إِلَيْهِ هُنَا، إِلَّا أَنْ يُجَابَ بِأَنَّ الْعَالَمِينَ لَا يَشْمَلُ إِلَّا عَوَالِمَ الدُّنْيَا، فَيَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِ أَنَّهُ مَلَكَ الْآخِرَةَ كَمَا أَنَّهُ مَلَكَ الدُّنْيَا، وَإِنْ كَانَ الْأَكْثَرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وُرُودَ الرَّبِّ بِمَعْنَى الْمَلِكِ وَالسَّيِّدِ وَذَلِكَ الَّذِي دَعَا صَاحِبَ «الْكَشَّافِ» إِلَى الِاقْتِصَارِ عَلَى مَعْنَى السَّيِّدِ وَالْمَلِكِ وَجَوَّزَ فِيهِ وَجْهَيِ الْمَصْدَرِيَّةِ وَالصِّفَةِ، إِلَّا أَنَّ قَرِينَةَ الْمَقَامِ قَدْ تَصْرِفَ عَنْ حَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى أَكْثَرِ مَوَارِدِهِ إِلَى حَمْلِهِ عَلَى مَا دُونَهُ فَإِنَّ كِلَا الِاسْتِعْمَالَيْنِ شَهِيرٌ حَقِيقِيٌّ أَوْ مَجَازِيٌّ وَالتَّبَادُرُ الْعَارِضُ مِنَ الْمَقَامِ الْمَخْصُوصِ لَا يَقْضِي بِتَبَادُرِ اسْتِعْمَالِهِ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى فِي جَمِيعِ الْمَوَاقِعِ كَمَا لَا يَخْفَى. وَالْعَرَبُ لَمْ تَكُنْ تَخُصُّ لَفْظَ الرَّبِّ بِهِ تَعَالَى لَا مُطْلَقًا وَلَا مُقَيَّدًا لِمَا عَلِمْتَ مِنْ وَزْنِهِ واشتقاقه. قَالَ الْحَرْث بْنُ حِلِّزَةَ:
وَهُوَ الرَّبُّ وَالشَّهِيدُ عَلَى يَوْ | مِ الْحِيَارَيْنِ وَالْبَلَاءُ بَلَاءُ |
تَخُبُّ إِلَى النُّعْمَانِ حَتَّى تَنَالَهُ | فِدًى لَكَ مِنْ رَبٍّ طَرِيفِي وَتَالِدِي |
وَرَبٌّ عَلَيْهِ اللَّهُ أَحْسَنَ صُنْعَهُ | وَكَانَ لَهُ عَلَى الْبَرِيَّةِ نَاصِرَا |
أَرَبٌّ يَبُولُ الثُّعْلُبَانُ بِرَأْسِهِ | لَقَدْ هَانَ مَنْ بَالَتْ عَلَيْهِ الثَّعَالِبُ |
وَقَدْ وَرَدَ الْإِطْلَاقُ فِي الْإِسْلَامِ أَيْضًا حِينَ حَكَى عَنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَوْلَهُ: إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ [يُوسُف: ٢٣] إِذَا كَانَ الضَّمِيرُ رَاجِعًا إِلَى الْعَزِيزِ وَكَذَا قَوْلُهُ: أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ [يُوسُف: ٣٩] فَهَذَا إِطْلَاقٌ لِلرَّبِّ مُضَافًا وَغَيْرَ مُضَافٍ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْإِسْلَامِ لِأَنَّ اللَّفْظَ عَرَبِيٌّ أُطْلِقَ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَيْسَ يُوسُفُ أَطْلَقَ هَذَا اللَّفْظَ بَلْ أَطْلَقَ مُرَادِفَهُ فَلَوْ لَمْ يَصِحَّ التَّعْبِيرُ بِهَذَا اللَّفْظِ عَنِ الْمَعْنَى الَّذِي عَبَّرَ بِهِ يُوسُفُ لَكَانَ فِي غَيْرِهِ مِنْ أَلْفَاظِ الْعَرَبِيَّةِ مُعَدَّلٌ، إِنَّمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ النَّهْيُ عَنْ أَنْ يَقُولَ أَحَدٌ لِسَيِّدِهُُِ
نَسَخَتْهَا آيَةُ شَهْرُ رَمَضانَ [الْبَقَرَة: ١٨٥] ثُمَّ أَخْرَجَ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ رَمَضَانُ فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَكَانَ مَنْ أَطْعَمَ كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِينًا تَرَكَ الصَّوْمَ مَنْ يُطِيقُهُ وَرُخِّصَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ فَنَسَخَتْهَا: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ، وَرُوِيَتْ فِي ذَلِكَ آثَارٌ كَثِيرَةٌ عَنِ التَّابِعِينَ وَهُوَ الْأَقْرَبُ مِنْ عَادَةِ الشَّارِعِ فِي تَدَرُّجِ تَشْرِيعِ التَّكَالِيفِ الَّتِي فِيهَا مَشَقَّةٌ عَلَى النَّاسِ مِنْ تَغْيِيرِ مُعْتَادِهِمْ كَمَا تَدَرَّجَ فِي تَشْرِيعِ مَنْعِ الْخَمْرِ.
وَنُلْحِقُ بِالْهَرِمِ وَالْمُرْضِعِ وَالْحَامِلِ كُلَّ مَنْ تَلْحَقُهُ مَشَقَّةٌ أَوْ تَوَقُّعٌ ضُرٍّ مِثْلَهُمْ وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمْزِجَةِ وَاخْتِلَافِ أَزْمَانِ الصَّوْمِ مِنِ اعْتِدَالٍ أَوْ شِدَّةِ بَرْدٍ أَوْ حَرٍّ، وَبِاخْتِلَافِ أَعْمَالِ الصَّائِمِ الَّتِي يَعْمَلُهَا لِاكْتِسَابِهِ مِنَ الصَّنَائِعِ كَالصَّائِغِ وَالْحَدَّادِ وَالْحَمَّامِيِّ وَخِدْمَةِ الْأَرْضِ وَسَيْرِ الْبَرِيدِ وَحَمْلِ الْأَمْتِعَةِ وَتَعْبِيدِ الطُّرُقَاتِ وَالظِّئْرِ.
وَقَدْ فُسِّرَتِ الْفِدْيَةُ بِالْإِطْعَامِ إِمَّا بِإِضَافَةِ الْمُبَيَّنِ إِلَى بَيَانِهِ كَمَا قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ: (فِدْيَةُ طَعَامِ مَسَاكِينَ)، بِإِضَافَةِ فِدْيَةٍ إِلَى طَعَامٍ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِتَنْوِينِ (فِدْيَةٌ) وَإِبْدَالِ (طَعَامُ) مِنْ (فِدْيَةٌ).
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرَ (مَسَاكِينَ) بِصِيغَةِ الْجَمْعِ جَمْعِ مِسْكِينٍ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِصِيغَةِ الْمُفْرَدِ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ إِطْعَامُ مِسْكِينٍ، فَقِرَاءَةُ الْجَمْعِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى اعْتِبَارِ جَمْعِ الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ مِنْ مُقَابَلَةِ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ مِثْلَ رَكِبَ النَّاسُ دَوَابَّهُمْ، وَقِرَاءَةُ الْإِفْرَادِ اعْتِبَارٌ بِالْوَاجِبِ عَلَى آحَادِ الْمُفْطِرِينَ.
وَالْإِطْعَامُ هُوَ مَا يُشْبِعُ عَادَةً مِنَ الطَّعَامِ الْمُتَغَذَّى بِهِ فِي الْبَلَدِ، وَقَدَّرَهُ فُقَهَاءُ الْمَدِينَةِ مُدًّا بِمُدِّ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بُرٍّ أَوْ شَعِيرٍ أَوْ تَمْرٍ.
فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ.
تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ إِلَخْ، وَالتَّطَوُّعُ: السَّعْيُ فِي أَنْ يَكُونَ
طَائِعًا غَيْرَ مُكْرَهٍ أَيْ طَاعَ طَوْعًا مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ. وَالْخَيْرُ مَصْدَرُ خَارَ إِذَا حَسُنَ وَشَرُفَ وَهُوَ مَنْصُوبٌ لِتَضْمِينِ تَطَوَّعَ مَعْنَى أَتَى، أَوْ يَكُونُ خَيْراً صِفَةً لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ تَطَوُّعًا خَيْرًا. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْخَيْرَ هُنَا مُتَطَوَّعٌ بِهِ فَهُوَ الزِّيَادَةُ مِنَ الْأَمْرِ الَّذِي الْكَلَامُ بِصَدَدِهِ وَهُوَ الْإِطْعَامُ لَا مَحَالَةَ، وَذَلِكَ إِطْعَامٌ غَيْرُ وَاجِبٍ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: فَمَنْ زَادَ عَلَى إِطْعَامِ
الْعِلْمِ وَأَقْوَى فِي تَحْصِيل الْعلم الْقَاطِع لِجِدَالِ الْمُلْحِدِينَ، وَالْمَقْنَعِ لِمَنْ يَتَطَلَّبُونَ الْحَقَائِقَ مِنَ الْمُتَعَلِّمِينَ، وَقَدْ يَصِفُونَهَا بِأَنَّهَا أَحْكَمُ أَيْ أَشَدُّ إِحْكَامًا لِأَنَّهَا تُقْنِعُ أَصْحَابَ الْأَغْرَاضِ كُلَّهُمْ. وَقَدْ وَقَعَ هَذَانِ الْوَصْفَانِ فِي كَلَامِ الْمُفَسِّرِينَ وَعُلَمَاءِ الْأُصُولِ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَعْيِينِ أوّل من صَدرا
عَنْهُ، وَقَدْ تَعَرَّضَ الشَّيْخُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ- فِي «الْعَقِيدَةِ الْحَمَوِيَّةِ» - إِلَى رَدِّ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ وَلَمْ يَنْسُبْهُمَا إِلَى قَائِلٍ. وَالْمَوْصُوفُ بِأَسْلَمَ وَبِأَعْلَمَ الطَّرِيقَةُ لَا أَهْلُهَا فَإِنَّ أَهْلَ الطَّرِيقَتَيْنِ مِنْ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ، وَمِمَّنْ سَلِمُوا فِي دِينِهِمْ مِنَ الْفِتَنِ.
وَلَيْسَ فِي وَصْفِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ، بِأَنَّهَا أَعْلَمُ أَوْ أَحْكَمُ، غَضَاضَةٌ مِنَ الطَّرِيقَةِ الْأُولَى لِأَنَّ الْعُصُورَ الَّذِينَ دَرَجُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ الْأُولَى، فِيهِمْ مَنْ لَا تَخْفَى عَلَيْهِمْ مَحَامِلُهَا بِسَبَبِ ذَوْقِهِمُ الْعَرَبِيِّ، وَهَدْيِهِمُ النَّبَوِيِّ، وَفِيهِمْ مَنْ لَا يُعِيرُ الْبَحْثَ عَنْهَا جَانِبًا مِنْ هِمَّتِهِ، مِثْلَ سَائِرِ الْعَامَّةِ. فَلَا جَرَمَ كَانَ طَيُّ الْبَحْثِ عَنْ تَفْصِيلِهَا أَسْلَمَ لِلْعُمُومِ، وَكَانَ تَفْصِيلُهَا بَعْدَ ذَلِكَ أَعْلَمَ لِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ، بِحَيْثُ لَوْ لَمْ يُؤَوِّلُوهَا بِهِ لَأَوْسَعُوا، لِلْمُتَطَلِّعِينَ إِلَى بَيَانِهَا، مَجَالًا لِلشَّكِّ أَوِ الْإِلْحَادِ، أَوْ ضِيقِ الصَّدْرِ فِي الِاعْتِقَادِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ التَّأْوِيلَ مِنْهُ مَا هُوَ وَاضِحٌ بَيِّنٌ، فَصَرْفُ اللَّفْظِ الْمُتَشَابِهِ عَنْ ظَاهِرِهِ إِلَى ذَلِكَ التَّأْوِيلِ يُعَادِلُ حَمْلَ اللَّفْظِ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْهِ الْمَشْهُورَيْنِ لِأَجْلِ كَثْرَةِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي الْمَعْنَى غَيْرِ الظَّاهِرِ مِنْهُ. فَهَذَا الْقِسْمُ مِنَ التَّأْوِيلِ حَقِيقٌ بِأَلَّا يُسَمَّى تَأْوِيلًا وَلَيْسَ أَحَدُ مَحْمَلَيْهِ بِأَقْوَى مِنَ الْآخَرِ إِلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا أَسْبَقُ فِي الْوَضْعِ مِنَ الْآخَرِ، وَالْمَحْمَلَانِ مُتَسَاوِيَانِ فِي الِاسْتِعْمَالِ وَلَيْسَ سَبْقُ إِطْلَاقِ اللَّفْظِ عَلَى أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ بِمُقْتَضٍ تَرْجِيحَ ذَلِكَ الْمَعْنَى، فَكَمْ مِنْ إِطْلَاقٍ مَجَازِيٍّ لِلَفْظٍ هُوَ أَسْبَقُ إِلَى الْأَفْهَامِ مِنْ إِطْلَاقِهِ الْحَقِيقِيِّ. وَلَيْسَ قَوْلُهُمْ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ بِأَنَّ الْحَقِيقَةَ أَرْجَحُ مِنَ الْمَجَازِ بِمَقْبُولٍ عَلَى عُمُومِهِ.
وَتَسْمِيَةُ هَذَا النَّوْعِ بِالْمُتَشَابِهِ لَيْسَتْ مُرَادَةً فِي الْآيَةِ. وَعَدُّهُ مِنَ الْمُتَشَابِهِ جُمُودٌ.
وَمِنَ التَّأْوِيلِ مَا ظَاهِرُ مَعْنَى اللَّفْظِ فِيهِ أَشْهَرُ مِنْ مَعْنَى تَأْوِيلِهِ وَلَكِنَّ الْقَرَائِنَ أَوِ الْأَدِلَّةَ أَوْجَبَتْ صَرْفَ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِ مَعْنَاهُ فَهَذَا حَقِيقٌ بِأَنْ يُعَدَّ مِنَ الْمُتَشَابِهِ.
ثُمَّ إِنَّ تَأْوِيلَ اللَّفْظِ فِي مِثْلِهِ قَدْ يَتَيَسَّرُ بِمَعْنًى مُسْتَقِيمٍ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ الْمُرَادُ إِذَا جَرَى حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى مَا هُوَ مِنْ مُسْتَعْمَلَاتِهِ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ مِثْلَ الْأَيْدِي وَالْأَعْيُنِ فِي
وَضَمِيرُ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى الَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ حَالًا مِنَ الَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ أَيْ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا حُزْنٌ فَهُمْ مُسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَكْرِيرًا لِقَوْلِهِ: وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا وَالضَّمِيرُ لِ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَفَائِدَةُ التَّكْرِيرِ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْبِشَارَةِ كَقَوْلِهِ: رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا [الْقَصَص: ٦٣] فَكَرَّرَ أَغْوَيْنَاهُمْ، وَلِأَنَّ هَذَا اسْتِبْشَارٌ مِنْهُ عَائِدٌ لِأَنْفُسِهِمْ، وَمِنْهُ عَائِدٌ لِرِفَاقِهِمُ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ مِنْ بَعْدِ الْقَرْحِ، وَالْأُولَى عَائِدَةٌ لِإِخْوَانِهِمْ. وَالنِّعْمَةُ: هِيَ مَا يَكُونُ بِهِ صَلَاحٌ، وَالْفَضْلُ: الزِّيَادَةُ فِي النِّعْمَةِ.
وَقَوْلُهُ: وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِفَتْحِ هَمْزَةِ (أَنَّ) - عَلَى أَنَّهُ عطف على بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ تَفْخِيمُ مَا حَصَلَ لَهُمْ مِنَ الِاسْتِبْشَارِ وَانْشِرَاحِ الْأَنْفُسِ بِأَنْ جَمَعَ اللَّهُ لَهُمُ الْمَسَرَّةَ الْجُثْمَانِيَّةَ الْجُزْئِيَّةَ وَالْمَسَرَّةَ الْعَقْلِيَّةَ الْكُلِّيَّةَ، فَإِنَّ إِدْرَاكَ الْحَقَائِقِ الْكُلِّيَّةِ لَذَّةٌ رُوحَانِيَّةٌ عَظِيمَةٌ لِشَرَفِ الْحَقَائِقِ الْكُلِّيَّةِ وَشَرَفِ الْعِلْمِ بِهَا، وَحُصُولِ الْمَسَرَّةِ لِلنَّفْسِ مِنَ انْكِشَافِهَا لَهَا وَإِدْرَاكِهَا، أَيِ اسْتَبْشَرُوا بِأَنْ عَلِمُوا حَقِيقَةً كُلِّيَّةً وَسِرًّا جَلِيلًا مِنْ أَسْرَارِ الْعِلْمِ بِصِفَاتِ اللَّهِ وَكَمَالَاتِهِ، الَّتِي تَعُمُّ آثَارُهَا، أَهْلَ الْكَمَالِ كُلَّهُمْ، فَتَشْمَلُ الَّذِينَ أَدْرَكُوهَا وَغَيْرَهُمْ، وَلَوْلَا هَذَا الْمَعْنَى الْجَلِيلُ لَمْ يَكُنْ دَاعٍ إِلَى زِيَادَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ لَمْ يَحْصُلْ بِزِيَادَتِهِ زِيَادَةُ نِعْمَةٍ وَفَضْلٍ لِلْمُسْتَبْشِرِينَ مِنْ جِنْسِ النِّعْمَةِ وَالْفَضْلِ الْأَوَّلَيْنِ، بَلْ حَصَلَتْ نِعْمَةٌ وَفضل آخرَانِ. وقرأه الْكِسَائِيُّ- بِكَسْرِ هَمْزَةِ (إِنَّ) - عَلَى أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ يَسْتَبْشِرُونَ فِي مَعْنَى التَّذْيِيلِ فَهُوَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِيمَا اسْتَبْشَرَ بِهِ الشُّهَدَاءُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ، فَتَكُونَ الْوَاوُ لِلِاسْتِئْنَافِ.
وَجُمْلَةُ الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ صِفَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أَوْ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ وَهَذِهِ الِاسْتِجَابَةُ تُشِيرُ إِلَى مَا وَقَعَ إِثْرَ أُحُدٍ مِنَ الْإِرْجَافِ بِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ، بَعْدَ أَنْ بَلَغُوا الرَّوْحَاءَ، خَطَرَ لَهُمْ أَنْ لَوْ لَحِقُوا الْمُسْلِمِينَ فَاسْتَأْصَلُوهُمْ. وَقَدْ مَرَّ ذِكْرُ هَذَا وَمَا وَقَعَ لِمَعْبَدِ بْنِ أَبِي مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيِّ عِنْدَ قَوْلِهِ
وَاخْتُلِفَ فِي اسْمِ الْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ، بَعْدَ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي سَرِيَّةٍ، فَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ الْقَاتِلَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَالْمَقْتُولَ مِرْدَاسُ بْنُ نَهِيكٍ الْفَزَارِيُّ مِنْ أَهْلِ فَدَكَ، وَفِي سِيرَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ الْقَاتِلَ مُحَلَّمٌ مِنْ جَثَّامَةَ، وَالْمَقْتُولَ عَامِرُ بْنُ الْأَضْبَطِ. وَقِيلَ: الْقَاتِلُ أَبُو قَتَادَةَ، وَقِيلَ أَبُو الدَّرْدَاء، وَأَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَّخَ الْقَاتِلَ، وَقَالَ لَهُ: «فَهَلَّا شَقَقْتَ عَنْ بَطْنِهِ فَعَلِمْتَ مَا فِي قَلْبِهِ»
. وَمُخَاطَبَتُهُمْ بِ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُلَوِّحُ إِلَى أَنَّ الْبَاعِثَ عَلَى قَتْلِ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَلَوْ كَانَ قَصْدُ الْقَاتِلِ الْحِرْصَ عَلَى تَحَقُّقِ أَنَّ وَصْفَ الْإِيمَانِ ثَابِتٌ لِلْمَقْتُولِ، فَإِنَّ هَذَا التَّحَقُّقَ غَيْرُ مُرَادٍ لِلشَّرِيعَةِ، وَقَدْ نَاطَتْ صِفَةُ الْإِسْلَامِ بِقَوْلِ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ» أَوْ بِتَحِيَّةِ الْإِسْلَامِ وَهِيَ «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ».
وَالضَّرْبُ: السَّيْرُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٥٦]. وَقَوْلُهُ: فِي سَبِيلِ اللَّهِ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ هُوَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ ضَرَبْتُمْ وَلَيْسَ مُتَعَلِّقًا بِ «ضَرَبْتُمْ» لِأَنَّ الضَّرْبَ أَيِ السَّيْرَ لَا يَكُونُ عَلَى سَبِيلِ اللَّهِ إِذْ سَبِيلُ اللَّهِ لَقَبٌ لِلْغَزْوِ، أَلَا تَرَى قَوْلَهُ تَعَالَى: وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى الْآيَةَ.
وَالتَّبَيُّنُ: شِدَّةُ طَلَبِ الْبَيَانِ، أَيِ التَّأَمُّلُ الْقَوِيُّ، حَسْبَمَا تَقْتَضِيهِ صِيغَةُ التَّفَعُّلِ. وَدُخُولُ الْفَاءِ عَلَى فِعْلِ «تَبَيَّنُوا» لِمَا فِي (إِذَا) مِنْ تَضَمُّنِ مَعْنَى الِاشْتِرَاطِ غَالِبًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
فَتَبَيَّنُوا- بِفَوْقِيَّةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ ثُمَّ تَحْتِيَّةٍ ثُمَّ نُونٍ- مِنَ التَّبَيُّنِ وَهُوَ تَفَعُّلٌ، أَيْ تَثَبَّتُوا وَاطْلُبُوا بَيَانَ الْأُمُورِ فَلَا تَعْجَلُوا فَتَتَّبِعُوا الْخَوَاطِرَ الْخَاطِفَةَ الْخَاطِئَةَ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ،
وَخَلَفٌ: فَتَثَبَّتُوا- بِفَاءٍ فَوْقِيَّةٍ فَمُثَلَّثَةٍ فَمُوَحَّدَةٍ فَفَوْقِيَّةٍ- بِمَعْنَى اطْلُبُوا الثَّابِتَ، أَيِ الَّذِي لَا يَتَبَدَّلُ وَلَا يَحْتَمِلُ نَقِيضَ مَا بَدَا لَكُمْ.
وَقَوْلُهُ: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً قَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَخَلَفٌ «السَّلَمَ» - بِدُونِ أَلِفٍ بَعْدِ اللَّامِ- وَهُوَ ضِدُّ الْحَرْبِ، وَمَعْنَى أَلْقَى السَّلَمَ أَظْهَرَهُ بَيْنَكُمْ كَأَنَّهُ رَمَاهُ بَيْنَهُمْ، وَقَرَأَ الْبَقِيَّةُ «السَّلَامَ» - بِالْأَلِفِ- وَهُوَ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ مَعْنَى السَّلَمِ ضِدَّ الْحَرْبِ، وَمَعْنَى تَحِيَّةِ الْإِسْلَامِ، فَهِيَ قَوْلُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، أَيْ مَنْ خَاطَبَكُمْ بِتَحِيَّةِ الْإِسْلَامِ عَلَامَةً عَلَى أَنَّهُ مُسْلِمٌ.
مُلَازِمَهُ فِي شؤونه، وَسَمَّاهُ اللَّهُ فَتَاهُ فِي قَوْلِهِ:
وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ [الْكَهْف: ٦٠] الْآيَةَ. وَعَطَفَهُ هُنَا عَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّهُ كَانَ مُحَرِّضًا لِلْقَوْمِ عَلَى دُخُولِ الْقَرْيَةِ.
وَمَعْنَى فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ أَنْ لَا تُؤَاخِذَنَا بِجُرْمِهِمْ، لِأَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ فِي الدُّنْيَا فَيُهْلِكَ الْجَمِيعَ فَطَلَبَ النَّجَاةَ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُرِيدَ الْفَرْقَ بَيْنَهُمْ فِي الْآخِرَةِ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ لَا يُؤَاخِذُ الْبَرِيءَ بِذَنْبِ الْمُجْرِمِ، وَلِأَنَّ بَرَاءَةَ مُوسَى وَأَخِيهِ مِنَ الرِّضَا بِمَا فَعَلَهُ قَوْمُهُمْ أَمْرٌ يَعْلَمُهُ اللَّهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُمُ الْحُكْمُ بَيْنَهُمْ وَإِيقَافُ الضَّالِّينَ على غلطهم.
وَقَوله اللَّهِ تَعَالَى لَهُ: فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً إِلَخْ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ مُوسَى فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ، وَهُوَ جَوَابٌ جَامِعٌ لِجَمِيعِ مَا تَضَمَّنَهُ كَلَامُ مُوسَى، لِأَنَّ اللَّهَ أَعْلَمَ مُوسَى بِالْعِقَابِ الَّذِي يُصِيبُ بِهِ الَّذِينَ عَصَوْا أَمْرَهُ، فَسَكَّنَ هَاجِسَ خَوْفِهِ أَنْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ يَعُمُّ الْجَمِيعَ، وَحَصَلَ الْعِقَابُ لَهُمْ عَلَى الْعِصْيَانِ انْتِصَارًا لِمُوسَى. فَإِنْ
قُلْتَ: هَذَا الْعِقَابُ قَدْ نَالَ مُوسَى مِنْهُ مَا نَالَ قَوْمَهُ، فَإِنَّهُ بَقِيَ مَعَهُمْ فِي التِّيهِ حَتَّى تُوُفِّيَ.
قُلْتُ: كَانَ ذَلِكَ هَيِّنًا عَلَى مُوسَى لِأَنَّ بَقَاءَهُ مَعَهُمْ لِإِرْشَادِهِمْ وَصَلَاحِهِمْ وَهُوَ خِصِّيصَةُ رِسَالَتِهِ، فَالتَّعَبُ فِي ذَلِكَ يَزِيدُهُ رَفْعَ دَرَجَةٍ، أَمَّا هُمْ فَكَانُوا فِي مَشَقَّةٍ.
يَتِيهُونَ يَضِلُّونَ، وَمَصْدَرُهُ التَّيْهُ- بِفَتْحِ التَّاءِ وَسُكُونِ الْيَاءِ- وَالتِّيهُ- بِكَسْرِ التَّاءِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ-. وَسُمِّيَتِ الْمَفَازَةُ تَيْهَاءَ وَسُمِّيَتْ تِيهًا. وَقَدْ بَقِيَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مُقِيمِينَ فِي جِهَاتٍ ضَيِّقَةٍ وَيَسِيرُونَ الْهُوَيْنَا عَلَى طَرِيقٍ غَيْرِ مُنْتَظِمٍ حَتَّى بَلَغُوا جَبَلَ (نِيبُو) عَلَى مَقْرُبَةٍ مِنْ نَهْرِ (الْأُرْدُنِّ)، فَهُنَالِكَ تُوُفِّيَ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَهُنَالِكَ دُفِنَ. وَلَا يُعْرَفُ مَوْضِعُ قَبْرِهِ كَمَا فِي نَصِّ كِتَابِ الْيَهُودِ. وَمَا دَخَلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ حَتَّى عَبَرُوا الْأُرْدُنَّ بِقِيَادَةِ يُوشَعَ بْنِ نُونٍ خَلِيفَةِ مُوسَى. وَقَدِ اسْتَثْنَاهُ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ وَكَالِبَ بْنَ يَفْنَةَ، لِأَنَّهُمَا لَمْ يَقُولَا: لَنْ نَدْخُلَهَا. وَأَمَّا بَقِيَّةُ الرُّوَّادِ الَّذِينَ أَرْسَلَهُمْ مُوسَى لِاخْتِبَارِ الْأَرْضِ فَوَافَقُوا قَوْمَهُمْ فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ دُخُولِهَا.
وَالشَّهَادَةُ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: شَهادَةُ بَيْنِكُمْ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [١٠٦].
وَلَمَّا كَانَتْ شَهَادَةُ اللَّهِ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَ مَعْلُومَةٍ لِلْمُخَاطَبِينَ الْمُكَذَّبِينَ بِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، صَارَتْ شَهَادَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي مَعْنَى الْقَسَمِ عَلَى نَحْوِ قَوْله تَعَالَى: وَيَدْرَؤُا عَنْهَا
الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ
[النُّور: ٨] أَيْ أَنْ تُشْهِدَ اللَّهَ عَلَى كَذِبِ الزَّوْجِ، أَيْ أَنْ تَحْلِفَ على ذَلِك بِسم اللَّهِ، فَإِنَّ لَفْظَ (أُشْهِدُ اللَّهَ) مِنْ صِيَغِ الْقَسَمِ إِلَّا أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مَعْنَى الْإِشْهَادِ يَكُونُ مَجَازًا مُرْسَلًا، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ مَعْنَى الْإِشْهَادِ كَمَا هُنَا فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْقَسَمِ مُرَادٌ مِنْهُ مَعْنَى إِشْهَادِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَبِذَلِكَ يَظْهَرُ مَوْقِعُ قَوْلِهِ: اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، أَيْ أُشْهِدُهُ عَلَيْكُمْ. وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْ هُودٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ [هود: ٥٤].
وَقَوْلُهُ: قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ جَوَابٌ لِلسُّؤَالِ، وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ جُمْلَتُهُ الْمُصَدَّرَةُ بِ قُلْ. وَهَذَا جَوَابٌ أُمِرَ بِهِ الْمَأْمُورُ بِالسُّؤَالِ عَلَى مَعْنَى أَنْ يَسْأَلَ ثُمَّ يُبَادِرُ هُوَ بِالْجَوَابِ لِكَوْنِ الْمُرَادِ بِالسُّؤَالِ التَّقْرِيرَ وَكَوْنِ الْجَوَابِ مِمَّا لَا يَسَعُ الْمُقَرِّرَ إِنْكَارُهُ، عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَاهُ فِي قَوْلِهِ: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ [الْأَنْعَام: ١٢].
وَوَقَعَ قَوْلُهُ: اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ جَوَابًا عَلَى لِسَانِهِمْ لِأَنَّهُ مُرَتَّبٌ عَلَى السُّؤَالِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ فَالتَّقْدِيرُ: قُلْ شَهَادَةُ اللَّهِ أَكْبَرُ شَهَادَةً، فَاللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، فَحَذَفَ الْمُرَتَّبَ عَلَيْهِ لِدَلَالَةِ الْمُرَتَّبِ إِيجَازًا كَمَا هُوَ مُقْتَضَى جَزَالَةِ أُسْلُوبِ الْإِلْجَاءِ وَالْجَدَلِ.
وَالْمَعْنَى: أَنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ الَّذِي شَهَادَتُهُ أَعْظَمُ شَهَادَةً أَنَّنِي أَبْلَغْتُكُمْ أَنَّهُ لَا يَرْضَى بِأَنْ تُشْرِكُوا بِهِ وَأَنْذَرْتُكُمْ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَقْتَضِي صِحَّةَ إِطْلَاقِ اسْمِ (شَيْءٍ) عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ قَوْلَهُ: اللَّهُ شَهِيدٌ وَقَعَ جَوَابًا عَنْ قَوْلِهِ: أَيُّ شَيْءٍ فَاقْتَضَى إِطْلَاقَ اسْمِ (شَيْءٍ) خَبَرًا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ صَرِيحًا. وَعَلَيْهِ فَلَوْ أَطْلَقَهُ الْمُؤْمِنُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لَمَا كَانَ فِي إِطْلَاقِهِ تَجَاوُزٌ لِلْأَدَبِ وَلَا إِثْمٌ. وَهَذَا قَوْلُ الْأَشْعَرِيَّةِ خِلَافًا لِجَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ وَأَصْحَابِهِ.
وَمَعْنَى: شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَنْفَعُهُمُ الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ فَيَرْجِعُوا عَنِ التَّكْذِيبِ وَالْمُكَابَرَةِ لَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكِلَهُمْ إِلَى حِسَابِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْمَقْصُودُ: إِنْذَارُهُمْ بِعَذَابِ اللَّهِ فِي
بِإِبْطَالِهَا، أَوْ إِخْفَائِهَا، مِثْلَ كِتْمَانِ عُيُوبِ الْمَبِيعِ، وَادِّعَاءِ الْعُيُوبِ فِي الْأَشْيَاءِ السَّلِيمَةِ، وَالْكَذِبِ فِي الْأَثْمَانِ، كَأَنْ يَقُولَ التَّاجِرُ: أُعْطِيتُ فِي هَذِهِ السِّلْعَةِ كَذَا، لِثَمَنٍ لَمْ يُعْطَهُ، أَوْ أَنَّ هَذِهِ السِّلْعَةَ قَامَتْ عَلَيَّ بِكَذَا. وَمِنْهُ الْتِزَامُ الصِّدْقِ فِي التَّعْدِيلِ وَالتَّجْرِيحِ وَإِبْدَاءِ النَّصِيحَةِ فِي الْمُشَاوَرَةِ، وَقَوْلُ الْحَقِّ فِي الصُّلْحِ. وَأَمَّا الشَّهَادَةُ وَالْقَضَاءُ فَأَمْرُ الْعَدْلِ فِيهِمَا ظَاهِرٌ، وَإِذَا وَعَدَ الْقَائِلُ لَا يُخْلِفُ، وَإِذَا أَوْصَى لَا يَظْلِمُ أَصْحَابَ حُقُوقِ الْمِيرَاثِ، وَلَا يَحْلِفُ عَلَى
الْبَاطِلِ، وَإِذَا مَدَحَ أَحَدًا مَدَحَهُ بِمَا فِيهِ، وَأَمَّا الشَّتْمُ فَالْإِمْسَاكُ عَنْهُ وَاجِبٌ وَلَوْ كَانَ حَقًّا فَذَلِكَ الْإِمْسَاكُ هُوَ الْعَدْلُ لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِهِ.
وَفِي التَّعْلِيقِ بِأَدَاةِ الشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا قُلْتُمْ
إِشَارَة إِلَى أَنَّ الْمَرْءَ فِي سَعَةٍ مِنَ السُّكُوتِ إِنْ خَشِيَ قَوْلَ الْعَدْلِ. وَأَمَّا أَنْ يَقُولَ الْجَوْرَ وَالظُّلْمَ وَالْبَاطِلَ فَلَيْسَ لَهُ سَبِيلٌ إِلَى ذَلِكَ، وَالْكَذِبُ كُلُّهُ مِنَ الْقَوْلِ بِغَيْرِ الْعَدْلِ، عَلَى أَنَّ مِنَ السُّكُوتِ مَا هُوَ وَاجِبٌ. وَفِي «الْمُوَطَّأِ» أَنَّ رَجُلًا خَطَبَ إِلَى رِجْلٍ أُخْتَهُ فَذَكَرَ الْأَخُ أَنَّهَا قَدْ كَانَتْ أَحْدَثَتْ فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَضَرَبَهُ أَوْ كَادَ يَضْرِبُهُ ثمّ قَالَ: «مَالك وَلِلْخَبَرِ».
وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ كانَ
وَاوُ الْحَالِ، وَلَوْ وَصْلِيَّةٌ تُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ فِي الْحَالِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ يَظُنَّ السَّامِعُ عَدَمَ شُمُولِ الْحُكْمِ إِيَّاهَا لِاخْتِصَاصِهَا مِنْ بَيْنِ بَقِيَّةِ الْأَحْوَالِ الَّتِي يَشْمَلُهَا الْحُكْمُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٩١]، فَإِنَّ حَالَةَ قَرَابَةِ الْمَقُولِ لِأَجْلِهِ الْقَوْلُ قَدْ تَحْمِلُ الْقَائِلَ عَلَى أَنْ يَقُولَ غَيْرَ الْعَدْلِ، لِنَفْعِ قَرِيبِهِ أَوْ مُصَانَعَتِهِ، فَنُبِّهُوا عَلَى وُجُوبِ الْتِزَامِ الْعَدْلِ فِي الْقَوْلِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، فَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي (كَانَ) كائد إِلَى شَيْءٍ مَعْلُومٍ مِنَ الْكَلَامِ:
أَيْ وَلَو كَانَ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْقَوْلُ ذَا قُرْبَى.
وَالْغَشْيُ مُسْتَعَارٌ للإخفاء، لِأَنَّ النَّهَارَ يُزِيلُ أَثَرَ اللَّيْلِ وَاللَّيْلَ يُزِيلُ أَثَرَ النَّهَارِ، وَمِنْ بَدِيعِ الْإِيجَازِ وَرَشَاقَةِ التَّرْكِيبِ: جَعْلُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَفْعُولَيْنِ لِفِعْلِ فَاعِلِ الْإِغْشَاءِ، فَهُمَا مَفْعُولَانِ كِلَاهُمَا صَالِحٌ لِأَنْ يَكُونَ فَاعِلَ الْغَشْيِ، وَلِهَذَا اسْتَغْنَى بِقَوْلِهِ: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ عَنْ ذِكْرِ عَكْسِهِ وَلَمْ يَقُلْ: وَالنَّهَارَ اللَّيْلَ، كَمَا فِي آيَةِ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ [الزمر: ٥] لَكِنَّ الْأَصْلَ فِي تَرْتِيبِ الْمَفَاعِيلِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ هُوَ الْفَاعِلَ فِي الْمَعْنَى، وَيَجُوزُ الْعَكْسُ إِذَا أَمِنَ اللَّبْسَ، وَبِالْأَحْرَى إِذَا اسْتَوَى الِاحْتِمَالَانِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ يُغْشِي- بِضَمِّ الْيَاءِ وَسُكُونِ الْغَيْنِ وَتَخْفِيفِ الشِّينِ-. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَيَعْقُوبُ، وَخَلَفٌ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْغَيْنِ وَتَشْدِيدِ الشِّينِ- وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ فِي التَّعْدِيَةِ.
وَجُمْلَةُ: يَطْلُبُهُ إِن جعلت استينافا أَوْ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ (يُغْشِي) فَأَمْرُهَا وَاضِحٌ، وَاحْتَمَلَ الضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي (يَطْلُبُهُ) أَنْ يَعُودَ إِلَى اللَّيْلِ وَإِلَى النَّهَارِ، وَإِنْ جُعِلَتْ حَالًا تُعِينُ أَنْ تُعْتَبَرَ حَالًا مِنْ أَحَدِ الْمَفْعُولَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ فَإِنَّ كِلَا اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ يُعْتَبَرُ طَالِبًا وَمَطْلُوبًا، تَبَعًا لِاعْتِبَارِ أَحَدِهِمَا مَفْعُولًا أَوَّلَ أَوْ ثَانِيًا.
وَشُبِّهَ ظُهُورُ ظَلَامِ اللَّيْلِ فِي الْأُفُقِ مُمْتَدًّا مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ عِنْدَ الْغُرُوبِ وَاخْتِفَاءُ نُورِ النَّهَارِ فِي الْأُفُقِ سَاقِطًا مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ حَتَّى يَعُمَّ الظَّلَامُ الْأُفُقَ بِطَلَبِ اللَّيْلِ النَّهَارَ، عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ، وَكَذَلِكَ يُفْهَمُ تَشْبِيهُ امْتِدَادِ ضَوْءِ الْفَجْرِ فِي الْأُفُقِ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ وَاخْتِفَاءِ ظَلَامِ اللَّيْلِ فِي الْأُفُقِ سَاقِطًا فِي الْمَغْرِبِ حَتَّى يَعُمَّ الضِّيَاءُ الْأُفُقَ: بِطَلَبِ النَّهَارِ اللَّيْلَ عَلَى وَجْهِ التَّمْثِيلِ، وَلَا مَانِعَ مِنَ اعْتِبَارِ التَّنَازُعِ لِلْمَفْعُولَيْنِ فِي جُمْلَةِ الْحَالِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ [مَرْيَم: ٢٧] وَقَوْلِهِ: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ.
«النَّهْيِ عَنِ الْقَوْلِ بِالْقَدَرِ» بِسَنَدِهِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْأَلُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ حَتَّى اسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً فَقَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ، ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً فَقَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلنَّارِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ
وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمَا لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ فِي غَرَضِنَا، وَمَحْمَلُ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ تَصْرِيحٌ بِمَدْلُولِ الْفَحْوَى الْمَذْكُورِ، وَلَيْسَ تَفْسِيرًا لِمَنْطُوقِ الْآيَةِ، وَبِهِ صَارَتِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى أَمْرَيْنِ، أَحَدُهُمَا: صَرِيحٌ وَهُوَ مَا أَفَادَهُ لَفْظُهَا، وَثَانِيهِمَا: مَفْهُومٌ وَهُوَ فَحْوَى الْخِطَابِ. وَجَاءَ فِي الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ أَخَذَ عَلَى الذُّرِّيَّاتِ الْعَهْدَ بِالْإِقْرَارِ بِرُبُوبِيَّةِ اللَّهِ، وَلَمْ يُتَعَرَّضْ لِذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ، وَذُكِرَ فِيهِ أَنَّهُ مَيَّزَ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ مِنْهُمْ، وَلَعَلَّ الْحَدِيثَ اقْتِصَارٌ عَلَى بَيَانِ مَا سَأَلَ عَنْهُ السَّائِل فَيكون تَفْسِيرا للأية تَفْسِيرُ تَكْمِيلٍ لِمَا لَمْ يُذْكَرْ فِيهَا، أَوْ كَانَ فِي الْحَدِيثِ اقْتِصَارٌ مِنْ أَحَدِ رُوَاتِهِ عَلَى بَعْضِ مَا سَمِعَهُ.
وَالْأَخْذُ مَجَازٌ فِي الْإِخْرَاجِ وَالِانْتِزَاعِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ [الْأَنْعَام: ٤٦] الْآيَةَ.
وَقَوْلُهُ: مِنْ ظُهُورِهِمْ بَدَلٌ مِنْ بَنِي آدَمَ أبدل بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ، وَقَدْ أُعِيدَ حَرْفُ الْجَرِّ مَعَ الْبَدَلِ لِلتَّأْكِيدِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٩٩].
وَالْإِشْهَادُ عَلَى الْأَنْفُسِ يُطْلَقُ عَلَى مَا يُسَاوِي الْإِقْرَارَ أَوِ الْحَمْلَ عَلَيْهِ، وَهُوَ هُنَا الْحَمْلُ عَلَى الْإِقْرَارِ، وَاسْتُعِيرَ لِحَالَةٍ مُغَيَّبَةٍ تَتَضَمَّنُ هَذَا الْإِقْرَارَ يَعْلَمُهَا اللَّهُ لِاسْتِقْرَارِ مَعْنَى هَذَا الِاعْتِرَافِ فِي فِطْرَتِهِمْ. وَالضَّمِيرُ فِي أَشْهَدَهُمْ عَائِدٌ عَلَى الذُّرِّيَّةِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهُ، لِأَنَّهُ اسْمٌ يَدُلُّ عَلَى جَمْعٍ.
وَالْقَوْلُ فِي قالُوا بَلى مُسْتَعَارٌ أَيْضًا لِدَلَالَةِ حَالِهِمْ عَلَى الِاعْتِرَافِ بِالرُّبُوبِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى.
وَجُمْلَةُ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ مَقُولٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ هُوَ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَيْ قَرَّرَهُمْ بِهَذَا الْقَوْلِ وَهُوَ مِنْ أَمْرِ التَّكْوِينِ. وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، لِأَنَّ الذُّرِّيَّةَ لَمَّا أُضِيفَ إِلَى ضَمِيرِ بَنِي آدَمَ كَانَ عَلَى مَعْنَى التَّوْزِيعِ.
وَالصَّاغِرُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ صَغِرَ- بِكَسْرِ الْغَيْنِ- صَغَرَا بِالتَّحْرِيكِ وَصَغَارًا. إِذَا ذَلَّ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الصَّغَارِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٢٤]، أَيْ وَهُمْ أَذِلَّاءُ وَهَذِهِ حَالٌ لَازِمَةٌ لِإِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ عَنْ يَدٍ: وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ تَعْظِيمُ أَمْرِ الْحُكْمِ الْإِسْلَامِيِّ، وَتَحْقِيرُ أَهْلِ الْكُفْرِ لِيَكُونَ ذَلِكَ تَرْغِيبًا لَهُمْ فِي الِانْخِلَاعِ عَنْ دِينِهِمُ الْبَاطِلِ وَاتِّبَاعِهِمْ دِينَ الْإِسْلَامِ. وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنَ الْمَجُوسِ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ الْمُنْذِرِ: لَا أَعْلَمُ خِلَافًا فِي أَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ، وَخَالَفَ ابْنَ وَهْبٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ مَجُوسِ الْعَرَبِ. وَقَالَ لَا تُقْبَلُ مِنْهُمْ جِزْيَةٌ وَلَا بُدَّ مِنَ الْقَتْلِ أَوِ الْإِسْلَامِ كَمَا دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ نَصَارَى الْعَرَبِ، دُونَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ: لِأَنَّ حُكْمَ قِتَالِهِمْ مَضَى فِي الْآيَاتِ السَّالِفَةِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ فِيهَا إِلَى الْجِزْيَةِ بَلْ كَانَتْ نِهَايَةُ الْأَمْرِ فِيهَا قَوْلَهُ: فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التَّوْبَة:
٥]- وَقَوْلَهُ- فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ [التَّوْبَة: ١١]- وَقَوْلَهُ- وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ [التَّوْبَة: ١٥]. وَلِأَنَّهُمْ لَوْ أُخِذَتْ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ لَاقْتَضَى ذَلِكَ إِقْرَارَهُمْ فِي دِيَارِهِمْ لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُشَرِّعْ إِجْلَاءَهُمْ عَنْ دِيَارِهِمْ وَذَلِكَ لَمْ يَفْعَله النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
[٣٠]
[سُورَة التَّوْبَة (٩) : آيَة ٣٠]
وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٣٠)
عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ [التَّوْبَة: ٢٩] وَالتَّقْدِيرُ: وَيَقُولُ الْيَهُود مِنْهُم عَزِيز ابْنُ اللَّهِ، وَيَقُولُ النَّصَارَى مِنْهُمُ: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، تَشْنِيعًا عَلَى قَائِلِيهِمَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِأَنَّهُمْ بَلَغُوا فِي الْكُفْرِ غَايَتَهُ حَتَّى ساووا الْمُشْركين.
وعزيز: اسْمُ حَبْرٍ كَبِيرٍ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا فِي الْأَسْرِ الْبَابِلِيِّ، وَاسْمُهُ فِي الْعِبْرَانِيَّةِ (عِزْرَا) - بِكَسْرِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ- بْنُ (سَرَايَا) مِنْ سِبْطٍ اللَّاوِيِّينَ، كَانَ
[سُورَة يُونُس (١٠) : آيَة ٣٧]
وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٧)لَمَّا كَانَ الْغَرَضُ الْأَوَّلُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ إِبْطَالَ تَعَجُّبِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْإِيحَاءِ بِالْقُرْآنِ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَبْيِينَ عَدَمِ اهْتِدَائِهِمْ إِلَى آيَاتِهِ الْبَيِّنَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَكَيْفَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي أَحْوَالِ الرَّسُولِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ، وَكَيْفَ سَأَلُوهُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَأْتِيَ بِقُرْآنٍ غَيْرِهِ أَوْ يُبَدِّلَ آيَاتِهِ بِمَا يُوَافِقُ أَهْوَاءَهُمْ. ثُمَّ انْتَقَلَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى سُؤَالِهِمْ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ أُخْرَى مِنْ عِنْدِ اللَّهِ غَيْرُ الْقُرْآنِ، وَتَخَلَّلَ ذَلِكَ كُلَّهُ وَصْفُ افْتِرَائِهِمُ الْكَذِبَ فِي دَعْوَى الشُّرَكَاءِ لِلَّهِ وَإِقَامَةُ الْأَدِلَّةِ عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ وَعَلَى إِثْبَاتِ الْبَعْثِ، وَإِنْذَارُهُمْ بِمَا نَالَ الْأُمَمَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَتَذْكِيرُهُمْ بِنِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَإِمْهَالِهِمْ، وَبَيَانُ خَطَئِهِمْ فِي اعْتِقَادِ الشِّرْكِ اعْتِقَادًا مَبْنِيًّا عَلَى سُوءِ النَّظَرِ وَالْقِيَاسِ الْفَاسِدِ، لَا جَرَمَ عَادَ الْكَلَامُ إِلَى قَوْلِهِمْ فِي الْقُرْآنِ بِإِبْطَالِ رَأْيِهِمُ الَّذِي هُوَ مِنَ الظَّنِّ الْبَاطِلِ أَيْضًا بِقِيَاسِهِمْ أَحْوَالَ النُّبُوءَةِ وَالْوَحْيِ بِمِقْيَاسِ عَادَاتِهِمْ كَمَا قَاسُوا حَقِيقَةَ الْإِلَهِيَّةِ بِمِثْلِ ذَلِكَ، فَقَارَعَتْهُمْ هَذِهِ الْآيَةُ بِذِكْرِ صِفَاتِ الْقُرْآنِ فِي ذَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ مِنَ اللَّهِ وَتَحَدَّتْهُمْ بِالْإِعْجَازِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ.
فَجُمْلَةُ: وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ: وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا [يُونُس: ٣٦] بِمُنَاسَبَةِ اتِّبَاعِهِمُ الظَّنَّ فِي الْأَمريْنِ: شؤون الإلهية وَفِي شؤون النُّبُوءَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى مَجْمُوعِ مَا تَقَدَّمَ عَطْفَ الْغَرَضِ
عَلَى الْغَرَضِ وَالْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ، وَهُوَ مُفِيدٌ تَفْصِيلَ مَا أَجْمَلَهُ ذِكْرُ
[سُورَة هود (١١) : آيَة ١٠٩]
فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (١٠٩)تَفْرِيعٌ عَلَى الْقَصَصِ الْمَاضِيَةِ فَإِنَّهَا تُكْسِبُ سَامِعَهَا يَقِينًا بِبَاطِلِ مَا عَلَيْهِ عَبْدَةُ الْأَصْنَامِ وَبِخَيْبَةِ مَا أَمَّلُوهُ فِيهِمْ مِنَ الشَّفَاعَةِ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّ سَابِقَ شَقَائِهِمْ فِي الدُّنْيَا بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ يُؤْذِنُ بِسُوءِ حَالِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، فَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ نَهْيَ السَّامِعِ أَنْ يَشُكَّ فِي سُوءِ الشِّرْكِ وَفَسَادِهِ.
وَالْخِطَابُ فِي نَحْوِ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ يَقْصِدُ بِهِ أَيَّ سامع لَا سامع معيّن سَوَاءٌ كَانَ
مِمَّنْ يُظَنُّ بِهِ أَنْ يَشُكَّ فِي ذَلِكَ أَمْ لَا إِذْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ مُعَيَّنًا.
وَيَجُوزُ أَنْ يكون الْخطاب للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيكون فَلا تَكُ مَقْصُودًا بِهِ مُجَرَّدُ تَحْقِيقِ الْخَبَرِ فَإِنَّهُ جَرَى مَجْرَى الْمَثَلِ فِي ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مِثْلَ كَلِمَةِ: لَا شَكَّ، وَلَا مَحَالَةَ، وَلَا أَعْرِفَنَّكَ، وَنَحْوَهَا.
وَيَجُوزُ أَنْ يكون تثبيتا للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا يَلْقَاهُ مِنْ قَوْمِهِ مِنَ التَّصَلُّبِ فِي الشِّرْكِ، أَيْ لَا تَكُنْ شَاكًّا فِي أَنَّكَ لَقِيتَ مِنْ قَوْمِكَ مِنَ التَّكْذِيبِ مِثْلَ مَا لَقِيَهُ الرُّسُلُ مِنْ أُمَمِهِمْ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا عِبَادَةَ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ مُتَوَارِثِينَهَا عَنْ أَسْلَافِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الْبَائِدَةِ.
وفِي لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ.
وَالْمِرْيَةُ- بِكَسْرِ الْمِيمِ-: الشَّكُّ. وَقَدْ جَاءَ فِعْلُهَا عَلَى وَزْنِ فَاعَلَ أَوْ تَفَاعَلَ وَافْتَعَلَ.
وَلَمْ يَجِئْ عَلَى وَزْنٍ مُجَرَّدٍ لأنّ أصل المُرَاد الْمُجَادَلَةُ وَالْمُدَافَعَةُ مُسْتَعَارًا مِنْ مَرَيْتُ الشَّاةَ إِذَا اسْتَخْرَجْتُ لَبَنَهَا. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: لَا يُجَارَى وَلَا يُمَارَى. وَفِي الْقُرْآنِ أَفَتُمارُونَهُ عَلى مَا يَرى
[النَّجْم: ١٢]. وَقَدْ تَقَدَّمَ الِامْتِرَاءُ عِنْدَ قَوْلِهِ: ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ فِي أَوَّلِ الْأَنْعَامِ
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ مُرَادًا بِهِ الْكُتَّابُ الَّذِي كُتِبَتْ بِهِ الْآجَالُ وَهُوَ قَوْلُهُ: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ، وَأَنَّ الْمَحْوَ فِي غَيْرِ الْآجَالِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أُمُّ الْكِتَابِ مُرَادًا بِهِ عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ يَمْحُو وَيُثْبِتُ وَهُوَ عَالِمٌ بِأَنَّ الشَّيْءَ سَيُمْحَى أَوْ يُثْبَتُ.
وَفِي تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
«يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ إِلَّا السَّعَادَةَ وَالشَّقَاوَةَ وَالْمَوْتَ». وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ مُجَاهِدٍ
. وَرُوِيَ عَنِ ابْن عَبَّاس يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشاءُ وَيُثْبِتُ إِلَّا أَشْيَاءَ الْخَلْقَ- بِفَتْحِ الْخَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ- وَالْخُلُقَ- بِضَمِّ الْخَاءِ وَاللَّامِ- وَالْأَجَلَ وَالرِّزْقَ وَالسَّعَادَةَ وَالشَّقَاوَةَ، وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ الَّذِي لَا يَتَغَيَّرُ مِنْهُ شَيْءٌ. قُلْتُ: وَقَدْ تَفَرَّعَ عَلَى هَذَا قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ: إِنَّ السَّعَادَةَ وَالشَّقَاوَةَ لَا يَتَبَدَّلَانِ خِلَافًا لِلْمَاتُرِيدِيِّ.
وَعَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ مَا يَقْتَضِي أَنَّ السَّعَادَةَ وَالشَّقَاوَةَ يَقْبَلَانِ الْمَحْوَ وَالْإِثْبَاتَ.
فَإِذَا حُمِلَ الْمَحْوُ عَلَى مَا يَجْمَعُ مَعَانِيَ الْإِزَالَةِ، وَحُمِلَ الْإِثْبَاتُ عَلَى مَا يَجْمَعُ مَعَانِيَ الْإِبْقَاءِ، وَإِذَا حُمِلَ مَعْنَى أُمُّ الْكِتابِ عَلَى مَعْنَى مَا لَا يَقْبَلُ إِزَالَةَ مَا قُرِّرَ أَنَّهُ حَاصِلٌ أَوْ أَنَّهُ مَوْعُودٌ بِهِ وَلَا يَقْبَلُ إِثْبَاتَ مَا قُرِّرَ انْتِفَاؤُهُ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْأَخْبَارُ وَالْأَحْكَامُ، كَانَ مَا فِي أُمِّ الْكِتَابِ قَسِيمًا لِمَا يُمْحَى وَيُثْبَتُ.
وَإِذَا حُمِلَ عَلَى أَنَّ مَا يَقْبَلُ الْمَحْوَ وَالْإِثْبَاتَ مَعْلُومٌ لَا يَتَغَيَّرُ عِلْمُ اللَّهِ بِهِ كَانَ مَا فِي أُمِّ الْكِتَابِ تَنْبِيهًا على أَن التغييرات الَّتِي تَطْرَأُ عَلَى الْأَحْكَامِ أَوْ عَلَى الْأَخْبَارِ مَا هِيَ إِلَّا تغييرات مُقَرَّرَةٌ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّمَا كَانَ الْإِخْبَارُ عَنْ إِيجَادِهَا أَوْ عَنْ إِعْدَامِهَا مُظْهِرًا لِمَا اقْتَضَتْهُ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ فِي وَقْتٍ مَا.
وأُمُّ الْكِتابِ لَا مَحَالَةَ شَيْءٌ مُضَافٌ إِلَى الْكِتَابِ الَّذِي ذُكِرَ فِي قَوْلِهِ: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ. فَإِنَّ طَرِيقَةَ إِعَادَةِ النَّكِرَةِ بِحَرْفِ التَّعْرِيفِ أَنْ تَكُونَ
وَالتَّخَوُّفُ فِي اللُّغَةِ يَأْتِي مَصْدَرُ تَخَوَّفَ الْقَاصِرُ بِمَعْنَى خَافَ وَمَصْدَرُ تَخَوَّفَ الْمُتَعَدِّي بِمَعْنَى تَنَقَّصَ، وَهَذَا الثَّانِي لُغَةُ هُذَيْلٍ، وَهِيَ مِنَ اللُّغَاتِ الْفَصِيحَةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْقُرْآنُ.
فَلِلْآيَةِ مَعْنَيَانِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى يَأْخُذُهُمْ وَهُمْ فِي حَالَةِ تَوَقُّعِ نُزُولِ الْعَذَابِ بِأَنْ يُرِيَهُمْ مُقَدَّمَاتِهِ مِثْلَ الرَّعْدِ قَبْلَ الصَّوَاعِقِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى يَأْخُذُهُمْ وَهُمْ فِي حَالَةِ تَنَقُّصٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَنَقَّصَهُمْ قَبْلَ الْأَخْذِ بِأَنْ يُكْثِرَ فِيهِمُ الْمَوَتَانَ وَالْفَقْرَ وَالْقَحْطَ.
وَحَرْفُ عَلى مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّمَكُّنِ عَلَى كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ، وَمَحَلُّ الْمَجْرُورِ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ النَّصْبِ فِي يَأْخُذَهُمْ وَهُوَ كَقَوْلِهِمْ: أَخَذَهُ عَلَى غِرَّةٍ.
رَوَى الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- خَفِيَ عَلَيْهِ مَعْنَى التَّخَوُّفِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى الْأَمْصَارِ، وَأَنَّهُ سَأَلَ النَّاسَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: مَا تَقُولُونَ فِيهَا؟ فَقَامَ شَيْخٌ مِنْ هُذَيْلٍ فَقَالَ: هَذِهِ لُغَتُنَا. التَّخَوُّفُ:
التَّنَقُّصُ. قَالَ: فَهَلْ تَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ فِي أَشْعَارِهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ شَاعِرُنَا:
تَخَوَّفَ الرَّحْلُ مِنْهَا تَامِكًا قَرِدَا | كَمَا تَخَوَّفَ عُودَ النَّبْعَةِ السَّفَنُ (١) |
وَتَفَرَّعَ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ عَلَى الْجُمَلِ الْمَاضِيَةِ تَفْرِيعَ الْعِلَّةِ عَلَى الْمُعَلَّلِ.
وَحَرْفُ (إِنَّ) هُنَا مُفِيدٌ لِلتَّعْلِيلِ وَمُغْنٍ عَنْ فَاءِ التَّفْرِيعِ كَمَا
_________
(١) قلت: نسب فِي «الْكَشَّاف» هَذَا الْبَيْت إِلَى زُهَيْر وَكَذَلِكَ فِي الأساس وَلَيْسَ زُهَيْر بهذلي. وَنسبه صَاحب «اللِّسَان» إِلَى ابْن مقبل وَلَيْسَ ابْن مقبل بهذلي وَكَيف وَقد قَالَ الشَّيْخ الْهُذلِيّ لعمر قَالَ شَاعِرنَا فَهُوَ هذلي وَوَقع فِي «تَفْسِير الْبَيْضَاوِيّ» أَن الشَّيْخ الْهُذلِيّ أجَاب عمر بقوله نعم: «قَالَ شَاعِرنَا أَبُو كَبِير وَقَالَ الخفاجي الْبَيْت من قصيدة لَهُ مَذْكُورَة فِي شعر هُذَيْل فنسبة الْبَيْت إِلَى أبي كَبِير أثبت، وَهَذَا الْبَيْت فِي وصف رَاحِلَة أثر الرحل فِي سنامها فتنقص من وبره. والتامك:
بِكَسْر الْمِيم السنام المشرف. والقرد بِكَسْر الرَّاء المتلبد الْوَبر، والنبعة قَصَبَة شجر النبع تتَّخذ مِنْهُ القسي. والسفن بِالتَّحْرِيكِ الْبرد. [.....]
[٧١، ٧٢]
[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧) : الْآيَات ٧١ الى ٧٢]يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧١) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٧٢)
انْتِقَالٌ مِنْ غَرَضِ التَّهْدِيدِ بِعَاجِلِ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا الَّذِي فِي قَوْلِهِ: رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً [الْإِسْرَاء: ٦٦- ٦٩] إِلَى ذِكْرِ حَالِ النَّاسِ فِي الْآخِرَةِ تَبْشِيرًا وَإِنْذَارًا، فَالْكَلَامُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ، وَالْمُنَاسَبَةُ مَا عَلِمْتَ. وَلَا يَحْسُنُ لَفْظُ (يَوْمَ) لِلتَّعَلُّقِ بِمَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا [الْإِسْرَاء: ٧٠] عَلَى أَنْ يَكُونَ تَخَلُّصًا مِنْ ذِكْرِ التَّفْضِيلِ إِلَى ذِكْرِ الْيَوْمِ الَّذِي تَظْهَرُ فِيهِ فَوَائِدُ التَّفْضِيلِ، فَتَرَجَّحَ أَنَّهُ ابْتِدَاءٌ مُسْتَأْنَفٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا، فَفَتْحَةُ يَوْمَ إِمَّا فَتْحَةَ إِعْرَابٍ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ لِفِعْلٍ شَائِعِ الْحَذْفِ فِي ابْتِدَاءِ الْعِبَرِ الْقُرْآنِيَّةِ وَهُوَ فِعْلُ «اذْكُرْ» فَيَكُونُ يَوْمَ هُنَا اسْمَ زَمَانٍ مَفْعُولًا لِلْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ وَلَيْسَ ظَرْفًا.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ أُوتِيَ لِلتَّفْرِيعِ لِأَنَّ فِعْلَ (اذْكُرِ) الْمُقَدَّرَ يَقْتَضِي أَمْرًا عَظِيمًا مُجملا فَوَقع تَفْصِيله بِذِكْرِ الْفَاءِ وَمَا بَعْدَهَا فَإِنَّ التَّفْصِيلَ يَتَفَرَّعُ عَلَى الْإِجْمَالِ.
وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ فَتْحَتُهُ فَتْحَةَ بِنَاءٍ لْإِضَافَتِهِ اسْمَ الزَّمَانِ إِلَى الْفِعْلِ، وَهُوَ إِمَّا فِي مَحَلِّ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ جُمْلَةُ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ. وَزِيدَتِ الْفَاءُ فِي الْخَبَرِ عَلَى رَأْيِ الْأَخْفَشِ، وَقَدْ حَكَى ابْنُ هِشَامٍ عَنِ ابْنِ بَرْهَانٍ أَن الْفَاء تزاد فِي الْخَبَرِ عِنْدَ جَمِيعِ الْبَصْرِيِّينَ
مَا عَدَا سِيبَوَيْهِ وَإِمَّا ظَرْفٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ التَّقْسِيمُ الَّذِي بَعْدَهُ، أَعْنِي قَوْلَهُ: فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ
وَالْعَدُّ: الْحِسَابُ.
وإِنَّما لِلْقَصْرِ، أَيْ مَا نَحْنُ إِلَّا نَعُدُّ لَهُمْ، وَهُوَ قَصْرُ مَوْصُوفٍ عَلَى صِفَةٍ قَصْرًا إِضَافِيًّا، أَيْ نَعُدُّ لَهُمْ وَلَسْنَا بِنَاسِينَ لَهُمْ كَمَا يَظُنُّونَ، أَوْ لَسْنَا بِتَارِكِينَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ بَلْ نُؤَخِّرُهُمْ إِلَى يَوْمٍ مَوْعُودٍ.
وَأَفَادَتْ جُمْلَةُ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا تَعْلِيلُ النَّهْيِ عَنِ التَّعْجِيلِ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ إِنَّما مُرَكَّبَةٌ من (إنّ) و (مَا) وَإِنَّ تُفِيدُ التَّعْلِيلَ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ.
وَقَدِ اسْتُعْمِلَ الْعَدُّ مَجَازًا فِي قَصْرِ الْمُدَّةِ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْقَلِيلَ يُعَدُّ وَيُحْسَبُ. وَفِي هَذَا إِنْذَارٌ باقتراب استئصالهم.
[٨٥- ٨٧]
[سُورَة مَرْيَم (١٩) : الْآيَات ٨٥ إِلَى ٨٧]
يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (٨٥) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (٨٦) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٨٧)
إِتْمَامٌ لِإِثْبَاتِ قِلَّةِ غِنَاءِ آلِهَتِهِمْ عَنْهُمْ تَبَعًا لِقَوْلِهِ: وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مَرْيَم: ٨٢].
فَجُمْلَةُ: لَا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ هُوَ مَبْدَأُ الْكَلَامِ، وَهُوَ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ: وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا.
وَالظَّرْفُ وَمَا أُضِيفَ الظَّرْفُ إِلَيْهِ إِدْمَاجٌ بُيِّنَتْ بِهِ كَرَامَةُ الْمُؤْمِنِينَ وَإِهَانَةُ الْكَافِرِينَ. وَفِي ضِمْنِهِ زِيَادَة بَيَان لجملة وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا بِأَنَّهُمْ كَانُوا سَبَبَ سَوْقِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا وَمُخالَفَتِهِمْ لِحَالِ الْمُؤْمِنِينَ فِي ذَلِكَ الْمَشْهَدِ الْعَظِيمِ. فَالظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِ يَمْلِكُونَ
بِزِينَةِ الرَّحْمَةِ فَكَانَ كَوْنُهُ رَحْمَةً وَجَمِيعُ شَمَائِلِهِ رَحْمَةً وَصِفَاتُهُ رَحْمَةً عَلَى الْخَلْقِ» اه. وَذكره عَنْهُ عِيَاضٌ فِي «الشِّفَاءِ». قُلْتُ: يَعْنِي أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فُطِرَ عَلَى خُلُقِ الرَّحْمَةِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِ مُعَامَلَتِهِ الْأُمَّةَ لِتَتَكَوَّنَ مُنَاسَبَةٌ بَيْنَ رُوحِهِ الزَّكِيَّةِ وَبَيْنَ مَا يُلْقَى إِلَيْهِ مِنَ الْوَحْيِ بِشَرِيعَتِهِ الَّتِي هِيَ رَحْمَةٌ حَتَّى يَكُونَ تَلَقِّيهِ الشَّرِيعَةَ عَنِ انْشِرَاحِ نَفْسٍ أَنْ يَجِدَ مَا يُوحَى بِهِ إِلَيْهِ مُلَائِمًا رَغْبَتَهُ وَخُلُقَهُ.
قَالَتْ عَائِشَةُ: «كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ»
. وَلِهَذَا خَصَّ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِوَصْفِ الرَّحْمَةِ وَلَمْ يَصِفْ بِهِ غَيْرَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَكَذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ كُلِّهِ، قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [التَّوْبَة: ١٢٨] وَقَالَ تَعَالَى: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [آل عمرَان:
١٥٩] أَيْ بِرَحْمَةٍ جَبَلَكَ عَلَيْهَا وَفَطَرَكَ بِهَا فَكُنْتَ لَهُمْ لَيِّنًا.
وَفِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ لَمَّا شُجَّ وَجْهُهُ يَوْمَ أُحُدٍ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَالُوا: لَوْ دَعَوْتَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: «إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً»
. وَأَمَّا الْمَظْهَرُ الثَّانِي مِنْ مَظَاهِرِ كَوْنِهِ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ فَهُوَ مَظْهَرُ تَصَارِيفِ شَرِيعَتِهِ، أَيْ مَا فِيهَا مِنْ مُقَوِّمَاتِ الرَّحْمَةِ الْعَامَّةِ لِلْخَلْقِ كُلِّهِمْ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى لِلْعالَمِينَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ رَحْمَةً.
والتعريف فِي لِلْعالَمِينَ لِاسْتِغْرَاقِ كُلِّ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْعَالَمِ. وَالْعَالَمُ:
الصِّنْفُ مِنْ أَصْنَافِ ذَوِي الْعِلْمِ، أَيِ الْإِنْسَانُ، أَوِ النَّوْعُ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَخْلُوقَاتِ ذَاتِ الْحَيَاةِ كَمَا تَقَدَّمَ مِنِ احْتِمَالِ الْمَعْنَيَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الْفَاتِحَة: ٢]. فَإِنْ أُرِيدَ أَصْنَافُ ذَوِي الْعِلْمِ فَمَعْنَى كَوْنِ الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ مُنْحَصِرَةً فِي الرَّحْمَةِ أَنَّهَا أَوْسَعُ الشَّرَائِعِ رَحْمَةً بِالنَّاسِ فَإِنَّ الشَّرَائِعَ السَّالِفَةَ وَإِنْ كَانَتْ مَمْلُوءَةً بِرَحْمَةٍ إِلَّا أَنَّ الرَّحْمَةَ فِيهَا غَيْرُ عَامَّةٍ إِمَّا لِأَنَّهَا لَا تَتَعَلَّقُ بِجَمِيعِ أَحْوَالِ الْمُكَلَّفِينَ، فَالْحَنِيفِيَّةُ شَرِيعَةُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَتْ رَحْمَةً خَاصَّةً بِحَالَةِ الشَّخْصِ
وَاللَّعْنَةُ وَاللَّعْنُ: الْإِبْعَادُ بِتَحْقِيرٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [٣٥].
وَاعْلَمْ أَنَّ الزَّوْجَ إِنْ سَمَّى رَجُلًا مُعَيَّنًا زَنَى بِامْرَأَتِهِ صَارَ قَاذِفًا لَهُ زِيَادَةً عَلَى قَذْفِهِ الْمَرْأَةَ، وَأَنَّهُ إِذَا لَاعَنَ وَأَتَمَّ اللِّعَانَ سَقَطَ عَنْهُ حَدُّ الْقَذْفِ لِلْمَرْأَةِ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَيَبْقَى النَّظَرُ فِي قَذْفِهِ ذَلِكَ الرَّجُلَ الَّذِي نَسَبَ إِلَيْهِ الزِّنَى. وَقد اخْتلف الْأَئِمَّة فِي سُقُوطِ حَدِّ الْقَذْفِ لِلرَّجُلِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَسْقُطُ عَنْهُ حَدُّ الْقَذْفِ لِلرَّجُلِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ إِلَّا حَدًّا وَاحِدًا وَلِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ بِالسُّنَّةِ أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَامَ حَدَّ الْفِرْيَةِ عَلَى عُوَيْمِرٍ الْعَجْلَانِيِّ وَلَا عَلَى هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ بَعْدَ اللِّعَانِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: يُسْقِطُ اللِّعَانُ حَدَّ الْمُلَاعِنِ لِقَذْفِ امْرَأَتِهِ وَلَا يُسْقِطُ حَدَّ الْقَذْفِ لِرَجُلٍ سَمَّاهُ، وَالْحُجَّةُ لَهُمَا بِأَنَّ اللَّهَ شَرَعَ حَدَّ الْقَذْفِ.
وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْأَيْمَانُ مُقْتَضِيَةً صِدْقَ دَعْوَى الزَّوْجِ عَلَى الْمَرْأَةِ كَانَ مِنْ أَثَرِ ذَلِكَ أَنْ تُعْتَبَرَ الْمَرْأَةُ زَانِيَةً أَوْ أَنْ يَكُونَ حَمْلُهَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ مِنْ زِنًى لِأَنَّهَا فِي عِصْمَةٍ فَكَانَ ذَلِكَ مُقْتَضِيًا أَنْ يُقَامَ عَلَيْهَا حَدُّ الزِّنَى، فَلَمْ تُهْمِلِ الشَّرِيعَةُ حَقَّ الْمَرْأَةِ وَلَمْ تَجْعَلْهَا مَأْخُوذَةً بِأَيْمَانٍ قَدْ يَكُونُ حَالِفُهَا كَاذِبًا فِيهَا لِأَنَّهُ يُتَّهَمُ بِالْكَذِبِ لِتَبْرِئَةِ نَفْسِهِ فَجَعَلَ لِلزَّوْجَةِ مُعَارَضَةَ أَيْمَانِ زَوْجِهَا كَمَا جَعَلَ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ الطَّعْنَ فِي الشَّهَادَةِ بِالتَّجْرِيحِ أَوِ الْمُعَارَضَةِ فَقَالَ تَعَالَى:
وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ الْآيَةَ. وَإِذْ قَدْ كَانَتْ أَيْمَانُ الْمَرْأَةِ لِرَدِّ أَيْمَانِ الرَّجُلِ، وَكَانَتْ أَيْمَانُ الرَّجُلِ بَدَلًا مِنَ الشَّهَادَةِ وَسُمِّيَتْ شَهَادَةً، كَانَتْ أَيْمَانُ الْمَرْأَةِ لِرَدِّهَا يُنَاسِبُ أَنْ تُسَمَّى شَهَادَةً وَلِأَنَّهَا كَالشَّهَادَةِ الْمُعَارِضَةِ، وَلِكَوْنِهَا بِمَنْزِلَةِ الْمُعَارِضَةِ كَانَتْ أَيْمَانُ الْمَرْأَةِ كُلُّهَا عَلَى إِبْطَالِ دَعْوَاهُ لَا عَلَى إِثْبَاتِ بَرَاءَتِهَا أَوْ صِدْقِهَا.
وَالدَّرْءُ: الدَّفْعُ بِقُوَّةٍ، وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِلْإِبْطَالِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [٢٢].
الْمُفْضِي إِلَى الْعَبَثِ مَنْزِلَةَ الْفِعْلِ الَّذِي أُرِيدَ مِنْهُ الْعَبَثُ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمُ الْبِنَاءَ بِإِدْخَالِ هَمْزَةِ الْإِنْكَارِ عَلَى فِعْلِ تَبْنُونَ، وَقُيِّدَ بِجُمْلَةِ: تَعْبَثُونَ الَّتِي هِيَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ تَبْنُونَ، مَعَ أَنَّهُمْ لَمَّا بَنَوْا ذَلِكَ مَا أَرَادُوا بِفِعْلِهِمْ عَبَثًا، فَمَنَاطُ الْإِنْكَارِ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ هُوَ الْبِنَاءُ الْمُقَيَّدُ بِالْعَبَثِ، لِأَنَّ الْحُكْمَ إِذَا دَخَلَ عَلَى مُقَيَّدٍ بِقَيْدٍ انْصَرَفَ إِلَى ذَلِكَ الْقَيْدِ.
وَكَذَلِكَ الْمَعْطُوفُ عَلَى الْفِعْلِ الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ وَهُوَ جُمْلَةُ: وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ هُوَ دَاخِلٌ فِي حَيِّزِ الْإِنْكَار ومقيّد بجملة الْحَال المقيّد بِهَا الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحَالَ الْمُتَوَسِّطَةَ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ تَرْجِعُ إِلَى كِلْتَيْهِمَا عَلَى رَأْيِ كَثِيرٍ مِنْ عُلَمَاءِ أُصُولِ الْفِقْهِ لَا سِيَّمَا إِذَا قَامَتِ الْقَرِينَةُ عَلَى ذَلِكَ.
وَقَدِ اخْتَلَفَتْ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَعْيِينِ الْبِنَاءِ وَالْآيَاتِ وَالْمَصَانِعِ كَمَا سَيَأْتِي. وَفِي بَعْضِ مَا قَالُوهُ مَا هُوَ متمحّض لِلَّهْوِ وَالْعَبَثِ وَالْفَسَادِ، وَفِي بَعْضِهِ مَا الْأَصْلُ فِيهِ الْإِبَاحَةُ، وَفِي بَعْضِهِ مَا هُوَ صَلَاحٌ وَنَفْعٌ كَمَا سَيَأْتِي.
وَمَوْقِعُ جُمْلَةِ: أَتَبْنُونَ فِي مَوْضِعِ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ لِجُمْلَةِ: أَلا تَتَّقُونَ [الشُّعَرَاء:
١٢٤] فَإِنَّ مَضْمُونَهَا مِمَّا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ عَدَمُ التَّقْوَى الَّذِي تَسَلَّطَ عَلَيْهِ الْإِنْكَارُ وَهُوَ فِي مَعْنَى النَّفْيِ.
وَالرِّيعُ بِكَسْرِ الرَّاءِ: الشَّرَفُ، أَيِ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ، كَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالطَّرِيقُ وَالْفَجُّ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ، كَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ.
وَالْآيَة: الْعَلامَة الدّلَالَة عَلَى الطَّرِيقِ، وَتُطْلَقُ الْآيَةُ عَلَى الْمَصْنُوعِ الْمُعْجِبِ لِأَنَّهُ يَكُونُ عَلَامَةً عَلَى إِتْقَانِ صَانِعِهِ أَوْ عَظَمَةِ صَاحِبِهِ.
وَ (كُلِّ) مُسْتَعْمَلٌ فِي الْكَثْرَةِ، أَيْ فِي الْأَرْيَاعِ الْمُشْرِفَةِ عَلَى الطُّرُقِ الْمَسْلُوكَةِ، وَالْعَبَثُ:
الْعَمَلُ الَّذِي لَا فَائِدَةَ نَفْعٍ فِيهِ.
وَالْمَصَانِعُ: جَمْعُ مَصْنَعٍ وَأَصْلُهُ مَفْعَلٌ مُشْتَقٌّ مِنْ صَنَعَ فَهُوَ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ وُصِفَ بِهِ لِلْمُبَالَغَةِ، فَقِيلَ: هُوَ الْجَابِيَةُ الْمَحْفُورَةُ فِي الْأَرْضِ. وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ: مَبْنِيَّةٌ بِالْجِيرِ يُخَزَّنُ بِهَا الْمَاءُ وَيُسَمَّى صِهْرِيجًا وَمَاجِلًا، وَقِيلَ: قُصُورٌ وَهُوَ عَنْ مُجَاهِدٍ.
وَكَانَتْ بِلَادُ عَادٍ مَا بَيْنَ عَمَّانَ وَحَضْرَمَوْتَ شَرْقًا وَغَرْبًا وَمُتَغَلْغِلَةً فِي الشَّمَالِ إِلَى الرِّمَالِ وَهِيَ الْأَحْقَاقُ.
وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِنَّمَا قَدَّمُ عَلَيْهِ مَا هُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِالْحُكْمِ مَعَ إِدْمَاجِ صِفَاتِ عَظَمَتِهِ الذَّاتِيَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ افْتِقَارَ الْكُلِّ إِلَيْهِ.
وَلِذَلِكَ ابْتُدِئَتِ الْجُمْلَةُ بِضَمِيرِ الْغَائِبِ لِيَعُودَ إِلَى الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُ بِجَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها [الْقَصَص: ٥٨] إِلَى هُنَا، أَيِ الْمَوْصُوفُ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ الْعَظِيمَةِ وَالْفَاعِلُ لِتِلْكَ الْأَفْعَالِ الْجَلِيلَةِ. وَالْمَذْكُورُ بعنوان رَبُّكَ [الْقَصَص: ٦٩] هُوَ الْمُسَمَّى اللَّهَ اسْمًا جَامِعًا لِجَمِيعِ مَعَانِي الْكَمَالِ. فَضَمِيرُ الْغَيْبَةِ مُبْتَدَأٌ وَاسْمُ الْجَلَالَةِ خَبَرُهُ، أَيْ فَلَا تَلْتَبِسُوا فِيهِ وَلَا تُخْطِئُوا بِادِّعَاءِ مَا لَا يَلِيقُ بِاسْمِهِ. وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْله فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ [يُونُس: ٣٢].
وَقَوْلُهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ خَبَرٌ ثَانٍ عَنْ ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ، وَفِي هَذَا الْخَبَرِ الثَّانِي زِيَادَةُ تَقْرِيرٍ لِمَدْلُولِ الْخَبَرِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ اسْمَ الْجَلَالَةِ اخْتُصَّ بِالدَّلَالَةِ عَلَى الْإِلَهِ الْحَقِّ إِلَّا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ حَرَّفُوا أَوْ أَثْبَتُوا الْإِلَهِيَّةَ لِلْأَصْنَامِ مَعَ اعْتِرَافِهِمْ بِأَنَّهَا إِلَهِيَّةٌ دُونَ إِلَهِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ مِنْ حَقِّ النَّظَرِ أَنْ يُعْلَمَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، فَكَانَ هَذَا إِبْطَالًا لِلشِّرْكِ بَعْدَ إِبْطَالِهِ بِحِكَايَةِ تَلَاشِيهِ عَنْ أَهْلِ مِلَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقَوْلِهِ وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ [الْقَصَص: ٦٤].
وَأَخْبَرَ عَنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ خَبَرًا ثَانِيًا بِقَوْلِهِ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ عَلَى انْتِفَاءِ إِلَهِيَّةِ غَيْرِهِ بِحُجَّةِ أَنَّ النَّاسَ مُؤْمِنَهُمْ وَكَافِرَهُمْ لَا يَحْمَدُونَ فِي الدُّنْيَا إِلَّا
اللَّهَ فَلَا تَسْمَعُ أَحَدًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَقُولُ: الْحَمْدُ لِلْعُزَّى، مَثَلًا.
فَاللَّامُ فِي لَهُ لِلْمِلْكِ، أَيْ لَا يَمْلِكُ الْحَمْدَ غَيْرُهُ، وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ وَهُوَ اخْتِصَاصٌ حَقِيقِيٌّ.
وَتَعْرِيفُ الْحَمْدُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ الْمُفِيدِ لِلِاسْتِغْرَاقِ، أَيْ لَهُ كُلُّ حَمْدٍ.
والْأُولى هِيَ الدُّنْيَا وَتَخْصِيصُ الْحَمْدِ بِهِ فِي الدُّنْيَا اخْتِصَاصٌ لِجِنْسِ الْحَمْدِ بِهِ لِأَنَّ حَمْدَ غَيْرِهِ مَجَازٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ.
وَأَمَّا الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ مَا فِي قَوْلِهِ يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ [الْإِسْرَاء:
٥٢]. وَاخْتِصَاصُ الْجِنْسِ بِهِ فِي الْآخِرَةِ حَقِيقَةٌ.
وَالتَّفَاخُرُ لَا عَنْ خُصُوصِ الْمَشْيِ فِي حَالِ الْمَرَحِ فَيَشْمَلُ الْفَخْرَ عَلَيْهِمْ بِالْكَلَامِ وَغَيْرِهِ.
وَالْمَرَحُ: فَرْطُ النَّشَاطِ مِنْ فَرَحٍ وَازْدِهَاءٍ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِي الْمَشْيِ تَبَخْتُرًا وَاخْتِيَالًا فَلِذَلِكَ يُسَمَّى ذَلِكَ الْمَشْيُ مَرَحًا كَمَا فِي الْآيَةِ، فَانْتِصَابُهُ عَلَى الصِّفَةِ لِمَفْعُولٍ مُطْلَقٍ، أَيْ مَشْيًا مَرَحًا، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [٣٧]. وَمَوْقِعُ قَوْلِهِ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ لَا تَمْشِ مَعَ أَنَّ الْمَشْيَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْأَرْضِ هُوَ الْإِيمَاءُ إِلَى أَنَّ الْمَشْيَ فِي مَكَانٍ يَمْشِي فِيهِ النَّاسُ كُلُّهُمْ قَوِيُّهُمْ وَضَعِيفُهُمْ، فَفِي ذَلِكَ مَوْعِظَةٌ لِلْمَاشِي مَرَحًا أَنَّهُ مُسَاوٍ لِسَائِرِ النَّاسِ.
وَمَوْقِعُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ مُوقِعُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [لُقْمَان: ١٦] كَمَا تَقَدَّمَ. وَالْمُخْتَالُ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنِ اخْتَالَ بِوَزْنِ الِافْتِعَالِ مِنْ فِعْلِ خَالَ إِذَا كَانَ ذَا خُيَلَاءَ، فَهُوَ خَائِلٌ. وَالْخُيَلَاءُ: الْكِبْرُ وَالِازْدِهَاءُ، فَصِيغَةُ الِافْتِعَالِ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْوَصْفِ فَوَزْنُ الْمُخْتَالِ مُخْتِيلٌ فَلَمَّا تَحَرَّكَ حَرْفُ الْعِلَّةِ وَانْفَتَحَ مَا قَبْلَهُ قُلِبَ أَلِفًا، فَقَوْلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ مُقَابِلُ قَوْلِهِ وَلَا تُصَاعِرْ خَدَّكَ للنَّاس، وَقَوله فَخُورٍ مُقَابِلُ قَوْلِهِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً.
وَالْفَخُورُ: شَدِيدُ الْفَخْرِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً
فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٣٦].
وَمَعْنَى إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ أَنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْمُخْتَالِينَ الْفَخُورِينَ، وَلَا يَخْطُرُ بِبَالِ أَهْلِ الِاسْتِعْمَالِ أَنْ يَكُونَ مُفَادُهُ أَنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَجْمُوعَ الْمُخْتَالِينَ الْفَخُورِينَ إِذَا اجْتَمَعُوا بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرَهُ عَبْدُ الْقَاهِرِ مِنْ أَنَّ كُلَّ إِذَا وَقَعَ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ مُؤَخَّرًا عَنْ أَدَاتِهِ يَنْصَبُّ النَّفْيُ عَلَى الشُّمُولِ، فَإِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ فِي كُلَّ الَّتِي يُرَادُ مِنْهَا تَأْكِيدُ الْإِحَاطَةِ لَا فِي كُلَّ الَّتِي يُرَادُ مِنْهَا الْأَفْرَادُ، وَالتَّعْوِيلُ فِي ذَلِكَ عَلَى الْقَرَائِنِ. عَلَى أَنَّا نَرَى مَا ذكره الشَّيْخ أَمر أغلبي غَيْرَ مُطَّرِدٍ فِي اسْتِعْمَالِ أَهْلِ اللِّسَانِ وَلِذَلِكَ نَرَى صِحَّةَ الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ فِي لَفْظِ (كُلَّ) فِي قَوْلِ أَبِي النَّجْمِ الْعِجْلِيِّ:
قَدْ أَصْبَحَتْ أُمُّ الْخِيَارِ تَدَّعِي | عَلَيَّ ذَنْبًا كُلَّهُ لَمْ أَصْنَعِ |
عَلَى يَمِينِهَا وَشِمَالِهَا بِغَابَةٍ مِنَ الْجَنَّاتِ يصطافون فِيهَا ويستثمروها مِثْلَ غُوطَةِ دِمَشْقَ، وَهَذَا يُنَاسِبُ قَوْلَهُ بَعْدَ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ [سبأ: ١٦] لِأَنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّ الْمُبَدَّلَ بِهِ جَنَّتَانِ اثْنَتَانِ، إِلَّا أَنْ تَجْعَلَهُ عَلَى التَّوْزِيعِ مِنْ مُقَابَلَةِ الْمُتَعَدِّدِ بِالْمُتَعَدِّدِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ جَنَّاتٍ مَغْرُوسَةٍ أَشْجَارًا مُثْمِرَةً وَأَعْنَابًا.
وَكَانَتْ مَدِينَتُهُمْ مَأْرِبُ (بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَ الْمِيمِ) وَهِيَ بَيْنَ صنعاء وحضرموت، قبل، كَانَ السَّائِرُ فِي طَرَائِقِهَا لَوْ وَضَعَ عَلَى رَأْسِهِ مِكْتَلًا لوجده قد ملىء ثِمَارًا مِمَّا يَسْقُطُ مِنَ الْأَشْجَارِ الَّتِي يَسِيرُ تَحْتَهَا. وَلَعَلَّ فِي هَذَا الْقَوْلِ شَيْئًا مِنَ الْمُبَالَغَةِ إِلَّا أَنَّهَا تُؤْذِنُ بِوَفْرَةٍ.
وَكَانَ ذَلِكَ بِسَبَبِ تَدْبِيرٍ أَلْهَمَهُمُ اللَّهُ إِيَّاهُ فِي اخْتِزَانِ الْمِيَاهِ النَّازِلَةِ فِي مَوَاسِمِ الْمَطَرِ بِمَا بَنَوْا مِنَ السَّدِّ الْعَظِيمِ فِي مَأْرِبَ.
وَجُمْلَةُ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ مَقُولُ قَوْلٍ إِمَّا مِنْ دَلَالَةِ لِسَانِ الْحَالِ كَمَا فِي قَوْلِهِ:
امْتَلَأَ الْحَوْضُ وَقَالَ قَطْنِي وَإِمَّا أَبْلَغُوهُ عَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَاءَ بُعِثُوا مِنْهُمْ، قِيلَ: بُعِثَ فِيهِمُ اثْنَا عَشَرَ نَبِيئًا، أَيْ مِثْلُ تُبَّعِ أَسْعَدَ، فَقَدْ نُقِلَ أَنَّهُ كَانَ نَبِيئًا كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَوْمُ تُبَّعٍ [ق: ١٤] أَوْ غَيْرُهُ، قَالَ تَعَالَى: مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ [غَافِر: ٧٨]، أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ مِمَّا قَالَهُ سُلَيْمَانُ بَلْقِيسَ أَوْ مِمَّا قَالَهُ الصَّالِحُونَ مِنْ رُسُلِ سُلَيْمَانَ إِلَى سَبَأٍ، وَفِي جَعْلِ جَنَّتانِ فِي نَظْمِ الْكَلَامِ بَدَلًا عَنْ آيَةٍ كِنَايَةٌ عَنْ طِيبِ تُرْبَةِ بِلَادِهِمْ. قِيلَ: كَانُوا يَزْرَعُونَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي كُلِّ عَامٍ.
وَالطَّيِّبَةُ: الْحَسَنَةُ فِي جِنْسِهَا الْمُلَائِمَةُ لِمُزَاوِلِهَا وَمُسْتَثْمِرِهَا قَالَ تَعَالَى: وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ [يُونُس: ٢٢] وَقَالَ: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً [النَّحْل: ٩٧] وَقَالَ: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ [الْأَعْرَاف: ٥٨] وَقَالَ: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً [آل عمرَان: ٣٨].
وَفِي حَدِيثِ أَبِي طَلْحَةَ فِي صدقته بحائط (بئرحاء) :«وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ»
. وَالطَّيِّبُ ضِدُّ الْخَبِيثِ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ [النِّسَاء: ٢] وَقَالَ: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ [الْأَعْرَاف: ١٥٧].
وَالْمُؤْبِيِّينَ وَكَانَ لِبَعْلٍ مِنَ السَّدَنَةِ فِي بِلَادِ السَّامِرَةِ، أَوْ مَدِينَةِ صِرْفَةَ أَرْبَعُمَائَةٍ وَخَمْسُونَ
سَادِنًا. وَتُوجَدُ صُورَةُ بَعْلٍ فِي دَارِ الْآثَارِ بِقَصْرِ اللُّوفَرِ فِي بَارِيسَ مَنْقُوشَةٌ عَلَى وَجْهِ حِجَارَةٍ صَوَّرُوهُ بِصُورَةِ إِنْسَانٍ عَلَى رَأْسِهِ خَوْذَةٌ بِهَا قَرْنَانِ وَبِيَدِهِ مِقْرَعَةٌ. وَلَعَلَّهَا صُورَتُهُ عِنْدَ بَعْضِ الْأُمَمِ الَّتِي عَبَدَتْهُ وَلَا تُوجَدُ لَهُ صُورَةٌ فِي آثَارِ قُرْطَاجَنَّةَ الْفِينِيقِيَّةِ بِتُونُسَ.
وَجِيءَ فِي قَوْلِهِ: وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ بِذِكْرِ صِفَةِ اللَّهِ دُونَ اسْمِهِ الْعَلَمِ تَعْرِيضًا بِتَسْفِيهِ عُقُولِ الَّذِينَ عَبَدُوا بَعْلَا بِأَنَّهُمْ تَرَكُوا عِبَادَةَ الرَّبِّ الْمُتَّصِفِ بِأَحْسَنِ الصِّفَاتِ وَأَكْمَلِهَا وَعَبَدُوا صَنَمًا ذَاتُهُ وَخْشٌ فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَتَدْعُونَ صَنَمًا بَشِعًا جَمَعَ عُنْصُرَيِ الضَّعْفِ وَهُمَا الْمَخْلُوقِيَّةُ وَقُبْحُ الصُّورَةِ وَتَتْرُكُونَ مَنْ لَهُ صِفَةُ الْخَالِقِيَّةِ وَالصِّفَاتُ الْحُسْنَى.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ إِلْياسَ بِهَمْزَةِ قَطْعٍ فِي أَوَّلِهِ عَلَى اعْتِبَارِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ مِنْ جُمْلَةِ الِاسْمِ الْعَلَمِ فَلَمْ يَحْذِفُوا الْهَمْزَةَ إِذَا وَصَلُوا إِنَّ بِهَا. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ بِهَمْزَةِ وَصْلٍ فَحَذَفَهَا فِي الْوَصْلِ مَعَ إِنَّ عَلَى اعْتِبَارِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ حَرْفًا لِلَمْحِ الْأَصْلِ. وَأَنَّ أَصْلَ الِاسْمِ يَاسُ مُرَاعَاةً لِقَوْلِهِ: سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ.
وَلِلْعَرَبِ فِي النُّطْقِ بِالْأَسْمَاءِ الْأَعْجَمِيَّةِ تَصَرُّفَاتٌ كَثِيرَةٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ لُغَتِهِمْ فَهُمْ يَتَصَرَّفُونَ فِي النُّطْقِ بِهِ عَلَى مَا يُنَاسِبُ أَبْنِيَةَ كَلَامِهِمْ.
وَجُمْلَةُ اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ قَرَأَ الْأَكْثَرُ بِرَفْعِ اسْمِ الْجَلَالَةِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ فَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا وَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّنْبِيهِ عَلَى الْخَطَأِ بِأَنْ عَبَدُوا بَعْلًا. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبَ وَخَلَفٍ بِنَصْبِ اسْمِ الْجَلَالَةِ عَلَى عَطْفِ الْبَيَانِ لِ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْبَيَانِ زِيَادَةُ التَّصْرِيحِ لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ إِيضَاحٍ لِأَصْلِ الدِّيَانَةِ، وَعَلَى كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ فَالْكَلَامُ مَسُوقٌ لِتَذْكِيرِهِمْ بِأَنَّ مِنْ أُصُولِ دِينِهِمْ أَنَّهُمْ لَا رَبَّ لَهُمْ إِلَّا اللَّهُ، وَهَذَا أَوَّلُ أُصُولِ الدِّينِ فَإِنَّهُ رَبُّ آبَائِهِمْ فَإِنَّ آبَاءَهُمْ لَمْ يَعْبُدُوا غَيْرَ اللَّهِ مِنْ عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ الْأَبُ الأول من حَيْثُ تَمَيَّزَتْ أُمَّتُهُمْ عَنْ غَيْرِهِمْ، أَوْ هُوَ يَعْقُوبُ قَالَ تَعَالَى: وَأَوْصَى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا
بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لَهُ»
. وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ اللَّهُ: فَلَمَّا اسْتَجَابَ دُعَاءَهُمْ، وَإِنَّمَا قَالَ: فَلَمَّا نَجَّاهُمْ، أَيْ لِأَنَّهُ قَدَّرَ نَجَاتَهُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَدْعُوا أَوْ لِأَنَّ دُعَاءَهُمْ صَادَفَ دُعَاءَ بعض الْمُؤمنِينَ.
[٥١- ٥٢]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : الْآيَات ٥١ إِلَى ٥٢]
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (٥١) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٥٢)
كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ وَهُوَ اسْتِخْلَاصٌ لِلْعِبْرَةِ مِنِ الْقِصَصِ الْمَاضِيَةِ مَسُوقٌ لِتَسْلِيَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَعْدِهُ بِحُسْنِ الْعَاقِبَةِ، وَتَسْلِيَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَوَعْدِهِمْ بِالنَّصْرِ وَحُسْنِ الْعَاقِبَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَذَلِكَ أَنَّ الْكَلَامَ مِنِ ابْتِدَاءِ السُّورَةِ كَانَ بِذِكْرِ مُجَادَلَةِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا [غَافِر: ٤] وَأَوْمَأَ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَن شيعهم آئلة إِلَى خَسَارٍ بِقَوْلِهِ: فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ [غَافِر: ٤]، وَامْتَدَّ الْكَلَامُ فِي الرَّدِّ عَلَى الْمُجَادِلِينَ وَتَمْثِيلِ حَالِهِمْ بِحَالِ أَمْثَالِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي آلَ أَمْرُهَا إِلَى خَيْبَةٍ وَاضْمِحْلَالٍ فِي الدُّنْيَا وَإِلَى عَذَابٍ دَائِمٍ فِي الْآخِرَةِ وَلَمَّا اسْتَوْفَى الْغَرَضُ مُقْتَضَاهُ مِنْ إِطْنَابِ الْبَيَانِ بَيَّنَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقِبَهُ أَنَّهُ يَنْصُرُ رُسُلَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الدُّنْيَا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي آخِرِ الْكَلَامِ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [غَافِر: ٧٧].
وَقَدْ عُلِمَ مِنْ فِعْلِ النَّصْرِ أَنَّ هُنَالِكَ فَرِيقًا مَنْصُورًا عَلَيْهِمُ الرُّسُلُ وَالْمُؤْمِنُونَ فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ، وَمِنَ الْمُتَعَيَّنِ أَنَّهُمُ الْفَرِيقُ الْمُعَانِدُ لِلرُّسُلِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، فَنَصْرُ الرُّسُلِ وَالْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا بِإِظْهَارِهِمْ عَلَيْهِمْ وَإِبَادَتِهِمْ، وَفِي الْآخِرَةِ بِنَعِيمِ الْجَنَّةِ لَهُمْ وَعَذَابِ النَّارِ لِأَعْدَائِهِمْ.
وَالتَّعْبِيرُ بِالْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: لَنَنْصُرُ لِمَا فِيهِ مِنِ اسْتِحْضَارِ حَالَاتِ النَّصْرِ الْعَجِيبَةِ الَّتِي وُصِفَ بَعْضهَا فِي هَذِه السُّورَةِ وَوُصِفَ بَعْضٌ آخَرُ فِي سُوَرٍ أُخْرَى تَقَدَّمَ نُزُولُهَا، وَإِلَّا فَإِنَّ نَصْرَ الرُّسُلِ الَّذِينَ سَبَقُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ مَضَى وَنَصْرُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَرَقَّبٌ غَيْرُ حَاصِلٍ حِينَ نُزُولِ الْآيَةِ.
وَالْبَطْشُ: الْإِضْرَارُ الْقَوِيُّ.
وَانْتَصَبَ بَطْشاً عَلَى التَّمْيِيزِ لِنِسْبَةِ الْأَشُدِّيَّةِ.
ومَثَلُ الْأَوَّلِينَ حَالُهُمُ الْعَجِيبَةُ. وَمَعْنَى مَضى: انْقَرَضَ، أَيْ ذَهَبُوا عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ، فَمُضِيِّ الْمَثَلِ كِنَايَةٌ عَنِ اسْتِئْصَالِهِمْ لِأَنَّ مُضِيَّ الْأَحْوَالِ يَكُونُ بِمُضِيِّ أَصْحَابِهَا، فَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا [الْأَنْعَام: ٤٥]. وَذِكْرُ الْأَوَّلِينَ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِتَقَدُّمِ قَوْلِهِ: فِي الْأَوَّلِينَ. وَوَجْهُ إِظْهَارِهِ أَنْ يَكُونَ الْإِخْبَارُ عَنْهُمْ صَرِيحًا وَجَارِيًا مجْرى الْمثل.
[٩]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٩]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩)
لَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نبيء فِي الْأَوَّلِينَ [الزخرف: ٦] مُوَجَّهًا إِلَى الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلتَّسْلِيَةِ وَالْوَعْدِ بِالنَّصْرِ، عَطَفَ عَلَيْهِ خطاب الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَرِيحًا بَقَوْلِهِ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ الْآيَةَ، لِقَصْدِ التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِ الَّذِينَ كَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا كَذَّبُوهُ لِأَنَّهُ دَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ إِلَهٍ وَاحِدٍ وَنَبْذِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَرَأَوْا ذَلِكَ عَجَبًا مَعَ أَنَّهُمْ يُقِرُّونَ لِلَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ خَالِقُ الْعَوَالِمِ وَمَا فِيهَا. وَهَلْ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ غَيْرُ خَالِقِ الْعَابِدِينَ، وَلِأَنَّ الْأَصْنَامَ مِنْ جُمْلَةِ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي الْأَرْضِ مِنْ حِجَارَةٍ، فَلَوْ سَأَلَهُمْ الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُحَاجَّتِهِ إِيَّاهُمْ عَنْ خَالِقِ الْخَلْقِ لَمَا اسْتَطَاعُوا غَيْرَ الْإِقْرَارِ بِأَنَّهُ اللَّهُ تَعَالَى.
فَجُمْلَةُ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نبيء فِي الْأَوَّلِينَ [الزخرف: ٦] عَطْفَ الْغَرَضِ، وَهُوَ انْتِقَالٌ إِلَى الِاحْتِجَاجِ عَلَى بُطْلَانِ الْإِشْرَاكِ بِإِقْرَارِهِمُ الضِّمْنِيِّ: أَنَّ أَصْنَامَهُمْ خَالِيَةٌ عَنْ صِفَةِ اسْتِحْقَاقِ أَنْ تُعْبَدَ. وَتَأْكِيدُ الْكَلَامِ بِاللَّامِ الْمُوطِئَةِ لِلْقَسَمِ وَلَامِ الْجَوَابِ وَنُونِ التَّوْكِيدِ لِتَحْقِيقِ أَنَّهُمْ يُجِيبُونَ بِذَلِكَ تَنْزِيلًا لِغَيْرِ الْمُتَرَدِّدِ فِي الْخَبَرِ مَنْزِلَةَ الْمُتَرَدِّدِ، وَهَذَا التَّنْزِيلُ كِنَايَةٌ عَنْ جَدَارَةِ حَالَتِهِمْ بِالتَّعْجِيبِ مِنِ اخْتِلَالِ تَفْكِيرِهِمْ وَتَنَاقُضِ عَقَائِدِهِمْ وَإِنَّمَا فَرَضَ الْكَشْفَ عَنْ عَقِيدَتِهِمْ فِي صُورَةِ سُؤَالِهِمْ عَنْ خَالِقِهِمْ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمْ غَافِلُونَ عَنْ ذَلِكَ فِي
الْحُدَيْبِيَةِ ثَمَرَةَ غَزْوِهِمْ، وَيَتَضَمَّنُ تَأْكِيدَ تَكْذِيبِهِمْ فِي اعْتِذَارِهِمْ عَنِ التَّخَلُّفِ بِأَنَّهُمْ حِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّ هُنَالِكَ مَغَانِمَ مِنْ قِتَالٍ غَيْرِ شَدِيدٍ يَحْرِصُونَ عَلَى الْخُرُوجِ وَلَا تَشْغَلُهُمْ أَمْوَالُهُمْ
وَلَا أَهَالِيهِمْ، فَلَوْ كَانَ عُذْرُهُمْ حَقًّا لَمَا حَرَصُوا عَلَى الْخُرُوجِ إِذَا تَوَقَّعُوا الْمَغَانِمَ وَلَأَقْبَلُوا عَلَى الِاشْتِغَالِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ.
وَلِكَوْنِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ صَدَرَتْ مِنْهُمْ عَنْ قَرِيحَةٍ وَرَغْبَةٍ لَمْ يُؤْتَ مَعَهَا بِمَجْرُورِ لَكَ كَمَا أُتِيَ بِهِ فِي قَوْلِهِ: سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ آنِفًا لِأَنَّ هَذَا قَوْلٌ رَاغِبٌ صَادِقٌ غَيْرُ مُزَوَّرٍ لِأَجْلِ التَّرْوِيجِ على النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ.
وَاسْتُغْنِيَ عَنْ وَصْفِهِمْ بِأَنَّهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ لِأَنَّ تَعْرِيفَ الْمُخَلَّفُونَ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ، أَيِ الْمُخَلَّفُونَ الْمَذْكُورُونَ.
وَقَوْلُهُ: إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها مُتَعَلِّقٌ بِ سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ وَلَيْسَ هُوَ مَقُولُ الْقَوْلِ. وإِذَا ظَرْفٌ لِلْمُسْتَقْبَلِ، وَوُقُوعُ فِعْلِ الْمُضِيِّ بَعْدَهُ دُونَ الْمُضَارِعِ مُسْتَعَارٌ لِمَعْنَى التَّحْقِيقِ، وإِذَا قَرِينَةٌ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهَا خَاصَّةٌ بِالزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ.
وَالْمُرَادُ بِالْمَغَانِمِ فِي قَوْلِهِ: إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ: الْخُرُوجُ إِلَى غَزْوَةِ خَيْبَرَ فَأُطْلِقَ عَلَيْهَا اسْمُ مَغَانِمَ مَجَازًا لِعَلَاقَةِ الْأَوَّلِ مِثْلُ إِطْلَاقِ خَمْرًا فِي قَوْلِهِ: إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً [يُوسُف: ٣٦]. وَفِي هَذَا الْمَجَازِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُمْ مَنْصُورُونَ فِي غَزْوَتِهِمْ.
وَأَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَجَعَ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ أَقَامَ شَهْرَ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ وست وَأَيَّامًا مِنْ مُحَرَّمٍ سَنَةَ سَبْعٍ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى غَزْوَةِ خَيْبَرَ وَرَامَ الْمُخَلَّفُونَ عَنِ الْحُدَيْبِيَةِ أَنْ يَخْرُجُوا مَعَهُ فَمَنَعَهُمْ لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ غَزْوَةَ خَيْبَرَ غَنِيمَةً لِأَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ خَاصَّةً إِذْ وَعَدَهُمْ بِفَتْحٍ قَرِيبٍ.
وَقَوْلُهُ: لِتَأْخُذُوها تَرْشِيحٌ لِلْمَجَازِ وَهُوَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْمَغَانِمَ حَاصِلَةٌ لَهُمْ لَا مَحَالَةَ.
وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أخبر نبيئه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ وَعَدَ أَهْلَ الْحُدَيْبِيَةِ أَنْ يُعَوِّضَهُمْ عَنْ عَدَمِ دُخُولِ مَكَّةَ مَغَانِمَ خَيْبَرَ.
إِيمَانِ قُلُوبٍ قَاسِيَةٍ، فَإِذَا أَظْهَرَ اللَّهُ الْآيَاتِ على يَد رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِتَأْيِيدِ صِدْقِهِ شَفَعَ ذَلِكَ بِإِعَادَةِ التَّذْكِيرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً [الْإِسْرَاء: ٥٩].
وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ شَاهِدَةً عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِظُهُورِ آيَةٍ كُبْرَى وَمُعْجِزَةٍ مِنْ مُعْجِزَاتِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ مُعْجِزَةُ انْشِقَاقِ الْقَمَرِ.
فَفِي «صَحِيح البُخَارِيّ»
و «جَامع التِّرْمِذِيِّ» عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: «سَأَلَ أَهْلُ مَكَّةَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرِيَهُمْ آيَةً فَأَرَاهُمُ انْشِقَاقَ الْقَمَرِ». زَادَ التِّرْمِذِيُّ عَنْهُ «فَانْشَقَّ الْقَمَرُ بِمَكَّةَ فِرْقَتَيْنِ، فَنَزَلَتِ: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ إِلَى قَوْلِهِ: سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ
[الْقَمَر: ٢].
وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِنًى فَانْشَقَّ الْقَمَرُ.
وَظَاهِرُهُ أَنَّ ذَلِكَ فِي مَوْسِمِ الْحَجِّ.
وَفِي «سِيرَةِ الْحَلَبِيِّ» كَانَ ذَلِكَ لَيْلَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ (أَي فِي آخر لَيَالِي مِنًى لَيْلَةَ النَّفْرِ). وَفِيهَا «اجْتَمَعَ الْمُشْرِكُونَ بِمِنًى وَفِيهِمُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَأَبُو جَهْلٍ، وَالْعَاصِي بْنُ وَائِلٍ، وَالْعَاصِي بْنُ هِشَامٍ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَزَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَالنَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ فَسَأَلُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَشُقَّ لَنَا الْقَمَرَ فِرْقَتَيْنِ فَانْشَقَّ الْقَمَرُ».
وَالْعُمْدَةُ فِي هَذَا التَّأْوِيلِ عَلَى
حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي «الصَّحِيحِ» قَالَ: «انْشَقَّ الْقَمَرُ وَنَحْنُ مَعَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِنًى فَانْشَقَّ فِرْقَتَيْنِ فِرْقَةٌ فَوْقَ الْجَبَلِ وَفِرْقَةٌ دُونَهُ فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اشْهَدُوا اشْهَدُوا». زَادَ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ عَنْهُ «يَعْنِي اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ
. قُلْتُ: وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نِصْفٌ عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ وَنِصْفٌ عَلَى قُعَيْقِعَانَ.
وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَجُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَشْهَدُوا انْشِقَاقَ الْقَمَرِ لِأَنَّ مَنْ عَدَا عَلِيَّا وَابْنَ عَبَّاسٍ وَابْنَ عُمَرَ لَمْ يَكُونُوا بِمَكَّةَ وَلَمْ يُسْلِمُوا إِلَّا بَعْدَ الْهِجْرَةِ وَلَكِنَّهُمْ مَا تَكَلَّمُوا إِلَّا عَنْ يَقِينٍ.
وَكَثْرَةُ رُوَاةِ هَذَا الْخَبَرِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ خَبَرًا مُسْتَفِيضًا. وَقَالَ فِي «شَرْحِ
مَعَ فُلَانٍ، أَوْ سَرَقْتِ حَلْيَ فُلَانَةٍ. لِتَبْهَتَهَا فِي مَلَأٍ مِنَ النَّاسِ، أَوْ أَنْت بنت زنا، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.
وَإِنْ كَانَ الْبُهْتَانُ بِمَعْنَى الْمَكْذُوبِ كَانَ مَعْنَى افْتِرَائِهِ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ كِنَايَةً عَنِ ادِّعَاءِ الْحَمْلِ بِأَنْ تَشْرَبَ مَا يَنْفُخُ بَطْنَهَا فَتُوهِمَ زَوْجَهَا أَنَّهَا حَامِلٌ ثُمَّ تُظْهِرَ الطَّلْقَ وَتَأْتِيَ بِوَلَدٍ تَلْتَقِطُهُ وَتَنْسِبُهُ إِلَى زَوْجِهَا لِئَلَّا يُطَلِّقَهَا، أَوْ لِئَلَّا يَرِثَهُ عُصْبَتُهُ، فَهِيَ تُعَظِّمُ بَطْنَهَا وَهُوَ بَيْنَ يَدَيْهَا، ثُمَّ إِذَا وَصَلَ إِبَّانَ إِظْهَارِ الطَّلْقِ وَضَعَتِ الطِّفْلَ بَيْنَ رِجْلَيْهَا وَتَحَدَّثَتْ وَتَحَدَّثَ النَّاسُ بِذَلِكَ فَهُوَ مَبْهُوتٌ عَلَيْهِ. فَالِافْتِرَاءُ هُوَ ادِّعَاؤُهَا ذَلِكَ تَأْكِيدًا لِمَعْنَى الْبُهْتَانِ.
وَإِنْ كَانَ الْبُهْتَانُ مُسْتَعَارًا لِلْبَاطِلِ الشَّبِيهِ بِالْخَبَرِ الْبُهْتَانِ، كَانَ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ مُحْتَمِلًا لِلْكِنَايَةِ عَنْ تَمْكِينِ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ زَوْجِهَا يقبلهَا أَو يحبسها، فَذَلِكَ بَيْنَ يَدَيْهَا أَوْ يَزْنِي بِهَا، وَذَلِكَ بَيْنَ أَرْجُلِهَا.
وَفَسَّرَهُ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ بِالسِّحْرِ إِذْ تُعَالِجُ أُمُورَهُ بِيَدَيْهَا، وَهِيَ جَالِسَةٌ تَضَعُ أَشْيَاءَ السِّحْرِ بَيْنَ رِجْلَيْهَا.
وَلَا يَمْنَعُ مِنْ هَذِهِ الْمَحَامِلِ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَايَعَ الرِّجَالَ بِمِثْلِهَا. وَبَعْضُ هَذِهِ الْمَحَامِلِ لَا يُتَصَوَّرُ فِي الرِّجَالِ إِذْ يُؤْخَذُ لِكُلِّ صِنْفٍ مَا يَصْلُحُ لَهُ مِنْهَا.
وَبَعْدَ تَخْصِيصِ هَذِهِ الْمَنْهِيَّاتِ بِالذِّكْرِ لِخَطَرِ شَأْنِهَا عَمَّمَ النَّهْيَ بِقَوْلِهِ: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ وَالْمَعْرُوفُ هُوَ مَا لَا تُنْكِرُهُ النُّفُوسُ. وَالْمُرَادُ هُنَا الْمَعْرُوفُ فِي الدِّينِ، فَالتَّقْيِيدُ بِهِ إِمَّا لِمُجَرَّدِ الْكَشْفِ فَإِن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَأْمُرُ إِلَّا بِالْمَعْرُوفِ، وَإِمَّا لِقَصْدِ التَّوْسِعَةِ عَلَيْهِنَّ فِي أَمْرٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ كَمَا فَعَلَتْ بَرِيرَةُ إِذْ لَمْ تَقْبَلْ شَفَاعَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِرْجَاعِهَا زَوْجَهَا مُغِيثًا إِذْ بَانَتْ مِنْهُ بِسَبَبِ عِتْقِهَا وَهُوَ رَقِيقٌ.
وَقَدْ
رُوِيَ فِي «الصَّحِيحِ» عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَاهُنَّ فِي هَذِهِ الْمُبَايَعَةِ عَنِ النِّيَاحَةِ فَقَبَضَتِ امْرَأَةٌ يَدَهَا وَقَالَتْ: أَسْعَدَتْنِي فُلَانَةُ أُرِيدُ أَنْ أَجْزِيَهَا. فَمَا قَالَ لَهَا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا فَانْطَلَقَتْ وَرَجَعَتْ فَبَايَعَهَا
. وَإِنَّمَا هَذَا مِثَالٌ لِبَعْضِ الْمَعْرُوفِ الَّذِي يَأْمُرُهُنَّ بِهِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْكُهُ فَاشٍ فِيهِنَّ.
وَوَرَدَ فِي أَخْبَارٍ أَنَّهُ نَهَاهُنَّ عَنْ تَبَرُّجِ الْجَاهِلِيَّةِ وَعَنْ أَنْ يُحَدِّثْنَ الرِّجَالَ الَّذِينَ
وَهَلُوعٌ: فَعُولٌ مِثَالُ مُبَالَغَةٍ لِلِاتِّصَافِ بِالْهَلَعِ.
وَالْهَلَعُ لَفْظٌ غَامِضٌ مِنْ غَوَامِضِ اللُّغَةِ قَدْ تَسَاءَلَ الْعُلَمَاءُ عَنْهُ، قَالَ «الْكَشَّافُ» :«وَعَنْ أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَى (هُوَ ثَعْلَبٌ) قَالَ لِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ (١) : مَا الْهَلَعُ؟ فَقُلْتُ: قَدْ فَسَّرَهُ اللَّهُ وَلَا يَكُونُ تَفْسِيرٌ أَبْيَنَ مِنْ تَفْسِيرِهِ وَهُوَ الَّذِي إِذَا نَالَهُ شَرٌّ أَظْهَرَ شِدَّةَ الْجَزَعِ، وَإِذَا نَالَهُ خَيْرٌ بَخِلَ بِهِ وَمَنَعَهُ النَّاسَ» اهـ. فَسَارَتْ كَلِمَةُ ثَعْلَبٍ مَسِيرًا أَقْنَعَ كَثِيرًا مِنَ اللُّغَوِيِّينَ عَنْ زِيَادَةِ الضَّبْطِ لِمَعْنَى الْهَلَعِ. وَهِيَ كَلِمَةٌ لَا تَخْلُو عَنْ تَسَامُحٍ وَقِلَّةِ تَحْدِيدٍ لِلْمَعْنَى لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً تَفْسِيرًا لِمَدْلُولِ الْجَزُوعِ، تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ مَدْلُولُ الْكَلِمَةِ مَعْنًى مُرَكَّبًا مِنْ مَعْنَيَيِ الْجُمْلَتَيْنِ لِتَكُونَ الْجُمْلَتَانِ تَفْسِيرًا لَهُ، وَظَاهِرٌ أَنَّ الْمَعْنَيَيْنِ لَيْسَ بَينهمَا تلازم، وَكَثِيرًا مِنْ أَيِمَّةِ اللُّغَةِ فَسَّرَ الْهَلَعَ بِالْجَزَعِ، أَوْ بِشِدَّةِ الْجَزَعِ، أَوْ بِأَفْحَشِ الْجَزَعِ، وَالْجَزَعُ: أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الْهَلَعِ وَلَيْسَ عَيْنُهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَسْتَقِيمُ فِي قَوْلِ عَمْرِو بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ:
مَا إِنْ جَزِعْتُ وَلَا هَلِعْتُ | وَلَا يَرُدُّ بُكَايَ زَنْدَا |
وَالَّذِي اسْتَخْلَصْتُهُ مِنْ تَتَبُّعِ اسْتِعْمَالَاتِ كَلِمَةِ الْهَلَعِ أَنَّ الْهَلَعَ قِلَّةُ إِمْسَاكِ النَّفْسِ عِنْدَ اعْتِرَاءِ مَا يُحْزِنُهَا أَوْ مَا يَسُرُّهَا أَوْ عِنْدَ تَوَقُّعِ ذَلِكَ وَالْإِشْفَاقِ مِنْهُ. وَأَمَّا الْجَزَعُ فَمِنْ آثَارِ الْهَلَعِ، وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ الْهَلَعَ بِالشَّرَهِ، وَبَعْضُهُمْ بِالضَّجَرِ، وَبَعْضُهُمْ بِالشُّحِّ، وَبَعْضُهُمْ بِالْجُوعِ، وَبَعْضُهُمْ بِالْجُبْنِ عِنْدَ اللِّقَاءِ. وَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي ضَبْطِهِ يَجْمَعُ هَذِهِ الْمَعَانِيَ وَيُرِيكَ أَنَّهَا آثَارٌ لِصِفَةِ الْهَلَعِ. وَمَعْنَى خُلِقَ هَلُوعاً:
_________
(١) مُحَمَّد بن عبد الله بن طَاهِر بن الْحُسَيْن كَانَ وَالِي شرطة بَغْدَاد فِي زمن المتَوَكل على الله، وَكَانَ شَاعِرًا أديبا ملازما لأهل الْعلم توفّي سنة ٢٥٣ وَأَبوهُ عبد الله وَالِي خُرَاسَان فِي زمن الْمَأْمُون وممدوح أبي تَمام توفّي سنة ٢٢٩.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ إِشَارَةٌ بَيِّنَةٌ عَلَى أَنَّ مِنَ الْخَطَأِ أَنْ يُوزَنَ حَالُ الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ بِمِيزَانِ أَحْوَالِ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مُعْظَمِهِمْ كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ أَهْلِ الْأَنْظَارِ الْقَاصِرَةِ مِنَ الْغَرْبِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ إِذْ يَجْعَلُونَ وُجْهَةَ نَظَرِهِمُ التَّأَمُّلَ فِي حَالَةِ الْأُمَمِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَيَسْتَخْلِصُونَ مِنِ اسْتِقْرَائِهَا أَحْكَامًا كُلِّيَّةً يَجْعَلُونَهَا قَضَايَا لِفَلْسَفَتِهِمْ فِي كُنْهِ الدِّيَانَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ صَرِيحَةٌ فِي إِثْبَاتِ الْمَشِيئَةِ لِلْإِنْسَانِ الْعَاقِلِ فِيمَا يَأْتِي وَيَدَعُ، وَأَنَّهُ لَا عُذْرَ لَهُ إِذَا قَالَ: هَذَا أَمْرٌ قُدِّرَ، وَهَذَا مَكْتُوبٌ عِنْدَ اللَّهِ، فَإِنَّ تِلْكَ كَلِمَاتٌ يَضَعُونَهَا فِي غَيْرِ مَحَالِّهَا، وَبِذَلِكَ يَبْطُلُ قَوْلُ الْجَبْرِيَّةِ، وَيَثْبُتُ لِلْعَبْدِ كَسْبٌ أَوْ قُدْرَةٌ عَلَى اخْتِلَاف التَّعْبِير.
[٢٩]
[سُورَة التكوير (٨١) : آيَة ٢٩]
وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٩)
يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تَذْيِيلًا أَوِ اعْتِرَاضًا فِي آخِرِ الْكَلَامِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالًا. وَالْمَقْصُودُ التَّكْمِيلُ وَالِاحْتِرَاسُ فِي مَعْنَى لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ، أَيْ وَلِمَنْ شَاءَ لَهُ ذَلِكَ مِنَ الْعَالَمِينَ، وَتَقَدَّمَ فِي آخِرِ سُورَةِ الْإِنْسَانِ قَوْلُهُ تَعَالَى:
إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً [الْإِنْسَان: ٢٩، ٣٠].
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَصْفُ اللَّهِ تَعَالَى بِ رَبُّ الْعالَمِينَ وَهُوَ مُفِيدٌ التَّعْلِيلَ لِارْتِبَاطِ مَشِيئَةِ مَنْ شَاءَ الِاسْتِقَامَةَ مِنَ الْعَالِمَيْنِ لِمَشِيئَةِ اللَّهِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فَهُوَ الْخَالِقُ فِيهِمْ دَوَاعِيَ الْمَشِيئَةِ وَأَسْبَابَ حُصُولِهَا الْمُتَسَلْسِلَةَ وَهُوَ الَّذِي أَرْشَدَهُمْ لِلِاسْتِقَامَةِ عَلَى الْحَقِّ، وَبِهَذَا الْوَصْفِ ظَهَرَ مَزِيدُ الِاتِّصَالِ بَيْنَ مَشِيئَةِ النَّاسِ الِاسْتِقَامَةَ بِالْقُرْآنِ وَبَيْنَ كَوْنِ الْقُرْآنِ ذِكْرًا لِلْعَالَمِينَ.
وَأَمَّا آيَةُ سُورَةِ الْإِنْسَانِ فَقَدْ ذُيِّلَتْ: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً [الْإِنْسَان: ٣٠] أَيْ فَهُوَ بِعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ يَنُوطُ مَشِيئَتَهُ لَهُمْ الِاسْتِقَامَةَ بِمَوَاضِعِ صَلَاحِيَتِهِمْ لَهَا فَيُفِيدُ أَنَّ مَنْ لَمْ يَشَأْ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا قَدْ حَرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ مَشِيئَتِهِ الْخَيْرَ بِعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ كِنَايَةً عَنْ شَقَائِهِمْ.