كَمَا أَظْهَرُوا هَمْزَةَ الْأُنَاسِ فِي قَوْلِ عَبِيدِ بْنِ الْأَبْرَصِ الْأَسَدِيِّ:

إِنَّ الْمَنَايَا لَيَطَّلِعْ نَ عَلَى الْأُنَاسِ الْآمِنِينَ
وَنَزَلَ هَذَا اللَّفْظُ فِي طَوْرِهِ الثَّالِثِ مَنْزِلَةَ الْأَعْلَامِ الشَّخْصِيَّةِ فَتَصَرَّفُوا فِيهِ هَذَا التَّصَرُّفَ لِيَنْتَقِلُوا بِهِ إِلَى طَوْرٍ جَدِيدٍ فَيَجْعَلُوهُ مِثْلَ عَلَمٍ جَدِيدٍ، وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ مَسْلُوكَةٌ فِي بَعْضِ الْأَعْلَامِ. قَالَ أَبُو الْفَتْحِ بْنُ جِنِّي فِي شَرْحِ قَوْلِ تَأَبَّطَ شَرًّا فِي النَّشِيدِ الثَّالِثِ عَشَرَ مِنَ «الْحَمَاسَةِ» :
إِنِّي لَمُهْدٍ مِنْ ثَنَائِي فَقَاصِدٌ بِهِ لِابْنِ عَمِّ الصِّدْقِ شُمْسِ بْنِ مَالِكٍ
شُمْسُ بِضَمِّ الشِّينِ وَأَصْلُهُ شَمْسُ بِفَتْحِهَا كَمَا قَالُوا حُجْرَ وَسُلْمَى فَيَكُونُ مِمَّا غُيِّرَ عَنْ نَظَائِرِهِ لِأَجْلِ الْعَلَمِيَّةِ اهـ. وَفِي «الْكَشَّافِ» فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ أَبِي لَهَبٍ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ أَنَّ مِنَ الْقُرَّاءِ مَنْ قَرَأَ (أَبِي لَهْبٍ) بِسُكُونِ الْهَاءِ مَا نَصَّهُ وَهِيَ مِنْ تَغْيِيرِ الْأَعْلَامِ كَقَوْلِهِمْ شُمْسُ بْنُ مَالِكٍ بِالضَّمِّ اهـ. وَقَالَ قَبْلَهُ: «وَلِفُلَيْتَةَ بْنِ قَاسِمٍ أَمِيرِ مَكَّة ابْنَانِ أحد هما عَبْدِ اللَّهِ بِالْجَرِّ، وَالْآخَرُ عَبْدَ اللَّهِ بِالنَّصْبِ، وَكَانَ بِمَكَّةَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ عَبْدِ اللَّهِ لَا يُعْرَفُ إِلَّا هَكَذَا» اهـ. يَعْنِي بِكَسْرِ دَالِ عَبْدِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِ إِعْرَابِهِ، فَهُوَ بِهَذَا الْإِيمَاءِ نَوْعٌ مَخْصُوصٌ مِنَ الْعَلَمِ، وَهُوَ أَنَّهُ أَقْوَى مِنَ الْعَلَمِ بِالْغَلَبَةِ لِأَنَّ لَهُ لَفْظًا جَدِيدًا بَعْدَ اللَّفْظِ الْمُغَلَّبِ. وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ فِي الْعَلَمِيَّةِ الَّتِي عَرَضَتْ لِاسْمِ الْجَلَالَةِ لَا نَظِيرَ لَهَا فِي الْأَعْلَامِ فَكَانَ اسْمُهُ تَعَالَى غَيْرُ مُشَابِهٍ لِأَسْمَاءِ الْحَوَادِثِ كَمَا أَنَّ مُسَمَّى ذَلِكَ الِاسْمِ غَيْرُ مُمَاثِلٍ لِمُسَمَّيَاتِ أَسْمَاءِ الْحَوَادِثِ. وَقَدْ دَلُّوا عَلَى تَنَاسِيهِمْ مَا فِي الْأَلِفِ وَاللَّامِ مِنَ التَّعْرِيف وَأَنَّهُمْ جعلو هما جُزْءًا مِنَ الْكَلِمَةِ بِتَجْوِيزِهِمْ نِدَاءَ اسْمِ الْجَلَالَةِ مَعَ إِبْقَاءِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ إِذْ يَقُولُونَ يَا اللَّهُ مَعَ أَنَّهُمْ يَمْنَعُونَ نِدَاءَ مَدْخُولِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ.
وَقَدِ احْتَجَّ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» عَلَى كَوْنِ أَصْلِهِ الْإِلَهَ بِبَيْت البعيث الْمُتَقَدّم، وَلَمْ يُقَرِّرْ نَاظِرُوهُ وَجْهَ احْتِجَاجِهِ بِهِ، وَهُوَ احْتِجَاجٌ وَجِيهٌ لِأَنَّ مَعَاذَ مِنَ الْمَصَادِرِ الَّتِي لَمْ تَرِدْ فِي اسْتِعْمَالِهِمْ مُضَافَةً لِغَيْرِ اسْمِ الْجَلَالَةِ، مِثْلَ سُبْحَانَ فأجريت مجْرى أَمْثَال فِي لُزُومِهَا لهاته الْإِضَافَة، إِذا تَقُولُ مَعَاذَ اللَّهِ فَلَمَّا قَالَ الشَّاعِرُ مَعَاذَ الْإِلَهِ وَهُوَ مِنْ فُصَحَاءِ اللِّسَانِ عَلِمْنَا أَنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ الْإِلَهَ أَصْلًا لِلَفْظِ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ هَذَا التَّصَرُّفُ تَغْيِيرًا إِلَّا أَنَّهُ تَصَرَّفٌ فِي حُرُوفِ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ كَاخْتِلَافِ وُجُوهِ الْأَدَاءِ مَعَ كَوْنِ اللَّفْظِ وَاحِدًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُمُ احْتَجُّواُُ
بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا يُفْطِرُ يَوْمَهُ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ، وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي ثَوْرٍ، فَإِنْ أَفْطَرَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ، وَبَالَغَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ فَقَالَ: عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ كِنَانَةَ وَالْمَخْزُومِيِّ، وَمِنَ الْعَجَبِ اخْتِيَارُ ابْنِ الْعَرَبِيِّ إِيَّاهُ، وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ لِأَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ لَهُ الْفِطْرَ بِنَصِّ الْكِتَابِ، وَلَقَدْ أَجَادَ أَبُو عُمَرَ، وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَالشَّعْبِيُّ: يُفْطِرُ إِذَا سَافَرَ بَعْدَ الصُّبْحِ
وَرَوَوْهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَهُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي يَشْهَدُ لَهُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي «صَحِيحَيِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ» «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ، فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ عُسْفَانَ ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَرَفَعَهُ إِلَى يَدَيْهِ لِيُرِيَهُ فَأَفْطَرَ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ»
، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ فَسَقَطَ مَا يُخَالِفُهُ.
وَإِنَّمَا قَالَ تَعَالَى: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَلَمْ يَقُلْ: فَصِيَامُ أَيَّامٍ أُخَرَ، تَنْصِيصًا عَلَى وُجُوبِ صَوْمِ أَيَّامٍ بِعَدَدِ أَيَّامِ الْفِطْرِ فِي الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ إِذِ الْعَدَدُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى مِقْدَارٍ مُمَاثِلٍ. فَمِنْ لِلتَّبْعِيضِ إِنِ اعْتُبِرَ أَيَّامٍ أَعَمَّ مِنْ أَيَّامِ الْعِدَّةِ أَيْ مِنْ أَيَّامِ الدَّهْرِ أَوِ السَّنَةِ، أَوْ تَكُونُ مِنْ تَمْيِيزَ عِدَّةٌ أَيْ عِدَّةٌ هِيَ أَيَّامٌ مِثْلَ قَوْلِهِ: بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ [آل عمرَان:
١٢٥].
وَوَصَفَ الْأَيَّامَ بِأُخَرَ وَهُوَ جَمْعُ الْأُخْرَى اعْتِبَارًا بِتَأْنِيثِ الْجَمْعِ إِذْ كُلُّ جَمْعٍ مُؤَنَّثٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى آنِفًا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ قَالَ أَبُو حَيَّانَ: وَاخْتِيرَ فِي الْوَصْفِ صِيغَةُ الْجَمْعِ دُونَ أَنْ يُقَالَ أُخْرَى لِئَلَّا يُظَنَّ أَنَّهُ وَصْفٌ لِعِدَّةٍ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ هَذَا الظَّنَّ لَا يُوقِعُ فِي لَبْسٍ لِأَنَّ عِدَّةَ الْأَيَّامِ هِيَ أَيَّامٌ فَلَا يعتني بِدفع مثل هَذَا الظَّنِّ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ
الْعُدُولَ عَنْ أُخْرَى لِمُرَاعَاةِ صِيغَةِ الْجَمْعِ فِي الْمَوْصُوفِ مَعَ طَلَبِ خِفَّةِ اللَّفْظِ.
وَلَفْظُ (أُخَرَ) مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّرْفِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَعَلَّلَ جُمْهُورُ النَّحْوِيِّينَ مَنْعَهُ مِنَ الصَّرْفِ عَلَى أُصُولِهِمْ بِأَنَّ فِيهِ الْوَصْفِيَّةَ وَالْعَدْلَ، أما الوصفية ظَاهِرَة وَأما الْعَدْلُ فَقَالُوا: لَمَّا كَانَ جَمْعُ آخَرَ وَمُفْرَدُهُ بِصِيغَةِ اسْمِ التَّفْضِيلِ وَكَانَ غَيْرَ مُعَرَّفٍ بِاللَّامِ كَانَ حَقُّهُ أَنْ يَلْزَمَ الْإِفْرَادَ وَالتَّذْكِيرَ جَرْيًا عَلَى سُنَنِ أَصْلِهِ وَهُوَ اسْمُ التَّفْضِيلِ إِذَا جُرِّدَ مِنَ التَّعْرِيفِ بِاللَّامِ وَمِنَ الْإِضَافَةِ إِلَى الْمَعْرِفَةِ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْإِفْرَادَ وَالتَّذْكِيرَ فَلَمَّا نَطَقَ بِهِ الْعَرَبُ مُطَابِقًا لِمَوْصُوفِهِ فِي التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ عَلِمْنَا أَنَّهُمْ عَدَلُوا بِهِ عَنْ أَصْلِهِ (وَالْعُدُولُ عَنِ الْأَصْلِ يُوجِبُ الثِّقَلَ عَلَى اللِّسَانِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَادِ الِاسْتِعْمَالِ) فَخَفَّفُوهُ لِمَنْعِهِ مِنَ الصَّرْفِ وَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ فِي تَثْنِيَتِهِ وَجَمْعِهِ بِالْأَلِفِ وَالنُّونِ لِقِلَّةِ وُقُوعِهِمَا، وَفِيهِ مَا فِيهِ.
بِمَا لَا أَعْلَمُ». وَجَاءَ فِي زَمَنِ عُمَرَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- رَجُلٌ إِلَى الْمَدِينَةِ مِنَ الْبَصْرَةِ، يُقَالُ لَهُ صَبِيغُ بْنُ شَرِيكٍ أَوِ ابْنُ عَسَلٍ التَّمِيمِيُّ (١) فَجَعَلَ يَسْأَلُ النَّاسَ عَنْ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ، وَعَنْ أَشْيَاءَ فَأَحْضَرَهُ عُمَرُ، وَضَرَبَهُ ضَرْبًا مُوجِعًا، وَكَرَّرَ ذَلِكَ أَيَّامًا، فَقَالَ: «حَسْبُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَدْ ذَهَبَ مَا كُنْتُ أَجِدُ فِي رَأْسِي» ثُمَّ أَرْجَعَهُ إِلَى الْبَصْرَةِ وَكَتَبَ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنْ يَمْنَعَ النَّاسَ مِنْ مُخَالَطَتِهِ. وَمِنَ السَّلَفِ مَنْ تَأَوَّلَ عِنْدَ عُرُوضِ الشُّبْهَةِ لِبَعْضِ النَّاسِ، كَمَا فَعَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْعَوَاصِمِ مِنَ الْقَوَاصِمِ» - «مِنَ الْكَائِدِينَ لِلْإِسْلَامِ الْبَاطِنِيَّةُ وَالظَّاهِرِيَّةُ». قُلْتُ: أَمَّا الْبَاطِنِيَّةُ فَقَدْ جَعَلُوا مُعْظَمَ الْقُرْآنِ مُتَشَابِهًا، وَتَأَوَّلُوهُ بِحَسَبِ أَهْوَائِهِمْ، وَأَمَّا الظَّاهِرِيُّونَ فَقَدْ أَكْثَرُوا فِي مُتَشَابِهِهِ، وَاعْتَقَدُوا سَبَبَ التَّشَابُهِ وَاقِعًا، فَالْأَوَّلُونَ دَخَلُوا فِي قَوْلِهِ: وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ، وَالْأَخِيرُونَ خَرَجُوا مِنْ قَوْلِهِ: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ أَوْ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، فَخَالَفُوا الْخَلَفَ وَالسَّلَفَ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ- «فِي الْعَوَاصِمِ» - «وَأَصْلُ الظَّاهِرِيِّينَ الْخَوَارِجُ الَّذِينَ قَالُوا: لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ» يَعْنِي أَنَّهُمْ أَخَذُوا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ وَلَمْ يَتَأَوَّلُوهُ بِمَا هُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْحُكْمِ.
وَالْمُرَادُ بِالرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ: الَّذِينَ تَمَكَّنُوا فِي عِلْمِ الْكِتَابِ، وَمَعْرِفَةِ مَحَامِلِهِ، وَقَامَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْأَدِلَّةِ مَا أَرْشَدَهُمْ إِلَى مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى، بِحَيْثُ لَا تَرُوجُ عَلَيْهِمُ الشُّبَهُ. وَالرُّسُوخُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الثَّبَاتُ وَالتَّمَكُّنُ فِي الْمَكَانِ، يُقَالُ: رَسَخَتِ الْقَدَمُ تَرْسَخُ رُسُوخًا إِذَا ثَبَتَتْ عِنْدَ الْمَشْيِ وَلَمْ تَتَزَلْزَلْ، وَاسْتُعِيرَ الرُّسُوخُ لِكَمَالِ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ بِحَيْثُ لَا تُضَلِّلُهُ الشُّبَهُ، وَلَا تَتَطَرَّقُهُ الْأَخْطَاءُ غَالِبًا، وَشَاعَتْ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةُ حَتَّى صَارَتْ كَالْحَقِيقَةِ. فَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ: الثَّابِتُونَ فِيهِ الْعَارِفُونَ بِدَقَائِقِهِ، فَهُمْ يُحْسِنُونَ مَوَاقِعَ التَّأْوِيلِ، وَيَعْلَمُونَهُ.
وَلِذَا فَقَوْلُهُ: وَالرَّاسِخُونَ مَعْطُوفٌ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ، وَفِي هَذَا الْعَطْفِ تَشْرِيفٌ عَظِيمٌ: كَقَوْلِهِ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ [آل عمرَان: ١٨] وَإِلَى هَذَا التَّفْسِيرِ مَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ،
وَالشَّافِعِيَّةُ، وَابْنُ فَوْرَكٍ، وَالشَّيْخُ أَحْمَدُ الْقُرْطُبِيُّ، وَابْنُ عَطِيَّةَ، وَعَلَى هَذَا فَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ اسْتَأْثَرَ
_________
(١) صبيغ بصاد مُهْملَة وباء مُوَحدَة وتحتية وغين مُعْجمَة بِوَزْن أَمِير- وَعسل- بِعَين مُهْملَة مَكْسُورَة وسين مُهْملَة سَاكِنة.
وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ بَدَلٌ مِنَ الَّذِينَ نافَقُوا، أَوْ صِفَةٌ لَهُ، إِذَا كَانَ مَضْمُونُ صِلَتِهِ أَشْهَرَ عِنْدَ السَّامِعِينَ، إِذْ لَعَلَّهُمْ عُرِفُوا مِنْ قَبْلُ بِقَوْلِهِمْ فِيمَا تَقَدَّمَ لَوْ كانُوا عِنْدَنا مَا ماتُوا وَما قُتِلُوا فَذَكَرَ هُنَا وَصْفًا لَهُمْ لِيَتَمَيَّزُوا كَمَالَ تَمْيِيزٍ. وَاللَّامُ فِي (لِإِخْوَانِهِمْ) لِلتَّعْلِيلِ وَلَيْسَتْ لِلتَّعْدِيَةِ، قَالُوا: كَمَا هِيَ فِي قَوْله: وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ [آل عمرَان: ١٥٦].
وَالْمُرَادُ بِالْإِخْوَانِ هَنَا عَيْنُ الْمُرَادِ هُنَاكَ، وَهُمُ الْخَزْرَجُ الَّذِينَ قُتِلُوا يَوْمَ أُحُدٍ، وَهُمْ مِنْ جِلَّةِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَجُمْلَةُ وَقَعَدُوا حَالٌ مُعْتَرِضَةٌ، وَمَعْنَى لَوْ أَطَاعُونَا أَيِ امْتَثَلُوا إِشَارَتَنَا فِي عَدَمِ الْخُرُوجِ إِلَى أُحُدٍ، وَفَعَلُوا كَمَا فَعَلْنَا، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مَا قُتِلُوا- بِتَخْفِيفِ التَّاءِ- من الْقَتْل.
وقرأه هِشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ- بِتَشْدِيدِ التَّاءِ- مِنَ التَّقْتِيلِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْقَتْلِ، وَهُوَ يُفِيدُ مَعْنَى تَفْظِيعِهِمْ مَا أَصَابَ إِخْوَانَهُمْ مِنَ الْقَتْلِ طَعْنًا فِي طَاعَتِهِمُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَوله: قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أَي ادرأوه عِنْدَ حُلُولِهِ، فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَمُتْ بِالسَّيْفِ مَاتَ بِغَيْرِهِ أَيْ: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي أَنَّ سَبَبَ مَوْتِ إخْوَانكُمْ هُوَ
عصين أَمركُم.
[١٦٩- ١٧٢]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ١٦٩ إِلَى ١٧٢]
وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١) الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ
قَتَلْتُ بِهِ فِهْرًا وَحَمَّلْتُ عَقْلَهُ سُرَاةَ بَنِي النَّجَّارِ أَرْبَابَ فَارِعِ (١)
حَلَلْتُ بِهِ وِتْرِي وَأَدْرَكْتُ ثَأْرَتِي وَكُنْتُ إِلَى الْأَوْثَانِ أَوَّلَ رَاجِعِ
وَقَدْ أَهْدَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَمَهُ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، فَقُتِلَ بِسُوقِ مَكَّةَ.
وَقَوْلُهُ: خالِداً فِيها مَحْمَلُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ عَلَى طُولِ الْمُكْثِ فِي النَّارِ لِأَجْلِ قَتْلِ الْمُؤْمِنِ عَمْدًا، لِأَنَّ قَتْلَ النَّفْسِ لَيْسَ كُفْرًا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَا خُلُودَ فِي النَّارِ إِلَّا لِلْكُفْرِ، عَلَى قَوْلِ عُلَمَائِنَا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، فَتَعَيَّنَ تَأْوِيلُ الْخُلُودِ بِالْمُبَالَغَةِ فِي طُولِ الْمُكْثِ،
وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ عَرَبِيٌّ. قَالَ النَّابِغَةُ فِي مَرَضِ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ:
وَنَحْنُ لَدَيْهِ نَسْأَلُ اللَّهَ خُلْدَهُ يَرُدُّ مَلْكًا وَلِلْأَرْضِ عَامِرَا
وَمَحْمَلُهُ عِنْدَ مَنْ يُكَفِّرُ بِالْكَبَائِرِ مِنَ الْخَوَارِجِ، وَعِنْدَ مَنْ يُوجِبُ الْخُلُودَ عَلَى أَهْلِ الْكَبَائِرِ، عَلَى وَتِيرَةِ إِيجَابِ الْخُلُودِ بِارْتِكَابِ الْكَبِيرَةِ.
وَكِلَا الْفَرِيقَيْنِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ تَرِدُ عَلَى جَرِيمَةِ قَتْلِ النَّفْسِ عَمْدًا، كَمَا تَرِدُ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْكَبَائِرِ، إِلَّا أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ شَذَّ شُذُوذًا بَيِّنًا فِي مَحْمَلِ هَذِهِ الْآيَةِ: فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ قَاتِلَ النَّفْسِ مُتَعَمِّدًا لَا تُقْبَلُ لَهُ تَوْبَةٌ، وَاشْتَهَرَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعُرِفَ بِهِ، أَخْذًا بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ قَالَ:
آيَةٌ اخْتَلَفَ فِيهَا أَهْلُ الْكُوفَةِ، فَرَحَلْتُ فِيهَا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَسَأَلْتُهُ عَنْهَا، فَقَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها الْآيَةَ: هِيَ آخِرُ مَا نَزَلَ وَمَا نَسَخَهَا شَيْءٌ، فَلَمْ يَأْخُذْ بِطَرِيقِ التَّأْوِيلِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي تَأْوِيلِ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
فَحَمَلَهُ جَمَاعَةٌ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَقَالُوا: إِنَّ مُسْتَنَدَهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ هِيَ آخِرُ مَا نَزَلَ، فَقَدْ نَسَخَتِ الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا، الَّتِي تَقْتَضِي عُمُومَ التَّوْبَةِ، مِثْلَ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاء: ١١٦]، فَقَاتِلُ النَّفْسِ مِمَّنْ لَمْ يَشَأِ اللَّهُ يَغْفِرَ لَهُ وَمِثْلُ قَوْلِهِ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى [طه: ٨٢]، وَمِثْلُ قَوْلِهِ:
وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً [الْفرْقَان: ٦٨، ٦٩].
_________
(١) فارع اسْم حصن فِي الْمَدِينَة لبني النجار.
طُوَالَ الْقَامَاتِ، وَمُدُنُهُمْ حَصِينَةٌ. فَلَمَّا سَمِعَ بَنُو إِسْرَائِيلَ ذَلِكَ وَهِلُوا وَبَكَوْا وَتَذَمَّرُوا عَلَى مُوسَى وَقَالُوا: لَوْ مُتْنَا فِي أَرْضِ مِصْرَ كَانَ خَيْرًا لَنَا مِنْ أَنْ تُغْنَمَ نِسَاؤُنَا وَأَطْفَالُنَا، فَقَالَ يُوشَعُ وَكَالِبٌ لِلشَّعْبِ: إِنْ رَضِيَ اللَّهُ عَنَّا يُدْخِلْنَا إِلَى هَذِهِ الْأَرْضِ وَلَكِنْ لَا تَعْصَوُا الرَّبَّ وَلَا تَخَافُوا مِنْ أَهْلِهَا، فَاللَّهُ مَعَنَا. فَأَبَى الْقَوْمُ مِنْ دُخُولِ الْأَرْضِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ لِمُوسَى: لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ مَنْ سِنُّهُ عِشْرُونَ سَنَةً فَصَاعِدًا هَذِهِ الْأَرْضَ إِلَّا يُوشَعَ وَكَالِبًا وَكُلُّكُمْ سَتُدْفَنُونَ فِي هَذَا الْقَفْرِ، وَيَكُونُ أَبْنَاؤُكُمْ رُعَاةً فِيهِ أَرْبَعِينَ سنة.
[٢٣- ٢٦]
[سُورَة الْمَائِدَة (٥) : الْآيَات ٢٣ إِلَى ٢٦]
قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٣) قالُوا يَا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً مَا دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (٢٤) قالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٥) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٦)
فُصِّلَتْ هَذِهِ الْجُمَلُ الْأَرْبَعُ جَرْيًا عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَةِ كَمَا بَيَّنَّاهُ سَالِفًا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَالرَّجُلَانِ هُمَا يُوشَعُ وَكَالِبٌ. وَوُصِفَ الرَّجُلَانِ بِأَنَّهُمْ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْخَوْفِ فِي قَوْلِهِ: يَخافُونَ الْخَوْفَ مِنَ الْعَدُوِّ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. جَعَلَ تَعْرِيفَهُمْ بِالْمَوْصُولِيَّةِ لِلتَّعْرِيضِ بِهِمْ بِمَذَمَّةِ الْخَوْفِ وَعَدَمِ
الشَّجَاعَةِ، فَيَكُونُ «مِنْ» فِي قَوْلِهِ: مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ اتِّصَالِيَّةً وَهِيَ الَّتِي فِي نَحْوِ قَوْلِهِمْ:
لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي، أَيْ يَنْتَسِبُونَ إِلَى الَّذِينَ يَخَافُونَ. وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ مُتَّصِفُونَ بِالْخَوْفِ بِقَرِينَةِ أَنَّهُمْ
أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مُقْتَرِنًا بِالَّذِي يَخْتَصُّ بِهِ وَنَظَرَ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى
[طه: ١١٨، ١١٩]. اهـ.
وَقَوْلُهُ: فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ جُعِلَ جَوَابًا لِلشَّرْطِ لِأَنَّهُ عِلَّةُ الْجَوَابِ الْمَحْذُوفِ وَالْجَوَابِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ، إِذِ التَّقْدِيرُ: وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَلَا مَانِعَ لَهُ لِأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ فِي الضُّرِّ وَالنَّفْعِ. وَقَدْ جَعَلَ هَذَا الْعُمُومَ تَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ [الْأَنْعَام: ١٨].
[١٨]
[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : آيَة ١٨]
وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١٨)
هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ [الْأَنْعَام: ١٧] الْآيَةَ، وَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ مَضْمُونَ كِلْتَيْهِمَا يُبْطِلُ اسْتِحْقَاقَ الْأَصْنَامِ الْعِبَادَةَ. فَالْآيَةُ الْأُولَى أَبْطَلَتْ ذَلِكَ بِنَفْيِ أَنْ يَكُونَ لِلْأَصْنَامِ تَصَرُّفٌ فِي أَحْوَالِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ أَبْطَلَتْ أَنْ يَكُونَ غَيْرُ اللَّهِ قَاهِرًا عَلَى أَحَدٍ أَوْ خَبِيرًا أَوْ عَالِمًا بِإِعْطَاءِ كُلِّ مَخْلُوقٍ مَا يُنَاسِبُهُ، وَلَا جَرَمَ أَنَّ الْإِلَهَ تَجِبُ لَهُ الْقُدْرَةُ وَالْعِلْمُ، وَهُمَا جِمَاعُ صِفَاتِ الْكَمَالِ، كَمَا تَجِبُ لَهُ صِفَاتُ الْأَفْعَالِ مِنْ نَفْعٍ وَضُرٍّ وَإِحْيَاءٍ وَإِمَاتَةٍ، وَهِيَ تَعَلُّقَاتٌ لِلْقُدْرَةِ أُطْلِقَ عَلَيْهَا اسْمُ الصِّفَاتِ عِنْدَ غَيْرِ الْأَشْعَرِيِّ نَظَرًا لِلْعُرْفِ، وَأَدْخَلَهَا الْأَشْعَرِيُّ فِي صِفَةِ الْقُدْرَةِ لِأَنَّهَا تَعَلُّقَاتٌ لَهَا، وَهُوَ التَّحْقِيقُ.
وَلِذَلِكَ تَتَنَزَّلُ هَذِهِ الْآيَةُ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا مَنْزِلَةَ التَّعْمِيمِ بَعْدَ التَّخْصِيصِ لِأَنَّ الَّتِي قَبْلَهَا ذكرت كَمَا تَصَرُّفِهِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ وَجَاءَتْ بِهِ فِي قَالَبِ تَثْبِيتِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَدَّمْنَا، وَهَذِهِ الْآيَةُ أَوْعَتْ قُدْرَتَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَعِلْمَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَذَلِكَ أَصْلُ جَمِيعِ الْفِعْلِ وَالصُّنْعِ.
وَالْقَاهِرُ الْغَالِبُ الْمُكْرِهُ الَّذِي لَا يَنْفَلِتُ مِنْ قُدْرَتِهِ مِنْ عُدِّيَ إِلَيْهِ فِعْلُ الْقَهْرِ.
وَقَدْ أَفَادَ تَعْرِيف الجزأين الْقَصْرَ، أَيْ لَا قَاهِرَ إِلَّا هُوَ، لِأَنَّ قَهْرَ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ الْقَهْرُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي لَا يَجِدُ الْمَقْهُورُ مِنْهُ مَلَاذًا، لِأَنَّهُ قَهْرٌ بِأَسْبَابٍ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ خَلْقَ مَا
يُدَافِعُهَا. وَمِمَّا يُشَاهَدُ مِنْهَا دَوْمًا النَّوْمُ وَكَذَلِكَ الْمَوْتُ. سُبْحَانَ مَنْ قَهَرَ الْعِبَادَ بِالْمَوْتِ.
وَالْمُرَادُ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَنَظَائِرِهَا، مِمَّا الْكَلَامُ فِيهِ عَلَى الْيَتِيمِ، بُلُوغُهُ الْقُوَّةَ الَّتِي يَخْرُجُ بِهَا مِنْ ضَعْفِ الصِّبَا، وَتِلْكَ هِيَ الْبُلُوغُ مَعَ صِحَّةِ الْعَقْلِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بُلُوغُهُ أَهْلِيَّةَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ.
وَمَا مُنِعَ الصَّبِيُّ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ إِلَّا لِضَعْفٍ فِي عَقْلِهِ بِخِلَافِ الْمُرَادِ مِنْهُ فِي أَوْصَافِ الرِّجَالِ فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ بُلُوغَ الرَّجُلِ مُنْتَهَى حَدِّ الْقُوَّةِ فِي الرّجال وَهُوَ الْأَرْبَعُونَ سَنَةً إِلَى الْخَمْسِينَ قَالَ تَعَالَى: حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً [الْأَحْقَاف: ١٥] وَقَالَ سُحَيْمُ بْنُ وَثِيلٍ:
أَخُو خَمْسِينَ مُجْتَمِعٌ أَشُدِّي ونجّذني مداورة الشّؤون
وَالْبُلُوغُ: الْوُصُولُ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي التَّدَرُّجِ فِي أَطْوَارِ الْقُوَّةِ الْمُخْرِجَةِ مِنْ وَهْنِ الصِّبَا.
وحَتَّى
غَايَةٌ لِلْمُسْتَثْنَى: وَهُوَ الْقُرْبَانُ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، أَيِ التَّصَرُّفُ فِيهِ إِلَى أَنْ
يَبْلُغَ صَاحِبُهُ أَشُدَّهُ أَيْ فَيُسَلِّمُ إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ [النِّسَاء: ٦] الْآيَةَ.
وَوَجْهُ تَخْصِيصِ حَقِّ الْيَتِيمِ فِي مَالِهِ بِالْحِفْظِ: أَنَّ ذَلِكَ الْحَقَّ مَظِنَّةُ الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِ مِنَ الْوَلِيِّ، وَهُوَ مَظِنَّةُ انْعِدَامِ الْمُدَافِعِ عَنْهُ، لِأَنَّهُ مَا مِنْ ضَعِيفٍ عِنْدَهُمْ إِلَّا وَلَهُ مِنَ الْأَقَارِبِ وَالْمَوَالِي مَنْ يَدْفَعُ عَنْهُ إِذَا اسْتَجَارَهُ أَوِ اسْتَنْجَدَهُ، فَأَمَّا الْيَتِيمُ فَإِنَّ الِاعْتِدَاءَ عَلَيْهِ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ أَقْرَبِ النَّاسِ إِلَيْهِ، وَهُوَ وَلِيُّهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَلِي الْيَتِيمَ عِنْدَهُمْ إِلَّا أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَيْهِ، وَكَانَ الْأَوْلِيَاءُ يَتَوَسَّعُونَ فِي أَمْوَالِ أَيْتَامِهِمْ، وَيَعْتَدُونَ عَلَيْهَا، وَيُضَيِّعُونَ الْأَيْتَامَ لِكَيْلَا يَنْشَأُوا نَشْأَةً يَعْرِفُونَ بِهَا حُقُوقَهُمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى [الضُّحَى: ٦] لِأَنَّ الْيَتِيمَ مَظِنَّةُ الْإِضَاعَةِ فَلِذَلِكَ لَمْ يُوَصِّ اللَّهُ تَعَالَى بِمَالِ غَيْرِ الْيَتِيمِ، لِأَنَّ صَاحِبَهُ يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ، أَوْ يَسْتَدْفِعُ بِأَوْلِيَائِهِ وَمُنْجِدِيهِ.
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ.
: «وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ». وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْهَا: «فَقَالَ: فَعَلَ اللَّهُ فِعْلًا فِي الْعَرْشِ سَمَّاهُ اسْتِوَاءً». قَدْ تَأَوَّلَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنَ الْأَشَاعِرَةِ تَأْوِيلَاتٍ، أَحْسَنُهَا: مَا جَنَحَ إِلَيْهِ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالِاسْتِوَاءِ الِاسْتِيلَاءُ بِقَرِينَةِ تَعْدِيَتِهِ بِحَرْفِ عَلَى، وَأَنْشَدُوا على وَجه الاستيناس لِذَلِكَ قَوْلَ الْأَخْطَلِ:
قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ بِغَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مُهْرَاقِ
وَأَرَاهُ بَعِيدًا، لِأَنَّ الْعَرْشَ مَا هُوَ إِلَّا مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ فَلَا وَجْهَ لِلْإِخْبَارِ بِاسْتِيلَائِهِ عَلَيْهِ، مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْأَخْطَلُ قَدِ انْتَزَعَهُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَدْ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: إِنَّ مَعَانِيَهُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ تَعْدِيَتِهِ بِعَلَى أَوْ بِإِلَى، قَالَ الْبُخَارِيُّ، عَنْ مُجَاهِدٍ: اسْتَوَى عَلَا عَلَى
الْعَرْشِ، وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ ارْتَفَعَ فَسَوَّى خَلْقَهُنَّ.
وَأَحْسَبُ أَنَّ اسْتِعَارَتَهُ تَخْتَلِفُ بِقَرِينَةِ الْحَرْفِ الَّذِي يُعَدَّى بِهِ فِعْلُهُ، فَإِنْ عُدِّيَ بِحَرْفِ (عَلَى) كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَنَظَائِرِهَا فَهُوَ مُسْتَعَارٌ مِنْ مَعْنَى الِاعْتِلَاءِ، مُسْتَعْمَلٌ فِي اعْتِلَاءٍ مَجَازِيٍّ يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى التَّمَكُّنِ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أُرِيدَ مِنْهُ التَّمْثِيلُ، وَهُوَ تَمْثِيلُ شَأْنِ تَصَرُّفِهِ تَعَالَى بِتَدْبِيرِ الْعَوَالِمِ، وَلِذَلِكَ نَجِدُهُ بِهَذَا التَّرْكِيبِ فِي الْآيَاتِ السَّبْعِ وَاقِعًا عَقِبَ ذِكْرِ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَالْمَعْنَى حِينَئِذٍ: خَلَقَهَا ثُمَّ هُوَ يُدَبِّرُ أُمُورَهَا تَدْبِيرَ الْمَلِكِ أُمُورَ مَمْلَكَتِهِ مُسْتَوِيًا عَلَى عَرْشِهِ. وَمِمَّا يُقَرِّبُ هَذَا الْمَعْنَى
قَول النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقْبِضُ اللَّهُ الْأَرْضَ وَيَطْوِي السَّمَاوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ»
. وَلِذَلِكَ أَيْضا عقب هَذَا التَّرْكِيبَ فِي مَوَاقِعِهِ كُلِّهَا بِمَا فِيهِ مَعْنَى التَّصَرُّفِ كَقَوْلِهِ هُنَا يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِلَخْ، وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ يُونُسَ [٣] : يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ، وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [٢] : وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ. وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ ألم السَّجْدَةِ [٤، ٥] : مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ. وَكَمَالُ هَذَاِِ
يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ مَا أَخَذُوهُ قَدْ أَفَاتَ عَلَيْهِمْ خَيْرَ الْآخِرَةِ.
وَفِي جعل الْآخِرَة خير لِلْمُتَّقِينَ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِ الَّذِينَ أَخَذُوا عَرَضَ الدُّنْيَا بِتِلْكَ الْكَيْفِيَّةِ لَمْ يَكُونُوا مِنَ الْمُتَّقِينَ، لِأَنَّ الْكِنَايَةَ عَنْ خُسْرَانِهِمْ خَيْرَ الْآخِرَةِ مَعَ إِثْبَاتِ كَوْنِ خَيْرِ الْآخِرَةِ لِلْمُتَّقِينَ تَسْتَلْزِمُ أَنَّ الَّذِينَ أَضَاعُوا خَيْرَ الْآخِرَةِ لَيْسُوا مِنَ الْمُتَّقِينَ، وَهَذِهِ مَعَانٍ كَثِيرَةٌ جَمَعَهَا قَوْلُهُ: وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ وَهَذَا مِنْ حَدِّ الْإِعْجَازِ الْعَجِيبِ.
وَوَقَعَتْ جُمْلَةُ: وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ إِلَى آخِرِهَا عَقِبَ الَّتِي قَبْلَهَا: لِأَنَّ مَضْمُونَهَا مُقَابِلُ حُكْمِ الَّتِي قَبْلَهَا إِذْ حُصِّلَ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا أَنَّ هَؤُلَاءِ الْخَلْفَ الَّذِينَ أَخَذُوا عَرَضَ الْأَدْنَى قَدْ فَرَّطُوا فِي مِيثَاقِ الْكِتَابِ، وَلَمْ يَكُونُوا مِنَ الْمُتَّقِينَ، فَعُقِّبَ ذَلِكَ بِبِشَارَةِ مَنْ كَانُوا ضِدَّ أَعْمَالِهِمْ، وَهُمُ الْآخِذُونَ بِمِيثَاقِ الْكِتَابِ وَالْعَامِلُونَ بِبِشَارَتِهِ بِالرُّسُلِ، وآمنوا بِمُحَمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأُولَئِكَ يَسْتَكْمِلُونَ أَجْرَهُمْ لِأَنَّهُمْ مُصْلِحُونَ. فَكُنِّيَ عَنِ الْإِيمَان بِمُحَمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ شِعَارُ دِينِ الْإِسْلَامِ، حَتَّى سُمِّيَ أَهْلُ الْإِسْلَامِ أَهْلَ الْقِبْلَةِ، فَالْمُرَادُ مِنْ هَؤُلَاءِ هُمْ مَنْ آمَنَ مِنَ الْيَهُودِ بِعِيسَى فِي الْجُمْلَةِ وَإِنْ لَمْ يَتَّبِعُوا النَّصْرَانِيَّةَ، لِأَنَّهُمْ وَجَدُوهَا مُبَدَّلَةً مُحَرَّفَةً فَبَقُوا فِي انْتِظَارِ الرَّسُولِ الْمُخَلِّصِ الَّذِي بَشَّرَتْ بِهِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ، ثُمَّ آمنُوا بِمُحَمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بُعِثَ: مِثْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ.
وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ: الْمُسْلِمُونَ، ثَنَاءٌ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمُ الْفَائِزُونَ فِي الْآخِرَةِ وَتَبْشِيرًا لَهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَسْلُكُونَ بِكِتَابِهِمْ مَسْلَكَ الْيَهُودِ بِكِتَابِهِمْ.
وَجُمْلَةُ: إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ خَبَرٌ عَنِ الَّذِينَ يُمَسِّكُونَ، وَالْمُصْلِحُونَ هُمْ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَهُمْ لِأَنَّهُمْ مُصْلِحُونَ، فَطُوِيَ ذِكْرُهُمُ اكْتِفَاءً بِشُمُولِ الْوَصْفِ لَهُمْ وَثَنَاءً عَلَيْهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ الإيجاز البديع.
[١٧١]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : آيَة ١٧١]
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧١)
عَادَ الْكَلَامُ إِلَى الْعِبْرَةِ بِقَصَصِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِأَنَّ قِصَّةَ رَفْعِ الطُّورِ عَلَيْهِمْ مِنْ أُمَّهَاتِ قَصَصِهِمْ، وَلَيْسَتْ مِثْلَ قِصَّةِ الْقَرْيَةِ الَّذِينَ اعْتَدَوْا فِي
وَالَّذِي أَرَاهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَهَمَّ مِنْهَا قِتَالُ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ النَّصَارَى كَمَا عَلِمْتَ وَلَكِنَّهَا أَدْمَجَتْ مَعَهُمُ الْمُشْرِكِينَ لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ أَحَدٌ أَنَّ الْأَمْرَ بِقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ يَقْتَضِي التَّفَرُّغَ لِقِتَالِهِمْ وَمُتَارَكَةِ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ.
فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ هُوَ الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ- إِلَى قَوْلِهِ- وَرَسُولُهُ
فَإِدْمَاجٌ. فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ اقْتِصَارَ الْقِتَالِ عَلَى مَنِ اجْتَمَعَتْ فِيهِمُ الصِّفَاتُ الْأَرْبَعُ بَلْ كُلُّ الصِّفَةِ الْمَقْصُودَةِ هِيَ الَّتِي أَرْدَفَتْ بِالتَّبْيِينِ بِقَوْلِهِ: مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَمَا عَدَاهَا إِدْمَاجٌ وَتَأْكِيدٌ لِمَا مَضَى، فَالْمُشْرِكُونَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ شَيْئًا مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لِأَنَّهُمْ لَا شَرِيعَةَ لَهُمْ فَلَيْسَ عِنْدَهُمْ حَلَالٌ وَحَرَامٌ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ وَهُوَ الْإِسْلَامُ وَأَمَّا الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَيُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَحْرِمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي دِينِهِمْ وَلَكِنَّهُمْ لَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ وَهُوَ الْإِسْلَامُ وَيَلْحَقُ بِهِمُ الْمَجُوسُ (١) فَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَدْيَانُ هِيَ الْغَالِبَةَ عَلَى أُمَمِ الْمَعْرُوفِ مِنَ الْعَالَمِ يَوْمَئِذٍ، فَقَدْ كَانَتِ الرُّومُ نَصَارَى، وَكَانَ فِي الْعَرَب النَّصَارَى فِي بِلَاد الشَّام وطي وَكَلْبٍ وَقُضَاعَةَ وَتَغْلِبَ وَبَكْرٍ، وَكَانَ الْمَجُوسُ بِبِلَادِ الْفُرْسِ وَكَانَ فِرَقٌ مِنَ الْمَجُوسِ فِي الْقَبَائِلِ الَّتِي تَتْبَعُ مُلُوكَ الْفُرْسِ مِنْ تَمِيمٍ وَبَكْرٍ وَالْبَحْرَيْنِ، وَكَانَتِ الْيَهُودُ فِي خَيْبَرَ وَقُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ وَأَشْتَاتٌ فِي بِلَادِ الْيَمَنِ وَقَدْ تَوَفَّرَتْ فِي أَصْحَابِ هَذِهِ الْأَدْيَانِ مِنْ أَسْبَابِ الْأَمْرِ بِقِتَالِهِمْ مَا أَوْمَأَ إِلَيْهِ اخْتِيَارُ طَرِيقِ الْمَوْصُولِيَّةِ لِتَعْرِيفِهِمْ بِتِلْكَ الصِّلَاتِ لِأَنَّ الْمَوْصُولِيَّةَ أَمْكَنُ طَرِيقٍ فِي اللُّغَةِ لِحِكَايَةِ أَحْوَالِ كَفْرِهِمْ.
وَلَا تَحْسَبَنَّ أَنَّ عَطْفَ جُمَلٍ عَلَى جُمْلَةِ الصِّلَةِ يَقْتَضِي لُزُومَ اجْتِمَاعِ تِلْكَ الصِّلَاتِ لِكُلِّ مَا صَدَقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَوْصُولِ، فَإِنَّ الْوَاو لَا تقيد إِلَّا مُطْلَقَ الْجَمْعِ فِي الْحُكْمِ فَإِنَّ اسْمَ الْمَوْصُولِ قَدْ يَكُونُ مُرَادًا بِهِ وَاحِدٌ فَيَكُونُ كَالْمَعْهُودِ بِاللَّامِ، وَقَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ جِنْسًا
_________
(١) الْمَجُوس أَتبَاع (زرادشت) صَاحب الدَّين الَّذِي ظهر بِفَارِس فِي السَّابِع قبل الْمَسِيح. وهم يُؤمنُونَ بإلهين اثْنَيْنِ إِلَه الْخَيْر واسْمه (هُرْمُز) وإله الشَّرّ واسْمه (أهرمز)، وَبَعْضهمْ يَقُول إِلَه النُّور وإله الظلمَة. وَقد عبدُوا النَّار وأنكروا الْبَعْث، وَزَعَمُوا أَن جَزَاء النُّفُوس يكون بطريقة التجانس للأرواح بِأَن تظهر الرّوح الصَّالِحَة فِي الذوات الصَّالِحَة وَالروح الشريرة فِي الْحَيَوَانَات الذميمة. [.....]
وَقَوْلُ الْعَرَبِ: مَا لَكَ؟ وَنَحْوَهُ اسْتِفْهَامٌ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الِاسْتِفْهَامِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ.
وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ، فَقَالَ النَّاسُ: «مَا لَهُ! مَا لَهُ!» فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرَبٌ مَا لَهُ»
. فَإِذَا كَانَ الْمُسْتَفْهَمُ عَنْهُ حَالًا ظَاهِرَةً لَمْ يَحْتَجْ إِلَى ذِكْرِ شَيْءٍ بَعْدَ (مَا لَهُ) كَمَا وَقَعَ فِي الْحَدِيثِ.
وَجَعَلَ الزَّجَّاجُ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْهُ فَقَالَ: فَما لَكُمْ: كَلَامٌ تَامٌّ، أَيْ شَيْءٍ لَكُمْ فِي عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَوَقَفَ الْقُرَّاءُ فَما لَكُمْ ثُمَّ يَبْدَأُ كَيْفَ تَحْكُمُونَ.
وَإِذَا كَانَ بِخِلَافِ ذَلِكَ أَتْبَعُوا الِاسْتِفْهَامَ بِحَالٍ وَهُوَ الْغَالِبُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا لَكُمْ لَا تَناصَرُونَ [الصافات: ٢٥] فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ [المدثر: ٤٩] وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ النُّحَاةِ: مِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ لَا يَتِمُّ بِدُونِ ذِكْرِ حَالٍ بَعْدَهُ، فَالْخِلَافُ بَيْنَ كَلَامِهِمْ وَكَلَامِ الزَّجَّاجِ لَفْظِيٌّ.
وَجُمْلَةُ: كَيْفَ تَحْكُمُونَ اسْتِفْهَامٌ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْبَيَانِ لِمَا فِي جملَة: فَما لَكُمْ مِنَ الْإِجْمَالِ وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ عَنْهَا فَهُوَ مِثْلُهُ اسْتِفْهَامٌ تَعْجِيبِيٌّ مِنْ حُكْمِهِمُ الضَّالِّ إِذْ حَكَمُوا بِإِلَهِيَّةِ مَنْ لَا يَهْتَدِي فَهُوَ تَعْجِيبٌ عَلَى تَعْجِيبٍ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ دَلِيلًا عَلَى حَال محذوفة.
[٣٦]
[سُورَة يُونُس (١٠) : آيَة ٣٦]
وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٣٦)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ [يُونُس: ٣٥] بِاعْتِبَارِ عَطْفِ تِلْكَ عَلَى نَظِيرَتَيْهَا الْمَذْكُورَتَيْنِ قَبْلَهَا، فَبَعْدَ أَنْ أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِأَنْ يُحِجَّهُمْ فِيمَا جَعَلُوهُمْ آلِهَةً وَهِيَ لَا تَصَرُّفَ وَلَا تَدْبِيرَ وَلَا هِدَايَةَ لَهَا، أَعْقَبَ ذَلِكَ بِأَنَّ عِبَادَتَهُمْ إِيَّاهَا اتِّبَاعٌ لِظَنٍّ بَاطِل، أَي لوهم لَيْسَ فِيهِ شُبْهَةُ حَقٍّ.
أَرَادَ سَاعَةَ، قِيلَ: يُغْدَى بِلَيْلَى، وَلِذَلِكَ قَالَ: يُغْدَى أَوْ يُرَاحُ، فَلَمْ يُرَاقِبْ مَا يُنَاسِبُ لَفْظَ لَيْلَةَ مِنَ الرَّوَاحِ.
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ يَأْتِ مَعْنَاهُ حِينَ يَأْتِي، وَضَمِيرُ (يَأْتِي) عَائِدٌ إِلَى يَوْمٌ مَشْهُودٌ [هود: ١٠٣] وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَالْمُرَادُ بِإِتْيَانِهِ وُقُوعُهُ وَحُلُولُهُ كَقَوْلِهِ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ [الزخرف: ٦٦].
فَقَوله: يَوْمَ يَأْتِ ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ.
وَجُمْلَةُ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ مُسْتَأْنَفَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ. قُدِّمَ الظَّرْفُ عَلَى فِعْلِهَا لِلْغَرَضِ الْمُتَقَدِّمِ.
وَالتَّقْدِيرُ: لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ حِينِ يَحُلُّ الْيَوْمُ الْمَشْهُودُ. وَالضَّمِيرُ فِي بِإِذْنِهِ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى الْمَفْهُومُ مِنَ الْمَقَامِ وَمِنْ ضمير نُؤَخِّرُهُ [هود: ١٠٤]. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنَ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً [النبأ: ٣٨]. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا إِبْطَالُ اعْتِقَادِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ أَنَّ الْأَصْنَامَ لَهَا حَقُّ الشَّفَاعَةِ عِنْدَ اللَّهِ.
ونَفْسٌ يَعُمُّ جَمِيعَ النُّفُوسِ لِوُقُوعِهِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، فَشَمَلَ النُّفُوسَ الْبَرَّةَ وَالْفَاجِرَةَ، وَشَمَلَ كَلَامَ الشَّافِعِ وَكَلَامَ الْمُجَادِلِ عَنْ نَفْسِهِ. وَفُصِّلَ عُمُومُ النُّفُوسِ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِهَا.
وَهَذَا التَّفْصِيلُ مُفِيدٌ تَفْصِيلَ النَّاسِ فِي قَوْلِهِ: مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ [هود: ١٠٣]، وَلَكِنَّهُ جَاءَ عَلَى هَذَا النَّسْجِ لِأَجْلِ مَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ مِنْ شِبْهِ الِاعْتِرَاضِ بِقَوْلِهِ: وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ [هود: ١٠٤] إِلَى قَوْلِهِ: بِإِذْنِهِ وَذَلِكَ نَسِيجٌ بَدِيعٌ.
وَالشَّقِيُّ: فَعِيلٌ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مِنْ شَقِيَ، إِذَا تَلَبَّسَ بِالشَّقَاءِ وَالشَّقَاوَةِ، أَيْ سُوءِ الْحَالَةِ
وَشَرِّهَا وَمَا يُنَافِرُ طَبْعَ الْمُتَّصِفِ بِهَا.
وَالسَّعِيدُ: ضِدَّ الشَّقِيِّ، وَهُوَ الْمُتَلَبِّسُ بِالسَّعَادَةِ الَّتِي هِيَ الْأَحْوَالُ الْحَسَنَةُ الْخَيِّرَةُ الْمُلَائِمَةُ لِلْمُتَّصِفِ بِهَا. وَالْمَعْنَى: فَمِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ مَنْ هُوَ فِي عَذَابٍ وَشِدَّةٍ وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ فِي نِعْمَةٍ وَرَخَاءٍ.
لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (٣٩).
تَذْيِيلٌ لِأَنَّهُ أَفَادَ عُمُومَ الْآجَالِ فَشَمِلَ أَجَلَ الْإِتْيَانِ بِآيَةٍ مِنْ قَوْلِهِ: وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ. وَذَلِكَ إِبْطَالٌ لِتَوَهُّمِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ تَأَخُّرَ الْوَعِيدِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ صِدْقِهِ. وَهَذَا يُنْظِرُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ [سُورَة العنكبوت: ٥٣] فَقَدَ قَالُوا: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ الْآيَة [سُورَة الْأَنْفَال: ٣٢].
وَإِذْ قَدْ كَانَ مَا سَأَلُوهُ مِنْ جُمْلَةِ الْآيَاتِ وَكَانَ مَا وَعَدُوهُ آيَةً عَلَى صِدْقِ الرِّسَالَةِ نَاسَبَ أَنْ يُذْكَرَ هُنَا أَنَّ تَأْخِيرَ ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ حُصُولِهِ، فَإِنَّ لِذَلِكَ آجَالًا أَرَادَهَا اللَّهُ وَاقْتَضَتْهَا حِكْمَتُهُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِخَلْقِهِ وَشُؤُونِهِمْ وَلَكِنَّ الْجَهَلَةَ يَقِيسُونَ تَصَرُّفَاتِ اللَّهِ بِمِثْلِ مَا
تَجْرِي بِهِ تَصَرُّفَاتُ الْخَلَائِقِ.
وَالْأَجَلُ: الْوَقْتُ الْمُوَقَّتُ بِهِ عَمَلٌ مَعْزُومٌ أَوْ مَوْعُودٌ.
وَالْكِتَابُ: الْمَكْتُوبُ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ التَّحْدِيدِ وَالضَّبْطِ، لِأَنَّ شَأْنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يُرَادُ تَحَقُّقُهَا أَنْ تُكْتَبَ لِئَلَّا يُخَالَفَ عَلَيْهَا. وَفِي هَذَا الرَّدِّ تَعْرِيضٌ بِالْوَعِيدِ. وَالْمَعْنَى: لِكُلِّ وَاقِعٍ أَجَلٌ يَقَعُ عِنْدَهُ، وَلِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ، أَيْ تَعْيِينٌ وَتَحْدِيدٌ لَا يَتَقَدَّمُهُ وَلَا يَتَأَخَّرُ عَنهُ.
وَجُمْلَة يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشاءُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ جُمْلَةَ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ تَقْتَضِي أَنَّ الْوَعِيدَ كَائِنٌ وَلَيْسَ تَأْخِيرُهُ مُزِيلًا لَهُ. وَلَمَّا كَانَ فِي ذَلِكَ تَأْيِيسٌ لِلنَّاسِ عَقَّبَ بِالْإِعْلَامِ بِأَنَّ التَّوْبَةَ مَقْبُولَةٌ وَبِإِحْلَالِ الرَّجَاءِ مَحَلَّ الْيَأْسِ، فَجَاءَت جملَة يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشاءُ وَيُثْبِتُ احْتِرَاسًا.
وَحَقِيقَةُ الْمَحْوِ: إِزَالَةُ شَيْءٍ، وَكَثُرَ فِي إِزَالَةِ الْخَطِّ أَوِ الصُّورَةِ، وَمَرْجِعُ ذَلِكَ إِلَى عَدَمِ الْمُشَاهَدَةِ، قَالَ تَعَالَى: فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ
وَفُسِّرَ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ بِأَنَّهُ عَيْنُ الذِّكْرِ الْمُنَزَّلِ، أَيْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَهُ للنَّاس، فَيكون إِظْهَارًا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِإِفَادَةِ أَنَّ إِنْزَالَ الذِّكْرِ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ إِنْزَالُهُ إِلَى النَّاسِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ [سُورَة الْأَنْبِيَاء: ١٠].
وَإِنَّمَا أُتِيَ بِلَفْظِهِ مَرَّتَيْنِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْإِنْزَالَيْنِ: فَإِنْزَالُهُ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَاشَرَةً، وَإِنْزَالُهُ إِلَى إِبْلَاغِهِ إِلَيْهِمْ.
فَالْمُرَادُ بِالتَّبْيِينِ عَلَى هَذَا تَبْيِينُ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْمَعَانِي، وَتَكُونُ اللَّامُ لِتَعْلِيلِ بعض
الحكم الحاقّة بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهَا كَثِيرَةٌ، فَمِنْهَا أَنْ يُبَيِّنَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَحْصُلُ فَوَائِدُ الْعِلْمِ وَالْبَيَانِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ [سُورَة آل عمرَان: ١٨٧].
وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ لِمَسَائِلِ تَخْصِيصِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ، وَبَيَانُ مُجْمَلِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ، وَتَرْجِيحُ دَلِيلِ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَلَى دَلِيلِ الْكِتَابِ عِنْدَ التَّعَارُضِ الْمَفْرُوضَاتِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ إِذْ كُلٌّ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ هُوَ من تَبْيِينُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ هُوَ وَاسِطَتُهُ.
عطف لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ حِكْمَةٌ أُخْرَى مِنْ حِكَمِ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ، وَهِيَ تَهْيِئَةُ تَفَكُّرِ النَّاسِ فِيهِ وَتَأَمُّلِهِمْ فِيمَا يُقَرِّبُهُمْ إِلَى رِضَى اللَّهِ تَعَالَى. فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي تَفْسِيرِ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ يَكُونُ الْمُرَادُ أَنْ يَتَفَكَّرُوا بِأَنْفُسِهِمْ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ وَفَهْمِ فَوَائِدِهِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي أَنْ يَتَفَكَّرُوا فِي بَيَانِكَ ويعوه بأفهامهم.
[٤٥]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٤٥]
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (٤٥)
بَعْدَ أَنْ ذُكِرَتْ مَسَاوِيهِمْ وَمَكَائِدُهُمْ وَبَعْدَ تَهْدِيدِهِمْ بِعَذَابِ يَوْمِ الْبَعْثِ تَصْرِيحًا وَبِعَذَابِ الدُّنْيَا تَعْرِيضًا، فَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ تَهْدِيدَهُمُ الصَّرِيحَ بِعَذَابِ الدُّنْيَا بِطَرِيقِ اسْتِفْهَامِ التَّعْجِيبِ مِنَ اسْتِرْسَالِهِمْ فِي الْمُعَانَدَةِ غَيْرُ مُقَدِّرِينَ أَنْ
وَوَصْفُ (تَبِيعٍ) يُنَاسِبُ حَالَ الضُّرِّ الَّذِي يَلْحَقُهُمْ فِي الْبَحْرِ، لِأَنَّ الْبَحْرَ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ رِجَالُ قَبِيلَةِ الْقَوْمِ وَأَوْلِيَاؤُهُمْ، فَلَوْ رَامُوا الثَّأْرَ لَهُمْ لَرَكِبُوا الْبَحْرَ لِيُتَابِعُوا آثَارَ مَنْ أَلْحَقَ بِهِمْ ضُرًّا. فَلِذَلِكَ قِيلَ هُنَا تَبِيعاً وَقِيلَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا وَكِيلًا كَمَا تَقَدَّمَ.
وَضَمِيرُ بِهِ عَائِدٌ إِمَّا إِلَى الْإِغْرَاقِ الْمَفْهُوم من فَيُغْرِقَكُمْ، وَإِمَّا إِلَى الْمَذْكُورِ مِنْ إِرْسَالِ الْقَاصِفِ وَغَيْرِهِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَلْفَاظَ يَخْسِفَ ويُرْسِلَ ويُعِيدَكُمْ وفَيُرْسِلَ وفَيُغْرِقَكُمْ خَمْسَتُهَا بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ. وَقَرَأَهَا ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو- بِنُونِ الْعَظَمَةِ- عَلَى الِالْتِفَاتِ مِنْ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ إِلَى ضَمِيرِ التَّكَلُّمِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ فَتُغْرِقَكُمْ بِمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ. وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الرِّيحِ عَلَى اعْتِبَارِ التَّأْنِيثِ، أَوْ عَلَى الرِّيَاحِ عَلَى قِرَاءَةِ أبي جَعْفَر.
[٧٠]
[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧) : آيَة ٧٠]
وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (٧٠)
اعْتِرَاضٌ جَاءَ بِمُنَاسَبَةِ الْعِبْرَةِ وَالْمِنَّةِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فَاعْترضَ بِذكر نعْمَة عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ فَأَشْبَهَ التَّذْيِيلَ لِأَنَّهُ ذُكِرَ بِهِ مَا يَشْمَلُ مَا تَقَدَّمَ.
وَالْمُرَادُ بِبَنِي آدَمَ جَمِيعُ النَّوْعِ، فَالْأَوْصَافُ الْمُثْبَتَةُ هُنَا إِنَّمَا هِيَ أَحْكَامٌ لِلنَّوْعِ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْأَحْكَامِ الَّتِي تُسْنَدُ إِلَى الْجَمَاعَاتِ.
وَقَدْ جَمَعَتِ الْآيَةُ خَمْسَ مِنَنٍ: التَّكْرِيمَ، وَتَسْخِيرَ الْمَرَاكِبِ فِي الْبَرِّ، وَتَسْخِيرَ الْمَرَاكِبِ فِي الْبَحْرِ، وَالرِّزْقَ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، وَالتَّفْضِيلَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ.
وَأَجْرَى عَلَى الْآلِهَةِ ضَمِيرَ الْعَاقِلِ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوهُمْ تَوَهَّمُوهُمْ عُقَلَاءَ مُدَبِّرِينَ.
وَالضَّمِيرَانِ فِي قَوْلِهِ: سَيَكْفُرُونَ ويَكُونُونَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَا عَائِدَيْنِ إِلَى آلِهَةً، أَيْ سَيُنْكِرُ الْآلِهَةُ عِبَادَةَ الْمُشْرِكِينَ إِيَّاهُمْ، فَعَبَّرَ عَنِ الْجُحُودِ وَالْإِنْكَارِ بِالْكُفْرِ، وَسَتَكُونُ الْآلِهَةُ ذُلًّا ضِدَّ الْعِزِّ.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّ ضَمِيرَ سَيَكْفُرُونَ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، أَيْ سَيَكْفُرُ الْمُشْرِكُونَ بِعِبَادَةِ الْآلِهَةِ فَيَكُونُ مُقَابِلَ قَوْلِهِ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً. وَفِيهِ تَمَامُ الْمُقَابَلَةِ، أَيْ بَعْدَ أَنْ تَكَلَّفُوا جَعْلَهُمْ آلِهَةً لَهُمْ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ، فَالتَّعْبِيرُ بِفِعْلِ سَيَكْفُرُونَ يُرَجِّحُ هَذَا الْحَمْلَ لِأَنَّ الْكُفْرَ شَائِعٌ فِي الْإِنْكَارِ الِاعْتِقَادِيِّ لَا فِي مُطْلَقِ الْجُحُودِ، وَأَنَّ ضَمِيرَ يَكُونُونَ لِلْآلِهَةِ وَفِيهِ تَشْتِيتُ الضَّمَائِرِ. وَلَا ضَيْرَ فِي ذَلِكَ إِذْ كَانَ السِّيَاقُ يُرْجِعُ كُلًّا إِلَى مَا يُنَاسِبُهُ، كَقَوْلِ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ:
عُدْنَا وَلَوْلَا نَحْنُ أَحْدَقَ جَمْعُهُمْ بِالْمُسْلِمِينَ وَأَحْرَزُوا مَا جَمَّعُوا
أَيْ: وَأَحْرَزَ جَمْعُ الْمُشْرِكِينَ مَا جَمَعَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْغَنَائِمِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرًا سَيَكْفُرُونَ ويَكُونُونَ رَاجِعَيْنِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ. وَأَن حَرْفُ الِاسْتِقْبَالِ لِلْحُصُولِ قَرِيبًا، أَيْ سَيَكْفُرُ الْمُشْرِكُونَ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَيَدْخُلُونَ فِي الْإِسْلَامِ وَيَكُونُونَ ضِدًّا عَلَى الْأَصْنَامِ يَهْدِمُونَ هَيَاكِلَهَا وَيَلْعَنُونَهَا، فَهُوَ بِشَارَةٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ دِينَهُ سَيَظْهَرُ عَلَى دِينِ الْكُفْرِ. وَفِي هَذِهِ الْمُقَابَلَةِ طِبَاقٌ مَرَّتَيْنِ.
وَالضِّدُّ: اسْمُ مَصْدَرٍ، وَهُوَ خِلَافُ الشَّيْءِ فِي الْمَاهِيَّةِ أَوِ الْمُعَامَلَةِ. وَمِنَ الثَّانِي تَسْمِيَةُ الْعَدُوِّ ضِدًّا. وَلِكَوْنِهِ فِي مَعْنَى الْمَصْدَرِ لَزِمَ فِي حَالِ الْوَصْفِ بِهِ حَالَةً وَاحِدَةً بِحَيْثُ لَا يُطَابق موصوفه.
فَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ فِي هَذَا إِلَى الْوَعْدِ الْمَوْعُودِ فِي الزَّبُورِ وَالْمُبَلَّغِ فِي الْقُرْآنِ.
وَالْمُرَادُ بِالْقَوْمِ الْعَابِدِينَ مَنْ شَأْنُهُمُ الْعِبَادَةُ لَا يَنْحَرِفُونَ عَنْهَا قَيْدَ أُنْمُلَةٍ كَمَا أَشْعَرَ بِذَلِكَ جَرَيَانُ وَصْفِ الْعَابِدِينَ عَلَى لَفْظِ قَوْمٍ الْمُشْعِرِ بِأَنَّ الْعِبَادَةَ هِيَ قِوَامُ قَوْمِيَّتِهِمْ كَمَا قَدَّمْنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آخِرِ [سُورَةِ يُونُسَ:
١٠١]. فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمُ الْوَعْدَ فَاجْتَهِدُوا فِي نَوَالِهِ. وَالْقَوْمُ الْعَابِدُونَ هُمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الموجودون يَوْمَئِذٍ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ.
وَالْعِبَادَةُ: الْوُقُوفُ عِنْدَ حُدُودِ الشَّرِيعَةِ. قَالَ تَعَالَى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمرَان: ١١٠]. وَقَدْ وَرِثُوا هَذَا الْمِيرَاثَ الْعَظِيمَ وَتَرَكُوهُ لِلْأُمَّةِ بَعْدَهُمْ، فَهُمْ فِيهِ أَطْوَارٌ كَشَأْنِ مُخْتَلِفِ أَحْوَالِ الرُّشْدِ وَالسَّفَهِ فِي التَّصَرُّفِ فِي مَوَارِيثِ الْأَسْلَافِ.
وَمَا أَشْبَهَ هَذَا الْوَعْدَ الْمَذْكُورَ هُنَا وَنَوْطَهُ بِالْعِبَادَةِ بِالْوَعْدِ الَّذِي وُعِدَتْهُ هَذِهِ الْأُمَّةُ فِي الْقُرْآنِ: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النُّور: ٥٥- ٥٦].
[١٠٧]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : آيَة ١٠٧]
وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧)
أُقِيمَتْ هَذِهِ السُّورَةُ عَلَى عِمَادِ إِثْبَاتِ الرِّسَالَةِ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَصْدِيقِ دَعْوَتِهِ. فَافْتُتِحَتْ بِإِنْذَارِ الْمُعَانِدِينَ بِاقْتِرَابِ
وَرَمَاهَا بِالزِّنَى. أَيْ بِمُجَرَّدِ السَّمَاعِ أَوْ بِرُؤْيَةِ رَجُلٍ فِي الْبَيْتِ فِي غَيْرِ حَالِ الزِّنَى، أَوْ بِقَوْلِهِ لَهَا: يَا زَانِيَةُ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَجْرِي مَجْرَى السَّبِّ وَالشَّتْمِ فَلَا يُشْرَعُ اللِّعَانُ. وَيُحَدُّ الزَّوْجُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ حَدَّ الْقَذْفِ لِأَنَّهُ افْتِرَاءٌ لَا بَيِّنَةَ عَلَيْهِ وَلَا عُذْرَ يَقْتَضِي تَخْصِيصَهُ إِذِ الْعُذْرُ هُوَ عَدَمُ تَحَمُّلِ رُؤْيَةِ امْرَأَتِهِ تَزْنِي وَعَدَمُ تَحَمُّلِ رُؤْيَةِ حَمْلٍ يَتَحَقَّقُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ: إِذَا قَالَ تَحَمَّلَ لَهَا: يَا زَانِيَةُ، وَجَبَ اللّعان، ذَهَابًا مِنْهُم إِلَى أَنَّ اللِّعَانَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ يَجْرِي فِي مُجَرَّدِ الْقَذْفِ أَيْضًا تَمَسُّكًا بِمُطْلَقِ لَفْظِ يَرْمُونَ.
وَيُقْدَحُ فِي قِيَاسِهِمْ أَنَّ بَيْنَ دَعْوَى الزِّنَى عَلَى الْمَرْأَةِ وَبَيْنَ السَّبِّ بِأَلْفَاظٍ فِيهَا نِسْبَةٌ إِلَى الزِّنَا فَرْقًا بَيِّنًا عِنْدَ الْفَقِيهِ. وَتَسْمِيَةُ الْقُرْآنِ أَيْمَانَ اللّعان شَهَادَة يومىء إِلَى أَنَّهَا لِرَدِّ دَعْوَى وَشَرْطُ تَرَتُّبِ الْآثَارِ عَلَى الدَّعْوَى أَنْ تَكُونَ مُحَقَّقَةً فَقَوْلُ مَالِكٍ أَرْجَحُ مِنْ قَوْلِ الْجُمْهُورِ لِأَنَّهُ أَغْوَصُ عَلَى الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَقَوْلُهُ: فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِلَخْ لَمَّا تَعَذَّرَ عَلَى الْأَزْوَاجِ إِلْفَاءُ الشَّهَادَةِ فِي مِثْلِ هَذَا الْحَالِ وَعَذَّرَهُمُ اللَّهُ فِي الِادِّعَاءِ بِذَلِكَ وَلَمْ يَتْرُكِ الْأَمْرَ سَبَهْلَلًا وَلَا تَرَكَ النِّسَاءَ مُضْغَةً فِي أَفْوَاهِ مَنْ يُرِيدُونَ التَّشْهِيرَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجِهِنَّ لِشِقَاقٍ أَوْ غَيْظٍ مُفْرِطٍ أَوْ حَمَاقَةٍ كَلَّفَ الْأَزْوَاجَ شَهَادَةً لَا تَعْسُرُ عَلَيْهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ فِيمَا يَدَّعُونَ فَأَوْجَبَ عَلَيْهِمُ الْحَلِفَ بِاللَّهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ لِتَقُومَ الْأَيْمَانُ مَقَامَ الشُّهُودِ الْأَرْبَعَةِ الْمَفْرُوضِينَ لِلزِّنَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ [النُّور: ٤] إِلَخْ.
وَسُمِّيَ الْيَمِينُ شَهَادَةً لِأَنَّهُ بَدَلٌ مِنْهَا فَهُوَ مَجَازٌ بِعَلَاقَةِ الْحُلُولِ الِاعْتِبَارِيِّ، وَأَنَّ صِيغَةَ الشَّهَادَةِ تُسْتَعْمَلُ فِي الْحَلِفِ كَثِيرًا وَهُنَا جُعِلَتْ بَدَلًا مِنَ الشَّهَادَةِ فَكَأَنَّ الْمُدَّعِي أَخْرَجَ مِنْ نَفْسِهِ أَرْبَعَة شُهُود هِيَ تِلْكَ الْأَيْمَانِ الْأَرْبَعِ.
وَمَعْنَى كَوْنِ الْأَيْمَانِ بَدَلًا مِنَ الشَّهَادَةِ أَنَّهَا قَائِمَةٌ مَقَامَهَا لِلْعُذْرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا فَلَا تَأْخُذُ جَمِيعَ أَحْكَامِ الشَّهَادَةِ، وَلَا يُتَوَهَّمُ أَنْ لَا تُقْبَلَ أَيْمَانُ اللِّعَانِ إِلَّا مِنْ عَدْلٍ فَلَوْ كَانَ فَاسِقًا لَمْ يُلْتَعَنَ وَلَمْ يُحَدَّ حَدَّ الْقَذْفِ بَلْ كُلُّ

[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ١٢١ إِلَى ١٢٢]

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٢١) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٢٢)
الْآيَةُ فِي قِصَّةِ نُوحٍ دَلَالَتُهَا عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يُقِرُّ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ رُسُلَهُ، فَفِي هَذِهِ الْقِصِّةِ آيَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وَهُمْ يَعْلَمُونَ قِصَّةَ نوح والطوفان.
[١٢٣- ١٢٧]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ١٢٣ إِلَى ١٢٧]
كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٢٥) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٢٦) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٢٧)
جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافَ تَعْدَادٍ لِأَخْبَارِ التَّسْلِيَةِ لِلرَّسُولِ وَتَكْرِيرِ الْمَوْعِظَةِ لِلْمُكَذِّبِينَ بَعْدَ جُمْلَةِ: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [الشُّعَرَاء: ١٠٥].
وَالْقَوْلُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ كَالْقَوْلِ فِي نَظِيرَتِهَا فِي أَوَّلِ قِصَّةِ نُوحٍ سَوَاءٌ، سِوَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ يُفِيدُ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا رَسُولَهُمْ هُودًا وَكَذَّبُوا رِسَالَةَ نُوحٍ لِأَنَّ هُودًا وَعَظَهُمْ بِمَصِيرِ قَوْمِ نُوحٍ فِي آيَةِ: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ فِي سُورَة الْأَعْرَاف [٦٩].
واقتران فِعْلُ كَذَّبَتْ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ لِأَنَّ اسْمَ عَادٍ عَلَمٌ عَلَى أمة فَهُوَ مؤوّل بِمَعْنَى الْأُمَّةِ.
وَالْقَوْلُ فِي أَلا تَتَّقُونَ مِثْلُ الْقَوْلِ فِي نَظِيرِهِ الْمُتَقَدِّمِ فِي قِصَّةِ قَوْمِ نُوحٍ. وَقَوْلُهُ:
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ هُوَ كَقَوْلِ نُوحٍ لِقَوْمِهِ، فَإِنَّ الرَّسُولَ لَا يُبْعَثُ إِلَّا وَقَدْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالْأَمَانَةِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ قَبْلَ الرِّسَالَةِ. وَيَدُلُّ لِكَوْنِ هُودٍ قَدْ كَانَ كَذَلِكَ فِي قَوْمِهِ قَوْلُ قَوْمِهِ لَهُ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ فِي سُورَةِ هُودٍ [٥٤] الدَّالُّ عَلَى أَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ تَغَيُّرَ حَالِهِ عَمَّا كَانَ مَعْرُوفًا بِهِ مِنْ قَبْلُ بِسَبَبِ سُوءِ اعْتِقَادِهِ فِي آلِهَتِهِمْ.
وَكَانَ يَصُدُّهُمْ عَنْ تَقَلُّدِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ أَسْبَابٌ مُغْرِيَةٌ مِنَ الْأَعْرَاضِ الزَّائِلَةِ الَّتِي فُتِنُوا بِهَا.
وَ (عَسَى) تَرَجٍّ لِتَمْثِيلِ حَالِهِمْ بِحَالِ مَنْ يُرْجَى مِنْهُ الْفَلَاحُ. وأَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ أَشَدُّ فِي إِثْبَاتِ الْفَلَاحِ مِنْ: أَنْ يُفْلِحَ، كَمَا تَقَدَّمَ غير مرّة.
[٦٨]
[سُورَة الْقَصَص (٢٨) : آيَة ٦٨]
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَيَخْتارُ مَا كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٨)
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَيَخْتارُ مَا كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ.
هَذَا مِنْ تَمَامِ الِاعْتِرَاضِ وَهِيَ جُمْلَةُ فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً [الْقَصَص:
٦٧] وَظَاهِرُ عَطْفِهِ عَلَى مَا قَبْلَهُ أَنَّ مَعْنَاهُ آيِلٌ إِلَى التَّفْوِيضِ إِلَى حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي خَلْقِ قُلُوبٍ مُنْفَتِحَةٍ لِلِاهْتِدَاءِ وَلَوْ بِمَرَاحِلَ، وَقُلُوبٍ غَيْرِ مُنْفَتِحَةٍ لَهُ فَهِيَ قَاسِيَةٌ صَمَّاءُ، وَأَنَّهُ الَّذِي اخْتَارَ فَرِيقًا عَلَى فَرِيقٍ. وَفِي «أَسْبَابِ النُّزُولِ» لِلْوَاحِدِيِّ «قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ نَزَلَتْ جَوَابًا لِلْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ حِينَ قَالَ فِيمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: ٣١] اه. يَعْنُونَ بِذَلِكَ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَعُرْوَةَ بْنَ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيَّ مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ. وَهُمَا الْمُرَادُ بِالْقَرْيَتَيْنِ. وَتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ. فَإِذا كَانَ كَذَلِك كَانَ اتِّصَالُ مَعْنَاهَا بِقَوْلِهِ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [الْقَصَص: ٦٥]، فَإِنَّ قَوْلَهُمْ لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَا أَجَابُوا بِهِ دَعْوَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ مِنَ الْبَشَرِ وَغَيْرِهِمْ وَيَخْتَارُ مِنْ بَيْنِ مَخْلُوقَاتِهِ لِمَا يَشَاءُ مِمَّا يَصْلُحُ لَهُ جِنْسُ مَا مِنْهُ الِاخْتِيَارُ، وَمِنْ ذَلِكَ اخْتِيَارُهُ لِلرِّسَالَةِ مَنْ يَشَاءُ إِرْسَالَهُ، وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رسالاته [الْأَنْعَام: ١٢٤]، وَأَنْ لَيْسَ ذَلِكَ لِاخْتِيَارِ النَّاسِ وَرَغَبَاتِهِمْ وَالْوَجْهَانِ لَا يَتَزَاحَمَانِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْكَلَامِ هُوَ قَوْلُهُ وَيَخْتارُ فَذَكَرَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُ أَعْلَمُ بِمَخْلُوقَاتِهِ.
وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى خَبَرِهِ الْفِعْلِيِّ يُفِيدُ الْقَصْرَ فِي هَذَا الْمَقَامِ إِنْ لُوحِظَ سَبَبُ النُّزُولِ أَيْ رَبُّكَ وَحْدُهُ لَا أَنْتُمْ تَخْتَارُونَ مَنْ يُرْسَلُ إِلَيْكُمْ.
وَجُوِّزَ أَنْ يَكُونَ مَا مِنْ قَوْلِهِ مَا كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مَوْصُولَةً مَفْعُولًا لِفِعْلِ
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ:
- يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ كَلَامِ لُقْمَانَ فَهِيَ كَالْمَقْصِدِ مِنَ الْمُقَدِّمَةِ أَوْ كَالنَّتِيجَةِ مِنَ الدَّلِيلِ، وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ وَلَمْ تُعْطَفْ لِأَنَّ النَّتِيجَةَ كَبَدَلِ الِاشْتِمَالِ يَشْتَمِلُ عَلَيْهَا الْقِيَاسُ وَلِذَلِكَ جِيءَ بِالنَّتِيجَةِ كُلِّيَّةً بَعْدَ الِاسْتِدْلَالِ بِجُزْئِيَّةٍ. وَإِنَّمَا لَمْ نَجْعَلْهَا تَعْلِيلًا لِأَنَّ مَقَامَ تَعْلِيمِ لُقْمَانَ ابْنَهُ يَقْتَضِي أَنَّ الِابْنَ جَاهِلٌ بِهَذِهِ الْحَقَائِقِ، وَشَرْطُ التَّعْلِيلِ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا مَعْلُومًا قَبْلَ الْعِلْمِ بِالْمُعَلَّلِ لِيَصِحَّ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ.
- وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ كَلَامِ لُقْمَانَ تَعْلِيمًا مِنَ اللَّهِ لِلْمُسْلِمِينَ.
وَاللَّطِيفُ: مَنْ يَعْلَمُ دَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ وَيَسْلُكُ فِي إِيصَالِهَا إِلَى مَنْ تَصْلُحُ بِهِ مَسْلَكَ الرِّفْقِ، فَهُوَ وَصْفٌ مُؤْذِنٌ بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ الْكَامِلَيْنِ، أَيْ يَعْلَمُ وَيُقَدِّرُ وَيُنَفِّذُ قُدْرَتَهُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ فِي سُورَة الْأَنْعَامِ [١٠٣]. فَفِي تَعْقِيبِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ بِوَصْفِهِ بِ (اللَّطِيفُ) إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ التَّمَكُّنَ مِنْهَا وَامْتِلَاكَهَا بِكَيْفِيَّةٍ دَقِيقَةٍ تُنَاسِبُ فَلْقَ الصَّخْرَةِ وَاسْتِخْرَاجَ الْخَرْدَلَةِ مِنْهَا مَعَ سلامتهما وَسَلَامَةِ مَا اتَّصَلَ بِهِمَا مِنِ اخْتِلَالِ نِظَامِ صُنْعِهِ. وَهُنَا قَدِ اسْتَوْفَى أُصُولَ الِاعْتِقَاد الصَّحِيح.
[١٧]
[سُورَة لُقْمَان (٣١) : آيَة ١٧]
يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى مَا أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٧)
انْتَقَلَ مِنْ تَعْلِيمِهِ أُصُولَ الْعَقِيدَةِ إِلَى تَعْلِيمِهِ أُصُولَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَابْتَدَأَهَا بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَالصَّلَاةُ التَّوَجُّهُ إِلَى اللَّهِ بِالْخُضُوعِ وَالتَّسْبِيحِ وَالدُّعَاءِ فِي أَوْقَاتٍ مُعَيَّنَةٍ فِي الشَّرِيعَةِ الَّتِي يَدِينُ بِهَا لُقْمَانُ، وَالصَّلَاةُ عِمَادُ الْأَعْمَالِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الِاعْتِرَافِ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَطَلَبِ الِاهْتِدَاءِ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ. وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ إِدَامَتُهَا وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى أَدَائِهَا فِي أَوْقَاتِهَا. وَتَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَشَمِلَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ الْإِتْيَانَ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ كُلِّهَا عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ لِيَتَطَلَّبَ

[سُورَة سبإ (٣٤) : آيَة ١٤]

فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (١٤)
تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ إِلَى قَوْلِهِ: وَقُدُورٍ راسِياتٍ [سبأ: ١٢، ١٣] أَيْ دَامَ عَمَلُهُمْ لَهُ حَتَّى مَاتَ فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ إِلَى آخِرِهِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَطُلْ وَقْتُهُ لِأَنَّ مِثْلَهُ فِي عَظَمَةِ مُلْكِهِ لَا بُدَّ أَنْ يَفْتَقِدَهُ أَتْبَاعُهُ، فَجُمْلَةُ مَا دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ الَخْ جَوَابُ «لَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ».
وَضَمِيرُ دَلَّهُمْ يَعُودُ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ، أَيْ أَهْلَ بَلَاطِهِ.
وَالدَّلَالَةُ: الْإِشْعَارُ بِأَمْرٍ خَفِيٍّ. وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ [سبأ: ٧].
ودَابَّةُ الْأَرْضِ هِيَ الْأَرَضَةُ (بِفَتَحَاتٍ ثَلَاثٍ) وَهِيَ السُّرْفَةُ بِضَمِّ السِّينِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْفَاءِ لَا مَحَالَةَ وَهَاءِ تَأْنِيثٍ: سُوسٌ يَنْخُرُ الْخَشَبَ. فَالْمُرَادُ مِنَ الْأَرْضِ مَصْدَرُ أَرَضَتِ السُّرْفَةُ الْخَشَبَ مِنْ بَابِ ضَرَبَ، وَقَدْ سَخَّرَ اللَّهُ لِمِنْسَأَةِ سُلَيْمَانَ كَثِيرًا مِنَ السُّرَفِ فَتَعَجَّلَ لَهَا النَّخْرُ.
وَجُمْلَةُ فَلَمَّا خَرَّ مُفَرَّعَةٌ عَلَى جُمْلَةِ مَا دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ. وَجُمْلَةُ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ جَوَاب «لمّا خَرَّ». وَالْمِنْسَأَةُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِهَا وَبِهَمْزَةٍ بَعْدَ السِّينِ، وَتُخَفَّفُ الْهَمْزَةُ فَتَصِيرُ
أَلِفًا هِيَ الْعَصَا الْعَظِيمَةُ، قِيلَ: هِيَ كَلِمَةٌ مِنْ لُغَةِ الْحَبَشَةِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو بِأَلِفٍ بَعْدَ السِّينِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ وَخَلَفٌ وَهِشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَ السِّينِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَ السِّينِ تَخْفِيفًا وَهُوَ تَخْفِيفٌ نَادِرٌ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ بِفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ وَالْمُوَحَّدَةِ وَالتَّحْتِيَّةِ. وَقَرَأَهُ رُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ بِضَمِّ الْفَوْقِيَّةِ وَالْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِ التَّحْتِيَّةِ بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، أَيْ تَبَيَّنَ النَّاسُ الْجِنَّ. وأَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنَ الْجِنِّ عَلَى كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ.
وَقَوْلُهُ: تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ إِسْنَادٌ مُبْهَمٌ فَصَّلَهُ قَوْلُهُ: أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ
والْكَرْبِ الْعَظِيمِ: هُوَ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْمَذَلَّةِ تَحْتَ سُلْطَةِ الْفَرَاعِنَةِ وَمِنَ اتِّبَاعِ فِرْعَوْنَ إِيَّاهُمْ فِي خُرُوجِهِمْ حِينَ تَرَاءَى الْجَمْعَانِ فَقَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشُّعَرَاء: ٦١] فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ يَضْرِبَ بِعَصَاهُ الْبَحْرَ فَضَرَبَهُ فَانْفَلَقَ وَاجْتَازَ مِنْهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ، ثُمَّ مَدَّ الْبَحْرُ أَمْوَاجَهَ عَلَى فِرْعَوْنَ وَجُنْدِهِ، عَلَى أَنَّ الْكَرْبَ الْعَظِيمَ أُطْلِقَ عَلَى الْغَرَقِ فِي قِصَّةِ نُوحٍ السَّابِقَةِ وَفِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى الْأُمَمِ الَّتِي مَرُّوا بِبِلَادِهَا مِنَ الْعَمَالِقَةِ وَالْأَمُورِيِّينَ فَكَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مُنْتَصِرِينَ فِي كُلِّ مَوْقِعَةٍ قَاتَلُوا فِيهَا عَنْ أَمْرِ مُوسَى وَمَا انْهَزَمُوا إِلَّا حِينَ أَقْدَمُوا عَلَى قِتَالِ الْعَمَالِقَةِ وَالْكَنْعَانِيِّينَ فِي سُهُولِ وَادِي (شُكُولَ) لِأَنَّ مُوسَى نَهَاهُمْ عَنْ قِتَالِهِمْ هُنَالِكَ كَمَا هُوَ مَسْطُورٌ فِي تَارِيخِهِمْ.
وهُمُ مِنْ قَوْلِهِ: فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ ضَمِيرُ فَصْلٍ وَهُوَ يُفِيدُ قَصْرًا، أَيْ هُمُ الْغَالِبِينَ لِغَيْرِهِمْ وَغَيْرُهُمْ لَمْ يَغْلِبُوهُمْ، أَيْ لَمْ يُغْلَبُوا وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً فَإِنَّ الْمُنْتَصِرَ قَدْ يَنْتَصِرُ بَعْدَ أَنْ يُغْلَبَ فِي مواقع.
[١١٧- ١٢٢]
[سُورَة الصافات (٣٧) : الْآيَات ١١٧ إِلَى ١٢٢]
وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (١١٧) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (١١٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (١٢٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٢١)
إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٢٢)
الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ: هُوَ التَّوْرَاةُ، وَالْمُسْتَبِينُ الْقَوِيُّ الْوُضُوحِ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ يُقَالُ: اسْتَبَانَ الشَّيْءُ إِذَا ظَهَرَ ظُهُورًا شَدِيدًا.
وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ الْإِيتَاءِ إِلَى ضَمِيرِ مُوسَى وَهَارُونَ مَعَ أَنَّ الَّذِي أُوتِيَ التَّوْرَاةَ هُوَ مُوسَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٤٩] مِنْ حَيْثُ إِنَّ هَارُونَ كَانَ مُعَاضِدًا لِمُوسَى فِي رِسَالَتِهِ فَكَانَ لَهُ حَظٌّ مِنْ إِيتَاءِ التَّوْرَاةِ كَمَا قَالَ اللَّهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً [الْأَنْبِيَاء: ٤٨] وَهَذَا مِنِ اسْتِعْمَالِ الْإِيتَاءِ فِي مَعْنَيَيْهِ الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ.
والصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ: الدِّينَ الْحَقَّ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ، وَقَدْ كَانَتْ شَرِيعَةُ التَّوْرَاةِ يَوْمَ أُوتِيهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هِيَ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ فَلَمَّا نُسِخَتْ
مِنْ ذَلِكَ أَوِ اعْتَرَفُوا بِغَلَطِهِمْ وَتَوْرِيطِهِمْ قَوْمَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ تَمَالَأَ الْجَمِيعُ عَلَى مُحَاوَلَةِ طَلَبِ تَخْفِيفِ الْعَذَابِ بِدَعْوَةٍ مِنْ خَزَنَةِ جَهَنَّمَ، فَلِذَلِكَ أُسْنِدَ الْقَوْلُ إِلَى الَّذِينَ فِي النَّارِ، أَيْ جَمِيعِهِمْ مِنْ الضُّعَفَاءِ وَالَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا.
وَخَزَنَةٌ: جَمْعُ خَازِنٍ، وَهُوَ الْحَافِظُ لِمَا فِي الْمَكَانِ مِنْ مَالٍ أَو عرُوض. ولِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ هُمُ الْمَلَائِكَةُ الْمُوَكَّلُونَ بِمَا تَحْوِيهِ مِنَ النَّارِ وَوَقُودِهَا وَالْمُعَذَّبِينَ فِيهَا وَمُوَكَّلُونَ بِتَسْيِيرِ مَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ دَارُ الْعَذَابِ وَأَهْلِهَا وَلِذَلِكَ يُقَالُ لَهُمْ: خَزَنَةُ النَّارِ، لِأَنَّ الْخَزْنَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّارِ بَلْ بِمَا يَحْوِيهَا فَلَيْسَ قَوْلُهُ هُنَا: جَهَنَّمَ إِظْهَارًا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ إِذْ لَا يَحْسُنُ إِضَافَةُ خَزَنَةٍ إِلَى النَّارِ وَلَوْ تَقَدَّمَ لَفْظُ جَهَنَّمُ لَقَالَ: لِخَزَنَتِهَا، كَمَا فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْمُلْكِ [٦- ٨] وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ (جَهَنَّمَ) وَبِئْسَ الْمَصِيرُ إِلَى قَوْلِهِ: سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها فَإِنَّ الضَّمِيرَ لِ جَهَنَّمَ لَا لِ النَّارِ.
وَفِي «الْكَشَّافِ» إِنَّهُ مِنِ الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارُ لِلتَّهْوِيلِ بِلَفْظِ جَهَنَّمَ، وَالْمَسْلَكُ الَّذِي سَلَكْنَاهُ أَوْضَحُ.
وَفِي إِضَافَةِ (رَبِّ) إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ ضَرْبٌ مِنَ الْإِغْرَاءِ بِالدُّعَاءِ، أَيْ لِأَنَّكُمْ أَقْرَبُ إِلَى اسْتِجَابَتِهِ لَكُمْ. وَلِمَا ظَنُّوهُمْ أَرْجَى لِلِاسْتِجَابَةِ سَأَلُوا التَّخْفِيفَ يَوْمًا مِنْ أَزْمِنَةِ الْعَذَابِ وَهُوَ أَنْفَعُ لَهُمْ مِنْ تَخْفِيفِ قُوَّةِ النَّارِ الَّذِي سَأَلُوهُ مِنْ مُسْتَكْبِرِيهِمْ.
وَجُزِمَ يُخَفِّفْ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالدُّعَاءِ، وَلَعَلَّهُ بِتَقْدِيرِ لَامِ الْأَمْرِ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَمِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ مَنْ يَجْعَلُهُ جَزَمَا فِي جَوَابِ الطَّلَبِ لِتَحْقِيقِ التَّسَبُّبِ. فَيَكُونُ فِيهِ إِيذَانٌ بِأَنَّ الَّذِينَ فِي النَّارِ وَاثِقُونَ بِأَنَّ خَزَنَةَ جَهَنَّمَ إِذَا دَعَوُا اللَّهَ اسْتَجَابَ لَهُمْ. وَهَذَا الْجَزْمُ شَائِعٌ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْقَوْلِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ لِهَذِهِ النُّكْتَةِ وَحَقُّهُ الرَّفْعُ أَوْ إِظْهَارُ لَامِ الْأَمْرِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ [٣١].
وَضُمِّنَ يُخَفِّفْ مَعْنَى يُنْقِصُ فَنَصَبَ يَوْماً، أَوْ هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ عَذَابَ يَوْمٍ، أَيْ مِقْدَارَ يَوْمٍ، وَانْتَصَبَ يَوْماً عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ لِ يُخَفِّفْ.
وَالذِّكْرُ: التَّذْكِيرُ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْقُرْآنُ.
وَالصَّفْحُ: الْإِعْرَاضُ بِصَفْحِ الْوَجْهِ وَهُوَ جَانِبُهُ وَهُوَ أَشَدُّ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْكَلَامِ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ تَرْكَ اسْتِمَاعِهِ وَتَرْكَ النَّظَرِ إِلَى الْمُتَكَلِّمِ.
وَانْتَصَبَ صَفْحاً عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الظَّرْفِ، أَيْ فِي مَكَانِ صَفْحٍ، كَمَا يُقَالُ: ضَعْهُ جَانِبًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَفْحاً مَصْدَرَ صَفَحَ عَنْ كَذَا، إِذَا أَعْرَضَ، فَيَنْتَصِبَ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ لِبَيَانِ نَوْعِ الضَّرْبِ بِمَعْنَى الصَّرْفِ وَالْإِعْرَاضِ.
وَالْإِسْرَافُ: الْإِفْرَاطُ وَالْإِكْثَارُ، وَأَغْلَبُ إِطْلَاقِهِ عَلَى الْإِكْثَارِ مِنَ الْفِعْلِ الضَّائِرِ.
وَلِذَلِكَ قِيلَ «لَا سَرَفَ فِي الْخَيْرِ» وَالْمَقَامُ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُمْ أَسْرَفُوا فِي الْإِعْرَاضِ عَنِ الْقُرْآنِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَخَلَفٌ إِنْ كُنْتُمْ بِكَسْرِ هَمْزَةِ إِنْ فَتَكُونُ
إِنْ شَرْطِيَّةً، وَلَمَّا كَانَ الْغَالِبُ فِي اسْتِعْمَالِ إِنِ الشَّرْطِيَّةِ أَنْ تَقَعَ فِي الشَّرْطِ الَّذِي لَيْسَ مُتَوَقَّعًا وُقُوعُهُ بِخِلَافِ (إِذَا) الَّتِي هِيَ لِلشَّرْطِ الْمُتَيَقَّنِ وُقُوعه، فالإتيان بإن فِي قَوْلِهِ:
إِنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ لِقَصْدِ تَنْزِيلِ الْمُخَاطَبِينَ الْمَعْلُومِ إِسْرَافُهُمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يَشُكُّ فِي إِسْرَافِهِ لِأَنَّ تَوَفُّرَ الْأَدِلَّةِ عَلَى صِدْقِ الْقُرْآنِ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُزِيلَ إِسْرَافَهُمْ وَفِي هَذَا ثِقَةٌ بِحَقِّيَّةِ الْقُرْآنِ وَضَرْبٌ مِنَ التَّوْبِيخِ عَلَى إِمْعَانِهِمْ فِي الْإِعْرَاضِ عَنْهُ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَلَى جَعْلِ إِنَّ مَصْدَرِيَّةً وَتَقْدِيرِ لَامِ التَّعْلِيلِ مَحْذُوفًا، أَيْ لِأَجْلِ إِسْرَافِكُمْ، أَيْ لَا نَتْرُكُ تَذْكِيرَكُمْ بِسَبَبِ كَوْنِكُمْ مُسْرِفِينَ بَلْ لَا نَزَالُ نُعِيدُ التَّذْكِيرَ رَحْمَةً بِكُمْ.
وَإِقْحَامُ قَوْماً قَبْلَ مُسْرِفِينَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْإِسْرَافَ صَارَ طَبْعًا لَهُمْ وَبِهِ قِوَامُ قَوْمِيَّتِهِمْ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَة الْبَقَرَة [١٦٤].
الْإِجْمَالِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ:
كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً إِذْ يُفِيدُ أَنَّهُ خَبِيرٌ بِكَذِبِهِمْ فِي الِاعْتِذَارِ فَلِذَلِكَ أَبْطَلَ اعْتِذَارَهُمْ بِحَرْفِ الْإِبْطَالِ.
وَتَقْدِيمُ بِما تَعْمَلُونَ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ لِقَصْدِ الِاهْتِمَامِ بِذِكْرِ عَمَلِهِمْ هَذَا. وَمَا صدق بِما تَعْمَلُونَ مَا اعْتَقَدُوهُ وَمَا مَاهُوا بِهِ مِنْ أَسْبَابِ تَخَلُّفِهِمْ عَنْ نَفِيرِ الرَّسُولِ وَكَثِيرًا مَا سَمَّى الْقُرْآنُ الِاعْتِقَادَ عَمَلًا. وَفِي قَوْلِهِ: كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً تهديد ووعيد.
[١٢]
[سُورَة الْفَتْح (٤٨) : آيَة ١٢]
بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (١٢)
هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً [الْفَتْح: ١١]، أَيْ خَبِيرًا بِمَا عَلِمْتُمْ، وَمِنْهُ ظَنُّكُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ.
وَأُعِيدَ حَرْفُ الْإِبْطَالِ زِيَادَةً لِتَحْقِيقِ مَعْنَى الْبَدَلِيَّةِ كَمَا يُكَرَّرُ الْعَامِلُ فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ وَالِانْقِلَابُ: الرُّجُوعُ إِلَى الْمَأْوَى.
وأَنْ مُخَفَّفَةٌ مِنْ (أَنَّ) الْمُشَدَّدَةِ وَاسْمُهَا ضَمِيرُ الشَّأْنِ وَسَدَّ الْمَصْدَرُ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ ظَنَنْتُمْ، وَجِيءَ بِحَرْفِ لَنْ الْمُفِيدِ اسْتِمْرَارَ النَّفْيِ. وَأُكِّدَ بِقَوْلِهِ: أَبَداً لِأَنَّ ظَنَّهُمْ كَانَ قَوِيًّا.
وَالتَّزْيِينُ: التَّحْسِينُ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ قَبُولِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا جُعِلَ ذَلِكَ الظَّنُّ مُزَيَّنًا فِي اعْتِقَادِهِمْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَفْرِضُوا غَيْرَهُ مِنْ الِاحْتِمَالِ، وَهُوَ أَنْ يرجع الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَالِمًا. وَهَكَذَا شَأْنُ الْعُقُولِ الْوَاهِيَةِ وَالنُّفُوسِ الْهَاوِيَةِ أَنْ لَا تَأْخُذَ مِنَ الصُّوَرِ الَّتِي تَتَصَوَّرُ بِهَا الْحَوَادِثُ إِلَّا الصُّورَةَ الَّتِي تَلُوحُ لَهَا فِي بادىء الرَّأْيِ. وَإِنَّمَا تَلُوحُ لَهَا أَوَّلَ شَيْءٍ لِأَنَّهَا الصُّورَةُ الْمَحْبُوبَةُ ثُمَّ يَعْتَرِيهَا التَّزْيِينُ فِي الْعَقْلِ فَتَلْهُو عَنْ فَرْضِ غَيْرِهَا فَلَا تَسْتَعِدُّ لِحِدْثَانِهِ، وَلِذَلِكَ قِيلَ: حُبُكَ
الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ.
كَانُوا يَقُولُونَ بَيْنَ أَقْوَالِهِمْ: إِن مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ أَكَلَةُ- بِفُتُحَاتٍ ثَلَاثٍ- رَأْسٍ- كِنَايَةً عَنِ الْقِلَّةِ، أَيْ يُشْبِعُهُمْ رَأْسُ بَعِيرٍ- لَا يَرْجِعُونَ، أَيْ هُمْ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ لِقُرَيْشٍ وَالْأَحَابِيشِ وَكِنَانَةَ، وَمَنْ فِي حِلْفِهِمْ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ عُمَرَ طَلَّقَ زَوْجَتَيْهِ قُرَيْبَةَ وَأُمَّ جَرْوَلٍ، فَلَمْ تَكُونَا مِمَّنْ لَحِقْنَ بِالْمُشْرِكِينَ، وَإِنَّمَا بَقِيَتَا بِمَكَّةَ إِلَى أَنْ طَلَّقَهُمَا عُمَرُ. وَأَحْسَبُ أَنَّ جَمِيعَهُنَّ إِنَّمَا طَلَّقَهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ عِنْدَ نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ [الممتحنة: ١٠].
وَالتَّذْيِيلُ بِقَوْلِهِ: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ تَحْرِيضٌ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى الْوَفَاءِ بِمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ وَأَنْ لَا يَصُدَّهُمْ عَنِ الْوَفَاءِ بِبَعْضِهِ مُعَامَلَةُ الْمُشْرِكِينَ لَهُمْ بِالْجَوْرِ وَقِلَّةِ النُّصْفَةِ، فَأَمَرَ بِأَنْ يُؤَدِّيَ الْمُسْلِمُونَ لِإِخْوَانِهِمْ مُهُور النِّسَاء اللاء فَارَقُوهُنَّ وَلَمْ يَرْضَ الْمُشْرِكُونَ بِإِعْطَائِهِمْ مُهُورَهُنَّ وَلِذَلِكَ أُتْبِعَ اسْمُ الْجَلَالَةِ بِوَصْفِ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ لِأَنَّ الْإِيمَانَ يَبْعَثُ عَلَى التَّقْوَى وَالْمُشْرِكُونَ لَمَّا لَمْ يُؤْمِنُوا بِمَا أَمَرَ اللَّهُ انْتَفَى مِنْهُمْ وَازِعُ الْإِنْصَافِ، أَيْ فَلَا تَكُونُوا مِثْلَهُمْ.
وَالْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ فِي الصِّلَةِ لِلدِّلَالَةِ عَلَى ثبات إِيمَانهم.
[١٢]
[سُورَة الممتحنة (٦٠) : آيَة ١٢]
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢)
هَذِهِ تَكْمِلَةٌ لِامْتِحَانِ النِّسَاءِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ الْآيَة [الممتحنة: ١٠]. وَبَيَانٌ لِتَفْصِيلِ آثَارِهِ. فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ وَبَيِّنُوا لَهُنَّ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ. وَآيَةُ الِامْتِحَانِ عَقِبَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ فِي شَأْنِ مَنْ هَاجَرْنَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ بَعْدَ الصُّلْحِ وَهُنَّ:
أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَسُبَيْعَةُ الْأَسْلَمِيَّةُ، وَأُمَيْمَةُ بِنْتُ بِشْرٍ، وَزَيْنَبُ بِنْتُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا صِحَّةَ لِلْأَخْبَارِ الَّتِي تَقُولُ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي فَتْحِ مَكَّةَ وَمَنْشَؤُهَا التَّخْلِيطُ فِي الْحَوَادِثِ وَاشْتِبَاهُ الْمُكَرَّرِ بِالْأُنُفِ.
رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمْتَحِنُ مَنْ هَاجَرَ
كَانَ مَمْنُوعًا مِنَ الصَّرْفِ فَلَا تَقُولُ: لَظًى بِالتَّنْوِينِ إِلَّا إِذَا أَرَدْتَ جِنْسَ اللَّهَبِ، وَلَا تَقُولُ: اللَّظَى إِلَّا إِذَا أَرَدْتَ لَهَبًا مُعَيَّنًا، فَأَمَّا إِذَا أَرَدْتَ اسْمَ جَهَنَّمَ فَتَقُولُ لَظَى بِأَلِفِ التَّأْنِيثِ دُونَ تَنْوِينٍ وَدُونَ تَعْرِيفٍ.
وَالنَّزَّاعَةُ: مُبَالَغَةٌ فِي النَّزْعِ وَهُوَ الْفَصْلُ وَالْقَطْعُ.
وَالشَّوَى: اسْمُ جَمْعِ شَوَاةٍ بِفَتْحِ الشِّينِ وَتَخْفِيفِ الْوَاوِ، وَهِيَ الْعُضْوُ غَيْرُ الرَّأْسِ مِثْلَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ فَالْجَمْعُ بِاعْتِبَارِ مَا لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ شَوَى، وَقِيلَ الشَّوَاةُ: جِلْدَةُ الرَّأْسِ فَالْجَمْعُ بِاعْتِبَارِ كَثْرَةِ النَّاس.
وَجُمْلَة تَدْعُوا إِمَّا خَبَرٌ ثَانٍ حَسَبَ قِرَاءَةِ نَزَّاعَةً بِالرَّفْعِ وَإِمَّا حَالٌ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ.
وَالدُّعَاءُ فِي قَوْله: تَدْعُوا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ حَقِيقَةٍ بِأَنْ يُعْتَبَرَ اسْتِعَارَةً مَكْنِيَّةً، شُبِّهَتْ لَظَى فِي انْهِيَالِ النَّاسِ إِلَيْهَا بِضَائِفٍ لِمَأْدُبَةٍ، وَرُمِزَ إِلَى ذَلِك ب تَدْعُوا وَذَلِكَ عَلَى طَرِيقَةِ التَّهَكُّمِ.
وَيَكُونُ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعى قَرِينَةً، أَوْ تَجْرِيدًا، أَيْ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى عَنِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ. وَفِيهِ الطِّبَاقُ لِأَنَّ الْإِدْبَارَ وَالتَّوَلِّيَ يُضَادَّانِ الدَّعْوَةَ فِي الْجُمْلَةِ إِذِ الشَّأْنُ أَنَّ الْمَدْعُوَّ يُقْبِلُ وَلَا يدبر، وَيكون (يدعوا) مُشْتَقًّا مِنَ الدُّعْوَةِ الْمَضْمُومَةِ الدَّالِ، أَوْ أَنْ يُشَبِّهَ إِحْضَارَ الْكُفَّارِ عِنْدَهَا بِدَعْوَتِهَا إِيَّاهُمْ لِلْحُضُورِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّبَعِيَّةِ، لِأَنَّ التَّشْبِيهَ بِدَعْوَةِ الْمُنَادِي، كَقَوْلِ ذِي الرُّمَّةِ يَصِفُ الثَّوْرَ الْوَحْشِيَّ:
أَمْسَى بِوَهْبَيْنِ مُخْتَارًا لِمَرْتَعِهِ مِنْ ذِي الْفَوَارِسِ تَدْعُو أَنْفَهُ الرِّبَبُ
الرِّبَبُ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَبِمُوَحَّدَتَيْنِ: جَمْعُ رِبَّةٍ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ: نَبَاتٌ يَنْبُتُ فِي الصَّيْفِ أَخْضَرُ.
وَيَجُوزُ أَن يكون تَدْعُوا مُسْتَعْملا حَقِيقَة، و «الَّذين يَدْعُونَ» : هُمُ الْمَلَائِكَةُ الْمُوَكَّلُونَ بِجَهَنَّمَ، وَإِسْنَادُ الدُّعَاءِ إِلَى جَهَنَّمَ إِسْنَادًا مَجَازِيًّا لِأَنَّهَا مَكَانُ الدَّاعِينَ أَوْ لِأَنَّهَا سَبَبُ الدُّعَاءِ، أَوْ جَهَنَّمُ تَدْعُو حَقِيقَةً بِأَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ فِيهَا أَصْوَاتًا تُنَادِي الَّذِينَ تَوَلَّوْا أَنْ يَرِدُوا عَلَيْهَا فَتَلْتَهِمَهُمْ.
ومَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعى جِنْسُ الْمَوْصُوفِينَ بِأَنَّهُمْ أَدْبَرُوا وَتَوَلَّوْا وَجَمَعُوا وَهُمُ الْمُجْرِمُونَ الَّذِينَ يَوَدُّونَ أَنْ يَفْتَدُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ. وَهَذِهِ الصِّفَاتُ خَصَائِصُ الْمُشْرِكِينَ، وَهِيَ مِنْ آثَارِ دِينِ الشِّرْكِ الَّتِي هِيَ أَقْوَى بَاعِثٍ لَهُمْ عَلَى إِعْرَاضِهِمْ عَنْ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ.
وَهَذَا إِبْطَالٌ لِقَوْلِ الْمُشْرِكِينَ فِيهِ إِنَّهُ كَاهِنٌ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ الْكُهَّانَ تَأْتِيهِمُ الشَّيَاطِينُ بِأَخْبَارِ الْغَيْبِ، قَالَ تَعَالَى: وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ [الحاقة: ٤١- ٤٢] وَقَالَ: وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ [الشُّعَرَاء: ٢١٠، ٢١١] وَقَالَ: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [الشُّعَرَاء: ٢٢١، ٢٢٢] وَهُمْ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ الْكَاهِنَ يَتَلَقَّى عَنْ شَيْطَانِهِ وَيُسَمُّونَ شَيْطَانَهُ رَئِيًا.
وَفِي حَدِيثِ فَتْرَةِ الْوَحْيِ وَنُزُولِ سُورَةِ وَالضُّحَى: أَنَّ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ امْرَأَةَ أَبِي لَهَبٍ وَهِيَ أُمُّ جَمِيلٍ بِنْتُ حَرْبٍ قَالَتْ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرَى شَيْطَانَكَ قَدْ قَلَاكَ».
ورَجِيمٍ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ مَرْجُومٌ، وَالْمَرْجُومُ: الْمُبْعَدُ الَّذِي يَتَبَاعَدُ النَّاسُ مِنْ شَرِّهِ فَإِذَا أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ رَجَمُوهُ فَهُوَ وَصْفٌ كَاشِفٌ لِلشَّيْطَانِ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا متبّرأ مِنْهُ.
[٢٦]
[سُورَة التكوير (٨١) : آيَة ٢٦]
فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦)
جُمْلَةُ: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ: وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ [التكوير:
٢٥] وَقَوْلِهِ: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ [التكوير: ٢٧].
وَالْفَاءُ لِتَفْرِيعِ التَّوْبِيخِ وَالتَّعْجِيزِ عَلَى الْحُجَجِ الْمُتَقَدِّمَةِ الْمُثْبِتَةِ أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَلَامَ كَاهِنٍ وَأَنَّهُ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ بِوَاسِطَةِ الْمَلَكِ.
وَهَذَا مِنِ اقْتِرَانِ الْجُمْلَةِ الْمُعْتَرِضَةِ بِالْفَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ فِي سُورَةِ عَبَسَ [١٢].
وَ (أَيْنَ) اسْمُ اسْتِفْهَامٍ عَنِ الْمَكَانِ. وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ عَنْ مَكَانِ ذَهَابِهِمْ، أَيْ طَرِيقِ ضَلَالِهِمْ، تَمْثِيلًا لِحَالِهِمْ فِي سُلُوكِ طُرُقِ الْبَاطِلِ بِحَالِ مَنْ ضَلَّ الطَّرِيقَ الْجَادَّةَ فَيَسْأَلُهُ السَّائِلُ مُنْكِرًا عَلَيْهِ سُلُوكَهُ، أَيِ اعْدِلْ عَنْ هَذَا الطَّرِيقِ فَإِنَّهُ مَضِلَّةٌ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلًا فِي التَّعْجِيزِ عَنْ طَلَبِ طَرِيقٍ يَسْلُكُونَهُ إِلَى مَقْصِدِهِمْ مِنَ الطَّعْنِ فِي الْقُرْآنِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ قَدْ سُدَّتْ عَلَيْكُمْ طُرُقُ بُهْتَانِكُمْ إِذِ اتَّضَحَ بِالْحُجَّةِ الدَّامِغَةِ بُطْلَانُ


الصفحة التالية
Icon