لِلَّهِ تَعَالَى لَا جرم أَنه منشىء ثَنَاء عَلَيْهِ بِذَلِكَ، وَكَوْنُ الْمَعْنَى الِالْتِزَامِيِّ فِي الْكِنَايَةِ هُوَ الْمَقْصُودُ دُونَ الْمَعْنَى الْمُطَابَقِيِّ أَظْهَرَ مِنْهُ فِي اعْتِبَارِ الْخَبَرِيَّةِ الْمَحْضَةِ لِمَا عُهِدَ فِي الْكِنَايَةِ مِنْ أَنَّهَا لَفْظٌ أُرِيدَ بِهِ لَازِمُ مَعْنَاهُ مَعَ جَوَازِ إِرَادَةِ الْأَصْلِ مَعَهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى الْأَصْلِيَّ إِمَّا غَيْرُ مُرَادٍ أَوْ مُرَادٌ تَبَعًا لِأَنَّ مَعَ تَدْخُلُ عَلَى الْمَتْبُوعِ.
الْمَذْهَبُ الثَّانِي أَنَّ جُمْلَةَ الْحَمْدُ لِلَّهِ إِنْشَاءٌ مَحْضٌ لَا إِشْعَارَ لَهُ بِالْخَبَرِيَّةِ، عَلَى أَنَّهَا مِنَ الصِّيَغِ الَّتِي نَقَلَتْهَا الْعَرَبُ مِنَ الْإِخْبَارِ إِلَى إِنْشَاءِ الثَّنَاءِ كَمَا نَقَلَتْ صِيَغَ الْعُقُودِ وَأَفْعَالَ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ أَيْ نَقْلًا مَعَ عَدَمِ إِمَاتَةِ الْمَعْنَى الْخَبَرِيِّ فِي الِاسْتِعْمَالِ، فَإِنَّكَ قَدْ تَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ جَوَابًا لِمَنْ قَالَ لِمَنِ الْحَمْدُ أَوْ مَنْ أَحْمَدُ وَلَكِنَّ تَعَهُّدَ الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ ضَعِيفٌ فَيَحْتَاجُ إِلَى الْقَرِينَةِ. وَالْحَقُّ الَّذِي لَا مَحِيدَ عَنْهُ أَنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْشَاءِ فَالْقَصْدُ هُوَ
الْإِنْشَائِيَّةُ لَا مَحَالَةَ، وَعُدِّلَ إِلَى الْخَبَرِيَّةِ لِتَحْمِلَ جُمْلَةُ الْحَمْدِ مِنَ الْخُصُوصِيَّاتِ مَا يُنَاسِبُ جَلَالَةَ الْمَحْمُودِ بِهَا مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ وَالِاسْتِغْرَاقِ وَالِاخْتِصَاصِ وَالِاهْتِمَامِ، وَشَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ حُصُولُهُ بِصِيغَةِ إِنْشَاءٍ نَحْوَ حَمْدًا لِلَّهِ أَو أَحْمد لله حَمْدًا وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ الْعَرَبِ إِيَّاهَا إِنْشَاءً لَا خَبَرًا قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ:
وَلَمَّا جَرَتْ فِي الْجَزْلِ جَرْيًا كَأَنَّهُ | سَنَا الْفَجْرِ أَحْدَثْنَا لِخَالِقِهَا شُكْرَا (١) |
وَاللَّهُ هُوَ اسْمُ الذَّاتِ الْوَاجِبُ الْوُجُودِ الْمُسْتَحِقُّ لِجَمِيعِ الْمَحَامِدِ. وَأَصْلُ هَذَا الِاسْمِ الْإِلَهُ بِالتَّعْرِيفِ وَهُوَ تَعْرِيف إلاه الَّذِي هُوَ اسْمُ جِنْسٍ لِلْمَعْبُودِ مُشْتَقٌّ مِنْ أَلَهَ بِفَتْحِ اللَّامِ بِمَعْنَى عَبَدَ، أَوْ مِنْ أَلِهَ بِكَسْرِ اللَّامِ بِمَعْنَى تَحَيَّرَ أَوْ سَكَنَ أَوْ فَزِعَ أَوْ وُلِعَ مِمَّا يَرْجِعُ إِلَى مَعْنًى هُوَ مَلْزُومٌ لِلْخُضُوعِ وَالتَّعْظِيمِ فَهُوَ فِعَالٌ بِكَسْرِ الْفَاءِ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِثْلَ كِتَابٍ، أَطْلَقَهُ الْعَرَبُ عَلَى كُلِّ مَعْبُودٍ مِنْ أَصْنَامِهِمْ لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَهَا حَقِيقَةً بِالْعِبَادَةِ وَلِذَلِكَ جَمَعُوهُ عَلَى آلِهَةٍ بِوَزْنِ أَفْعِلَةٍ مَعَ تَخْفِيفِ الْهَمْزَةِ الثَّانِيَةِ مَدَّةً، وَأَحْسَبُ أَنَّ اسْمَهُ تَعَالَى تَقَرَّرَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ قَبْلَ دُخُولُُِ
_________
(١) هُوَ من قصيدة لَهُ ذكر فِيهَا صِفَات النَّار بطريقة لغزية. وَقَبله:
فَلَمَّا بَدَت كفنتها وَهِي طفلة | بطلساء لم تكمل ذِرَاعا وَلَا شبْرًا |
وَقلت لَهُ ارفعها إِلَيْك فأحيها | بروحك واقتته لَهَا قيتة قدرا |
وَظَاهر لَهَا من يَابِس الشخت واستعن | عَلَيْهَا الصَّفَا وَاجعَل يَديك لَهَا سترا |
وَمَشْهَدٌ قَدْ كَفَيْتُ النَّاطِقِينَ بِهِ | فِي مَحْفَلٍ مِنْ نَوَاصِي الْخَيْلِ مَشْهُودِ |
وَجُمْلَةُ وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَبَيْنَ جملَة يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ [هود: ١٠٥] إِلَخْ. وَالْمَقْصُودُ الرَّدُّ عَلَى الْمُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ مُسْتَدِلِّينَ بِتَأْخِيرِ وُقُوعِهِ فِي حِينِ تَكْذِيبِهِمْ بِهِ يَحْسَبُونَ أَنَّ تَكْذِيبَهُمْ بِهِ يَغِيظُ اللَّهَ تعَالَى فَيُعَجِّلُهُ لَهُمْ جَهْلًا مِنْهُمْ بِمَقَامِ الْإِلَهِيَّةِ، فَبَيَّنَ اللَّهُ لَهُمْ أَنَّ تَأْخِيرَهُ إِلَى أَجَلٍ حَدَّدَهُ اللَّهُ لَهُ مِنْ يَوْمِ خَلْقِ الْعَالَمِ كَمَا حَدَّدَ آجَالَ الْأَحْيَاءِ، فَيَكُونُ هَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ [سبأ: ٢٩، ٣٠].
وَالْأَجَلُ: أَصْلُهُ الْمُدَّةُ الْمُنْظَرُ إِلَيْهَا فِي أَمْرٍ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى نِهَايَةِ تِلْكَ الْمُدَّةِ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا بِقَرِينَةِ اللَّامِ، كَمَا أُرِيدَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ [الْأَعْرَاف: ٣٤].
وَالْمَعْدُودُ: أَصْلُهُ الْمَحْسُوبُ، وَأُطْلِقَ هُنَا كِنَايَةً عَنِ الْمُعَيَّنِ الْمَضْبُوطِ بِحَيْثُ لَا يَتَأَخَّرُ وَلَا يَتَقَدَّمُ لِأَنَّ الْمَعْدُودَ يَلْزَمُهُ التَّعَيُّنُ، أَوْ كِنَايَةً عَن الْقرب.
عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- بِبَيَانِ أَنَّ الرَّسُولَ لَا يَأْتِي بِآيَاتٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ عَلَى مُقْتَرَحَاتِ الْأَقْوَامِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، فَالْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا [الرَّعْد: ٣٧].
وَأُدْمِجَ فِي هَذَا الرَّدِّ إِزَالَةُ شُبْهَةٍ قَدْ تَعْرِضُ أَوْ قَدْ عَرَضَتْ لِبَعْضِ الْمُشْرِكِينَ فَيَطْعَنُونَ أَوْ طعنوا فِي نبوءة مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ يَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَأَنَّ شَأْنَ النَّبِيءِ أَنْ لَا يَهْتَمَّ بِالنِّسَاءِ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: رُوِيَ أَنَّ الْيَهُودَ وَقِيلَ إِنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ لَيْسَتْ لَهُ هِمَّةٌ إِلَّا فِي النِّسَاءِ اه. فَتَعَيَّنَ إِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ فِي سَبَبِ النُّزُولِ أَنَّ الْقَائِلِينَ هُمُ الْمُشْرِكُونَ إِذْ هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ وَلَمْ يَكُنْ لِلْيَهُودِ حَدِيثٌ مَعَ أَهْلِ مَكَّةَ وَلَا كَانَ مِنْهُمْ فِي مَكَّةَ أَحَدٌ. وَلَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ هَذَا نَازِلًا عَلَى سَبَبٍ. وَقَدْ تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَدِيجَةَ ثُمَّ سَوْدَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- فِي مَكَّةَ فَاحْتَمَلَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا قَالَةَ إِنْكَارٍ تَعَلُّقًا بِأَوْهَنِ أَسْبَابِ الطَّعْنِ فِي النُّبُوءَةِ. وَهَذِهِ شُبْهَةٌ تَعْرِضُ لِلسُّذَّجِ أَوْ لِأَصْحَابِ التَّمْوِيهِ، وَقَدْ يُمَوِّهُ بِهَا الْمُبَشِّرُونَ مِنَ النَّصَارَى عَلَى ضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ فَيُفَضِّلُونَ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ عِيسَى لَمْ يَتَزَوَّجِ النِّسَاءَ. وَهَذَا لَا يَرُوجُ عَلَى الْعُقَلَاءِ لِأَنَّ تِلْكَ بَعْضُ الْحُظُوظِ الْمُبَاحَةِ لَا تَقْتَضِي تَفْضِيلًا. وَإِنَّمَا التَّفَاضُلُ فِي كُلِّ عَمَلٍ بِمَقَادِيرِ الْكِمَالَاتِ الدَّاخِلَةِ فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ. وَلَا يَدْرِي أَحَدٌ الْحِكْمَةَ الَّتِي لِأَجْلِهَا لَمْ يَتَزَوَّجْ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- امْرَأَةً. وَقَدْ كَانَ يَحْيَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- حَصُورًا فَلَعَلَّ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَدْ كَانَ مِثْلَهُ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُكَلِّفُهُ بِمَا يَشُقُّ عَلَيْهِ وَبِمَا لَمْ يُكَلِّفْ بِهِ غَيْرَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ. وَأَمَّا وَصْفُ اللَّهِ يَحْيَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِقَوْلِهِ: وَحَصُوراً فَلَيْسَ مَقْصُودًا مِنْهُ أَنَّهُ فَضِيلَةٌ وَلَكِنَّهُ أَعْلَمَ أَبَاهُ زَكَرِيَّاءَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ لَهُ نَسْلٌ لِيَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ أَجَابَ دَعْوَتَهُ فَوَهَبَ لَهُ يَحْيَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَرَامَةً لَهُ، ثُمَّ قَدَّرَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ لَهُ نَسْلٌ إِنْفَاذًا لِتَقْدِيرِهِ فَجَعَلَ امْرَأَتَهُ عَاقِرًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ. وَقَدْ
وَقَوْلُهُ بِالْبَيِّناتِ مُتَعَلِّقٌ بِمُسْتَقَرِّ صِفَةٍ أَوْ حَالًا مِنْ رِجالًا. وَفِي تَعَلُّقِهِ وُجُوهٌ أُخَرُ ذَكَرَهَا فِي «الْكَشَّافِ»، وَالْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ، أَيْ مَصْحُوبِينَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ، فَالْبَيِّنَاتُ دَلَائِلُ الصِّدْقِ مِنْ مُعْجِزَاتٍ أَوْ أَدِلَّةٍ عَقْلِيَّةٍ. وَقَدِ اجْتَمَعَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ وَافْتَرَقَ بَيْنَ الرُّسُلِ الْأَوَّلِينَ كَمَا تَفَرَّقَ مِنْهُ كَثِيرٌ لِرَسُولِنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والزُّبُرِ: جَمْعُ زَبُورٍ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الزَّبْرِ أَيِ الْكِتَابَةِ، فَفَعُولُ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ.
والزُّبُرِ الْكُتُبُ الَّتِي كُتِبَ فِيهَا مَا أُوحِيَ إِلَى الرُّسُلِ مِثْلُ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَالتَّوْرَاةِ وَمَا كَتَبَهُ الْحَوَارِيُّونَ مِنَ الْوَحْيِ إِلَى عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَإِنْ لَمْ يَكْتُبْهُ عِيسَى.
وَلَعَلَّ عطف الزُّبُرِ عَلَى بِالْبَيِّناتِ عَطْفُ تَقْسِيمٍ بِقَصْدِ التَّوْزِيعِ، أَيْ بَعْضُهُمْ مَصْحُوبٌ بِالْبَيِّنَاتِ وَبَعْضُهُمْ بِالْأَمْرَيْنِ لِأَنَّهُ قد تَجِيء رُسُلٌ بِدُونِ كُتُبٍ، مِثْلُ حَنْظَلَةَ بْنِ صَفْوَانَ رَسُولِ أَهْلِ الرَّسِّ وَخَالِدِ بْنِ سِنَانٍ رَسُولِ عَبْسٍ. وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ لِنُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- كِتَابًا.
وَقَدْ تُجْعَلُ الزُّبُرِ خَاصَّةً بِالْكُتُبِ الْوَجِيزَةِ الَّتِي لَيْسَتْ فِيهَا شَرِيعَةٌ وَاسِعَةٌ مِثْلُ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَزَبُورِ دَاوُدَ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- وَالْإِنْجِيلُ كَمَا فَسَّرُوهَا بِهِ فِي سُورَةِ فَاطِرٍ.
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ لَمَّا اتَّضَحَتِ الْحُجَّةُ بِشَوَاهِدِ التَّارِيخِ الَّذِي لَا يُنْكَرُ ذُكِرَتِ النَّتِيجَةُ الْمَقْصُودَةُ، وَهُوَ أَنَّ مَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا هُوَ ذِكْرٌ وَلَيْسَ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ.
وَالْخَسْفُ: انْقِلَابُ ظَاهِرِ الْأَرْضِ فِي بَاطِنِهَا مِنَ الزِّلْزَالِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [٤٥].
وَفِي هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ السَّلَامَةَ فِي الْبَرِّ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ تَنْسَوْنَهَا فَلَوْ حَدَثَ لَكُمْ خَسْفٌ لَهَلَكْتُمْ هَلَاكًا لَا نَجَاةَ لَكُمْ مِنْهُ بِخِلَافِ هَوْلِ الْبَحْرِ. وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتِ السَّلَامَةُ فِي الْبَرِّ غَيْرُ مُدْرَكٍ قَدْرُهَا قَلَّ أَنْ تَشْعُرَ النُّفُوسُ بِنِعْمَتِهَا وَتَشْعُرَ بِخَطَرِ هَوْلِ الْبَحْرِ فَيَنْبَغِي التَّدَرُّبُ عَلَى تَذَكُّرِ نِعْمَةِ السَّلَامَةِ مِنَ الضُّرِّ ثُمَّ إِنَّ مَحَلَّ السَّلَامَةِ مُعَرَّضٌ إِلَى الْأَخْطَارِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ بِقَوْلِهِ: أَفَأَمِنْتُمْ إِنْكَارِي وَتَوْبِيخِي.
وَالْجَانِبُ: هُوَ الشِّقُّ. وَجَعْلُ الْبَرِّ جَانِبًا لِإِرَادَةِ الشِّقِّ الَّذِي يُنْجِيهِمْ إِلَيْهِ، وَهُوَ الشَّاطِئُ الَّذِي يَرْسُونَ عَلَيْهِ، إِشَارَةً إِلَى إِمْكَانِ حُصُولِ الْخَوْفِ لَهُمْ بِمُجَرَّدِ حُلُولِهِمْ بِالْبَرِّ بِحَيْثُ يَخْسِفُ بِهِمْ ذَلِكَ الشَّاطِئَ، أَيْ أَنَّ الْبَرَّ وَالْبَحْرَ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى سِيَّانِ، فَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَسْتَوِيَ خَوْفُهُ مِنَ اللَّهِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ. وَإِضَافَةُ الْجَانِبِ إِلَى الْبِرِّ إِضَافَةٌ بَيَانِيَّةٌ.
وَالْبَاءُ فِي يَخْسِفَ بِكُمْ لِتَعْدِيَةِ يَخْسِفَ بِمَعْنَى الْمُصَاحَبَةِ.
وَالْحَاصِبُ: الرَّامِي بِالْحَصْبَاءِ، وَهِيَ الْحِجَارَةُ. يُقَالُ: حَصَبَهُ، وَهُوَ هُنَا صِفَةٌ، أَيْ يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ عَارِضًا حَاصِبًا، تَشْبِيهًا لَهُ بِالَّذِي يَرْمِي الْحَصْبَاءَ، أَيْ مَطَرَ حِجَارَةٍ، أَيْ بَرَدٌ يُشْبِهُ الْحِجَارَةَ، وَقِيلَ: الْحَاصِبُ هُنَا بِمَعْنَى ذِي الْحَصْبَاءِ، فَصُوغَ اسْمُ فَاعِلٍ لَهُ مِنْ بَابِ فَاعِلٍ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى النَّسَبِ مِثْلُ لِابْنٍ وَتَامِرٍ.
وَالْوَكِيلُ: الْمُوَكَّلُ إِلَيْهِ الْقِيَامُ بِمُهِمِّ مُوَكِّلِهِ، وَالْمُدَافِعُ عَنْ حَقِّ مُوَكِّلِهِ، أَيْ لَا تَجِدُوا لِأَنْفُسِكُمْ مَنْ يُجَادِلُنَا عَنْكُمْ أَوْ يُطَالِبُنَا بِمَا أَلْحَقْنَاهُ بِكُمْ مِنَ الْخَسْفِ أَوِ الْإِهْلَاكِ بِالْحَاصِبِ، أَيْ لَا تَجِدُوا مِنْ قَوْمِكُمْ وَأَوْلِيَائِكُمْ مَنْ يَثْأَرُ لَكُمْ
وَلِكَوْنِهَا حَرْفَ رَدْعٍ أَفَادَتْ مَعْنًى تَامًا يَحْسُنُ السُّكُوتُ عَلَيْهِ. فَلِذَلِكَ جَازَ الْوَقْفُ عَلَيْهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَمَنَعَ الْمُبَرِّدُ الْوَقْفَ عَلَيْهَا بِنَاءً على أَنَّهَا لَا بُد أَنْ تُتْبَعَ بِكَلَامٍ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مَوَاقِعُهَا أَرْبَعَةٌ:
- مُوَقِعٌ يَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَيْهَا وَالِابْتِدَاءُ بِهَا كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
- وموقع يَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَيْهَا وَلَا يَحْسُنُ الِابْتِدَاءُ بِهَا كَقَوْلِهِ: فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ قالَ كَلَّا فَاذْهَبا [الشُّعَرَاء: ١٤، ١٥].
- وَمُوقِعٌ يَحْسُنُ فِيهِ الِابْتِدَاءُ بِهَا وَلَا يَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَيْهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ [عبس: ١١].
- وموقع لَا يَحْسُنُ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْأَمْرَيْنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ [التكاثر: ٤].
وَكَلَامُ الْفَرَّاءِ يُبَيِّنُ أَنَّ الْخِلَافَ بَيْنَ الْجُمْهُورِ وَبَيْنَ الْمُبَرِّدِ لَفْظِيُّ لِأَنَّ الْوَقْفَ أَعَمُّ مِنَ السُّكُوتِ التَّامِّ.
وَحَرْفُ التَّنْفِيسِ فِي قَوْلِهِ سَنَكْتُبُ لِتَحْقِيقِ أَنَّ ذَلِكَ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي [يُوسُف: ٩٨].
وَالْمَدُّ فِي الْعَذَابِ: الزِّيَادَةُ مِنْهُ، كَقَوْلِهِ: فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا [مَرْيَم: ٧٥].
وَمَا يَقُولُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ إِيجَازٌ، لِأَنَّهُ لَوْ حَكَيَ كَلَامَهُ لَطَالَ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ [آل عمرَان: ١٨٣]، أَيْ وَبِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ، أَيْ مَا قَالَهُ مِنَ الْإِلْحَادِ وَالتَّهَكُّمِ بِالْإِسْلَامِ، وَمَا قَالَهُ مِنَ الْمَالِ وَالْوَلَدِ، أَيْ سَنَكْتُبُ جَزَاءَهُ وَنُهْلِكُهُ فَنَرِثُهُ مَا سَمَّاهُ مِنَ الْمَالِ وَالْوَلَدِ، أَيْ نَرِثُ أَعْيَانَ مَا ذَكَرَ أَسْمَاءَهُ، إِذْ لَا يُعْقَلُ أَنْ يُورَثَ عَنْهُ قَوْلُهُ وَكَلَامُهُ. فَ مَا يَقُولُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ ضَمِيرِ النَّصْبِ فِي نَرِثُهُ، إِذِ التَّقْدِيرُ: وَنَرِثُ وَلَدَهُ وَمَالَهُ.
مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ [النَّحْل: ٩٧].
عَلَى أَنَّ فِي إِطْلَاقِ اسْمِ الْأَرْضِ مَا يَصْلُحُ لِإِرَادَةِ أَنَّ سُلْطَانَ الْعَالَمِ سَيَكُونُ بِيَدِ الْمُسْلِمِينَ مَا اسْتَقَامُوا عَلَى الْإِيمَانِ وَالصَّلَاحِ. وَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ فِي الْحَالَيْنِ وَعَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ.
وَفِي حَدِيث أبي دَاوُود وَالتِّرْمِذِيِّ عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِيَ الْأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا».
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فِي الزَّبُورِ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ وَهُوَ اسْم للمزبور، أَيِ الْمَكْتُوب، فعول بِمَعْنى مَفْعُولٍ، مِثْلَ: نَاقَةٌ حَلُوبٌ وَرَكُوبٌ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ زَبُورٌ بِوَزْنِ فَعُولٍ جَمْعُ زِبْرٍ- بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ- أَيْ مَزْبُورٌ، فَوَزْنُهُ مِثْلَ قِشْرٍ وَقُشُورٍ، أَيْ فِي الْكُتُبِ.
فَعَلَى قِرَاءَة الْجُمْهُور فو غَالِبٌ فِي الْإِطْلَاقِ على كتاب دَاوُود قَالَ تَعَالَى: وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً فِي [سُورَةِ النِّسَاءِ: ١٦٣] وَفِي [سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: ٥٥]، فَيَكُونُ تَخْصِيصُ هَذَا الْوَعْد بِكِتَاب دَاوُود لِأَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ وَعْدٌ عَامٌّ لِلصَّالِحِينَ بِهَذَا الْإِرْثِ فِي الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ قَبْلَهُ. وَمَا وَرَدَ فِي التَّوْرَاةِ فِيمَا حَكَاهُ الْقُرْآنُ مِنْ قَوْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [الْأَعْرَاف: ١٢٨] فَذَلِكَ خَاصٌّ بِأَرْضِ الْمَقْدِسِ وَبِبَنِي إِسْرَائِيلَ.
وَالزَّبُور: كتاب دَاوُود وَهُوَ مَبْثُوثٌ فِي الْكِتَابِ الْمُسَمَّى بِالْمَزَامِيرِ مِنْ كُتُبِ الْيَهُودِ.
وَلَمْ أَذْكُرِ الْآنَ الْجُمْلَةَ الَّتِي تَضَمَّنَتْ هَذَا الْوَعْدَ فِي الْمَزَامِيرِ. وَوَجَدُتْ فِي مُحَاضَرَةٍ لِلْإِيطَالِيِّ الْمُسْتَعْرِبِ (فُوِيدُو) أَنَّ نَصَّ هَذَا الْوَعْدِ مِنَ الزَّبُورِ بِاللُّغَةِ الْعِبْرِيَّةِ هَكَذَا: «صَدِّيقِينَ يَرْشُونَ أَرِصْ» بِشِينٍ مُعْجَمَةٍ فِي «يَرْشُونَ» وَبِصَادٍ مُهْمَلَةٍ فِي «أَرِصْ»، أَيِ الصِّدِّيقُونَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ. وَالْمَقْصُودُ: الشَّهَادَةُ عَلَى هَذَا الْوَعْدِ مِنَ الْكُتُبِ السَّالِفَةِ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ
فِيهَا مَعَ أَيْمَانِهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ شَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ فَكَانَ مُوجِبًا حَدَّهَا إِذَا لَمْ تَدْفَعْ ذَلِكَ بِأَيْمَانِهَا.
وَعِلَّةُ ذَلِكَ هُوَ أَنَّ فِي نُفُوسِ الْأَزْوَاجِ وَازِعًا يَزَعُهُمْ عَنْ أَنْ يَرْمُوا نِسَاءَهُمْ بِالْفَاحِشَةِ كَذِبًا وَهُوَ وازع التعير مِنْ ذَلِكَ وَوَازِعُ الْمَحَبَّةِ فِي الْأَزْوَاجِ غَالِبًا، وَلِذَلِكَ سَمَّى اللَّهُ ادِّعَاءَ الزَّوْجِ عَلَيْهَا باسم الشَّهَادَة بِظَاهِر الِاسْتِثْنَاءِ فِي قَوْلِهِ: وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ، وَفِي نُفُوسِهِمْ مِنَ الْغَيْرَةِ عَلَيْهِنَّ مَا لَا يُحْتَمَلُ مَعَهُ السُّكُوتُ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَقْتُلُونَ عَلَى ذَلِكَ وَكَانَ الرَّجُلُ مُصَدَّقًا فِيمَا يَدَّعِيهِ عَلَى امْرَأَتِهِ. وَقَدْ قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ «لَوْ وَجَدْتُ رَجُلًا مَعَ امْرَأَتِي لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفِحٍ». وَلَكِنَّ الْغَيْرَةَ قَدْ تَكُونُ مُفْرِطَةً وَقَدْ يُذَكِّيهَا فِي النُّفُوسِ تَنَافُسُ الرِّجَالِ فِي أَنْ يَشْتَهِرُوا بِهَا، فَمَنَعَ الْإِسْلَامُ مِنْ ذَلِكَ إِذْ لَيْسَ مِنْ حَقِّ أَحَدٍ إِتْلَافُ نَفْسٍ إِلَّا الْحَاكِمَ. وَلَمْ يُقَرِّرْ جَعْلَ أَرْوَاحِ الزَّوْجَاتِ تَحْتَ تَصَرُّفِ مُخْتَلِفِ نَفْسِيَّاتِ أَزْوَاجِهِنَّ.
وَلَمَّا تَقَرَّرَ حَدُّ الْقَذْفِ اشْتَدَّ الْأَمْرُ عَلَى الْأَزْوَاجِ الَّذِينَ يعثرون على ربية فِي أَزْوَاجِهِمْ.
وَنَزَلَتْ قَضِيَّةُ عُوَيْمِرٍ الْعَجْلَانِيِّ مَعَ زَوْجِهِ خَوْلَةَ بِنْتِ عَاصِمٍ وَيُقَالُ بِنْتُ قَيْسٍ وَكِلَاهُمَا مِنْ بَنِي عَمِّ عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ مِنَ الْأَنْصَارِ.
رَوَى مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ عُوَيْمِرًا الْعَجْلَانِيَّ جَاءَ إِلَى عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ الْأَنْصَارِيِّ فَقَالَ لَهُ: يَا عَاصِمُ أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ سَلْ لِي يَا عَاصِمُ رَسُولَ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ. فَسَأَلَ عَاصِمٌ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا حَتَّى كَبُرَ عَلَى عَاصِمٍ مَا سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ. فَلَمَّا رَجَعَ عَاصِمٌ إِلَى أَهْلِهِ جَاءَهُ عُوَيْمِرٌ فَقَالَ: يَا عَاصِمُ مَاذَا قَالَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ؟ فَقَالَ عَاصِمٌ لِعُوَيْمِرٍ: لَمْ تَأْتِنِي بِخَيْرٍ، قَدْ كَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ الْمَسْأَلَةَ الَّتِي سَأَلْتُهُ عَنْهَا. فَقَالَ عُوَيْمِرٌ: وَاللَّهِ لَا أَنْتَهِي حَتَّى أَسْأَلَهُ عَنْهَا. فَقَامَ عُوَيْمِرٌ حَتَّى أَتَى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَسَطَ النَّاسِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ أُنْزِلَ فِيكَ وَفِي صَاحبَتك فَاذْهَبْ فأت بِهَا. قَالَ سَهْلٌ:
وَزَادَ نُوحٌ قَوْلَهُ بَيَانًا بِقَوْلِهِ: وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ فِي سُورَةِ هُودٍ [٣١].
وَالْقَصْرُ فِي قَوْلِهِ: إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي قَصْرُ مَوْصُوفٍ عَلَى الصِّفَةِ، وَالْمَوْصُوفُ هُوَ حِسابُهُمْ وَالصِّفَةُ هِيَ عَلى رَبِّي، لِأَنَّ الْمَجْرُورَ الْخَبَرَ فِي قُوَّةِ الْوَصْفِ، فَإِنَّ الْمَجْرُورَاتِ وَالظُّرُوفَ الْوَاقِعَةَ أَخْبَارًا تَتَضَمَّنُ مَعْنًى يَتَّصِفُ بِهِ الْمُبْتَدَأُ وَهُوَ الْحُصُولُ وَالثُّبُوتُ الْمُقَدَّرُ فِي الْكَلَامِ بِكَائِنٍ أَوْ مُسْتَقِرٍّ كَمَا بَيَّنَهُ عُلَمَاءُ النَّحْوِ. وَالتَّقْدِيرُ:
حِسَابُهُمْ مَقْصُورٌ عَلَى الِاتِّصَافِ بِمَدْلُولِ عَلى رَبِّي. وَكَذَلِكَ قَدَّرَهُ السَّكَّاكِيُّ فِي «الْمِفْتَاحِ»، وَهُوَ قَصْرُ إِفْرَادٍ إِضَافِيٍّ، أَيْ لَا يَتَجَاوَزُ الْكَوْنُ عَلَى رَبِّي إِلَى الِاتِّصَافِ بِكَوْنِهِ عَلَيَّ. وَهُوَ رَدٌّ لِمَا تَضَمَّنَهُ كَلَامُ قَوْمِهِ مِنْ مُطَالَبَتِهِ بِإِبْعَادِ الَّذِينَ آمَنُوا لِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَحِقُّونَ أَنْ يَكُونُوا مُسَاوِينَ لَهُمْ فِي الْإِيمَانِ الَّذِي طَلَبَهُ نُوحٌ مِنْ قَوْمِهِ.
وَقَوْلُهُ: لَوْ تَشْعُرُونَ تَجْهِيلٌ لَهُمْ وَرَغْمٌ لِغُرُورِهِمْ وَإِعْجَابِهِمُ الْبَاطِلِ. وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ. وَالتَّقْدِيرُ: لَوْ تَشْعُرُونَ لَشَعَرْتُمْ بِأَنَّ حِسَابَهُمْ عَلَى اللَّهِ لَا عَلَيَّ فَلِمَا سَأَلْتُمُونِيهِ. وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ جَهَّلَهُمْ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ هُودٍ [٢٩] وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (١).
هَذَا هُوَ التَّفْسِيرُ الَّذِي يُطَابِقُ نَظْمَ الْآيَةِ وَمَعْنَاهَا مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى زِيَادَاتٍ وَفُرُوضٍ.
وَالْمُفَسِّرُونَ نَحَوْا مَنْحَى تَأْوِيلِ الْأَرْذَلُونَ أَنَّهُمُ الْمَوْصُوفُونَ بِالرَّذَالَةِ الدَّنِيَّةِ، أَيِ الطَّعْنُ فِي صِدْقِ إِيمَانِ مَنْ آمَنَ بِهِ، وَجَعَلُوا قَوْلَهُ: وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ تَبَرُّؤًا مِنَ الْكَشْفِ عَلَى ضَمَائِرِهِمْ وَصِحَّةِ إِيمَانِهِمْ. وَلَعَلَّ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ هُوَ لَفْظُ الْحِسَابِ فِي قَوْلِهِ: إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي، فَحَمَلُوهُ عَلَى الْحِسَابِ الَّذِي يَقَعُ يَوْمَ الْجَزَاءِ وَذَلِكَ لَا يُثْلَجُ لَهُ الصَّدْرُ.
وَعُطِفَ قَوْلُهُ: وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى قَوْلِهِ: وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ فَبَعْدَ أَنْ أَبْطَلَ مُقْتَضَى طَرْدِهِمْ صَرَّحَ بِأَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ.
وَجُمْلَةُ: إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ اسْتِئْنَافٌ فِي مَعْنَى التَّعْلِيلِ، أَيْ لِأَنَّ وَصْفِي يَصْرِفُنِي عَنْ مُوَافَقَتِكُمْ.
_________
(١) فِي المطبوعة: (وَلَكِنَّكُمْ قوم تجهلون) وَهُوَ خطأ، والمثبت هُوَ الصَّوَاب وَالله أعلم.
بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ مَا يَقَعُ فِيهِ لِأَنَّ مَقَامَ الْمَوْعِظَةِ يَقْتَضِي الْإِطْنَابَ فِي تَعْدَادِ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ التَّوْبِيخَ. وَكُرِّرَتْ جُمْلَةُ يَوْمَ يُنادِيهِمْ لِأَنَّ التَّكْرَارَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ مَقَامِ الْمَوْعِظَةِ.
وَهَذَا تَوْبِيخٌ لَهُمْ عَلَى تَكْذِيبِهِمُ الرُّسُلَ بَعْدَ انْقِضَاءِ تَوْبِيخِهِمْ عَلَى الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ.
وَالْمُرَادُ: مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَإِبْطَالِ الشُّرَكَاءِ. وَالْمُرَادُ بِ الْمُرْسَلِينَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ سَبَأٍ [٤٥] فَكَذَّبُوا رُسُلِي. وَلَهُ نَظَائِرُ فِي الْقُرْآنِ مِنْهَا قَوْلُهُ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا يُرِيدُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سُورَةِ يُونُسَ [١٠٣] وَقَوْلُهُ كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ الْآيَاتِ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [١٠٥]، وَإِنَّمَا كَذَّبَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْ أُولَئِكَ رَسُولًا وَاحِدًا. وَالَّذِي اقْتَضَى صِيغَةَ الْجَمْعِ أَنَّ جَمِيعَ الْمُكَذِّبِينَ إِنَّمَا كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ بِعِلَّةِ اسْتِحَالَةِ رِسَالَةِ الْبَشَرِ إِلَى الْبَشَرِ فَهُمْ إِنَّمَا كَذَّبُوا بِجِنْسِ الْمُرْسَلِينَ، وَلَامُ الْجِنْسِ إِذَا دَخَلَتْ عَلَى (جَمِيعِ) أَبْطَلَتْ مِنْهُ مَعْنَى الْجَمْعِيَّةِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ بِ مَاذَا صُورِيٌّ مَقْصُودٌ مِنْهُ إِظْهَارُ بَلْبَلَتِهِمْ. وَ (ذَا) بَعْدَ (مَا) الِاسْتِفْهَامِيَّةِ تُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْمَوْصُولِ، أَيْ مَا الَّذِي أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ، أَيْ مَا جَوَابُكُمْ. والْأَنْباءُ:
جَمْعُ نَبَأٍ، وَهُوَ الْخَبَرُ عَنْ أَمْرٍ مُهِمٍّ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْجَوَابُ عَنْ سُؤَالِ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ لِأَنَّ ذَلِكَ الْجَوَابَ إِخْبَارٌ عَمَّا وَقَعَ مِنْهُمْ مَعَ رُسُلِهِمْ فِي الدُّنْيَا.
وَالْمَعْنَى: عَمِيَتِ الْأَنْبَاءُ عَلَى جَمِيعِ الْمَسْئُولِينَ فَسَكَتُوا كُلُّهُمْ وَلَمْ يُنْتَدَبْ زُعَمَاؤُهُمْ لِلْجَوَابِ كَفِعْلِهِمْ فِي تَلَقِّي السُّؤَالِ السَّابِقِ: أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الْقَصَص:
٦٢].
وَمعنى فَعَمِيَتْ خَفِيَتْ عَلَيْهِمْ وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ عَمَى الْبَصَرِ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ صَاحِبَهُ لَا يَتَبَيَّنُ الْأَشْيَاءَ، فَتَصَرَّفَتْ مِنَ الْعَمَى مَعَانٍ كَثِيرَةٌ مُتَشَابِهَةٌ يُبَيِّنُهَا تَعْدِيَةُ الْفِعْلِ كَمَا عُدِّيَ هُنَا بِحَرْفِ (عَلَى) الْمُنَاسِبِ لِلْخَفَاءِ. وَيُقَالُ: عَمِيَ عَلَيْهِ الطَّرِيقُ. إِذَا لَمْ يَعْرِفْ مَا يُوَصِّلُ مِنْهُ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ:
أَرَانَا الْهُدَى بَعْدَ الْعَمَى فَقُلُوبُنَا | بِهِ مُوقِنَاتٌ أَنَّ مَا قَالَ وَاقِعُ |
وَجُمْلَةُ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ وَعْدٌ وَوَعِيدٌ. وَفِي هَذِهِ الضَّمَائِرِ تَغْلِيبُ الْخِطَابِ عَلَى الْغَيْبَةِ لِأَنَّ الْخِطَابَ أَهَمُّ لِأَنَّهُ أعرف.
[١٦]
[سُورَة لُقْمَان (٣١) : آيَة ١٦]
يَا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (١٦)
تَكْرِيرُ النِّدَاءِ لِتَجْدِيدِ نَشَاطِ السَّامِعِ لِوَعْيِ الْكَلَامِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ إِنْ تَكُ مِثْقالَ بِرَفْعِ مِثْقالَ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلُ تَكُ مِنْ (كَانَ) التَّامَّةِ. وَإِنَّمَا جِيءَ بِفِعْلِهِ بِتَاءِ الْمُضَارَعَةِ لِلْمُؤَنَّثَةِ، وَأُعِيدَ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ بِهَا مُؤَنَّثًا مَعَ أَنَّ مِثْقالَ لَفْظٌ غَيْرُ مُؤَنَّثٍ لِأَنَّهُ أُضِيفَ إِلَى حَبَّةٍ فَاكْتَسَبَ التَّأْنِيثَ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ كَثِيرٌ إِذَا
كَانَ الْمُضَافُ لَوْ حُذِفَ لَمَا اخْتَلَّ الْكَلَامُ بِحَيْثُ يُسْتَغْنَى بِالْمُضَافِ إِلَيْهِ عَنِ الْمُضَافِ، وَعَلَيْهِ فَضَمِيرُ إِنَّها لِلْقِصَّةِ وَالْحَادِثَةِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِضَمِيرِ الشَّأْنِ، وَهُوَ يَقَعُ بِصُورَةِ ضَمِيرِ الْمُفْرَدَةِ الْمُؤَنَّثَةِ بِتَأْوِيلِ الْقِصَّةِ، وَيُخْتَارُ تَأْنِيثُ هَذَا الضَّمِيرِ إِذَا كَانَ فِي الْقِصَّةِ لَفْظٌ مُؤَنَّثٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فَإِنَّها لَا تَعْمَى الْأَبْصارُ [الْحَج: ٤٦]، وَيَكْثُرُ وُقُوعُ ضَمِيرِ الشَّأْنِ بَعْدَ (إِنَّ) كَقَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى [طه: ٧٤]، وَمِنْ ذَلِكَ تَقْدِيرُ ضَمِيرِ الشَّأْنِ اسْمًا لِحَرْفِ (أَنَّ) الْمَفْتُوحَةِ الْمُخَفَّفَةِ، وَهُوَ يُفِيدُ الِاهْتِمَامَ بِإِقْبَالِ الْمُخَاطَبِ عَلَى مَا يَأْتِي بَعْدَهُ، فَاجْتَمَعَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ ثَلَاثَةُ مُؤَكِّدَاتٍ: النِّدَاءُ، وَإِنَّ، وَضَمِيرُ الْقِصَّةِ، لِعَظَمِ خَطَرِ مَا بعده الْمُفِيد تَقْرِيرِ وَصْفِهِ تَعَالَى بِالْعِلْمِ الْمُحِيطِ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ مِنَ الْكَائِنَاتِ، وَوَصْفِهِ بِالْقُدْرَةِ الْمُحِيطَةِ بِجَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ.
وَقَدْ أُفِيدَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ دَلَالَةِ الْفَحْوَى فَذُكِرَ أَدَقُّ الْكَائِنَاتِ حَالًا مِنْ حَيْثُ تَعَلُّقِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ بِهِ، وَذَلِكَ أَدَقُّ الْأَجْسَامِ الْمُخْتَفِي فِي أَصْلَبِ مَكَانٍ أَوْ أَقْصَاهُ وَأَعَزِّهِ مَنَالًا، أَوْ أَوْسَعِهِ وَأَشَدِّهِ انْتِشَارًا، لِيُعْلَمَ أَنَّ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ فِي الظُّهُورِ وَالدُّنُوِّ مِنَ التَّنَاوُلِ أَوْلَى بِأَنْ يُحِيطَ بِهِ عِلْمُ اللَّهِ وَقُدْرَتُهُ.
دُرَيْدٍ، وَزَادَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» عَنْ شَيْخِهِ الْخَطِيبِ التَّبْرِيزِيِّ تِسْعَةً فَصَارَتْ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ. وَالتِّمْثَالُ هُوَ الصُّورَةُ الْمُمَثَّلَةُ، أَيِ الْمُجَسَّمَةُ مِثْلَ شَيْءٍ مِنَ الْأَجْسَامِ فَكَانَ النَّحَّاتُونَ يَعْمَلُونَ لِسُلَيْمَانَ صُوَرًا مُخْتَلِفَةً كَصُوَرٍ مَوْهُومَةٍ لِلْمَلَائِكَةِ وَلِلْحَيَوَانِ مِثْلَ الْأُسُودِ، فَقَدْ كَانَ كُرْسِيُّ سُلَيْمَانَ مَحْفُوفًا بِتَمَاثِيلِ أُسُودٍ أَرْبَعَةَ عَشَرَ كَمَا وُصِفَ فِي الْإِصْحَاحِ الْعَاشِرِ مِنْ سِفْرِ الْمُلُوكِ الْأَوَّلِ. وَكَانَ قَدْ جَعَلَ فِي الْهَيْكَلِ جَابِيَةً عَظِيمَةً مِنْ نُحَاسٍ مَصْقُولٍ مَرْفُوعَةً عَلَى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ صُورَةَ ثَوْرٍ مِنْ نُحَاسٍ.
وَلَمْ تَكُنْ التَّمَاثِيلُ الْمُجَسَّمَةُ مُحَرَّمَةَ الِاسْتِعْمَالِ فِي الشَّرَائِعِ السَّابِقَةِ، وَقَدْ حَرَّمَهَا الْإِسْلَامُ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ أَمْعَنَ فِي قَطْعِ دابر الْإِشْرَاك لشدَّة تمكن الْإِشْرَاكِ مِنْ نُفُوسِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ. وَكَانَ مُعْظَمُ الْأَصْنَامِ تَمَاثِيلَ فَحَرَّمَ الْإِسْلَامُ اتِّخَاذَهَا لِذَلِكَ، وَلم يكن تَحْرِيمهَا
لِأَجْلِ اشْتِمَالِهَا عَلَى مَفْسَدَةٍ فِي ذَاتِهَا وَلَكِنْ لِكَوْنِهَا كَانَتْ ذَرِيعَةً لِلْإِشْرَاكِ. وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ اتِّخَاذِ مَا لَهُ ظِلٌّ مِنْ تَمَاثِيلِ ذَوَاتِ الرُّوحِ إِذَا كَانَتْ مُسْتَكْمِلَةَ الْأَعْضَاءِ الَّتِي لَا يَعِيشُ ذُو الرُّوحِ بِدُونِهَا وَعَلَى كَرَاهَةِ مَا عَدَا ذَلِكَ مِثْلَ التَّمَاثِيلِ الْمُنَصَّفَةِ وَمِثْلَ الصُّوَرِ الَّتِي عَلَى الْجُدْرَانِ وَعَلَى الْأَوْرَاقِ وَالرَّقْمِ فِي الثَّوْبِ وَلَا مَا يُجْلَسُ عَلَيْهِ وَيُدَاسُ. وَحُكْمُ صُنْعِهَا يَتْبَعُ اتِّخَاذَهَا. وَوَقَعَتِ الرُّخْصَةُ فِي اتِّخَاذِ صُوَرٍ تَلْعَبُ بِهَا الْبَنَاتُ لِفَائِدَةِ اعْتِيَادِهِنَّ الْعَمَلَ بِأُمُورِ الْبَيْتِ.
وَالْجِفَانُ: جَمْعُ جَفْنَةٍ، وَهِيَ الْقَصْعَةُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي يُجْفَنُ فِيهَا الْمَاءُ. وَقُدِّرَتِ الْجَفْنَةُ فِي التَّوْرَاةِ بِأَنَّهَا تَسَعُ أَرْبَعِينَ بَثًّا (بِالْمُثَلَّثَةِ) وَلَمْ نَعْرِفْ مِقْدَارَ الْبَثِّ عِنْدَهُمْ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مِكْيَالٌ. وَشُبِّهَتِ الْجِفَانُ فِي عَظَمَتِهَا وَسِعَتِهَا بِالْجَوَابِي. وَهِيَ جَمْعُ: جَابِيَةٍ وَهِيَ الْحَوْضُ الْعَظِيمُ الْوَاسِعُ الْعَمِيقُ الَّذِي يُجْمَعُ فِيهِ الْمَاءُ لِسَقْيِ الْأَشْجَارِ وَالزُّرُوعِ، قَالَ الْأَعْشَى:
نَفَى الذَّمَّ عَنْ رَهْطِ الْمُحَلَّقِ جَفْنَةٌ | كَجَابِيَةِ الشَّيْخِ الْعِرَاقِيِّ تَفْهَقُ |
وَكَانَتِ الْجِفَانُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْهَيْكَلِ الْمَعْرُوف عندنَا بَيت الْمَقْدِسِ لِأَجْلِ وضع المَاء ليغلسوا فِيهَا مَا يُقَرِّبُونَهُ مِنَ الْمُحْرَقَاتِ كَمَا فِي الْإِصْحَاحِ الرَّابِعِ مِنْ سِفْرِ الْأَيَّامِ الثَّانِي.
تَحْتَفِلُ بِمَا أَطَالَ بِهِ فِي «الْكَشَّافِ» وَلَا بِمُخَالَفَةِ الْبَيْضَاوِيِّ لَهُ وَلَا بِمَا تَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْمُبَاحَثَاتِ.
وَإِنْ كَانَ وَضْعًا مُعْتَرَضًا فِي أَثْنَاءِ الْقِصَّةِ كَانَ تَنْوِيهًا بِإِسْحَاقَ وَكَانَ حَالًا حَاصِلَةً.
وَقَوْلُهُ: مِنَ الصَّالِحِينَ حَالٌ ثَانِيَةٌ، وَذَكَرَهَا لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الصَّلَاحِ فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَعْدُودُونَ فِي زُمْرَةِ أَهْلِهِ وَإِلَّا فَإِنَّ كُلَّ نَبِيءٍ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ صَالِحًا، وَالنُّبُوءَةُ أَعْظَمُ أَحْوَالِ الصَّلَاحِ لِمَا مَعَهَا مِنَ الْعَظَمَةِ.
وَبَارَكَ جَعَلَهُ ذَا بَرَكَةِ وَالْبَرَكَةُ زِيَادَةُ الْخَيْرِ فِي مُخْتَلَفِ وُجُوهِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٩٦].
وَقَوْلِهِ: وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ فِي سُورَةِ هُودٍ [٤٨].
وعَلى لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ، أَيْ تَمَكُّنِ الْبَرَكَةِ مِنَ الْإِحَاطَةِ بِهِمَا.
وَلَمَّا ذَكَرَ مَا أَعْطَاهُمَا نَقَلَ الْكَلَامَ إِلَى ذُرِّيَّتِهِمَا فَقَالَ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ، أَيْ عَامِلٌ بِالْعَمَلِ الْحَسَنِ، وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ أَيْ مُشْرِكٌ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ ذَرِّيَّتَهُمَا لَيْسَ جَمِيعُهَا كَحَالِهِمَا بَلْ هُمْ مُخْتَلِفُونَ فَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ أَنْبِيَاءٌ وَصَالِحُونَ وَمُؤْمِنُونَ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْحَاقَ مِثْلُهُمْ، وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ مَنْ حَادُوا عَنْ سُنَنِ أَبِيهِمْ مِثْلَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْحَاقَ كَذَلِكَ مِثْلَ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْيَهُودِ بِالْمَسِيحِ وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٢٤].
وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْخَبِيثَ وَالطَّيِّبَ لَا يَجْرِي أَمْرُهُمَا عَلَى الْعِرْقِ وَالْعُنْصُرِ فَقَدْ يَلِدُ الْبَرُّ الْفَاجِرَ وَالْفَاجِرُ الْبَرَّ، وَعَلَى أَنَّ فَسَادَ الْأَعْقَابِ لَا يُعَدُّ غَضَاضَةً عَلَى الْآبَاءِ، وَأَنَّ مَنَاطَ الْفَضْلِ هُوَ خِصَالُ الذَّاتِ وَمَا اكْتَسَبَ الْمَرْءُ مِنَ الصَّالِحَاتِ، وَأَمَّا كَرَامَةُ الْآبَاءِ فَتَكْمِلَةٌ لِلْكَمَالِ وباعث على الاتّسام بِفَضَائِلَ الْخِلَالِ، فَكَانَ فِي هَذِهِ التَّكْمِلَةِ إِبْطَالُ غُرُورِ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَأَنَّهَا مَزِيَّةٌ لَكِنْ لَا يُعَادِلُهَا الدُّخُولُ فِي الْإِسْلَامِ وَأَنَّهُمُ الْأَوْلَى بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. قَالَ أَبُو طَالِبٍ فِي خِطْبَةِ خَدِيجَة للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَنَا مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَزَرْعِ إِسْمَاعِيلَ وَجَعَلَنَا
لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ إِلَى قَوْلِهِ: نَصِيباً مَفْرُوضاً [النِّسَاء: ٧].
وَقَدْ ضُمِّنَ مُغْنُونَ مَعْنَى دَافِعُونَ وَرَادُّونَ، فَلِذَلِكَ عُدِّيَ إِلَى مَفْعُولٍ وَهُوَ نَصِيباً أَيْ جُزْءًا مِنْ حَرِّ النَّارِ غَيْرَ مُحَدَّدِ الْمِقْدَارِ مِنْ قُوَّتِهَا، ومِنَ النَّارِ بَيَانٌ لِ نَصِيباً كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [إِبْرَاهِيم: ٢١] فَهُمْ قَانِعُونَ بِكُلِّ مَا يُخَفِّفُ عَنْهُمْ مِنْ شِدَّةِ حَرِّ النَّارِ وَغَيْرُ طَامِعِينَ فِي الْخُرُوجِ مِنْهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُغْنُونَ عَلَى مَعْنَاهُ دُونَ تَضْمِينٍ وَيَكُونَ نَصِيباً مَنْصُوبًا عَلَى الْمَفْعُول الْمُطلق لمغنون وَالتَّقْدِيرُ غَنَّاءً نَصِيبًا، أَيْ غِنَاءً مَا وَلَوْ قَلِيلًا. ومِنَ النَّارِ مُتَعَلِّقًا بِ مُغْنُونَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [يُوسُف: ٦٧]. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّصِيبُ الْجُزْءَ مِنْ أَزْمِنَةِ الْعَذَابِ فَيَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ: مِنْ مُدَّةِ النَّارِ.
وَلَمَّا كَانَ جَوَابُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينِ اسْتُضْعِفُوا جَارِيًا فِي مَجْرَى الْمُحَاوَرَةِ جُرِّدَ فَعَلُ قالَ مِنْ حَرْفِ الْعَطْفِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ: إِنَّا كُلٌّ فِيها نَحْنُ وَأَنْتُمْ مُسْتَوُونَ فِي الْكَوْنِ فِي النَّارِ فَكَيْفَ تَطْمَعُونَ أَنْ نَدْفَعَ عَنْكُمْ شَيْئًا مِنَ الْعَذَابِ. وَعَلَى وَجْهِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الضُّعَفَاءِ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً إِلَى آخِرِهِ تَوْبِيخًا وَلَوْمًا لِزُعَمَائِهِمْ يَكُونُ قَوْلُ الزُّعَمَاءِ إِنَّا كُلٌّ فِيها اعْتِرَافًا بِالْغَلَطِ، أَيْ دَعُوا لَوْمَنَا وَتَوْبِيخَنَا فَقَدْ كَفَانَا أَنَا مَعَكُمْ فِي النَّارِ وَتَأْكِيدُ الْكَلَامِ بِ (إِنَّ) لِلِاهْتِمَامِ بِتَحْقِيقِهِ أَوْ لِتَنْزِيلِ مَنْ طَالَبُوهُمْ بِالْغَنَاءِ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِ النَّارِ مَعَ مُشَاهَدَتِهِمْ أَنَّهُمْ فِي الْعَذَابِ مِثْلُهُمْ، مَنْزِلَةَ مَنْ يَحْسَبُهُمْ غَيْرَ وَاقِعِينَ فِي النَّارِ، وَفِي هَذَا التَّنْزِيلِ ضَرْبٌ مِنَ التَّوْبِيخِ يَقُولُونَ: أَلَسْتُمْ تَرَوْنَنَا فِي النَّارِ مَثَلَكُمْ فَكَيْفَ نُغْنِي عَنْكُمْ. وكُلٌّ مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ فِيها وَالْجُمْلَةُ مِنَ الْمُبْتَدَأِ وَخَبَرِهِ خَبَرُ (إِنَّ) وَتَنْوِينُ (كُلٌّ) تَنْوِينُ عِوَضٍ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، إِذِ التَّقْدِيرُ: إِنَّا كُلُّنَا فِي النَّارِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ تَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ مِنْ جُمْلَةِ
لِأَنَّهُ قَدْ نَزَلَ مِقْدَارٌ عَظِيمٌ لَوْ تَدَبَّرُوهُ لَعَقَلُوا، فَهَذَا الْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْرِيضِ عَلَى طَريقَة الْكِنَايَة.
[٤]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٤]
وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (٤)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا [الزخرف: ٣]، فَهُوَ زِيَادَةٌ فِي الثَّنَاءِ عَلَى هَذَا الْكِتَابِ ثَنَاءً ثَانِيًا لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِهِ رِفْعَةً وَإِرْشَادًا.
وأُمِّ الْكِتابِ: أَصْلُ الْكِتَابِ. وَالْمُرَادُ بِ أُمِّ الْكِتابِ عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [٣٩]، لِأَنَّ الْأُمَّ بِمَعْنَى الْأَصْلِ وَالْكِتَابُ هُنَا بِمَعْنَى الْمَكْتُوبِ، أَيِ الْمُحَقَّقُ الْمُوَثَّقُ وَهَذَا كِنَايَةً عَنِ الْحَقِّ الَّذِي لَا يَقْبَلُ التَّغْيِيرَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَرَادُوا أَنْ يُحَقِّقُوا عَهْدًا عَلَى طُولِ مُدَّةٍ كَتَبُوهُ فِي صَحِيفَةٍ، قَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ:
حَذِرُ الْجَوْرِ وَالتَّطَاخِي وَهَلْ يَنْ | قُضُ مَا فِي الْمَهَارِقِ الْأَهْوَاءُ |
وحَكِيمٌ: أَصْلُهُ الَّذِي الْحِكْمَةُ مِنْ صِفَاتِ رَأْيِهِ، فَهُوَ هُنَا مَجَازٌ لِمَا يَحْوِي الْحِكْمَةَ بِمَا فِيهِ مِنْ صَلَاحِ أَحْوَالِ النُّفُوسِ وَالْقَوَانِينِ الْمُقِيمَةِ لِنِظَامِ الْأُمَّةِ.
وَمَعْنَى كَوْنِ ذَلِكَ فِي عِلْمِ اللَّهِ: أَنَّ اللَّهَ عَلِمَهُ كَذَلِكَ وَمَا عَلِمَهُ اللَّهُ لَا يَقْبَلُ الشَّكَّ.
وَمَعْنَاهُ: أَنَّ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنَ الْمَعَانِي هُوَ مِنْ مُرَادِ اللَّهِ وَصَدَرَ عَنْ عِلْمِهِ. وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يُفِيدَ هَذَا شَهَادَةً بِعُلُوِّ الْقُرْآنِ وَحِكْمَتِهِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِمْ فِي الْيَمِينِ: اللَّهُ يَعْلَمُ، وَعلم اللَّهُ.
وَتَأْكِيدُ الْكَلَامِ بِ (إِنَّ) لِرَدِّ إِنْكَارِ الْمُخَاطَبِينَ إِذْ كَذَّبُوا أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ مُوحًى بِهِ مِنَ اللَّهِ.
ولَدَيْنا ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ هُوَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ إِنَّهُ أَوْ مِنْ أُمِّ الْكِتابِ
حَقِيقِيٌّ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ اسْتِغْفَار النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ يَمْحُو مَا أَضْمَرُوهُ مِنَ النَّكْثِ وَذَهَلُوا عَنْ عِلْمِ اللَّهِ بِمَا أَضْمَرُوهُ كَدَأْبِ أَهْلِ الْجَهَالَةِ فَقَدْ قتل الْيَهُود زَكَرِيَّاء مَخَافَةَ أَنْ تَصْدُرَ مِنْهُ دَعْوَةٌ عَلَيْهِمْ حِينَ قَتَلُوا ابْنَهُ يَحْيَى وَلِذَلِكَ عُقِّبَ قَوْلُهُمْ هُنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً الْآيَةَ.
وَجُمْلَةُ يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ كَاذِبُونَ فِيمَا زَعَمُوهُ مِنَ الِاعْتِذَارِ، وَإِنَّمَا كَانَ تَخَلُّفُهُمْ لِظَنِّهِمْ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْصِدُ قِتَالَ أَهْلِ مَكَّةَ أَوْ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ مُقَاتِلُوهُ لَا مَحَالَةَ وَأَنَّ الْجَيْشَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَغْلِبُوا أَهْلَ مَكَّةَ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُمْ قَالُوا: يَذْهَبُ إِلَى قَوْمٍ غَزَوْهُ فِي عُقْرِ دَارِهِ (١) بِالْمَدِينَةِ يَعْنُونَ غَزْوَةَ الْأَحْزَابِ وَقَتَلُوا أَصْحَابَهُ فَيُقَاتِلُهُمْ وَظَنُّوا أَنَّهُ لَا يَنْقَلِبُ إِلَى الْمَدِينَةِ وَذَلِكَ مِنْ ضَعْفِ يَقِينِهِمْ.
قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً.
أَمر الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ مَا فِيهِ رَدُّ أَمْرِهِمْ إِلَى اللَّهِ لِيُعْلِمَهُمْ أَنَّ اسْتِغْفَارَهُ اللَّهَ لَهُمْ لَا يُكْرِهُ اللَّهَ عَلَى الْمَغْفِرَةِ بَلِ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ إِذَا أَرَادَهُ فَإِنْ كَانَ أَرَادَ بِهِمْ نَفْعًا نَفَعَهُمْ وَإِنْ كَانَ أَرَادَ بِهِمْ ضُرًّا ضَرَّهُمْ فَمَا كَانَ مِنَ النُّصْحِ لِأَنْفُسِهِمْ أَنْ يَتَوَرَّطُوا فِيمَا لَا يُرْضِي اللَّهَ ثُمَّ يَسْتَغْفِرُونَهُ. فَلَعَلَّهُ لَا يَغْفِرُ لَهُمْ، فَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا تَخْوِيفُهُمْ مِنْ عِقَابِ ذَنْبِهِمْ إِذْ تَخَلَّفُوا عَنْ نفير النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَبُوا فِي الِاعْتِذَارِ لِيُكْثِرُوا مِنَ التَّوْبَةِ وَتَدَارُكِ الْمُمْكِنِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَهُ قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ [الْفَتْح: ١٦] الْآيَةَ.
فَمَعْنَى إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً هُنَا الْإِرَادَةُ الَّتِي جَرَتْ عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ تَعَالَى مِنْ إِعْطَائِهِ النَّفْعَ إِيَّاهُمْ أَوْ إِصَابَتِهِ بِضُرٍّ وَفِي هَذَا الْكَلَامِ تَوْجِيهٌ بِأَنَّ
_________
(١) الْعقر بِضَم الْعين وَفتحهَا: الأَصْل وَالْمَكَان. [.....]
الْعِبَادَةِ الَّتِي لَا يَسْتَحِقُّهَا إِلَّا هُوَ كَعَدَمِ الْعِبَادَةِ إِذِ الْإِشْرَاكُ إِخْلَالٌ كَبِيرٌ بِعِبَادَةِ اللَّهِ قَالَ تَعَالَى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً [النِّسَاء: ٣٦].
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ النَّجْمَ فَسَجَدَ فِيهَا- أَيْ عِنْدِ قَوْلِهِ:
فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا- وَسَجَدَ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ إِلَّا شَيْخًا مُشْرِكًا (هُوَ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ) أَخَذَ كَفًّا مِنْ تُرَابٍ أَوْ حَصًى فرفعه إِلَى جِهَته وَقَالَ: يَكْفِينِي هَذَا.
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ كَانَا يَسْجُدَانِ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ.
وَفِي «أَحْكَامِ» ابْنِ الْعَرَبِيِّ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ سَجَدَ فِيهَا،
وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» و «السّنَن» عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: قَرَأَتُ النَّجْمَ عِنْدَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَسْجُدْ فِيهَا.
وَفِي «سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ» عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ «سَجَدْتُ مَعَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِحْدَى عَشْرَةَ سَجْدَةً لَيْسَ فِيهَا مِنَ الْمُفَصَّلِ شَيْءٌ»
. وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: كَانَ آخِرُ فِعْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْكَ السُّجُودِ فِي الْمُفَصَّلِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْجُدْ فِي الْمُفَصَّلِ مُنْذُ تَحَوَّلَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَسُورَةُ النَّجْمِ مِنَ الْمُفَصَّلِ.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي السُّجُودِ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ مَالِكٌ: سَجْدَةُ النَّجْمِ لَيْسَتْ مِنْ عَزَائِمِ الْقُرْآنِ (أَيْ لَيْسَتْ مِمَّا يُسَنُّ السُّجُودُ عِنْدَهَا. هَذَا مُرَادُهُ بِالْعَزَائِمِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ مِنْ سُجُودِ الْقُرْآنِ عَزَائِمَ وَمِنْهُ غَيْرَ عَزَائِمَ فَ (عَزَائِمُ) وَصْفٌ كَاشِفٌ) وَلَمْ يَرَ سُجُودَ الْقُرْآنِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمُفَصَّلِ، وَوَافَقَهُ أَصْحَابُهُ عَدَا ابْنِ وَهْبٍ قَرَأَهَا مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ، هِيَ وَسَجْدَةُ سُورَةِ الِانْشِقَاقِ وَسَجْدَةُ سُورَةِ الْعَلَقِ مِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَفِي «الْمُنْتَقَى» : أَنَّهُ قَوْلُ ابْنِ وَهْبٍ وَابْنِ نَافِعٍ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هِيَ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ. وَنَسَبَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» مِثْلَهُ إِلَى الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ فِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَإِنَّمَا سَجَدَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: فَاسْجُدُوا مُفَرَّعًا عَلَى خِطَابِ
الْمُشْرِكِينَ بِالتَّوْبِيخِ، لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَوْلَى بِالسِّجُودِ لِلَّهِ وَلِيُعَضَّدَ الْأَمْرُ الْقَوْلِيُّ بِالْفِعْلِ لِيُبَادِرَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ. وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ مُذَكِّرًا لِلْمُشْرِكِينَ بِالسِّجُودِ لِلَّهِ
وَأَصْلُ الْفَوْتِ: الْمُفَارَقَةُ وَالْمُبَاعَدَةُ، وَالتَّفَاوُتُ: الْمُتَبَاعَدُ. وَالْفَوْتُ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِضَيَاعِ الْحَقِّ كَقَوْلِ رُوَيْشِدِ بْنِ كَثِيرٍ الطَّائِيِّ أَوْ عَمْرِو بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ:
إِنْ تُذْنِبُوا ثُمَّ تَأْتِينِي بَقِيَّتُكُمْ | فَمَا عَلَيَّ بِذَنْبٍ مِنْكُمْ فَوْتُ |
وَالْمَعْنَى: إِنْ فَرَّتْ بَعْضُ أَزْوَاجِكُمْ وَلَحِقَتْ بِالْكُفَّارِ وَحَصَلَ التَّعَاقُبُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْكُفَّارِ فَعَقَّبْتُمْ عَلَى أَزْوَاجِ الْكُفَّارِ وَعَقَّبَ الْكُفَّارُ عَلَى أَزْوَاجِكُمْ وَأَبَى الْكُفَّارُ مِنْ دَفَعِ مُهُورِ بعض النِّسَاء اللاء ذَهَبْنَ إِلَيْهِمْ، فَادْفَعُوا أَنْتُمْ لِمَنْ حَرَمُهُ الْكُفَّارُ مَهْرَ امْرَأَتَهُ، أَيْ مَا هُوَ حَقُّهُ، واحجزوا ذَلِك عَن الْكُفَّارِ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ إِنْ أُعْطِيَ جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ مُهُورَ مَنْ فَاتَهُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ وَبَقِيَ لِلْمُشْرِكِينَ فَضْلٌ يَرُدُّهُ الْمُسْلِمُونَ إِلَى الْكُفَّارِ. هَذَا تَفْسِيرُ الزُّهْرِيُّ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ عَنْهُ وَهُوَ أَظْهَرُ مَا فُسِّرَتْ بِهِ الْآيَةُ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْجُمْهُورِ: الَّذِينَ فَاتَهُمْ أَزْوَاجُهُمْ إِلَى الْكُفَّارِ يُعْطَوْنَ مُهُورَ نِسَائِهِمْ مِنْ مَغَانِمِ الْمُسْلِمِينَ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ مَنْسُوخَةً بِآيَةِ سُورَةِ بَرَاءَةَ [٧] كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ.
وَالْوَجْهُ أَنْ لَا يُصَارَ إِلَى الْإِعْطَاءِ مِنَ الْغَنَائِمِ إِلَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي ذِمَمِ الْمُسْلِمِينَ شَيْءٌ
مِنْ مُهُورِ نسَاء الْمُشْركين اللاء أَتَيْنَ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَصِرْنَ أَزْوَاجًا لِلْمُسْلِمِينَ.
وَالْكَلَامُ إِيجَازُ حَذْفٍ شَدِيدٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَجْمُوعُ الْأَلْفَاظِ وَمَوْضِعُ الْكَلَامِ عَقِبَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ.
وَلَفَظُ شَيْءٌ هَنَا مُرَادٌ بِهِ: بَعْضُ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَيَانٌ لِ شَيْءٌ، وَأُرِيدَ بِ شَيْءٌ تحقير الزَّوْجَات اللاء أَبَيْنَ الْإِسْلَامَ، فَإِنَّ الْمُرَادَ قَدْ فَاتَتْ ذَاتُهَا عَنْ زَوْجِهَا فَلَا انْتِفَاعَ لَهُ بِهَا.
وَضُمِّنَ فِعْلُ فاتَكُمْ مَعْنَى الْفِرَارِ فَعُدِّيَ بِحَرْفِ إِلَى أَيْ فَرَرْنَ إِلَى الْكُفَّارِ.
لِاسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ كَقَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً [الرّوم: ٤٨] أَيْ يَوَدُّ لَوْ يَفْتَدِي بِأُمِّهِ، مَعَ شِدَّةِ تَعَلُّقِ نَفْسِهِ بِهَا إِذْ كَانَتْ تُؤْوِيهِ، فَإِيثَارُ لَفَظِ فَصِيلَتِهِ وَفِعْلِ تُؤْوِيهِ هُنَا مِنْ إِيجَازِ الْقُرْآنِ وَإِعْجَازِهِ لِيَشْمَلَ هَذِهِ الْمَعَانِيَ.
وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً عطف على بِبَنِيهِ، أَيْ وَيَفْتَدِي بِمَنْ فِي الْأَرْضِ، أَيْ وَمَنْ لَهُ فِي الْأَرْضِ مِمَّا يَعِزُّ عَلَيْهِ مِنْ أَخِلَّاءَ وَقَرَابَةٍ وَنَفَائِسِ الْأَمْوَالِ مِمَّا شَأْنُ النَّاسِ الشُّحُّ بِبَذْلِهِ وَالرَّغْبَةِ فِي اسْتِبْقَائِهِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ [آل عمرَان: ٩١].
ومَنْ الْمَوْصُولَةُ لِتَغْلِيبِ الْعَاقِلِ عَلَى غَيْرِهِ لِأَنَّ مِنْهُمُ الْأَخِلَّاءَ.
وثُمَّ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ يُنْجِيهِ لِلتَّرَاخِي الرَّتَبِيِّ، أَيْ يَوَدُّ بَذْلَ ذَلِكَ وَأَنْ يُنْجِيَهُ الْفِدَاءُ مِنَ الْعَذَابِ، فَالْإِنْجَاءُ مِنَ الْعَذَابِ هُوَ الْأَهَمُّ عِنْدَ الْمُجْرِمِ فِي وِدَادَتِهِ وَالضَّمِيرُ الْبَارِزُ فِي قَوْلِهِ: يُنْجِيهِ عَائِدٌ إِلَى الِافْتِدَاءِ الْمَفْهُومِ مِنْ يَفْتَدِي عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [الْمَائِدَة: ٨].
وَالْمَعْطُوفُ بِ ثُمَّ هُوَ الْمُسَبَّبُ عَنِ الْوِدَادَةِ فَلِذَلِكَ كَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يُعْطَفَ بِالْفَاءِ وَهُوَ الْأَكْثَرُ فِي مِثْلِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً [النِّسَاء: ٨٩] وَقَوْلُهُ: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [الْقَلَم: ٩]، فَعَدَلَ عَنْ عَطْفِهِ بِالْفَاءِ هُنَا إِلَى عَطْفِهِ بِ ثُمَّ لِلدَّلَالَةِ عَلَى شِدَّةِ اهْتِمَامِ الْمُجْرِمِ بِالنَّجَاةِ بِأَيَّةِ وَسِيلَةٍ.
وَمُتَعَلِّقُ يُنْجِيهِ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ.
وكَلَّا حَرْفُ رَدْعٍ وَإِبْطَالٍ لِكَلَامٍ سَابِقٍ، وَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يُذْكَرَ بَعْدَهُ كَلَامٌ، وَهُوَ هُنَا لِإِبْطَالِ مَا يُخَامِرُ نُفُوسَ الْمُجْرِمِ مِنَ الْوِدَادَةِ، نَزَلَ مَنْزِلَةَ الْكَلَامِ لِأَنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ أَوْ
لِإِبْطَالِ مَا يُتَفَوَّهُ بِهِ مِنْ تَمَنِّي ذَلِكَ. قَالَ تَعَالَى: يَقُولُ الْكافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
[النبأ:
٤٠]، أَلَا تَرَى أَنَّهُ عَبَّرَ عَنْ قَوْلِهِ ذَلِكَ بِالْوِدَادَةِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ [النِّسَاء: ٤٢] أَيْ يَصِيرُونَ مِنْ تُرَابِهَا.
فَالتَّقْدِيرُ: يُقَالُ لَهُ كَلَّا، أَيْ لَا افْتِدَاءَ وَلَا إِنْجَاءَ.
وَجُمْلَةُ إِنَّها لَظى اسْتِئْنَاف بياني ناشىء عَمَّا أَفَادَهُ حَرْفُ كَلَّا مِنَ الْإِبْطَالِ.
وَضَمِيرُ إِنَّها عَائِدٌ إِلَى مَا يُشَاهِدُهُ الْمُجْرِمُ قُبَالَتَهُ مِنْ مَرْأَى جَهَنَّمَ فَأَخْبَرَ
النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَدَ كُتَّابُ الْمَصَاحِفِ عَلَى إِحْدَاهُمَا وَهِيَ الَّتِي قَرَأَ بِهَا جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَخَاصَّةً عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَأَوْكَلُوا الْقِرَاءَةَ الْأُخْرَى إِلَى حفظ القارئين.
وَإِذ تَوَاتَرَتْ قِرَاءَةُ بِضَنِينٍ بِالضَّادِ السَّاقِطَةِ، وبظنين بِالظَّاءِ الْمُشَالَةِ عَلِمْنَا أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهُ بِالْوَجْهَيْنِ وَأَنَّهُ أَرَادَ كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ.
فَأَمَّا مَعْنَى «ضَنِينٍ» بِالضَّادِ السَّاقِطَةِ فَهُوَ الْبَخِيلُ الَّذِي لَا يُعْطِي مَا عِنْدَهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الضَّنِّ بِالضَّادِ مَصْدَرُ ضَنَّ، إِذا بَخِلَ، وَمُضَارِعُهُ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ.
فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ، أَيْ وَمَا صَاحِبُكُمْ بِبَخِيلٍ أَيْ بِمَا يُوحَى إِلَيْهِ وَمَا يُخْبِرُ بِهِ عَنِ الْأُمُورِ الْغَيْبِيَّةِ طَلَبًا لِلِانْتِفَاعِ بِمَا يُخْبِرُ بِهِ بِحَيْثُ لَا يُنْبِئُكُمْ عَنْهُ إِلَّا بِعِوَضٍ تُعْطُونَهُ، وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ نَفْيِ أَنْ يَكُونَ كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا يَتَلَقَّى الْأَخْبَارَ عَنِ الْجِنِّ إِذْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَتَرَدَّدُونَ عَلَى الْكُهَّانِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يُخْبِرُونَ بِالْمُغَيَّبَاتِ، قَالَ تَعَالَى: وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ [الحاقة: ٤١- ٤٢] فَأَقَامَ لَهُمُ الْفَرْقَ بَيْنَ حَالِ الْكُهَّانِ وَحَالِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ النَّبِيءَ لَا يَسْأَلُهُمْ عِوَضًا عَمَّا يُخْبِرُهُمْ بِهِ وَأَنَّ الْكَاهِنَ يَأْخُذُ عَلَى مَا يُخْبِرُ بِهِ مَا يُسَمُّونَهُ حُلْوَانًا، فَيَكُونُ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ [الْفرْقَان: ٥٧] قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً [الْأَنْعَام: ٩٠] وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ «ضَنِينٍ» مَجَازًا مُرْسَلًا فِي الْكِتْمَانِ بِعَلَاقَةِ اللُّزُومِ لِأَنَّ الْكِتْمَانَ بُخْلٌ بِالْأَمْرِ الْمَعْلُومِ لِلْكَاتِمِ، أَيْ مَا هُوَ بِكَاتِمٍ الْغَيْبَ، أَيْ مَا يُوحَى إِلَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ [يُونُس: ١٥] وَقَالُوا: وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ [الْإِسْرَاء: ٩٣].
وَيَتَعَلَّقُ عَلَى الْغَيْبِ بِقَوْلِهِ: بِضَنِينٍ وَحَرْفُ (عَلَى) عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بِمَعْنَى الْبَاءِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: حَقِيقٌ عَلى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ [الْأَعْرَاف: ١٠٥] أَيْ حَقِيقٌ بِي، أَوْ لِتَضْمِينِ «ضَنِينٍ» مَعْنَى حَرِيصٍ، وَالْحِرْصُ: شِدَّةُ الْبُخْلِ وَمَا مُحَمَّدٌ بِكَاتِمٍ شَيْئًا مِنَ الْغَيْبِ فَمَا أَخْبَرَكُمْ بِهِ فَهُوَ عَيْنُ مَا أَوْحَيْنَاهُ إِلَيْهِ. وَقَدْ يَكُونُ الْبَخِيلُ عَلَى هَذِهِ كِنَايَةً عَنْ كَاتِمٍ وَهُوَ كِنَايَةٌ بِمَرْتَبَةٍ أُخْرَى
الصفحة التالية