وَمِنْهُمْ مَنْ سَلَكَ مَسْلَكَ النَّظَرِ كَأَبِي إِسْحَاقَ الزَّجَّاجِ وَأَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ، وَشُغِفَ كَثِيرٌ بِنَقْلِ الْقِصَصِ عَنِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، فَكَثُرَتْ فِي كُتُبِهِمُ الْمَوْضُوعَاتُ، إِلَى أَنْ جَاءَ فِي عَصْرٍ وَاحِدٍ عَالِمَانِ جَلِيلَانِ أَحَدُهُمَا بِالْمَشْرِقِ، وَهُوَ الْعَلَّامَةُ أَبُو الْقَاسِمِ مَحْمُودٌ الزَّمَخْشَرِيُّ، صَاحِبُ «الْكَشَّافِ»، الآخر بِالْمَغْرِبِ بِالْأَنْدَلُسِ وَهُوَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْحَقِّ بْنُ عَطِيَّةَ، فَأَلَّفَ تَفْسِيرَهُ الْمُسَمَّى بِ «الْمُحَرر الْوَجِيز»، كلا هما يَغُوصُ عَلَى مَعَانِي الْآيَاتِ، وَيَأْتِي بِشَوَاهِدِهَا مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ وَيَذْكُرُ كَلَامَ الْمُفَسِّرِينَ إِلَّا أَنَّ مَنْحَى الْبَلَاغَةِ وَالْعَرَبِيَّةِ بِالزَّمَخْشَرِيِّ أَخَصُّ، وَمَنْحَى الشَّرِيعَةِ عَلَى ابْنِ عَطِيَّة أغلب، وكلا هما عِضَادَتَا الْبَابِ، ومرجع من بعد هما مَنْ أُولِي الْأَلْبَابِ.
وَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ الْمُفَسِّرِينَ بِالْخَوْضِ فِي بَيَانِ مَعْنَى التَّأْوِيلِ، وَهَلْ هُوَ مُسَاوٍ لِلتَّفْسِيرِ
أَوْ أَخَصُّ مِنْهُ أَوْ مُبَايِنٌ؟ وَجِمَاعُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ جَعَلَهُمَا مُتَسَاوِيَيْنِ، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ ثَعْلَبٌ وَابْنُ الْأَعْرَابِيِّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الرَّاغِبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ التَّفْسِيرَ لِلْمَعْنَى الظَّاهِرِ وَالتَّأْوِيلَ لِلْمُتَشَابِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: التَّأْوِيلُ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِ مَعْنَاهُ إِلَى مَعْنًى آخَرَ مُحْتَمَلٍ لِدَلِيلٍ فَيَكُونُ هُنَا بِالْمَعْنَى الْأُصُولِيِّ، فَإِذَا فُسِّرَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ [الرّوم: ١٩] بِإِخْرَاجِ الطَّيْرِ مِنَ الْبَيْضَةِ، فَهُوَ التَّفْسِيرُ، أَوْ بِإِخْرَاجِ الْمُسْلِمِ مِنَ الْكَافِرِ فَهُوَ التَّأْوِيل، وَهنا لَك أَقْوَالٌ أُخَرُ لَا عِبْرَةَ بِهَا، وَهَذِهِ كُلُّهَا اصْطِلَاحَاتٌ لَا مُشَاحَّةَ فِيهَا إِلَّا أَنَّ اللُّغَةَ وَالْآثَارَ تَشْهَدُ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ التَّأْوِيلَ مَصْدَرُ أَوَّلَهُ إِذَا أَرْجَعَهُ إِلَى الْغَايَةِ الْمَقْصُودَةِ، وَالْغَايَةُ الْمَقْصُودَةُ مِنَ اللَّفْظِ هُوَ مَعْنَاهُ وَمَا أَرَادَهُ مِنْهُ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ مِنَ الْمَعَانِي فَسَاوَى التَّفْسِيرَ، عَلَى أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ إِلَّا عَلَى مَا فِيهِ تَفْصِيلُ مَعْنًى خَفِيٍّ مَعْقُولٍ قَالَ الْأَعْشَى:

عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ تَأَوَّلُ حُبَّهَا تَأَوُّلَ رِبْعِيِّ السِّقَابِ فَأَصْحَبَا
أَيْ تَبْيِينُ تَفْسِيرِ حُبِّهَا أَنَّهُ كَانَ صَغِيرًا فِي قَلْبِهِ، فَلَمْ يَزَلْ يَشِبُّ حَتَّى صَارَ كَبِيرًا كَهَذَا السَّقْبِ أَيْ وَلَدِ النَّاقَةِ، الَّذِي هُوَ مِنَ السِّقَابِ الرَّبِيعِيَّةِ لَمْ يَزَلْ يَشِبُّ حَتَّى كَبِرَ وَصَارَ لَهُ وَلَدٌ يَصْحَبُهُ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ [الْأَعْرَاف: ٥٣] أَيْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا بَيَانَهُ الَّذِي هُوَ الْمُرَادُ مِنْهُ،
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دُعَائِهِ لِابْنِ عَبَّاسٍ: «اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ»
، أَيْ فَهْمَ مَعَانِي الْقُرْآنِ،
وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَاُُ
فَلَيْسَتِ الْكَافُ بِزَائِدَةٍ وَلَا هِيَ لِلتَّشْبِيهِ وَلَكِنَّهَا قَرِيبَةٌ مِنَ الزَّائِدَةِ، وَالْإِشَارَةُ حِينَئِذٍ إِلَى مَا سَيُذْكَرُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ.
وَكَلَامُ «الْكَشَّافِ» أَظْهَرُ فِي هَذَا الْمَحْمَلِ فَيَدُلُّ على ذَلِك تصريحه فِي نَظَائِرِهِ إِذْ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ [الشُّعَرَاء: ٥٩] الْكَافُ مَنْصُوبَةٌ عَلَى مَعْنَى مِثْلِ أَيْ مِثْلِ ذَلِكَ الْإِخْرَاجِ أَخْرَجْنَاهُمْ وَأَوْرَثْنَاهَا. وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِي حَدَا صَاحِبَ «الْكَشَّافِ» إِلَى هَذَا الْمَحْمَلِ أَنَّ اسْتِعْمَالَ اسْمِ الْإِشَارَةِ فِي هَذَا وَأَمْثَالِهِ لَا يَطَّرِدُ فِيهِ اعْتِبَارُ مُشَارٍ إِلَيْهِ مِمَّا سَبَقَ مِنَ الْكَلَامِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَّجِهُ اعْتِبَارُ مُشَارٍ إِلَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي آيَةِ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ وَلَكِنَّ صَاحِبَ «الْكَشَّافِ» قَدْ خَالَفَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١١٢] وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا فَقَالَ: «كَمَا خَلَّيْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ أَعْدَائِكَ كَذَلِكَ فَعَلْنَا بِمَنْ قَبْلَكَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَأَعْدَائِهِمْ» اهـ وَمَا قَالَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَنْزَعٌ حَسَنٌ لَكِنَّهُ لَمْ يَضْرِبِ النَّاظِرُونَ فِيهِ بِعَطَنٍ.
وَالتَّحْقِيقُ عِنْدِي أَنَّ أَصْلَ: كَذلِكَ أَنْ يَدُلَّ عَلَى تَشْبِيهِ شَيْءٍ بِشَيْءٍ وَالْمُشَبَّهُ بِهِ ظَاهِرٌ مُشَارٌ إِلَيْهِ أَوْ كَالظَّاهِرِ ادِّعَاءً، فَقَدْ يَكُونُ الْمُشَبَّهُ بِهِ الْمُشَارُ إِلَيْهِ مَذْكُورًا مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ [هود: ١٠٢] إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [هود: ١٠١] الْآيَةَ. وَكَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
فَأَلْفَيْتُ الْأَمَانَةَ لَمْ تَخُنْهَا كَذَلِكَ كَانَ نُوحٌ لَا يَخُونُ
وَقَدْ يَكُونُ الْمُشَبَّهُ بِهِ الْمُشَارُ إِلَيْهِ مَفْهُومًا مِنَ السِّيَاقِ فَيُحْتَمَلُ اعْتِبَارُ التَّشْبِيهِ وَيُحْتَمَلُ اعْتِبَارُ الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ كَقَوْلِ أَبِي تَمَامٍ:
كَذَا فَلْيَجِلَّ الْخَطْبُ وَلْيَفْدَحِ الْأَمْرُ فَلَيْسَ لِعَيْنٍ لَمْ يَفِضْ دَمْعُهَا عُذْرُ
قَالَ التِّبْرِيزِيُّ فِي «شَرْحِهِ» (١) الْإِشَارَةُ لِلتَّعْظِيمِ وَالتَّهْوِيلِ وَهُوَ فِي صَدْرِ الْقَصِيدَةِ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ مَا يُشَبَّهُ بِهِ فَقُطِعَ النَّظَرُ فِيهِ عَنِ التَّشْبِيهِ وَاسْتُعْمِلَ فِي لَازِمِ مَعْنَى التَّشْبِيهِ اهـ، يَعْنِي أَنَّ الشَّاعِرَ أَشَارَ إِلَى الْحَادِثِ الْعَظِيمِ وَهُوَ مَوْتُ مُحَمَّدِ بْنِ حُمَيْدٍ الطُّوسِيِّ، وَمِثْلُهُ قَول الْأَسدي من شُعَرَاءِ «الْحَمَاسَةِ» يَرْثِي أَخَاهُ (٢) :
فَهَكَذَا يَذْهَبُ الزَّمَانُ وَيَفْ نَى الْعِلْمُ فِيهِ وَيَدْرُسُ الْأَثَرُُُ
_________
(١) من كتب التبريزي: شرح ديوَان الحماسة لأبي تَمام، ٢ شرح الْمُشكل من ديوَان أبي تَمام.
والتبريزي: هُوَ يحيى بن عَليّ مُحَمَّد الشَّيْبَانِيّ التبريزي، أَبُو زَكَرِيَّا، من أَئِمَّة اللُّغَة وَالْأَدب. توفّي سنة ٥٠٢ هـ. «الْأَعْلَام» (٨/ ١٥٧).
(٢) وَقيل الْبَيْت لِابْنِ كناسَة فِي رثاء حَمَّاد الراوية، وَقَالَ الجاحظ هُوَ لبَعض الشُّعَرَاء فِي رثاء بعض الْعلمَاء.
وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى [الْأَنْبِيَاء: ٢٨]، وَثَبَتَتْ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ وَأُشِيرَ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [الْإِسْرَاء: ٧٩] وَفُسِّرَتِ الْآيَةُ بِذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ أُصُولِ اعْتِقَادِنَا إِثْبَاتُ الشَّفَاعَةِ
لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْكَرَهَا الْمُعْتَزِلَةُ وَهُمْ مُخْطِئُونَ فِي إِنْكَارِهَا وَمُلَبِّسُونَ فِي اسْتِدْلَالِهِمْ، وَالْمَسْأَلَةُ مَبْسُوطَةٌ فِي كُتُبِ الْكَلَامِ.
وَالشَّفَاعَةُ الْمَنْفِيَّةُ هَنَا مُرَادٌ بِهَا الشَّفَاعَةُ الَّتِي لَا يَسَعُ الْمَشْفُوعَ إِلَيْهِ رَدُّهَا، فَلَا يُعَارِضُ مَا
وَرَدَ مِنْ شَفَاعَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ لِأَنَّ تِلْكَ كَرَامَةٌ أَكْرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا وَأَذِنَ لَهُ فِيهَا إِذْ يَقُولُ: «اشْفَعْ تُشَفَّعْ»
فَهِيَ تَرْجِعُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الْبَقَرَة: ٢٥٥] وَقَوْلِهِ: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى [الْأَنْبِيَاء: ٢٨] وَقَوْلِهِ: وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ: ٢٣].
وَقَوْلُهُ: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ صِيغَةُ قَصْرٍ نَشَأَتْ عَنْ قَوْلِهِ: لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ فَدَلَّتْ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ النَّفْيَ تَعْرِيضٌ وَتَهْدِيدٌ لِلْمُشْرِكِينَ فَعَقَّبَ بِزِيَادَةِ التَّغْلِيظِ عَلَيْهِمْ وَالتَّنْدِيدِ بِأَنَّ ذَلِكَ التَّهْدِيدَ وَالْمُهَدَّدَ بِهِ قَدْ جَلَبُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ بِمُكَابَرَتِهِمْ فَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ، وَهَذَا أَشَدُّ وَقْعًا عَلَى الْمُعَاقَبِ لِأَنَّ الْمَظْلُومَ يَجِدُ لِنَفْسِهِ سَلْوًا بِأَنَّهُ مُعْتَدًى عَلَيْهِ، فَالْقَصْرُ قَصْرُ قَلْبٍ، بِتَنْزِيلِهِمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُمْ مَظْلُومُونَ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ قَصْرًا حَقِيقِيًّا ادِّعَائِيًّا لِأَنَّ ظُلْمَهُمْ لَمَّا كَانَ أَشَدَّ الظُّلْمِ جُعِلُوا كَمَنِ انْحَصَرَ الظُّلْمُ فِيهِمْ.
وَالْمُرَادُ بِالْكَافِرِينَ ظَاهِرًا الْمُشْرِكُونَ، وَهَذَا مِنْ بَدَائِعِ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ صَالِحَةٌ أَيْضًا لِتَذْيِيلِ الْأَمْرِ بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْإِنْفَاقَ لِقِتَالِ الْمُشْركين الَّذين بدأوا الدِّينَ بِالْمُنَاوَأَةِ، فَهُمُ الظَّالِمُونَ لَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَهُمْ لِحِمَايَةِ الدِّينِ وَالذَّبِّ عَنْ حَوْزَتِهِ. وَذِكْرُ الْكَافِرِينَ فِي مَقَامِ التَّسْجِيلِ فِيهِ تَنْزِيهٌ لِلْمُؤْمِنِينَ عَنْ أَنْ يَتْرُكُوا الْإِنْفَاقَ إِذْ لَا يُظَنُّ بِهِمْ ذَلِكَ، فَتَرْكُهُ وَالْكُفْرُ مُتَلَازِمَانِ، فَالْكَافِرُونَ يَظْلِمُونَ أَنْفُسَهُمْ، وَالْمُؤْمِنُونَ لَا يَظْلِمُونَهَا، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ [فصلت: ٦، ٧]، وَذَلِكَ أَنَّ الْقُرْآنَ يُصَوِّرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَكْمَلِ مَرَاتِبِ الْإِيمَانِ وَيُقَابِلُ حَالَهُمْ بِحَالِ الْكُفَّارِ تَغْلِيظًا وَتَنْزِيهًا، وَمِنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا اعْتَقَدَ بَعْضُ فِرَقِ الْإِسْلَامِ أَنَّ الْمَعَاصِيَ تُبْطِلُ الْإِيمَانَ كَمَا قدّمناه.
ومُبارَكاً اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ بَارَكَ الشَّيْءَ إِذَا جَعَلَ لَهُ بَرَكَةً وَهِيَ زِيَادَةٌ فِي الْخَيْرِ. أَيْ جُعِلَتِ الْبَرَكَةُ فِيهِ بِجَعْلِ اللَّهِ تَعَالَى، إِذْ قَدَّرَ أَنْ يَكُونَ دَاخِلُهُ مُثَابًا وَمُحَصَّلًا عَلَى خَيْرٍ يَبْلُغُهُ عَلَى مَبْلَغِ نِيَّتِهِ، وَقَدَّرَ لِمُجَاوِرِيهِ وَسُكَّانِ بَلَدِهِ أَنْ يَكُونُوا بِبَرَكَةِ زِيَادَةِ الثَّوَابِ وَرَفَاهِيَةِ الْحَالِ، وَأَمَرَ بِجَعْلِ دَاخِلِهِ آمِنًا، وَقَدَّرَ ذَلِكَ بَيْنَ النَّاسِ فَكَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ بَرَكَةً. وَسَيَأْتِي مَعْنَى الْبَرَكَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ فِي سُورَةِ
الْأَنْعَامِ [٩٢].
وَوَصَفَهُ بِالْمَصْدَرِ فِي قَوْلِهِ: وَهُدىً مُبَالَغَةً لِأَنَّهُ سَبَبُ هُدَى.
وَجُعِلَ هُدًى لِلْعَالَمِينَ كُلِّهِمْ: لِأَنَّ شُهْرَتَهُ وَتَسَامُعَ النَّاسِ بِهِ، يَحْمِلُهُمْ عَلَى التَّسَاؤُلِ عَنْ سَبَبِ وَضْعِهِ، وَأَنَّهُ لِتَوْحِيدِ اللَّهِ، وَتَطْهِيرِ النُّفُوسِ مِنْ خُبْثِ الشِّرْكِ فَيَهْتَدِي بِذَلِكَ الْمُهْتَدِي، وَيَرْعَوِي الْمُتَشَكِّكُ.
وَمِنْ بَرَكَةِ ذَاتِهِ أَنَّ حِجَارَتَهُ وَضَعَتْهَا عِنْدَ بِنَائِهِ يَدُ إِبْرَاهِيمَ، وَيَدُ إِسْمَاعِيلَ، ثُمَّ يَدُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا سِيَّمَا الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ. وَانْتَصَبَ مُبارَكاً وَهُدىً عَلَى الْحَالِ مِنَ الْخَبَرِ، وَهُوَ اسْمُ الْمَوْصُولِ.
وَجُمْلَةُ فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ اسْتِئْنَافُ ثَنَاءٍ عَلَى هَذَا الْبَيْتِ بِمَا حَفَّ بِهِ مِنَ الْمَنَاقِبِ وَالْمَزَايَا فَغُيِّرَ الْأُسْلُوبُ لِلِاهْتِمَامِ وَلِذَلِكَ لَمْ تُجْعَلِ الْجُمْلَةُ حَالًا، فَتُعْطَفُ عَلَى الْحَالَيْنِ قَبْلَهَا، لِأَنَّ مُبَارَكًا وَهُدًى وَصْفَانِ ذَاتِيَّانِ لَهُ، وَحَالَانِ مُقَارِنَانِ، وَالْآيَاتُ عَوَارِضُ عَرَضَتْ فِي أَوْقَاتٍ مُتَفَاوِتَةٍ، أَوْ هِيَ حَالٌ ثَالِثَةٌ وَلَمْ تُعْطَفْ بِالْوَاوِ لِأَنَّهَا جُمْلَةٌ وَمَا قَبْلَهَا مُفْرِدَانِ وَلِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْوَاوَ فِيهَا وَاوُ الْحَالِ، فَتَكُونُ فِي صُورَتِهَا جَارِيَةً عَلَى غَيْرِ صُورَةِ الْأَفْصَحِ فِي مِثْلِهَا مِنْ عَدَمِ الِاقْتِرَانِ بِالْوَاوِ، عَلَى مَا حَقَّقَهُ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ، فَلَوْ قُرِنَتْ بِوَاوِ الْعَطْفِ لَالْتُبِسَتْ بِوَاوِ الْحَالِ، فَكُرِهَتْ فِي السَّمْعِ، فَيَكُونُ هَذَا مِنَ الْقَطْعِ لِدَفْعِ اللَّبْسِ، أَوْ نَقُولُ هِيَ حَالٌ وَلَمْ تُعْطَفْ عَلَى الْأَحْوَالِ الْأُخْرَى لِأَنَّهَا جُمْلَةٌ، فَاسْتَغْنَتْ بِالضَّمِيرِ عَنْ رَابِطِ الْعَطْفِ.
وَوَصْفُ الْآيَاتِ بِبَيِّنَاتٍ لِظُهُورِهَا فِي عِلْمِ الْمُخَاطَبِينَ. وَجِمَاعُ هَذِهِ
الْحَنَفِيَّةُ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ، إِذْ سَمَّى اللَّهُ ذَلِكَ إِذْنًا وَلَمْ يُسَمِّهِ عَقْدًا، وَهُوَ احْتِجَاجٌ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْإِذْنَ يُطْلَقُ عَلَى الْعَقْدِ لَا سِيَّمَا بَعْدَ أَنْ دَخَلَتْ عَلَيْهِ بَاءُ السَّبَبِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةُ بِ (انْكِحُوهُنَّ).
وَالْقَوْلُ فِي الْأُجُورِ وَالْمَعْرُوفِ تَقَدَّمَ قَرِيبًا. غَيْرَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَآتُوهُنَّ وَإِضَافَةَ الْأُجُورِ إِلَيْهِنَّ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَمَةَ أَحَقُّ بِمَهْرِهَا مِنْ سَيِّدِهَا. وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ فِي كِتَابِ الرُّهُونِ، مِنَ الْمُدَوَّنَةِ: إِنَّ عَلَى سَيِّدِهَا أَنْ يُجَهِّزَهَا بِمَهْرِهَا. وَوَقَعَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ الثَّانِي مِنْهَا: إِنَّ لِسَيِّدِهَا أَنْ يَأْخُذَ مَهْرَهَا، فَقِيلَ: هُوَ اخْتِلَافٌ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ، وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ: إِذَا لَمْ تُبَوَّأْ أَوْ إِذَا جَهَّزَهَا مِنْ عِنْدِهِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَمَعْنَى تُبَوَّأُ إِذَا جَعَلَ سُكْنَاهَا مَعَ زَوْجِهَا فِي بَيْتِ سَيِّدِهَا.
وَقَوله: مُحْصَناتٍ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْإِمَاءِ، وَالْإِحْصَانُ التَّزَوُّجُ الصَّحِيحُ، فَهِيَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، أَيْ لِيَصِرْنَ مُحْصَنَاتٍ.
وَقَوْلُهُ: غَيْرَ مُسافِحاتٍ صِفَةٌ لِلْحَالِ، وَكَذَلِكَ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ قُصِدَ مِنْهَا تَفْظِيعُ مَا كَانَتْ تَرْتَكِبُهُ الْإِمَاءُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِإِذْنِ مَوَالِيهِنَّ لِاكْتِسَابِ الْمَالِ بِالْبِغَاءِ وَنَحْوِهِ، وَكَانَ النَّاسُ يَوْمَئِذٍ قَرِيبًا عَصْرُهُمْ بِالْجَاهِلِيَّةِ.
والمسافحات الزَّوَانِي مَعَ غَيْرِ مُعَيَّنٍ. ومتّخذات الْأَخْدَانِ هُنَّ مُتَّخِذَاتُ أَخِلَّاءٍ تَتَّخِذُ الْوَاحِدَةُ خَلِيلًا تَخْتَصُّ بِهِ لَا تَأْلَفُ غَيْرَهُ. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ يُشْبِهُ النِّكَاحَ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ التَّعَدُّدِ، إِلَّا أَنَّهُ يُخَالِفُهُ مِنْ جِهَةِ التَّسَتُّرِ وَجَهْلِ النَّسَبِ وَخَلْعِ بُرْقُعِ الْمُرُوءَةِ، وَلِذَلِكَ عَطَفَهُ عَلَى قَوْلِهِ:
غَيْرَ مُسافِحاتٍ سدّ المداخل الزِّنَى كُلِّهَا. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى أَنْوَاعِ الْمُعَاشَرَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ.
وَقَرَأَهُ الْكِسَائِيُّ- بِكَسْرِ الصَّادِ- وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِفَتْحِ الصَّادِ-.
وَقَوْلُهُ: فَإِذا أُحْصِنَّ أَيْ أَحْصَنَهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ، أَيْ فَإِذَا تَزَوَّجْنَ. فَالْآيَةُ تَقْتَضِي أَنَّ التَّزَوُّجَ شَرْطٌ فِي إِقَامَة حدّ الزِّنَا عَلَى الْإِمَاءِ، وَأَنَّ الْحَدَّ هُوَ الْجَلْدُ الْمُعَيَّنُ لِأَنَّهُ الَّذِي يُمْكِنُ فِيهِ التَّنْصِيفُ بِالْعَدَدِ. وَاعْلَمْ أَنَّا إِذَا جَرَيْنَا عَلَى مَا حَقَّقْنَاهُ مِمَّا تَقَدَّمَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ الْمَاضِيَةِ تَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ شَرْعِ حَدِّ الْجَلْدِ لِلزَّانِيَةِ وَالزَّانِي بِآيَةِ سُورَةِ النُّورِ. فَتَكُونَ مُخَصِّصَةً لِعُمُومِ الزَّانِيَةِ بِغَيْرِ الْأَمَةِ، وَيَكُونَ وَضْعُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ
الَّذِينَ يَخافُونَ- إِلَى قَوْلِهِ- ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [٢٣] وَتَحْرِيمُ صَيْدِ الْبَحْرِ عَلَيْهِمْ فِي السَّبْتِ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَيْهَا جَمِيعًا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَأَخْذُ الْمِيثَاقِ عَلَيْهِمْ: الْمُرَادُ بِهِ الْعَهْدُ، وَوَصْفُهُ بِالْغَلِيظِ. أَيِ الْقَوِيِّ، وَالْغِلَظُ مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ، فَاسْتُعِيرَ لِقُوَّةِ الْمَعْنَى وَكَنَّى بِهِ عَنْ تَوَثُّقِ الْعَهْدِ لِأَنَّ الْغِلَظَ يَسْتَلْزِمُ الْقُوَّةَ، وَالْمُرَادُ جِنْسُ الْمِيثَاقِ الصَّادِقِ بِالْعُهُودِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي أُخِذَتْ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ ذُكِرَ أَكْثَرُهَا فِي آيِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا إِظْهَارُ تَأَصُّلِهِمْ فِي اللَّجَاجِ وَالْعِنَادِ، مِنْ عَهْدِ أَنْبِيَائِهِمْ، تَسْلِيَةً لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا لَقِيَ مِنْهُمْ، وَتَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ [النِّسَاء: ١٥٥].
وَقَوْلُهُ: لَا تَعْدُوا قَرَأَهُ نَافِعٌ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَاتِ، وَهِيَ لِوَرْشٍ عَنْهُ وَلِقَالُونَ فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْهِ عَنْهُ- بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِّ الْمَضْمُومَةِ- أَصْلُهُ: لَا تَعْتَدُوا، وَالِاعْتِدَاءُ افْتِعَالٌ مِنَ الْعَدْوِ، يُقَالُ: اعْتَدَى عَلَى فُلَانٍ، أَيْ تَجَاوَزَ حَدَّ الْحَقِّ مَعَهُ، فَلَمَّا كَانَتِ التَّاءُ قَرِيبَةً مِنْ مَخْرَجِ الدَّالِ وَوَقَعَتْ مُتَحَرِّكَةً وَقَبْلَهَا سَاكِنٌ، تَهَيَّأَ إِدْغَامُهَا، فَنُقِلَتْ حَرَكَتُهَا إِلَى الْعَيْنِ السَّاكِنَةِ قَبْلَهَا، وَأُدْغِمَتْ فِي الدَّالِ إِدْغَامًا لِقَصْدِ التَّخْفِيفِ، وَلِذَلِكَ جَازَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِظْهَارُهَا فَقَالُوا: تَعْتَدُوا وَتَعَدُّوا، لِأَنَّهَا وَقَعَتْ قَبْلَ الدَّالِ، فَكَانَتْ غَيْرَ مَجْذُوبَةٍ إِلَى مَخْرَجِهِ، وَلَوْ وَقَعَتْ بَعْدَ الدَّالِ لَوَجَبَ إِدْغَامُهَا فِي نَحْوِ أَدَّانَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ، وَقَالُونُ فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عَنْهُ: «لَا تَعْدُوا» - بِسُكُونِ الْعَيْنِ وَتَخْفِيفِ الدَّالِ- مُضَارِعٌ مَجْزُومٌ مِنَ الْعَدْوِ، وَهُوَ الْعُدْوَانُ، كَقَوْلِهِ: إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٦٣] وَفِي إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عَنْ قَالُونَ:- بِاخْتِلَاسِ الْفَتْحَةِ-، وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ:- بِسُكُونِ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ-، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ نَافِعٍ أَيْضًا، رَوَاهَا ابْنُ مُجَاهِدٍ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ، فِي «الْحُجَّةِ» : وَكَثِيرٌ مِنَ
النَّحْوِيِّينَ يُنْكِرُونَ الْجَمْعَ بَين الساكنين إِذْ كَانَ الثَّانِي مِنْهُمَا مُدْغَمًا وَلَمْ يَكُنِ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا حَرْفَ لِينٍ، نَحْوَ دَابَّةٍ، يَقُولُونَ: الْمَدُّ يَصِيرُ عِوَضًا عَنِ الْحَرَكَةِ، قَالَ: وَإِذَا جَازَ نَحْوُ دُوَيْبَّةٍ مَعَ نُقْصَانِ الْمَدِّ الَّذِي
لَا أُؤَدِّي شُكْرَهُ، فَقَالَ لَهُ: الْحَسَنُ: أَفَتَشْرَبُ الْمَاءَ الْبَارِدَ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: إِنَّ نِعْمَةَ اللَّهِ فِي الْمَاءِ الْبَارِدِ أَكْثَرُ مِنْ نِعْمَتِهِ فِي الْفَالَوْذِ.
وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ النَّهْيِ أَنْ يَلْفِظَ بِلَفْظِ التَّحْرِيمِ خَاصَّةً بَلْ أَنْ يَتْرُكَهُ تَشْدِيدًا عَلَى نَفْسِهِ سَوَاءً لَفَظَ بِالتَّحْرِيمِ أَمْ لَمْ يَلْفِظْ بِهِ. وَمِنْ أَجْلِ هَذَا النَّهْيِ اعْتُبِرَ هَذَا التَّحْرِيمُ لَغْوًا فِي الْإِسْلَامِ فَلَيْسَ يَلْزَمُ صَاحِبَهُ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَمْ يَجْعَلُ الْإِسْلَامُ لِلتَّحْرِيمِ سَبِيلًا إِلَيْهَا وَهِيَ كُلُّ حَالٍ عَدَا تَحْرِيمِ الزَّوْجَةِ. وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ فِيمَنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا مِنَ الْحَلَالِ أَوْ عَمَّمَ فَقَالَ: الْحَلَالُ عَلَيَّ حَرَامٌ، أَنَّهُ لَا شَيْء عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْحَلَالِ إِلَّا الزَّوْجَةَ فَإِنَّهَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ كَالْبَتَاتِ مَا لَمْ يَنْوِ إِخْرَاجَ الزَّوْجَةِ قَبْلَ النُّطْقِ بِصِيغَةِ التَّحْرِيمِ أَوْ يُخْرِجُهَا بِلَفْظِ الِاسْتِثْنَاءِ بَعْدَ النُّطْقِ بِصِيغَةِ التَّحْرِيمِ، عَلَى حُكْمِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْيَمِينِ. وَوَجْهُهُ أَنَّ عَقْدَ الْعِصْمَةِ يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ التَّحْرِيمُ شَرْعًا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، فَكَانَ الْتِزَامُ التَّحْرِيمِ لَازِمًا فِيهَا خَاصَّةً، فَإِنَّهُ لَوْ حَرَّمَ الزَّوْجَةَ وَحْدَهَا حَرُمَتْ، فَكَذَلِكَ إِذَا شَمِلَهَا لَفْظٌ عَامٌّ. وَوَافَقَهُ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا مِنَ الْحَلَالِ حَرُمَ عَلَيْهِ تَنَاوُلُهُ مَا لَمْ يُكَفِّرْ كَفَّارَةَ يَمِينٍ، فَإِنْ كَفَّرَ حَلَّ لَهُ إِلَّا الزَّوْجَةَ. وَذَهَبَ مَسْرُوقٌ وَأَبُو سَلَمَةَ إِلَى عَدَمِ لُزُومِ التَّحْرِيمِ فِي الزَّوْجَةِ وَغَيْرِهَا.
وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ تَنْبِيهٌ لِفُقَهَاءِ الْأُمَّةِ عَلَى الِاحْتِرَازِ فِي الْقَوْلِ بِتَحْرِيمِ شَيْءٍ لَمْ يَقُمِ الدَّلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِهِ، أَوْ كَانَ دَلِيلُهُ غَيْرَ بَالِغٍ قُوَّةَ دَلِيلِ النَّهْيِ الْوَارِدِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا قَدْ حَرَّمُوا أَشْيَاءَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ كَمَا تَضَمَّنَتْهُ سُورَةُ الْأَنْعَامِ، وَقَدْ أَبْطَلَهَا اللَّهُ بِقَوْلِهِ: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ [الْأَعْرَاف: ٣٢]، وَقَوْلِهِ: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ [الْأَنْعَام: ١٤٠]، وَقَوْلِهِ: قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ- إِلَى قَوْلِهِ- فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الْأَنْعَام: ١٤٣، ١٤٤]، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ كَانَ كَثِيرٌ مِنَ الْعَرَبِ قَدْ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ دُفْعَةً وَاحِدَةً كَمَا
جُمْلَةِ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ، فَهُوَ عَطْفُ تَلْقِينِ عُطِفَ بِهِ الْكَلَامُ الْمَنْسُوبُ إِلَى اللَّهِ عَلَى الْكَلَامِ
الْمَنْسُوبِ إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْضِيدًا لَمَّا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْكَلَامُ الْمَنْسُوبُ إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كَوْنِ الْقُرْآنِ حَقًّا، وَأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ آتَاهُمُ اللَّهُ الْكِتَابَ: أَحْبَارُ الْيَهُودِ، لِأَنَّ الْكِتَابَ هُوَ التَّوْرَاةُ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعَرَبِ، وَخَاصَّةً أَهْلُ مَكَّةَ، لِتَرَدُّدِ الْيَهُودِ عَلَيْهَا فِي التِّجَارَةِ. وَلِتَرَدُّدِ أَهْلِ مَكَّةَ عَلَى مَنَازِلِ الْيَهُودِ بِيَثْرِبَ وَقُرَاهَا وَلِكَوْنِ الْمَقْصُودِ بِهَذَا الْحُكْمِ أَحْبَارَ الْيَهُودِ خَاصَّةً قَالَ: آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَلَمْ يَقُلْ: أَهْلَ الْكِتَابِ.
وَمَعْنَى عِلْمِ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ: أَنَّهُمْ يَجِدُونَهُ مُصَدِّقًا لِمَا فِي كِتَابِهِمْ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أنّ محمّدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَدْرُسْ كِتَابَهُمْ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ، إِذْ لَوْ دَرَسَهُ لَشَاعَ أَمْرُهُ بَيْنَهُمْ، وَلَأَعْلَنُوا ذَلِكَ بَيْنَ النَّاسِ حِينَ ظُهُورِ دَعْوَتِهِ. وَهُمْ أَحْرَصُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَدَّعُوهُ. وَعِلْمُهُمْ بِذَلِكَ لَا يَقْتَضِي إِسْلَامَهُمْ لِأَنَّ الْعِنَادَ وَالْحَسَدَ يَصُدَّانِهِمْ عَنْ ذَلِكَ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالَّذِينَ آتَاهُمُ اللَّهُ الْكِتَابَ: مَنْ أَسْلَمُوا مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ. مِثْلُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ. وَمُخَيْرِيقٌ، فَيَكُونُ الْمَوْصُولُ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ للْعهد. وَعَنْ عَطَاءٍ: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ. هُمْ رُؤَسَاءُ أَصْحَاب محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ. فَيَكُونُ الْكِتَابُ هُوَ الْقُرْآنُ.
وَضَمِيرُ أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْكِتَابِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ وَهُوَ الْقُرْآنُ.
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ بِالْحَقِّ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ مُلَابِسًا لِلْحَقِّ. وَهِيَ مُلَابَسَةُ الدَّالِّ لِلْمَدْلُولِ، لِأَنَّ مَعَانِيَهُ، وَأَخْبَارَهُ، وَوَعْدَهُ، وَوَعِيدَهُ، وَكُلَّ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ، حَقٌّ.
بِمِثْلِ ذَلِكَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ فِي تَلْبِيَتِهِمْ: «لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ» فَمَوْقِعُ قَوْلِهِ: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مَوْقِعُ الْفَصْلِ الْجَامِعِ مِنَ الْحَدِّ، وَمَوْقِعُ وَلا تَتَّبِعُوا مَوْقِعُ الْفَصْلِ الْمَانِعِ فِي الْحَدِّ.
وَالْأَوْلِيَاءُ جَمْعُ وَلِيٍّ، وَهُوَ الْمُوَالِي، أَيِ الْمُلَازِمُ وَالْمُعَاوِنُ، فَيُطْلَقُ عَلَى النَّاصِرِ، وَالْحَلِيفِ، وَالصَّاحِبِ الصَّادِقِ الْمَوَدَّةِ، وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِلْمَعْبُودِ وَلِلْإِلَهِ: لِأَنَّ الْعِبَادَةَ أَقْوَى أَحْوَالِ الْمُوَالَاةِ، قَالَ تَعَالَى: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ [الشورى: ٩] وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٤]، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ هُنَا.
وَالِاتِّبَاعُ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْمَلًا فِي الْمَعْنَى الَّذِي اسْتُعْمِلَ فِيهِ الِاتِّبَاعُ فِي قَوْلِهِ: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَذَلِكَ عَلَى تَقْدِيرِ:
لَا تَتَّبِعُوا مَا يَأْتِيكُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ دُونَ اللَّهِ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ يَنْسُبُونَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الدِّيَانَةِ الضَّالَّةِ إِلَى الْآلِهَةِ الْبَاطِلَةِ، أَوْ إِلَى سَدَنَةِ الْآلِهَةِ وَكُهَّانِهَا، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ [الْأَنْعَام: ١٣٧]، وَقَوْلِهِ: فَقالُوا
هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا
كَمَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٣٦]، وَعَلَى تِلْكَ الِاعْتِبَارَاتِ يَجْرِي التَّقْدِيرُ فِي قَوْلِهِ: أَوْلِياءَ أَيْ لَا تَمْتَثِلُوا لِلْأَوْلِيَاءِ أَوْ أَمْرِهِمْ أَوْ لِدُعَاةِ الْأَوْلِيَاءِ وَسَدَنَتِهِمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاتِّبَاعُ مُسْتَعَارًا لِلطَّلَبِ وَالِاتِّخَاذِ، أَيْ وَلَا تَتَّخِذُوا أَوْلِيَاءَ غَيْرِهِ نَحْوَ قَوْلِهِمْ: هُوَ يَتَّبِعُ زَلَّةَ فُلَانٍ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «يَتَّبِعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ»
أَيْ يَتَطَلَّبُهَا.
وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ دُونِهِ ابْتِدَائِيَّةٌ، وَ (دُونَ) ظَرْفٌ لِلْمَكَانِ الْمُجَاوِزِ الْمُنْفَصِلِ، وَقَدْ جُرَّ بِمِنِ الْجَارَّةِ لِلظُّرُوفِ، وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ لِلتَّرْكِ وَالْإِعْرَاضِ.

[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : الْآيَات ٩٤ إِلَى ٩٥]

وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (٩٤) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (٩٥)
عَطَفَتِ الْوَاوُ جُمْلَةَ مَا أَرْسَلْنا عَلَى جُمْلَةِ وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً [الْأَعْرَاف:
٨٥]، عَطْفَ الْأَعَمِّ عَلَى الْأَخَصِّ. لِأَنَّ مَا ذُكِرَ مِنَ الْقَصَصِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ [الْأَعْرَاف: ٥٩] كُلُّهُ، الْقَصْدُ مِنْهُ الْعِبْرَةُ بِالْأُمَمِ الْخَالِيَةِ موعظة لِكُفَّارِ الْعَرَبِ فَلَمَّا تَلَا عَلَيْهِمْ قَصَصَ خَمْسِ أُمَمٍ جَاءَ الْآنَ بِحُكْمٍ كُلِّيٍّ يَعُمُّ سَائِرَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ عَلَى طَرِيقَةِ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ، أَوْ قِيَاسِ الِاسْتِقْرَاءِ النَّاقِصِ، وَهُوَ أَشْهَرُ قِيَاسٍ يُسْلَكُ فِي الْمَقَامَاتِ الْخِطَابِيَّةِ، وَهَذِهِ الْجُمَلُ إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى [يُونُس: ٧٥] كَالْمُعْتَرِضَةِ بَيْنَ الْقَصَصِ، لِلتَّنْبِيهِ عَلَى مَوْقِعِ الْمَوْعِظَةِ، وَذَلِكَ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ تِلْكَ الْقَصَصِ، فَهُوَ اعْتِرَاضٌ بِبَيَانِ الْمَقْصُودِ مِنَ الْكَلَامِ وَهَذَا كَثِيرُ الْوُقُوعِ فِي اعْتِرَاضِ الْكَلَامِ.
وَعُدِيَّ أَرْسَلْنا بِ (فِي) دُونَ (إِلَى) لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَرْيَةِ حَقِيقَتُهَا، وَهِيَ لَا يُرْسَلُ إِلَيْهَا وَإِنَّمَا يُرْسَلُ فِيهَا إِلَى أَهْلِهَا، فَالتَّقْدِيرُ: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيءٍ إِلَى أَهْلِهَا إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا [الْقَصَص:
٥٩] وَلَا يَجْرِي فِي هَذَا مِنَ الْمَعْنَى مَا يَجْرِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى الْآتِي قَرِيبا: وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ [الْأَعْرَاف: ١١١] إِذْ لَا دَاعِيَ إِلَيْهِ هُنَا.
ومِنْ مَزِيدٌ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى الْعُمُومِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ وُقُوعِ النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، وَتَخْصِيصِ الْقُرَى بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ فِيهَا دُونَ الْبَوَادِي كَمَا أَشَارَتْ إِلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ وَغَيْرُهَا مِنْ آيِ الْقُرْآنِ، وَشَهِدَ بِهِ تَارِيخ الْأَدْيَان، ينبىء أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ إِرْسَالِ الرُّسُلِ هُوَ بَثُّ الصَّلَاحِ لِأَصْحَابِ الْحَضَارَةِ الَّتِي يَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا الْخَلَلُ بِسَبَبِ اجْتِمَاعِ الْأَصْنَافِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَأَنَّ أَهْلَ الْبَوَادِي لَا يَخْلُونَ عَنِ الِانْحِيَازِ إِلَى الْقُرَى وَالْإِيوَاءِ فِي حَاجَاتِهِمُ الْمَدَنِيَّةِ إِلَى الْقُرَى الْقَرِيبَةِ، فَأَمَّا مَجِيءُ نَبِيءٍ غَيْرِ رَسُولٍ لِأَهْلِ
فِيهَا، وَتَنْبِيهُهُمْ لِلُطْفٍ عَظِيمٍ حَفَّهُمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهِيَ حَالَةُ مَوْقِعِ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ جَيْشِ الْمُشْرِكِينَ، وَكَيْفَ الْتَقَى الْجَيْشَانِ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ عَنْ غَيْرِ مِيعَادٍ، وَوَجَدَ الْمُسْلِمُونَ أَنْفُسَهُمْ أَمَامَ عَدُوٍّ قَوِيِّ الْعِدَّةِ وَالْعُدَّةِ وَالْمَكَانَةِ مِنْ حُسْنِ الْمَوْقِعِ.
وَلَوْلَا هَذَا الْمَقْصِدُ مِنْ وَصْفِ هَذِهِ الْهَيْئَةِ لَمَا كَانَ مِنْ دَاعٍ لِهَذَا الْإِطْنَابِ إِذْ لَيْسَ مِنْ أَغْرَاضِ الْقُرْآنِ وَصْفُ الْمَنَازِلِ إِذَا لَمْ تَكُنْ فِيهِ عِبْرَةٌ.
وَالْعُدْوَةُ بِتَثْلِيث الْعين صفة الْوَادِي وَشَاطِئُهُ، وَالضَّمُّ وَالْكَسْرُ فِي الْعَيْنِ أَفْصَحُ وَعَلَيْهِمَا الْقِرَاءَاتُ الْمَشْهُورَةُ، فَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِضَمِّ الْعَيْنِ-، وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ- بِكَسْرِ الْعَيْنِ-.
وَالْمرَاد بهَا شاطىء وَادِي بَدْرٍ. وَبَدْرٌ اسْمُ مَاءٍ. والدُّنْيا هِيَ الْقَرِيبَةُ أَيِ الْعُدْوَةُ الَّتِي مِنْ جِهَةِ الْمَدِينَةِ، فَهِيَ أَقْرَبُ لِجَيْشِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْعُدْوَةِ الَّتِي مِنْ جِهَة مَكَّة.
وبِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى هِيَ الَّتِي مِمَّا يَلِي مَكَّةَ، وَهِيَ كَثِيبٌ، وَهِيَ قُصْوَى بِالنِّسْبَةِ لِمَوْقِعِ بَلَدِ الْمُسلمين.
وَالْوَصْف ب الدُّنْيا والْقُصْوى يَشْعُرُ الْمُخَاطَبُونَ بِفَائِدَتِهِ، وَهِيَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا حَرِيصِينَ أَنْ يَسْبِقُوا الْمُشْرِكِينَ إِلَى الْعُدْوَةِ الْقُصْوَى، لِأَنَّهَا أَصْلَبُ أَرْضًا فَلَيْسَ لِلْوَصْفِ بِالدُّنُوِّ وَالْقُصُوِّ أَثَرٌ فِي تَفْضِيلِ إِحْدَى الْعُدْوَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى، وَلَكِنَّهُ صَادَفَ أَنْ كَانَتِ الْقُصْوَى أَسْعَدَ بِنُزُولِ الْجَيْشِ، فَلَمَّا سَبَقَ جَيْشُ الْمُشْرِكِينَ إِلَيْهَا اغْتَمَّ الْمُسْلِمُونَ، فَلَمَّا نَزَلَ الْمُسْلِمُونَ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا أَرْسَلَ اللَّهُ الْمَطَرَ وَكَانَ الْوَادِي دَهْسًا فَلَبَّدَ الْمَطَرُ الْأَرْضَ وَلَمْ يَعُقْهُمْ عَنِ الْمَسِيرِ وَأَصَابَ الْأَرْضَ الَّتِي بِهَا قُرَيْشٌ فَعَطَّلَهُمْ عَنِ الرَّحِيلِ، فَلَمْ يَبْلُغُوا بَدْرًا إِلَّا بَعْدَ أَنْ وَصَلَ الْمُسْلِمُونَ وَتَخَيَّرُوا أَحْسَنَ مَوْقِعٍ وَسَبَقُوا إِلَى الْمَاءِ، فَاتَّخَذُوا حَوْضًا يَكْفِيهِمْ وَغَوَّرُوا الْمَاءَ، فَلَمَّا وَصَلَ الْمُشْرِكُونَ إِلَى الْمَاءِ وَجَدُوهُ قَدِ احْتَازَهُ الْمُسْلِمُونَ، فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَشْرَبُونَ وَلَا يَجِدُ الْمُشْرِكُونَ مَاءً.
وَضَمِيرُ وَهُمْ عَائِدٌ إِلَى مَا فِي لَفْظِ الْجَمْعانِ مِنْ مَعْنَى: جَمْعُكُمْ وَجَمْعُ الْمُشْرِكِينَ، فَلَمَّا قَالَ: إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا لَمْ يَبْقَ مَعَادٌ لِضَمِيرِ وَهُمْ إِلَّا الْجَمْعُ الْآخَرُ وَهُوَ جَمْعُ الْمُشْرِكِينَ.
والرَّكْبُ هُوَ رَكْبُ قُرَيْشٍ الرَّاجِعُونَ مِنَ الشَّامِ، وَهُوَ الْعِيرُ. أَسْفَلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ
أَيْ أَخْفَضَ مِنْ مَنَازِلِهِمَا، لِأَنَّ الْعِيرَ كَانُوا سَائِرِينَ فِي طَرِيقِ السَّاحِلِ، وَقَدْ
جَاءَ فِي حَدِيثِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ بِصَدَقَتِهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى»
. وَيَجُوزُ عَطْفُ صَلَواتِ الرَّسُولِ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ مَعْمُولًا لِ عِنْدَ، أَيْ يَتَّخِذُونَ الْإِنْفَاقَ قُرْبَةً عِنْدَ صَلَوَاتِ الرَّسُولِ، أَيْ يَجْعَلُونَهُ تَقَرُّبًا كَائِنًا فِي مَكَانِ الدُّنُوِّ مِنْ صَلَوَاتِ الرَّسُولِ تَشْبِيهًا لِلتَّسَبُّبِ فِي الشَّيْءِ بِالِاقْتِرَابِ مِنْهُ، أَيْ يَجْعَلُونَ الْإِنْفَاقَ سَبَبًا لِدُعَاءِ الرَّسُولِ لَهُمْ. فَظَرْفُ (عِنْدَ) مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَيَيْنِ مَجَازِيَّيْنِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ عَطْفًا عَلَى قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ، أَيْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ دَعَوَاتِ الرَّسُولِ. أَخْبَرَ عَنِ الْإِنْفَاقِ بِاتِّخَاذِهِ دَعَوَاتِ الرَّسُولِ لِأَنَّهُ يَتَوَسَّلُ بِالْإِنْفَاقِ إِلَى دَعَوَاتِ الرَّسُولِ إِذْ أُمِرَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ [التَّوْبَة: ١٠٣].
وَجُمْلَةُ: أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ مَسَاقَ الْبِشَارَةِ لَهُمْ بِقَبُولِ مَا رَجَوْهُ.
وَافْتُتِحَتِ الْجُمْلَةُ بِحَرْفِ الِاسْتِفْتَاحِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَا لِيَعِيَهَا السَّامِعُ، وَبِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِتَحْقِيقِ مَضْمُونِهَا، وَالضَّمِيرُ الْوَاقِعُ اسْمَ (إِنَّ) عَائِدٌ إِلَى مَا (يُنْفِقُ) بِاعْتِبَارِ النَّفَقَاتِ. وَاللَّامُ لِلِاخْتِصَاصِ، أَيْ هِيَ قُرْبَةٌ لَهُمْ، أَيْ عِنْدِ اللَّهِ وَعِنْدَ صَلَوَاتِ الرَّسُولِ. وَحُذِفَ ذَلِكَ لِدَلَالَةِ سَابِقِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. وَتَنْكِيرُ قُرْبَةٌ لِعَدَمِ الدَّاعِي إِلَى التَّعْرِيفِ، وَلِأَنَّ التَّنْكِيرَ قَدْ يُفِيدُ التَّعْظِيمَ.
وَجُمْلَةُ: سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ الْبَيَانِ لِجُمْلَةِ إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ، لِأَنَّ الْقُرْبَةَ عِنْدَ اللَّهِ هِيَ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى وَرِضْوَانُهُ، وَذَلِكَ مِنَ الرَّحْمَةِ. وَالْقُرْبَةُ عِنْدَ صَلَوَاتِ
الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِجَابَةُ صَلَاتِهِ. وَالصَّلَاةُ الَّتِي يَدْعُو لَهُمْ طَلَبُ الرَّحْمَةِ، فَمَآلُ الْأَمْرَيْنِ هُوَ إِدْخَالُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ فِي رَحْمَتِهِ. وَأُوثِرَ فِعْلُ الْإِدْخَالِ هُنَا لِأَنَّهُ الْمُنَاسِبُ لِلْكَوْنِ فِي الْجَنَّةِ، إِذْ كَثِيرًا مَا يُقَالُ: دَخَلَ الْجَنَّةَ. قَالَ تَعَالَى: وَادْخُلِي جَنَّتِي [الْفجْر: ٣٠].
وَجُمْلَةُ: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ تَذْيِيلٌ مُنَاسِبٌ لِمَا رَجَوْهُ وَمَا اسْتُجِيبَ لَهُمْ. وَأُثْبِتَ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْخَبَرِ، أَيْ غَفُورٌ لِمَا مَضَى مِنْ كُفْرِهِمْ، رَحِيمٌ بِهِمْ يُفِيضُ النِّعَمَ عَلَيْهِمْ.
إِلَى أَنَّ مَضْمُونَ الْكَلَامِ الْمُفَرَّعَ عَلَيْهِ سَبَبٌ لِتَوْجِيهِ هَذَا التَّوَقُّعِ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُفَرَّعَ عَلَيْهِ الْيَأْسُ مِنِ ارْعِوَائِهِمْ لِتَكَرُّرِ التَّكْذِيبِ وَالِاسْتِهْزَاءِ يَأْسًا قَدْ يَبْعَثُ عَلَى تَرْكِ دُعَائِهِمْ، فَذَلِكَ كُلُّهُ أُفِيدُ بِفَاءِ التَّفْرِيعِ.
وَالتَّوَقُّعُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ (لَعَلَّ) مُسْتَعْمَلٌ فِي تَحْذِيرٍ مِنْ شَأْنِهِ التَّبْلِيغُ. وَيَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ اسْتِفْهَامٌ حُذِفَتْ أَدَاتُهُ. وَالتَّقْدِيرُ: أَلَعَلَّكَ تَارِكٌ. وَيَكُونُ الِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلًا فِي النَّفْيِ لِلتَّحْذِيرِ، وَذَلِكَ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشُّعَرَاء: ٣].
وَالِاسْتِفْهَامُ كِنَايَةٌ عَنْ بُلُوغِ الْحَالَةِ حَدًّا يُوجِبُ تَوَقُّعَ الْأَمْرِ الْمُسْتَفْهِمِ عَنْهُ حَتَّى أَنَّ
الْمُتَكَلِّمَ يَسْتَفْهِمُ عَنْ حُصُولِهِ. وَهَذَا أُسْلُوبٌ يُقْصَدُ بِهِ التَّحْرِيكُ مِنْ هِمَّةِ الْمُخَاطَبِ وَإِلْهَابُ هِمَّتِهِ لِدَفْعِ الْفُتُورِ عَنْهُ، فَلَيْسَ فِي هَذَا تَجْوِيزُ تَرْكِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبْلِيغَ بَعْضِ مَا يُوحَى إِلَيْهِ، وَذَلِكَ الْبَعْضُ هُوَ مَا فِيهِ دَعْوَتُهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ وَإِنْذَارُهُمْ بِالْعَذَابِ وَإِعْلَامُهُمْ بِالْبَعْثِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها [الْأَعْرَاف: ٢٠٣].
وَالْمَعْنَى تَحْذِيرُهُ مِنَ التَّأَثُّرِ بِعِنَادِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ وَاسْتِهْزَائِهِمْ، وَيَسْتَتْبِعُ ذَلِكَ تَأْيِيسُ الْمُشْرِكِينَ مِنْ تَرْكِهِ ذِكْرِ الْبَعْثِ وَالْإِنْذَارِ بِالْعَذَابِ، فَالْخِطَابُ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ وَمُرَادٌ مِنْهُ مَعَ ذَلِكَ عِلْمُ السَّامِعِينَ بِمَضْمُونِهِ.
وَضائِقٌ: اسْمُ فَاعِلٍ مَنْ ضَاقَ. وَإِنَّمَا عُدِلَ عَنْ أَنْ يُقَالَ (ضَيِّقٌ) هُنَا إِلَى ضائِقٌ لِمُرَاعَاةِ النَّظِيرِ مَعَ قَوْلِهِ: (تَارِكٌ) لِأَنَّ ذَلِكَ أَحْسَنُ فَصَاحَةً. وَلِأَنَّ ضائِقٌ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى تَمَكُّنِ وَصْفِ الضِّيقِ مِنْ صَدْرِهِ بِخِلَافِ ضَيِّقٍ، إِذْ هُوَ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ وَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى تَمَكُّنِ الْوَصْفِ مِنَ الْمَوْصُوفِ، إِيمَاء إِلَى أَنَّ أَقْصَى مَا يُتَوَهَّمُ تَوَقُّعُهُ فِي جَانِبِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ ضِيقٌ قَلِيلٌ يَعْرِضُ لَهُ.
وَالضِّيقُ مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي الْغَمِّ وَالْأَسَفِ، كَمَا اسْتُعْمِلَ ضِدُّهُ وَهُوَ الِانْشِرَاحُ فِي الْفَرَحِ وَالْمَسَرَّةِ.
مَعَنَا أخونا. فَتعين أَنه حَكَوُا الْقِصَّةَ لِأَبِيهِمْ مُفَصَّلَةً وَاخْتَصَرَهَا الْقُرْآن لظُهُور المرد. وَالْمَعْنَى: إِنْ أَرْسَلْتَهُ مَعَنَا نَرْحَلْ لِلِاكْتِيَالِ وَنَطْلُبْهُ. وَإِطْلَاقُ الْمَنْعِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مَجَازٌ، لِأَنَّهُمْ أُنْذِرُوا بِالْحِرْمَانِ فَصَارَ طَلَبُهُمْ مَمْنُوعًا مِنْهُمْ لِأَنَّ طَلَبَهُ عَبَثٌ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ نَكْتَلْ بِنُونِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُشَارِكِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ- بِتَحْتِيَّةٍ عِوَضَ النُّونِ- عَلَى أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى أَخانا أَيْ يَكْتَلْ مَعَنَا.
وَجُمْلَةُ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَأَرْسِلْ. وَأَكَّدُوا حِفْظَهُ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الثَّبَاتِ وَبِحَرْفِ التَّوْكِيدِ.
وَجَوَابُ أَبِيهِمْ كَلَامٌ مُوَجَّهٌ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: إِنِّي آمَنُكُمْ عَلَيْهِ كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ، وَأَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ مَاذَا أَفَادَ ائْتِمَانُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ حَتَّى آمَنَكُمْ عَلَيْهِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ فِيهِ مَعْنَى النَّفْيِ، فَهُوَ يَسْتَفْهِمُ عَنْ وَجْهِ التَّأْكِيدِ فِي قَوْلِهِمْ: وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْجُمْلَةِ عَلَى احْتِمَالَيْهَا هُوَ التَّفْرِيعُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً [سُورَة يُوسُف: ٦٤]، أَيْ خَيْرٌ حِفْظًا مِنْكُمْ، فَإِنْ حَفِظَهُ اللَّهُ سَلِمَ وَإِنْ لَمْ يَحْفَظْهُ لَمْ يَسْلَمْ كَمَا لَمْ يَسْلَمْ أَخُوهُ مِنْ قَبْلُ حِينَ أَمِنْتُكُمْ عَلَيْهِ.
وَهُمْ قَدِ اقْتَنَعُوا بِجَوَابِهِ وَعَلِمُوا مِنْهُ أَنَّهُ مُرْسِلٌ مَعَهُمْ أَخَاهُمْ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُرَاجِعُوهُ فِي شَأْنه.
وحافِظاً مَصْدَرٌ مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ حافِظاً عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ وَهِيَ حَال لَازِمَة.

[سُورَة الْحجر (١٥) : الْآيَات ٦ إِلَى ٧]

وَقالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ مَا تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧)
عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا [سُورَة الْحجر: ٣]. وَالْمُنَاسَبَةُ أَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهَا تَضَمَّنَتِ انْهِمَاكَهُمْ فِي الْمَلَذَّاتِ وَالْآمَالِ، وَهَذِهِ تَضَمَّنَتْ تَوَغُّلَهُمْ فِي الْكُفْرِ وَتَكْذِيبَهُمُ الرِّسَالَةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ.
وَالْمَعْنَى: ذَرْهُمْ يُكَذِّبُونَ وَيَقُولُونَ شَتَّى الْقَوْلِ مِنَ التَّكْذِيبِ وَالِاسْتِهْزَاءِ.
وَالْجُمْلَةُ كُلُّهَا مِنْ مَقُولِهِمْ.
وَالنِّدَاءُ فِي يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ لِلتَّشْهِيرِ بِالْوَصْفِ الْمُنَادَى بِهِ، وَاخْتِيَارُ الْمَوْصُولِيَّةِ لِمَا فِي الصِّلَةِ مِنَ الْمَعْنَى الَّذِي جَعَلُوهُ سَبَبَ التَّهَكُّمِ. وَقَرِينَةُ التَّهَكُّمِ قَوْلُهُمْ:
إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ. وَقَدْ أَرَادُوا الِاسْتِهْزَاءَ بِوَصْفِهِ فَأَنْطَقَهُمُ اللَّهُ بِالْحَقِّ فِيهِ صَرْفًا لِأَلْسِنَتِهِمْ عَنِ الشَّتْمِ. وَهَذَا كَمَا كَانُوا إِذَا شَتَمُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ هَجَوْهُ يَدْعُونَهُ مُذَمَّمًا
فَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ: «أَلَمْ تَرَيْ كَيْفَ صَرَفَ اللَّهُ عَنِّي أَذَى الْمُشْرِكِينَ وَسَبَّهُمْ، يَسُبُّونَ مُذَمَّمًا وَأَنَا مُحَمَّدٌ»
. وَفِي هَذَا إِسْنَادُ الصِّلَةِ إِلَى الْمَوْصُولِ بِحَسب مَا يدعبه صَاحِبُ اسْمِ الْمَوْصُولِ، لَا بِحَسَبِ اعْتِقَادِ الْمُتَكَلِّمِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّهَكُّمِ.
والذِّكْرُ: مَصْدَرُ ذَكَرَ، إِذَا تَلَفَّظَ. وَمَصْدَرُ ذَكَرَ إِذَا خَطَرَ بِبَالِهِ شَيْءٌ. فَالذِّكْرُ الْكَلَامُ الْمُوحَى بِهِ لِيُتْلَى وَيُكَرَّرَ، فَهُوَ لِلتِّلَاوَةِ لِأَنَّهُ يُذْكَرُ وَيُعَادُ إِمَّا لِأَنَّ فِيهِ التَّذْكِيرَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَإِمَّا بِمَعْنَى أَنَّ بِهِ ذِكْرَهُمْ فِي الْآخَرِينَ، وَقَدْ شَمَلَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ [سُورَة الْأَنْبِيَاء: ١٠] وَقَالَ: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [سُورَة الزخرف:
٤٤] وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْقُرْآنُ.
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ [الْإِسْرَاء: ٢٣- ٣٥] إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ هَذَا الدِّينَ سَيَكُونُ دِينًا يَحْكُمُ فِي النَّاسِ وَتُنَفَّذُ أَحْكَامُهُ.
وَالْمَسْجِدُ الْأَقْصَى هُوَ ثَانِي مَسْجِدٍ بَنَاهُ إِبْرَاهِيمُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَمَا
وَرَدَ ذَلِك عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ أَوَّلٌ؟ قَالَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ. قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى. قُلْتُ كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ أَرْبَعُونَ سَنَةً»
. فَهَذَا الْخَبَرُ قَدْ بَيَّنَ أَنَّ الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى مِنْ بِنَاءِ إِبْرَاهِيمَ لِأَنَّهُ حُدِّدَ بِمُدَّةٍ هِيَ مِنْ مُدَّةِ حَيَاةِ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَقَدْ قُرِنَ ذِكْرُهُ بِذِكْرِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
وَهَذَا مِمَّا أَهْمَلَ أَهْلُ الْكِتَابِ ذِكْرَهُ. وَهُوَ مِمَّا خصّ الله نبيئه بِمَعْرِفَتِهِ. وَالتَّوْرَاةُ تَشْهَدُ لَهُ، فَقَدْ جَاءَ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ فِي الْإِصْحَاحِ الثَّانِي عَشَرَ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا دَخَلَ أَرْضَ كَنْعَانَ (وَهِيَ بِلَادُ فِلَسْطِينَ) نَصَبَ خَيْمَتِهِ فِي الْجَبَلِ شَرْقِيَّ بَيْتِ إِيلَ (بَيْتُ إِيلَ مَدِينَةٌ عَلَى بُعْدِ أَحَدَ عَشَرَ مِيلًا مِنْ أُورْشَلِيمَ إِلَى الشَّمَالِ وَهُوَ بَلَدٌ كَانَ اسْمُهُ عِنْدَ الْفِلَسْطِينِيِّينَ (لَوْزًا) فَسَمَّاهُ يَعْقُوبُ: بَيْتُ إِيلَ، كَمَا فِي الْإِصْحَاحِ الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ) وَغَرْبِيَّ بِلَادِ عَايِ (مَدِينَةٌ عِبْرَانِيَّةٌ تُعْرَفُ الْآنَ «الطَّيِّبَةُ» ) وَبَنَى هُنَالِكَ مَذْبَحَا لِلرَّبِّ.
وَهُمْ يُطْلِقُونَ الْمَذْبَحَ عَلَى الْمَسْجِدِ لِأَنَّهُمْ يَذْبَحُونَ الْقَرَابِينَ فِي مَسَاجِدِهِمْ. قَالَ عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ:
دُمْيَةٌ عِنْدَ رَاهِبٍ قِسِّيسٍ صَوَّرُوهَا فِي مَذْبَحِ الْمِحْرَابِ
أَيْ مَكَانِ الْمَذْبَحِ مِنَ الْمَسْجِدِ، لِأَنَّ الْمِحْرَابَ هُوَ مَحل التَّعَبُّد، قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ [آل عمرَان: ٣٩].
وَلَا شَكَّ أَنَّ مَسْجِدَ إِبْرَاهِيمَ هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي تَوَخَّى دَاوُدُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَنْ يَضَعَ عَلَيْهِ الْخَيْمَةَ وَأَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهِ مِحْرَابَهُ أَوْ أوحى الله إِلَيْهِ بِذَلِكَ، وَهُوَ الَّذِي أَوْصَى ابْنَهُ سُلَيْمَانَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهِ الْمَسْجِدَ، أَيِ الْهَيْكَلَ. وَقَدْ ذكر مؤرخو العبرانيين وَمِنْهُم (يوسيفوس) أَنَّ الْجَبَلَ الَّذِي سَكَنَهُ إِبْرَاهِيمُ
الْبَاطِنِيَّةِ، وَأَنَّهُ يَظْهَرُ لِأَهْلِ الْمَرَاتِبِ الْعُلْيَا مِنَ الْأَوْلِيَاءِ فَيُفِيدُهُمْ مِنْ عِلْمِهِ مَا هُمْ أَهْلٌ لِتَلَقِّيهِ.
وَبَنَوْا عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْإِلْهَامَ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ الْوَحْيِ، وَسَمَّوْهُ الْوَحْيَ الْإِلْهَامِيَّ، وَأَنَّهُ يَجِيءُ عَلَى لِسَانِ مَلَكِ الْإِلْهَامِ، وَقَدْ فَصَّلَهُ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ ابْن الْعَرَبِيِّ فِي الْبَابِ الْخَامِسِ وَالثَمَانِينَ مِنْ كِتَابِهِ «الْفُتُوحَاتِ الْمَكِّيَّةِ»، وَبَيَّنَ الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَحْيِ الْأَنْبِيَاءِ بِفُرُوقٍ وعلامات ذكرهَا منثورة فِي الْأَبْوَابِ الثَّالِثِ وَالسَّبْعِينَ، وَالثَّامِنِ وَالسِتِّينَ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ، وَالرَّابِعِ وَالسِّتِينَ بَعْدَ ثَلَاثِمِائَةٍ، وَجَزَمَ بِأَنَّ هَذَا الْوَحْيَ الْإِلْهَامِيَّ لَا يَكُونُ مُخَالِفًا لِلشَّرِيعَةِ، وَأَطَالَ فِي ذَلِكَ، وَلَا يَخْلُو مَا قَالَهُ مِنْ غُمُوضٍ وَرُمُوزٍ، وَقَدِ انْتَصَبَ عُلَمَاءُ الْكَلَامِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ لِإِبْطَالِ أَنْ يَكُونَ مَا يُسَمَّى بِالْإِلْهَامِ حُجَّةً. وَعَرَّفُوهُ بِأَنَّهُ إِيقَاعُ شَيْءٍ فِي الْقَلْبِ يَثْلَجُ لَهُ الصَّدْرُ، وَأَبْطَلُوا كَوْنَهُ حُجَّةً لِعَدَمِ الثِّقَةِ بِخَوَاطِرِ مَنْ لَيْسَ مَعْصُومًا وَلِتَفَاوُتِ مَرَاتِبِ الْكَشْفِ عِنْدَهُمْ. وَقَدْ تَعَرَّضَ لَهَا النَّسَفِيُّ فِي «عَقَائِدِهِ»، وَكُلُّ مَا قَالَهُ النَّسَفِيُّ فِي ذَلِكَ حَقٌّ، وَلَا يُقَامُ التَّشْرِيعُ عَلَى أُصُولٍ مَوْهُومَةٍ لَا تَنْضَبِطُ.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْخَضِرَ نَبِيءٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنَّهُ كَانَ مُوحًى إِلَيْهِ بِمَا أُوحِيَ، لِقَوْلِهِ وَما
فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي
، وَأَنَّهُ قَدِ انْقَضَى خَبَرُهُ بَعْدَ تِلْكَ الْأَحْوَالِ الَّتِي قُصَّتْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَأَنَّهُ قَدْ لَحِقَهُ الْمَوْتُ الَّذِي يَلْحَقُ الْبَشَرَ فِي أَقْصَى غَايَةٍ مِنَ الْأَجَلِ يُمْكِنُ أَنْ تُفْرَضَ، وَأَنْ يَحْمِلَ مَا يُعْزَى إِلَيْهِ مِنْ بَعْضِ الصُّوفِيَّةِ الْمَوْسُومِينَ بِالصِّدْقِ أَنَّهُ مَحُوكٌ عَلَى نَسْجِ الرَّمْزِ الْمُعْتَادِ لَدَيْهِمْ، أَوْ عَلَى غِشَاوَةِ الْخَيَالِ الَّتِي قَدْ تُخَيِّمُ عَلَيْهِمْ.
فَكُونُوا عَلَى حَذَرٍ مِمَّنْ يَقُولُ: أَخْبرنِي الْخضر.
ثُمَّ انْتَقَلُوا فَقَالُوا هُوَ شاعِرٌ أَيْ كَلَامُهُ شِعْرٌ، فَحَرْفُ (بَلْ) الثَّالِثَةِ إِضْرَابٌ مِنْهُمْ عَنْ كَلَامِهِمْ وَذَلِكَ مُؤْذِنٌ بِاضْطِرَابِهِمْ وَهَذَا الِاضْطِرَاب ناشىء عَنْ تَرَدُّدِهِمْ مِمَّا يَنْتَحِلُونَهُ مِنَ الِاعْتِلَالِ عَنِ الْقُرْآنِ. وَذَلِكَ شَأْنُ الْمُبْطِلِ الْمُبَاهِتِ أَنْ يَتَرَدَّدَ فِي حُجَّتِهِ كَمَا قِيلَ: الْبَاطِلُ لَجْلَجٌ، أَيْ مُلْتَبِسٌ مُتَرَدَّدٌ فِيهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (بَلْ) الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ مِثْلَ (بَلْ) الْأُولَى لِلِانْتِقَالِ فِي حِكَايَةِ أَقْوَالِهِمْ.
وَالتَّقْدِيرُ: بَلْ قَالُوا افْتَرَاهُ بَلْ قَالُوا هُوَ شَاعِرٌ، وَحُذِفَ فِعْلُ الْقَوْلِ لِدَلَالَةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ عَلَيْهِمَا، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَحْكِيُّ كَلَامَ جَمَاعَاتٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ انْتَحَلَتْ كُلُّ جَمَاعَةٍ اعْتِلَالًا.
وَالْأَضْغَاثُ: جَمْعُ ضِغْثٍ بِكَسْرِ الضَّادِ، وَهُوَ الْحِزْمَةُ مِنْ أَعْوَادٍ أَوْ عُشْبٍ أَوْ حَشِيشٍ مُخْتَلِطٍ ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْأَخْلَاطِ مُطْلَقًا كَمَا فِي سُورَةِ يُوسُفَ [٤٤] قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ أَرَادُوا أَنَّ مَا يُخْبِرُكُمْ بِهِ مِنْ أَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ وَمِنْ أَخْبَارِ الْبَعْثِ وَالْحِسَابِ وَيَوْمِ الْقِيَامَةِ هُوَ أَحْلَامٌ يَرَاهَا.
وَفَرَّعُوا عَلَى تَرَدُّدِهِمْ أَوْ فَرَّعَ كُلُّ فَرِيقٍ عَلَى مَقَالَتِهِ نَتِيجَةً وَاحِدَةً وَهِيَ الْمُطَالَبَةُ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِمُعْجِزَةٍ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ غَيْرِ هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ نَوْعِ مَا يُحْكَى عَنِ الرُّسُلِ السَّابِقِينَ أَنَّهُمْ أَتَوْا بِهِ مِثْلَ انْقِلَابِ الْعَصَا حَيَّةً.
وَمِنَ الْبُهْتَانِ أَنْ يَسْأَلُوا الْإِتْيَانَ بِآيَةٍ يَكُونُ الِادِّعَاءُ بِأَنَّهَا سَحْرٌ أَرْوَجَ فِي مِثْلِهَا فَإِنَّ مِنْ أَشْهَرِ أَعْمَالِ السَّحَرَةِ إِظْهَارَ مَا يَبْدُو أَنَّهُ خَارِقٌ عَادَةً. وَقَدِيمًا قَالَ آلُ فِرْعَوْنَ فِي مُعْجِزَاتِ مُوسَى: إِنَّهَا سِحْرٌ، بِخِلَافِ آيَةِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ.
وَدَخَلَتْ لَامُ الْأَمْرِ عَلَى فِعْلِ الْغَائِبِ لِمَعْنَى إِبْلَاغِ الْأَمْرِ إِلَيْهِ، أَيْ فَقُولُوا لَهُ: ائْتِنَا بِآيَةٍ، وَالتَّشْبِيهُ فِي قَوْلِهِ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ من ضمير فَلْيَأْتِنا أَيْ
حَالَةُ كَوْنِ هَذَا الْبَشَرِ حِينَ يَأْتِي بِالْآيَةِ يُشْبِهُ
فَالْأَمَانَةُ تَكُونُ غَالِبًا مِنَ النَّفَائِسِ الَّتِي يَخْشَى صَاحِبُهَا عَلَيْهَا التَّلَفَ فَيَجْعَلُهَا عِنْدَ مَنْ يَظُنُّ فِيهِ حِفْظَهَا، وَفِي الْغَالِبِ يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى انْفِرَادٍ بَيْنَ الْمُؤْتَمِنِ وَالْأَمِينِ، فَهِيَ لِنَفَاسَتِهَا قَدْ تُغْرِي الْأَمِينَ عَلَيْهَا بِأَنْ لَا يَرُدَّهَا وَبِأَنْ يَجْحَدَهَا رَبَّهَا، وَلِكَوْنِ دَفْعِهَا فِي الْغَالِبِ عَرِيًّا عَنِ الْإِشْهَادِ تَبْعَثُ مَحَبَّتُهَا الْأَمِينَ عَلَى التَّمَسُّكِ بِهَا وَعَدَمِ رَدِّهَا، فَلِذَلِكَ جَعَلَ اللَّهُ رَدَّهَا مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ.
وَقَدْ
جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ «حَدَّثَنَا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جِذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ»
وَحَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِهَا قَالَ: «يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الْأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الْوَكْتِ ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ فَيَبْقَى أَثَرُهَا مِثْلَ الْمَجْلِ كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ فَنَفِطَ فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ فَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ فَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ، فَيُقَالُ: إِنَّ فِي بَنِي فُلَانٍ رَجُلًا أَمِينًا، وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ: مَا أَعْقَلَهُ وَمَا أَظْرَفَهُ وَمَا أَجْلَدَهُ وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ»
اهـ.
الْوَكْتُ: سَوَادٌ يَكُونُ فِي قِشْرِ التَّمْرِ. وَالْمَجْلُ: انْتِفَاخٌ فِي الْجِلْدِ الرَّقِيقِ يَكُونُ شِبْهَ قِشْرِ الْعِنَبَةِ يَنْشَأُ مِنْ مَسِّ النَّارِ الْجِلْدَ وَمِنْ كَثْرَةِ الْعَمَلِ بِالْيَدِ وَقَوْلُهُ: «مِثْقَالُ حَبَّةٍ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ» هُوَ مَصْدَرُ آمَنَهُ، أَيْ وَمَا فِي قرارة نَفسه شَيْء مِنْ إِيمَانِ النَّاسِ إِيَّاهُ فَلَا يَأْتَمِنُهُ إِلَّا مَغْرُورٌ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْأَمَانَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٥٨]. وَجَمَعَ الْأَماناتِ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ أَنْوَاعِهَا وَتَعَدُّدِ الْقَائِمِينَ بِالْحِفْظِ تَنْصِيصًا عَلَى الْعُمُومِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لِأَماناتِهِمْ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ لِأَمَانَتِهِمْ بِالْإِفْرَادِ بِاعْتِبَارِ الْمَصْدَرِ مِثْلَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٢].
والذِّكْرِ: هُوَ الْقُرْآنُ، أَيْ نَهَانِي عَنِ التَّدَبُّرِ فِيهِ وَالِاسْتِمَاعِ لَهُ بَعْدَ أَنْ قَارَبْتُ فَهْمَهُ.
وَالْمَجِيءُ فِي قَوْلِهِ: إِذْ جاءَنِي مُسْتَعْمَلٌ فِي إِسْمَاعِهِ الْقُرْآنَ فَكَأَنَّ الْقُرْآنَ جَاءٍ حَلَّ عِنْدَهُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: أَتَانِي نَبَأُ كَذَا، قَالَ النَّابِغَةُ:
أَتَانِي- أَبَيْتَ اللَّعْنَ- أَنَّكَ لُمْتَنِي فَإِذَا حُمِلَ الظَّالِمُ فِي قَوْلِهِ: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ عَلَى مُعَيَّنٍ وَهُوَ عُقْبَةُ بْنُ
أَبِي مُعَيْطٍ فَمَعْنَى مَجِيءِ الذِّكْرِ إِيَّاهُ أَنَّهُ كَانَ يَجْلِسُ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَأْنَسُ إِلَيْهِ حَتَّى صَرَفَهُ عَنْ ذَلِكَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ وَحَمَلَهُ عَلَى عَدَاوَتِهِ وَأَذَاتِهِ، وَإِذَا حُمِلَ الظَّالِمُ عَلَى الْعُمُومِ فَمَجِيءُ الذِّكْرِ هُوَ شُيُوعُ الْقُرْآنِ بَيْنَهُمْ، وَإِمْكَانُ اسْتِمَاعِهِمْ إِيَّاهُ. وَإِضْلَالُ خِلَّانِهِمْ إِيَّاهُمْ صَرْفُ كُلِّ وَاحِدٍ خَلِيلَهُ عَنْ ذَلِكَ، وَتَعَاوُنُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِي ذَلِكَ.
وَقِيلَ: الذِّكْرِ: كَلِمَةُ الشَّهَادَةِ، بِنَاءً عَلَى تَخْصِيصِ الظَّالِمِ بِعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَتَأْتِي فِي ذَلِكَ الْوُجُوهُ الْمُتَقَدِّمَةُ، فَإِنَّ كَلِمَةَ الشَّهَادَةِ لَمَّا كَانَتْ سَبَبَ النَّجَاةِ مُثِّلَتْ بِسَبِيلِ الرَّسُولِ الْهَادِي، وَمُثِّلَ الصَّرْفُ عَنْهَا بِالْإِضْلَالِ عَنِ السَّبِيلِ.
وإِذْ ظَرْفٌ لِلزَّمَنِ الْمَاضِي، أَيْ بَعْدَ وَقْتٍ جَاءَنِي فِيهِ الذِّكْرُ، وَالْإِتْيَانُ بِالظَّرْفِ هُنَا دُونَ أَنْ يُقَالَ: بَعْدَ مَا جَاءَنِي، أَوْ بَعْدَ أَنْ جَاءَنِي، لِلْإِشَارَةِ إِلَى شِدَّةِ التَّمَكُّنِ مِنَ الذِّكْرِ لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَقَرَّ فِي زَمَنٍ وَتَحَقَّقَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ [التَّوْبَة: ١١٥] أَيْ تَمَكَّنَ هَدْيُهُ مِنْهُمْ.
وَجُمْلَةُ وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا تَذْيِيلٌ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لَا مِنْ كَلَامِ الظَّالِمِ تَنْبِيهًا لِلنَّاسِ عَلَى أَنَّ كُلَّ هَذَا الْإِضْلَالِ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَهُوَ الَّذِي يُسَوِّلُ لِخَلِيلِ الظَّالِمِ إِضْلَالَ خَلِيلِهِ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ خَذُولُ الْإِنْسَانِ، أَيْ مَجْبُولٌ عَلَى شِدَّةِ خَذْلِهِ.
وَالْخَذْلُ: تَرْكُ نَصْرِ الْمُسْتَنْجِدِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى نَصْرِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٦٠].
فَإِذَا أَعَانَ عَلَى الْهَزِيمَةِ فَهُوَ أَشَدُّ الْخَذْلِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ صِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي
اقْتَضَتْهُ الِاسْتِجَابَةُ وَكَشْفُ السُّوءِ مِنْ كَثْرَةِ الدَّاعِينَ وَالْمُسْتَائِينَ عُبِّرَ فِي أَفْعَالِ الْجَعْلِ الَّتِي تَعَلَّقَتْ بِهَا بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ الدَّالِّ عَلَى التَّجَدُّدِ بِخِلَافِ أَفْعَالِ الْجَعْلِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا.
ثُمَّ اسْتُؤْنِفَ عَقِبَ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ بِاسْتِفْهَامٍ إِنْكَارِيٍّ تَكْرِيرًا لِمَا تَقَدَّمَ عَقِبَ الْأَدِلَّةِ السَّابِقَةِ زِيَادَةً فِي تَعْدَادِ خَطَئِهِمْ بِقَوْلِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ.
وَانْتَصَبَ قَلِيلًا عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَيْ فَعَلَ ذَلِكَ لَكُمْ وَأَنْتُمْ فِي حَالِ قِلَّةِ تَذَكُّرِكُمْ، فَتُفِيدُ الْحَالُ مَعْنَى التَّعَجُّبِ مِنْ حَالِهِمْ.
وَالتَّذَكُّرُ: مِنَ الذُّكْرِ بِضَمِّ الذَّالِ وَهُوَ ضِدُّ النِّسْيَانِ فَهُوَ اسْتِحْضَارُ الْمَعْلُومِ، أَيْ قَلِيلًا اسْتِحْضَارُكُمُ الِافْتِقَارَ إِلَى اللَّهِ وَمَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنْ إِنْعَامِهِ فَتَهْتَدُوا بِأَنَّهُ الْحَقِيقُ بِأَنْ لَا تُشْرِكُوا مَعَهُ غَيْرَهُ. فَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّذَكُّرِ التَّذَكُّرُ الْمُفِيدُ اسْتِدْلَالًا. وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ وَالْمَصْدَرُ هُوَ فَاعِلُ قَلِيلًا.
وَالْقَلِيلُ هُنَا مُكَنًّى بِهِ عَنِ الْمَعْدُومِ لِأَنَّ التَّذَكُّرَ الْمَقْصُودَ مَعْدُومٌ مِنْهُمْ، وَالْكِنَايَةُ بِالْقَلِيلِ عَنِ الْمَعْدُومِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي كَلَامِهِمْ. وَهَذِهِ الْكِنَايَةُ تَلْمِيحٌ وَتَعْرِيضٌ، أَيْ إِنْ كُنْتُمْ تَذْكُرُونَ فَإِنَّ تَذَكُّرَكُمْ قَلِيلٌ.
وَأَصْلُ تَذَكَّرُونَ تَتَذَكَّرُونَ فأدغمت تَاء التفعل فِي الذَّالِ لِتَقَارُبِ مَخْرَجَيْهِمَا تَخْفِيفًا وَهُوَ إِدْغَامٌ سَمَاعِيٌّ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَذَكَّرُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ. وَقَرَأَهُ رَوْحٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَهُشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ عَلَى الِالْتِفَاتِ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ، فَفِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ نُكْتَةُ تَوْجِيهِ الْخِطَابِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ مُكَافَحَةً لَهُمْ، وَفِي قِرَاءَةِ رَوْحٍ وَهُشَامٍ نُكْتَةُ الْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ لِأَنَّهُمُ اسْتَأْهَلُوا الْإِعْرَاضَ بعد تذكرهم.
[٦٣]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : آيَة ٦٣]
أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٣)
(بَلْ) لِإِضْرَابِ الِانْتِقَالِ مِنْ نَوْعِ دَلَائِلِ التَّصَرُّفِ فِي أَحْوَالِ عَامَّةِ النَّاسِ إِلَى
الْمَزِيَّةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّ كَوْنَ الْقُرْآنِ كِتَابًا مَتْلُوًّا مُسْتَطَاعًا إِدْرَاكُ خَصَائِصِهِ لِكُلِّ عَرَبِيٍّ، وَلِكُلِّ مَنْ حَذَقَ الْعَرَبِيَّةَ مِنْ غَيْرِ الْعَرَبِ مِثْلَ أَيِمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ، يُبْعِدُهُ عَنْ مُشَابَهَةِ نَفَثَاتِ السَّحَرَةِ وَالطَّلَاسِمِ، فَلَا يَسْتَطِيعُ طَاعِنٌ أَنْ يَزْعُمَ أَنَّهُ تَخَيُّلَاتٌ كَمَا قَالَ قَوْمُ فِرْعَوْنَ لِمُوسَى: يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ [الزخرف: ٤٩] وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الْمُشْرِكِينَ حِينَ رَأَوْا مُعْجِزَةَ انْشِقَاقِ الْقَمَرِ:
وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ [الْقَمَر: ٢]، فَأَشَارَ قَوْلُهُ: يُعْرِضُوا إِلَى أَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ صَدَرَ عَنْهُمْ فِي مُعْجِزَةٍ مَرْئِيَّةٍ.
وَعُلِّقَ بِالرَّحْمَةِ وَالذِّكْرَى قَوْلُهُ: لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ تِلْكَ مَنَافِعُ مِنَ الْقُرْآنِ
زَائِدَةٌ عَلَى مَا فِي الْمُعْجِزَاتِ الْأُخْرَى مِنَ الْمَنْفَعَةِ الَّتِي هِيَ مَنْفَعَةُ الْإِيمَانِ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَهَذِهِ مَزَايَا عَظِيمَةٌ لِمُعْجِزَةِ الْقُرْآنِ حَاصِلَةٌ فِي حَضْرَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْبَتِهِ وَمُسْتَقِلَّةٌ عَنِ الْحَاجَةِ إِلَى بَيَانِهِ وَتَكْمِيلِهِ بِالدَّعْوَةِ وَبِتَكْرِيرِهَا.
وَاسْتِحْضَارُ الْمُؤْمِنِينَ بِعُنْوَانِ: (قَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) دُونَ أَنْ يُقَالَ: لِلْمُؤْمِنِينَ، لِمَا فِي لَفْظِ قَوْمٍ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ الْإِيمَانَ مِنْ مُقَوِّمَاتِ قَوْمِيَّتِهِمْ، أَيْ لِقَوْمٍ شِعَارُهُمْ أَنْ يُؤْمِنُوا، يَعْنِي لِقَوْمٍ شِعَارُهُمُ النَّظَرُ وَالْإِنْصَافُ فَإِذَا قَامَتْ لَهُمْ دَلَائِلُ الْإِيمَانِ آمَنُوا وَلَمْ يُكَابِرُوا ظُلْمًا وَعُلُوًّا، فَالْفِعْلُ مُرَادٌ بِهِ الْحَالُ الْقَرِيبَةُ مِنَ الِاسْتِقْبَالِ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالَّذِينَ لَمْ يَكْتَفُوا بِمُعْجِزَتِهِ وَاقْتَرَحُوا آيَاتٍ أُخْرَى لَا نِسْبَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا.
[٥٢]
[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ٥٢]
قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٥٢)
قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.
بَعْدَ أَنْ أَلْقَمَهُمْ حَجَرَ الْحُجَّةِ الدَّامِغَةِ أُمِرَ بِأَنْ يَجْعَلَ اللَّهَ حَكَمًا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ لَمَّا اسْتَمَرَّ تَكْذِيبُهُمْ بَعْدَ الدَّلَائِلِ الْقَاطِعَةِ. وَهَذَا مِنَ الْكَلَامِ الْمُنْصِفِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ اسْتِدْرَاجُ الْمُخَاطَبِ.
وكَفى بِاللَّهِ بِمَعْنَى هُوَ كَافٍ لِي فِي إِظْهَارِ الْحَقِّ، وَالْبَاءُ مَزِيدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ: وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ
تَجْلِيلِهِمْ مَعَهُ بِالْكِسَاءِ تَقْوِيَةُ اسْتِعَارَةِ الْبَيْتِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ تَقْرِيبًا لِصُورَةِ الْبَيْتِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِيَكُونَ الْكِسَاءُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْت وَوُجُود النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُمْ فِي الْكِسَاءِ كَمَا هُوَ فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ تَحْقِيقٌ لِكَوْنِ ذَلِكَ الْكِسَاءُ مَنْسُوبًا إِلَيْهِ، وَبِهَذَا يَتَّضِحُ أَن أَزوَاج النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُنَّ آلُ بَيْتِهِ بِصَرِيحِ الْآيَةِ، وَأَنَّ فَاطِمَةَ وَابْنَيْهَا وَزَوْجَهَا مَجْعُولُونَ أَهْلَ بَيْتِهِ بِدُعَائِهِ أَوْ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ عَلَى مَحَامِلِهَا. وَلِذَلِكَ هُمْ أَهْلُ بَيْتِهِ بِدَلِيلِ السُّنَةِ، وَكُلُّ أُولَئِكَ قَدْ أَذْهَبَ اللَّهُ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهَّرَهُمْ تَطْهِيرًا، بَعْضُهُ بِالْجَعْلِ الْإِلَهِيِّ، وَبَعْضُهُ بِالْجَعْلِ النَّبَوِيّ، وَمثله
قَوْله النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَلْمَانُ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ»
. وَقَدِ اسْتَوْعَبَ ابْنُ كَثِيرٍ رِوَايَاتٍ كَثِيرَةً مِنْ هَذَا الْخَبَرِ مُقْتَضِيَةً أَنَّ أَهْلَ الْبَيْتِ يَشْمَلُ فَاطِمَةَ وَعَلِيًّا وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا. وَلَيْسَ فِيهَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِمْ إِلَّا حَدِيثًا وَاحِدًا نَسَبَهُ ابْنُ كَثِيرٍ إِلَى الطَّبَرِيِّ وَلَمْ يُوجَدْ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أَمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا ذُكِرَ عِنْدَهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَتْ: فِيهِ نَزَلَتْ: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً وَذَكَرَتْ خَبَرَ تَجْلِيلِهِ مَعَ فَاطِمَةَ وَابْنَيْهِ بِكِسَاءٍ (وَذَكَرَ مُصَحِّحُ طَبْعَةِ «تَفْسِيرِ ابْنِ كَثِيرٍ» أَنَّ فِي متن ذَلِك الحَدِيث اخْتِلَافًا فِي جَمِيعِ النُّسَخِ وَلَمْ يُفَصِّلْهُ الْمُصَحِّحُ).
وَقَدْ تَلَقَّفَ الشِّيعَةُ حَدِيثَ الْكِسَاءِ فَغَصَبُوا وَصْفَ أَهْلِ الْبَيْتِ وَقَصَرُوهُ عَلَى فَاطِمَةَ
وَزَوْجِهَا وَابْنَيْهِمَا عَلَيْهِمُ الرِّضْوَانَ، وَزَعَمُوا أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَسْنَ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ.
وَهَذِهِ مُصَادَمَةٌ لِلْقُرْآنِ بِجَعْلِ هَذِهِ الْآيَةِ حَشْوًا بَيْنَ مَا خُوطِبَ بِهِ أَزْوَاجُ النَّبِيءِ. وَلَيْسَ فِي لَفْظِ حَدِيثِ الْكِسَاءِ مَا يَقْتَضِي قَصَرَ هَذَا الْوَصْفِ عَلَى أَهْلِ الْكِسَاءِ إِذْ لَيْسَ
فِي قَوْلِهِ: «هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي»
صِيغَةُ قَصْرٍ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي [الْحجر: ٦٨] لَيْسَ مَعْنَاهُ لَيْسَ لِي ضَيْفٌ غَيْرُهُمْ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ مَبْتُورَةً عَمَّا قَبِلَهَا وَمَا بَعْدَهَا.
وَيَظْهَرُ أَنَّ هَذَا التَّوَهُّمَ مِنْ زَمَنِ عَصْرِ التَّابِعين، وَأَن منشأه قِرَاءَةِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْأَلْسُنِ دُونَ اتِّصَالٍ بَيْنِهَا وَبَيْنَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا. وَيَدُلُّ لِذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْمُفَسِّرُونَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَالَ:
مَنْ شَاءَ بِأَهْلِيَّةٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَزوَاج النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ قَالَ أَيْضًا: لَيْسَ بِالَّذِي تَذْهَبُونَ إِلَيْهِ، إِنَّمَا هُوَ نسَاء النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ كَانَ يَصْرُخُ بِذَلِكَ فِي السُّوقِ. وَحَدِيثُ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ قَبْلَ أَن يَدْعُو النبيء الدَّعْوَةَ لِأَهْلِ الْكِسَاءِ وَأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي بَيْتِ أَمِّ سَلَمَةَ.
وَهَذَا إِدْمَاجٌ لِذَكَرِ آيَةٍ أُخْرَى مِنْ آيَاتِ الِانْفِرَادِ بِالْخَلْقِ، فَخَلْقُ الْحَيَوَانِ بِمَا فِيهِ مِنَ الْقُوَى لِتَنَاسُلِهِ وَحِمَايَةِ نَوْعِهِ وَإِنْتَاجِ مَنَافِعِهِ، هُوَ أَدَقُّ الْخَلْقِ صُنْعًا وَأَعْمَقُهُ حِكْمَةً، وَأَدْخَلُهُ فِي الْمِنَّةِ عَلَى الْإِنْسَانِ، بِأَنْ جُعِلَتْ مَنَافِعُ الْحَيَوَانِ لَهُ كَمَا فِي آيَةِ سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ. فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ خُصَّ مِنْ بَيْنِ الْخَلْقِ الْآخَرِ بِقَرْنِهِ بِالتَّسْبِيحِ لِخَالِقِهِ تَنْوِيهًا بِشَأْنِهِ وَتَفَنُّنًا فِي سَرْدِ أَعْظَمِ الْمَوَالِيدِ الناشئة عَن إِيدَاع قُوَّةِ الْحَيَاةِ لِلْأَرْضِ وَانْبِثَاقِ أَنْوَاعِ الْأَحْيَاءِ وَأَصْنَافِهَا مِنْهَا، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الِابْتِدَاءُ بِذِكْرِ مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ قَبْلَ غَيْرِهِ مِنْ مَبَادِئِ التَّخَلُّقِ لِأَنَّهُ الْأَسْبَقُ فِي تَكْوِينِ مَوَادِّ حَيَاةِ الْحَيَوَانِ فَإِنَّهُ يَتَوَلَّدُ مِنَ النُّطَفِ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ، وَتَتَوَلَّدُ النُّطَفُ مِنْ قُوَى الْأَغْذِيَةِ الْحَاصِلَةِ مِنْ تَنَاوُلِ النَّبَاتِ فَذَلِكَ مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ: مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ أَيْ وَمِمَّا يَتَكَوَّنُ فِيهِمْ مِنْ أَجْزَائِهِمُ الْحَيَوَانِيَّةِ.
وَجِيءَ بِضَمِيرِ جَمَاعَةِ الْعُقَلَاءِ تَغْلِيبًا لِنَوْعِ الْإِنْسَانِ نَظَرًا لِكَوْنِهِ الْمَقْصُودَ بِالْعِبْرَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَلِلتَّخَلُّصِ إِلَى تَخْصِيصِهِ بِالْعِبْرَةِ فِي قَوْلِهِ: وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ.
وَإِشَارَةُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ إِلَى أَسْرَارٍ مُودَعَةٍ فِي خَلْقِ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ وَأَصْنَافِهِ هِيَ الَّتِي مَيَّزَتْ أَنْوَاعَهُ عَنْ بَعْضٍ وَمَيَّزَتْ أَصْنَافَهُ وَذُكُورَهُ عَنْ إِنَاثِهِ، وَأَوْدَعَتْ فِيهِ الرُّوحَ الَّذِي امْتَازَ بِهِ عَنِ النَّبَات بتدبير شؤونه عَلَى حَسَبِ اسْتِعْدَادِ كُلِّ نَوْعٍ وَكُلِّ صِنْفٍ حَتَّى يَبْلُغَ فِي الِارْتِقَاءِ إِلَى أَشْرَفِ الْأَنْوَاعِ وَهُوَ نَوْعُ الْإِنْسَانِ، فَمَعْنَى وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ: مِمَّا لَا يَعْلَمُونَهُ تَفْصِيلًا وَإِنْ كَانُوا قَدْ يَشْعُرُونَ بِهِ إِجْمَالًا، فَإِنَّ الْمُتَأَمِّلَ يَعْلَمُ أَنَّ فِي الْمَخْلُوقَاتِ أَسْرَارًا خَفِيَّةً لَمْ تَصِلْ أَفْهَامُهُمْ إِلَى إِدْرَاكِ كُنْهِهَا، وَمِنْ ذَلِكَ الرُّوحُ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الْإِسْرَاء: ٨٥].
وَقَدْ يَتَفَاضَلُ النَّاسُ فِي إِدْرَاكِ بَعْضِ تِلْكَ الْخَصَائِصِ إِجْمَالًا وَتَفْصِيلًا ثُمَّ يَسْتَوُونَ فِي عَدَمِ الْعِلْمِ بِبَعْضِهَا، وَقَدْ يَمْتَازُ بَعْضُ الطَّوَائِفِ أَوِ الْأَجْيَالِ بِمَعْرِفَةِ شَيْءٍ مِنْ دَقَائِقَ الْخَلْقِ بِسَبَبِ اكْتِشَافٍ أَوْ تجربة أَو تقضي آثَارٍ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُهَا غَيْرُ أُولَئِكَ ثُمَّ يَسْتَوُونَ فِيمَا بَقِيَ
تَحْتَ طَيِّ الْخَفَاءِ مِنْ دَقَائِقِ التَّكْوِينِ، فَبِهَذَا الشُّعُورِ الْإِجْمَالِيِّ بِهَا وَقَعَ عَدُّهَا فِي ضِمْنِ الِاعْتِبَارِ بِآيَةِ خَلْقِ الْأَزْوَاجِ مِنْ جَمِيعِ النَّوَاحِي.
وَإِذَا حُمِلَ الْأَزْواجَ فِي قَوْلِهِ: سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها عَلَى الْمَعْنَى

[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٣٨]

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (٣٨)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ.
اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ [الزمر: ٣٧]، وَجُمْلَةِ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى جُمْلَةِ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ [الزمر: ٣٦] وَهُوَ تَمْهِيدٌ لِمَا يَأْتِي بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، لِأَنَّهُ قَصَدَ بِهِ التَّوْطِئَةَ إِلَيْهِ بِمَا لَا نِزَاعَ فِيهِ لِأَنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِي عَظَائِمِ الْأُمُورِ، أَيْ خَلْقِهِمَا وَمَا تَحْوِيَانِهِ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ.
قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ جَاءَتْ جُمْلَةُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ عَلَى أُسْلُوبِ حِكَايَةِ الْمُقَاوَلَةِ وَالْمُجَاوَبَةِ لِكَلَامِهِمُ الْمَحْكِيِّ بِجُمْلَةِ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ وَلِذَلِكَ لَمْ تُعْطَفِ الثَّانِيَةُ بِالْوَاوِ وَلَا بِالْفَاءِ، وَالْمَعْنَى: لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَقُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِلَخْ. وَالْفَاءُ مِنْ أَفَرَأَيْتُمْ لِتَفْرِيعِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ عَلَى جَوَابِهِمْ تَفْرِيعًا يُفِيدُ مُحَاجَّتَهُمْ عَلَى لَازِمِ اعْتِرَافِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ خَالِقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ [الزمر: ٦٤]. وَهَذَا تَفْرِيعُ الْإِلْزَامِ عَلَى الْإِقْرَارِ، وَالنَّتِيجَةُ عَلَى الدَّلِيلِ فَإِنَّهُمْ لَمَّا أَقَرُّوا بِأَنَّهُ خَالِقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَلْزَمُهُمْ أَنْ يُقِرُّوا بِأَنَّهُ الْمُتَصَرِّفُ فِيمَا تَحْوِيهِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ.
وَالرُّؤْيَةُ قَلْبِيَّةٌ، أَيْ أَفَظَنَنْتُمْ.
وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَفْعُولُ (رَأَيْتُمُ) الْأَوَّلُ وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي مَحْذُوفٌ سَدَّ مَسَدَّهُ جَوَابُ الشَّرْطِ الْمُعْتَرِضُ بَعْدَ الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ عَلَى قَاعِدَةِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ عِنْدَ اجْتِمَاعِ
مُبْتَدَأٍ وَشَرْطٍ أَنْ يَجْرِيَ مَا بَعْدَهُمَا عَلَى مَا يُنَاسِبُ جُمْلَةَ الشَّرْطِ لِأَنَّ الْمَفْعُولَ الْأَوَّلَ لِأَفْعَالِ الْقُلُوبِ فِي مَعْنَى الْمُبْتَدَأِ.

[سُورَة فصلت (٤١) : آيَة ٥٢]

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٢)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ إِلَى قَوْلِهِ:
لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ [فصلت: ٤١، ٤٥]. فَهَذَا انْتِقَالٌ إِلَى الْمُجَادَلَةِ فِي شَأْنِ الْقُرْآنِ رَجَعَ بِهِ إِلَى الْغَرَضِ الْأَصْلِيِّ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَهُوَ بَيَانُ حَقِّيَّةِ الْقُرْآنِ وَصِدْقِهِ وَصِدْقِ مَنْ جَاءَ بِهِ.
وَهَذَا اسْتِدْعَاءٌ لِيُعْمِلُوا النَّظَرَ فِي دَلَائِلِ صِدْقِ الْقُرْآنِ مِثْلَ إِعْجَازِهِ وَانْتِسَاقِهِ وَتَأْيِيدِ بَعْضِهِ بَعْضًا وَكَوْنِهِ مُؤَيِّدًا لِلْكُتُبِ قَبْلَهُ، وَكَوْنِ تِلْكَ الْكُتُبِ مُؤَيِّدَةً لَهُ.
وَالْمَعْنَى: مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ إِنْكَارِ صِدْقِ الْقُرْآنِ لَيْسَ صَادِرًا عَنْ نَظَرٍ وَتَمْحِيصٍ يُحَصِّلُ الْيَقِينَ وَإِنَّمَا جَازَفْتُمْ بِهِ قَبْلَ النَّظَرِ فَلَوْ تَأَمَّلْتُمْ لَاحْتَمَلَ أَنْ يُنْتِجَ لَكُمُ التَّأَمُّلُ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَأَنْ لَا يَكُونَ مِنْ عِنْدِهِ، فَإِذَا فُرِضَ الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ فَقَدْ أَقْحَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ فِي شِقَاقٍ قَوِيٍّ.
وَهَذَا مِنَ الْكَلَامِ الْمُنْصِفِ وَاقْتَصَرَ فِيهِ عَلَى ذِكْرِ الْحَالَةِ الْمُنْطَبِقَةِ عَلَى صِفَاتِهِمْ تَعْرِيضًا بِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الطَّرَفُ الرَّاجِحُ فِي هَذَا الْإِجْمَالِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: كَمَا أَنَّكُمْ قَضَيْتُمْ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مَعْلُومًا بِالضَّرُورَةِ فَكَذَلِكَ كَوْنُهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَتَعَالَوْا فَتَأَمَّلُوا فِي الدَّلَائِلِ، فَهُمْ لَمَّا أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَصَدُّوا أَنْفُسَهُمْ وَعَامَّتَهُمْ عَنْ الِاسْتِمَاعِ إِلَيْهِ وَالتَّدَبُّرِ فِيهِ فَقَدْ أَعْمَلُوا شَهَوَاتِ أَنْفُسِهِمْ وَأَهْمَلُوا الْأَخْذَ بالحيطة لَهُم أَن يَتَدَبَّرُوهُ حَتَّى يَكُونُوا عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ أَمْرِهِمْ فِي شَأْنه، وهم إِذَا تَدَبَّرُوهُ لَا يَلْبَثُونَ أَنْ يَعْلَمُوا صِدْقَهُ، فَاسْتَدْعَاهُمُ اللَّهُ إِلَى النَّظَرِ بِطَرِيقِ تَجْوِيزِ أَنْ يَكُونَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَإِنَّهُ إِذَا جَازَ ذَلِكَ وَكَانُوا قَدْ كَفَرُوا بِهِ دُونَ تَأَمُّلٍ كَانُوا قَدْ قَضَوْا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالضَّلَالِ الشَّدِيدِ، وَإِذَا كَانُوا كَذَلِكَ فَقَدْ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَاتُ الْوَعِيدِ.
وإِنْ الشَّرْطِيَّةُ شَأْنُهَا أَنْ تَدْخُلَ عَلَى الشَّرْطِ الْمَشْكُوكِ فِيهِ، فَالْإِتْيَانُ بِهَا إِرْخَاءٌ لِلْعِنَانِ مَعَهُمْ لِاسْتِنْزَالِ طَائِرِ إِنْكَارِهِمْ حَتَّى يُقْبِلُوا عَلَى التَّأَمُّلِ فِي دَلَائِلِ صِدْقِ الْقُرْآنِ. وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ بِهَذَا الْخِطَابِ وَالتَّشْكِيكِ أَوَّلًا دَهْمَاءَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَمْ
وَجُمْلَةُ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ لِأَنَّ الْإِخْبَارَ بِكَوْنِهِ أَعْلَمَ مِنْهُمْ بِكُنْهِ مَا يُفِيضُونَ فِيهِ يَشْتَمِلُ عَلَى مَعْنَى تَفْوِيضِ الْحُكْمِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا تَهْدِيدٌ لَهُمْ وَتَحْذِيرٌ مِنَ الْخَوْضِ الْبَاطِلِ وَوَعِيدٌ.
وَالشَّهِيدُ: الشَّاهِدُ، أَيِ الْمُخْبِرُ بِالْوَاقِعِ. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْحَاكِمُ بِمَا يَعْلَمُهُ مِنْ حَالِنَا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَكُونُ بَيْنَ خَصْمَيْنِ وَلَا تَكُونُ الشَّهَادَةُ بَيْنَهُمَا بَلْ لِأَحَدِهِمَا قَالَ تَعَالَى: وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النِّسَاء: ٤١].
وَإِجْرَاءُ وَصْفَيِ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ عَلَيْهِ تَعَالَى اقْتَضَاهُ مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِنَ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ، وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِطَلَبِ الْإِقْلَاعِ عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْخَوْض بِالْبَاطِلِ.
[٩]
[سُورَة الْأَحْقَاف (٤٦) : آيَة ٩]
قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٩)
أُعِيدَ الْأَمْرُ بِأَنْ يَقُولَ مَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ لِمَا عَلِمْتَ آنِفًا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الْأَحْقَاف: ٤] الْآيَاتِ. وَهَذَا جَوَابٌ عَمَّا تَضَمَّنَهُ قَوْلهم: افْتَراهُ [الْأَحْقَاف: ٨] مِنْ إِحَالَتِهِمْ صِدْقَهُ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الرِّسَالَةِ عَنِ اللَّهِ إِحَالَةً دَعَتْهُمْ إِلَى نِسْبَة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ. وَإِنَّمَا لَمْ يُعْطَفْ عَلَى جُمْلَةِ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ [الْأَحْقَاف: ٨] لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الِارْتِقَاءُ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ مِنْ رَدٍّ إِلَى أَقْوَى مِنْهُ فَكَانَ هَذَا كَالتَّعَدُّدِ وَالتَّكْرِيرِ، وَسَيَأْتِي بَعْدَهُ قَوْلُهُ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ [الْأَحْقَاف: ١٠]. وَنَظِيرُ ذَلِكَ مَا فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ [٨١- ٨٤] بَلْ قالُوا مِثْلَ مَا قالَ الْأَوَّلُونَ إِلَى قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَقَوْلُهُ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ [الْمُؤْمِنُونَ: ٨٦] وَقَوْلُهُ:
قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ [الْمُؤْمِنُونَ: ٨٨] إِلَخْ.
وَالْبِدْعُ بِكَسْرِ الْبَاءِ وَسِكُونُ الدَّالِ، مَعْنَاهُ الْبَدِيعُ مِثْلُ: الْخِفِّ يَعْنِي الْخَفِيفَ قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
وَالْأَيْدُ: الْقُوَّةُ. وَأَصْلُهُ جَمْعُ يَدٍ، ثُمَّ كَثُرَ إِطْلَاقُهُ حَتَّى صَارَ اسْمًا لِلْقُوَّةِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ فِي سُورَةِ ص [١٧].
وَالْمَعْنَى: بَنَيْنَاهَا بِقُدْرَةٍ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِثْلَهَا.
وَتَقْدِيمُ السَّماءَ عَلَى عَامِلِهِ لِلَاهْتِمَامِ بِهِ، ثُمَّ بِسُلُوكِ طَرِيقَةِ الِاشْتِغَالِ زَادَهُ تَقْوِيَةً لِيَتَعَلَّقَ الْمَفْعُولُ بِفِعْلِهِ مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً بِنَفْسِهِ، وَمَرَّةً بِضَمِيرِهِ، فَإِنَّ الِاشْتِغَالَ فِي قُوَّةِ تَكَرُّرِ الْجُمْلَةِ. وَزِيدَ تَأْكِيدُهُ بِالتَّذْيِيلِ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ. وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ.
وَالْمُوسِعُ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَوْسَعَ، إِذَا كَانَ ذَا وُسْعٍ، أَيْ قُدْرَةٍ. وَتَصَارِيفُهُ جَائِيَّةٌ مِنَ السَّعَةِ، وَهِيَ امْتِدَادُ مِسَاحَةِ الْمَكَانِ ضِدُّ الضِّيقِ، وَاسْتُعِيرَ مَعْنَاهَا لِلْوَفْرَةِ فِي أَشْيَاءَ مِثْلَ الْإِفْرَادِ مِثْلَ عُمُومِهَا فِي وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الْأَعْرَاف: ١٥٦]، وَوَفْرَةُ الْمَالِ مِثْلَ لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ [الطَّلَاق: ٧]، وَقَوْلِهِ: عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ [الْبَقَرَة: ٢٣٦]، وَجَاءَ فِي أَسْمَائِهِ تَعَالَى الْوَاسِعُ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ. وَهُوَ عِنْدَ إِجْرَائِهِ عَلَى الذَّاتِ يُفِيدُ كَمَالَ صِفَاتِهِ الذَّاتِيَّةِ: الْوُجُودِ، وَالْحَيَاةِ، وَالْعِلْمِ، وَالْقُدْرَةِ، وَالْحِكْمَةِ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ [الْبَقَرَة: ١١٥] وَمِنْهُ قَوْلُهُ هُنَا: وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ.
وَأَكَّدَ الْخَبَرَ بِحَرْفِ (إِنَّ) لِتَنْزِيلَ الْمُخَاطَبِينَ مَنْزِلَةَ مَنْ يُنْكِرُ سَعَةَ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، إِذْ أَحَالُوا إِعَادَةَ الْمَخْلُوقَاتِ بعد بلاها.
[٤٨]
[سُورَة الذاريات (٥١) : آيَة ٤٨]
وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (٤٨)
الْقَوْلُ فِي تَقْدِيمِ الْأَرْضَ عَلَى عَامِلِهِ، وَفِي مَجِيءِ طَرِيقَةِ الِاشْتِغَالِ كَالْقَوْلِ فِي وَالسَّماءَ بَنَيْناها [الذاريات: ٤٧]. وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِذَلِكَ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ.
مِنْ دَقَائِقِ فَخْرِ الدِّينِ: أَنَّ ذِكْرَ الْأُمَمِ الْأَرْبَعِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ اللَّهَ عَذَّبَهُمْ بِمَا هُوَ مِنْ أَسْبَابِ وُجُودِهِمْ، وَهُوَ التُّرَابُ وَالْمَاءُ وَالْهَوَاءُ وَالنَّارُ، وَهِيَ عَنَاصِرُ الْوُجُودِ، فَأَهْلَكَ قَوْمَ لُوطٍ بِالْحِجَارَةِ وَهِيَ مِنْ طِينٍ، وَأَهْلَكَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ بِالْمَاءِ، وَأَهْلَكَ عَادًا بِالرِّيحِ وَهُوَ هَوَاءٌ، وَأَهْلَكَ ثَمُودًا بِالنَّارِ.
انْقَطَعَ ذَلِكَ بِالْإِسْلَامِ. وَلِذَلِكَ عَلَّقَ بِفِعْلِ يَعُودُونَ مَا يَدُلُّ عَلَى قَوْلِهِمْ لَفْظَ الظِّهَارِ.
وَالْعَوْدُ: الرُّجُوعُ إِلَى شَيْءٍ تَرَكَهُ وَفَارَقَهُ صَاحِبُهُ. وَأَصْلُهُ: الرُّجُوعُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي
غَادَرَهُ، وَهُوَ هُنَا عَوْدٌ مَجَازِيٌّ.
وَمَعْنَى يَعُودُونَ لِما قالُوا يَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ يَعُودُونَ لِمَا نَطَقُوا بِهِ مِنَ الظِّهَارِ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْمُظَاهِرَ لَا يَكُونُ مُظَاهِرًا إِلَّا إِذَا صَدَرَ مِنْهُ لَفْظُ الظِّهَارِ مَرَّةً ثَانِيَةً بَعْدَ أُولَى.
وَبِهَذَا فَسَّرَ الْفَرَّاءُ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: بِحَيْثُ يَكُونُ مَا يَصْدُرُ مِنْهُ مَرَّةً أُولَى مَعْفُوًّا عَنْهُ. غَيْرَ أَنَّ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ فِي قَضِيَّةِ الْمُجَادِلَةِ يَدْفَعُ هَذَا الظَّاهِر لِأَن
النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ: «أَعْتِقْ رَقَبَةً»
كَمَا سَيَأْتِي مِنْ حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ فَتَعَيَّنَ أَنَّ التَّكْفِيرَ وَاجِبٌ عَلَى الْمُظَاهِرِ مِنْ أول مرّة ينْطَلق فِيهَا بِلَفْظِ الظِّهَارِ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ الْعَوْدَ إِلَى أَزْوَاجِهِمْ، أَيْ لَا يُحِبُّونَ الْفِرَاقَ وَيَرُومُونَ الْعَوْدَ إِلَى الْمُعَاشَرَةِ. وَهَذَا تَأْوِيلٌ اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ عَدَا دَاوُدَ الظَّاهِرِيَّ وَبُكَيْرَ بْنَ الْأَشَجِّ وَأَبَا الْعَالِيَةَ. وَفِي «الْمُوَطَّأِ» قَالَ مَالِكٌ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا قَالَ سَمِعْتُ: أَنَّ تَفْسِيرَ ذَلِكَ أَنْ يُظَاهِرَ الرَّجُلُ مِنِ امْرَأَتِهِ ثُمَّ يُجْمِعُ عَلَى إِصَابَتِهَا وَإِمْسَاكِهَا فَإِنْ أَجْمَعَ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَإِنْ طَلَّقَهَا وَلَمْ يُجْمِعْ بَعْدَ تَظَاهُرِهِ مِنْهَا عَلَى إِمْسَاكِهَا فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ.
وَأَقْوَالُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَاللَّيْثِ تَحُومُ حَوْلَ هَذَا الْمَعْنَى عَلَى اخْتِلَافٍ فِي التَّعْبِيرِ لَا نُطِيلُ بِهِ.
وَعَلَيْهِ فَقَدِ اسْتُعْمِلَ فِعْلُ يَعُودُونَ فِي إِرَادَةِ الْعَوْدَةِ كَمَا اسْتُعْمِلَ فِعْلٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى إِرَادَةِ الْعَوْدِ وَالْعَزْمِ عَلَيْهِ لَا عَلَى الْعَوْدِ بِالْفِعْلِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَوْدًا بِالْفِعْلِ لَمْ يكن لاشْتِرَاط التفكير قَبْلَ الْمَسِيسِ مَعْنًى، فَانْتَظَمَ مِنْ هَذَا مَعْنَى: ثُمَّ يُرِيدُونَ الْعَوْدَ إِلَى مَا حَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَعَلَيْهِمْ كَفَّارَةٌ قَبْلَ أَنْ يَعُودُوا إِلَيْهِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [الْمَائِدَة: ٦] أَيْ إِذَا أَرَدْتُمُ الْقِيَامَ، وَقَوْلِهِ: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ [النَّحْل: ٩٨]،
وَقَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ»
وَأَمَّا الْغَفُورُ فَهُوَ الَّذِي يُكْرِمُ أَوْلِيَاءَهُ وَيَصْفَحُ عَنْ فَلَتَاتِهِمْ فَهُوَ مُنَاسِبٌ لِلْجَزَاءِ عَلَى الطَّاعَاتِ وَكِنَايَةٌ عَنْهُ، قَالَ تَعَالَى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى [طه: ٨٢] فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى حَظِّ أَهْلِ الصَّلَاحِ من المخاطبين.
[٣- ٤]
[سُورَة الْملك (٦٧) : الْآيَات ٣ إِلَى ٤]
الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً مَا تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (٣) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (٤)
صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِلَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ، أُعْقِبَ التَّذْكِيرُ بِتَصَرُّفِ اللَّهِ بِخَلْقِ الْإِنْسَانِ وَأَهَمِّ أَعْرَاضِهِ بِذِكْرِ خَلْقِ أَعْظَمِ الْمَوْجُودَاتِ غَيْرِ الْإِنْسَانِ وَهِيَ السَّمَاوَاتُ، وَمُفِيدَةٌ وَصْفًا مِنْ عَظِيمِ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ الْإِلَهِيَّةِ، وَلِذَلِكَ أُعِيدَ فِيهَا اسْمُ الْمَوْصُولِ لِتَكُونَ الْجُمَلُ الثَّلَاثُ جَارِيَةً عَلَى طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَالسَّمَاوَاتُ تَكَرَّرَ ذِكْرُهَا فِي الْقُرْآنِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْكَوَاكِبُ الَّتِي هِيَ مَجْمُوعُ النِّظَامِ الشَّمْسِيِّ مَا عَدَا الْأَرْضَ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي [سُورَةِ الْبَقَرَةِ: ٢٩] فَإِنَّهَا هِيَ الْمُشَاهَدَةُ بِأَعْيُنِ الْمُخَاطَبِينَ، فَالِاسْتِدْلَالُ بِهَا اسْتِدْلَالٌ بِالْمَحْسُوسِ.
وَالطِّبَاقُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرَ طَابَقَ وُصِفَتْ بِهِ السَّمَاوَاتُ لِلْمُبَالَغَةِ، أَيْ شَدِيدَةُ الْمُطَابَقَةِ، أَيْ مُنَاسِبَةٌ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ فِي النِّظَامِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ طِباقاً جَمْعَ طَبَقٍ، وَالطَّبَقُ الْمُسَاوِي فِي حَالَةٍ مَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ فِي الْمَثَلِ: «وَافَقَ شَنٌّ طَبَقَهُ».
وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا مُرْتَفِعٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ فِي الْفَضَاءِ السَّحِيقِ، أَوِ الْمَعْنَى: أَنَّهَا مُتَمَاثِلَةٌ فِي بَعْضِ الصِّفَاتِ مِثْلُ التَّكْوِيرِ وَالتَّحَرُّكِ الْمُنْتَظِمِ فِي أَنْفُسِهَا وَفِي تَحَرُّكِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَحَرُّكِ بَقِيَّتِهَا بِحَيْثُ لَا تَرْتَطِمُ وَلَا يَتَدَاخَلُ سَيْرُهَا.
وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ: طِباقاً مَا يَقْتَضِي أَنَّ بَعْضَهَا مَظْرُوفٌ لِبَعْضٍ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ مُفَادِ مَادَّةِ الطِّبَاقِ (فَلَا تَكُنْ طَبَاقَاءَ).
وَعَبَّرَ هُنَا بِفِعْلِ الْخَلْقِ دُونَ الْجَعْلِ لِأَنَّهُ تَكْوِينُ ذَوَاتِهِمْ فَهُوَ أَدَقُّ مِنَ الْجَعْلِ.
وَضَمِيرِ الْخِطَابِ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ وُجِّهَ إِلَيْهِمُ التَّقْرِيرُ بِقَوْلِهِ: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً [النبأ: ٦]، وَهُوَ الْتِفَاتٌ مِنْ طَرِيقِ الْغَيْبَةِ إِلَى طَرِيقِ الْخِطَابِ.
وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ فِعْلًا مُضَارِعًا فَدُخُولُ (لَمْ) عَلَيْهِ صَيَّرَهُ فِي مَعْنَى الْمَاضِي لِمَا هُوَ مُقَرَّرٌ مِنْ أَنَّ (لَمْ) تَقْلِبُ مَعْنَى الْمُضَارِعِ إِلَى الْمُضِيِّ فَلِذَلِكَ حَسُنَ عَطْفُ خَلَقْناكُمْ عَلَى أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً وَالْجِبالَ أَوْتاداً [النبأ: ٦، ٧] وَالْكُلُّ تَقْرِيرٌ عَلَى شَيْءٍ مَضَى.
وَإِنَّمَا عُدِلَ عَنْ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ فِعْلًا مُضَارِعًا مِثْلَ الْمَعْطُوفِ هُوَ عَلَيْهِ لِأَنَّ صِيغَةَ الْمُضَارِعِ تُسْتَعْمَلُ لِقَصْدِ اسْتِحْضَارِ الصُّورَةِ لِلْفِعْلِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَتُثِيرُ سَحاباً [الرّوم: ٤٨]، فَالْإِتْيَانُ بِالْمُضَارِعِ فِي أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً [النبأ: ٦] يُفِيدُ اسْتِدْعَاءَ إِعْمَالِ النَّظَرِ فِي خَلْقِ الْأَرْضِ وَالْجِبَالِ إِذْ هِيَ مَرْئِيَّاتٌ لَهُمْ. وَالْأَكْثَرُ أَنْ يَغْفُلَ النَّاظِرُونَ عَنِ التَّأَمُّلِ فِي دَقَائِقِهَا لِتَعَوُّدِهِمْ بِمُشَاهَدَتِهَا مِنْ قَبْلِ سِنِّ التَّفَكُّرِ، فَإِنَّ الْأَرْضَ تَحْتَ أَقْدَامِهِمْ لَا يَكَادُونَ يَنْظُرُونَ فِيهَا بَلْهَ أَنْ يَتَفَكَّرُوا فِي صُنْعِهَا، وَالْجِبَالَ يَشْغَلُهُمْ عَنِ التَّفَكُّرِ فِي صُنْعِهَا شُغْلُهُمْ بِتَجَشُّمِ صُعُودِهَا وَالسَّيْرِ فِي وَعْرِهَا وَحِرَاسَةِ سَوَائِمِهِمْ مِنْ أَنْ تَضِلَّ شِعَابَهَا وَصَرْفِ النَّظَرِ إِلَى مَسَالِكِ الْعَدُوِّ عِنْدَ الِاعْتِلَاءِ إِلَى مَرَاقِبِهَا، فَأُوثِرَ الْفِعْلُ الْمُضَارِعُ مَعَ ذِكْرِ الْمَصْنُوعَاتِ الْحَرِيَّةِ بِدِقَّةِ التَّأَمُّلِ وَاسْتِخْلَاصِ الِاسْتِدْلَالِ لِيَكُونَ إِقْرَارُهُمْ مِمَّا قَرَّرُوا بِهِ عَلَى بَصِيرَةٍ فَلَا يَجِدُوا إِلَى الْإِنْكَارِ سَبِيلًا.
وَجِيءَ بِفِعْلِ الْمُضِيِّ فِي قَوْلِهِ: خَلَقْناكُمْ أَزْواجاً وَمَا بَعْدَهُ لِأَنَّ مَفَاعِيلَ فِعْلِ (خَلَقْنَا) وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ لَيْسَتْ مُشَاهَدَةً لَهُمْ.
وَذُكِرَ لَهُمْ مِنَ الْمَصْنُوعَاتِ مَا هُوَ شَدِيدُ الِاتِّصَالِ بِالنَّاسِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَتَوَارَدُ أَحْوَالُهَا عَلَى مُدْرِكَاتِهِمْ دَوَامًا، فَإِقْرَارُهُمْ بِهَا أَيْسَرُ لِأَنَّ دِلَالَتَهَا قَرِيبَةٌ مِنَ الْبَدِيهِيِّ.
وَقَدْ أَعْقَبَ الِاسْتِدْلَالَ بِخَلْقِ الْأَرْضِ وَجِبَالِهَا بِالِاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِ النَّاسِ لِلْجَمْعِ بَيْنَ إِثْبَاتِ التَّفَرُّدِ بِالْخَلْقِ وَبَيْنَ الدِّلَالَةِ عَلَى إِمْكَانِ إِعَادَتِهِمْ، وَالدَّلِيلُ فِي خَلْقِ النَّاسِ عَلَى الْإِبْدَاعِ الْعَظِيمِ الَّذِي الْخَلْقُ الثَّانِي مِنْ نَوْعِهِ أَمْكَنُ فِي نُفُوسِ الْمُسْتَدَلِّ عَلَيْهِمْ قَالَ تَعَالَى:
وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات: ٢١]. وَلِلْمُنَاسَبَةِ الَّتِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا فِي تَوْجِيهِ


الصفحة التالية
Icon