الِاهْتِمَامَ، ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الِاهْتِمَامَ تَأَتَّى بِهِ اعْتِبَارُ الِاهْتِمَامِ بِتَقْدِيمِهِ أَيْضًا عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى اعْتِدَادًا بِأَهَمِّيَّةِ الْحَمْدِ الْعَارِضَةِ فِي الْمَقَامِ وَإِنْ ذِكْرُ اللَّهِ أَهَمَّ فِي نَفْسِهِ لِأَنَّ الْأَهَمِّيَّةَ الْعَارِضَةَ تُقَدَّمُ عَلَى الْأَهَمِّيَّةِ الْأَصْلِيَّةِ لِأَنَّهَا أَمْرٌ يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ وَالْحَالُ وَالْآخَرُ يَقْتَضِيهِ الْوَاقِعُ، وَالْبَلَاغَةُ هِيَ الْمُطَابَقَةُ لِمُقْتَضَى الْحَالِ وَالْمَقَامِ، وَلِأَنَّ مَا كَانَ الِاهْتِمَامُ بِهِ لِعَارِضٍ هُوَ الْمُحْتَاجُ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى عَارِضِهِ إِذْ قَدْ يَخْفَى، بِخِلَافِ الْأَمْرِ الْمَعْرُوفِ الْمُقَرَّرِ فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّنْبِيهِ عَلَيْهِ بَلْ وَلَا يُفِيتُهُ التَّنْبِيهُ عَلَى غَيْرِهِ.
فَإِنْ قُلْتَ كَيْفَ يَصِحُّ كَوْنُ تَقْدِيمِ الْحَمْدِ وَهُوَ مُبْتَدَأٌ مُؤْذِنًا بِالِاهْتِمَامِ مَعَ أَنَّهُ الْأَصْلُ،
وَشَأْنُ التَّقْدِيمِ الْمُفِيدِ لِلِاهْتِمَامِ هُوَ تَقْدِيمُ مَا حَقُّهُ التَّأْخِيرِ؟
قُلْتُ لَوْ سَلِمَ ذَلِكَ فَإِنَّ مَعْنَى تَقْدِيمِهِ هُوَ قَصْدُ الْمُتَكَلِّمِ لِلْإِتْيَانِ بِهِ مُقَدَّمًا مَعَ إِمْكَانِ الْإِتْيَانِ بِهِ مُؤَخَّرًا لِأَنَّ لِلْبُلَغَاءِ صِيغَتَيْنِ مُتَعَارَفَتَيْنِ فِي حَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى إِحْدَاهُمَا الْحَمْدُ لِلَّهِ كَمَا فِي الْفَاتِحَة وَالْأُخْرَى فَلِلَّهِ كَمَا فِي سُورَةِ الْجَاثِيَةِ [٣٦].
وَأَمَّا قَصْدُ الْعُمُومِ فَسَيَتَّضِحُ عِنْدَ بَيَانِ مَعْنَى التَّعْرِيفِ فِيهِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِيهِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ هُنَا فِي الْأَصْلِ عِوَضٌ عَنِ الْفِعْلِ فَلَا جَرَمَ أَنْ يَكُونَ الدَّالُّ عَلَى الْفِعْلِ وَالسَّادُّ مَسَدَّهُ دَالًّا عَلَى الْجِنْسِ فَإِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ اللَّامُ فَهُوَ لِتَعْرِيفِ مَدْلُولِهِ لِأَنَّ اللَّامَ تَدُلُّ عَلَى التَّعْرِيفِ لِلْمُسَمَّى فَإِذَا كَانَ الْمُسَمَّى جِنْسًا فَاللَّامُ تَدُلُّ عَلَى تَعْرِيفِهِ. وَمَعْنَى تَعْرِيفِ الْجِنْسِ أَنَّ هَذَا الْجِنْسَ هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ السَّامِعِ فَإِذَا قُلْتَ الْحَمْدُ لِلَّهِ أَوِ الْعَجَبُ لَكَ فَكَأَنَّكَ تُرِيدُ أَنَّ هَذَا الْجِنْسَ مَعْرُوفٌ لَدَيْكَ وَلَدَى مُخَاطَبِكَ لَا يَلْتَبِسُ بِغَيْرِهِ كَمَا أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ الرَّجُلُ وَأَرَدْتَ مُعَيَّنًا فِي تَعْرِيفِ الْعَهْدِ النَّحْوِيِّ فَإِنَّكَ تُرِيدُ أَنَّ هَذَا الْوَاحِدَ مِنَ النَّاسِ مَعْرُوفٌ بَيْنَكَ وَبَيْنَ مُخَاطَبِكَ فَهُوَ فِي الْمَعْنَى كَالنَّكِرَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ تَعْرِيفَ الْجِنْسِ لَيْسَ مَعَهُ كَبِيرُ مَعْنًى إِذْ تَعَيُّنُ الْجِنْسِ مِنْ بَيْنِ بَقِيَّةِ الْأَجْنَاسِ حَاصِلٌ بِذِكْرِ لَفْظَهِ الدَّالِّ عَلَيْهِ لُغَةً وَهُوَ كَافٍ فِي عَدَمِ الدَّلَالَةِ عَلَى غَيْرِهِ، إِذْ لَيْسَ غَيْرُهُ مِنَ الْأَجْنَاسِ بِمُشَارِكٍ لَهُ فِي اللَّفْظِ وَلَا مُتَوَهَّمٍ دُخُولُهُ مَعَهُ فِي ذِهْنِ الْمُخَاطَبِ بِخِلَافِ تَعْرِيفِ الْعَهْدِ الْخَارِجِيِّ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ بَيْنَكَ وَبَيْنَ مُخَاطَبِكَ مِنْ بَيْنِ بَقِيَّةِ أَفْرَادِ الْجِنْسِ الَّتِي يَشْمَلُهَا اللَّفْظُ، فَلَا يُفِيدُ هَذَا التَّعْرِيفُ أَعْنِي تَعْرِيفَ الْجِنْسِ إِلَّا تَوْكِيدَ اللَّفْظِ وَتَقْرِيرَهُ وَإِيضَاحَهُ لِلسَّامِعِ لِأَنَّكَ
فِي الْأَجْسَادِ، فَتَقْوَى الطَّبَائِعُ الْحَيَوَانِيَّةُ الَّتِي فِي الْإِنْسَانِ مِنَ الْقُوَّةِ الشَّهْوِيَّةِ وَالْقُوَّةِ الْغَضَبِيَّةِ. وَتَطْغَيَانِ عَلَى الْقُوَّةِ الْعَاقِلَةِ، فَجَاءَتِ الشَّرَائِعُ بِشَرْعِ الصِّيَامِ، لِأَنَّهُ يَفِي بِتَهْذِيبِ تِلْكَ الْقُوَى، إِذْ هُوَ يُمْسِكُ الْإِنْسَانَ عَنِ الِاسْتِكْثَارِ مِنْ مُثِيرَاتِ إِفْرَاطِهَا، فَتَكُونُ نَتِيجَتُهُ تَعْدِيلَهَا فِي أَوْقَاتٍ مُعَيَّنَةٍ هِيَ مَظِنَّةُ الِاكْتِفَاءِ بِهَا إِلَى أَوْقَاتٍ أُخْرَى.
وَالصَّوْمُ بِمَعْنَى إِقْلَالِ تَنَاوُلِ الطَّعَامِ عَنِ الْمِقْدَارِ الَّذِي يَبْلُغُ حَدَّ الشِّبَعِ أَوْ تَرْكِ بَعْضِ الْمَأْكَلِ: أَصْلٌ قَدِيمٌ مِنْ أُصُولِ التَّقْوَى لَدَى الْمِلِّيِّينَ وَلَدَى الْحُكَمَاءِ الْإِشْرَاقِيِّينَ، وَالْحِكْمَةُ الْإِشْرَاقِيَّةُ مَبْنَاهَا عَلَى تَزْكِيَةِ النَّفْسِ بِإِزَالَةِ كُدُرَاتِ الْبَهِيمِيَّةِ عَنْهَا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ لِلْإِنْسَانِ قُوَّتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا رُوحَانِيَّةٌ مُنْبَثَّةٌ فِي قَرَارَتِهَا مِنَ الْحَوَاسِّ الْبَاطِنِيَّةِ، وَالْأُخْرَى حَيَوَانِيَّةٌ مُنْبَثَّةٌ فِي قَرَارَتِهَا مِنَ الْأَعْضَاءِ الْجُسْمَانِيَّةِ كُلِّهَا، وَإِذْ كَانَ الْغِذَاءُ يُخَلِّفُ لِلْجَسَدِ مَا يُضَيِّعُهُ مِنْ قُوَّتِهِ الْحَيَوَانِيَّةِ إِضَاعَةً تَنْشَأُ عَنِ الْعَمَلِ الطَّبِيعِيِّ لِلْأَعْضَاءِ الرَّئِيسِيَّةِ وَغَيْرِهَا، فَلَا جَرَمَ كَانَتْ زِيَادَةُ الْغِذَاءِ عَلَى الْقَدْرِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ تُوَفِّرُ لِلْجِسْمِ مِنَ الْقُوَّةِ الْحَيَوَانِيَّةِ فَوْقَ مَا يَحْتَاجُهُ وَكَانَ نُقْصَانُهُ يُقَتِّرُ عَلَيْهِ مِنْهَا إِلَى أَنْ يَبْلُغَ إِلَى الْمِقْدَارِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ حِفْظُ الْحَيَاةِ بِدُونِهِ، وَكَانَ تَغَلُّبُ مَظْهَرِ إِحْدَى الْقُوَّتَيْنِ بِمِقْدَارِ تَضَاؤُلِ مَظْهَرِ الْقُوَّةِ الْأُخْرَى، فَلِذَلِكَ وَجَدُوا أَنَّ ضَعْفَ الْقُوَّةِ الْحَيَوَانِيَّةِ يُقَلِّلُ مَعْمُولَهَا فَتَتَغَلَّبُ الْقُوَّةُ الرُّوحَانِيَّةُ عَلَى الْجَسَدِ وَيَتَدَرَّجُ بِهِ الْأَمْرُ حَتَّى يَصِيرَ صَاحِبُ هَذِهِ الْحَالِ أَقْرَبَ إِلَى الْأَرْوَاحِ وَالْمُجَرَّدَاتِ مِنْهُ إِلَى الْحَيَوَانِ، بِحَيْثُ يَصِيرُ لَا حَظَّ لَهُ فِي الْحَيَوَانِيَّةِ إِلَّا حَيَاةُ الْجِسْمِ الْحَافِظَةُ لِبَقَاءِ الرُّوحِ فِيهِ، وَلِذَلِكَ لَزِمَ تَعْدِيلُ مِقْدَارِ هَذَا التَّنَاقُصِ بِكَيْفِيَّةٍ لَا تُفْضِي إِلَى اضْمِحْلَالِ الْحَيَاةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُضَيِّعُ الْمَقْصُودَ مِنْ تَزْكِيَةِ
النَّفْسِ وَإِعْدَادِهَا لِلْعَوَالِمِ الْأُخْرَوِيَّةِ، فَهَذَا التَّعَادُلُ وَالتَّرْجِيحُ بَيْنَ الْقُوَّتَيْنِ هُوَ أَصْلُ مَشْرُوعِيَّةِ الصِّيَامِ فِي الْمِلَلِ وَوَضْعِيَّتِهِ فِي حِكْمَةِ الْإِشْرَاقِ، وَفِي كَيْفِيَّتِهِ تَخْتَلِفُ الشَّرَائِعُ اخْتِلَافًا مُنَاسِبًا لِلْأَحْوَالِ الْمُخْتَصَّةِ هِيَ بِهَا بِحَيْثُ لَا يَفِيتُ الْمَقْصِدُ مِنَ الْحَيَاتَيْنِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ أَفْضَلَ الْكَيْفِيَّاتِ لِتَحْصِيلِ هَذَا الْغَرَضِ مِنَ الصِّيَامِ هُوَ الْكَيْفِيَّةُ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْإِسْلَامُ.
قِيلَ فِي «هَيَاكِلِ النُّورِ» (١) «النُّفُوسُ النَّاطِقَةُ مِنْ جَوْهَرِ الْمَلَكُوتِ إِنَّمَا شَغَلَهَا عَنْ عَالَمِهَا الْقُوَى الْبَدَنِيَّةُ وَمُشَاغَلَتُهَا، فَإِذَا قَوِيَتِ النَّفْسُ بِالْفَضَائِلِ الرُّوحَانِيَّةِ وَضَعُفَ سُلْطَانُ الْقُوَى الْبَدَنِيَّةِ بِتَقْلِيلِ الطَّعَامِ وَتَكْثِيرِ السَّهَرِ تَتَخَلَّصُ أَحْيَانًا إِلَى عَالَمِ الْقُدْسِ وَتَتَّصِلُ بِأَبِيهَا الْمُقَدَّسِ وَتَتَلَقَّى مِنْهُ الْمَعَارِفَ»، فَمِنَ الصَّوْمِ تَرْكُ الْبَرَاهِمَةِ أَكْلَ لُحُومِ الْحَيَوَانِ وَالِاقْتِصَارُ عَلَى النَّبَاتِ
_________
(١) هُوَ للسهروردي.
رَابِعَتُهَا: مَعَانٍ قَصُرَتْ عَنْهَا الْأَفْهَامُ فِي بَعْضِ أَحْوَالِ الْعُصُورِ، وَأُودِعَتْ فِي الْقُرْآنِ لِيَكُونَ وُجُودُهَا مُعْجِزَةً قُرْآنِيَّةً عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي عُصُورٍ قَدْ يَضْعُفُ فِيهَا إِدْرَاكُ الْإِعْجَازِ النَّظْمِيِّ، نَحْوَ قَوْلِهِ: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها [يس: ٣٨] وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ [الْحجر: ٢٢] يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ [الزمر: ٥] وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ [النَّمْل: ٨٨] تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ [الْمُؤْمِنُونَ: ٢٠] زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ [النُّور: ٣٥] وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ [هود: ٧] ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ [فصلت:
١١] وَذِكْرُ سَدِّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ (١).
خَامِسَتُهَا: مَجَازَاتٌ وَكِنَايَاتٌ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، إِلَّا أَنَّ ظَاهِرَهَا أَوْهَمَ مَعَانِيَ لَا يَلِيقُ الْحَمْلُ عَلَيْهَا فِي جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى: لِإِشْعَارِهَا بِصِفَاتٍ تُخَالِفُ كَمَالَ الْإِلَهِيَّةِ، وَتَوَقَّفَ فَرِيقٌ فِي مَحْمَلِهَا تَنْزِيهًا، نَحْوَ: فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [الطّور: ٤٨] وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ [الذاريات: ٤٧] وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ [الرَّحْمَن: ٢٧] (٢).
وَسَادِسَتُهَا: أَلْفَاظٌ مِنْ لُغَاتِ الْعَرَبِ لَمْ تُعْرَفْ لَدَى الَّذِينَ نَزَلَ الْقُرْآنُ بَيْنَهُمْ: قُرَيْشٍ
وَالْأَنْصَارِ مِثْلَ: وَفاكِهَةً وَأَبًّا [عبس: ٣١] وَمِثْلَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ [النَّحْل: ٤٧] (٣) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التَّوْبَة: ١١٤] وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ [الحاقة: ٣٦] (٤).
سَابِعَتُهَا: مُصْطَلَحَاتٌ شَرْعِيَّةٌ لَمْ يَكُنْ لِلْعَرَبِ عِلْمٌ بِخُصُوصِهَا، فَمَا اشْتَهَرَ مِنْهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مَعْنَاهُ، صَارَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً: كَالتَّيَمُّمِ، وَالزَّكَاةِ، وَمَا لَمْ يَشْتَهِرْ بَقِيَ فِيهِ إِجْمَالٌ:
كَالرِّبَا قَالَ عُمَرُ: «نَزَلَتْ آيَاتُ الرِّبَا فِي آخِرِ مَا أُنْزِلَ فَتُوُفِّيَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُبَيِّنْهَا» وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
ثَامِنَتُهَا: أَسَالِيبُ عَرَبِيَّةٌ خَفِيَتْ عَلَى أَقْوَامٍ فَظَنُّوا الْكَلَامَ بِهَا مُتَشَابِهًا، وَهَذَا مِثْلَ زِيَادَةِ الْكَافِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: ١١] وَمِثْلَ الْمُشَاكَلَةِ فِي قَوْلِهِ:
يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ
[النِّسَاء: ١٤٢]
_________
(١) هَذِه الْآيَات دلّت على معَان عَظِيمَة كشفتها الْعُلُوم الطبيعية والرياضية والتاريخية والجغرافية وتفصيلها يحْتَاج إِلَى تَطْوِيل.
(٢) إِذْ تطلق الْعين على الْحِفْظ والعناية قَالَ النَّابِغَة- عهدتك ترعاني بِعَين بَصِيرَة- وَتطلق الْيَد على الْقُدْرَة وَالْقُوَّة قَالَ: وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ. وَيُطلق الْوَجْه على الذَّات تَقول: فعلته لوجه زيد.
(٣) رُوِيَ أَن عمر قَرَأَ على الْمِنْبَر أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَقَالَ: مَا تَقولُونَ فِي التخوف فَقَامَ شيخ من هُذَيْل فَقَالَ: هَذِه لغتنا، التخوف التنقص فَقَالَ عمر: هَل تعرف الْعَرَب ذَلِك فِي أشعارها قَالَ:
نعم قَول أبي بكر يصف نَاقَته- تخوف الرجل مِنْهَا تامكا قردا- كَمَا تخوف عود النبعة السفن.
(٤) عَن ابْن عَبَّاس: لَا أَدْرِي مَا الأواه وَمَا الغسلين.
وَهَذِهِ الْمِنَّةُ خَاصَّةٌ بِالْعَرَبِ وَمَزِيَّةٌ لَهُمْ، زِيَادَةً عَلَى الْمِنَّةِ بِبَعْثَةِ مُحَمَّدٍ عَلَى جَمِيعِ الْبَشَرِ، فَالْعَرَبُ وَهُمُ الَّذِينَ تَلَقَّوُا الدَّعْوَةَ قَبْلَ النَّاسِ كُلِّهِمْ، لِأَنَّ اللَّهَ أَرَادَ ظُهُورَ الدِّينِ بَيْنَهُمْ لِيَتَلَقَّوْهُ التَّلَقِّيَ الْكَامِلَ الْمُنَاسِبَ لِصَفَاءِ أَذْهَانِهِمْ وَسُرْعَةِ فَهْمِهِمْ لِدَقَائِقِ اللُّغَةِ، ثُمَّ يَكُونُوا هُمْ حَمَلَتَهُ إِلَى الْبَشَرِ، فَيَكُونُوا أَعْوَانًا عَلَى عُمُومِ الدَّعْوَةِ، وَلِمَنْ تَخَلَّقَ بِأَخْلَاقِ الْعَرَبِ وَأَتْقَنَ لِسَانَهُمْ وَالْتَبَسَ بِعَوَائِدِهِمْ وَأَذْوَاقِهِمُ اقْتِرَابٌ مِنْ هَذِهِ الْمَزِيَّةِ وَهُوَ مُعْظَمُهَا، إِذْ لَمْ يَفُتْهُ مِنْهَا إِلَّا النَّسَبُ وَالْمَوْطِنُ وَمَا هُمَا إِلَّا مُكَمِّلَانِ لِحُسْنِ التَّلَقِّي، وَلِذَلِكَ كَانَ الْمُؤْمِنُونَ مُدَّةَ حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْعَرَبِ خَاصَّةً بِحَيْثُ إِنَّ تَلَقِّيَهُمُ الدَّعْوَةَ كَانَ عَلَى سَوَاءٍ فِي الْفَهْمِ حَتَّى اسْتَقَرَّ الدِّينُ. وَقَدْ
رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ فَهُوَ مِنَ الْعَرَب»
. وَقَوله: يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ أَيْ يَقْرَأُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، وَسُمِّيَتْ جُمَلُ الْقُرْآنِ آيَاتٌ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ مِنْ حَيْثُ بَلَاغَةِ اللَّفْظِ وَكَمَالِ الْمَعْنَى، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدِّمَةِ الثَّامِنَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ، فَكَانُوا صَالِحِينَ لِفَهْمِ مَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ لِتُرْجُمَانٍ.
وَالتَّزْكِيَةُ: التَّطْهِيرُ، أَيْ يُطَهِّرُ النُّفُوسَ بِهَدْيِ الْإِسْلَامِ.
وَتَعْلِيمُ الْكِتَابِ هُوَ تَبْيِينُ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ وَأَمَرَهُمْ بِحِفْظِ أَلْفَاظِهِ، لِتَكُونَ مَعَانِيهِ حَاضِرَةً عِنْدَهُمْ.
وَالْمُرَادُ بِالْحِكْمَةِ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الشَّرِيعَةُ مِنْ تَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ وَتَقْنِينِ الْأَحْكَامِ لِأَنَّ ذَلِكَ كلّه مَانع للأنفس مِنْ سُوءِ الْحَالِ وَاخْتِلَالِ النِّظَامِ، وَذَلِكَ مِنْ مَعْنَى الْحِكْمَةِ، وَتَقَدَّمَ
الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ [الْبَقَرَة: ٢٦٩].
وَعَطْفُ الْحِكْمَةِ عَلَى الْكِتَابِ عَطْفُ الْأَخَصِّ مِنْ وَجْهٍ عَلَى الْأَعَمِّ مِنْ وَجْهٍ، فَمِنَ الْحِكْمَةِ مَا هُوَ فِي الْكِتَابِ نَحْوُ: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الْحَشْر: ٩] وَمِنْهَا مَا لَيْسَ فِي الْكِتَابِ مِثْلُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ» وَفِي الْكِتَابِ مَا هُوَ عِلْمٌ وَلَيْسَ حِكْمَةً مِثْلُ فَرْضِ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ.
ثُمَّ دَاوَى تِلْكَ الْجِرَاحَ الْبَشَرِيَّةَ بِإِيجَادِ أَسْبَابِ الْحُرِّيَّةِ فِي مُنَاسَبَاتٍ دِينِيَّةٍ جَمَّةٍ: مِنْهَا وَاجِبَةٌ، وَمِنْهَا مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا. وَمِنَ الْأَسْبَابِ الْوَاجِبَةِ كَفَّارَةُ الْقَتْلِ الْمَذْكُورَةُ هُنَا. وَقَدْ جُعِلَتْ كَفَّارَةُ قَتْلِ الْخَطَأِ أَمْرَيْنِ: أَحَدِهِمَا تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، وَقَدْ جُعِلَ هَذَا التَّحْرِيرُ بَدَلًا مِنْ تَعْطِيلِ حَقِّ اللَّهِ فِي ذَاتِ الْقَتِيلِ، فَإِنَّ الْقَتِيلَ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَيُرْجَى مِنْ نَسْلِهِ مَنْ يَقُومُ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ دِينِهِ، فَلَمْ يَخْلُ الْقَاتِلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ فَوَّتَ بِقَتْلِهِ هَذَا الْوَصْفَ، وَقَدْ نَبَّهَتِ الشَّرِيعَةُ بِهَذَا عَلَى أَنَّ الْحُرِّيَّةَ حَيَاةٌ، وَأَنَّ الْعُبُودِيَّةَ مَوْتٌ فَمَنْ تَسَبَّبَ فِي مَوْتِ نَفْسٍ حَيَّةٍ كَانَ عَلَيْهِ السَّعْيُ فِي إِحْيَاءِ نَفْسٍ كَالْمَيِّتَةِ وَهِيَ الْمُسْتَعْبَدَةُ. وَسَنَزِيدُ هَذَا بَيَانًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [٢٠]، فَإِنَّ تَأْوِيلَهُ أَنَّ اللَّهَ أَنْقَذَهُمْ مِنَ اسْتِعْبَادِ الْفَرَاعِنَةِ فَصَارُوا كَالْمُلُوكِ لَا يَحْكُمُهُمْ غَيْرُهُمْ.
وَثَانِيهُمَا الدِّيَةُ. وَالدِّيَةُ مَالٌ يُدْفَعُ لِأَهْلِ الْقَتِيلِ خَطَأً، جَبْرًا لِمُصِيبَةِ أَهْلِهِ فِيهِ مِنْ حَيَوَانٍ أَوْ نَقْدَيْنِ أَوْ نَحْوِهِمَا، كَمَا سَيَأْتِي.
وَالدِّيَةُ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ الْعَرَبِ بِمَعْنَاهَا وَمَقَادِيرِهَا فَلِذَلِكَ لَمْ يُفَصِّلْهَا الْقُرْآنُ. وَقَدْ كَانَ الْعَرَبُ جَعَلُوا الدِّيَةَ عَلَى كَيْفِيَّاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَكَانَتْ عِوَضًا عَنْ دَمِ الْقَتِيلِ فِي الْعَمْدِ وَفِي الْخَطَأِ، فَأَمَّا فِي الْعَمْدِ فَكَانُوا يَتَعَيَّرُونَ بِأَخْذِهَا. قَالَ الْحَمَاسِيُّ:
فَلَوْ أَنَّ حَيًّا يَقْبَلُ الْمَالَ فِدْيَةً | لَسُقْنَا لَهُمْ سَيْبًا مِنَ الْمَالِ مُفْعَمَا |
وَلَكِنْ أَبَى قَوْمٌ أُصِيبَ أَخُوهُمُ | رِضَى الْعَارِ فَاخْتَارُوا عَلَى اللَّبَنِ الدَّمَا |
تُعَفَّى الْكُلُومُ بِالْمِئِينَ فَأَصْبَحَتْ | يُنَجِّمُهَا مَنْ لَيْسَ فِيهَا بِمُجْرِمِ |
الرَّسُولِ، وَهِيَ قَطْعُ مَعْذِرَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ عِنْدَ مُؤَاخَذَتِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، أَوْ تَقْرِيعُهُمْ فِي الدُّنْيَا عَلَى مَا غَيَّرُوا مِنْ شَرَائِعِهِمْ، لِئَلَّا يَكُونَ مِنْ مَعَاذِيرِهِمْ أَنَّهُمُ اعْتَادُوا تعاقب الرُّسُل إرشادهم وَتَجْدِيدِ الدِّيَانَةِ، فَلَعَلَّهُمْ أَنْ يَعْتَذِرُوا بِأَنَّهُمْ لَمَّا مَضَتْ عَلَيْهِمْ فَتْرَةٌ بِدُونِ إِرْسَالِ رَسُولٍ لَمْ يَتَّجِهْ عَلَيْهِمْ مَلَامٌ فِيمَا أَهْمَلُوا مِنْ شَرْعِهِمْ وَأَنَّهُمْ لَوْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ لَاهْتَدَوْا. فَالْمَعْنَى أَنْ تَقُولُوا: مَا جَاءَنَا رَسُولٌ فِي الْفَتْرَةِ بَعْدَ مُوسَى أَوْ بَعْدَ عِيسَى. وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنْ يَقُولُوا: مَا جَاءَنَا رَسُولٌ إِلَيْنَا أَصْلًا، فَإِنَّهُمْ لَا يَدَّعُونَ ذَلِكَ، وَكَيْفَ وَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى وَعِيسَى. فَكَانَ قَوْلُهُ: أَنْ تَقُولُوا مَا جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ تَعْلِيلًا لِمَجِيءِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ، وَمُتَعَلِّقًا بِفِعْلِ مَا جاءَنا. وَوَجَبَ تَقْدِيرُ لَامِ التَّعْلِيلِ قَبْلَ (أَنْ) وَهُوَ تَقْدِيرٌ يَقْتَضِيهِ الْمَعْنَى. وَمِثْلُ هَذَا التَّقْدِيرِ كَثِيرٌ فِي حَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ قَبْلَ (أَنْ) حَذْفًا مُطَّرِدًا، وَالْمَقَامُ يُعَيِّنُ الْحَرْفَ الْمَحْذُوفَ فَالْمَحْذُوفُ هُنَا حَرْفُ اللَّامِ.
وَيَشْكُلُ مَعْنَى الْآيَةِ بِأَنَّ عِلَّةَ إِرْسَالِ الرَّسُولِ إِلَيْهِمْ هِيَ انْتِفَاءُ أَنْ يَقُولُوا مَا جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ لَا إِثْبَاتُهُ كَمَا هُوَ وَاضح، فَلَمَّا ذَا لَمْ يَقُلْ: أَنْ لَا تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بشير وَلَا نذر، وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ نَظَائِرُ لِهَذِهِ الْآيَةِ، وَفِي شِعْرِ الْعَرَبِ كَقَوْلِ عَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ:
فَعَجَّلْنَا الْقِرَى أَنْ تَشْتُمُونَا
أَرَادَ أَنْ لَا تَشْتُمُونَا. فَاخْتَلَفَ النَّحْوِيُّونَ فِي تَقْدِيرِ مَا بِهِ يَتَقَوَّمُ الْمَعْنَى فِي الْآيَاتِ وَغَيْرِهَا: فَذَهَبَ الْبَصْرِيُّونَ إِلَى تَقْدِيرِ اسْمٍ يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لِأَجْلِهِ لِفِعْلِ جاءَكُمْ، وَقَدَّرُوهُ: (كَرَاهِيَةَ أَنْ تَقُولُوا)، وَعَلَيْهِ دَرَجَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَمُتَابِعُوهُ مِنْ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ وَذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ إِلَى تَقْدِيرِ حَرْفِ نَفْيٍ مَحْذُوفٍ بَعْدَ (أَنْ)، وَالتَّقْدِيرُ: أَنْ لَا
تَقُولُوا، وَدَرَجَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مِثْلُ الْبَغَوِيِّ فَيَكُونُ مِنْ إِيجَازِ الْحَذْفِ اعْتِمَادًا عَلَى قَرِينَةِ السِّيَاقِ وَالْمَقَامِ. وَزَعَمَ ابْنُ هِشَامٍ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» أَنَّهُ تَعَسُّفٌ، وَذَكَرَ أَنَّ بَعْضَ النَّحْوِيِّينَ زَعَمَ أَنَّ مِنْ مَعَانِي (أَنْ) أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى (لِئَلَّا).
اسْتِدْلَالٌ بِدَلَالَةِ الْوَحْيِ الَّذِي فِيهِ الْأَمْرُ بِاتِّبَاعِ دِينِ الْإِسْلَامِ وَمَا بُنِيَ عَلَيْهِ اسْمُ الْإِسْلَامِ مِنْ صَرْفِ الْوَجْهِ إِلَى اللَّهِ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ [آل عمرَان: ٢٠]، فَهَذَا إِبْطَالٌ لِطَعْنِهِمْ فِي الدِّينِ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْمُسَمَّى بِالْإِسْلَامِ، وَشِعَارُهُ كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ الْمُبْطِلَةُ لِلْإِشْرَاكِ.
وَبُنِيَ فِعْلُ أُمِرْتُ لِلْمَفْعُولِ، لِأَنَّ فَاعِلَ هَذَا الْأَمْرِ مَعْلُومٌ بِمَا تَكَرَّرَ مِنْ إِسْنَادِ الْوَحْيِ إِلَى اللَّهِ.
وَمَعْنَى أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ يَتَّصِفُ بِالْإِسْلَامِ الَّذِي بَعَثَهُ اللَّهُ بِهِ، فَهُوَ الْإِسْلَامُ الْخَاصُّ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَهُوَ زَائِدٌ عَلَى مَا آمَنَ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ قَبْلُ، بِمَا فِيهِ مِنْ وُضُوحِ الْبَيَانِ وَالسَّمَاحَةِ، فَلَا يُنَافِي أَنَّ بَعْضَ الرُّسُلِ وُصِفُوا بِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَيَعْقُوبَ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ ذِكْرِ تِلْكَ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٣٢].
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ مِمَّنْ دُعُوا إِلَى الْإِسْلَامِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ كِنَايَةً عَنِ الْأَقْوَى وَالْأَمْكَنِ فِي الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ فِي كُلِّ عَمَلٍ هُوَ الْأَحْرَصُ عَلَيْهِ وَالْأَعْلَقُ بِهِ، فَالْأَوَّلِيَّةُ تَسْتَلْزِمُ الْحِرْصَ وَالْقُوَّةَ فِي الْعَمَلِ، كَمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ مُوسَى قَوْلَهُ: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الْأَعْرَاف: ١٤٣]. فَإِنَّ كَوْنَهُ أَوَّلَهُمْ مَعْلُومٌ وَإِنَّمَا أَرَادَ: أَنِّي الْآنَ بَعْدَ الصَّعْقَةِ أَقْوَى النَّاسِ إِيمَانًا.
وَفِي الْحَدِيثِ: «نَحْنُ الْآخِرُونَ الْأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٤١].
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا عَلَى جَمِيعِ الْوُجُوهِ تَأْيِيسُ الْمُشْرِكِينَ مِنْ عَوْدِهِ إِلَى دِينِهِمْ لِأَنَّهُمْ رُبَّمَا كَانُوا إِذَا رَأَوْا مِنْهُ رَحْمَةً بِهِمْ وَلِينًا فِي الْقَوْلِ طَمِعُوا فِي رُجُوعِهِ إِلَى دِينِهِمْ وَقَالُوا إِنَّهُ دِينُ آبَائِهِ.
وَقَوْلُهُ: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: قُلْ، أَيْ قُلْ لَهُمْ ذَلِكَ لِيَيْأَسُوا. وَالْكَلَامُ نَهْيٌ مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ مَقْصُودٌ مِنْهُ تَأْكِيدُ الْأَمْرِ بِالْإِسْلَامِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ
وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [١٣٧].
وَجُمْلَةُ: نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ مُعْتَرِضَةٌ، مُسْتَأْنَفَةٌ، عِلَّةٌ لِلنَّهْيِ عَنْ قَتْلِهِمْ، إِبْطَالًا لِمَعْذِرَتِهِمْ: لِأَنَّ الْفَقْرَ قَدْ جَعَلُوهُ عُذْرًا لِقَتْلِ الْأَوْلَادِ، وَمَعَ كَوْنِ الْفَقْرِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ دَاعِيًا لِقَتْلِ النَّفْسِ، فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ أَنَّهُ لَمَّا خَلَقَ الْأَوْلَادَ فَقَدْ قَدَّرَ رِزْقَهُمْ، فَمِنَ الْحَمَاقَةِ أَنْ يَظُنَّ الْأَبُ أَنَّ عَجْزَهُ عَنْ رِزْقِهِمْ يُخَوِّلُهُ قَتْلَهُمْ، وَكَانَ الْأَجْدَرُ بِهِ أَنْ يَكْتَسِبَ لَهُمْ.
وَعَدَلَ عَنْ طَرِيقِ الْغَيْبَةِ الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ الْكَلَامُ مِنْ قَوْلِهِ: مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ إِلَى طَرِيقِ التَّكَلُّمِ بِضَمِيرِ: نَرْزُقُكُمْ تَذْكِيرًا بِالَّذِي أَمَرَ بِهَذَا الْقَوْلِ كُلِّهِ، حَتَّى كَأَنَّ اللَّهَ أَقْحَمَ كَلَامَهُ بِنَفْسِهِ فِي أَثْنَاءِ كَلَامِ رَسُولِهِ الَّذِي أَمَرَهُ بِهِ، فَكَلَّمَ النَّاسَ بِنَفْسِهِ، وَتَأْكِيدًا لتصديق الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَذَكَرَ اللَّهُ رِزْقَهُمْ مَعَ رِزْقِ آبَائِهِمْ، وَقَدَّمَ رِزْقَ الْآبَاءِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ كَمَا رَزَقَ الْآبَاءَ، فَلَمْ يَمُوتُوا جُوعًا، كَذَلِكَ يَرْزُقُ الْأَبْنَاءَ، عَلَى أَنَّ الْفَقْرَ إِنَّمَا اعْتَرَى الْآبَاءَ فَلِمَ يُقْتَلُ لِأَجْلِهِ الْأَبْنَاءُ.
وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ. هُنَا لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ: أَيْ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ لَا أَنْتُمْ تَرْزُقُونَ أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَرْزُقُونَ أَبْنَاءَكُمْ. وَقَدْ بَيَّنْتُ آنِفًا أَنَّ قَبَائِلَ كَثِيرَةً كَانَتْ تَئِدُ الْبَنَاتِ. فَلِذَلِكَ حُذِّرُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
وَجُمْلَةُ: وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ عَطْفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ. وَهُوَ نَهْيٌ عَنِ اقْتِرَافِ الْآثَامِ، وَقَدْ نَهَى عَن الْقرب مِنْهَا، وَهُوَ أَبْلَغُ فِي التَّحْذِيرِ مِنَ النَّهْيِ عَنْ مُلَابَسَتِهَا: لِأَنَّ الْقُرْبَ مِنَ الشَّيْءِ مَظِنَّةُ الْوُقُوعِ فِيهِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلْإِثْمِ قُرْبٌ وَبُعْدٌ كَانَ الْقُرْبُ مُرَادًا بِهِ الْكِنَايَةُ عَنْ مُلَابَسَةِ الْإِثْمِ أَقَلَّ مُلَابَسَةٍ، لِأَنَّهُ مِنَ الْمُتَعَارَفِ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ فِي الْأُمُورِ الْمُسْتَقِرَّةِِِ
وَبِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ ظَلَمُوا بِنَكْثِ الْعَهْدِ بِقَوْلِهِ: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ [الْأَعْرَاف: ٣٧] وَتَوَعَّدَهُمْ وَذَكَّرَهُمْ أَحْوَالَ أَهْلِ الْآخِرَةِ، وَعَقِبُ ذَلِكَ عَادَ إِلَى ذِكْرِ الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ [الْأَعْرَاف: ٥٢] وَأَنْهَاهُ بِالتَّذْيِيلِ بِقَوْلِهِ: قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ [الْأَعْرَاف: ٥٣].
فَلَا جَرَمَ تَهَيَّأَتِ الْأَسْمَاعُ وَالْقُلُوبُ لِتَلَقِّي الْحُجَّةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ إِلَهٌ وَاحِدٌ، وَأَنَّ آلِهَةَ الْمُشْرِكِينَ ضَلَالٌ وَبَاطِلٌ، ثُمَّ لِبَيَانِ عَظِيمِ قُدْرَتِهِ وَمَجْدِهِ فَلِذَلِكَ اسْتُؤْنِفَ بِجُمْلَةِ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الْآيَةَ، اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا عَادَ بِهِ التَّذْكِيرُ إِلَى صَدْرِ السُّورَةِ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ [الْأَعْرَاف: ٣]، فَكَانَ مَا فِي صَدْرِ السُّورَةِ بِمَنْزِلَةِ الْمَطْلُوبِ الْمَنْطِقِيِّ، وَكَانَ مَا بَعْدَهُ بِمَنْزِلَةِ الْبُرْهَانِ، وَكَانَ قَوْلُهُ: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ بِمَنْزِلَةِ النَّتِيجَةِ لِلْبُرْهَانِ، وَالنَّتِيجَةُ مُسَاوِيَةٌ لِلْمَطْلُوبِ إِلَّا أَنَّهَا تُؤْخَذُ أَوْضَحَ وَأَشَدَّ تَفْصِيلًا.
فَالْخِطَابُ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ ابْتِدَاءً، وَلِذَلِكَ كَانَ لِلتَّأْكِيدِ بِحَرْفِ (إِنَّ) مَوْقِعُهُ لِرَدِّ إِنْكَارِ الْمُشْرِكِينَ انْفِرَادَ اللَّهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ. وَإِذْ كَانَ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ يَزِيدُ الْمُسْلِمِينَ بَصِيرَةً بِعِظَمِ مَجْدِ اللَّهِ وَسِعَةِ مُلْكِهِ، وَيَزِيدُهُمْ ذِكْرَى بِدَلَائِلِ قُدْرَتِهِ، كَانَ الْخِطَابُ صَالِحًا لِتَنَاوُلِ الْمُسْلِمِينَ، لِصَلَاحِيَةِ ضَمِيرِ الْخِطَابِ لِذَلِكَ، وَلَا يَكُونُ حَرْفُ (إِنَّ) بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ سُدًى، لِأَنَّهُ يُفِيدُ الِاهْتِمَامَ بِالْخَبَرِ، لِأَنَّ فِيهِ حَظًّا لِلْفَرِيقَيْنِ، وَلِأَنَّ بَعْضَ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ (مَا) هُوَ بِالْمُؤْمِنِينَ أَعْلَقُ مِثْلُ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً [الْأَعْرَاف: ٥٥] وَقَوله: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الْأَعْرَاف: ٥٦] وَبَعْضُهُ بِالْكَافِرِينَ أَنْسَبُ مِثْلُ قَوْلِهِ: كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الْأَعْرَاف: ٥٧].
وَقَدْ جُعِلَ الْمُخْبَرُ عَنْهُ الرَّبَّ، وَالْخَبَرُ اسْمَ الْجَلَالَةِ: لِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ الرَّبَّ لَكُمُ الْمَعْلُومُ عِنْدَكُمْ هُوَ الَّذِي اسْمُهُ الدَّالُّ عَلَى ذَاتِهِ: اللَّهُ، لَا غَيْرُهُ مِمَّنْ لَيْسَ
فَيَكُونُ تَقْطِيعًا مَحْمُودًا، وَالْمُرَادُ بِالْأَرْضِ: أَرْضُ الْقُدْسِ الْمَوْعُودَةُ لَهُمْ أَيْ لَكَثَّرْنَاهُمْ فَعَمَرُوهَا جَمِيعَهَا، فَيَكُونُ ذِكْرُ الْأَرْضِ هُنَا دُونَ آيَةِ وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً [الْأَعْرَاف: ١٦٠] لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ عَمَرُوهَا كُلَّهَا، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ إِنْصَافًا لَهُمْ بَعْدَ ذِكْرِ أَحْوَالِ عُدْوَانِ جَمَاعَاتِهِمْ وَصَمِّ آذَانِهِمْ عَنِ الْمَوْعِظَةِ، وَقَوْلُهُ: وَبَلَوْناهُمْ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ عَامَلَهُمْ مَرَّةً بِالرَّحْمَةِ وَمَرَّةً بِالْجَزَاءِ عَلَى أَعمال دهمائهم.
[١٦٩، ١٧٠]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : الْآيَات ١٦٩ إِلَى ١٧٠]
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦٩) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (١٧٠)
جُمْلَةُ فَخَلَفَ تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْله: وَقَطَّعْناهُمْ [الْأَعْرَاف: ١٦٨] أَنْ كَانَ الْمُرَادُ تَقْطِيعَهُمْ فِي بِلَادِ أَعْدَائِهِمْ وَإِخْرَاجَهُمْ مِنْ مَمْلَكَتِهِمْ، فَتَكُونُ الْآيَةُ مُشِيرَةً إِلَى عَوْدَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى بِلَادِهِمْ فِي عَهْدِ الْمَلِكِ (كُورَشَ) مَلِكِ الْفُرْسِ فِي حُدُودِ سَنَةِ ٥٣٠ قَبْلَ الْمِيلَادِ، فَإِنَّهُ لَمَّا فَتَحَ بِلَادَ آشُورَ أَذِنَ لِلْيَهُودِ الَّذِينَ أَسَرَهُمْ (بُخْتَنَصَّرُ) أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى بِلَادِهِمْ فَرَجَعُوا، وَبَنَوْا بَيْتَ الْمَقْدِسِ بَعْدَ خَرَابِهِ عَلَى يَدِ (نَحْمِيَا) وَ (عِزْرَا) كَمَا تَضَمَّنَهُ سِفْرُ نَحْمِيَا وَسِفْرُ عِزْرَا، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَا أَحْيَوْهُ أَنَّهُمْ أَتَوْا بِسِفْرِ شَرِيعَةِ مُوسَى الَّذِي كتبه عزرا وقرأوه عَلَى الشَّعْبِ فِي (أُورْشَلِيمَ) فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْخَلْفِ مَا أَوَّلُهُ ذَلِكَ الْفَلُّ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ
رَجَعُوا مِنْ أَسْرِ الْآشُورِيِّينَ. وَالْمُرَادُ بِإِرْثِ الْكِتَابِ إِعَادَةُ مُزَاوَلَتِهِمُ التَّوْرَاةَ الَّتِي أَخْرَجَهَا إِلَيْهِمْ (عِزْرَا) الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ بِاسْمِ عُزَيْرٍ، وَيَكُونُ أَخْذُهُمْ عَرَضَ الْأَدْنَى أَخْذَ بَعْضِ الْخَلْفِ لَا جَمِيعِهِ، لِأَنَّ صَدْرَ ذَلِكَ الْخَلْفِ كَانُوا تَائِبِينَ وَفِيهِمْ أَنْبِيَاءُ وَصَالِحُونَ.
وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ تَقْطِيعِهِمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا تَكْثِيرَهُمْ وَالِامْتِنَانَ عَلَيْهِمْ، كَانَ
جَاءُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْلِمِينَ تَائِبِينَ، وَسَأَلُوهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ وَغَنَائِمَهُمْ، فَذَلِكَ أَكْبَرُ مِنَّةٍ فِي نَصْرِ الْمُسْلِمِينَ إِذْ أَصْبَحَ الْجُنْدُ الْعَدُوُّ لَهُمْ مُسْلِمِينَ مَعَهُمْ، لَا يَخَافُونَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
وَالْمَعْنَى: ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، أَيْ عَلَى الَّذِينَ أَسْلَمُوا مِنْهُمْ فَقَوْلُهُ: يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ دَلِيل الْمَعْطُوف بثم وَلِذَلِكَ أُتِيَ بِالْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: يَتُوبُ اللَّهُ دُونَ الْفِعْلِ الْمَاضِي: لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مَا يَشْمَلُ تَوْبَةَ هَوَازِنَ وَتَوْبَةَ غَيْرِهِمْ، لِلْإِشَارَةِ إِلَى إِفَادَةِ تَجَدُّدِ التَّوْبَةِ عَلَى كُلِّ مَنْ تَابَ إِلَى اللَّهِ لَا يَخْتَصُّ بِهَا هَوَازِنَ فَتَوْبَتُهُ عَلَى هَوَازِنَ قَدْ عَرَفَهَا الْمُسْلِمُونَ، فَأَعْلِمُوا بِأَنَّ اللَّهَ يُعَامِلُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كُلَّ مَنْ نَدِمَ وَتَابَ، فَالْمَعْنَى: ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ.
وَجُمْلَةُ: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ تَذْيِيلٌ لِلْكَلَامِ لِإِفَادَةِ أَنَّ الْمَغْفِرَةَ مِنْ شَأْنِهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ رَحِيمٌ بِعِبَادِهِ إِنْ أَنَابُوا إِلَيْهِ وَتَرَكُوا الْإِشْرَاكَ بِهِ.
[٢٨]
[سُورَة التَّوْبَة (٩) : آيَة ٢٨]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٨)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا.
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِلرُّجُوعِ إِلَى غَرَضِ إِقْصَاءِ الْمُشْرِكِينَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الْمُفَادِ بِقَوْلِهِ: مَا كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ [التَّوْبَة: ١٧] الْآيَةَ، جِيءَ بِهِ لِتَأْكِيدِ الْأَمْرِ بِإِبْعَادِهِمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مَعَ تَعْلِيلِهِ بِعِلَّةٍ أُخْرَى تَقْتَضِي إِبْعَادَهُمْ عَنْهُ: وَهِيَ أَنَّهُمْ نَجَسٌ، فَقَدْ عَلَّلَ فِيمَا مَضَى بِأَنَّهُمْ شَاهِدُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ، فَلَيْسُوا أَهْلًا لِتَعْمِيرِ الْمَسْجِدِ الْمَبْنِيِّ لِلتَّوْحِيدِ، وَعَلَّلَ هُنَا بِأَنَّهُمْ نَجَسٌ فَلَا يَعْمُرُوا الْمَسْجِدَ لِطَهَارَتِهِ.
ونَجَسٌ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ، اسْمٌ لِلشَّيْءِ الَّذِي النَّجَاسَةُ صِفَةٌ مُلَازِمَةٌ لَهُ، وَقَدْ أُنِيطَ وَصْفُ النَّجَاسَةِ بِهِمْ بِصِفَةِ الْإِشْرَاكِ، فَعَلِمْنَا أَنَّهَا نَجَاسَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ نَفْسَانِيَّةٌ وَلَيْسَتْ نَجَاسَةً ذَاتِيَّةً.
إِلَّا الضَّلَالُ إِذْ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا. فَلَمَّا كَانَ اللَّهُ هُوَ الرَّبُّ الْحَقُّ تَعَيَّنَ أَنَّ غَيْرَهُ مِمَّا نُسِبَتْ إِلَيْهِ الْإِلَهِيَّةُ بَاطِلٌ. وَعَبَّرَ عَنِ الْبَاطِلِ بِالضَّلَالِ لِأَنَّ الضَّلَالَ أَشْنَعُ أَنْوَاعِ الْبَاطِلِ.
وَالْفَاءُ فِي فَأَنَّى تُصْرَفُونَ لِلتَّفْرِيعِ أَيْضًا، أَيْ لِتَفْرِيعِ التَّصْرِيحِ بِالتَّوْبِيخِ عَلَى الْإِنْكَار والإبطال.
وفَأَنَّى اسْتِفْهَامٌ عَنِ الْمَكَانِ، أَيْ إِلَى مَكَانٍ تَصْرِفُكُمْ عُقُولُكُمْ. وَهُوَ مَكَانٌ اعْتِبَارِيٌّ، أَيْ أَنَّكُمْ فِي ضَلَالٍ وَعَمَايَةٍ كَمَنْ ضَلَّ عَنِ الطَّرِيقِ وَلَا يَجِدُ إِلَّا مَنْ يَنْعَتُ لَهُ طَرِيقا غير مَوْصُولَة فَهُوَ يُصْرَفُ مِنْ ضَلَالٍ إِلَى ضَلَالٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَعِبَارَةُ الْقُرْآنِ فِي سَوْقِ هَذِهِ الْمَعَانِي تَفُوقُ كُلَّ تَفْسِيرٍ بَرَاعَةً وَإِيجَازًا وَوُضُوحًا.
وَقَدِ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ عَلَى تِسْعِ فَاءَاتٍ مِنْ قَوْلِهِ: فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ: الْأُولَى جَوَابِيَّةٌ، وَالثَّانِيَةُ فَصِيحَةٌ، والبواقي تفريعية.
[٣٣]
[سُورَة يُونُس (١٠) : آيَة ٣٣]
كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٣٣)
تَذْيِيلٌ لِلتَّعْجِيبِ مِنِ اسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ بَعْدَ مَا ظَهَرَ لَهُمْ مِنَ الْحُجَجِ وَالْآيَاتِ، وَتَأْيِيسٌ مِنْ إِيمَانِهِمْ بِإِفَادَةِ أَنَّ انْتِفَاءَ الْإِيمَانِ عَنْهُمْ بِتَقْدِيرٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ فَقَدْ ظَهَرَ وُقُوعُ مَا قَدَّرَهُ مِنْ كَلِمَتِهِ فِي الْأَزَلِ. وَالْكَافُ الدَّاخِلَةُ قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ كَافُ التَّشْبِيهِ. وَالْمُشَبَّهُ بِهِ هُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ، وَهُوَ حَالُهُمْ وَضَلَالُهُمْ، أَيْ كَمَا شَاهَدْتَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ، يَعْنِي أَنَّ فِيمَا شَاهَدْتَ مَا يُبَيِّنُ لَكَ أَنَّ قَدْ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ.
وَقَوْلُهُ: أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بَدَلٌ مِنْ (كَلِمَةُ) أَوْ مِنْ كَلِمَاتُ. وَالْمُرَادُ مَضْمُونُ جُمْلَةِ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ كَلِمَاتُ رَبِّكَ بِالْجَمْعِ. وَقَرَأَهَا الْبَاقُونَ بِالْإِفْرَادِ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ لِأَنَّ الْكَلِمَةَ تُطْلَقُ عَلَى مَجْمُوعِ الْكَلَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها [الْمُؤْمِنُونَ: ١٠٠]، وَلِأَنَّ
وَضَمِيرُ الْغَيْبَةِ فِي ظَلَمْناهُمْ عَائِدٌ إِلَى الْقُرى بِاعْتِبَارِ أَهْلِهَا لِأَنَّهُمُ الْمَقْصُودُ.
وَإِنَّمَا لَمْ يَظْلِمْهُمُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ مَا أَصَابَهُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ جَزَاءً عَنْ سُوءِ أَعْمَالِهِمْ فَكَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ أَنْفُسَهُمْ إِذْ جَرُّوا لِأَنْفُسِهِمُ الْعَذَابَ.
وَفَرَّعَ عَلَى ظُلْمِهِمْ أَنْفُسِهِمِ انْتِفَاءَ إِغْنَاءِ آلِهَتِهِمْ عَنْهُمْ شَيْئًا، وَوَجْهُ ذَلِكَ التَّرَتُّبُ وَالتَّفْرِيعُ أَنَّ ظُلْمَهُمْ أَنْفُسَهُمْ مَظْهَرُهُ فِي عِبَادَتِهِمُ الْأَصْنَامَ، وَهُمْ لَمَّا عَبَدُوهَا كَانُوا يَعْبُدُونَهَا لِلْخَلَاصِ مِنْ طَوَارِقِ الْحَدَثَانِ وَلِتَكُونَ لَهُمْ شُفَعَاءَ عِنْدَ اللَّهِ وَكَانُوا فِي أَمْنٍ مِنْ أَنْ يَنَالَهُمْ بَأْسٌ فِي الدُّنْيَا اعْتِمَادًا عَلَى دَفْعِ أَصْنَامِهِمْ عَنْهُمْ فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُهُمْ بِضِدِّ ذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ الضِّدُّ مُضَادًّا لِتَأْمِيلِهِمْ وَتَقْدِيرِهِمْ.
وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا التَّفْرِيعِ التَّعْرِيضُ بِتَحْذِيرِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ مِنَ الِاعْتِمَادِ عَلَى نَفْعِ الْأَصْنَامِ، فَقَدْ أَيْقَنَ الْمُشْرِكُونَ أَنَّ أُولَئِكَ الْأُمَمَ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ كَيْفَ وَهَؤُلَاءِ اقْتَبَسُوا عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ مِنَ الْأُمَمِ السَّابِقِينَ وَأَيْقَنُوا أَنَّهُمْ قَدْ حَلَّ بِهِمْ مِنَ الِاسْتِئْصَالِ مَا
شَاهَدُوا آثَارَهُ، فَذَلِكَ مَوْعِظَةٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا مُهْتَدِينَ.
وَجُمْلَةُ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ عِلَاوَةً وَارْتِقَاءً عَلَى عَدَمِ نَفْعِهِمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ شَأْنُهُمْ عَدَمَ الْإِغْنَاءِ عَنْهُمْ فَحَسْبُ وَلَكِنَّهُمْ زَادَتْهُمْ تَتْبِيبًا وَخُسْرَانًا، أَيْ زَادَتْهُمْ أَسْبَابَ الْخُسْرَانِ.
وَالتَّتْبِيبُ: مَصْدَرُ تَبَبَهُ إِذَا أَوْقَعَهُ فِي التِّبَابِ وَهُوَ الْخَسَارَةُ. وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ أَصْنَامَهُمْ زَادَتْهُمْ تَتْبِيبًا لَمَّا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ، لِأَنَّهُ عُطِفَ عَلَى الْفِعْل المقيّد ب لَمَّا التَّوْقِيتِيَّةِ الْمُفِيدَةِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي وَقْتِ مَجِيءِ أَمْرِ اللَّهِ وَهُوَ حُلُولُ الْعَذَابِ بِهِمْ.
وَوَجْهُ زِيَادَتِهِمْ إِيَّاهُمْ تَتْبِيبًا حِينَئِذٍ أَنَّ تَصْمِيمَهُمْ عَلَى الطَّمَعِ فِي إِنْقَاذِهِمْ إِيَّاهُمْ مِنَ الْمَصَائِبِ حَالَتْ دُونَهُمْ وَدُونَ التَّوْبَةِ عِنْدَ سَمَاعِ الْوَعِيدِ بِالْعَذَابِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَطْفُ لِمُجَرَّدِ الْمُشَارِكَةِ فِي الصِّفَةِ دُونَ قَيْدِهَا، أَيْ زَادُوهُمْ تَتْبِيبًا قَبْلَ مَجِيءِ أَمْرِ اللَّهِ بِأَنْ زَادَهُمُ اعْتِقَادُهُمْ فِيهَا انْصِرَافًا عَنِ النَّظَرِ فِي آيَاتِ
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِلِاخْتِصَاصِ، أَيْ إِلَيْهِ لَا إِلَى غَيْرِهِ أَدْعُو، أَيْ بِهَذَا الْقُرْآنِ، وَإِلَيْهِ لَا إِلَى غَيْرِهِ مَئَابِي، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ يُرْجِعُونَ فِي مُهِمَّهُمْ إِلَى الْأَصْنَامِ يَسْتَنْصِرُونَهَا وَيَسْتَغِيثُونَهَا، وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ هَذَا مَا يُنْكِرُهُ أَهْلُ الْكِتَابِ إِذْ هُوَ مِمَّا كَانُوا فِيهِ سَوَاءً مَعَ الْإِسْلَامِ. عَلَى أَنَّ قَوْله: وَإِلَيْهِ مَآبِ يَعُمُّ الرُّجُوعَ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْبَعْثُ.
وَهَذَا مِنْ وُجُوهِ الْوِفَاقِ فِي أَصْلِ الدِّينِ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ.
وَحَذْفُ يَاءِ الْمُتَكَلّم من مآبي كَحَذْفِهَا فِي قَوْلِهِ: عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ [الرَّعْد: ٣٠]، وَقَدْ مضى قَرِيبا.
[٣٧]
[سُورَة الرَّعْد (١٣) : آيَة ٣٧]
وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (٣٧)
اعْتِرَاضٌ وَعَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ [الرَّعْد: ٣٦] لَمَّا ذَكَرَ حَالُ تَلَقِّي أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ لِلْقُرْآنِ عِنْدَ نُزُولِهِ عَرَّجَ عَلَى حَالِ الْعَرَبِ فِي ذَلِكَ بِطَرِيقَةِ التَّعْرِيضِ بِسُوءِ تَلَقِّي مُشْرِكِيهِ لَهُ مَعَ أَنَّهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِحُسْنِ تَلَقِّيهِ إِذْ نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ مُشْتَمِلًا عَلَى مَا فِيهِ صَلَاحُهُمْ وَتَنْوِيرُ عُقُولِهِمْ. وَقَدْ جُعِلَ أَهَمَّ هَذَا الْغَرَضِ التَّنْوِيهُ بِعُلُوِّ شَأْنِ الْقُرْآنِ لَفْظًا معنى. وَأُدْمِجَ فِي ذَلِكَ تَعْرِيضُ بِالْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ.
وَالْقَوْلُ فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ مِثْلَ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ [سُورَة الرَّعْد: ٣٠].
وَضَمِيرُ الْغَائِبِ فِي أَنْزَلْناهُ عَائِدٌ إِلَى بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ فِي قَوْله: يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ.
السَّامِعِينَ أَنْ يَسْأَلُوا كَيْفَ لَمْ يَقْتَدِ بِهِمْ مَنْ بَقُوا عَلَى الْكُفْرِ فَتَقَعُ جُمْلَةُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ بَيَانًا لِمَا اسْتُبْهِمَ عَلَى السَّائِلِ. وَالتَّقْدِيرُ: لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ لَاقْتَدَوْا بِهِمْ وَلَكِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ. فَضَمِيرُ يَعْلَمُونَ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا [سُورَة النَّحْل: ٣٩].
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ الْمُثَارُ هُوَ: كَيْفَ يَحْزَنُ الْمُهَاجِرُونَ عَلَى مَا تَرَكُوهُ مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ، فَيَكُونُ: الْمَعْنَى لَوْ كَانَ الْمُهَاجِرُونَ يَعْلَمُونَ مَا أُعِدَّ لَهُمْ عِلْمَ مُشَاهَدَةٍ لَمَا حَزِنُوا عَلَى مُفَارَقَةِ دِيَارِهِمْ وَلَكَانَتْ هِجْرَتُهُمْ عَنْ شَوْقٍ إِلَى مَا يُلَاقُونَهُ بَعْدَ هِجْرَتِهِمْ، لِأَنَّ تَأْثِيرَ الْعِلْمِ الْحِسِّيِّ عَلَى الْمِزَاجِ الْإِنْسَانِيِّ أَقْوَى مِنَ الْعلم الْعقلِيّ لعدم
احْتِيَاج الْعلم الحسّي إِلَى اسْتِعْمَال نظر واستدلال، وَلعدم اشْتِمَال الْعِلْمِ الْعَقْلِيِّ عَلَى تَفَاصِيلِ الْكَيْفِيَّاتِ الَّتِي تُحِبُّهَا النُّفُوسُ وَتَرْتَمِي إِلَيْهَا الشَّهَوَاتُ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْله تَعَالَى:
قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [سُورَة الْبَقَرَة: ٢٦٠]. فَلَيْسَ المُرَاد بقوله تَعَالَى: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ لَوْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ وَيُؤْمِنُونَ، لَأَنَّ ذَلِكَ حَاصِلٌ لَا يُنَاسِبُ مَوْقِعَ لَوْ الِامْتِنَاعِيَّةِ.
فَضَمِيرُ يَعْلَمُونَ عَلَى هَذَا «لِلَّذِينَ هَاجَرُوا». وَفِي هَذَا الْوَجْهِ تَتَنَاسَقُ الضَّمَائِرُ.
والَّذِينَ صَبَرُوا صِفَةٌ «لِلَّذِينَ هَاجَرُوا». وَالصَّبْرُ: تَحَمُّلُ الْمَشَاقِّ. وَالتَّوَكُّلُ:
الِاعْتِمَادُ.
وَتَقَدَّمَ الصَّبْرُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ أَوَائِل سُورَة الْبَقَرَةِ [٤٥]. وَالتَّوَكُّلُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فِي سُورَة آلِ عِمْرَانَ [١٥٩].
وَالتَّعْبِيرُ فِي جَانِبِ الصَّبْرِ بِالْمُضِيِّ وَفِي جَانِبِ التَّوَكُّلِ بِالْمُضَارِعِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ صَبْرَهُمْ قَدْ آذَنَ بِالِانْقِضَاءِ لِانْقِضَاءِ أَسْبَابِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ لَهُمْ فَرَجًا بِالْهِجْرَةِ الْوَاقِعَةِ وَالْهِجْرَةِ الْمُتَرَقَّبَةِ. فَهَذَا بِشَارَةٌ لَهُمْ.
النَّاسِ كُلِّهِمْ مُنَاسِبٌ لِعُمُومِ الدَّعْوَةِ، لِأَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ مَا كَانُوا يَنْتَفِعُونَ بِرُكُوبِ الْبَحْرِ وَإِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِذَلِكَ عَرَبُ الْيَمَنِ وَعَرَبُ الْعِرَاقِ وَالنَّاسُ غَيْرُهُمْ.
وَجُمْلَةُ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً تَعْلِيلٌ وَتَنْبِيهٌ لِمَوْقِعِ الِامْتِنَانِ لِيَرْفُضُوا عِبَادَةَ غَيْرِهِ مِمَّا لَا أَثَرَ لَهُ فِي هَذِه الْمِنَّة.
[٦٧]
[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧) : آيَة ٦٧]
وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (٦٧)
بَعْدَ أَنْ أَلْزَمَهُمُ الْحُجَّةَ عَلَى حَقِّ إِلَهِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِ صُنْعِهِ بِاعْتِرَافِهِمْ، أَعْقَبَهُ بِدَلِيلٍ آخَرَ مِنْ أَحْوَالِهِمُ الْمُتَضَمِّنَةِ إِقْرَارَهُمْ بِانْفِرَادِهِ بِالتَّصَرُّفِ ثُمَّ بِالتَّعْجِيبِ مِنْ مُنَاقَضَةِ أَنْفُسِهِمْ عِنْدَ زَوَالِ اضْطِرَارِهِمْ.
فَجُمْلَةُ وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّقْرِيرِ وَإِلْزَامِ الْحُجَّةِ إِذْ لَا يُخْبِرُ أَحَدٌ عَنْ فِعْلِهِ إِخْبَارًا حَقِيقِيًّا.
وَجُمْلَةُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ وَالتَّوْبِيخِ.
وَضُرُّ الْبَحْرِ: هُوَ الْإِشْرَافُ عَلَى الْغَرَقِ لِأَنَّهُ يُزْعِجُ النُّفُوسَ خَوْفًا، فَهُوَ ضُرٌّ لَهَا.
وضَلَّ بِضَادٍ سَاقِطَةٍ فِعْلٌ مِنَ الضَّلَالِ، وَهُوَ سُلُوكُ طَرِيقٍ غَيْرِ مُوَصِّلَةٍ لِلْمَقْصُودِ خَطَأً.
وَالْعُدُولُ إِلَى الْمَوْصُولِيَّةِ لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ الصِّلَةُ مِنْ عَمَلِ اللِّسَانِ لِيَتَأَتَّى الْإِيجَازُ، أَيْ مَنْ يَتَكَرَّرُ دُعَاؤُكُمْ إِيَّاهُمْ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمُضَارِعُ. فَالْمَعْنَى غَابَ وَانْصَرَفَ ذِكْرُ الَّذِينَ عَادَتُكُمْ دُعَاؤُهُمْ عَنْ أَلْسِنَتِكُمْ فَلَا تَدْعُونَهُمْ، وَذَلِكَ بِقَرِينَةِ ذِكْرِ الدُّعَاءِ هُنَا الَّذِي مُتَعَلِّقُهُ اللِّسَانُ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ ضَلَالَهُمْ هُوَ ضَلَالُ ذِكْرِ أَسْمَائِهِمْ، وَهَذَا إِيجَازٌ بَدِيعٌ.
وَائِلٍ: لَا أَقْضِيكَهُ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ، فَقَالَ خَبَّابٌ (وَقَدْ غَضِبَ) : لَا أَكْفُرُ بِمُحَمَّدٍ حَتَّى يُمِيتَكَ اللَّهُ ثُمَّ يَبْعَثك. قَالَ الْعَاصِ: أَو مَبْعُوث أَنَا بَعْدَ الْمَوْتِ؟ قَالَ: نعم. قَالَ (الْعَاصِ مُتَهَكِّمًا) : إِذَا كَانَ ذَلِكَ فَسَيَكُونُ لِي مَالٌ وَوَلَدٌ وَعِنْدَ ذَلِكَ أَقْضِيكَ دَيْنَكَ». فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي ذَلِك. فالعاص بْنُ وَائِلٍ هُوَ الْمُرَادُ بِالَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَفَرَأَيْتَ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ مِنْ كُفْرِ هَذَا الْكَافِرِ.
وَالرُّؤْيَةُ مُسْتَعَارَةٌ لِلْعِلْمِ بِقِصَّتِهِ الْعَجِيبَةِ. نَزَلَتِ الْقِصَّةُ مَنْزِلَةَ الشَّيْءِ الْمُشَاهَدِ بِالْبَصَرِ لِأَنَّهُ مِنْ أَقْوَى طُرُقِ الْعِلْمِ. وَعُبِّرَ عَنْهُ بِالْمَوْصُولِ لِمَا فِي الصِّلَةِ مِنْ منشأ الْعجب وَلَا سِيمَا قَوْلُهُ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَداً.
وَالْمَقْصُودُ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ لَفْتُ الذِّهْنِ إِلَى مَعْرِفَةِ هَذِهِ الْقِصَّةِ أَوْ إِلَى تَذَكُّرِهَا إِنْ كَانَ عَالِمًا بِهَا.
وَالْخِطَابُ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لِلْخِطَابِ فَلَمْ يُرَدْ بِهِ مُعَيَّنٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْآيَاتُ: الْقُرْآنُ، أَيْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ وَكَذَّبَ بِهَا. وَمِنْ جُمْلَتِهَا آيَاتُ الْبَعْثِ.
وَالْوَلَدُ: اسْمُ جَمْعٍ لِوَلَدٍ الْمُفْرَدِ، وَكَذَلِكَ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ- فِي هَذِهِ السُّورَةِ فِي الْأَلْفَاظِ الْأَرْبَعَةِ- «وَوُلْدٌ» - بِضَمِّ الْوَاوِ وَسُكُونِ اللَّامِ- فَهُوَ جَمْعُ وَلَدٍ، كَأَسَدٍ وَأُسْدٍ.
وَجُمْلَةُ أَطَّلَعَ الْغَيْبَ جَوَابٌ لِكَلَامِهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ بِحَمْلِ كَلَامِهِ عَلَى ظَاهِرِ عِبَارَتِهِ مِنَ الْوَعْدِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ مِنَ الْمَالِ الَّذِي سَيَجِدُهُ حِينَ يُبْعَثُ، فَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ أَطَّلَعَ الْغَيْبَ إِنْكَارِيُّ وتَعْجِيبِيُّ.
وَالطَّيُّ: رَدُّ بَعْضِ أَجْزَاءِ الْجِسْمِ اللَّيِّنِ الْمَطْلُوقِ عَلَى بَعْضِهِ الْآخَرِ، وَضِدُّهُ النَّشْرُ.
وَالسِّجِلُّ: بِكَسْرِ السِّينِ وَكَسْرِ الْجِيمِ هُنَا، وَفِيهِ لُغَاتٌ. يُطْلَقُ عَلَى الْوَرَقَةِ الَّتِي يُكْتَبُ فِيهَا، وَيُطْلَقُ عَلَى كَاتِبِ الصَّحِيفَةِ، وَلَعَلَّهُ تَسْمِيَةٌ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ صَاحِبُ السِّجِلِّ، وَقِيلَ سِجِلٌّ: اسْمُ مَلَكٍ فِي السَّمَاءِ تُرْفَعُ إِلَيْهِ صَحَائِفُ أَعْمَالِ الْعِبَادِ فَيَحْفَظُهَا.
وَلَا يَحْسُنُ حَمْلُهُ هُنَا عَلَى مَعْنَى الصَّحِيفَةِ لِأَنَّهُ لَا يُلَائِمُ إِضَافَةَ الطَّيِّ إِلَيْهِ وَلَا إردافه لِقَوْلِهِ لِلْكِتَابِ أَوْ لِلْكُتُبِ، وَلَا حَمْلُهُ عَلَى مَعْنَى الْمَلَكِ الْمُوَكَّلِ بِصَحَائِفِ الْأَعْمَالِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَشْهُورًا فَكَيْفَ يُشَبَّهُ بِفِعْلِهِ. فَالْوَجْهُ: أَنْ يُرَادَ بِالسِّجِلِّ الْكَاتِبُ الَّذِي يَكْتُبُ الصَّحِيفَةَ ثُمَّ يَطْوِيهَا عِنْدَ انْتِهَاءِ كِتَابَتِهَا، وَذَلِكَ عَمَلٌ مَعْرُوفٌ. فَالتَّشْبِيهُ بِعَمَلِهِ رَشِيقٌ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لِلْكِتَابِ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ، وَقَرَأَهُ حَفْصٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ لِلْكُتُبِ- بِضَمِّ الْكَافِ وَضَمِّ التَّاءِ- بِصِيغَةِ الْجَمْعِ. وَلَمَّا كَانَ تَعْرِيفُ السِّجِلِّ وَتَعْرِيفُ الْكِتَابِ تَعْرِيفَ جِنْسٍ اسْتَوَى فِي الْمُعَرَّفِ الْإِفْرَادُ وَالْجَمْعُ. فَأَمَّا قِرَاءَتُهُمَا بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ فَفِيهَا مُحَسِّنُ مُرَاعَاةِ النَّظِيرِ فِي الصِّيغَةِ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْكُتُبِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ مَعَ كَوْنِ السِّجِلِّ مُفْرَدًا فَفِيهَا حُسْنُ التَّفَنُّنِ بِالتَّضَادِّ.
وَرَسْمُهَا فِي الْمُصْحَفِ بِدُونِ أَلِفٍ يَحْتَمِلُ الْقِرَاءَتَيْنِ لِأَنَّ الْأَلِفَ قَدْ يُحْذَفُ فِي مِثْلِهِ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لِلْكِتَابِ لِتَقْوِيَةِ الْعَامِلِ فَهِيَ دَاخِلَةٌ عَلَى مَفْعُولِ طَيِّ.
وَمَعْنَى طَيِّ السَّمَاءِ تَغْيِيرُ أَجْرَامِهَا مِنْ مَوْقِعٍ إِلَى مَوْقِعٍ أَوِ اقْتِرَابُ بَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ كَمَا تَتَغَيَّرُ أَطْرَافُ الْوَرَقَةِ الْمَنْشُورَةِ حِينَ تُطْوَى لِيَكْتُبَ
أَنَّ الشُّهَدَاءَ الْأَرْبَعَةَ هُمْ غَيْرُ الْقَاذِفِ لِأَنَّ مَعْنَى يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ لَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا إِذَا كَانَ الْقَاذِفُ مِنْ جُمْلَةِ الشُّهَدَاءِ. وَالْجَلْدُ
تَقَدَّمَ آنِفًا. وَشُرِّعَ هَذَا الْجَلْدُ عِقَابًا لِلرَّامِي بِالْكَذِبِ أَوْ بِدُونِ تَثَبُّتٍ وَلِسَدِّ ذَرِيعَةِ ذَلِكَ.
وَأُسْنِدَ فِعْلُ يَرْمُونَ إِلَى اسْم مَوْصُول الْمُذَكَّرِ وَضَمَائِرِ تابُوا- وأَصْلَحُوا وَكَذَلِكَ وُصِفَ الْفاسِقُونَ بِصِيَغِ التَّذْكِيرِ، وَعُدِّيَ فِعْلُ الرَّمْيِ إِلَى مَفْعُولٍ بِصِيغَةِ الْإِنَاثِ كُلُّ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى الْغَالِبِ أَوْ عَلَى مُرَاعَاةِ قصَّة كَانَت سبّ نُزُولِ الْآيَةِ وَلَكِنَّ هَذَا الْحُكْمَ فِي الْجَمِيعِ يَشْمَلُ ضِدَّ أَهْلِ هَذِهِ الصِّيغَةِ فِي مَوَاقِعِهَا كُلِّهَا بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ. وَلَا اعْتِدَادَ بِمَا يُتَوَهَّمُ مِنْ فَارِقِ إِلْصَاقِ الْمَعَرَّةِ بِالْمَرْأَةِ إِذَا رُمِيَتْ بِالزِّنَى دُونَ الرَّجُلِ يُرْمَى بِالزِّنَى لِأَنَّ جَعْلَ الْعَارِ عَلَى الْمَرْأَةِ تَزْنِي دُونَ الرَّجُلِ يَزْنِي إِنَّمَا هُوَ عَادَةٌ جَاهِلِيَّةٌ لَا الْتِفَاتَ إِلَيْهَا فِي الْإِسْلَامِ فَقَدْ سَوَّى الْإِسْلَامُ التَّحْرِيمَ وَالْحَدَّ وَالْعِقَابَ الْآجِلَ وَالذَّمَّ الْعَاجِلَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ.
وَقَدْ يُعَدُّ اعْتِدَاءُ الرَّجُلِ بِزِنَاهُ أَشَدَّ مِنَ اعْتِدَاءِ الْمَرْأَةِ بِزِنَاهَا لِأَنَّ الرَّجُلَ الزَّانِيَ يُضَيِّعُ نَسَبَ نَسْلِهِ فَهُوَ جَانٍ عَلَى نَفْسِهِ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فولدها لَا حق بِهَا لَا مَحَالَةَ فَلَا جِنَايَةَ عَلَى نَفْسِهَا فِي شَأْنِهِ، وَهُمَا مُسْتَوِيَانِ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْوَلَدِ بِإِضَاعَةِ نَسَبِهِ فَهَذَا الْفَارِقُ الْمَوْهُومُ مُلْغًى فِي الْقِيَاسِ.
أَمَّا عَدَمُ قَبُولِ شَهَادَةِ الْقَاذِفِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَلِأَنَّهُ لَمَّا قَذَفَ بِدُونِ إِثْبَاتٍ قَدْ دَلَّ عَلَى تَسَاهُلِهِ فِي الشَّهَادَةِ فَكَانَ حَقِيقًا بِأَنْ لَا يُؤْخَذَ بِشَهَادَتِهِ.
وَالْأَبَدُ: الْزَمْنُ الْمُسْتَقْبَلُ كُلُّهُ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ لِلْإِعْلَانِ بِفِسْقِهِمْ لِيَتَمَيَّزُوا فِي هَذِهِ الصِّفَةِ الذَّمِيمَةِ.
وَالْحَصْرُ فِي قَوْلِهِ: وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي شَنَاعَةِ فِسْقِهِمْ حَتَّى كَأَنَّ مَا عَدَاهُ مِنَ الْفُسُوقِ لَا يَعُدُّ فِسْقًا.
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا حَقُّهُ أَنْ يَعُودَ إِلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ قَبْلَهُ كَمَا هُوَ شَأْنُ الِاسْتِثْنَاءِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ إِلَّا أَنَّهُ هُنَا رَاجِعٌ إِلَى خُصُوصِ عَدَمِ
الْقِصَّةِ الْمَسُوقَةِ مَثَلًا لِلْمُشْرِكِينَ فِي تَكْذِيبِهِمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْرِيضٌ بِهِمْ إِذْ كَذَّبُوهُ بَعْدَ أَنْ كَانُوا يَدْعُونَهُ الْأَمِينَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ أَمِينٌ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ عَلَى الْأُمَّةِ الَّتِي أُرْسِلَ إِلَيْهَا. وَالتَّأْكِيدُ أَيْضًا لِتَوَقُّعِ الْإِنْكَارِ مِنْهُمْ.
وَجُمْلَة: وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ أَيْ عَلِمْتُمْ أَنِّي أَمِينٌ لَكُمْ وَتَعْلَمُونَ أَنِّي لَا أَطْلُبُ مِنْ دَعْوَتِكُمْ إِلَى الْإِيمَانِ نَفْعًا لِنَفْسِي.
وَضَمِيرُ عَلَيْهِ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنْ مَقَامِ الدَّعْوَةِ.
وَقَوْلُهُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: أَلا تَتَّقُونَ وَهُوَ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُتَعَاطِفَتَيْنِ. وَكَرَّرَ جُمْلَةَ: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ لِزِيَادَةِ التَّأْكِيدِ فَيَكُونُ قَدِ افْتَتَحَ دَعْوَتَهُ بِالنَّهْيِ عَنْ تَرْكِ التَّقْوَى ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ ثُمَّ أَعَادَ مَا تَقْتَضِيهِ جُمْلَةُ الِاسْتِفْتَاحِ، ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ بقوله: وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ، ثُمَّ أَعَادَ جُمْلَةَ الدَّعْوَةِ فِي آخِرِ كَلَامِهِ إِذْ قَالَ:
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ مَرَّةً ثَانِيَةً بِمَنْزِلَةِ النَّتِيجَةِ لِلدَّعْوَةِ وَلِتَعْلِيلِهَا.
وَحُذِفَتِ الْيَاءُ مِنْ أَطِيعُونِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ كَمَا حُذِفَتْ فِي قَوْلِهِ: فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ [الشُّعَرَاء: ١٤] فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ.
وَفِي قَوْلِهِ: إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ إِشَارَةٌ إِلَى يَوْمِ الْجَزَاءِ وَكَانُوا يُنْكِرُونَ الْبَعْثَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ نُوحٍ [١٧، ١٨] وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ نُوحٍ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً فِي آل عمرَان [٣٣].
[١١١- ١١٥]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ١١١ إِلَى ١١٥]
قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (١١١) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٢) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (١١٣) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٤) إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١١٥)
جُمْلَةُ: قالُوا اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِمَا يُثِيرُهُ قَوْلُهُ: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ [الشُّعَرَاء: ١٠٥] مِنَ اسْتِشْرَافِ السَّامِعِ لِمَعْرِفَةِ مَا دَارَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ نُوحٍ مِنْ حِوَارٍ، وَلِذَلِكَ حُكَيَتْ مُجَادَلَتُهُمْ بِطَرِيقَةِ: قَالُوا، وَقَالَ. وَالْقَائِلُونَ: هُمْ كبراء الْقَوْم الَّذين تَصَدَّوْا لِمُحَاوَرَةِ نُوحٍ.
السَّيْرَ عَلَى قَدَمِ الْغَاوِينَ يُبَرِّرُ الْغَوَايَةَ، وَهَذَا كَمَا حَكَى عَنْهُمْ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [٩٦، ٩٩] : قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ. وَحُذِفَ مَفْعُولُ فِعْلِ أَغْوَيْنا الْأَوَّلِ وَهُوَ الْعَائِدُ مِنَ الصِّلَةِ إِلَى الْمَوْصُولِ لِكَثْرَةِ حَذْفِ أَمْثَالِهِ مِنْ كُلِّ عَائِدٍ صِلَةٍ هُوَ ضَمِيرُ نَصْبٍ مُتَّصِلٌ وَنَاصُبُهُ فِعْلٌ أَوْ وَصْفٌ شَبِيهٌ بِالْفِعْلِ، لِأَنَّ اسْمَ الْمَوْصُولِ مُغْنٍ عَنْ ذِكْرِهِ وَدَالٌّ عَلَيْهِ فَكَانَ حَذْفُ الْعَائِدِ اخْتِصَارًا. وَذَكَرَ مَفْعُولَ فِعْلِ أَغْوَيْناهُمْ الثَّانِي اهْتِمَامًا بِذِكْرِهِ لِعَدَمِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ فِي الِاسْتِعْمَالِ.
وَجُمْلَةُ تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ اسْتِئْنَافٌ. وَالتَّبَرُّؤُ: تَفَعُّلٌ مِنَ الْبَرَاءَةِ وَهِيَ انْتِفَاءُ مَا يَصِمُ، فَالتَّبَرُّؤُ: مُعَالَجَةُ إِثْبَاتِ الْبَرَاءَةِ وَتَحْقِيقُهَا. وَهُوَ يَتَعَدَّى إِلَى مَنْ يُحَاوِلُ إِثْبَاتَ الْبَرَاءَةِ لِأَجْلِهِ بِحَرْفِ (إِلَى) الدَّالِّ عَلَى الِانْتِهَاءِ الْمَجَازِيِّ يُقَالُ: إِنِّي أَبْرَأُ إِلَى اللَّهِ مِنْ كَذَا، أَيْ أُوَجِّهُ بَرَاءَتِي إِلَى اللَّهِ، كَمَا يَتَعَدَّى إِلَى الشَّيْءِ الَّذِي يَصِمُ بِحِرَفِ (مِنِ) الِاتِّصَالِيَّةِ الَّتِي هِيَ لِلِابْتِدَاءِ الْمَجَازِيِّ قَالَ تَعَالَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا [الْأَحْزَاب: ٦٩]. وَقَدْ تَدْخُلُ (مِنْ) عَلَى اسْمِ ذَاتٍ بِاعْتِبَارِ مُضَافٍ مُقَدَّرٍ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ [الْأَنْفَال: ٤٨] أَيْ مِنْ كُفْرِكُمْ.
وَالتَّقْدِيرُ: من أَعمالكُم وشؤونكم إِمَّا مِنْ أَعْمَالٍ خَاصَّةٍ يَدُلُّ عَلَيْهَا الْمَقَامُ أَوْ مِنْ عِدَّةِ أَعْمَالٍ.
فَالْمَعْنَى هُنَا تَحَقُّقُ التَّبَرُّؤِ لَدَيْكَ وَالْمُتَبَرَّأُ مِنْهُ هُوَ مَضْمُونُ جُمْلَةِ مَا كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ فَهِيَ بَيَانٌ لِإِجْمَالِ التَّبَرُّؤِ.
وَالْمَقْصُود: أَنهم يتبرؤون مِنْ أَنْ يَكُونُوا هُمُ الْمَزْعُومَ أَنَّهُمْ شُرَكَاءُ وَإِنَّمَا قُصَارَى
أَمْرِهِمْ أَنَّهُمْ مُضِلُّونَ وَكَانَ هَذَا الْمَقْصِدُ إِلْجَاءً مِنَ اللَّهِ إِيَّاهُمْ لِيُعْلِنُوا تَنَصُّلَهُمْ مِنِ ادِّعَاءِ أَنَّهُمْ شُرَكَاء على رُؤُوس الْمَلَإِ، أَوْ حَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مَا يُشَاهِدُونَ مِنْ فَظَاعَةِ عَذَابِ كُلِّ مَنِ ادَّعَى الْمُشْرِكُونَ لَهُ الْإِلَهِيَّةَ بَاطِلًا لَمَّا سَمِعُوا قَوْلَهُ تَعَالَى إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الْأَنْبِيَاء: ٩٨]. هَذَا مَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ مِنَ الْمَعَانِي.
وَتَقْدِيمُ إِيَّانا عَلَى يَعْبُدُونَ دُونَ أَنْ يُقَالَ يَعْبُدُونَنَا لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا التَّبَرُّؤِ مَعَ الرِّعَايَةِ على الفاصلة.
هُوَ مَسَاقُ الْحَدِيثِ وَلَا مَعْنَى لِأَخْذِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ حَتَّى نَذْهَبَ إِلَى تَجْزِئَةِ الْبِرِّ بَيْنَ الْأُمِّ وَالْأَبِ أَثْلَاثًا أَوْ أَرْبَاعًا وَهُوَ مَا اسْتَشْكَلَهُ الْقَرَافِيُّ فِي «فَائِدَةٍ مِنَ الْفَرْقِ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ»، وَحَسْبُنَا نَظْمُ هَذِهِ الْآيَةِ الْبَدِيعِ فِي هَذَا الشَّأْنِ. وَأَمَّا لَفْظُ الْحَدِيثِ فَهُوَ مَسُوقٌ لِتَأْكِيدِ الْبِرِّ بِالْأُمِّ خَشْيَةَ التَّفْرِيطِ فِيهِ. وَلَيْسَ مَعْنَى «ثُمَّ» فِيهِ إِلَّا مُحَاكَاةَ قَوْلِ السَّائِلِ «ثُمَّ مَنْ» بِقَرِينَةِ أَنَّهُ عَطَفَ بِهَا لَفْظَ الْأُمِّ فِي الْمَرَّتَيْنِ وَلَا مَعْنَى لِتَفْضِيلِ الْأُمِّ عَلَى نَفْسِهَا فِي الْبِرِّ. وَإِذْ كَانَ السِّيَاقُ مَسُوقًا لِلِاهْتِمَامِ تَعَيَّنَ أَنَّ عَطْفَ الْأَبِ عَلَى الْأُمِّ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ عَطْفٌ فِي الِاهْتِمَامِ فَلَا يُنْتَزَعُ مِنْهُ تَرْجِيحٌ عِنْدَ التَّعَارُضِ. وَلَعَلَّ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلِمَ مِنَ السَّائِلِ إِرَادَةَ التَّرْخِيصِ لَهُ فِي عَدَمِ الْبِرِّ. وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ لِرَجُلٍ سَأَلَهُ: أَنَّ أَبَاهُ فِي بَلَدِ السُّودَانِ كَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ يَقْدَمَ عَلَيْهِ وَأَنَّ أُمَّهُ مَنَعَتْهُ فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ: أَطِعْ أَبَاكَ وَلَا تَعْصِ أُمَّكَ (١). وَهَذَا يَقْتَضِي إِعْرَاضَهُ عَنْ تَرْجِيحِ جَانِبِ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ وَأَنَّهُ مُتَوَقِّفٌ فِي هَذَا التَّعَارُضِ لِيَحْمِلَ الِابْنَ عَلَى تَرْضِيَةِ كِلَيْهِمَا. وَقَالَ اللَّيْثُ: يُرَجَّحُ جَانِبُ الْأُمِّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُرَجَّحُ جَانِبُ الْأَبِ.
وَجُمْلَةُ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ إِلَخْ، فَهِيَ فِي مَوْقِعِ الْحَالِ أَيْضًا. وَفِي الْجُمْلَةِ تَقْدِيرُ ضَمِيرٍ رَابِطٍ إِيَّاهَا بِصَاحِبِهَا، إِذِ التَّقْدِيرُ: وَفِصَالُهَا إِيَّاهُ، فَلَمَّا أُضِيفَ الْفِصَالُ إِلَى مَفْعُولِهِ عُلِمَ أَنَّ فَاعِلَهُ هُوَ الْأُمُّ.
وَالْفِصَالُ: اسْمٌ لِلْفِطَامِ، فَهُوَ فَصْلٌ عَنِ الرَّضَاعَةِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ فَإِنْ أَرادا فِصالًا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٣٣]. وَذُكِرَ الْفِصَالُ فِي معرض تَعْلِيل حقية الْأُمِّ بِالْبَرِّ، لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الْإِرْضَاعَ مِنْ قَبْلِ الْفِصَالِ، وَلِلْإِشَارَةِ إِلَى مَا تَتَحَمَّلُهُ الْأُمُّ مِنْ كَدَرِ الشَّفَقَةِ عَلَى الرَّضِيعِ حِينَ فِصَالِهِ، وَمَا تُشَاهِدُهُ مِنْ حُزْنِهِ وَأَلَمِهِ فِي مَبْدَأِ فِطَامِهِ. وَذُكِرَ لِمُدَّةِ فِطَامِهِ أَقْصَاهَا وَهُوَ عَامَانِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَنْسَبُ بِالتَّرْقِيقِ عَلَى الْأُمِّ، وَأُشِيرَ إِلَى أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْفِطَامُ قَبْلَ الْعَامَيْنِ بِحَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ لِأَنَّ الظَّرْفِيَّةَ تَصْدُقُ مَعَ اسْتِيعَابِ الْمَظْرُوفِ جَمِيعَ الظَّرْفِ، وَلِذَلِكَ فَمُوقِعُ فِي
أَبْلَغُ مِنْ مَوْقِعِ (مِنْ) التَّبْعِيضِيَّةِ فِي قَوْلِ سَبْرَةَ بْنِ عَمْرٍو الْفَقْعَسِيِّ:
_________
(١) نَقله الْقَرَافِيّ فِي الْمَسْأَلَة الأولى من الْفرق الثَّالِث وَالْعِشْرين عَن «مُخْتَصر» الْجَامِع.
عَاصِمٍ
بِرَفْعِ الرِّيحُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ والرِّيحَ مُبْتَدَأٌ ولِسُلَيْمانَ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ الرِّيَاحَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ مَنْصُوبًا.
والْقِطْرِ- بِكَسْرِ الْقَافِ وَسُكُونِ الطَّاءِ- النُّحَاسُ الْمُذَابُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [٩٦].
وَالْإِسَالَةُ: جَعْلُ الشَّيْءِ سَائِلًا، أَي سَائِلًا، أَي مَائِعا مُنْبَطِحًا فِي الْأَرْضِ كَمَسِيلِ الْوَادِي. وعَيْنَ الْقِطْرِ لَيست عينا حَقِيقَة وَلَكِنَّهَا مُسْتَعَارَةٌ لِمَصَبِّ مَا يُصْهَرُ فِي مَصَانِعِهِ مِنَ النُّحَاسِ حَتَّى يَكُونَ النُّحَاسُ الْمُذَابُ سَائِلًا خَارِجًا مِنْ فَسَاقِيَّ وَنَحْوِهَا مِنَ الْأَنَابِيبِ كَمَا يَخْرُجُ الْمَاءُ مِنَ الْعَيْنِ لِشِدَّةِ إِصْهَارِ النُّحَاسِ وَتَوَالِي إِصْهَارِهِ فَلَا يَزَالُ يَسِيلُ لِيَصْنَعَ لَهُ آنِيَةً وَأَسْلِحَةً وَدَرَقًا، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا بِإِذَابَةٍ وَإِصْهَارٍ خَارِقَيْنِ للمعتاد بِقُوَّة إلهية، شَبَّهَ الْإِصْهَارَ بِالْكَهْرُبَاءِ أَوْ بِالْأَلْسِنَةِ النَّارِيَّةِ الزَّرْقَاءِ، وَذَلِكَ مَا لَمْ يُؤْتَهُ مَلِكٌ مِنْ مُلُوكِ زَمَانِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ السَّيَلَانُ مُسْتَعَارًا لِكَثْرَةِ الْقِطْرِ كَثْرَةً تُشْبِهُ كَثْرَةَ مَاءِ الْعُيُونِ وَالْأَنْهَارِ كَقَوْلِ كُثَيِّرٍ:
وَسَالَتْ بِأَعْنَاقِ الْمَطِيِّ الْأَبَاطِحُ وَيَكُونُ أَسَلْنا أَيْضًا تَرْشِيحًا لِاسْتِعَارَةِ اسْمِ الْعَيْنِ لِمَعْنَى مُذَابِ الْقِطْرِ، وَوَجْهُ الشَّبَهِ الْكَثْرَةُ.
وَقَوْلُهُ: وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ فَقَوْلُهُ: مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ مُبْتَدَأٌ وَقَوْلُهُ: بِإِذْنِ رَبِّهِ خَبَرٌ. ومِنَ فِي قَوْلِهِ: مِنَ الْجِنِّ بَيَانٌ لِإِبْهَامِ مِنَ قُدِّمَ عَلَى الْمُبَيَّنِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ لِغَرَابَتِهِ، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ مَنْ يَعْمَلُ عَطْفًا عَلَى الرِّيحَ فِي قَوْلِهِ: وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ أَيْ سَخَّرَنَا لَهُ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْجِنِّ، وَتَجْعَلَ جُمْلَةَ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ.
وَمَعْنَى يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ يَخْدُمُهُ وَيُطِيعُهُ. يُقَالُ: أَنَا بَيْنَ يَدَيْكَ، أَيْ مُطِيعٌ،
وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الشَّيْطَانَ عَرَضَ لِإِبْرَاهِيمَ عِنْدَ الْجَمَرَاتِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَرَجَمَهُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ بِحَصَيَاتٍ حَتَّى ذَهَبَ مِنْ عِنْدِ الْجَمْرَةِ الْأُخْرَى. وَعَنْهُ: أَنَّ مَوْضِعَ مُعَالَجَةِ الذَّبْحِ كَانَ عِنْدَ الْجِمَارِ وَقِيلَ عِنْدَ الصَّخْرَةِ الَّتِي فِي أَصْلِ جَبَلِ ثَبِيرٍ بِمِنًى.
الدَّلِيلُ التَّاسِعُ: أَنَّ الْقُرْآنَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ اللَّهَ لَمَّا بَشَّرَ إِبْرَاهِيمَ بِإِسْحَاقَ قَرَنَ تِلْكَ الْبِشَارَةَ بِأَنَّهُ يُولَدُ لِإِسْحَاقَ يَعْقُوبُ، قَالَ تَعَالَى: فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ [هود: ٧١] وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرِ إِبْرَاهِيمَ فَلَوِ ابْتَلَاهُ اللَّهُ بِذَبْحِ إِسْحَاقَ لَكَانَ الِابْتِلَاءُ صُورِيًّا لِأَنَّهُ وَاثِقٌ بِأَنَّ إِسْحَاقَ يَعِيشُ حَتَّى يُولَدَ لَهُ يَعْقُوبُ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ. وَلَمَّا بَشَّرَهُ بِإِسْمَاعِيلَ لَمْ يَعِدْهُ بِأَنَّهُ سَيُولَدُ لَهُ وَمَا ذَلِكَ إِلَّا تَوْطِئَةٌ لِابْتِلَائِهِ بِذَبْحِهِ فَقَدْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَدْعُو لِحَيَاةِ ابْنِهِ إِسْمَاعِيلَ. فَقَدْ جَاءَ فِي «سِفْرِ التَّكْوِينِ» الْإِصْحَاحِ السَّابِعِ عَشَرَ «وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ لِلَّهِ: لَيْتَ إِسْمَاعِيلَ يَعِيشُ أَمَامَكَ فَقَالَ اللَّهُ: بَلْ سَارَةُ تَلِدُ لَكَ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ إِسْحَاقَ وَأُقِيمُ عَهْدِي مَعَهُ عَهْدًا أَبَدِيًّا لِنَسْلِهِ مِنْ بَعْدِهِ». وَيَظْهَرُ أَنَّ هَذَا وَقَعَ بَعْدَ الِابْتِلَاءِ بِذَبْحِهِ.
الدَّلِيلُ الْعَاشِرُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْغُلَامِ الْحَلِيمِ إِسْحَاقَ لَكَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا:
وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيئًا مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات: ١١٢] تَكْرِيرًا لِأَنَّ فِعْلَ: بَشَّرْنَاهُ بِفُلَانٍ، غَالِبٌ فِي مَعْنَى التَّبْشِيرِ بِالْوُجُودِ.
وَاخْتَلَفَ عُلَمَاءُ السَّلَفِ فِي تَعْيِينِ الذَّبِيحِ فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ: هُوَ إِسْمَاعِيلُ وَمِمَّنْ قَالَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو الطُّفَيْلِ عَامِرُ بْنُ وَاثِلَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ. وَقَالَهُ مِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالشَّعْبِيُّ وَمُجَاهِدٌ وَعَلْقَمَةُ وَالْكَلْبِيُّ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ: هُوَ إِسْحَاقُ وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَقَالَهُ جَمْعٌ مِنَ التَّابِعِينَ مِنْهُمْ: عَطَاءٌ وَعِكْرِمَةُ وَالزُّهْرِيُّ وَالسُّدِّيُّ. وَفِي «جَامِعِ الْعَتَبِيَّةِ» أَنَّهُ قَوْلُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ.
فَإِنْ قُلْتَ: فَعَلَامَ جَنَحْتَ إِلَيْهِ وَاسْتَدْلَلْتَ عَلَيهِ مِنِ اخْتِيَارِكَ أَنْ يَكُونَ
وَعِنْدِي أَنَّ الِاسْتِعْمَالَيْنِ عَلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ وَأَنَّ الْعَرْضَ قَدْ كَثُرَ فِي مَعْنَى الْإِمْرَارِ دُونَ قَصْدِ التَّرْغِيبِ كَمَا يُقَالُ: عُرِضَ الْجَيْشُ عَلَى أَمِيرِهِ وَاسْتَعْرَضَهُ الْأَمِيرُ. وَلَعَلَّ أَصْلَهُ مَجَازٌ سَاوَى الْحَقِيقَةَ فَلَيْسَ فِي الْآيَتَيْنِ قَلْبٌ وَلَا فِي قَوْلِ الْعَرَبِ: عَرَضْتُ النَّاقَةَ عَلَى الْحَوْضِ، قَلْبٌ، وَيُقَالُ: عُرِضَ بَنُو فُلَانٍ عَلَى السَّيْفِ، إِذَا قُتِلُوا بِهِ. وَخَرَجَ فِي «الْكَشْفِ» آيَةُ الْأَحْقَافِ عَلَى قَوْلِهِمْ: عُرِضَ عَلَى السَّيْفِ.
وَمَعْنَى عَرْضِهِمْ عَلَى النَّارِ أَنَّ أَرْوَاحَهُمْ تُشَاهِدُ الْمَوَاضِعَ الَّتِي أُعِدَّتْ لَهَا فِي جَهَنَّمَ، وَهُوَ مَا يُبَيِّنُهُ
حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي «الصَّحِيحِ» قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ فَيُقَالُ: هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
. وَقَوْلُهُ: غُدُوًّا وَعَشِيًّا كِنَايَةٌ عَنِ الدَّوَامِ لِأَنَّ الزَّمَانَ لَا يَخْلُو عَن هاذين الْوَقْتَيْنِ.
وَقَوْلُهُ: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ هَذَا ذِكْرُ عَذَابِ الْآخِرَةِ الْخَالِدِ، أَيْ يُقَالُ: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ، وَعُلِمَ مِنْ عَذَابِ آلِ فِرْعَوْنَ أَنَّ فِرْعَوْنَ دَاخِلٌ فِي ذَلِكَ الْعَذَابِ بِدَلَالَةِ الْفَحْوَى.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ أَدْخِلُوا بِهَمْزَةِ قَطْعٍ وَكَسْرِ الْخَاءِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِهَمْزَةِ وَصْلٍ وَضَمِّ الْخَاءِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْقَوْلَ مُوَجَّهٌ إِلَى آلِ فِرْعَوْنَ وَأَنَّ آلَ فِرْعَوْنَ مُنَادَى بِحَذْف الْحَرْف.
[٤٧- ٤٨]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : الْآيَات ٤٧ إِلَى ٤٨]
وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (٤٧) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (٤٨)
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِذْ مَعْمُولًا لِ (اذْكُرْ) مَحْذُوفٍ فَيَكُونُ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ، وَالضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى
وَالْمَثَلِ وَالْقَوَارِعِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ شَيْءٌ عَجِيبٌ، مَعَ دَحْضِ شُبَهِ الْمُعَانِدِينَ بِأَفَانِينِ الْإِقْنَاعِ بِانْحِطَاطِ مِلَّةِ كُفْرِهِمْ وَعَسْفِ مُعْوَجِّ سُلُوكِهِمْ. وَأُدْمِجَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ مَا فِي دَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ مِنَ النِّعَمِ عَلَى النَّاسِ وَالْإِنْذَارِ وَالتَّبْشِيرِ.
وَقَدْ جَرَتْ آيَاتُ هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى أُسْلُوبِ نِسْبَةِ الْكَلَامِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عَدَا مَا قَامَتِ الْقَرِينَةُ عَلَى الْإِسْنَادِ إِلَى غَيره.
[١]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (١)تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظَائِره ومواقعها قَبْلَ ذِكْرِ الْقُرْآن وتنزيله.
[٢، ٣]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : الْآيَات ٢ إِلَى ٣]
وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣)
أَقْسَمَ بِالْكِتَابِ الْمُبِينِ وَهُوَ الْقُرْآنُ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ جَعَلَهُ اللَّهُ عَرَبِيًّا وَاضِحَ الدَّلَالَةِ فَهُوَ حَقِيقٌ بِأَنْ يُصَدِّقُوا بِهِ لَوْ كَانُوا غَيْرَ مُكَابِرِينَ، وَلَكِنَّهُمْ بِمُكَابَرَتِهِمْ كَانُوا كَمَنْ لَا يَعْقِلُونَ.
فَالْقَسَمُ بِالْقُرْآنِ تَنْوِيهٌ بِشَأْنِهِ وَهُوَ تَوْكِيدٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ جَوَابُ الْقَسَمِ إِذْ لَيْسَ الْقَسَمُ هُنَا بِرَافِعٍ لِتَكْذِيبِ الْمُنْكِرِينَ إِذْ لَا يُصَدِّقُونَ بِأَنَّ الْمُقْسِمَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّ الْمُخَاطَبَ بِالْقَسَمِ هُمُ الْمُنْكِرُونَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَتَفْرِيعِ أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً [الزخرف: ٥] عَلَيْهِ. وَتَوْكِيدُ الْجَوَابِ بِ (إِنَّ) زِيَادَةُ تَوْكِيدٍ لِلْخَبَرِ أَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ جَعْلِ اللَّهِ.
وَفِي جَعْلِ الْمُقْسَمِ بِهِ الْقُرْآنَ بِوَصْفِ كَوْنِهِ مُبِينًا، وَجَعْلِ جَوَابِ الْقَسَمِ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ مُبِينًا، تَنْوِيهٌ خَاصٌّ بِالْقُرْآنِ إِذْ جَعَلَ الْمُقْسَمَ بِهِ هُوَ الْمُقَسَمَ عَلَيْهِ، وَهَذَا ضَرْبٌ عَزِيزٌ بديع لِأَنَّهُ يومىء إِلَى أَنَّ الْمُقْسَمَ عَلَى شَأْنِهِ بَلَغَ غَايَةَ الشَّرَفِ فَإِذَا أَرَادَ الْمُقْسِمُ أَنْ يُقْسِمَ عَلَى ثُبُوتِ شَرَفٍ لَهُ لَمْ يَجِدْ مَا هُوَ أَوْلَى بِالْقَسَمِ بِهِ لِلتَّنَاسُبِ بَيْنَ الْقَسَمِ وَالْمُقْسَمِ عَلَيْهِ. وَجَعَلَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» مِنْ قَبِيلِهِ قَوْلَ أَبِي تَمَّامٍ:
إِلَى مَعْنَى الْعَهْدِ عَلَى الطَّاعَةِ وَالنُّصْرَةِ قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيءُ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً [الممتحنة: ١٢] الْآيَةَ وَهِيَ هُنَا بِمَعْنَى الْعَهْدِ عَلَى النُّصْرَةِ وَالطَّاعَةِ. وَهِيَ الْبَيْعَةُ الَّتِي بَايَعَهَا الْمُسلمُونَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ تَحْتَ شَجَرَةٍ مِنَ السَّمُرِ وَكَانُوا أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ عَلَى أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ. وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: أَوْ أَكْثَرَ، وَعَنْهُ: أَنَّهُمْ خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى كَانُوا ثَلَاثَ عَشْرَةَ مِائَةً. وَأَوَّلُ مَنْ بَايع النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ أَبُو سِنَانٍ الْأَسَدِيُّ. وَتُسَمَّى بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الْفَتْح: ١٨].
وَكَانَ سَبَبُ هَذِهِ الْبَيْعَةِ أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ لِيُفَاوِضَهُمْ فِي شَأْنِ التَّخْلِيَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ الِاعْتِمَارِ بِالْبَيْتِ فَأُرْجِفَ بِأَنَّ عُثْمَانَ قُتِلَ فعزم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قِتَالِهِمْ لِذَلِكَ وَدَعَا مَنْ مَعَهُ إِلَى الْبَيْعَةِ عَلَى أَنْ لَا يَرْجِعُوا حَتَّى يُنَاجِزُوا الْقَوْمَ، فَكَانَ
جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: بَايَعُوهُ عَلَى أَنْ لَا يَفِرُّوا، وَقَالَ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ: بَايَعْنَاهُ عَلَى الْمَوْتِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ هَذَيْنِ لِأَنَّ عَدَمَ الْفِرَارِ يَقْتَضِي الثَّبَاتَ إِلَى الْمَوْتِ. وَلَمْ يَتَخَلَّفْ أَحَدٌ مِمَّنْ خَرَجَ مَعَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْحُدَيْبِيَةِ عَنِ الْبَيْعَةِ إِلَّا عُثْمَان إِذا كَانَ غَائِبًا بِمَكَّةَ لِلتَّفَاوُضِ فِي شَأْنِ الْعُمْرَةِ، وَوضع النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى يَدِهِ الْيُسْرَى وَقَالَ: «هَذِهِ يَدُ عُثْمَانَ» ثُمَّ جَاءَ عُثْمَانُ فَبَايَعَ، وَإِلَّا الْجِدُّ بْنُ قَيْسٍ السُّلَمِيُّ اخْتَفَى وَرَاءَ جَمَلِهِ حَتَّى بَايَعَ النَّاسُ وَلَمْ يَكُنْ مُنَافِقًا وَلَكِنَّهُ كَانَ ضَعِيفَ الْعَزْمِ. وَقَالَ لَهُم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْتُمْ خَيْرُ أَهْلِ الْأَرْضِ.
وَفُرِّعَ قَوْلُهُ: فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ، فَإِنَّهُ لَمَّا كَشَفَ كُنْهَ هَذِهِ الْبَيْعَةِ بِأَنَّهَا مُبَايَعَةٌ لِلَّهِ ضَرُورَةَ أَنَّهَا مُبَايَعَةٌ لرَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاعْتِبَارِ رِسَالَتِهِ عَنِ اللَّهِ صَارَ أَمْرُ هَذِهِ الْبَيْعَةِ عَظِيمًا خَطِيرًا فِي الْوَفَاءِ بِمَا وَقَعَ عَلَيْهِ التَّبَايُعُ وَفِي نَكْثِ ذَلِكَ.
وَالنَّكْثُ: كَالنَّقْضِ لِلْحَبْلِ. قَالَ تَعَالَى: وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً [النَّحْل: ٩٢].
وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ، وَغَشِيَتْهُ غَاشِيَةٌ، وَالْعَرَبُ يَسْتَعْمِلُونَ التَّأْنِيثَ دَلَالَةً عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي النَّوْعِ، وَلَعَلَّهُمْ رَاعَوْا أَنَّ الْأُنْثَى مَصْدَرُ كَثْرَةِ النَّوْعِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْآزِفَةُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، وَمِنْهُ زِيَادَةُ تَهْوِيلٍ بِتَمْيِيزِ هَذَا الْجِنْسِ مِنْ بَيْنِ الْأَجْنَاسِ لِأَنَّ فِي اسْتِحْضَارِهِ زِيَادَةَ تَهْوِيلٍ لِأَنَّهُ حَقِيقٌ بِالتَّدَبُّرِ فِي الْمَخْلَصِ مِنْهُ نَظِيرَ التَّعْرِيفِ فِي الْحَمْدُ لِلَّهِ [الْفَاتِحَة: ٢]، وَقَوْلِهِمْ: أَرْسَلَهَا الْعِرَاكَ.
وَالْكَلَامُ يَحْتَمِلُ آزِفَةً فِي الدُّنْيَا مِنْ جِنْسِ مَا أُهْلِكَ بِهِ عَادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ نُوحٍ فَهِيَ اسْتِئْصَالُهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، وَيَحْتَمِلُ آزِفَةً وَهِيَ الْقِيَامَةُ. وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَالْقُرْبُ مُرَادٌ بِهِ التَّحَقُّقُ وَعَدَمُ الِانْقِلَابِ مِنْهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ [الْقَمَر: ١] وَقَوْلُهُ: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً [المعارج: ٦، ٧].
وَجُمْلَةُ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ بَيَانِيَّةٌ أَوْ صِفَةٌ لِ الْآزِفَةُ. وكاشِفَةٌ يَجُوزُ أَن يكون مصدرا بِوَزْنِ فَاعِلَةٍ كَالْعَافِيَةِ، وَخَائِنَةِ الْأَعْيُنِ، وَلَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ. وَالْمَعْنَى لَيْسَ لَهَا كَشْفٌ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمَ فَاعِلٍ قُرِنَ بِهَاءِ التَّأْنِيثِ لِلْمُبَالَغَةِ مِثْلَ رَاوِيَةٍ، وَبَاقِعَةٍ، وَدَاهِيَةٍ،
أَيْ لَيْسَ لَهَا كَاشِفٌ قَوِيُّ الْكَشْفِ فَضْلًا عَمَّنْ دُونَهُ.
وَالْكَشْفُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى التَّعْرِيَةِ مُرَادٌ بِهِ الْإِزَالَةُ مِثْلُ وَيَكْشِفُ الضُّرَّ، وَذَلِكَ ضِدُّ مَا يُقَالُ: غَشْيَةُ الضُّرِّ.
فَالْمَعْنَى: لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ إِزَالَةَ وَعِيدِهَا غَيْرُ اللَّهِ، وَقَدْ أَخْبَرَ بِأَنَّهَا وَاقِعَةٌ بِقَوْلِهِ: لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ كِنَايَةٌ عَنْ تَحَقُّقِ وُقُوعِهَا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَشْفُ بِمَعْنَى إِزَالَةِ الْخَفَاءِ، أَيْ لَا يُبَيِّنُ وَقْتَ الْآزِفَةِ أَحَدٌ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى الْبَيَانِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ [الْأَعْرَاف: ١٨٧]. فَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَالِمُ بِوَقْتِهَا لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ إِلَّا إِذَا شَاءَ أَنْ يُطِلِعَ عَلَيْهِ أَحَدًا مِنْ رُسُلِهِ أَوْ مَلَائِكَتِهِ.
ومِنْ دُونِ اللَّهِ أَيْ غَيْرُ اللَّهِ، ومِنْ مَزِيدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالْكَوْنِ الَّذِي يُنْوَى فِي خَبَرِ لَيْسَ قَوْله: لَها.
وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يُعْطِيهِ الْمُسْلِمُونَ لَهُنَّ أُجُورًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ.
وَالْمُكَلَّفُ بِإِرْجَاعِ مُهُورِ الْأَزْوَاجِ الْمُشْرِكِينَ إِلَيْهِمْ هُمْ وُلَاةُ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ مِمَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ.
وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ.
وَإِنَّمَا قَالَ تَعَالَى: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى خُصُوصِ قَوْلِهِ: إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ لِئَلَّا يُظَنُّ أَنَّ مَا دُفِعَ لِلزَّوْجِ السَّابِقِ مُسْقِطٌ اسْتِحْقَاقَ الْمَرْأَةِ الْمَهْرَ مِمَّنْ يَرُومُ تَزْوِيجَهَا وَمَعْلُومٌ أَنَّ نِكَاحَهَا بَعْدَ اسْتِبْرَائِهَا بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ.
وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ.
نَهَى اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ إِبْقَاءِ النِّسَاءِ الْكَوَافِرِ فِي عِصْمَتِهِمْ وَهن النِّسَاء اللاء لَمْ يَخْرُجْنَ مَعَ أَزْوَاجِهِنَّ لِكُفْرِهِنَّ فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ طَلَّقَ الْمُسْلِمُونَ مَنْ كَانَ لَهُمْ مِنْ أَزْوَاجٍ بِمَكَّةَ، فَطَلَّقَ عُمَرُ امْرَأَتَيْنِ لَهُ بِقَيَتَا بِمَكَّةَ مُشْرِكَتَيْنِ، وَهُمَا: قُرَيْبَةُ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ، وَأُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عَمْرٍو الْخُزَاعِيَّةُ.
وَالْمُرَادُ بِالْكَوَافِرِ: الْمُشْرِكَاتُ. وَهُنَّ مَوْضُوعُ هَذِهِ التَّشْرِيعَاتِ لِأَنَّهَا فِي حَالَةٍ وَاقِعَةٍ فَلَا تَشْمَلُ الْآيَةُ النَّهْيَ عَنْ بَقَاءِ الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ فِي عِصْمَةِ زَوْجٍ مُشْرِكٍ وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ حُكْمُ ذَلِكَ بِالْقِيَاسِ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: رَأَيْتُ لِأَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ الْفَقِيهَ أَبَا الْحَسَنِ الْكَرْخِيَّ يَقُولُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ أَنَّهُ فِي الرِّجَالِ وَالنِّسْوَانِ، فَقُلْتُ لَهُ: النَّحْوِيُّونَ لَا يَرَوْنَهُ إِلَّا فِي النِّسَاءِ لِأَنَّ كَوَافِرَ جُمَعُ كَافِرَةٍ، فَقَالَ: وَآيْشُ يَمْنَعُ مِنْ هَذَا، أَلَيْسَ النَّاسُ يَقُولُونَ: طَائِفَةٌ كَافِرَةٌ، وَفِرْقَةٌ كَافِرَةٌ، فَبُهِتُّ وَقُلْتُ: هَذَا تَأْيِيدٌ اه.
وَجَوَابُ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ لِأَنَّهُ
[سُورَة المعارج (٧٠) : الْآيَات ٨ إِلَى ١٨]
يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (٨) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (٩) وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (١٠) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (١٢)وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (١٣) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (١٤) كَلاَّ إِنَّها لَظى (١٥) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (١٦) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (١٧)
وَجَمَعَ فَأَوْعى (١٨)
يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ) بِفعل (تَعْرُجُ) [المعارج: ٤]، أَو أَن يَتَعَلَّقَ بِ (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ) قُدِّمَ عَلَيْهِ لِلْاهْتِمَامِ بِذِكْرِ الْيَوْمِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ابْتِدَاء كَلَام، وَالْجُمْلَةُ الْمَجْعُولَةُ مَبْدَأَ كَلَامٍ تُجْعَلُ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ جملَة وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً لِأَنَّ عَدَمَ الْمُسَاءَلَةِ مُسَبَّبٌ عَنْ شِدَّةِ الْهَوْلِ، وَمِمَّا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ ذَلِكَ أَنْ يَوَدَّ الْمُوَلِّ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ ذَلِكَ الْعَذَابِ.
والمهل: دُرِدِيُّ الزَّيْتِ.
وَالْمَعْنَى: تَشْبِيهُ السَّمَاءِ فِي انْحِلَالِ أَجْزَائِهَا بِالزَّيْتِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ فِي سُورَة الرحمان [٣٧] فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ.
وَالْعِهْنُ: الصُّوفُ الْمَصْبُوغُ، قِيلَ الْمَصْبُوغُ مُطْلَقًا، وَقِيلَ الْمَصْبُوغُ أَلْوَانًا مُخْتَلِفَةً وَهُوَ الَّذِي دَرَجَ عَلَيْهِ الرَّاغِبُ وَالزَّمَخْشَرِيُّ، قَالَ زُهَيْرٌ:
كَانَ فُتَاتُ الْعِهْنِ فِي كُلِّ مَنْزِلٍ | نَزَلْنَ بِهِ حَبُّ الْفَنَا لَمْ يُحَطَّمْ |
وَوَجْهُ الشَّبَهِ بِالْعِهْنِ تَفَرُّقُ الْأَجْزَاءِ كَمَا جَاءَتْ فِي آيَةِ الْقَارِعَةِ [٥] وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ فَإِيثَارُ الْعِهْنِ بِالذِّكْرِ لِإِكْمَالِ الْمُشَابَهَةِ لِأَنَّ الْجِبَالَ ذَاتُ أَلْوَانٍ قَالَ تَعَالَى:
وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها [فاطر: ٢٧]. وَإِنَّمَا تَكُونُ السَّمَاءُ وَالْجِبَالُ بِهَاتِهِ الْحَالَةِ حِينَ يَنْحَلُّ تَمَاسُكُ أَجْزَائِهِمَا عِنْدَ انْقِرَاضِ هَذَا الْعَالَمِ وَالْمَصِيرِ إِلَى عَالَمِ الْآخِرَةِ.
وَمعنى وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً لِشِدَّةِ مَا يَعْتَرِي النَّاسَ مِنَ الْهَوْلِ فَمِنْ شِدَّةِ ذَلِكَ أَنْ يَرَى الْحَمِيمُ حَمِيمَهُ فِي كَرْبٍ وَعَنَاءٍ فَلَا يَتَفَرَّغُ لِسُؤَالِهِ عَنْ حَالِهِ لِأَنَّهُ فِي شَاغِلٍ عَنْهُ، فَحذف مُتَعَلق يَسْئَلُ لِظُهُورِهِ مِنَ الْمَقَامِ وَمِنْ قَوْلِهِ: يُبَصَّرُونَهُمْ أَيْ يَبْصُرُ الْأَخِلَّاءُ أَحْوَالَ أَخِلَّائِهِمْ مِنَ الْكَرْبِ فَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا، قَالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ:
فَإِنَّهَا مُحْتَمِلَةُ الِانْصِرَافِ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ يَطْغَى عَلَيْهِ حُبُّ الِاسْتِدْلَالِ لِعَقَائِدِ أَهْلِ الِاعْتِزَالِ طُغْيَانًا يَرْمِي بِفَهْمِهِ فِي مَهَاوِي الضَّآلَةِ، وَهَلْ يَسْمَحُ بَالُ ذِي مُسْكَةٍ مِنْ عِلْمٍ بِمَجَارِي كَلَامِ الْعُقَلَاءِ أَنْ يَتَصَدَّى مُتَصَدٍّ لِبَيَانِ فَضْلِ أَحَدٍ بِأَنْ يَنْفِيَ عَنْهُ أَنَّهُ مَجْنُونٌ، وَهَذَا كُلُّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى تَفْسِيرِ:
رَسُولٍ كَرِيمٍ بِجِبْرِيلَ فَأَمَّا إِنْ أُرِيدَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ هُوَ وَجِبْرِيلُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فَهَذَا مُقْتَلَعٌ مِنْ جِذْرِهِ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْعُدُولَ عَنِ اسْمِ النَّبِيءِ الْعَلَمِ إِلَى صاحِبُكُمْ لِمَا يُؤْذِنُ بِهِ صاحِبُكُمْ مِنْ كَوْنِهِمْ عَلَى عِلْمٍ بِأَحْوَالِهِ، وَأَمَّا الْعُدُولُ عَنْ ضَمِيرِهِ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِ رَسُولٍ خُصُوصَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمِنَ الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِلْوَجْهِ الْمَذْكُورِ وَإِذَا أُرِيدَ بِ رَسُولٍ كِلَاهُمَا فَذِكْرُ صاحِبُكُمْ لِتَخْصِيصِ الْكَلَام بِهِ.
[٢٣]
[سُورَة التكوير (٨١) : آيَة ٢٣]
وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣)
وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣) عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ [التكوير: ٢٢].
وَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا إِذَا بَلَغَهُمْ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرُ أَنَّهُ نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ بِالْوَحْيِ مِنْ وَقْتِ غَارِ حِرَاءٍ فَمَا بعده استهزأوا وَقَالُوا: إِنَّ ذَلِكَ الَّذِي يَتَرَاءَى لَهُ هُوَ جِنِّيٌّ، فَكَذَّبَهُمُ اللَّهُ بِنَفْيِ الْجُنُونِ عَنْهُ ثُمَّ بِتَحْقِيقِ أَنَّهُ إِنَّمَا رَأَى جِبْرِيلَ الْقَوِيَّ الْأَمِينَ.
فَضَمِيرُ الرَّفْعِ عَائِدٌ إِلَى صَاحِبٍ مِنْ قَوْلِهِ: وَما صاحِبُكُمْ وَضَمِيرُ النَّصْبِ عَائِدٌ إِلَى رَسُولٍ كَرِيمٍ [التكوير: ١٩]، وَسِيَاقُ الْكَرَمِ يُبَيِّنُ مَعَادَ الرَّائِي وَالْمَرْئِيِّ.
وَ «الْأُفُقِ» : الْفَضَاءُ الَّذِي يَبْدُو لِلْعَيْنِ مِنَ الْكُرَةِ الْهَوَائِيَّةِ بَيْنَ طَرَفَيْ مَطْلَعِ الشَّمْسِ وَمَغْرِبِهَا مِنْ حَيْثُ يَلُوحُ ضَوْءُ الْفَجْرِ وَيَبْدُو شَفَقُ الْغُرُوبِ وَهُوَ يَلُوحُ كَأَنَّهُ قُبَّةٌ زَرْقَاءُ وَالْمَعْنَى رَآهُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.
والْمُبِينِ: وَصْفُ الْأُفُقِ، أَيْ لِلْأُفُقِ الْوَاضِحِ الْبَيِّنِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْوَصْفِ نَعْتُ الْأُفُقِ الَّذِي تَرَاءَى مِنْهُ جِبْرِيلُ لِلنَّبِيءِ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنَّهُ أُفُقٌ وَاضِحٌ بَيِّنٌ لَا تَشْتَبِهُ فِيهِ الْمَرْئِيَّاتُ وَلَا يُتَخَيَّلُ فِيهِ الْخَيَالُ،