وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ الْإِشْكَالُ عَنْ حَمْدِنَا اللَّهَ تَعَالَى عَلَى صِفَاتِهِ الذَّاتِيَّةِ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ دُونَ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ وَإِنْ كَانَ انْدِفَاعُهُ عَلَى اخْتِيَارِ الْجُمْهُورِ أَيْضًا ظَاهِرًا فَإِنَّ مَا وَرَدَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَنَّ مَذْهَبَهُمْ يَسْتَلْزِمُ أَنْ لَا يُحْمَدَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى صِفَاتِهِ لِأَنَّهَا ذَاتِيَّةٌ فَلَا تُوصَفُ بِالِاخْتِيَارِ إِذِ الِاخْتِيَارُ يَسْتَلْزِمُ إِمْكَانَ الِاتِّصَافِ، وَقَدْ أَجَابُوا عَنْهُ إِمَّا بِأَنَّ تِلْكَ الصِّفَاتِ الْعَلِيَّةَ نَزَلَتْ مَنْزِلَةَ الِاخْتِيَارِيَّةِ لِاسْتِقْلَالِ مَوْصُوفِهَا، وَإِمَّا بِأَنْ تَرَتُّبَ الْآثَارِ الِاخْتِيَارِيَّةِ عَلَيْهَا يَجْعَلُهَا كَالِاخْتِيَارِيَّةِ، وَإِمَّا بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالِاخْتِيَارِيَّةِ أَنْ يَكُونَ الْمَحْمُودُ فَاعِلًا بِالِاخْتِيَارِ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَحْمُودُ عَلَيْهِ
اخْتِيَارِيًّا.
وَعِنْدِي أَنَّ الْجَوَابَ أَنْ نَقُولَ إِنَّ شَرْطَ الِاخْتِيَارِيِّ فِي حَقِيقَةِ الْحَمْدِ عِنْدَ مُثْبِتِهِ لِإِخْرَاجِ الصِّفَاتِ غَيْرِ الِاخْتِيَارِيَّةِ لِأَنَّ غَيْرَ الِاخْتِيَارِيِّ فِينَا لَيْسَ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ إِذْ لَا تَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْآثَارُ الْمُوجِبَةُ لِلْحَمْدِ، فَكَانَ شَرْطُ الِاخْتِيَارِ فِي حَمْدِنَا زِيَادَةً فِي تَحَقُّقِ كَمَالِ الْمَحْمُودِ، أَمَّا عَدَمُ الِاخْتِيَارِ الْمُخْتَصِّ بِالصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ الْإِلَهِيَّةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ عِبَارَةً عَنْ نَقْصٍ فِي صِفَاتِهِ وَلَكِنَّهُ كَمَالٌ نَشَأَ مِنْ وُجُوبِ الصِّفَةِ لِلذَّاتِ لِقِدَمِ الصِّفَةِ فَعَدَمُ الِاخْتِيَارِ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى زِيَادَةٌ فِي الْكَمَالِ لِأَنَّ أَمْثَالَ تِلْكَ الصِّفَاتِ فِينَا لَا تَكُونُ وَاجِبَةً لِلذَّاتِ مُلَازِمَةً لَهَا فَكَانَ عَدَمُ الِاخْتِيَارِ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى دَلِيلًا عَلَى زِيَادَةِ الْكَمَالِ وَفِينَا دَلِيلًا عَلَى النَّقْصِ، وَمَا كَانَ نَقْصًا فِينَا بِاعْتِبَارِ مَا قَدْ يَكُونُ كَمَالًا لِلَّهِ تَعَالَى بِاعْتِبَارٍ آخَرَ مِثْلَ عَدَمِ الْوَلَدِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْأَجْوِبَةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى التَّنْزِيلِ إِمَّا بِاعْتِبَارِ الصِّفَةِ أَوْ بِاعْتِبَارِ الْمَوْصُوفِ، عَلَى أَنَّ تَوْجِيهَ الثَّنَاءِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَادَّةِ (حَمِدَ) هُوَ أَقْصَى مَا تُسَمَّى بِهِ اللُّغَةُ الْمَوْضُوعَةُ لِأَدَاءِ الْمَعَانِي الْمُتَعَارَفَةِ لَدَى أَهْلِ تِلْكَ اللُّغَةِ، فَلَمَّا طَرَأَتْ عَلَيْهِمُ الْمَدَارِكُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْحَقَائِقِ الْعَالِيَةِ عَبَّرَ لَهُمْ عَنْهَا بِأَقْصَى مَا يُقَرِّبُهَا مِنْ كَلَامِهِمْ.
(الْحَمْدُ) مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ فِي جَمِيعِ الْقِرَاءَاتِ الْمَرْوِيَّةِ وَقَوْلُهُ (لِلَّهِ) خَبَرُهُ فَلَامُ (لِلَّهِ) مُتَعَلِّقٌ بِالْكَوْنِ وَالِاسْتِقْرَارِ الْعَامِّ كَسَائِرِ الْمَجْرُورَاتِ الْمُخْبَرِ بِهَا وَهُوَ هُنَا مِنَ الْمَصَادِرِ الَّتِي أَتَتْ بَدَلًا عَنْ أَفْعَالِهَا فِي مَعْنَى الْإِخْبَارِ، فَأَصْلُهُ النَّصْبُ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ عَلَى أَنَّهُ بُدِّلَ مِنْ فِعْلِهِ وَتَقْدِيرِ الْكَلَامِ نَحْمَدُ حَمْدًا لِلَّهِ، فَلِذَلِكَ الْتَزَمُوا حَذْفَ أَفْعَالِهَا مَعَهَا. قَالَ سِيبَوَيْهِ هَذَا بَابُ مَا يُنْصَبُ مِنَ الْمَصَادِرِ عَلَى إِضْمَارِ الْفِعْلِ غَيْرِ الْمُسْتَعْمَلِ إِظْهَارُهُ وَذَلِكَ قَوْلُكُ سَقْيًا وَرَعْيًا وَخَيْبَةً وَبُؤْسًا، وَالْحَذَرَ بَدَلًا عَنِ احْذَرْ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى مُتَعَلِّقٍ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ سَقْيًا لَكَ نَحْوَ:
سَقْيًا وَرَعْيًا لِذَاكَ الْعَاتِبِ الزَّارِي
فَإِنَّمَا هُوَ لِيُبَيِّنُوا الْمَعْنَى بِالدُّعَاءِ. ثُمَّ قَالَ بَعْدَ أَبْوَابٍ: هَذَا بَابُ مَا يَنْتَصِبُ عَلَى إِضْمَارِ الْفِعْلِ الْمَتْرُوكِ إِظْهَارُهُ مِنَ الْمَصَادِرِ فِي غَيْرِ الدُّعَاءِ، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُكُ حَمْدًا
فَالْمَأْمُورُ بِهِ صَوْمٌ مَعْرُوفٌ زِيدَتْ فِي كَيْفِيَّتِهِ الْمُعْتَبَرَةِ شَرْعًا قُيُودُ تَحْدِيدِ أَحْوَالِهِ وَأَوْقَاتِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ إِلَى قَوْلِهِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [الْبَقَرَة: ١٨٧]- وَقَوْلِهِ- شَهْرُ رَمَضانَ [الْبَقَرَة: ١٨٥] الْآيَةِ، وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [الْبَقَرَة:
١٨٥] وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ فِي قَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ إِجْمَالًا وَقَعَ تَفْصِيلُهُ فِي الْآيَاتِ بَعْدَهُ.
فَحَصَلَ فِي صِيَامِ الْإِسْلَامِ مَا يُخَالِفُ صِيَامَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي قُيُودِ مَاهِيَّةِ الصِّيَامِ وَكَيْفِيَّتِهَا، وَلَمْ يَكُنْ صِيَامُنَا مُمَاثِلًا لِصِيَامِهِمْ تَمَامَ الْمُمَاثَلَةِ. فَقَوْلُهُ: كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ تَشْبِيهٌ فِي أَصْلِ فَرْضِ مَاهِيَّة الصَّوْم لَا فِي الْكَيْفِيَّاتِ، وَالتَّشْبِيهُ يُكْتَفَى فِيهِ بِبَعْضِ وُجُوهِ الْمُشَابَهَةِ وَهُوَ وَجْهُ الشَّبَهِ الْمُرَادُ فِي الْقَصْدِ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا التَّشْبِيهِ الْحَوَالَةَ فِي صِفَةِ الصَّوْمِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْأُمَمِ السَّابِقَة، وَلَكِن فيهم أَغْرَاضًا ثَلَاثَةً تَضَمَّنَهَا التَّشْبِيهُ:
أَحَدُهَا الِاهْتِمَامُ بِهَذِهِ الْعِبَادَةِ، وَالتَّنْوِيهُ بِهَا لِأَنَّهَا شَرَعَهَا اللَّهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ لِمَنْ كَانُوا
قَبْلَ الْمُسْلِمِينَ، وَشَرَعَهَا لِلْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي اطِّرَادَ صَلَاحِهَا وَوَفْرَةَ ثَوَابِهَا. وَإِنْهَاضَ هِمَمِ الْمُسْلِمِينَ لِتَلَقِّي هَذِه الْعِبَادَة كي لَا يَتَمَيَّزَ بِهَا مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ. إِنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَتَنَافَسُونَ فِي الْعِبَادَاتِ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالْأُجُورِ يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أَمْوَالِهِمُ» الْحَدِيثَ وَيُحِبُّونَ التَّفْضِيلَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَقَطْعَ تَفَاخُرِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ شَرِيعَةٍ قَالَ تَعَالَى: أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ [الْأَنْعَام: ١٥٦، ١٥٧]. فَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ يَغْتَبِطُونَ أَمْرَ الصَّوْمِ وَقَدْ كَانَ صَوْمُهُمُ الَّذِي صَامُوهُ وَهُوَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ إِنَّمَا اقْتَدَوْا فِيهِ بِالْيَهُودِ، فَهُمْ فِي تَرَقُّبٍ إِلَى تَخْصِيصِهِمْ مِنَ اللَّهِ بِصَوْمٍ أُنُفٍ، فَهَذِهِ فَائِدَةُ التَّشْبِيهِ لِأَهْلِ الْهِمَمِ من الْمُسلمين إِذا أَلْحَقَهُمُ اللَّهُ بِصَالِحِ الْأُمَمِ فِي الشَّرَائِعِ الْعَائِدَةِ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ قَالَ تَعَالَى: وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ [المطففين: ٢٦].
وَالْغَرَضُ الثَّانِي أَنَّ فِي التَّشْبِيهِ بِالسَّابِقِينَ تَهْوِينًا عَلَى الْمُكَلَّفِينَ بِهَذِهِ الْعِبَادَةِ أَنْ يَسْتَثْقِلُوا
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: أَنَّ الْمُحْكَمَ مَا لَمْ يُنْسَخْ وَالْمُتَشَابِهَ الْمَنْسُوخُ وَهَذَا بَعِيدٌ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا هُنَا لِعَدَمِ مُنَاسَبَتِهِ لِلْوَصْفَيْنِ وَلَا لِبَقِيَّةِ الْآيَةِ.
وَعَنِ الْأَصَمِّ: الْمُحْكَمُ مَا اتَّضَحَ دَلِيلُهُ، وَالْمُتَشَابِهُ مَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّدَبُّرِ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ [الزخرف:
١١] فَأَوَّلُهَا مُحْكَمٌ وَآخِرُهَا مُتَشَابِهٌ.
وَلِلْجُمْهُورِ مَذْهَبَانِ: أَوَّلُهُمَا أَنَّ الْمُحْكَمَ مَا اتَّضَحَتْ دَلَالَتُهُ، وَالْمُتَشَابِهَ مَا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، وَنُسِبَ هَذَا الْقَوْلُ لِمَالِكٍ، فِي رِوَايَةِ أَشْهَبَ، مِنْ جَامِعِ الْعُتْبِيَّةِ، وَنَسَبَهُ الْخَفَاجِيُّ إِلَى الْحَنَفِيَّةِ وَإِلَيْهِ مَالَ الشَّاطِبِيُّ فِي الْمُوَافَقَاتِ.
وَثَانِيهِمَا أَنَّ الْمُحْكَمَ الْوَاضِحُ الدَّلَالَةِ، وَالْمُتَشَابِهَ الْخَفِيُّهَا، وَإِلَيْهِ مَالَ الْفَخْرُ: فالنص وَالظَّاهِر هُنَا الْمُحْكَمُ، لِاتِّضَاحِ دَلَالَتِهِمَا، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَيِ الظَّاهِرُ يَتَطَرَّقُهُ احْتِمَالٌ
ضَعِيفٌ، وَالْمُجْمَلُ وَالْمُؤَوَّلُ هُمَا الْمُتَشَابِهُ، لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي خَفَاءِ الدَّلَالَةِ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا: أَيِ الْمُؤَوَّلُ دَالًّا عَلَى مَعْنًى مَرْجُوحٍ، يُقَابِلُهُ مَعْنًى رَاجِحٌ، وَالْمُجْمَلُ دَالًّا على معنى مرجوع يُقَابله مرجوع آخَرُ، وَنُسِبَتْ هَذِهِ الطَّرِيقَةُ إِلَى الشَّافِعِيَّةِ.
قَالَ الشَّاطِبِيُّ: فَالتَّشَابُهُ: حَقِيقِيٌّ، وَإِضَافِيٌّ، فَالْحَقِيقِيُّ: مَا لَا سَبِيلَ إِلَى فَهْمِ مَعْنَاهُ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ، وَالْإِضَافِيُّ: مَا اشْتَبَهُ مَعْنَاهُ، لِاحْتِيَاجِهِ إِلَى مُرَاعَاةِ دَلِيلٍ آخَرَ. فَإِذَا تَقَصَّى الْمُجْتَهِدُ أَدِلَّةَ الشَّرِيعَةِ وَجَدَ فِيهَا مَا يُبَيِّنُ مَعْنَاهُ، وَالتَّشَابُهُ بِالْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ قَلِيلٌ جِدًّا فِي الشَّرِيعَةِ وَبِالْمَعْنَى الْإِضَافِيِّ كثير.
وَقد دلّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ مِنَ الْقُرْآنِ مُحْكَمًا وَمُتَشَابِهًا، وَدَلَّتْ آيَاتٌ أُخَرُ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ مُحْكَمٌ، قَالَ تَعَالَى: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ [هود: ١] وَقَالَ: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ [يُونُس: ١] وَالْمُرَادُ أَنَّهُ أُحْكِمَ وَأُتْقِنَ فِي بَلَاغَتِهِ، كَمَا دَلَّتْ آيَاتٌ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ مُتَشَابِهٌ، قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً [الزمر: ٢٣] وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَشَابَهَ فِي الْحُسْنِ وَالْبَلَاغَةِ وَالْحَقِّيَّةِ، وَهُوَ مَعْنَى: «وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا» فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ: لِاخْتِلَافِ الْمُرَادِ بِالْإِحْكَامِ وَالتَّشَابُهِ فِي مَوَاضِعِهَا، بِحَسَبِ مَا تَقْتَضِيهِ الْمَقَامَاتُ.
مُصْحَفَهُ لِيَحْرِقَهُ بَعْدَ أَنِ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْمُصْحَفِ الَّذِي كُتِبَ فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِنَّ اللَّهَ قَالَ: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ
الْقِيامَةِ
وَإِنِّي غَالٌّ مُصْحَفِي فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَغُلَّ مُصْحَفَهُ فَلْيَفْعَلْ. وَلَا أَثِقُ بِصِحَّةِ هَذَا الْخَبَرِ لِأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنَ الْغُلُولِ.
وَقَوْلُهُ: ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ تَنْبِيهٌ عَلَى الْعُقُوبَةِ بَعْدَ التَّفْضِيحِ، إِذْ قَدْ عُلِمَ أَنَّ الْكَلَامَ السَّابِقَ مَسُوقٌ مَسَاقُ النَّهْيِ، وَجِيءَ بِ (ثُمَّ) لِلدَّلَالَةِ عَلَى طُولِ مُهْلَةِ التَّفْضِيحِ، وَمِنْ جُمْلَةِ النُّفُوسِ الَّتِي تُوَفَّى مَا كَسَبَتْ نَفْسُ مَنْ يَغْلُلْ، فَقَدْ دَخَلَ فِي الْعُمُومِ.
وَجُمْلَةُ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ قَبْلَهَا وَهِيَ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ.
وَالْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى تَحْرِيمِ الْغُلُولِ وَهُوَ أَخْذُ شَيْءٍ مِنَ الْمَغْنَمِ بِغَيْرِ إِذْنِ أَمِيرِ الْجَيْشِ، وَهُوَ مِنَ الْكَبَائِرِ لِأَنَّهُ مِثْلُ السَّرِقَةِ، وَأَصَحُّ مَا فِي الْغُلُولِ
حَدِيثُ «الْمُوَطَّأِ» : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَجَعَ مِنْ خَيْبَرَ قَاصِدًا وَادِيَ الْقُرَى وَكَانَ لَهُ عَبْدٌ أَسْوَدُ يُدْعَى مِدْعَمًا، فَبَيْنَمَا هُوَ يَحُطُّ رَحْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَهُ سَهْمٌ عَائِرٌ فَقَتَلَهُ، فَقَالَ النَّاسُ: هَنِيئًا لَهُ الْجَنَّةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَلَّا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَخَذَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنَ الْغَنَائِمِ لَمْ تَصُبْهَا الْمَقَاسِمُ لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا»
. وَمَنْ غَلَّ فِي الْمَغْنَمِ يُؤْخَذُ مِنْهُ مَا غَلَّهُ وَيُؤَدَّبُ بِالِاجْتِهَادِ، وَلَا قَطْعَ فِيهِ بِاتِّفَاقٍ، هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَجَمَاعَةٌ: يُحْرَقُ مَتَاعُ الْغَالِّ كُلُّهُ عَدَا سِلَاحَهُ وَسَرْجَهُ، وَيُرَدُّ مَا غَلَّهُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثٍ
رَوَاهُ صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَائِدَةَ أَبُو وَاقِدٍ اللَّيْثِيُّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا وَجَدْتُمُ الرَّجُلَ قَدْ غَلَّ فَاحْرِقُوا مَتَاعَهُ وَاضْرِبُوهُ»
وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ سَأَلْتُ مُحَمَّدًا- يَعْنِي الْبُخَارِيَّ- عَنْهُ فَقَالَ: «إِنَّمَا رَوَاهُ صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. عَلَى أَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَوَجَبَ تَأْوِيلُهُ لِأَنَّ قَوَاعِدَ الشَّرِيعَةِ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ تَأْوِيلِهِ فَالْأَخْذُ بِهِ إِغْرَاقٌ فِي التَّعَلُّقِ بِالظَّوَاهِرِ وَلَيْسَ مِنَ التَّفَقُّهِ فِي شَيْء.
(٩٢)
انْتِقَالُ الْغَرَضِ يُعِيدُ نَشَاطَ السَّامِعِ بِتَفَنُّنِ الْأَغْرَاضِ، فَانْتَقَلَ مِنْ تَحْدِيدِ أَعْمَالِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ الْعَدُوِّ إِلَى أَحْكَامِ مُعَامَلَةِ الْمُسْلِمِينَ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ: مِنْ وُجُوبِ كَفِّ عُدْوَانِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ.
وَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الْغَرَضِ الْمُنْتَقَلِ مِنْهُ وَالْمُنْتَقَلِ إِلَيْهِ: أَنَّهُ قَدْ كَانَ الْكَلَامُ فِي قِتَالِ الْمُتَظَاهِرِينَ بِالْإِسْلَامِ الَّذِينَ ظَهَرَ نِفَاقُهُمْ، فَلَا جَرَمَ أَنْ تَتَشَوَّفَ النَّفْسُ إِلَى حُكْمِ قَتْلِ
الْمُؤْمِنِينَ الْخُلَّصِ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ حَدَثَ حَادِثُ قَتْلِ مُؤْمِنٍ خَطَأً بِالْمَدِينَةِ نَاشِئٌ عَنْ حَزَازَاتٍ أَيَّامَ الْقِتَالِ فِي الشِّرْكِ أَخْطَأَ فِيهِ الْقَاتِلُ إِذْ ظَنَّ الْمَقْتُولَ كَافِرًا. وَحَادِثُ قَتْلِ مُؤْمِنٍ عَمْدًا مِمَّنْ كَانَ يُظْهِرُ الْإِيمَانَ، وَالْحَادِثُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا [النِّسَاء: ٩٤] وَأَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ، فَتَزْدَادُ الْمُنَاسَبَةُ وُضُوحًا لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَصِيرُ كَالْمُقَدِّمَةِ لِمَا وَرَدَ بَعْدَهَا مِنَ الْأَحْكَامِ فِي الْقَتْلِ.
هَوَّلَ اللَّهُ تَعَالَى أَمْرَ قَتْلِ الْمُسْلِمِ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، وَجَعَلَهُ فِي حَيِّزِ مَا لَا يَكُونُ، فَقَالَ:
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً فَجَاءَ بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي النَّفْيِ، وَهِيَ صِيغَةُ الْجُحُودِ، أَيْ مَا وُجِدَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا فِي حَالِ الْخَطَأِ، أَوْ أَنْ يَقْتُلَ قَتْلًا مِنَ الْقَتْلِ إِلَّا قَتْلَ الْخَطَأِ، فَكَانَ الْكَلَامُ حَصْرًا وَهُوَ حَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ مُرَادٌ بِهِ الْمُبَالَغَةُ كَأَنَّ صِفَةَ الْإِيمَانِ فِي الْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ تُنَافِي الِاجْتِمَاعَ مَعَ الْقَتْلِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُنَافَاةَ الضِّدَّيْنِ لِقَصْدِ الْإِيذَانِ بِأَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا قَتَلَ مُؤْمِنًا فَقَدْ سُلِبَ عَنْهُ الْإِيمَانُ وَمَا هُوَ بِمُؤْمِنٍ، عَلَى نَحْوِ «وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ» فَتَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَقِلَّةً عَمَّا بَعْدَهَا، غَيْرَ مُرَادٍ بِهَا التَّشْرِيعُ، بَلْ هِيَ كَالْمُقَدِّمَةِ لِلتَّشْرِيعِ، لِقَصْدِ تَفْظِيعِ حَالِ قَتْلِ المؤمنِ المؤمنَ قَتْلًا غَيْرَ خَطَأٍ، وَتَكُونُ خَبَرِيَّةً لَفْظًا وَمَعْنًى، وَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ حَقِيقِيًّا مِنْ عُمُومِ الْأَحْوَالِ، أَيْ
يَقُولُونَ مَا لَا يَلِيقُ بِعَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ هُوَ مُنَاقِضٌ لِمَقَالَاتِهِمُ الْأُخْرَى. عُطِفَ عَلَى الْمَقَالِ الْمُخْتَصِّ بِالنَّصَارَى، وَهُوَ جُمْلَةُ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ [الْمَائِدَة: ١٧]. وَقَدْ وَقَعَ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ التَّعْبِيرُ بِأَبْنَاءِ اللَّهِ فَفِي سِفْرِ التَّثْنِيَةِ أَوَّلُ الْفَصْلِ الرَّابِعَ عَشَرَ قَوْلُ مُوسَى «أَنْتُمْ أَوْلَادٌ لِلرَّبِّ أَبِيكُمْ». وَأَمَّا الْأَنَاجِيلُ فَهِيَ مَمْلُوءَةٌ بِوَصْفِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَبِي الْمَسِيحِ، وَبِأَبِي الْمُؤْمِنِينَ بِهِ، وَتَسْمِيَةُ الْمُؤْمِنِينَ أَبْنَاءَ اللَّهِ فِي مَتَّى فِي الْإِصْحَاحِ الثَّالِثِ «وَصَوْتٌ مِنَ السَّمَاءِ قَائِلًا هَذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ» وَفِي الْإِصْحَاحِ الْخَامِسِ «طُوبَى لِصَانِعِي السَّلَامِ لِأَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللَّهِ يُدْعَوْنَ». وَفِي الْإِصْحَاحِ السَّادِسِ «وَأَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ يَقُوتُهَا». وَفِي الْإِصْحَاحِ الْعَاشِرِ «لِأَنْ لَسْتُمْ أَنْتُمُ الْمُتَكَلِّمِينَ بَلْ رُوحُ أَبِيكُمُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ فِيكُمْ». وَكُلُّهَا جَائِيَةٌ عَلَى ضَرْبٍ مِنَ التَّشْبِيهِ فَتَوَهَّمَهَا دَهْمَاؤُهُمْ حَقِيقَةً فَاعْتَقَدُوا ظَاهِرَهَا.
وَعُطِفَ وَأَحِبَّاؤُهُ عَلَى أَبْناءُ اللَّهِ أَنَّهُمْ قَصَدُوا أَنَّهُمْ أَبْنَاءٌ مَحْبُوبُونَ إِذْ قَدْ يَكُونُ الِابْنُ مَغْضُوبًا عَلَيْهِ.
وَقَدْ عَلَّمَ اللَّهُ رَسُولَهُ أَنْ يُبْطِلَ قَوْلَهُمْ بِنَقْضَيْنِ: أَوَّلُهُمَا مِنَ الشَّرِيعَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ يَعْنِي أَنَّهُمْ قَائِلُونَ بِأَنَّ نَصِيبًا مِنَ الْعَذَابِ يَنَالُهُمْ بِذُنُوبِهِمْ، فَلَوْ كَانُوا أَبْنَاءَ اللَّهِ وَأَحِبَّاءَهُ لَمَا عَذَّبَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ، وَشَأْنُ الْمُحِبِّ أَنْ لَا يُعَذِّبَ حَبِيبَهُ وَشَأْنُ الْأَبِ أَنْ لَا يُعَذِّبَ أَبْنَاءَهُ. رُوِيَ أَنَّ الشِّبْلِيَّ سَأَلَ أَبَا بَكْرِ بْنَ مُجَاهِدٍ: أَيْنَ تَجِدُ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ الْمُحِبَّ لَا يُعَذِّبُ حَبِيبَهُ فَلَمْ يَهْتَدِ ابْنُ مُجَاهِدٍ، فَقَالَ لَهُ الشِّبْلِيُّ فِي قَوْلِهِ: قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ.
وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ بِوُقُوعِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، مِنْ تَقْدِيرِ الْعَذَابِ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَلَى كُفْرِهِمْ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَعْتَرِفُونَ بِهِ فَلَا يَصْلُحُ لِلرَّدِّ بِهِ، إِذْ يَصِيرُ الرَّدُّ مُصَادَرَةً، بَلِ الْمَقْصُودُ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ بِحُصُولِ عَذَابٍ يَعْتَقِدُونَ حُصُولَهُ فِي عَقَائِدِ دِينِهِمْ، سَوَاءٌ كَانَ عَذَابَ الْآخِرَةِ أَمْ عَذَابَ الدُّنْيَا. فَأَمَّا الْيَهُودُ فَكُتُبُهُمْ طَافِحَةٌ بِذِكْرِ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [الْبَقَرَة:
٨٠]. وَأَمَّا النَّصَارَى فَلَمْ أَرَ فِي الْأَنَاجِيلِ ذِكْرًا لِعَذَابِ الْآخِرَةِ إِلَّا أَنَّهُمْ قَائِلُونَ فِي عَقَائِدِهِمْ بِأَنَّ بَنِي
أَقْوَى مِنْ مِلْكِ السَّاكِنَاتِ الَّتِي لَا تُبْدِي حَرَاكًا، فَظَهَرَ حُسْنُ وَقْعِ قَوْلِهِ: وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ عَقِبَ هَذَا.
والسميع: الْعَالِمُ الْعَظِيمُ بِالْمَسْمُوعَاتِ أَوْ بِالْمَحْسُوسَاتِ. والعليم: الشَّديد الْعلم بِكُلِّ مَعْلُومٍ.
[١٤]
[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : آيَة ١٤]
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٤)
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ.
اسْتِئْنَاف آخر ناشىء عَن جملَة: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ [الْأَنْعَام: ١٢].
وَأُعِيدَ الْأَمْرُ بِالْقَوْلِ اهْتِمَامًا بِهَذَا الْمَقُولِ، لِأَنَّهُ غَرَضٌ آخَرُ غَيْرُ الَّذِي أَمَرَ فِيهِ بِالْقَوْلِ قَبْلَهُ، فَإِنَّهُ لَمَّا تَقَرَّرَ بِالْقَوْلِ، السَّابِقِ عُبُودِيَّةُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لِلَّهِ وَأَنَّ مَصِيرَ كُلِّ ذَلِكَ إِلَيْهِ انْتَقَلَ إِلَى تَقْرِيرِ وُجُوبِ إِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ نَتِيجَةٌ لَازَمَةٌ لِكَوْنِهِ مَالِكًا لِجَمِيعِ مَا احْتَوَتْهُ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، فَكَانَ هَذَا التَّقْرِيرُ جَارِيًا عَلَى طَرِيقَةِ التَّعْرِيضِ إِذْ أَمَرَ الرَّسُولَ- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام- بالتبري مِنْ أَنْ يَعْبُدَ غَيْرَ اللَّهِ. وَالْمَقْصُودُ الْإِنْكَارُ عَلَى الَّذِينَ عَبَدُوا غَيْرَهُ وَاتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ بِمَحْضَرِ الْمُجَادِلِ الْمُكَابِرِ (لَا أَجْحَدُ الْحَقَّ) لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَصْدُرُ مِنْهُ ذَلِكَ، كَيْفَ وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ دَعَاهُمْ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ مِنْ أَوَّلِ بَعْثَتِهِ، وَهَذِهِ السُّورَةُ مَا نَزَلَتْ إِلَّا بَعْدَ الْبَعْثَةِ بِسِنِينَ كَثِيرَةٍ، كَمَا اسْتَخْلَصْنَاهُ مِمَّا تَقَدَّمَ فِي صَدْرِ السُّورَةِ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ أُمِرَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُجِيبَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ دَعَوْهُ إِلَى عِبَادَةِ أَصْنَامِهِمْ، أَيْ هُوَ مِثْلُ مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ [الزمر: ٦٤]، وَهُوَ لَعَمْرِي مِمَّا يُشْعِرُ بِهِ أُسْلُوبُ الْكَلَامِ وَإِنْ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ لَا يَتَضَمَّنُهُ كَيْفَ وَلَا بُدَّ لِلِاسْتِئْنَافِ مِنْ نُكْتَةٍ.
وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ. وَقَدَّمَ الْمَفْعُولَ الْأَوَّلَ لِ أَتَّخِذُ عَلَى الْفِعْلِ وَفَاعِلِهِ لِيَكُونَ مُوَالِيًا لِلِاسْتِفْهَامِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْإِنْكَارِ لَا مُطْلَقُ اتِّخَاذِ الْوَلِيِّ. وَشَأْنُ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ
وَعُقِّبَ بِفِعْلِ: تَعالَوْا اهْتِمَامًا بِالْغَرَضِ الْمُنْتَقَلِ إِلَيْهِ بِأَنَّهُ أَجْدَى عَلَيْهِمْ مِنْ تِلْكَ السَّفَاسِفِ الَّتِي اهتمّوا بهَا وَهَذَا عَلَى أُسْلُوبِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [الْبَقَرَة: ١٧٧] الْآيَاتِ. وَقَوْلِهِ:
أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [التَّوْبَة: ١٩] الْآيَةَ، لِيَعْلَمُوا الْبَوْنَ بَيْنَ مَا يَدْعُونَ إِلَيْهِ قَوْمَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ الْإِسْلَامُ، مِنْ جَلَائِلِ الْأَعْمَالِ، فَيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ قَدْ أَضَاعُوا أَزْمَانَهُمْ وَأَذْهَانَهُمْ.
وَافْتِتَاحُهُ بِطَلَبِ الْحُضُورِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا فِي إِعْرَاضٍ.
وَقَدْ تَلَا عَلَيْهِم أحكاما قد كَانُوا جَارِينَ عَلَى خِلَافِهَا مِمَّا أَفْسَدَ حَالَهُمْ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ، وَفِي ذَلِكَ تَسْجِيلٌ عَلَيْهِمْ بِسُوءِ أَعْمَالِهِمْ مِمَّا يُؤْخَذُ مِنَ النَّهْيِ عَنْهَا وَالْأَمْرِ بِضِدِّهَا.
وَقَدِ انْقَسَمَتِ الْأَحْكَامُ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا هَذِهِ الْجُمَلُ الْمُتَعَاطِفَةُ فِي الْآيَاتِ الثَّلَاثِ الْمُفْتَتَحَةِ بِقَوْلِهِ: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
الْأَوَّلُ: أَحْكَامٌ بِهَا إِصْلَاحُ الْحَالَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ الْعَامَّةِ بَيْنَ النَّاسِ وَهُوَ مَا افْتتح بقوله:
أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً.
الثَّانِي: مَا بِهِ حِفْظُ نِظَامِ تَعَامُلِ النَّاسِ بَعْضِهُمْ مَعَ بَعْضٍ وَهُوَ الْمُفْتَتَحُ بِقَوْلِهِ: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ
[الْأَنْعَام: ١٥٢].
الثَّالِثُ: أَصْلٌ كُلِّيٌّ جَامِعٌ لِجَمِيعِ الْهُدَى وَهُوَ اتِّبَاعُ طَرِيقِ الْإِسْلَامِ وَالتَّحَرُّزِ مِنَ
الْخُرُوجِ عَنْهُ إِلَى سُبُلِ الضَّلَالِ وَهُوَ الْمُفْتَتَحُ بِقَوْلِهِ: وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ [الْأَنْعَام: ١٥٣].
وَقَدْ ذُيِّلَ كُلُّ قِسْمٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ بِالْوِصَايَةِ بِهِ بِقَوْلِهِ: ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
يَصْنَعُونَ. وَلِذَلِكَ رَتَّبُوا عَلَيْهِ وَفَرَّعُوا بِالْفَاءِ قَوْلَهُمْ: فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ إِلَى آخِرِهِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَقِيقِيًّا يَقُولُهُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، لَعَلَّ أَحَدَهُمْ يُرْشِدُهُمْ إِلَى مُخَلِّصٍ لَهُمْ مِنْ تِلْكَ الْوَرْطَةِ، وَهَذَا الْقَوْلُ يَقُولُونَهُ فِي ابْتِدَاءِ رُؤْيَةِ مَا يُهَدِّدُهُمْ قَبْلَ أَنْ يُوقِنُوا بِانْتِفَاءِ الشُّفَعَاءِ الْمَحْكِيِّ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ [الشُّعَرَاء: ١٠٠، ١٠١] وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلًا فِي التَّمَنِّي، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْمَلًا فِي النَّفْيِ. عَلَى مَعْنَى التَّحَسُّرِ وَالتَّنَدُّمِ. ومِنْ زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ. عَلَى جَمِيعِ التَّقَادِيرِ. فَتُفِيدُ تَوْكِيدَ الْعُمُومِ فِي الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ، لِيُفِيدَ أَنَّهُمْ لَا يَسْأَلُونَ عَمَّنْ تَوَهَّمُوهُمْ شُفَعَاءَ مِنْ أَصْنَامِهِمْ، إِذْ قَدْ يَئِسُوا مِنْهُمْ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ [الْأَعْرَاف: ٩٤] بَلْ هُمْ يَتَسَاءَلُونَ عَنْ أَيِّ شَفِيعٍ يَشْفَعُ لَهُمْ. وَلَوْ يَكُونُ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الَّذِي نَاصَبُوهُ الْعَدَاءَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِ [١١] فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ.
وَانْتَصَبَ فَيَشْفَعُوا عَلَى جَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ، أَوِ التَّمَنِّي، أَوِ النَّفْيِ.
«وَالشُّفَعَاءُ» جَمْعُ شَفِيعٍ وَهُوَ الَّذِي يَسْعَى بِالشَّفَاعَةِ، وَهُمْ يُسَمُّونَ أَصْنَامَهُمْ شُفَعَاءَ قَالَ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يُونُس: ١٨].
وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الشَّفَاعَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٤٨]. وَعِنْدَ قَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٥٤] وَعِنْدَ قَوْلِهِ: مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٨٥].
وَعَطَفَ فِعْلَ نُرَدُّ بِ (أَوْ) عَلَى مَدْخُولِ الِاسْتِفْهَامِ، فَيَكُونُ الِاسْتِفْهَامُ عَنْ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، لِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَا يَجْتَمِعُ مَعَ الْآخَرِ، فَإِذَا حَصَلَتِ الشَّفَاعَةُ فَلَا حَاجَةَ إِلَى الرَّدِّ، وَإِذَا حَصَلَ الرَّدُّ اسْتُغْنِيَ عَنِ الشَّفَاعَةِ.
بِهِ الشَّيْءُ، وَاسْتُعْمِلَ مَجَازًا فِي الْمُعَامَلَةِ اللَّازِمَةِ بِتَشْبِيهِهَا بِالسَّوْمِ الْمُقَدِّرِ لِلشَّيْءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٤٩] وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَتَقَدَّمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ نَظِيرُهُ، فَالْمَعْنَى يُجْعَلُ سُوءُ الْعَذَابِ كَالْقِيمَةِ لَهُمْ فَهُوَ حَظُّهُمْ.
وَسُوءُ الْعَذَابِ أَشَدُّهُ، لِأَنَّ الْعَذَابَ كُلَّهُ سُوءٌ فَسُوءُهُ الْأَشَدُّ فِيهِ.
وَالْآيَةُ تُشِيرُ إِلَى وَعِيدِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِأَنْ يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوَّهُمْ كُلَّمَا نَقَضُوا مِيثَاقَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ تَكَرَّرَ هَذَا الْوَعِيدُ مِنْ عَهْدِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى هَلُمَّ جَرًّا، كَمَا فِي سِفْرِ التَّثْنِيَةِ فِي الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ فَفِيهِ «إِنْ لَمْ تَحْرِصْ لِتَعْمَلَ بِجَمِيعِ كَلِمَاتِ هَذَا النَّامُوسِ...
وَيُبَدِّدُكَ اللَّهُ فِي جَمِيعِ الشُّعُوبِ وَفِي تِلْكَ الْأُمَمِ لَا تَطْمَئِنُّ وَتَرْتَعِبُ لَيْلًا وَنَهَارًا وَلَا تَأْمَنْ عَلَى حَيَاتِكَ» وَفِي سِفْرِ يُوشَعَ الْإِصْحَاحِ ٢٣ «لِتَحْفَظُوا وَتَعْمَلُوا كُلَّ الْمَكْتُوبِ فِي سِفْرِ شَرِيعَةِ مُوسَى وَلَكِنْ إِذا رجعتم ولصفتم بِبَقِيَّةِ هَؤُلَاءِ الشُّعُوبِ اعْلَمُوا يَقِينًا أَنَّ اللَّهَ يَجْعَلُهُمْ لَكُمْ سَوْطًا عَلَى جَنُوبِكُمْ وَشَوْكًا فِي أَعْيُنِكُمْ حَتَّى تَبِيدُوا حِينَمَا تَتَعَدَّوْنَ عَهْدَ الرَّبِّ إِلَهِكُمْ».
وَأَعْظَمُ هَذِهِ الْوَصَايَا هِيَ الْعَهْدُ بِاتِّبَاعِ الرَّسُولِ الَّذِي يُرْسَلُ إِلَيْهِمْ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَلِذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ: لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ مَعْنَاهُ مَا دَامُوا عَلَى
إِعْرَاضِهِمْ وَعِنَادِهِمْ وَكَوْنِهِمْ أَتْبَاعَ مِلَّةِ الْيَهُودِيَّةِ مَعَ عَدَمِ الْوَفَاءِ بِهَا، فَإِذَا أَسْلَمُوا وَآمَنُوا بِالرَّسُولِ النَّبِيءِ الْأُمِّيِّ فَقَدْ خَرَجُوا عَنْ مُوجِبِ ذَلِكَ التَّأَذُّنِ وَدَخَلُوا فِيمَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ الْمُسْلِمِينَ.
وَلِذَلِكَ ذُيِّلَ هَذَا بِقَوْلِهِ: إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ أَيْ لَهُمْ، وَالسُّرْعَةُ تَقْتَضِي التَّحَقُّقَ، أَيْ أَنَّ عِقَابَهُ وَاقِعٌ وَغَيْرُ مُتَأَخِّرٍ. لِأَنَّ التَّأَخُّرَ تقليل فِي التَّحْقِيق إِذِ التَّأَخُّرُ اسْتِمْرَارُ الْعَدَمِ مُدَّةً مَا.
وَأَوَّلُ مَنْ سُلِّطَ عَلَيْهِمْ «بُخْتَنَصَّرُ» مَلِكُ (بَابِلَ). ثُمَّ تَوَالَتْ عَلَيْهِمُ الْمَصَائِبُ فَكَانَ أَعْظَمَهَا خَرَابُ (أُرْشَلِيمَ) فِي زمن (إدريانوس) انبراطور (رومة) وَلَمْ تَزَلِ الْمَصَائِبُ تَنْتَابُهُمْ وَيُنَفَّسُ عَلَيْهِمْ فِي فَتَرَاتٍ مَعْرُوفَةٍ فِي التَّارِيخِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ فَهُوَ وَعْدٌ بِالْإِنْجَاءِ مِنْ ذَلِكَ إِذَا تَابُوا وَاتَّبَعُوا
بَدِيعًا لِأَنَّهُ تَنْبِيهٌ عَلَى خَطَئِهِمْ فِي الْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ الْمُنَاسِبِ لِمَقَامِهِمْ أَيْ: مَا كَانَ يَنْبَغِي لَكُمْ أَنْ تَعْتَمِدُوا عَلَى كَثْرَتِكُمْ.
وحُنَيْنٍ اسْمُ وَادٍ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ قُرْبَ ذِي الْمَجَازِ، كَانَتْ فِيهِ وَقْعَةٌ عَظِيمَةٌ عَقِبَ فَتْحِ مَكَّةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مَعَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَبَيْنَ هوَازن وَثَقِيف وألفا فهما، إِذْ نَهَضُوا لِقِتَالِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمِيَّةً وَغَضَبًا لِهَزِيمَةِ قُرَيْشٍ وَلِفَتْحِ مَكَّةَ، وَكَانَ عَلَى هَوَازِنَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ، أَخُو بَنِي نَصْرٍ، وَعَلَى ثَقِيف عبد ياليل بْنُ عَمْرٍو الثَّقَفِيُّ، وَكَانُوا فِي عَدَدٍ كَثِيرٍ وَسَارُوا إِلَى مَكَّةَ فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى اجْتَمَعُوا بِحُنَيْنٍ فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: لَنْ نُغْلَبَ الْيَوْمَ مِنْ قِلَّةٍ، وَوَثِقُوا بِالنَّصْرِ لِقُوَّتِهِمْ، فَحَصَلَتْ لَهُمْ هَزِيمَةٌ عِنْدَ أَوَّلِ اللِّقَاءِ كَانَتْ
عِتَابًا إِلَهِيًّا عَلَى نِسْيَانِهِمُ التَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ فِي النَّصْرِ، وَاعْتِمَادِهِمْ على كثرتهم، وَلذَلِك
رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سَمِعَ قَوْلَ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ «لَنْ نُغْلَبَ مِنْ قِلَّةٍ» سَاءَهُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا هَبَطُوا وَادِي حُنَيْنٍ كَانَ الْأَعْدَاءُ قَدْ كَمَنُوا لَهُمْ فِي شِعَابِهِ وَأَحْنَائِهِ، فَمَا رَاعَ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ مُنْحَدِرُونَ فِي الْوَادِي إِلَّا كَتَائِبُ الْعَدُوِّ وَقَدْ شَدَّتْ عَلَيْهِمْ وَقِيلَ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ حَمَلُوا عَلَى الْعَدُوِّ فَانْهَزَمَ الْعَدُوُّ فَلَحِقُوهُمْ يَغْنَمُونَ مِنْهُمْ، وَكَانَتْ هَوَازِنُ قَوْمًا رُمَاةً فَأَكْثَبُوا الْمُسْلِمِينَ بِالسِّهَامِ فَأَدْبَرَ الْمُسْلِمُونَ رَاجِعِينَ لَا يَلْوِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَتَفَرَّقُوا فِي الْوَادِي، وَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْمُشْرِكُونَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَابِتٌ فِي الْجِهَةِ الْيُمْنَى مِنَ الْوَادِي وَمَعَهُ عَشَرَةٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَبَّاسَ عَمَّهُ أَنْ يَصْرُخَ فِي النَّاسِ: يَا أَصْحَابَ الشَّجَرَةِ- أَوِ السَّمُرَةِ- يَعْنِي أَهْلَ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ- يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ- يَا أَصْحَابَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ- يَعْنِي الْأَنْصَارَ- هَلُمُّوا إِلَيَّ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ مِائَةٌ، وَقَاتَلُوا هَوَازِنَ مَعَ مَنْ بَقِيَ مَعَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاجْتَلَدَ النَّاسُ، وَتَرَاجَعَ بَقِيَّةُ الْمُنْهَزِمِينَ وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْآنَ حَمِيَ الْوَطِيسُ» فَكَانَتِ الدَّائِرَةُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُزِمُوا شَرَّ هَزِيمَةٍ وَغُنِمَتْ أَمْوَالُهُمْ وَسُبِيَتْ نِسَاؤُهُمْ
. فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَهَذَا التَّرْكِيبُ تَمْثِيلٌ لِحَالِ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا اشْتَدَّ عَلَيْهِمُ الْبَأْسُ وَاضْطَرَبُوا وَلَمْ يَهْتَدُوا لِدَفْعِ الْعَدُوِّ عَنْهُمْ، بِحَالِ مَنْ يَرَى الْأَرْضَ الْوَاسِعَةَ ضَيِّقَةً.
وَمَعْنَى: يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِمَا، وَهُوَ مِلْكُ إِيجَادِ تَيْنِكَ الْحَاسَّتَيْنِ وَذَلِكَ اسْتِدْلَالٌ وَتَذْكِيرٌ بِأَنْفَعِ صُنْعٍ وَأَدَقِّهِ.
وَأَفْرَدَ السَّمْعَ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ فَهُوَ دَالٌّ عَلَى الْجِنْسِ الْمَوْجُودِ فِي جَمِيعِ حَوَاسِّ النَّاسِ.
وَأَمَّا الْأَبْصارَ فَجِيءَ بِهِ جَمْعًا لِأَنَّهُ اسْمٌ، فَهُوَ لَيْسَ نَصًّا فِي إِفَادَةِ الْعُمُومِ لِاحْتِمَالِ تَوَهُّمِ بَصَرٍ مَخْصُوصٍ فَكَانَ الْجَمْعُ أَدَلَّ عَلَى قَصْدِ الْعُمُومِ وَأَنْفَى لِاحْتِمَالِ الْعَهْدِ وَنَحْوِهِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا [الْإِسْرَاء: ٣٦] لِأَنَّ الْمُرَادَ الْوَاحِدُ لِكُلِّ مُخَاطَبٍ بِقَوْلِهِ: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الْإِسْرَاء: ٣٦]. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٤٦].
وَإِخْرَاجُ الْحَيِّ مِنَ الْمَيِّتِ: هُوَ تَوَلُّدُ أَطْفَالِ الْحَيَوَانِ مِنَ النُّطَفِ وَمِنَ الْبَيْضِ فَالنُّطْفَةُ أَوِ الْبَيْضَةُ تَكُونُ لَا حَيَاةَ فِيهَا ثُمَّ تَتَطَوَّرُ إِلَى الشَّكْلِ الْقَابِلِ لِلْحَيَاةِ ثُمَّ تَكُونُ فِيهَا الْحَيَاةُ.
وَ (مِنَ) فِي قَوْلِهِ: مِنَ الْمَيِّتِ لِلِابْتِدَاءِ. وَإِخْرَاجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ إِخْرَاجُ النُّطْفَةِ وَالْبَيْضِ مِنَ الْحَيَوَانِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْحَيَّ والْمَيِّتِ فِي الْمَرَّتَيْنِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ.
وَقَدْ نُظِّمَ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ عَلَى ذَلِكَ الصُّنْعِ الْعَجِيبِ بِأُسْلُوبِ الْأَحَاجِي وَالْأَلْغَازِ وَجُعِلَ بِمُحَسِّنِ التَّضَادِّ، كُلُّ ذَلِكَ لِزِيَادَةِ التَّعْجِيبِ مِنْهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِهِ فِي قَوْلِهِ: وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٢٧].
غَيْرَ أَنَّ مَا هُنَا لَيْسَ فِيهِ رَمْزٌ إِلَى شَيْءٍ.
وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِهِ فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ. وَهُوَ هُنَا تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ ذَكَرَ مَا فِيهِ مَزِيدُ عِبْرَةٍ فِي أَنْفُسِهِمْ كَالْعِبْرَةِ فِي قَوْلِهِ: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ [الذاريات: ٢١، ٢٢].
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَاء السبية الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَقْتَرِنَ بِجَوَابِ الشَّرْطِ إِذَا كَانَ غَيْرَ صَالِحٍ لِمُبَاشَرَةِ أَدَاةِ الشَّرْطِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَصَدَ تَسَبُّبَ قَوْلَهِمْ: اللَّهُ عَلَى السُّؤَالِ
بِعَدَمِ الرُّشْدِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ أَمْرَ فِرْعَوْنَ سَفَهٌ إِذْ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الرُّشْدِ وَالسَّفَهِ. وَلَكِنْ عَدَلَ عَنْ وَصْفِ أَمْرِهِ بِالسَّفِيهِ إِلَى نَفْيِ الرُّشْدِ عَنْهُ تَجْهِيلًا لِلَّذِينِ اتَّبَعُوا أَمْرَهُ لِأَنَّ شَأْنَ الْعُقَلَاءِ أَنْ يَتَطَلَّبُوا الِاقْتِدَاءَ بِمَا فِيهِ صَلَاحٌ وَأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا لَيْسَ فِيهِ أَمَارَةٌ عَلَى سَدَادِهِ وَاسْتِحْقَاقِهِ لِأَنْ يُتَّبَعَ فَمَاذَا غرّهم باتباعه.
[٩٨، ٩٩]
[سُورَة هود (١١) : الْآيَات ٩٨ إِلَى ٩٩]
يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (٩٨) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (٩٩)
جُمْلَةُ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ من فِرْعَوْنَ [هود: ٩٧] الْمَذْكُورِ فِي الْجُمْلَةِ قَبْلَهَا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا.
وَالْإِيرَادُ: جَعْلُ الشَّيْءِ وَارِدًا، أَيْ قَاصِدًا الْمَاءَ، وَالَّذِي يُورِدُهُمْ هُوَ الْفَارِطُ، وَيُقَالُ لَهُ: الْفَرْطُ.
وَالْوِرْدُ- بِكَسْرِ الْوَاوِ-: الْمَاءُ الْمَوْرُودُ، وَهُوَ فِعْلٌ بِمَعْنَى مفعول، مثل دبح. وَفِي قَوْلِهِ: فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ اسْتِعَارَةُ الْإِيرَادِ إِلَى التَّقَدُّمِ بِالنَّاسِ إِلَى الْعَذَابِ، وَهِيَ تَهَكُّمِيَّةٌ لِأَنَّ الْإِيرَادَ يَكُونُ لِأَجْلِ الِانْتِفَاعِ بِالسَّقْيِ وَأَمَّا التَّقَدُّمُ بِقَوْمِهِ إِلَى النَّارِ فَهُوَ ضِدُّ ذَلِكَ.
ويَقْدُمُ مُضَارِعُ قَدَمَ- بِفَتْحِ الدَّالِ- بِمَعْنَى تَقَدَّمَ الْمُتَعَدِّي إِذَا كَانَ مُتَقَدِّمًا غَيْرَهُ.
وَإِنَّمَا جَاءَ فَأَوْرَدَهُمُ بِصِيغَةِ الْمَاضِي لِلتَّنْبِيهِ عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِ ذَلِكَ الْإِيرَادِ وَإِلَّا
فَقَرِينَةُ قَوْلِهِ: يَوْمَ الْقِيامَةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي الْمَاضِي:
وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْجَنَّةِ بِصِفَاتِهَا بِحَيْثُ صَارَتْ كَالْمُشَاهَدَةِ، وَالْمَعْنَى: تِلْكَ هِيَ الَّتِي سَمِعْتُمْ أَنَّهَا عُقْبَى الدَّارِ لِلَّذِينِ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ إِلَى قَوْله: وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ- إِلَى قَوْلِهِ- فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [سُورَة الرَّعْد: ٢٤] هِيَ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ. وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا هُمُ الْمُؤْمِنُونَ الصَّالِحُونَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَوَّلُ مَرَاتِبِ التَّقْوَى الْإِيمَانُ. وَجُمْلَةُ وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِلْمُنَاسَبَةِ بِالْمُضَادَّةِ. وَهِيَ كَالْبَيَانِ لِجُمْلَةِ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ.
[٣٦]
[سُورَة الرَّعْد (١٣) : آيَة ٣٦]
وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (٣٦)
وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ.
الْوَاوُ لِلِاسْتِئْنَافِ. وَهَذَا اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ انْتُقِلَ بِهِ إِلَى فَضْلٍ لِبَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي حُسْنِ تَلَقِّيهِمْ لِلْقُرْآنِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ ذِكْرِ أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قَوْلِهِ: كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ [سُورَة الرَّعْد: ٣٠] إِلَخَّ، وَلِذَلِكَ جَاءَتْ عَلَى أُسْلُوبِهَا فِي التَّعْقِيبِ بِجُمْلَةِ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ [سُورَة الرَّعْد: ٣٦].
وَالْمُنَاسَبَةُ هِيَ أَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ بِالْقُرْآنِ انْقَسَمُوا فِي التَّصْدِيقِ بِالْقُرْآنِ فِرَقًا فَفَرِيقٌ آمَنُوا بِاللَّهِ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَفَرِيقٌ كَفَرُوا بِهِ وَهُمْ مِصْدَاقُ قَوْلِهِ: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ [سُورَة الرَّعْد: ٣٠]، كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ الْمَفْهُومِينَ مِنَ الْمَقَامِ كَمَا هُوَ مُصْطَلَحُ الْقُرْآنِ.
وَهَذَا فَرِيقٌ آخَرُ أَيْضًا أَهْلُ الْكِتَابِ وَهُوَ مُنْقَسِمٌ أَيْضًا فِي تَلَقِّي الْقُرْآنِ فِرْقَتَيْنِ: فَالْفَرِيقُ الْأَوَّلُ صَدَّقُوا بِالْقُرْآنِ وَفَرِحُوا بِهِ وَهُمُ الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [٨٣]، وَكُلُّهُمْ مِنَ النَّصَارَى مِثْلَ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِمَّنْ بَلَغَهُمُ الْقُرْآنُ أَيَّامَ مَقَامِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَهُمْ دَعْوَةُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ الْيَهُودَ
عِنْدَهُمْ، فَهِيَ بَيَانٌ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ، وَوَقَعَتْ جُمْلَةُ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا [سُورَة النَّحْل: ٣٩] إِلَى آخِرِهَا اعْتِرَاضًا بَيْنَ الْبَيَانِ وَالْمُبَيَّنِ.
وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ تَكْوِينُ شَيْءٍ إِذَا أَرَادَهُ اللَّهُ إِلَّا عَلَى أَنْ تَتَعَلَّقَ قُدْرَتُهُ بِتَكْوِينِهِ.
وَلَيْسَ إِحْيَاءُ الْأَمْوَاتِ إِلَّا مِنْ جُمْلَةِ الْأَشْيَاءِ، وَمَا الْبَعْثُ إِلَّا تَكْوِينٌ، فَمَا بَعْثُ الْأَمْوَاتِ إِلَّا مِنْ جُمْلَةِ تَكْوِينِ الْمَوْجُودَاتِ، فَلَا يَخْرُجُ عَنْ قُدْرَتِهِ.
وَأَفَادَتْ إِنَّما قَصْرًا هُوَ قَصْرُ وُقُوعِ التَّكْوِينِ عَلَى صُدُورِ الْأَمْرِ بِهِ، وَهُوَ قَصْرُ قَلْبٍ لِإِبْطَالِ اعْتِقَادِ الْمُشْرِكِينَ تَعَذُّرَ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا إِذَا سَلِمَتِ الْأَجْسَادُ مِنَ الْفَسَادِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، فَأُرِيدَ بِ قَوْلُنا لِشَيْءٍ تَكْوِينُنَا شَيْئًا، أَيْ تَعَلُّقُ الْقُدْرَةِ بِخَلْقِ شَيْءٍ. وَأُرِيدَ بِقَوْلِهِ: إِذا أَرَدْناهُ إِذَا تَعَلَّقَتْ بِهِ الْإِرَادَةُ الْإِلَهِيَّةُ تَعَلُّقًا تَنْجِيزِيًا، فَإِذَا كَانَ سَبَبُ التَّكْوِينِ لَيْسَ زَائِدًا عَلَى قَوْلِ كُنْ فَقَدْ بَطَلَ تَعَذُّرُ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى. وَلِذَلِكَ كَانَ هَذَا قَصْرَ قَلْبٍ لِإِبْطَالِ اعْتِقَادِ الْمُشْرِكِينَ.
وَالشَّيْءُ: أُطْلِقَ هُنَا عَلَى الْمَعْدُومِ بِاعْتِبَارِ إِرَادَةِ وَجُودِهِ، فَهُوَ مِنْ إِطْلَاقِ اسْم مَا يؤول إِلَيْهِ، أَوِ الْمُرَادُ بِالشَّيْءِ مُطْلَقُ الْحَقِيقَةِ الْمَعْلُومَةِ وَإِنْ كَانَتْ مَعْدُومَةً، وَإِطْلَاقُ الشَّيْءِ عَلَى الْمَعْدُومِ مُسْتَعْمَلٌ.
وأَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ خَبَرٌ عَنْ قَوْلُنا.
وَالْمُرَادُ بِقَوْلِ كُنْ تَوَجُّهُ الْقُدْرَةِ إِلَى إِيجَادِ الْمَقْدُورِ. عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ التَّوَجُّهِ بِالْقَوْلِ بِالْكَلَامِ كَمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِالْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
[سُورَة يس: ٨٢] وَشُبِّهَ الشَّيْءُ الْمُمْكِنُ حُصُولُهُ بِشَخْصٍ مَأْمُورٍ، وَشُبِّهَ انْفِعَالُ الْمُمْكِنِ لِأَمْرِ التَّكْوِينِ بِامْتِثَالِ الْمَأْمُورِ لِأَمْرِ الْآمِرِ. وَكُلُّ ذَلِكَ تَقْرِيبٌ لِلنَّاسِ بِمَا يَعْقِلُونَ، وَلَيْسَ هُوَ خِطَابًا لِلْمَعْدُومِ وَلَا أَنَّ لِلْمَعْدُومِ سَمْعًا يَعْقِلُ بِهِ الْكَلَامَ فَيَمْتَثِلُ لِلْآمِرِ.
[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧) : آيَة ٦٥]
إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (٦٥)وَجُمْلَةُ إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ مِنْ تَمَامِ الْكَلَامِ الْمَحْكِيِّ بِ قالَ اذْهَبْ [الْإِسْرَاء: ٦٣]. وَهِيَ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا نَاشِئًا عَنْ قَوْلِهِ: فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ [الْإِسْرَاء: ٦٣] وَقَوْلُهُ: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ [الْإِسْرَاء: ٦٤]، فَإِن مَفْهُوم فَمَنْ تَبِعَكَ ومَنِ اسْتَطَعْتَ [الْإِسْرَاء: ٦٤] ذريّة مَنِ قَبِيلِ مَفْهُومِ الصِّفَةِ فَيُفِيدُ أَنَّ فريقا من درية آدَمَ لَا يَتَّبِعُ إِبْلِيسَ فَلَا يَحْتَنِكُهُ. وَهَذَا الْمَفْهُومُ يُفِيدُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ عَصَمَ أَوْ حَفِظَ هَذَا الْفَرِيقَ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَذَلِكَ يُثِيرُ سُؤَالًا فِي خَاطِرِ إِبْلِيسَ لِيَعْلَمَ الْحَائِلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ الْفَرِيقِ بَعْدَ أَنْ عَلِمَ فِي نَفْسِهِ عِلْمًا إِجْمَالِيًّا أَنَّ فَرِيقًا لَا يَحْتَنِكُهُ لِقَوْلِهِ: لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا [الْإِسْرَاء: ٦٢]. فَوَقَعَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى تَعْيِينِ هَذَا الْفَرِيقِ بِالْوَصْفِ وَبِالسَّبَبِ.
فَأَمَّا الْوَصْفُ فَفِي قَوْلِهِ: عِبادِي الْمُفِيدِ أَنَّهُمْ تَمَحَّضُوا لِعُبُودِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْإِضَافَةُ، فَعَلِمَ أَنَّ مَنْ عَبَدُوا الْأَصْنَامَ وَالْجِنَّ وَأَعْرَضُوا عَنْ عُبُودِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسُوا مِنْ أُولَئِكَ.
وَأَمَّا السَّبَبُ فَفِي قَوْلِهِ: وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا الْمُفِيدِ أَنَّهُمْ تَوَكَّلُوا عَلَى اللَّهِ وَاسْتَعَاذُوا بِهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَكَانَ خَيْرَ وَكِيلٍ لَهُمْ إِذْ حَاطَهُمْ مِنَ الشَّيْطَانِ وَحَفِظَهُمْ مِنْهُ.
وَفِي هَذَا التَّوَكُّلِ مَرَاتِب من الانفلات عَنِ احْتِنَاكِ الشَّيْطَانِ، وَهِيَ مَرَاتِبُ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْأَخْذِ بِطَاعَةِ اللَّهِ كَمَا هُوَ الْحَقُّ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ.
فَالسُّلْطَانُ الْمَنْفِيُّ فِي قَوْلِهِ: لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ هُوَ الْحُكْمُ الْمُسْتَمِرُّ بِحَيْثُ يَكُونُونَ رَعِيَّتَهُ وَمِنْ جُنْدِهِ. وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَقَدْ يَسْتَهْوِيهِمُ الشَّيْطَانُ وَلَكِنَّهُمْ لَا يَلْبَثُونَ أَنْ يَثُوبُوا إِلَى الصَّالِحَاتِ، وَكَفَاكَ مِنْ ذَلِكَ دَوَامُ تَوْحِيدِهِمْ لِلَّهِ، وَتَصْدِيقُهُمْ
وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ كَانَ مُنْغَمِسًا فِي الضَّلَالَةِ اغْتَرَّ بِإِمْهَالِ اللَّهِ لَهُ فَرَكِبَهُ الْغُرُورُ كَمَا رَكِبَهُمْ إِذْ قَالُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا لَامُ الْأَمْرِ أَوِ الدُّعَاءِ، اسْتُعْمِلَتْ مَجَازًا فِي لَازِمِ مَعْنَى الْأَمْرِ، أَيِ التَّحْقِيقِ، أَيْ فسيمد لَهُ الرحمان مَدًّا، أَيْ أَنَّ ذَلِكَ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ فِي إِمْهَالِ الضُّلَّالِ، إِعْذَارًا لَهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ [فاطر: ٣٧]، وتنبيها لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ لَا يَغْتَرُّوا بِإِنْعَامِ اللَّهِ عَلَى الضُّلَّالِ حَتَّى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَدْعُونَ اللَّهَ بِهِ لِعَدَمِ اكْتِرَاثِهِمْ بِطُولِ مُدَّةِ نَعَيْمِ الْكُفَّارِ.
فَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ قُلْ أَنْ يَقُولَ النَّبِيءُ ذَلِكَ لِلْكُفَّارِ فَلَامُ الْأَمْرِ مُجَرَّدُ مَجَازٍ فِي التَّحْقِيقِ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ أَنْ يُبَلِّغَ النَّبِيءُ ذَلِكَ عَنِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ فَلَامُ الْأَمْرِ مَجَازٌ أَيْضًا وَتَجْرِيدٌ بِحَيْثُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَأْمُرُ نَفْسَهُ بِأَنْ يُمِدَّ لَهُمْ.
وَالْمَدُّ: حَقِيقَتُهُ إِرْخَاءُ الْحَبْلِ وَإِطَالَتُهُ، وَيُسْتَعْمَلُ مَجَازًا فِي الْإِمْهَالِ كَمَا هُنَا، وَفِي الْإِطَالَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: مَدَّ اللَّهُ فِي عُمْرِكَ.
ومَدًّا مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ مُؤَكِّدٌ لِعَامِلِهِ، أَيْ فَلْيُمْدِدْ لَهُ المدّ الشَّديد، فيسينتهي ذَلِكَ.
وحَتَّى لِغَايَةِ الْمَدِّ، وَهِيَ ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيْ يمدّ لَهُ الرحمان إِنِّي أَنْ يَرَوْا مَا يُوعَدُونَ، أَيْ لَا مَحِيصَ لَهُمْ عَنْ رُؤْيَةِ مَا أَوْعِدُوا مِنَ الْعَذَابِ وَلَا يَدْفَعُهُ عَنْهُ طُولُ مُدَّتِهِمْ فِي النِّعْمَةِ.
فَتَكُونُ الْغَايَةُ مَضْمُونُ الْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَهَا حَتَّى لَا لَفْظًا مُفْرَدًا. وَالتَّقْدِيرُ: يمدّ لَهُم الرحمان حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ فَيَعْلَمُوا مَنْ هُوَ أَسْعَدُ وَمَنْ هُوَ أَشْقَى.
وَذُكِرَ الْمَوْصُولُ فِي تَعْرِيفِهِمْ لِأَنَّ الْمَوْصُولَ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ سَبَبَ فَوْزِهِمْ هُوَ سَبْقُ تَقْدِيرِ الْهِدَايَةِ لَهُمْ. وَذُكِرَ اسْمُ الْإِشَارَةِ بَعْدَ ذَلِكَ لِتَمْيِيزِهِمْ بِتِلْكَ الْحَالَةِ الْحَسَنَةِ، وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ أَحْرِيَاءُ بِمَا يُذْكَرُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنْ أَجْلِ مَا تَقَدَّمَ عَلَى اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنَ الْأَوْصَافِ، وَهُوَ سَبْقُ الْحُسْنَى مِنَ اللَّهِ.
وَاخْتِيرَ اسْمُ إِشَارَةِ الْبَعِيدِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى رِفْعَةِ مَنْزِلَتِهِمْ، وَالرِّفْعَةُ تُشَبَّهُ بِالْبُعْدِ.
وَجُمْلَةُ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها بَيَانٌ لِمَعْنَى مُبْعَدُونَ، أَيْ مُبْعَدُونَ عَنْهَا بُعْدًا شَدِيدًا بِحَيْثُ لَا يَلْفَحُهُمْ حَرُّهَا وَلَا يَرُوعُهُمْ مَنْظَرُهَا وَلَا يَسْمَعُونَ صَوْتَهَا، وَالصَّوْتُ يَبْلُغُ إِلَى السَّمْعِ من أبعد مِمَّا يَبْلُغُ مِنْهُ الْمَرْئِيُّ.
وَالْحَسِيسُ: الصَّوْتُ الَّذِي يَبْلُغُ الْحِسَّ، أَيِ الصَّوْتُ الَّذِي يُسْمَعُ مِنْ بَعِيدٍ، أَيْ لَا يَقْرُبُونَ مِنَ النَّارِ وَلَا تَبْلُغُ أَسْمَاعَهُمْ أَصْوَاتُهَا، فَهُمْ سَالِمُونَ مِنَ الْفَزَعِ مِنْ أَصْوَاتِهَا فَلَا يَقْرَعُ أَسْمَاعَهُمْ مَا يُؤْلِمُهَا.
وَعَقَّبَ ذَلِكَ بِمَا هُوَ أَخَصُّ مِنَ السَّلَامَةِ وَهُوَ النَّعِيمُ الْمُلَائِمُ. وَجِيءَ فِيهِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ وَهُوَ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ وَمَا يَدُلُّ عَلَى الدَّوَامِ وَهُوَ خالِدُونَ.
وَالشَّهْوَةُ: تَشَوُّقُ النَّفْسِ إِلَى مَا يَلَذُّ لَهَا.
وَجُمْلَةُ لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ خَبَرٌ ثَانٍ عَنِ الْمَوْصُولِ.
وَالْفَزَعُ: نَفْرَةُ النَّفْسِ وَانْقِبَاضُهَا مِمَّا تَتَوَقَّعُ أَنْ يَحْصُلَ لَهَا مِنَ الْأَلَمِ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْجَزَعِ. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا فَزَعُ الْحَشْرِ حِينَ لَا يَعْرِفُ أَحَدٌ مَا سَيَؤُولُ إِلَيْهِ أَمْرُهُ، فَيَكُونُونَ فِي أَمْنٍ مِنْ ذَلِكَ بِطَمْأَنَةِ الْمَلَائِكَةِ إِيَّاهُمْ.
وَهَذَا مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ [النُّور: ٢٦] وَهَذَا يَتَضَمَّنُ أَنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا تَزَوَّجَ زَانِيَةً فَقَدْ وَضَعَ نَفْسَهُ فِي صَفِّ الزُّنَاةِ، أَيِ الْمُشْرِكِينَ.
وَعُطِفَ قَوْلُهُ: أَوْ مُشْرِكَةً عَلَى زانِيَةً لِزِيَادَةِ التَّفْظِيعِ فَإِنَّ الزَّانِيَةَ غَيْرَ الْمُسْلِمَةِ قَدْ تَكُونُ غَيْرَ مُشْرِكَةٍ مِثْلَ زَوَانِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَبَغَايَاهُمَا. وَكَذَلِكَ عُطِفَ أَوْ مُشْرِكٌ عَلَى إِلَّا زانٍ لِظُهُورِ أَنَّ الْمَقَامَ لَيْسَ بِصَدَدِ التَّشْرِيعِ لِلْمُشْرِكَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ أَحْكَامَ التَّزَوُّجِ بَيْنَهُمْ إِذْ لَيْسُوا بِمُخَاطَبِينَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ.
فَتَمَحَّضَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْمُؤْمِنَ الصَّالِحَ لَا يَتَزَوَّجُ الزَّانِيَةَ. ذَلِكَ لِأَنَّ الدُّرْبَةَ عَلَى الزِّنَى يَتَكَوَّنُ بِهَا خُلُقٌ يُنَاسِبُ أَحْوَالَ الزُّنَاةِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَلَا يَرْغَبُ فِي مُعَاشَرَةِ الزَّانِيَةِ إِلَّا
مَنْ تَرُوقُ لَهُ أَخْلَاقُ أَمْثَالِهَا، وَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ أَيَّامَئِذٍ قَرِيبِي عَهْدٍ بِشِرْكٍ وَجَاهِلِيَّةٍ فَكَانَ مِنْ مُهِمِّ سِيَاسَةِ الشَّرِيعَةِ لِلْمُسْلِمِينَ التَّبَاعُدُ بِهِمْ عَنْ كُلِّ مَا يُسْتَرْوَحُ مِنْهُ أَنْ يُذَكِّرَهُمْ بِمَا كَانُوا يَأْلَفُونَهُ قَصْدَ أَنْ تَصِيرَ أَخْلَاقُ الْإِسْلَامِ مَلَكَاتٍ فِيهِمْ فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُبْعِدَهُمْ عَمَّا قَدْ يُجَدِّدُ فِيهِمْ أَخْلَاقًا أَوْشَكُوا أَنْ يَنْسَوْهَا.
فَمَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ مَوْقِعُ الْمَقْصُودِ مِنَ الْكَلَامِ بَعْدَ الْمُقَدِّمَةِ وَلِذَلِكَ جَاءَتْ مُسْتَأْنَفَةً كَمَا تَقَعُ النَّتَائِجُ بَعْدَ أَدِلَّتِهَا، وَقُدِّمَ قَبْلَهَا حُكْمُ عُقُوبَةِ الزِّنَى لِإِفَادَةِ حُكْمِهِ وَمَا يَقْتَضِيهِ ذَلِكَ مِنْ تَشْنِيعِ فِعْلِهِ. فَلِذَلِكَ فَالْمُرَادُ بِالزَّانِي: مَنْ وَصْفُ الزِّنَى عَادَتُهُ.
وَفِي «تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ» عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَمُجَاهِدٍ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ خَاصَّةٌ فِي رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ اسْتَأْذَنَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نِكَاحِ امْرَأَةٍ يُقَالُ لَهَا: أُمُّ مَهْزُولٍ، وَكَانَتْ مِنْ بَغَايَا الزَّانِيَاتِ وَشَرَطَتْ لَهُ أَنْ تُنْفِقَ عَلَيْهِ (وَلَعَلَّ أُمَّ مَهْزُولٍ كُنْيَةُ عَنَاقَ وَلَعَلَّ الْقِصَّةَ وَاحِدَةٌ) إِذْ لَمْ يُرْوَ غَيْرُهَا. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَذَا خَاصٌّ بِهَذِهِ الْمَرْأَةِ إِذْ كَانَتْ كَافِرَةً فَأَمَّا الزَّانِيَةُ الْمُسْلِمَةُ فَإِنَّ الْعَقْدَ عَلَيْهَا لَا يُفْسَخُ.
وَأَصْلُهَا:
لَوْ أُرْجِعْنَا إِلَى الدُّنْيَا لَآمَنَّا، لَكِنَّهُ إِذَا لَمْ يَقْصِدُ تَعْلِيقَ الِامْتِنَاعِ عَلَى امْتِنَاعٍ تَمَحَّضَتْ (لَوْ) لِلتَّمَنِّي لِمَا بَيْنَ الشَّيْءِ الْمُمْتَنِعِ وَبَيْنَ كَوْنِهِ مُتَمَنًّى مِنَ الْمُنَاسَبَةِ. وَالْكَرَّةُ: مَرَّةٌ مِنَ الْكَرِّ وَهُوَ الرُّجُوع.
وانتصب فَنَكُونَ فِي جَوَاب التمنّي.
[١٠٣، ١٠٤]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ١٠٣ إِلَى ١٠٤]
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٠٤)
تَكْرِيرٌ ثَالِثٌ لَهَاتِهِ الْجُمْلَةِ تَعْدَادًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَتَسْجِيلًا لِتَصْمِيمِهِمْ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ إِشَارَةٌ إِلَى كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّ فِيهِ دَلِيلًا بَيِّنًا عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى وَبُطْلَانِ إِلَهِيَّةِ الْأَصْنَامِ، فَكَمَا لَمْ يَهْتَدِ بِهَا قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ فَمَا كَانَ أَكْثَرُ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ بِمُؤْمِنِينَ بِهَا بَعْدَ سَمَاعِهَا، وَلَكِنَّ التَّبْلِيغَ حَقٌّ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ هَذِه الْآيَة.
[١٠٥- ١١٠]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ١٠٥ إِلَى ١١٠]
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (١٠٥) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٠٦) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٠٧) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٠٨) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٩)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١١٠)
اسْتِئْنَافٌ لتسلية الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ناشىء عَنْ قَوْلِهِ: وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ [الشُّعَرَاء:
١٠٣] أَيْ لَا تَأْسَ عَلَيْهِمْ وَلَا يَعْظُمُ عَلَيْكَ أَنَّهُمْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ وَقَدْ عَلِمَ الْعَرَبُ رِسَالَةَ نُوحٍ، وَكَذَلِكَ شَأْنُ أَهْلِ الْعُقُولِ الضَّالَّةِ أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ الْأَحْوَالَ وَيَنْسَوْنَ أَسْبَابَهَا.
وَأُنِّثَ الْفِعْلُ الْمُسْنَدُ إِلَى قَوْمِ نُوحٍ لِتَأْوِيلِ قَوْمُ بِمَعْنَى الْأُمَّةِ أَوِ الْجَمَاعَةِ كَمَا
[سُورَة الْقَصَص (٢٨) : الْآيَات ٦٢ إِلَى ٦٣]
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٦٢) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ مَا كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (٦٣)تَخَلُّصٌ مِنْ إِثْبَاتِ بِعْثَةِ الرُّسُلِ وَبِعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى إِبْطَالِ الشُّرَكَاءِ لِلَّهِ، فَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً [الْقَصَص: ٦١] مُفِيدَةٌ سَبَبَ كَوْنِهِمْ مِنَ الْمُحْضَرِينَ، أَيْ لِأَنَّهُمُ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ، وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ يَشْفَعُونَ لَهُمْ فَإِذَا هُمْ لَا يَجِدُونَهُمْ يَوْمَ يُحْضَرُونَ لِلْعَذَابِ، فَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ مَبْدَأَ الْجُمْلَةِ قَوْلَهُ يُنادِيهِمْ فَيَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ [الْقَصَص: ٦١] أَيْ يُحْضَرُونَ ويُنادِيهِمْ فَيَقُولُ: أَيْنَ شُرَكائِيَ إِلَخْ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ مَبْدَأَ الْجُمْلَةِ قَوْلَهُ يَوْمَ يُنادِيهِمْ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ عَطْفَ مُفْرَدَاتٍ فَيَكُونَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ عَطْفًا عَلَى يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ [الْقَصَص: ٦١] فَيَكُونَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ عَيْنَ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يَأْتِيَ بَدَلًا مِنْ يَوْمَ الْقِيامَةِ لَكِنَّهُ عَدَلَ عَنِ الْإِبْدَالِ إِلَى الْعَطْفِ لِاخْتِلَافِ حَالِ ذَلِكَ الْيَوْمِ بِاخْتِلَافِ الْعُنْوَانِ، فَنُزِّلَ مَنْزِلَةَ يَوْمٍ مُغَايِرٍ زِيَادَةً فِي تَهْوِيلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ مَنْصُوبًا بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ بَعْدَ وَاوِ الْعَطْفِ بِتَقْدِيرِ: اذْكُرْ، أَوْ بِتَقْدِيرِ فِعْلٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَعْنَى النِّدَاءِ. وَاسْتِفْهَامُ التَّوْبِيخِ مِنْ حُصُول أَمر فضيع، تَقْدِيرُهُ: يَوْمَ يُنَادِيهِمْ يَكُونُ مَا لَا يُوصَفُ مِنَ الرُّعْبِ.
وَضَمِيرُ يُنادِيهِمْ الْمَرْفُوعُ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَضَمِيرُ الْجَمْعِ الْمَنْصُوبُ عَائِدٌ إِلَى الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا [الْقَصَص: ٥٧] فَالْمُنَادَوْنَ جَمِيعُ الْمُشْرِكِينَ كَمَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ.
وَالِاسْتِفْهَامُ بِكَلِمَةِ أَيْنَ ظَاهِرُهُ اسْتِفْهَامٌ عَنِ الْمَكَانِ الَّذِي يُوجَدُ فِيهِ الشُّرَكَاءُ وَلَكِنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً عَنِ انْتِفَاءِ وُجُودِ الشُّرَكَاءِ الْمَزْعُومِينَ يَوْمَئِذٍ، فَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الِانْتِفَاءِ.
وَمَفْعُولَا تَزْعُمُونَ مَحْذُوفَانِ دَلَّ عَلَيْهِمَا شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَيْ تَزْعُمُونَهُمْ شُرَكَائِيَ، وَهَذَا الْحَذْفُ اخْتِصَارٌ وَهُوَ جَائِزٌ فِي مَفْعُولَيْ (ظَنَّ).
وَجَوَّزَ ابْنُ عَطِيَّة أَن تكون جُمْلَةُ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ: مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ كَلِمِ لُقْمَانَ. فَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ، وَانْظُرْ مَنْ رَوَى هَذَا وَمِقْدَار صِحَّته.
[١٤- ١٥]
[سُورَة لُقْمَان (٣١) : الْآيَات ١٤ إِلَى ١٥]
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (١٤) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٥)
إِذَا دَرَجْنَا عَلَى أَنَّ لُقْمَانَ لَمْ يَكُنْ نَبِيئًا مُبَلِّغًا عَنِ اللَّهِ وَإِنَّمَا كَانَ حَكِيمًا مُرْشِدًا كَانَ هَذَا الْكَلَامُ اعْتِرَاضًا بَيْنَ كَلَامَيْ لُقْمَانَ لِأَنَّ صِيغَةَ هَذَا الْكَلَامِ مَصُوغَةٌ عَلَى أُسْلُوبِ الْإِبْلَاغِ وَالْحِكَايَةِ لِقَوْلٍ مِنْ أَقْوَالِ اللَّهِ. وَالضَّمَائِرُ ضَمَائِرُ الْعَظَمَةِ جَرَّتْهُ مُنَاسِبَةُ حِكَايَةِ نَهْيِ لُقْمَانَ لِابْنِهِ عَنِ الْإِشْرَاكِ وتفظيعه بِأَنَّهُ ظلم عَظِيمٌ. فَذَكَرَ اللَّهُ هَذَا لِتَأْكِيدِ مَا فِي وَصِيَّةِ لُقْمَانَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الشِّرْكِ بِتَعْمِيمِ النَّهْيِ فِي الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ النَّهْيَ خَاصٌّ بِابْنِ لُقْمَانَ أَوْ بِبَعْضِ الْأَحْوَالِ فَحَكَى اللَّهُ أَنَّ اللَّهَ أَوْصَى بِذَلِكَ كُلَّ إِنْسَانٍ وَأَنْ لَا هَوَادَةَ فِيهِ وَلَوْ فِي أَحْرَجِ الْأَحْوَالِ وَهِيَ حَالُ مُجَاهَدَةِ الْوَالِدَيْنِ أَوْلَادَهُمْ عَلَى الْإِشْرَاكِ. وَأَحْسَنُ مِنْ هَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ أَنْ تَجْعَلَ مُنَاسَبَةَ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ لَمَّا حَكَى وِصَايَةَ لُقْمَانَ لِابْنِهِ بِمَا هُوَ شُكْرُ اللَّهِ بِتَنْزِيهِهِ عَنِ الشِّرْكِ فِي الْإِلَهِيَّةِ بَيَّنَ اللَّهُ أَنَّهُ تَعَالَى أَسْبَقُ مِنَّةً عَلَى عِبَادِهِ إِذْ أَوْصَى الْأَبْنَاءَ بِبَرِّ الْآبَاءِ فَدَخَلَ فِي الْعُمُومِ الْمِنَّةُ عَلَى لُقْمَانَ جَزَاءً عَلَى رَعْيِهِ لِحَقِّ اللَّهِ فِي ابْتِدَاءِ مَوْعِظَةِ ابْنِهِ فَاللَّهُ أَسْبَقُ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِرَعْيِ حَقِّهِ. وَيُقَوِّي هَذَا التَّفْسِيرَ اقْتِرَانُ شُكْرِ اللَّهِ وَشُكْرِ الْوَالِدَيْنِ فِي الْأَمْرِ.
وَإِذَا دَرَجْنَا عَلَى أَنَّ لُقْمَانَ كَانَ نَبِيئًا فَهَذَا الْكَلَامُ مِمَّا أَبْلَغَهُ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ مِمَّا أُوتِيَهُ مِنَ الْوَحْيِ وَيَكُونَ قَدْ حُكِيَ بِالْأُسْلُوبِ الَّذِي أُوحِيَ بِهِ إِلَيْهِ عَلَى نَحْوِ أُسْلُوبِ قَوْلِهِ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ [لُقْمَان: ١٢] وَهَذَا الِاحْتِمَالُ أَنْسَبُ بِسِيَاقِ الْكَلَامِ، وَيُرَجِّحُهُ اخْتِلَافُ
الْحَدِيدِ، وَفَضْلُ إِيتَائِهِ الزَّبُورَ، وَإِيتَائِهِ حُسْنَ الصَّوْتِ، وَطُولَ الْعُمْرِ فِي الصَّلَاحِ وَغَيْرُ ذَلِكَ.
وَجُمْلَةُ يَا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٌ، وَحَذْفُ الْقَوْلِ اسْتِعْمَالٌ شَائِعٌ، وَفِعْلُ الْقَوْلِ الْمَحْذُوفِ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِجُمْلَةِ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا.
وَفِي هَذَا الْأُسْلُوبِ الَّذِي نُظِمَتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ مِنَ الْفَخَامَةِ وَجَلَالَةِ الْخَالِقِ وَعِظَمِ شَأْنِ دَاوُدَ مَعَ وَفْرَةِ الْمَعَانِي وَإِيجَازِ الْأَلْفَاظِ وَإِفَادَةِ مَعْنَى الْمَعِيَّةِ بِالْوَاوِ دُونَ مَا لَوْ كَانَتْ حَرْفَ عَطْفٍ.
وَالْأَمْرُ فِي أَوِّبِي مَعَهُ أَمْرُ تَكْوِينٍ وَتَسْخِيرٍ.
وَالتَّأْوِيبُ: التَّرْجِيعُ، أَيْ تَرْجِيعُ الصَّوْتِ، وَقِيلَ: التَّأْوِيبُ بِمَعْنَى التَّسْبِيحِ لُغَةٌ حَبَشِيَّةٌ فَهُوَ مِنَ المعرب فِي اللُّغَة الْعَرَبِيَّةِ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ تَسْبِيحِ الْجِبَالِ مَعَ دَاوُدَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ.
والطَّيْرَ مَنْصُوبٌ بِالْعَطْفِ عَلَى الْمُنَادَى لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ الْمُعَرَّفَ عَلَى الْمُنَادَى يَجُوزُ نَصْبُهُ وَرَفْعُهُ، وَالنَّصْبُ أَرْجَحُ عِنْدَ يُونُسَ وَأَبِي عَمْرٍو وَعِيسَى بْنِ عُمَرَ وَالْجَرْمِيِّ وَهُوَ أوجه، وَيجوز أَنْ يَكُونَ وَالطَّيْرَ مَفْعُولًا مَعَهُ لِ أَوِّبِي. وَالتَّقْدِيرُ: أَوِّبِي مَعَهُ وَمَعَ الطَّيْرِ، فَيُفِيدُ أَنَّ الطَّيْرَ تَأَوَّبَ مَعَهُ أَيْضًا.
وَإِلَانَةُ الْحَدِيدِ: تَسْخِيرُهُ لِأَصَابِعِهِ حِينَمَا يَلْوِي حَلَقِ الدُّرُوعِ وَيَغْمِزُ الْمَسَامِيرَ.
وأَنِ تَفْسِيرِيَّةٌ لِمَا فِي أَلَنَّا لَهُ مِنْ مَعْنَى: أَشْعَرْنَاهُ بِتَسْخِيرِ الْحَدِيدِ لِيُقْدِمَ عَلَى صُنْعِهِ فَكَانَ فِي أَلَنَّا مَعْنَى: وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ: أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ.
والْحَدِيدَ تُرَابٌ مَعْدِنِيٌّ إِذَا صُهِرَ بِالنَّارِ امْتَزَجَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ وَلَانَ وَأُمْكِنَ تَطْرِيقُهُ وَتَشْكِيلُهُ فَإِذَا برد تصلب. وَقد تقدم عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [٥٠].
وسابِغاتٍ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ لِظُهُورِهِ مِنَ الْمَقَامِ إِذْ شَاعَ وَصْفُ
وَالْفِدَى وَالْفِدَاءُ: إِعْطَاءُ شَيْءٍ بَدَلًا عَنْ حَقٍّ لِلْمُعْطَى، وَيُطْلَقُ عَلَى الشَّيْءِ الْمُفَدَّى بِهِ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ عَلَى الْمَفْعُولِ. وَأُسْنِدَ الْفِدَاءُ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ الْآذِنُ بِهِ، فَهُوَ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، فَإِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَى إِبْرَاهِيمَ أَنْ يَذْبَحَ الْكَبْشَ فِدَاءً عَنْ ذَبْحِ ابْنِهِ وَإِبْرَاهِيمُ هُوَ الْفَادِي بِإِذْنِ اللَّهِ، وَابْنُ إِبْرَاهِيمَ مُفْدًى.
وَالذِّبْحُ بِكَسْرِ الذَّالِ: الْمَذْبُوحُ وَوَزْنُ فِعْلٍ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَسُكُونِ عَيْنِ الْكَلِمَةِ يُكْثِرُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ مِمَّا اشْتُقَّ مِنْهُ مِثْلَ: الْحِبُّ وَالطِّحْنُ وَالْعِدْلُ.
وَوَصْفُهُ بِ عَظِيمٍ بِمَعْنَى شَرُفَ قَدْرُ هَذَا الذِّبْحِ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ فَدَى بِهِ ابْنَ رَسُولٍ وَأَبْقَى بِهِ مَنْ سَيَكُونُ رَسُولًا فَعَظَّمَهُ بِعِظَمِ أَثَرِهِ، وَلِأَنَّهُ سَخَّرَهُ اللَّهُ لِإِبْرَاهِيمَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَذَلِكَ الْمَكَانِ.
وَقَدْ أَشَارَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ إِلَى قِصَّةِ الذَّبِيحِ وَلَمْ يُسَمِّهِ الْقُرْآنُ لِعِلَّةٍ لِئَلَّا يُثِيرَ خِلَافًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ فِي تَعْيِينِ الذَّبِيحِ مِنْ وَلَدَيْ إِبْرَاهِيمَ، وَكَانَ الْمَقْصِدُ تَأَلُّفَ أَهْلِ الْكِتَابِ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ فِي الِاعْتِرَافِ برسالة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَصْدِيقِ الْقُرْآنِ، وَلَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ مَقْصِدٌ مُهِمٌّ يَتَعَلَّقُ بِتَعْيِينِ الذَّبِيحِ وَلَا فِي تَخْطِئَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي تَعْيِينِهِ، وَأَمَارَةُ ذَلِكَ أَنَّ
الْقُرْآنَ سَمَّى إِسْمَاعِيلَ فِي مَوَاضِعَ غَيْرَ قِصَّةِ الذَّبْحِ وَسَمَّى إِسْحَاقَ فِي مَوَاضِعَ، وَمِنْهَا بِشَارَةُ أُمِّهِ عَلَى لِسَانِ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ أُرْسِلُوا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ، وَذَكَرَ اسْمَيْ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ أَنَّهُمَا وُهِبَا لَهُ عَلَى الْكِبَرِ وَلَمْ يُسَمِّ أَحَدًا فِي قِصَّةِ الذَّبْحِ قَصْدًا لِلْإِبْهَامِ مَعَ عَدَمِ فَوَاتِ الْمَقْصُودِ مِنَ الْفَضْلِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْقِصَّةِ التَّنْوِيهُ بِشَأْنِ إِبْرَاهِيمَ فَأَيُّ وَلَدَيْهِ كَانَ الذَّبِيحَ كَانَ فِي ابْتِلَائِهِ بِذَبْحِهِ وَعَزْمِهِ عَلَيْهِ وَمَا ظَهَرَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْمُعْجِزَةِ تَنْوِيهٌ عَظِيمٌ بِشَأْنِ إِبْرَاهِيمَ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت: ٤٦]
وَقَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ»
. رَوَى الْحَاكِمُ فِي «الْمُسْتَدْرَكِ» عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّ أَحَدَ الْأَعْرَابِ قَالَ للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا ابْنَ الذَّبِيحَيْنِ فَتَبَسَّمَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَعْنِي أَنَّهُ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ وَهُوَ الذَّبِيحُ وَأَنَّ أَبَاهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ كَانَ أَبُوهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ نَذَرَ: لَئِنْ رَزَقَهُ اللَّهُ بِعَشَرَةِ بَنِينَ أَنْ يَذْبَحَ الْعَاشِرَ لِلْكَعْبَةِ، فَلَمَّا وُلِدَ عَبْدُ اللَّهِ وَهُوَ الْعَاشِرُ عَزَمَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ عَلَى الْوَفَاءِ بِنَذْرِهِ، فَكَلَّمَهُ كَبَرَاءُ أَهْلِ الْبِطَاحِ أَنْ يَعْدِلَهُ
بِالرَّبِّ الَّذِي دَعَا إِلَيْهِ مُوسَى، وَمُسْرِفُونَ فِيمَا يَسْتَتْبِعُهُ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَاصِي وَالْجَرَائِمِ فَضَمِيرُ الْفَصْلِ فِي قَوْلِهِ: هُمْ أَصْحابُ النَّارِ يُفِيدُ قَصْرًا ادِّعَائِيًّا لِأَنَّهُمُ الْمُتَنَاهُونَ فِي صُحْبَةِ النَّارِ بِسَبَبِ الْخُلُودِ بِخِلَافِ عُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهَذَا لِحَمْلِ كَلَامِ الْمُؤْمِنِ عَلَى مُوَافَقَةِ الْوَاقِعِ لِأَنَّ الْمَظْنُونَ بِهِ أَنه نَبِي أَوْ مُلْهَمٌ وَإِلَّا فَإِنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ تَمْيِيزِ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ حَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَلَيْسَ مَقَامَ تَفْصِيلِ دَرَجَاتِ الْجَزَاءِ فِي الْآخِرَة.
[٤٤]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : آيَة ٤٤]
فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٤٤)
هَذَا الْكَلَامُ مُتَارَكَةٌ لِقَوْمِهِ وَتَنْهِيَةٌ لِخِطَابِهِ إِيَّاهُمْ وَلَعَلَّهُ اسْتَشْعَرَ مِنْ مَلَامِحِهِمْ أَوْ مِنْ مُقَاطَعَتِهِمْ كَلَامَهُ بِعِبَارَاتِ الْإِنْكَارِ، مَا أَيْأَسَهُ مِنْ تَأَثُّرِهِمْ بِكَلَامِهِ، فَتَحَدَّاهُمْ بِأَنَّهُمْ إِنْ أَعْرَضُوا عَنِ الِانْتِصَاحِ لِنُصْحِهِ سَيَنْدَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ إِمَّا فِي الدُّنْيَا كَمَا اقْتَضَاهُ تهديده لَهُم بقوله: إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ [غَافِر: ٣٠]، أَو فِي الْآخِرَة كَمَا اقْتَضَاهُ قَوْله: إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ [غَافِر: ٣٢]، فَالْفَاءُ تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ [غَافِر: ٤١].
وَفَعَلُ سَتَذْكُرُونَ مُشْتَقٌّ مِنَ الذِّكْرِ بِضَمِّ الذَّالِ وَهُوَ ضِدُّ النِّسْيَانِ، أَيْ سَتَذْكُرُونَ فِي عُقُولِكُمْ، أَيْ مَا أَقُولُ لَكُمُ الْأَنَ يَحْضُرُ نَصْبَ بَصَائِرِكُمْ يَوْمَ تَحَقُّقِهُ، فَشَبَّهَ الْإِعْرَاضَ بِالنِّسْيَانِ وَرَمْزَ إِلَى النِّسْيَانِ بِمَا هُوَ مِنْ لَوَازِمِهِ فِي الْعَقْلِ مُلَازِمَةَ الضِّدِّ لِضِدِّهِ وَهُوَ التَّذَكُّرُ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَكْنِيَّةِ وَفِي قَرِينَتِهَا اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ. وَالْمَعْنَى سَيَحِلُّ بِكُمْ مِنَ الْعَذَابِ مَا يُذَكِّرُكُمْ مَا أَقُولُهُ: إِنَّهُ سَيَحِلُّ بِكُمْ.
وَجُمْلَةُ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ، وَمَسَاقُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَسَاقُ الِانْتِصَافِ مِنْهُمْ لِمَا أَظْهَرُوهُ لَهُ مِنَ الشَّرِّ، يَعْنِي: أَنِّي أَكِلُ شَأْنِي وَشَأْنَكُمْ مَعِي إِلَى اللَّهِ فَهُوَ يَجْزِي كُلَّ فَاعِلٍ بِمَا فَعَلَ، وَهَذَا كَلَامُ مُنْصِفٍ فَالْمُرَادُ بِ أَمْرِي شَأْنِي وَمُهِمِّي.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ، أَيْ إِلَى اللَّهِ لَا إِلَى غَيْرِهِ.
وَالْمَصِيرُ: الرُّجُوعُ وَالِانْتِهَاءُ، وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِظُهُورِ الْحَقَائِقِ كَمَا هِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَذْهَبُ تَلْبِيسُ الْمُلَبِّسِينَ، وَيَهِنُ جَبَرُوتُ الْمُتَجَبِّرِينَ، وَيُقِرُّ بِالْحَقِّ مَنْ كَانَ فِيهِ مِنَ الْمُعَانِدِينَ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ [لُقْمَان: ٢٢] وَقَوْلِهِ: وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ [هود: ١٢٣]. والأمور: الشؤون وَالْأَحْوَالُ وَالْحَقَائِقُ وَكُلُّ مَوْجُودٍ مِنَ الذَّوَاتِ وَالْمَعَانِي.
وَقَدْ أَخَذَ هَذَا الْمَعْنَى الْكُمَيْتُ فِي قَوْلِهِ:
فَالْآنَ صرت إِلَى أُميَّة وَالْأُمُورُ إِلَى مَصَائِرْ وَفِي تَنْهِيَةِ السُّورَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ مُحَسِّنُ حُسْنِ الْخِتَامِ.
مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ»
وَقَالَ يَوْمَ حُنَيْنٍ: «أَشْهَدُ أَنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ».
وَصَحَّ أَنَّهُ كَانَ يُتَابِعُ قَوْلَ الْمُؤَذِّنِ «أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ».
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِلنَّاسِ خَاصَّةً وَلَا إِشْكَالَ فِي عَطْفِ وَرَسُولِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ قَدِ انْتَهَى عِنْدَ قَوْلِهِ وَنَذِيراً وَتَكُونُ جُمْلَةُ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ إِلَخْ جُمْلَةً مُعْتَرِضَةً، وَيَكُونُ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ لِتُؤْمِنُوا لَامَ الْأَمْرِ وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافًا لِلْأَمْرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ [٧].
وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِيَاءِ الْغَيْبَةِ فِيهَا، وَالضَّمَائِرُ عَائِدَةٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ السِّيَاقِ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ وَالتَّبْشِيرَ وَالنِّذَارَةَ مُتَعَيِّنَةٌ لِلتَّعَلُّقِ بِمُقَدَّرٍ، أَيْ شَاهِدًا عَلَى النَّاسِ وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لَهُمْ لِيُؤْمِنُوا بِاللَّهِ إِلَخْ.
وَالتَّعْزِيزُ: النَّصْرُ وَالتَّأْيِيدُ، وَتَعْزِيزُهُمُ اللَّهَ كَقَوْلِهِ: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ [مُحَمَّد: ٧].
وَالتَّوْقِيرُ: التَّعْظِيمُ. وَالتَّسْبِيحُ: الْكَلَامُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ كُلِّ النَّقَائِصِ.
وَضَمَائِرُ الْغَيْبَةِ الْمَنْصُوبَةُ الثَّلَاثَةُ عَائِدَةٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ لِأَنَّ إِفْرَادَ الضَّمَائِرِ مَعَ كَوْنِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهَا اسْمَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَحَدُهُمَا. وَالْقَرِينَةُ عَلَى تَعْيِينِ الْمُرَادِ ذِكْرُ وَتُسَبِّحُوهُ
، وَلِأَنَّ عَطْفَ وَرَسُولِهِ عَلَى لَفْظِ الْجَلَالَةِ اعْتِدَادٌ بِأَنَّ الْإِيمَان بالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيمَانٌ بِاللَّهِ فَالْمَقْصُودُ هُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ. وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ: إِنَّ ضَمِيرَ تُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ عَائِدٌ إِلَى رَسُولِهِ.
وَالْبُكْرَةُ: أَوَّلُ النَّهَارِ. وَالْأَصِيلُ: آخِرُهُ، وَهُمَا كِنَايَةٌ عَنِ اسْتِيعَابِ الْأَوْقَاتِ بِالتَّسْبِيحِ وَالْإِكْثَارِ مِنْهُ، كَمَا يُقَالُ: شَرْقًا وَغَرْبًا لِاسْتِيعَابِ الْجِهَاتِ. وَقِيلَ التَّسْبِيحُ هُنَا: كِنَايَةٌ عَنِ الصَّلَوَاتِ الْوَاجِبَةِ وَالْقَوْلُ فِي بُكْرَةً وَأَصِيلًا هُوَ هُوَ.
وَقَدْ وَقَعَ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا النَّبِيءُ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً [الْأَحْزَاب: ٤٥، ٤٦]،
فَجَمِيعُ مَا عَدَّدَ مِنَ النِّعَمِ عَلَى أَقْوَامٍ وَالنِّقَمِ عَنْ آخَرِينَ هُوَ نِعَمٌ مَحْضَةٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ.
وَ (أَيِّ) اسْمُ اسْتِفْهَامٍ يُطْلَبُ بِهِ تَمْيِيزُ مُتَشَارِكٍ فِي أَمْرٍ يَعُمُّ بِمَا يُمَيِّزُ الْبَعْضَ عَنِ الْبَقِيَّةِ
مِنْ حَالٍ يَخْتَصُّ بِهِ مُسْتَعْمَلٌ هُنَا فِي التَّسْوِيَةِ كِنَايَةً عَنْ تَسَاوِي مَا عُدِّدَ مِنَ الْأُمُورِ فِي أَنَّهَا نِعَمٌ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَعْدُودَاتِ نَقْصٌ عَنْ نَظَائِرِهِ فِي النِّعْمَةِ كَقَوْلِ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْخُرْشُبِ (وَقَدْ سُئِلَتْ: أَيُّ بَنِيكِ أَفْضَلُ) «ثَكِلْتُهُمْ إِنْ كُنْتُ أَدْرِي أَيُّهُمْ أَفْضَلُ»، أَيْ إِنْ كُنْتُ أَدْرِي جَوَاب هَذَا السُّؤَالِ، وَكَقَوْلِ الْأَعْشَى:
بِأَشْجَعَ أَخَّاذٍ عَلَى الدَّهْرِ حُكْمَهُ | فَمِنْ أَي مَا تَأتي الْحَوَادِثُ أَفْرَقُ |
فَالْمَعْنَى أَنَّكَ لَا تَحْصُلُ لَكَ مِرْيَةٌ فِي وَاحِدَةٍ مِنْ آلَاءِ رَبِّكَ فَإِنَّهَا سَوَاءٌ فِي الْإِنْعَامِ، وَالْخِطَابُ بِقَوْلِهِ: رَبِّكَ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الْمُنَاسب لِذِكْرِ الْآلَاءِ وَالْمُوَافِقُ لِإِضَافَةِ (رَبِّ) إِلَى ضَمِيرِ الْمُفْرَدِ الْمُخَاطَبِ فِي عُرْفِ الْقُرْآنِ.
وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ مِنَ النَّاسِ، أَيِ الْمُكَذِّبِينَ أَيْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَا يَخْلُو شَيْءٌ مِمَّا عَدَّدَ سَابِقًا عَنْ نِعْمَةٍ لِبَعْضِ النَّاسِ أَوْ بِاعْتِبَارِ عَدَمِ تَخْصِيصِ الْآلَاءِ بِمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ بَلِ الْمُرَادُ جِنْسُ الْآلَاءِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [الرَّحْمَن: ١٦].
وَالْآلَاءُ: النِّعَمُ، وَهُوَ جَمْعٌ مُفْرَدُهُ: إِلًى، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَبِفَتْحِهَا مَعَ فَتْحِ اللَّامِ مَقْصُورًا، وَيُقَالُ: إِلْيٌ، وَأَلْيٌ، بِسُكُونِ اللَّامِ فِيهِمَا وَآخِرُهُ يَاءٌ مُتَحَرِّكَةٌ، وَيُقَالُ: أَلْوٌ، بِهَمْزٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَهَا لَامٌ سَاكِنَةٌ وَآخِرُهُ وَاوٌ مُتَحَرِّكَةٌ مِثْلُ: دَلْوٍ.
وَالتَّمَارِي: التَّشَكُّكُ وَهُوَ تَفَاعُلٌ مِنَ الْمِرْيَةِ فَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ بِقَوْلِهِ: رَبِّكَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ تَتَمارى مُطَاوِعَ مَارَاهُ مِثْلُ التَّدَافُعُ مُطَاوِعُ دَفَعَ فِي قَوْلِ الْمُنَخَّلِ:
فَدَفَعْتُهَا فَتَدَافَعَتْ | مَشْيَ الْقَطَاةِ إِلَى الْغَدِيرِ |