خَلْفَ ظَهْرِ ذَلِكَ الشَّيْءِ لِأَنَّ مَا كَانَ مِنْ أَعْلَاقِ الشَّخْصِ يُجْعَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَبِمَرْأَى مِنْهُ وَمَا كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ يُنْبَذُ وَرَاءَ الظَّهْرِ، وَهَذَا التَّخَيُّلُ شَاعَ عَنْهُ هَذَا الْإِطْلَاقُ بِحَيْثُ يُقَالُ:
هُوَ وَرَاءَ الْحَدِّ، وَلَوْ كَانَ مُسْتَقْبِلَهُ. ثُمَّ تُوُسِّعَ فِيهِ فَصَارَ بِمَعْنَى (غَيْرَ) أَوْ (مَا عَدَا) كَمَا هُنَا، أَيْ فَمَنِ ابْتَغَوْا بِفُرُوجِهِمْ شَيْئًا غَيْرَ الْأَزْوَاجِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ.
وَأُتِيَ لَهُمْ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ لِزِيَادَةِ تَمْيِيزِهِمْ بِهَذِهِ الْخَصْلَةِ الذَّمِيمَةِ لِيَكُونَ وَصْفُهُمْ بِالْعُدْوَانِ مَشْهُورًا مُقَرَّرًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٧٧]، وَالْعَادِي هُوَ الْمُعْتَدِي، أَيِ الظَّالِمُ لِأَنَّهُ عَدَا عَلَى الْأَمْرِ.
وَتَوْسِيطُ ضَمِيرِ الْفَصْلِ لِتَقْوِيَةِ الْحُكْمِ، أَيْ هُمُ الْبَالِغُونَ غَايَةَ الْعُدْوَانِ عَلَى الْحُدُودِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَالْقَوْلُ فِي إِعَادَةِ الْمَوْصُولِ وَتَقْدِيمِ الْمَعْمُولِ كَمَا مرّ.
[٨]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : آيَة ٨]
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٨)
هَذِهِ صِفَةٌ أُخْرَى مِنْ جَلَائِلِ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ تَنْحَلُّ إِلَى فَضِيلَتَيْنِ هُمَا فَضِيلَةُ أَدَاءِ الْأَمَانَةِ الَّتِي يُؤْتَمَنُونَ عَلَيْهَا وَفَضِيلَةُ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ.
أَنْ يَضَعَ الْمَرْءُ خُلَّتَهُ إِلَّا حَيْثُ يُوقِنُ بِالسَّلَامَةِ مِنْ إِشَارَاتِ السُّوءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا [آل عمرَان: ١١٨] فَعَلَى مَنْ يُرِيدُ اصْطِفَاءَ خَلِيلٍ أَنْ يَسِيرَ سِيرَتَهُ فِي خُوَيِّصَّتِهِ فَإِنَّهُ سَيَحْمِلُ مَنْ يَخَالُّهِ عَلَى مَا يَسِيرُ بِهِ لِنَفْسِهِ، وَقَدْ قَالَ خَالِدُ بْنُ زُهَيْرٍ وَهُوَ ابْنُ أُخْتِ أَبِي ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيِّ:
فَأَوَّلُ رَاضٍ سُنَّةً مَنْ يَسِيرُهَا وَهَذَا عِنْدِي هُوَ مَحْمِلُ
قَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا غير ربّي لَا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا»
فَإِنَّ مَقَامَ النُّبُوءَةِ يَسْتَدْعِي مِنَ الْأَخْلَاقِ مَا هُوَ فَوْقَ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ الْمُتَعَارَفَةِ فِي النَّاسِ فَلَا يَلِيقُ بِهِ إِلَّا مُتَابَعَةُ مَا لِلَّهِ مِنَ الْكَمَالَاتِ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ وَلِهَذَا قَالَتْ عَائِشَةُ: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ. وَعَلِمْنَا بِهَذَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَفْضَلُ الْأُمَّةِ مَكَارِمَ أَخْلَاقٍ بَعْدَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ النَّبِيءَ جَعَلَهُ الْمُخَيَّرَ لِخُلَّتِهِ لَوْ كَانَ مُتَّخِذًا خَلِيلًا غَيْرَ اللَّهِ.
وَجُمْلَةُ لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي تَعْلِيلِيَّةٌ لِتَمَنِّيهِ أَنْ لَا يَكُونَ اتَّخَذَ فُلَانًا خَلِيلًا بِأَنَّهُ قَدْ صَدَرَ عَنْ خُلَّتِهِ أَعْظَمُ خُسْرَانٍ لِخَلِيلِهِ إِذْ أَضَلَّهُ عَنِ الْحَقِّ بَعْدَ أَنْ كَادَ يَتَمَكَّنُ مِنْهُ.
وَقَوْلُهُ: أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ مَعْنَاهُ سَوَّلَ لِيَ الِانْصِرَافَ عَنِ الْحَقِّ. وَالضَّلَالُ: إِضَاعَةُ الطَّرِيقِ وَخَطَؤُهُ بِحَيْثُ يَسْلُكُ طَرِيقًا غَيْرَ الْمَقْصُودِ فَيَقَعُ فِي غَيْرِ الْمَكَانِ الَّذِي أَرَادَهُ، وَإِنَّمَا وَقَعَ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ أَوْ فِي مَسْبَعَةٍ. وَيُسْتَعَارُ الضَّلَالُ لِلْحِيَادِ عَنِ الْحَقِّ وَالرُّشْدِ إِلَى الْبَاطِلِ وَالسَّفَهِ كَمَا يُسْتَعَارُ ضِدُهُ وَهُوَ الْهُدَى (الَّذِي هُوَ إِصَابَةُ الطَّرِيقِ) لِمَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَالصَّوَابِ حَتَّى تَسَاوَى الْمَعْنَيَانِ الْحَقِيقِيَّانِ وَالْمَعْنَيَانِ الْمَجَازِيَّانِ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَلِذَلِكَ سَمَّوُا الدَّلِيلَ الَّذِي يَسْلُكُ بِالرَّكْبِ الطَّرِيقَ الْمَقْصُودَ هَادِيًا.
وَالْإِضْلَالُ مُسْتَعَارٌ هُنَا لِلصَّرْفِ عَنِ الْحَقِّ لِمُنَاسَبَةِ اسْتِعَارَةِ السَّبِيلِ لِهَدْيِ الرَّسُولِ وَلَيْسَ مُسْتَعْمَلًا هُنَا فِي الْمَعْنَى الَّذِي غَلَبَ عَلَى الْبَاطِلِ بِقَرِينَةِ تَعْدِيَتِهِ بِحَرْفِ عَنِ فِي قَوْلِهِ: عَنِ الذِّكْرِ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ الْإِضْلَالُ هُوَ تَسْوِيلَ الضَّلَالِ لَمَا احْتَاجَ إِلَى تَعْدِيَتِهِ وَلَكِنْ أُرِيدَ هُنَا مُتَابَعَةُ التَّمْثِيلِ السَّابِقِ. فَفِي قَوْلِهِ: أَضَلَّنِي مَكْنِيَّةٌ تَقْتَضِي تَشْبِيهَ الذِّكْرِ بِالسَّبِيلِ الْمُوَصِّلِ إِلَى الْمَنْجَى، وَإِثْبَاتُ الْإِضْلَالِ عَنْهُ تَخْيِيلٌ كَإِثْبَاتِ الْأَظْفَارِ لِلْمَنِيَّةِ، فَهَذِهِ نُكَتٌ مِنْ بَلَاغَةِ نَظْمِ الْآيَةِ.
وَالْإِجَابَةُ: إِعْطَاءُ الْأَمْرِ الْمَسْئُولِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَا لِتَحْصِيلِ مَا اضْطُرَّ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يُجِيبُهُ إِلَّا اللَّهُ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِهِ يُجِيبُ بَعْضًا وَيُؤَخِّرُ بَعْضًا.
وَحَالَةُ الْبُؤْسِ: هِيَ الْمُشَارُ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ وَيَكْشِفُ السُّوءَ.
وَالْكَشْفُ: أَصْلُهُ رَفْعُ الْغِشَاءِ، فَشُبِّهَ السُّوءُ الَّذِي يَعْتَرِي الْمَضْرُورَ بِغِشَاءٍ يَحُولُ دُونَ الْمَرْءِ وَدُونَ الِاهْتِدَاءِ إِلَى الْخَلَاصِ تَشْبِيهَ مَعْقُولٍ بِمَحْسُوسٍ.
وَرُمِزَ إِلَى الْمُشَبَّهِ بِهِ بِالْكَشْفِ الَّذِي هُوَ مِنْ رَوَادِفِ الْغِشَاءِ. وَهُوَ أَيْضًا مُسْتَعَارٌ لِلْإِزَالَةِ بِقَرِينَةِ تَعْدِيَتِهِ إِلَى السُّوءِ. وَالْمَعْنَى: مَنْ يُزِيلُ السُّوءَ. وَهَذِهِ مَرْتَبَةُ الضَّرُورِيِّ فَإِنَّ مُعْظَمَهَا أَوْ جَمِيعَهَا حِفْظٌ مِنْ تَطَرُّقِ السُّوءِ إِلَى مُهِمِّ أَحْوَالِ النَّاسِ مِثْلِ الْكُلِّيَّاتِ وَهِيَ: حِفْظُ الدِّينِ، وَالنَّفْسِ، وَالْعقل، وَالنّسب، وَالْمَال، وَالْعِرْضِ.
وَالْمَعْنَى: إِنَّ اللَّهَ يَكْشِفُ السُّوءَ عَنِ الْمَسُوءِ إِذَا دَعَاهُ أَيْضًا فَحُذِفَ مِنَ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ لِدَلَالَةِ مَا ذُكِرَ مَعَ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا، أَيْ يَكْشِفُ السُّوءَ عَنِ الْمُسْتَاءِ إِذَا دَعَاهُ.
وَظَاهِرُ التَّقْيِيدِ بِالظَّرْفِ يَقْتَضِي ضَمَانَ الْإِجَابَةِ. وَالْوَاقِعُ أَنَّ الْإِجَابَةَ مَنُوطَةٌ بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِحَسْبِ مَا يَقْتَضِيهِ حَالُ الدَّاعِي وَمَا يَقْتَضِيهِ مُعَارِضُهُ مِنْ أُصُولٍ أُخْرَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ.
وَحَالَةُ الِانْتِفَاعِ: هِيَ الْمُشَارُ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَيْ يَجْعَلُكُمْ تَعْمُرُونَ الْأَرْضَ وَتَجْتَنُونَ مَنَافِعَهَا، فَضَمَّنَ الْخُلَفَاءَ مَعْنَى الْمَالِكِينَ فَأُضِيفَ إِلَى الْأَرْضِ عَلَى تَقْدِيرِ: مَالِكِينَ لَهَا، وَالْمِلْكُ يَسْتَلْزِمُ الِانْتِفَاعَ بِمَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْهَا. وَأَفَادَ خُلَفَاءَ بِطَرِيقِ الِالْتِزَامِ
مَعْنَى الْوِرَاثَةِ لِمَنْ سَبَقَ، فَكُلُّ حَيٍّ هُوَ خَلَفٌ عَنْ سَلَفِهِ. وَالْأُمَّةُ خَلَفٌ عَنْ أُمَّةٍ كَانَتْ قَبْلَهَا جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً لِقَوْلِ نُوحٍ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها
[هود: ٦١]. وَهَذِهِ مَرْتَبَةُ التَّحْسِينِيِّ.
وَقَدْ جَمَعَتِ الْآيَةُ الْإِشَارَةَ إِلَى مَرَاتِبِ الْمُنَاسِبِ وَهُوَ مَا يَجْلِبُ نَفْعًا أَوْ يَدْفَعُ ضَرَرًا وَهُوَ مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ.
وَلِمَا اقْتَضَتْهُ الْخِلَافَةُ مِنْ تُجَدِّدِ الْأَبْنَاءِ عَقِبَ الْآبَاءِ وَالْأَجْيَالِ بَعْدَ الْأَجْيَالِ، وَمَا
وَقَدْ أَشَارَ قَوْلُهُ: يُتْلى عَلَيْهِمْ وَمَا بَعْدَهُ إِلَى خَمْسِ مَزَايَا لِلْقُرْآنِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ.
الْمَزِيَّةُ الْأُولَى: مَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ يُتْلى عَلَيْهِمْ مِنِ انْتِشَارِ إِعْجَازِهِ وَعُمُومِهِ فِي الْمَجَامِعِ وَالْآفَاقِ وَالْأَزْمَانِ الْمُخْتَلِفَةِ بِحَيْثُ لَا يَخْتَصُّ بِإِدْرَاكِ إِعْجَازِهِ فَرِيقٌ خَاصٌّ فِي زَمَنٍ
خَاصٍّ شَأْنَ الْمُعْجِزَاتِ الْمَشْهُودَةِ مِثْلَ عَصَا مُوسَى وَنَاقَةِ صَالِحٍ وَبُرْءِ الْأَكْمَهِ، فَهُوَ يُتْلَى، وَمِنْ ضِمْنِ تِلَاوَتِهِ الْآيَاتُ الَّتِي تُحَدِّتُ النَّاسَ بِمُعَارَضَتِهِ وَسَجَّلَتْ عَلَيْهِمْ عَجْزَهُمْ عَنِ الْمُعَارَضَةِ مِنْ قَبْلِ مُحَاوَلَتِهِمْ إِيَّاهَا فَكَانَ كَمَا قَالَ فَهُوَ مُعْجِزَةٌ بَاقِيَةٌ وَالْمُعْجِزَاتُ الْأُخْرَى مُعْجِزَاتٌ زَائِلَةٌ.
الْمَزِيَّةُ الثَّانِيَةُ: كَوْنُهُ مِمَّا يُتْلَى، فَإِنَّ ذَلِكَ أَرْفَعُ مِنْ كَوْنِ الْمُعْجِزَاتِ الْأُخْرَى أَحْوَالًا مَرْئِيَّةً لِأَنَّ إِدْرَاكَ الْمَتْلُوِّ إِدْرَاكٌ عَقْلِيٌّ فِكْرِيٌّ وَهُوَ أَعْلَى مِنَ الْمُدْرَكَاتِ الْحِسِّيَّةِ فَكَانَتْ مُعْجِزَةُ الْقُرْآنِ أَلْيَقُ بِمَا يُسْتَقْبَلُ مِنْ عُصُورِ الْعِلْمِ الَّتِي تَهَيَّأَتْ إِلَيْهَا الْإِنْسَانِيَّةُ.
الْمَزِيَّةُ الثَّالِثَةُ: مَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً فَإِنَّهَا وَارِدَةٌ مَوْرِدَ التَّعْلِيلِ لِلتَّعْجِيبِ مِنْ عَدَمِ اكْتِفَائِهِمْ بِالْكِتَابِ وَفِي التَّعْلِيلِ تَتْمِيمٌ لِمَا اقْتَضَاهُ التَّعْبِيرُ بِالْكِتَابِ وَبِ يُتْلى عَلَيْهِمْ، فَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكَ إِلَى الْكِتابَ لِيَسْتَحْضِرَ بِصِفَاتِهِ كُلِّهَا وَلِلتَّنْوِيهِ بِهِ بِمَا تَقْتَضِيهِ الْإِشَارَةُ مِنَ التَّعْظِيمِ. وَتَنْكِيرُ (رَحْمَةً) لِلتَّعْظِيمِ، أَيْ لَا يُقَادَرُ قَدْرُهَا. فَالْكِتَابُ الْمَتْلُوُّ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَا هُوَ رَحْمَةٌ لَهُمُ اشْتِمَالَ الظَّرْفِ عَلَى الْمَظْرُوفِ لِأَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى إِقَامَةِ الشَّرِيعَةِ وَهِيَ رَحْمَةٌ وَصَلَاحٌ لِلنَّاسِ فِي دُنْيَاهُمْ، فَالْقُرْآنُ مَعَ كَوْنِهِ مُعْجِزَةً دَالَّةً عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُرْشِدَةً إِلَى تَصْدِيقِهِ مِثْلَ غَيْرِهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ وَهُوَ أَيْضًا وَسِيلَةُ عِلْمٍ وَتَشْرِيعٍ وَآدَابٍ لِلْمَتْلُوِّ عَلَيْهِمْ وَبِذَلِكَ فَضَلَ غَيْرَهُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي لَا تُفِيدُ إِلَّا تَصْدِيقَ الرَّسُولِ الْآتِي بِهَا.
الْمَزِيَّةُ الرَّابِعَةُ: مَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: وَذِكْرى فَإِنَّ الْقُرْآنَ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَوَاعِظَ وَنُذُرٍ وَتَعْرِيفٍ بِعَوَاقِبِ الْأَعْمَالِ، وَإِعْدَادٍ إِلَى الْحَيَاةِ الثَّانِيَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ تَذْكِيرٌ بِمَا فِي تَذَكُّرِهِ خَيْرُ الدَّارَيْنِ، وَبِذَلِكَ فَضَلَ غَيْرَهُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الصَّامِتَةِ الَّتِي لَا تُفِيدُ أَزْيَدَ مِنْ كَوْنِ الْآتِيَةِ عَلَى يَدَيْهِ صَادِقًا.
وَفِي التَّعْبِيرِ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ دَلَالَةٌ عَلَى تَجَدُّدِ الْإِرَادَةِ وَاسْتِمْرَارِهَا، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَمْرًا قَدَّرَهُ إِذْ لَا رَادَّ لِإِرَادَتِهِ.
وَالْمَعْنَى: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لَكُنَّ مِمَّا أَمَرَكُنَّ وَنَهَاكُنَّ إِلَّا عِصْمَتَكُنَّ مِنَ النَّقَائِصِ وتَحْلِيَتَكُنَّ بِالْكَمَالَاتِ وَدَوَامَ ذَلِكَ، أَيْ لَا يُرِيدُ مِنْ ذَلِكَ مَقْتًا لَكُنَّ وَلَا نِكَايَةً. فَالْقَصْرُ قَصْرُ قَلْبٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ [الْمَائِدَة: ٦]. وَهَذَا وَجْهُ مَجِيءِ صِيغَة الْقصر ب إِنَّما. وَالْآيَةُ تَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ عَصَمَ أَزْوَاجَ نَبِيئِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ ارْتِكَابِ الْكَبَائِرِ وَزَكَّى نُفُوسَهُنَّ.
وأَهْلَ الْبَيْتِ: أَزوَاج النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْخِطَابُ مُوَجَّهٌ إِلَيْهِنَّ وَكَذَلِكَ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ لَا يُخَالِطُ أَحَدًا شَكٌّ فِي ذَلِكَ، وَلَمْ يَفْهَمْ مِنْهَا أَصْحَاب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والتابعون إِلَّا أَن أَزوَاج النبيء عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هُنَّ الْمُرَادُ بِذَلِكَ وَأَنَّ النُّزُولَ فِي شَأْنِهِنَّ.
وَأَمَّا مَا
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ عُمَرَ بن أبي سملة قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيءِ: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ دَعَا فَاطِمَةَ وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا فَجَلَّلَهُمْ بِكِسَاءٍ وَعَلِيٌّ خَلْفَ ظَهْرِهِ ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي فَأَذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا»
. وَقَالَ: هُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ عَطَاءٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ وَلَمْ يُسَمِّهِ التِّرْمِذِيُّ بِصِحَّةٍ وَلَا حُسْنٍ، وَوَسَمَهُ بِالْغَرَابَةِ.
وَفِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» عَنْ عَائِشَةَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ غَدَاةً وَعَلَيْهِ مِرْطٌ مُرَحَّلٌ فَجَاءَ الْحَسَنُ فَأَدْخَلَهُ، ثُمَّ جَاءَ الْحُسَيْنُ فَأَدْخَلَهُ، ثُمَّ جَاءَتْ فَاطِمَةُ فَأَدْخَلَهَا، ثُمَّ جَاءَ عَلِيٌّ فَأَدْخَلَهُ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً. وَهَذَا أَصْرَحُ مِنْ حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ.
فمحمله أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلْحَقَ أَهْلَ الْكِسَاءِ بِحُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ وَجَعَلَهُمْ أَهْلَ بَيْتِهِ كَمَا أَلْحَقَ الْمَدِينَةَ بِمَكَّةَ فِي حُكْمِ الْحَرَمِيَّةِ
بِقَوْلِهِ: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَإِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا»
. وَتَأَوُّلُ الْبَيْتِ عَلَى مَعْنَيَيْهِ الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ يَصْدُقُ بِبَيْتِ النَّسَبِ كَمَا يَقُولُونَ:
فِيهِمُ الْبَيْتُ وَالْعَدَدُ، وَيَكُونُ هَذَا مِنْ حَمْلِ الْقُرْآنِ عَلَى جَمِيعِ مَحَامِلِهِ غَيْرِ الْمُتَعَارِضَةِ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي الْمُقَدِّمَةِ التَّاسِعَةِ. وَكَأَنَّ حِكْمَةَ
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ حَذْفِ الْمَفْعُولِ لِإِرَادَةِ الْعُمُومِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا عَمِلَتْ أَيْدِيهِمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. وَكِلَا الْحَذْفَيْنِ شَائِعٌ.
وَفُرِّعَ عَلَيْهِ اسْتِفْهَامُ الْإِنْكَارِ لِعَدَمِ شُكْرِهِمْ بِأَنِ اتَّخَذُوا لِلَّذِي أَوْجَدَ هَذَا الصُّنْعَ الْعَجِيبَ أَنْدَادًا. وَجِيءَ بِالْمُضَارِعِ مُبَالغَة فِي إِنْكَار كُفْرِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ حَقِيقٌ بِأَنْ يُكَرَّرُوا شُكْرُهُ فَكَيْفَ يَسْتَمِرُّونَ عَلَى الْإِشْرَاك بِهِ.
[٣٦]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ٣٦]
سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (٣٦)
اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ [يس: ٣٣] وَجُمْلَةِ وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ [يس:
٣٧]، أَثَارَهُ ذِكْرُ إِحْيَاءِ الْأَرْضِ وَإِخْرَاجِ الْحَبِّ وَالشَّجَرِ مِنْهَا فَإِنَّ ذَلِكَ أَحْوَالًا وَإِبْدَاعًا عَجِيبًا يُذَكِّرُ بِتَعْظِيمِ مُودِعِ تِلْكَ الصَّنَائِعِ بِحِكْمَتِهِ وَذَلِكَ تَضَمَّنَ الِاسْتِدْلَالُ بِخَلْقِ الْأَزْوَاجِ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِدْمَاجِ. وسُبْحانَ هُنَا لِإِنْشَاءِ تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ تَنْزِيهًا عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِإِلَهِيَّتِهِ وَأَعْظَمُهُ الْإِشْرَاكُ بِهِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ هُنَا. وَإِجْرَاءُ الْمَوْصُولِ عَلَى الذَّاتِ الْعَلِيَّةِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ إِنْشَاءِ التَّنْزِيهِ وَالتَّعْظِيمِ. وَقَدْ مَضَّى الْكَلَامُ عَلَى سُبْحَانَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَغَيْرِهَا.
والْأَزْواجَ: جَمْعُ زَوْجٍ وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ مِنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مِنَ الْحَيَوَانِ، وَيُطْلَقُ
الزَّوْجُ عَلَى مَعْنَى الصِّنْفِ الْمُتَمَيِّزِ بخواصه من نوع الْمَوْجُودَاتِ تَشْبِيهًا لَهُ بِصِنْفِ الذَّكَرِ وَصِنْفِ الْأُنْثَى كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ طه [٥٣]، وَالْإِطْلَاقُ الْأَوَّلُ هُوَ الْكَثِيرُ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ الرَّاغِبِ، وَهُوَ الَّذِي يُنَاسِبُهُ نَقْلُ اللَّفْظِ مِنَ الزَّوْجِ الَّذِي يَكُونُ ثَانِيًا لِآخَرَ، فَيَجُوزُ أَن يحمل للأزواج فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ فَيَكُونَ تَذْكِيرًا بِخَلْقِ أَصْنَافِ الْحَيَوَانِ الَّذِي مِنْهُ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى، وَتَكُونَ مِنْ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ ابْتِدَائِيَّةً مُتَعَلِّقَةً بِفِعْلِ خَلَقَ.
وَأَمَّا جُمْلَةُ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ فَقَدِ اقْتَضَاهَا أَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي اعْتَرَضَتْ بَعْدَهُ الْجُمْلَتَانِ اقْتَضَى فَرِيقَيْنِ: فَرِيقًا مُتَمَسِّكًا بِاللَّهِ الْقَادِرِ عَلَى النَّفْعِ وَالضَّرِّ وَهُوَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنُونَ، وَآخَرُ مُسْتَمْسِكًا بِالْأَصْنَامِ الْعَاجِزَةِ عَنِ الْأَمْرَيْنِ، فَلَمَّا بَيَّنَ أَنَّ ضَلَالَ الْفَرِيقِ الثَّانِي ضَلَالٌ مَكِينٌ بِبَيَانِ أَنَّ هُدَى الْفَرِيقِ الْآخَرِ رَاسِخٌ مَتِينٌ فَلَا مَطْمَعَ لِلْفَرِيقِ الضَّالِّ بِأَنْ يَجُرُّوا الْمُهْتَدِينَ إِلَى ضَلَالِهِمْ.
أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ.
تَعْلِيلٌ لِإِنْكَارِ انْتِفَاءِ كِفَايَةِ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ كَإِنْكَارِ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ، فَلِذَلِكَ فُصِلَتِ الْجُمْلَةُ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا.
وَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيٌّ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِعِزَّةِ اللَّهِ مُتَقَرِّرٌ فِي النُّفُوسِ لِاعْتِرَافِ الْكُلِّ بِإِلَهِيَّتِهِ وَالْإِلَهِيَّةُ تَقْتَضِي الْعِزَّةَ، وَلِأَنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّهُ مُنْتَقِمٌ مُتَقَرِّرٌ مِنْ مُشَاهَدَةِ آثَارِ أَخْذِهِ لِبَعْضِ الْأُمَمِ مِثْلَ عَادٍ وَثَمُودَ. فَإِذَا كَانُوا يُقِرُّونَ لِلَّهِ بِالْوَصْفَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فَمَا عَلَيْهِمْ إِلَّا أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ كَافٍ عَبْدَهُ بِعِزَّتِهِ فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى إِصَابَةِ عَبْدِهِ بِسُوءٍ، وَبِانْتِقَامِهِ مِنَ الَّذِينَ يَبْتَغُونَ لِعَبْدِهِ الْأَذَى.
والعزيز: صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْعِزِّ، وَهُوَ مَنَعَةُ الْجَانِبِ وَأَنْ لَا يَنَالَهُ الْمُتَسَلِّطُ وَهُوَ ضِدُّ الذُّلِّ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٠٩].
والانتقام: الْمُكَافَأَةُ عَلَى الشَّرِّ بِشَرٍّ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ النَّقْمِ وَهُوَ الْغَضَبُ كَأَنَّهُ مُطَاوِعُهُ لِأَنَّهُ مُسَبَّبٌ عَنِ النَّقْمِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٣٦]. وَانْظُرْ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ
وَمُتَعَلِّقُ فِعْلِ أَعْرَضَ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَعْرَضَ عَنْ دُعَائِنَا.
وَالنَّأْيُ: الْبُعْدُ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِعَدَمِ التَّفَكُّرِ فِي الْمُنْعِمِ عَلَيْهِ، فَشَبَّهَ عَدَمَ اشْتِغَالِهِ بِذَلِكَ بِالْبُعْدِ. وَالْجَانِبُ لِلْإِنْسَانِ: مُنْتَهَى جِسْمِهِ مِنْ إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ اللَّتَيْنِ لَيْسَتَا قُبَالَةَ وَجْهِهِ وَظَهْرِهِ، وَيُسَمَّى الشِّقَّ، وَالْعِطْفَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ. وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ. وَالْمَعْنَى: أَبْعَدَ جَانِبَهُ، كِنَايَةً عَنْ إِبْعَادِ نَفْسِهِ، أَيْ وَلَّى مُعْرِضًا غَيْرَ مُلْتَفِتٍ بِوَجْهِهِ إِلَى الشَّيْءِ الَّذِي ابْتَعَدَ هُوَ عَنْهُ.
وَمَعْنَى مَسَّهُ الشَّرُّ أَصَابَهُ شَرٌّ بِسَبَبٍ عَادِيٍّ. وَعَدَلَ عَنْ إِسْنَادِ إِصَابَةِ الشَّرِّ إِلَى اللَّهِ تَعْلِيمًا لِلْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [الشُّعَرَاء: ٧٨] إِلَخْ. ثُمَّ قَالَ: وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشُّعَرَاء: ٨٠] فَلَمْ يَقُلْ: وَإِذَا أَمْرَضَنِي، وَفِي ذَلِكَ سِرٌّ وَهُوَ أَنَّ النِّعَمَ وَالْخَيْرَ مُسَخَّرَانِ لِلْإِنْسَانِ فِي أَصْلِ وَضْعِ خِلْقَتِهِ فَهُمَا الْغَالِبَانِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُمَا مِنْ مَظَاهِرِ نَامُوسِ بَقَاءِ النَّوْعِ. وَأَمَّا الشُّرُورُ وَالْأَضْرَارُ فَإِنَّ مُعْظَمَهَا يَنْجَرُّ إِلَى الْإِنْسَانِ بِسُوءِ تَصَرُّفِهِ وَبِتَعَرُّضِهِ إِلَى مَا حَذَّرَتْهُ مِنْهُ الشَّرَائِعُ وَالْحُكَمَاءُ الْمُلْهَمُونَ فَقَلَّمَا يَقَعُ فِيهِمَا الْإِنْسَان إِلَّا بِعِلْمِهِ وَجُرْأَتِهِ.
وَالدُّعَاءُ: الدُّعَاءُ لِلَّهِ بِكَشْفِ الشَّرِّ عَنْهُ. وَوَصْفُهُ بِالْعَرِيضِ اسْتِعَارَةٌ لِأَنَّ الْعَرْضَ- بِفَتْحِ الْعَيْنِ- ضِدُّ الطُّولِ، وَالشَّيْءُ الْعَرِيضُ هُوَ الْمُتَّسِعُ مِسَاحَةَ الْعَرْضِ، فَشَبَّهَ الدُّعَاءَ الْمُتَكَرِّرَ الْمُلِحَّ فِيهِ بِالثَّوْبِ أَوِ الْمَكَانِ الْعَرِيضِ. وَعَدَلَ عَنْ أَنْ يُقَالَ: فداع، إِلَى فَذُو دُعاءٍ لِمَا تُشْعِرُ بِهِ كَلِمَةُ ذُو مِنْ مُلَازَمَةِ الدُّعَاءِ لَهُ وَتَمَلُّكِهِ مِنْهُ.
وَالدُّعَاءُ إِلَى اللَّهِ مِنْ شِيَمِ الْمُؤْمِنِينَ وَهُمْ مُتَفَاوِتُونَ فِي الْإِكْثَارِ مِنْهُ وَالْإِقْلَالِ عَلَى تَفَاوُتِ مُلَاحَظَةِ الْحَقَائِقِ الْإِلَهِيَّةِ. وَتَوَجُّهُ الْمُشْرِكِينَ إِلَى اللَّهِ بِالدُّعَاءِ هُوَ أَقْوَالٌ تَجْرِي عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ تَوَارَثُوهَا مِنْ عَادَاتٍ سَالِفَةٍ مِنْ أَزْمَانِ تَدَيُّنِهِمْ بِالْحَنِيفِيَّةِ قَبْلَ أَنْ تَدْخُلَ عَلَيْهِمْ عِبَادَةُ الْأَصْنَامِ وَتَتَأَصَّلَ فِيهِمْ فَإِذَا دَعَوُا اللَّهَ غَفَلُوا عَنْ مُنَافَاةِ أَقْوَالِهِمْ لعقائد شركهم.
الْمِلْكِ إِلَى الَّذِي هُوَ مَظِنَّةٌ لِلدَّفْعِ عَنْ مَدْخُولِ اللَّامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِفِعْلِ الْمِلْكِ كَقَوْلِه تَعَالَى: قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا [الْأَعْرَاف: ١٨٨] وَقَوْلِهِ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [الممتحنة: ٤]، أَوْ أَنْ يُسْنَدَ إِلَى عَامٍّ نَحْوُ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِسْنَادُ فَعْلِ الْمِلْكِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى الْمُخَاطِبِينَ وَهُمْ أَعدَاء النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسُوا بِمَظِنَّةِ أَنْ يَدْفَعُوا عَنْهُ، لِأَنَّهُمْ نَصَّبُوا أَنْفُسَهُمْ فِي مَنْصِبِ الْحَكَمِ على النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَزَمُوا بِأَنَّهُ افْتَرَى الْقُرْآنَ فَحَالُهُمْ حَالُ مَنْ يزْعم أَن يَسْتَطِيعُ أَنْ يَرُدَّ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى طَرِيقَةِ التَّهَكُّمِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ وَجْهَ الْمُلَازِمَةِ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ فِي قَوْلِهِ: إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أَنَّ اللَّهَ لَا يُقِرُّ أَحَدًا عَلَى أَنْ يُبَلِّغَ إِلَى النَّاسِ شَيْئًا عَنِ اللَّهِ لَمْ يَأْمُرْهُ بِتَبْلِيغِهِ، وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى هَذَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ [الحاقة: ٤٤- ٤٧]. وَلَعَلَّ حِكْمَةَ ذَلِكَ أَنَّ التَّقَوُّلَ عَلَى اللَّهِ يُفْضِي إِلَى فَسَادٍ عَظِيمٍ يَخْتَلُّ بِهِ نِظَامُ الْخَلْقِ، وَاللَّهُ يَغَارُ عَلَى مَخْلُوقَاتِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ كَغَيْرِهِ مِنَ الْمَعَاصِي الَّتِي تَجْلِبُهَا الْمَظَالِمُ وَالْعَبَثُ فِي الْأَرْضِ لِأَنَّ ذَلِكَ إِقْدَامٌ عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومُ الْفَسَادِ لَا يَخْفَى عَلَى النَّاسِ فَهُمْ يَدْفَعُونَهُ بِمَا يَسْتَطِيعُونَ مِنْ حَوْلٍ وَقُوَّةٍ، أَوْ حِيلَةٍ وَمُصَانَعَةٍ. وَأَمَّا التَّقَوُّلُ عَلَى اللَّهِ فَيُوقِعُ النَّاسَ فِي حَيْرَةٍ بِمَاذَا يَتَلَقَّوْنَهُ فَلِذَلِكَ لَا يُقِرُّهُ اللَّهُ وَيُزِيلُهُ.
وَجُمْلَةُ هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً لِأَنَّ جُمْلَةَ فَلا تَمْلِكُونَ لِي تَشْتَمِلُ عَلَى مَعْنَى أَنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى أَنْ يَفْتَرِيَ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ أَعْلَمُ مِنْهُمْ بِحَالِ مَنْ يُخْبِرُ عَنِ اللَّهِ بِأَنَّهُ أَرْسَلَهُ وَمَا يُبَلِّغُهُ عَنِ اللَّهِ.
وَذَلِكَ هُوَ مَا يَخُوضُونَ فِيهِ مِنَ الطَّعْنِ وَالْقَدْحِ وَالْوَصْفِ بِالسِّحْرِ أَوْ بِالِافْتِرَاءِ أَو بالجنون، فَمَا صدق (مَا) الْمَوْصُولَةِ الْقُرْآنُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ الظَّاهِرُ فِي افْتَراهُ أَو الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي افْتَراهُ أَوْ مَجْمُوعُ أَحْوَال الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا
مُخْتَلَفُ خَوْضِهِمْ. وَمُتَعَلِّقُ اسْمِ التَّفْضِيلِ مَحْذُوفٌ، أَيْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكُمْ. وَالْإِفَاضَةُ فِي الْحَدِيثِ: الْخَوْضُ فِيهِ وَالْإِكْثَارُ مِنْهُ وَهِيَ مَنْقُولَةٌ مِنْ: فَاضَ الْمَاءُ إِذَا سَالَ. وَمِنْهُ حَدِيثٌ مُسْتَفِيضٌ مُشْتَهِرٌ شَائِعٌ، وَالْمَعْنَى: هُوَ أَعْلَمُ بِحَالِ مَا تُفِيضُونَ فِيهِ.
وَأَخَّرَ الْكَلَامَ عَلَى قَوْمِ نُوحٍ لِمَا عُرِضَ مِنْ تَجَاذُبِ الْمُنَاسَبَاتِ فِيمَا أُورِدَ مِنْ آيَاتِ الْعَذَابِ لِلْأُمَمِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا بِمَا عَلِمْتَهُ سَابِقًا. وَلِذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ: مِنْ قَبْلُ تَنْبِيهًا عَلَى وَجْهِ مُخَالَفَةِ عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي تَرْتِيبِ حِكَايَةِ أَحْوَالِ الْأُمَمِ عَلَى حَسَبِ تَرْتِيبِهِمْ فِي الْوُجُودِ.
وَقَدْ أَوْمَأَ قَوْلُهُ: مِنْ قَبْلُ إِلَى هَذَا وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولى وَثَمُودَ فَما أَبْقى وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى [النَّجْم: ٥٠- ٥٢].
[٤٧]
[سُورَة الذاريات (٥١) : آيَة ٤٧]
وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (٤٧)
لَمَّا كَانَتْ شُبْهَةُ نُفَاةِ الْبَعْثِ قَائِمَةً عَلَى تَوَهُّمِ اسْتِحَالَةِ إِعَادَةِ الْأَجْسَامِ بعد فنائها أعقب تَهْدِيدَهُمْ بِمَا يُقَوِّضُ تَوَهُّمَهُمْ فَوُجِّهَ إِلَيْهِ الْخِطَابُ يُذَكِّرُهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ أَعْظَمَ الْمَخْلُوقَاتِ
وَلَمْ تَكُنْ شَيْئًا فَلَا تُعَدُّ إِعَادَةُ الْأَشْيَاءِ الْفَانِيَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا إِلَّا شَيْئًا يَسِيرًا كَمَا قَالَ تَعَالَى:
لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [غَافِر: ٥٧].
وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ وَالْجُمَلُ الْمَعْطُوفَةُ عَلَيْهَا إِلَى قَوْلِهِ: إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ [الذاريات:
٥١] مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ [الذاريات: ٤٦] إِلَخْ وَجُمْلَةِ كَذلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ [الذاريات: ٥٢] الْآيَةَ.
وَابْتُدِئَ بِخَلْقِ السَّمَاءِ لِأَنَّ السَّمَاءَ أَعْظَمُ مَخْلُوقٍ يُشَاهِدُهُ النَّاسُ، وَعُطِفَ عَلَيْهِ خَلْقُ الْأَرْضِ عَطْفَ الشَّيْءِ عَلَى مُخَالِفِهِ لِاقْتِرَانِ الْمُتَخَالِفِينَ فِي الْجَامِعِ الْخَيَالِيِّ. وَعُطِفَ عَلَيْهَا خَلْقُ أَجْنَاسِ الْحَيَوَانِ لِأَنَّهَا قَرِيبَةٌ لِلْأَنْظَارِ لَا يُكَلِّفُ النَّظَرُ فِيهَا وَالتَّدَبُّرُ فِي أَحْوَالِهَا مَا يُرْهِقُ الْأَذْهَانَ.
وَاسْتُعِيرَ لِخَلْقِ السَّمَاءِ فعل الْبناء لِأَنَّهُ مَنْظَرَ السَّمَاءِ فِيمَا يَبْدُو لِلْأَنْظَارِ شَبِيهٌ بِالْقُبَّةِ وَنَصْبُ الْقُبَّةِ يُدْعَى بِنَاءً.
وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ بِأَثَرِ الْخَلْقِ الَّذِي عَايَنُوا أَثَرَهُ وَلَمْ يَشْهَدُوا كَيْفِيَّتَهُ، لِأَن أَثَره ينبىء عَنْ عَظِيمِ كَيْفِيَّتِهِ، وَأَنَّهَا أَعْظَمُ مِمَّا يُتَصَوَّرُ فِي كَيْفِيَّةِ إِعَادَةِ الْأَجْسَامِ الْبَالِيَةِ.
الذَّرِيعَةِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ نَسِيرَ وَرَاءَ مَا أَضَاءَ لَنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ.
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي «الْمُدَوَّنَةِ» : لَا يُقَبِّلُ الْمُظَاهِرُ وَلَا يُبَاشِرُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَى صَدْرٍ وَلَا إِلَى شَعْرٍ. قَالَ الْبَاجِيُّ فِي «الْمُنْتَقَى» : فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ حَمَلَ ذَلِكَ عَلَى التَّحْرِيمِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حمله على الْكَرَاهَة لِئَلَّا يَدْعُوهُ إِلَى الْجِمَاعِ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَعَبْدُ الْمَلِكِ.
قُلْتُ: وَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ لِأَنَّ الْقُرْآنَ ذَكَرَ الْمَسِيسَ وَهُوَ حَقِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ فِي الْجِمَاعِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَو تظاهر من أَرْبَعِ نِسْوَةٍ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ إِلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ عِنْدَ مَالِكٍ قَوْلًا وَاحِدًا. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِمَا.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ إِبْطَالُ تَحْرِيمِ الْمَرْأَةِ الَّتِي يُظَاهِرُ مِنْهَا زَوْجُهَا. وَتَحْمِيقُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّذِينَ جَعَلُوا الظِّهَارَ مُحَرِّمًا عَلَى الْمُظَاهِرِ زَوْجَهُ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا.
وَجَعَلَ اللَّهُ الْكَفَّارَةَ فِدْيَةً لِذَلِكَ وَزَجْرًا لِيَكُفَّ النَّاسُ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ.
وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى
قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَالَ لصَاحبه: تَعَالَى أُقَامِرْكَ فَلْيَتَصَدَّقْ»
أَيْ مَنْ جَرَى ذَلِكَ عَلَى لِسَانِهِ بَعْدَ أَنْ حَرَّمَ الله الميسر.
[٣]
[سُورَة المجادلة (٥٨) : آيَة ٣]
وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٣)
عَطَفَ عَلَى جُمْلَةِ الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ [المجادلة: ٢] أُعِيدَ الْمُبْتَدَأُ فِيهَا لِلِاهْتِمَامِ بِالْحُكْمِ وَالتَّصْرِيحُ بِأَصْحَابِهِ وَكَانَ مُقْتَضَى الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ: فَإِنْ يَعُودُوا لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ، فَيَكُونُ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ الْخَبَرِ مِنْ قَوْلِهِ: مَا هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ [المجادلة: ٢].
وثُمَّ عَاطِفَةُ جُمْلَةِ يَعُودُونَ عَلَى جُمْلَةِ يُظاهِرُونَ، وَهِيَ لِلتَّرَاخِي الرُّتَبِيِّ تَعْرِيضًا بِالتَّخْطِئَةِ لِهُمْ بِأَنَّهُمْ عَادُوا إِلَى مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بَعْدَ أَنِ
وَهَذَا مُخْتَارُ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَمَبْنَاهُ عَلَى أَنَّ تَعْلِيقَ أَفْعَالِ الْعِلْمِ عَنِ الْعَمَلِ لَا يَسْتَقِيمُ إِلَّا إِذَا لَمْ يُذْكَرْ لِلْفِعْلِ مَفْعُولٌ فَإِذَا ذُكِرَ مَفْعُولٌ لَمْ يَصِحَّ تَعْلِيقُ الْفِعْلِ عَنِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي، وَحَاصِلُهُ: أَنَّ التَّقْدِيرَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ يُقَالُ فِي حَقِّهِمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا [مَرْيَم: ٦٩] أَيْ: لِنَنْزِعَنَّ الَّذِينَ يُقَالُ فِيهِمْ: أَيُّهُمْ أَشَدُّ.
وَجَوَّزَ صَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: لِيُعْلَمَ جَوَابُ سُؤَالِ سَائِلٍ: أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا.
قُلْتُ: وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ جُمْلَةَ: أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا مُسْتَأْنَفَةً وَتَجْعَلَ الْوَقْفَ عَلَى قَوْلِهِ: لِيَبْلُوَكُمْ وَيَكُونُ الِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلًا فِي التَّحْضِيضِ عَلَى حُسْنِ الْعَمَلِ كَمَا هُوَ فِي قَوْلِ طَرَفَةَ:
إِذَا الْقَوْمُ قَالُوا مَنْ فَتًى خِلْتُ أَنَّنِي | عُنِيتُ فَلَمْ أَكْسُلْ وَلَمْ أَتَبَلَّدْ |
وأَحْسَنُ تَفْضِيلٌ، أَيْ أَحْسَنُ عَمَلًا مِنْ غَيْرِهِ، فَالْأَعْمَالُ الْحَسَنَةُ مُتَفَاوِتَةٌ فِي الْحُسْنِ إِلَى أَدْنَاهَا، فَأَمَّا الْأَعْمَالُ السَّيِّئَةُ فَإِنَّهَا مَفْهُومَةٌ بِدَلَالَةِ الْفَحْوَى لِأَنَّ الْبَلْوَى فِي أَحْسَنِ الْأَعْمَالِ تَقْتَضِي الْبَلْوَى فِي السَّيِّئَاتِ بِالْأَوْلَى لِأَنَّ إِحْصَاءَهَا وَالْإِحَاطَةَ بِهَا أَوْلَى فِي الْجَزَاءِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْاجْتِرَاءِ عَلَى الشَّارِعِ، وَمِنَ الْفَسَادِ فِي النَّفْسِ، وَفِي نِظَامِ الْعَالَمِ، وَذَلِكَ أَوْلَى بِالْعِقَابِ عَلَيْهِ فَفِي قَوْلِهِ: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا إِيجَازٌ.
وَجُمْلَةُ: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا إِشَارَة إِلَى أَن صِفَاتِهِ تَعَالَى تَقْتَضِي تَعَلُّقًا بِمُتَعَلَّقَاتِهَا لِئَلَّا تَكُونَ مُعَطَّلَةً فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمَانِ فَيُفْضِي ذَلِكَ إِلَى نَقَائِضِهَا، فَأَمَّا الْعَزِيزُ فَهُوَ الْغَالِبُ الَّذِي لَا يَعْجَزُ عَنْ شَيْءٍ، وَذِكْرُهُ مُنَاسِبٌ لِلْجَزَاءِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِ: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، أَيْ لِيَجْزِيَكُمْ جَزَاءَ الْعَزِيزِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ الْجَزَاءُ عَلَى الْمُخَالَفَاتِ وَالنُّكُولِ عَنِ الطَّاعَةِ. وَهَذَا
حَظُّ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ شَمِلَهُمْ ضَمِيرُ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ لِيَبْلُوَكُمْ.
عَلَى قَدْرِ اتِّسَاعِ دَائِرَتِهَا. وَالْإِخْبَارُ عَنِ الْجِبَالِ بِأَنَّهَا أَوْتَادٌ عَلَى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ أَيْ كَالْأَوْتَادِ.
وَمُنَاسَبَةُ ذِكْرِ الْجِبَالِ دَعَا إِلَيْهَا ذِكْرُ الْأَرْضِ وَتَشْبِيهُهَا بِالْمِهَادِ الَّذِي يَكُونُ دَاخِلَ الْبَيْتِ فَلَمَّا كَانَ الْبَيْتُ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَخْطُرَ بِبَالِ السَّامِعِ مِنْ ذِكْرِ الْمِهَادِ كَانَتِ الْأَرْضُ مُشَبَّهَةً بِالْبَيْتِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَكْنِيَّةِ فَشُبِّهَتْ جِبَالُ الْأَرْضِ بِأَوْتَادِ الْبَيْتِ تَخْيِيلًا لِلْأَرْضِ مَعَ جِبَالِهَا بِالْبَيْتِ وَمِهَادِهِ وَأَوْتَادِهِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ كَثْرَةَ الْجِبَالِ النَّاتِئَةِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ قَدْ يَخْطُرُ فِي الْأَذْهَانِ أَنَّهَا لَا تُنَاسِبُ جَعْلَ الْأَرْضِ مِهَادًا فَكَانَ تَشْبِيهُ الْجِبَالِ بِالْأَوْتَادِ مُسْتَمْلَحًا بِمَنْزِلَةِ حُسْنِ الِاعْتِذَارِ، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجِبَالُ مُشَبَّهَةً بِالْأَوْتَادِ فِي مُجَرَّدِ الصُّورَةِ مَعَ هَذَا التَّخْيِيلِ كَقَوْلِهِمْ: رَأَيْتُ أُسُودًا غَابُهَا الرِّمَاحُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجِبَالُ مُشَبَّهَةً بِأَوْتَادِ الْخَيْمَةِ فِي أَنَّهَا تَشُدُّ الْخَيْمَةَ مِنْ أَنْ تَقْلَعَهَا الرِّيَاحُ أَوْ تُزَلْزِلَهَا بِأَنْ يَكُونَ فِي خَلْقِ الْجِبَالِ لِلْأَرْضِ حِكْمَةٌ لِتَعْدِيلِ سَبْحِ الْأَرْضِ فِي الْكُرَةِ الْهَوَائِيَّةِ إِذْ نُتُوُّ الْجِبَالِ عَلَى الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ يَجْعَلُهَا تَكْسِرُ تَيَّارَ الْكُرَةِ الْهَوَائِيَّةِ الْمُحِيطَةِ بِالْأَرْضِ فَيَعْتَدِلُ تَيَّارُهُ حَتَّى تَكُونَ حَرَكَةُ الْأَرْضِ فِي كُرَةِ الْهَوَاءِ غَيْرَ سَرِيعَةٍ.
عَلَى أَنَّ غَالِبَ سُكَّانِ الْأَرْضِ وَخَاصَّةً الْعَرَبُ لَهُمْ مَنَافِعُ جَمَّةٌ فِي الْجِبَالِ فَمِنْهَا مَسَايِلُ الْأَوْدِيَةِ، وَقَرَارَاتُ الْمِيَاهِ فِي سُفُوحِهَا، وَمَرَاعِي أَنْعَامِهِمْ، وَمُسْتَعْصَمُهُمْ فِي الْخَوْفِ، وَمَرَاقِبُ الطُّرُقِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى دِيَارِهِمْ إِذَا طَرَقَهَا الْعَدُوُّ. وَلِذَلِكَ كَثُرَ ذِكْرُ الْجِبَالِ مَعَ ذِكْرِ الْأَرْضِ.
فَكَانَتْ جُمْلَةُ وَالْجِبالَ أَوْتاداً إذماجا مُعْتَرِضًا بَيْنَ جُمْلَةِ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً [النبأ: ٦] وَجُمْلَةِ وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً [النبأ: ٨].
[٨]
[سُورَة النبإ (٧٨) : آيَة ٨]
وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (٨)
مَعْطُوفٌ عَلَى التَّقْرِيرِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً [النبأ: ٦]. وَالتَّقْدِير:
وأخلقناكم أَزْوَاجًا، فَكَانَ التَّقْرِيرُ هُنَا عَلَى أَصْلِهِ إِذِ الْمُقَرَّرُ عَلَيْهِ هُوَ وُقُوعُ الْخَلْقِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ أَزْوَاجًا.