ثُمَّ إِنَّ فِي تَعْقِيبِ قَوْلِهِ: رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ بِقَوْلِهِ: مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ وَلِيُّ التَّصَرُّفِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَهُوَ إِذَنْ تَتْمِيمٌ.
وَقَوْلُهُ (مَلِكِ) قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِدُونِ أَلِفٍ بَعْدَ الْمِيمِ وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ وَخَلَفٌ (مَالِكِ) بِالْأَلِفِ فَالْأَوَّلُ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ صَارَتِ اسْمًا لِصَاحِبِ الْمُلْكِ (بِضَمِّ الْمِيمِ) وَالثَّانِي اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ مَلَكَ إِذَا اتَّصَفَ بِالْمِلْكِ (بِكَسْر الْمِيم) وكلا هما مُشْتَقٌّ مِنْ مَلَكَ، فَأَصْلُ مَادَّةِ مَلَكَ فِي اللُّغَةِ تَرْجِعُ تَصَارِيفُهَا إِلَى مَعْنَى الشَّدِّ وَالضَّبْطِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، ثُمَّ يَتَصَرَّفُ ذَلِكَ بِالْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، وَالتَّحْقِيقِ وَالِاعْتِبَارِ، وَقِرَاءَةُ (مَلِكِ) بِدُونِ أَلِفٍ تَدُلُّ عَلَى تَمْثِيلِ الْهَيْئَةِ فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ لِأَنَّ الْمَلِكَ- بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ اللَّامِ- هُوَ ذُو الْمُلْكِ- بِضَمِّ الْمِيمِ- وَالْمُلْكُ أَخَصُّ مِنَ الْمِلْكِ، إِذِ الْمُلْكُ- بِضَمِّ الْمِيمِ- هُوَ التَّصَرُّفُ فِي الْمَوْجُودَاتِ وَالِاسْتِيلَاءُ وَيَخْتَصُّ بِتَدْبِيرِ أُمُورِ الْعُقَلَاءِ وَسِيَاسَةِ جُمْهُورِهِمْ وَأَفْرَادِهِمْ وَمَوَاطِنِهِمْ فَلِذَلِكَ يُقَالُ: مَلِكِ النَّاسِ وَلَا يُقَالُ: مَلِكِ الدَّوَابِّ أَوِ الدَّرَاهِمِ، وَأَمَّا الْمِلْكُ- بِكَسْرِ الْمِيمِ- فَهُوَ الِاخْتِصَاصُ بِالْأَشْيَاءِ وَمَنَافِعِهَا دُونَ غَيْرِهِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ (مَلِكِ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ اللَّامِ دُونَ أَلِفٍ وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَيْهِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فِي «كِتَابِ التِّرْمِذِيِّ». قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: حَكَى أَبُو عَلِيٍّ عَنْ بَعْضِ الْقُرَّاءِ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ قَرَأَ (مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ) مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ فَرَدَّهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ السَّرَّاجِ بِأَنَّ الْأَخْبَارَ الْوَارِدَةَ تُبْطِلُ ذَلِكَ فَلَعَلَّ قَائِلَ ذَلِكَ أَرَادَ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ قَرَأَ بِهَا فِي بَلَدٍ مَخْصُوصٍ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ (مَالِكِ) بِأَلِفٍ بَعْدَ الْمِيمِ بِوَزْنِ اسْمِ الْفَاعِلِ فَهِيَ قِرَاءَةُ عَاصِمٍ وَالْكِسَائِيِّ وَيَعْقُوبَ وَخَلَفٍ، وَرُوِيَتْ عَنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ، وَرَوَاهَا التِّرْمِذِيُّ فِي «كِتَابِهِ» أَنَّهَا قَرَأَ بِهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصاحباه أَيْضا.
وكلتا هما صَحِيحَةٌ ثَابِتَةٌ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْقِرَاءَاتِ الْمُتَوَاتِرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدِّمَةِ السَّادِسَةِ.
وَقَدْ تَصَدَّى الْمُفَسِّرُونَ وَالْمُحْتَجُّونَ لِلْقِرَاءَاتِ لِبَيَانِ مَا فِي كُلٍّ مِنْ قِرَاءَةِ (مَلِكِ) - بِدُونِ أَلِفٍ- وَقِرَاءَةِ (مَالِكِ) - بِالْأَلِفِ- مِنْ خُصُوصِيَّاتٍ بِحَسَبِ قَصْرِ النَّظَرِ عَلَى مَفْهُومِ كَلِمَةِ مَلِكِ وَمَفْهُومِ كَلِمَةِ (مَالِكِ)، وَغَفَلُوا عَنْ إِضَافَةِ الْكَلِمَةِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، فَأَمَّا وَالْكَلِمَةُ مُضَافَةٌ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ فَقَدِ اسْتَوَيَا فِي إِفَادَةِ أَنَّهُ الْمُتَصَرف فِي شؤون ذَلِكَ الْيَوْمِ دُونَ شُبْهَةِ مُشَارِكٍ. وَلَا مَحِيصَ عَنِ اعْتِبَارِ التَّوَسُّعِ فِي إِضَافَةِ (مَلِكٍ) أَوْ (مَالِكٍ) إِلَى (يَوْم) بِتَأْوِيل شؤون يَوْمٍ الدِّينِ.
عَلَى أَنَّ (مَالِكِ) لُغَةٌ فِي (مَلِكِ) فَفِي «الْقَامُوسِ» :«وَكَأَمِيرٍ وَكَتِفٍ وَصَاحِبٍ ذُو الْمُلْكِ».
شَهِدَ بِمَعْنَى تَحَقَّقَ وَعَلِمَ، مَعَ زِيَادَةٍ فِي تَأْكِيدِ حُكْمِ الرُّخْصَةِ وَلِزِيَادَةِ بَيَانِ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ.
يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ.
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ كَالْعِلَّةِ لِقَوْلِهِ: وَمَنْ كانَ مَرِيضاً إِلَخْ بَيَّنَ بِهِ حِكْمَةَ الرُّخْصَةِ أَيْ شَرَعَ لَكُمُ الْقَضَاءَ لِأَنَّهُ يُرِيدُ بِكُمُ الْيُسْرَ عِنْدَ الْمَشَقَّةِ.
وَقَوْلُهُ: وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ نَفْيٌ لِضِدِّ الْيُسْرِ، وَقَدْ كَانَ يَقُومُ مَقَامَ هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ جُمْلَةُ قَصْرٍ نَحْوَ أَنْ يَقُولَ: مَا يُرِيدُ بِكُمْ إِلَّا الْيُسْرَ، لَكِنَّهُ عَدَلَ عَنْ جُمْلَةِ الْقَصْرِ إِلَى جُمْلَتَيْ إِثْبَاتٍ وَنَفْيٍ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ ابْتِدَاءً هُوَ جُمْلَةُ الْإِثْبَاتِ لِتَكُونَ تَعْلِيلًا لِلرُّخْصَةِ، وَجَاءَتْ بَعْدَهَا جُمْلَةُ النَّفْيِ تَأْكِيدًا لَهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ تَعْلِيلًا لِجَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ [الْبَقَرَة: ١٨٣] إِلَى هُنَا فَيَكُونُ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ مَشْرُوعِيَّةَ الصِّيَامِ وَإِنْ كَانَتْ تَلُوحُ فِي صُورَةِ الْمَشَقَّةِ وَالْعُسْرِ فَإِنَّ فِي طَيِّهَا مِنَ الْمَصَالِحِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ بِهَا الْيُسْرَ أَيْ تَيْسِيرَ تَحْصِيلِ رِيَاضَةِ النَّفْسِ بِطَرِيقَةٍ سَلِيمَةٍ مِنْ إِرْهَاقِ أَصْحَابِ بَعْضِ الْأَدْيَانِ الْأُخْرَى أَنْفُسَهُمْ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُور: (الْيُسْر) و (الْعسر) بِسُكُونِ السِّينِ فِيهِمَا، وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرَ بِضَمِّ السِّينِ ضَمَّةَ إِتْبَاعٍ.
وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ إِلَخْ إِذْ هِيَ فِي مَوْقِعِ الْعِلَّةِ كَمَا عَلِمْتَ فَإِنَّ مَجْمُوعَ هَذِهِ الْجُمَلِ الْأَرْبَعِ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنْ قَوْلِهِ: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ إِلَى قَوْلِهِ: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: وَلِتُكَبِّرُوا تُسَمَّى شِبْهَ الزَّائِدَةِ وَهِيَ اللَّامُ الَّتِي يَكْثُرُ وُقُوعُهَا بَعْدَ فِعْلِ الْإِرَادَةِ وَفِعْلِ الْأَمْرِ أَيْ مَادَّةِ أَمَرَ اللَّذَيْنِ مَفْعُولُهُمَا أَنِ الْمَصْدَرِيَّةِ مَعَ فِعْلِهَا، فَحَقُّ ذَلِكَ
الْحُكْمِ، قَالَ تَعَالَى: أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ [هُودٍ: ٦٠] فِي كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ نَظَائِرِهَا، وَقَالَ: أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ [الشُّعَرَاء: ١٠، ١١].
وَقَوْلُهُ: «كَذَّبُوا» بَيَانٌ لِدَأْبِهِمُ، اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ. وَتَخْصِيصُ آلِ فِرْعَوْنَ بِالذِّكْرِ- مِنْ بَيْنِ بَقِيَّةِ الْأُمَمِ- لِأَنَّ هُلْكَهُمْ مَعْلُومٌ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ، بِخِلَافِ هُلْكِ عَادٍ وَثَمُودَ فَهُوَ عِنْدَ الْعَرَبِ أَشْهَرُ وَلِأَنَّ تَحَدِّي مُوسَى إِيَّاهُمْ كَانَ بِآيَاتٍ عَظِيمَةٍ فَمَا أَغْنَتْهُمْ شَيْئًا تُجَاهَ ضَلَالِهِمْ وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا أَقْرَبَ الْأُمَمِ عَهْدًا بِزَمَان النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ كَقَوْلِ شُعَيْبٍ: وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ [هود: ٨٩] وَكَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمُشْرِكِينَ: وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ [الْحجر: ٧٦] وَقَوْلِهِ: وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ [الْحجر: ٧٩] وَقَوْلِهِ: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ
[الصافات: ١٣٧، ١٣٨].
[١٢، ١٣]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ١٢ إِلَى ١٣]
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٢) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (١٣)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ، لِلِانْتِقَالِ مِنَ النِّذَارَةِ إِلَى التَّهْدِيدِ، وَمِنْ ضَرْبِ الْمَثَلِ لَهُمْ بِأَحْوَالِ سَلَفِهِمْ فِي الْكُفْرِ، إِلَى ضَرْبِ الْمَثَلِ لَهُمْ بِسَابِقِ أَحْوَالِهِمُ الْمُؤْذِنَةِ بِأَنَّ أَمْرَهُمْ صَائِرٌ إِلَى زَوَالٍ، وَأَنَّ أَمْرَ الْإِسْلَامِ سَتَنْدَكُّ لَهُ صُمُّ الْجِبَالِ. وَجِيءَ فِي هَذَا التَّهْدِيدِ بِأَطْنَبِ عِبَارَةٍ وَأَبْلَغِهَا لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ إِطْنَابٍ لِمَزِيدِ الْمَوْعِظَةِ، وَالتَّذْكِيرِ بِوَصْفِ يَوْمٍ كَانَ عَلَيْهِمْ، يَعْلَمُونَهُ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا [الْبَقَرَة: ٣٩] يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمُ الْمَذْكُورُونَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ [آل عمرَان: ١١٦] فَيَجِيءُ فِيهِ مَا تَقَدَّمَ وَالْعُدُولُ عَنْ ضَمِيرِ (هُمْ) إِلَى الِاسْمِ الظَّاهِرِ لِاسْتِقْلَالِ هَذِهِ النِّذَارَةِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمُ الْمُشْرِكُونَ خَاصَّةً، وَلِذَلِكَ أُعِيدَ الِاسْمُ الظَّاهِرُ، وَلَمْ يُؤْتَ بِالضَّمِيرِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ إِلَى قَوْله يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَذَلِكَ مِمَّا شَاهَدَهُ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ بَدْرٍ.
ذَلِكَ أَشَدَّ. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا- بِيَاءِ الْغَيْبَةِ- وَفَاعِلُ الْفِعْلِ (الَّذِينَ كَفَرُوا)، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَحْدَهُ- بِتَاءِ الْخِطَابِ-.
فَالْخِطَابُ إِمَّا لِلرَّسُولِ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَهُوَ نَهْيٌ عَنْ حُسْبَانٍ لَمْ يَقَعْ، فَالنَّهْيُ لِلتَّحْذِيرِ مِنْهُ أَوْ عَنْ حُسْبَانٍ هُوَ خَاطِرٌ خَطَرَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، غَيْرَ أَنَّهُ حُسْبَانُ تَعَجُّبٍ، لِأَنَّ الرَّسُولَ يَعْلَمُ أَنَّ الْإِمْلَاءَ لَيْسَ خَيْرًا لَهُمْ، أَوِ الْمُخَاطَبُ الرَّسُولُ وَالْمَقْصُودُ غَيْرُهُ، مِمَّنْ يَظُنُّ ذَلِكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى طَرِيقَةِ التَّعْرِيضِ مِثْلِ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: ٦٥]، أَوِ الْمُرَادُ مِنَ الْخِطَابِ كُلُّ مُخَاطَبٍ يَصْلُحُ لِذَلِكَ.
وَعَلَى قِرَاءَةِ- الْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ- فَالنَّهْيُ مَقْصُودٌ بِهِ بُلُوغَهُ إِلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا سُوءَ عَاقِبَتِهِمْ، وَيُمِرَّ عَيْشَهُمْ بِهَذَا الْوَعِيدِ، لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا يَحْسَبُونَ ذَلِكَ مِنْ قَبْلُ وَالْإِمْلَاءُ: الْإِمْهَالُ فِي الْحَيَاةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا تَأْخِيرُ حَيَاتِهِمْ، وَعَدَمُ اسْتِئْصَالِهِمْ فِي الْحَرْبِ، حَيْثُ فَرِحُوا بِالنَّصْرِ يَوْمَ أُحُدٍ، وَبِأَنَّ قَتْلَى الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ قَتْلَاهُمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْإِمْلَاءِ التَّخْلِيَةُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَعْمَالِهِمْ فِي كَيْدِ الْمُسْلِمِينَ وَحَرْبِهِمْ وَعَدَمُ
الْأَخْذِ عَلَى أَيْدِيهِمْ بِالْهَزِيمَةِ وَالْقَتْلِ كَمَا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ، يُقَالُ: أَمْلَى لِفَرَسِهِ إِذَا أَرْخَى لَهُ الطِّوَلَ فِي الْمَرْعَى، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْمَلْوِ بِالْوَاوِ وَهُوَ سَيْرُ الْبَعِيرِ الشَّدِيدِ، ثُمَّ قَالُوا: أَمْلَيْتُ لِلْبَعِيرِ وَالْفَرَسِ إِذَا وَسَّعْتُ لَهُ فِي الْقَيْدِ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ بِذَلِكَ مِنَ الْخَبَبِ وَالرَّكْضِ، فَشُبِّهَ فِعْلُهُ بِشِدَّةِ السَّيْرِ، وَقَالُوا: أَمْلَيْتُ لِزَيْدٍ فِي غَيِّهِ أَيْ تَرَكْتُهُ: عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ، وَأَمْلَى اللَّهُ لِفُلَانٍ أَخَّرَ عِقَابَهُ، قَالَ تَعَالَى: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الْأَعْرَاف: ١٨٣] وَاسْتُعِيرَ التَّمَلِّي لِطُولِ الْمُدَّةِ تَشْبِيهًا لِلْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ فَقَالُوا: مَلَّأَكَ اللَّهُ حَبِيبَكَ تَمْلِيئَةً، أَيْ أَطَالَ عُمُرَكَ مَعَهُ.
وَقَوْلُهُ: أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ (أَنَّ) أُخْتُ (إِنَّ) الْمَكْسُورَةِ الْهَمْزَةِ، وَ (مَا) مَوْصُولَةٌ وَلَيْسَتِ الزَّائِدَةُ، وَقَدْ كُتِبَتْ فِي الْمُصْحَفِ كَلِمَةً وَاحِدَةً كَمَا تُكْتَبُ إِنَّمَا الْمُرَكَّبَةُ مِنْ (إِنَّ) أُخْتِ (أَنَّ) وَ (مَا) الزَّائِدَةِ الْكَافَّةِ، الَّتِي هِيَ حَرْفُ حَصْرٍ بِمَعْنَى (مَا) وَ (إِلَّا)، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ تُكْتَبَ مَفْصُولَةً وَهُوَ اصْطِلَاحٌ حَدَثَ بَعْدَ كِتَابَةِ الْمَصَاحِفِ لَمْ يَكُنْ مُطَّرِدًا فِي الرَّسْمِ الْقَدِيمِ، عَلَى هَذَا اجْتَمَعَتْ كَلِمَاتُ
قَالَ تَعَالَى:
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ [الْأَنْفَال: ٧٢] الْآيَةَ فَأَوْجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ نَصْرَهُمْ فِي الدِّينِ إِنِ اسْتَنْصَرُوهُمْ، وَهَذِهِ حَالَةٌ تُخَالِفُ حَالَةَ الْكُفَّارِ. وَعَلَى قَوْلِ غَيْرِهِ: فَالظُّلْمُ الْمَعْصِيَةُ الْعَظِيمَةُ، وَالْوَعِيدُ الَّذِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ صَالِحٌ لِلْأَمْرَيْنِ، عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَعُدُّوا الَّذِينَ لَمْ يُهَاجِرُوا قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ فِي عِدَادِ الصَّحَابَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَعَيَّنِ الَّذِينَ مَاتُوا مِنْهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالَّذِينَ مَاتُوا عَلَى الْكُفْرِ فَلَمْ يَعْتَدُّوا بِمَا عَرَفُوا مِنْهُمْ قَبْلَ هِجْرَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَجُمْلَةُ: قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ خَبَرُ (إِنَّ). وَالْمَعْنَى: قَالُوا لَهُمْ قَوْلَ تَوْبِيخٍ وَتَهْدِيدٍ بِالْوَعِيدِ وَتَمْهِيدٍ لِدَحْضِ مَعْذِرَتِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ: كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ، فَقَالُوا لَهُمْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جُمْلَةُ: قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ مَوْضِعَ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ مِنْ جُمْلَةِ تَوَفَّاهُمُ، فَإِنَّ تَوَفِّيَ الْمَلَائِكَةِ إِيَّاهُمُ الْمَحْكِيَّ هُنَا يَشْتَمِلُ عَلَى قَوْلِهِمْ لَهُمْ فِيمَ كُنْتُمْ.
وَأَمَّا جُمْلَةُ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ فَهِيَ مَفْصُولَةٌ عَنِ الْعَاطِفِ جَرْيًا عَلَى طَرِيقَةِ الْمُقَاوَلَةِ فِي الْمُحَاوَرَةِ، عَلَى مَا بَيَّنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَكَذَلِكَ جُمْلَةُ: قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً. وَيَكُونُ خَبَرُ (إِنَّ) قَوْلَهُ: فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً عَلَى أَنْ يَكُونَ دُخُولُ الْفَاءِ فِي الْخَبَرِ لِكَوْنِ اسْمِ إِنَّ مَوْصُولًا فَإِنَّهُ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ أَسْمَاءِ الشُّرُوطِ كَثِيرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ نَظَائِرُهُ.
وَالْإِتْيَانُ بِالْفَاءِ هُنَا أَوْلَى لِطُولِ الْفَصْلِ بَيْنَ اسْمِ (إِنَّ) وَخَبَرِهَا بِالْمُقَاوَلَةِ، بِحَيْثُ صَارَ الْخَبَرُ كَالنَّتِيجَةِ لِتِلْكَ الْمُقَاوَلَةِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا اسْمُ الْإِشَارَةِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: فِيمَ كُنْتُمْ مُسْتَعْمَلٌ لِلتَّقْرِيرِ وَالتَّوْبِيخِ.
وَ (فِي) لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ. وَ (مَا) اسْتِفْهَامٌ عَنْ حَالَةٍ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ (فِي). وَقَدْ علم الْمَسْئُول أنّ الْحَالة الْمَسْئُولُونَ أَنَّ الْحَالَةَ الْمَسْئُولَ عَنْهَا حَالَةُ بَقَائِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ أَوْ عَدَمِ الْهِجْرَةِ. فَقَالُوا مُعْتَذِرِينَ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ.
[سُورَة الْمَائِدَة (٥) : آيَة ٣٢]
مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (٣٢)مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً.
يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَجْلِ ذلِكَ تَعْلِيلًا لِ كَتَبْنا، وَهُوَ مَبْدَأُ الْجُمْلَةِ، وَيَكُونُ مُنْتَهَى الَّتِي قَبْلَهَا قَوْلَهُ: مِنَ النَّادِمِينَ [الْمَائِدَة: ٣١]. وَلَيْسَ قَوْلُهُ مِنْ أَجْلِ ذلِكَ معلّقا بِ «النَّادِمِينَ» تَعْلِيلًا لَهُ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِمُفَادِ الْفَاءِ فِي قَوْله فَأَصْبَحَ [الْمَائِدَة: ٣١].
ومِنْ لِلِابْتِدَاءِ، وَالْأَجْلُ الْجَرَّاءُ وَالتَّسَبُّبُ (١) أَصْلُهُ مَصْدَرُ أَجَلَ يَأْجُلُ وَيَأْجِلُ كَنَصَرَ وَضَرَبَ بِمَعْنَى جَنَى وَاكْتَسَبَ. وَقِيلَ: هُوَ خَاصٌّ بِاكْتِسَابِ الْجَرِيمَةِ، فَيَكُونُ مُرَادِفًا لِجَنَى وَجَرَمَ، وَمِنْهُ الْجِنَايَةُ وَالْجَرِيمَةُ، غَيْرَ أَنَّ الْعَرَبَ تَوَسَّعُوا فَأَطْلَقُوا الْأَجَلَ عَلَى الْمُكْتَسَبِ مُطْلَقًا بِعَلَاقَةِ الْإِطْلَاقِ. وَالِابْتِدَاءُ الَّذِي اسْتُعْمِلَتْ لَهُ (مِنْ) هُنَا مَجَازِيٌّ، شَبَّهَ سَبَبَ الشَّيْءِ بِابْتِدَاءِ صُدُورِهِ، وَهُوَ مَثَارُ قَوْلِهِمْ: إِنَّ مِنْ مَعَانِي (مِنْ) التَّعْلِيلَ، فَإِنَّ كَثْرَةَ دُخُولِهَا عَلَى كَلِمَةِ «أَجْلِ» أَحْدَثَ فِيهَا معنى التّعليل، وَكثر حَذْفِ كَلِمَةِ أَجْلِ بَعْدَهَا مُحْدِثٌ فِيهَا مَعْنَى التَّعْلِيلِ، كَمَا فِي قَوْلِ الْأَعْشَى:
فَآلَيْتُ لَا أَرْثِي لَهَا من كَلَالَةٍ | وَلَا مِنْ حَفَى حَتَّى أُلَاقِيَ مُحَمَّدَا |
_________
(١) الجرّاء- بِفَتْح الْجِيم وَتَشْديد الرَّاء- وَهُوَ بالمدّ، وبالقصر: التسبّب، مشتقّ من جرّ إِذا سبّب وَعلل.
وَالِاسْتِفْهَامُ تَوْبِيخِيٌّ عَمَّا كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَزْعُمُونَهُ مِنْ أَنَّهَا تَشْفَعُ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، أَوْ أَنَّهَا تَنْصُرُهُمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ، فَلَمَّا رَأَوْهَا لَا غَنَاءَ لَهَا قِيلَ لَهُمْ: أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمْ، أَيْ أَيْنَ عَمَلُهُمْ فَكَأَنَّهُمْ غُيِّبَ عَنْهُمْ.
وَأُضِيفَ الشُّرَكَاءُ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ إِضَافَةَ اخْتِصَاصٍ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ زَعَمُوا لَهُمُ الشِّرْكَةَ مَعَ اللَّهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ فَلَمْ يَكُونُوا شُرَكَاءَ إِلَّا فِي اعْتِقَادِ الْمُشْرِكِينَ، فَلِذَلِكَ قِيلَ شُرَكاؤُكُمُ. وَهَذَا كَقَوْلِ أَحَدِ أَبْطَالِ الْعَرَبِ لعَمْرو بن معد يكرب لَمَّا حَدَّثَ عَمْرٌو فِي جَمْعٍ أَنَّهُ قَتَلَهُ، وَكَانَ هُوَ حَاضِرًا فِي ذَلِكَ الْجَمْعِ، فَقَالَ لَهُ: «مَهْلًا أَبَا ثَوْرٍ قَتِيلُكَ يَسْمَعُ»، أَيِ الْمَزْعُومُ أَنَّهُ قَتِيلُكَ.
وَوُصِفُوا بِ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ تَكْذِيبًا لَهُمْ وَحُذِفَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِ تَزْعُمُونَ لِيَعُمَّ كُلَّ مَا كَانُوا يَزْعُمُونَهُ لَهُمْ مِنَ الْإِلَهِيَّةِ وَالنَّصْرِ وَالشَّفَاعَةِ أَمَّا الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ فَحُذِفَ عَلَى طَرِيقَةِ حَذْفِ عَائِدِ الصِّلَةِ الْمَنْصُوبِ.
وَالزَّعْمُ: ظَنٌّ يَمِيلُ إِلَى الْكَذِبِ أَوِ الْخَطَأِ أَوْ لِغَرَابَتِهِ يُتَّهَمُ صَاحِبُهُ، فَيُقَالُ: زَعَمَ، بِمَعْنَى أَنَّ عُهْدَةَ الْخَبَرِ عَلَيْهِ لَا عَلَى النَّاقِلِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ الْآيَةَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٦٠]. وَتَأْتِي زِيَادَةُ بَيَانٍ لِمَعْنَى الزَّعْمِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا فِي سُورَةِ التَّغَابُنِ [٧].
وَقَوْلُهُ: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ ثُمَّ نَقُولُ وَ (ثُمَّ) لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ وَهُوَ الِانْتِقَالُ مِنْ خَبَرٍ إِلَى خَبَرٍ أَعْظَمَ مِنْهُ.
وَالْفِتْنَةُ أَصْلُهَا الِاخْتِبَارُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: فَتَنَ الذَّهَبَ إِذَا اخْتَبَرَ خُلُوصَهُ مِنَ الْغَلَثِ.
وَتُطْلَقُ عَلَى اضْطِرَابِ الرَّأْيِ مِنْ حُصُولِ خَوْفٍ لَا يُصْبَرُ عَلَى مِثْلِهِ، لِأَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى مِقْدَارِ ثَبَاتِ مَنْ يَنَالُهُ، فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ فِي حَالَةِ الْعَيْشِ وَقَدْ يَكُونُ فِي الْبُغْضِ وَالْحُبِّ وَقَدْ يَكُونُ فِي الِاعْتِقَادِ وَالتَّفْكِيرِ وَارْتِبَاكِ الْأُمُورِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٠٢].
وفِتْنَتُهُمْ هُنَا اسْتُثْنِيَ مِنْهَا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ، فَذَلِكَ الْقَوْلُ إِمَّا أَنْ
صَارَ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَيِ الَّذِينَ اتَّصَفُوا بِالتَّقْوَى بِمَعْنَاهَا الشَّرْعِيِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَة: ٢].
[١٥٤]
[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : آيَة ١٥٤]
ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (١٥٤)
ثُمَّ هُنَا عَاطِفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: قُلْ تَعالَوْا [الْأَنْعَام: ١٥١] فَلَيْسَتْ عَاطِفَةً لِلْمُفْرَدَاتِ، فَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّهَا لِتَرَاخِي الزَّمَانِ، بَلْ تَنْسَلِخُ عَنْهُ حِينَ تَعْطِفُ الْجُمَلَ فَتَدُلُّ عَلَى التَّرَاخِي فِي الرُّتْبَةِ، وَهُوَ مُهْلَةٌ مَجَازِيَّةٌ، وَتِلْكَ دَلَالَةُ (ثُمَّ) إِذَا عَطَفَتِ الْجُمَلَ. وَقَدِ اسْتُصْعِبَ عَلَى بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ مَسْلَكُ (ثُمَّ) فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّ إِتْيَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْكِتَابَ لَيْسَ بِرُتْبَةٍ أَهَمَّ
مِنْ رُتْبَةِ تِلَاوَةِ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ وَمَا فَرَضَهُ مِنَ اتِّبَاعِ صِرَاطِ الْإِسْلَامِ. وَتَعَدَّدَتْ آرَاءُ الْمُفَسِّرِينَ فِي مَحْمِلِ (ثُمَّ) هُنَا إِلَى آرَاءٍ: لِلْفَرَّاءِ، وَالزَّجَّاجِ، وَالزَّمَخْشَرِيِّ، وَأَبِي مُسْلِمٍ، وَغَيْرِهِمْ، كُلٌّ يَرُومُ التَّخَلُّصَ مِنْ هَذَا الْمَضِيقِ.
وَالْوَجْهُ عِنْدِي: أَنَّ (ثُمَّ) مَا فَارَقَتِ الْمَعْرُوفَ مِنْ إِفَادَةِ التَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ، وَأَنَّ تراخي رُتْبَة إيتَاء مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْكِتَابَ عَنْ تِلَاوَةِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ، وَمَا أُمِرَ بِهِ مِنْ مُلَازَمَةِ صِرَاطِ الْإِسْلَامِ، إِنَّمَا يَظْهَرُ بَعْدَ النَّظَرِ إِلَى الْمَقْصُودِ مِنْ نَظْمِ الْكَلَامِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مَنْ ذِكْرِ إِيتَاءِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْكِتَابَ لَيْسَ لِذَاتِهِ بَلْ هُوَ التَّمْهِيدُ لِقَوْلِهِ: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ [الْأَنْعَام: ٩٢] لِيُرَتَّبَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا- إِلَى قَوْلِهِ: وَهُدىً وَرَحْمَةً [الْأَنْعَام: ١٥٦، ١٥٧]، فَمَعْنَى الْكَلَامِ: وَفَوْقَ ذَلِكَ فَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ جُمِعَ فِيهِ مَا أُوتِيَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ (وَهُوَ أَعْظَمُ مَا أُوتِيَهُ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ قَبْلِهِ) وَمَا فِي الْقُرْآنِ: الَّذِي هُوَ مُصَدِّقٌ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَمُهَيْمِنٌ عَلَيْهِ إِنِ اتَّبَعْتُمُوهُ وَاتَّقَيْتُمْ رَحِمْنَاكُمْ وَلَا مَعْذِرَةَ لَكُمْ
إِصْلَاحٌ فِي الْأَرْضِ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ إِيجَادُ الشَّيْءِ صَالِحًا، وَالَثَانِي جَعْلُ الضَّارِّ صَالِحًا بِالتَّهْذِيبِ أَوْ بِالْإِزَالَةِ، وَقَدْ مَضَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١١]، أَنَّ الْإِصْلَاحَ مَوْضُوعٌ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ إِيجَادِ الشَّيْءِ صَالِحًا وَبَيْنَ جَعْلِ الْفَاسِدِ صَالِحًا. فَالْإِصْلَاحُ هُنَا مَصْدَرٌ فِي مَعْنَى الِاسْمِ الْجَامِدِ، وَلَيْسَ فِي مَعْنَى الْفِعْلِ، لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ إِصْلَاحٌ حَاصِلٌ ثَابِتٌ فِي الْأَرْضِ لَا إِصْلَاحٌ هُوَ بِصَدَدِ الْحُصُولِ، فَإِذَا غُيِّرَ ذَلِكَ النِّظَامُ فَأُفْسِدَ الصَّالِحُ، وَاسْتُعْمِلَ الضَّارُّ عَلَى ضُرِّهِ، أَوِ اسْتُبِقِيَ مَعَ إِمْكَانِ إِزَالَتِهِ، كَانَ إِفْسَادًا بَعْدَ إِصْلَاحٍ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ [الْأَنْفَال: ٧٣].
وَالتَّصْرِيحُ بِالْبَعْدِيَّةِ هُنَا تَسْجِيلٌ لِفَظَاعَةِ الْإِفْسَادِ بِأَنَّهُ إِفْسَادٌ لِمَا هُوَ حَسَنٌ وَنَافِعٌ، فَلَا مَعْذِرَةَ لِفَاعِلِهِ وَلَا مَسَاغَ لِفِعْلِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْأَرْضِ.
وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ.
عَوْدٌ إِلَى أَمْرِ الدُّعَاءِ لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْإِفْسَادِ أَشْبَهَ الِاحْتِرَاسَ الْمُعْتَرِضَ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْكَلَامِ، وَأُعِيدَ الْأَمْرُ بِالدُّعَاءِ لِيُبْنَى عَلَيْهِ قَوْلُهُ: خَوْفاً وَطَمَعاً قَصْدًا لِتَعْلِيمِ الْبَاعِثِ عَلَى الدُّعَاءِ بَعْدَ أَنْ عَلِمُوا كَيْفِيَّتَهُ، وَهَذَا الْبَاعِثُ تَنْطَوِي تَحْتَهُ أَغْرَاضُ الدُّعَاءِ وَأَنْوَاعُهُ، فَلَا إِشْكَالَ فِي عَطْفِ الْأَمْرِ بِالدُّعَاءِ عَلَى مِثْلِهِ لِأَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ بِاخْتِلَافِ مُتَعَلَّقَاتِهِمَا.
وَالْخَوْفُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ [الْبَقَرَة: ٢٢٩].
وَالطَّمَعُ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٧٥].
وَانْتِصَابُ خَوْفاً وَطَمَعاً هُنَا عَلَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ، أَيْ أَنَّ الدُّعَاءَ يَكُونُ لِأَجْلِ خَوْفٍ مِنْهُ وَطَمَعٍ فِيهِ، فَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ الْخَوْفِ وَالطَّمَعِ لِدَلَالَةِ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي ادْعُوهُ.
: «كَادَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ أَنْ يُسْلِمَ»
وَرُوِيَ عَنْ أُمَيَّةَ أَنَّهُ قَالَ لَمَّا مَرِضَ مَرَضَ مَوْتِهِ «أَنَا أَعْلَمُ أَنَّ الْحَنِيفِيَّةَ حَقٌّ، وَلَكِنَّ الشَّكَّ يُدَاخِلُنِي فِي مُحَمَّدٍ».
فَمَعْنَى آتَيْناهُ آياتِنا أَنَّ اللَّهَ أَلْهَمَ أُمَيَّةَ كَرَاهِيَةَ الشِّرْكِ، وَأَلْقَى فِي نَفْسِهِ طَلَبَ الْحَقِّ، وَيَسَّرَ لَهُ قِرَاءَةَ كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ، وَحَبَّبَ إِلَيْهِ الْحَنِيفِيَّةَ، فَلَمَّا انْفَتَحَ لَهُ بَابُ الْهُدَى وَأَشْرَقَ نُورُ الدَّعْوَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ كَابَرَ وَحَسَدَ وَأَعْرَضَ عَنِ الْإِسْلَامِ، فَلَا جَرَمَ أَنْ كَانَتْ حَالُهُ أَنَّهُ انْسَلَخَ عَنْ جَمِيعِ مَا يُسِّرَ لَهُ، وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ عِنْدَ إِبَّانِ الِانْتِفَاعِ، فَكَانَ الشَّيْطَانُ هُوَ الَّذِي صَرَفَهُ عَنِ الْهُدَى فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ، إِذْ مَاتَ عَلَى الْكفْر بِمُحَمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ نَزَلَتْ فِي أَبِي عَامِرِ بْنِ صَيْفِيٍّ الرَّاهِبِ، وَاسْمُهُ النُّعْمَانُ الْخَزْرَجِيُّ، وَكَانَ يُلَقَّبُ بِالرَّاهِبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِأَنَّهُ قَدْ تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَلَبِسَ الْمُسُوحَ وَزَعَمَ أَنَّهُ عَلَى الْحَنِيفِيَّةِ، فَلَمَّا قدم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ دَخَلَ على النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَا مُحَمَّدُ مَا الَّذِي جِئْتَ بِهِ- قَالَ- جِئْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ دِينِ إِبْرَاهِيمَ- قَالَ- فَإِنِّي عَلَيْهَا- فَقَالَ النَّبِيءُ- لَسْتَ عَلَيْهَا لِأَنَّكَ أَدْخَلْتَ فِيهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا»
فَكَفَرَ وَخَرَجَ إِلَى مَكَّةَ يُحَرِّضُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى قتال النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَخْرُجُ مَعَهُمْ، إِلَى أَنْ قَاتَلَ فِي حُنَيْنٍ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، فَلَمَّا انْهَزَمَتْ هَوَازِنُ يَئِسَ وَخَرَجَ إِلَى الشَّامِ فَمَاتَ هُنَالِكَ.
وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنَ الْكَنْعَانِيِّينَ، وَكَانَ فِي زَمَنِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يُقَالُ لَهُ: بَلْعَامُ بْنُ بَاعُورَ، وَذَكَرُوا قِصَّتَهُ فَخَلَطُوهَا وَغَيَّرُوهَا وَاخْتَلَفُوا فِيهَا، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ بِلْعَامَ هَذَا كَانَ مِنْ صَالِحِي أَهْلِ مَدْيَنَ وَعَرَّافِيهِمْ فِي زَمَنِ مُرُورِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى أَرْضِ (مُؤَابَ) وَلَكِنَّهُ لَمْ يَتَغَيَّرْ عَنْ حَالِ الصَّلَاحِ، وَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي سِفْرِ الْعَدَدِ مِنَ التَّوْرَاةِ فِي الْإِصْحَاحَاتِ ٢٢- ٢٣- ٢٤ فَلَا يَنْبَغِي الِالْتِفَاتُ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ لِاضْطِرَابِهِ وَاخْتِلَاطِهِ.
وَالْإِيتَاءُ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْإِطْلَاعِ وَتَيْسِيرِ الْعِلْمِ مِثْلُ قَوْلِهِ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ (١) [الْبَقَرَة: ٢٥١].
وَ «الْآيَاتُ» دَلَائِلُ الْوَحْدَانِيَّةِ الَّتِي كَرَّهَتْ إِلَيْهِ الشِّرْكَ وَبَعَثَتْهُ عَلَى تَطَلُّبِ الْحَنِيفِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ
لِأُمِّيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ، أَوْ دَلَائِلِ الْإِنْجِيلِ عَلَى صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
_________
(١) فِي المطبوعة: وآتاه الله الْعلم وَالْحكمَة وَهُوَ غلط، والمثبت هُوَ الْمُوَافق لِلْقُرْآنِ الْكَرِيم. [.....]
وَأُسْنِدَ الْحُكْمُ إِلَى كَثِيرٍ مِنْهُمْ دُونَ جَمِيعِهِمْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَخْلُوا مِنْ وُجُودِ الصَّالِحِينَ فِيهِمْ مِثْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَمُخَيْرِيقٍ.
وَالْبَاطِلُ ضِدُّ الْحَقِّ، أَيْ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ أَكْلًا مُلَابِسًا لِلْبَاطِلِ، أَيْ أَكْلًا لَا مُبَرِّرَ لَهُ، وَإِطْلَاقُ الْأَكْلِ عَلَى أَخْذِ مَالِ الْغَيْرِ إِطْلَاقٌ شَائِعٌ قَالَ تَعَالَى: وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا [الْفجْر: ١٩]- وَقَالَ- وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٨٨] وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَكَذَلِكَ الْبَاطِلُ تَقَدَّمَ هُنَالِكَ.
وَالْبَاطِلُ يَشْمَلُ وُجُوهًا كَثِيرَةً، مِنْهَا تَغْيِيرُ الْأَحْكَامِ الدِّينِيَّةِ لِمُوَافَقَةِ أَهْوَاءِ النَّاسِ، وَمِنْهَا الْقَضَاءُ بَيْنَ النَّاسِ بِغَيْرِ إِعْطَاءِ صَاحِبِ الْحَقِّ حَقَّهُ الْمُعَيَّنَ لَهُ فِي الشَّرِيعَةِ، وَمِنْهَا جَحْدُ الْأَمَانَاتِ عَنْ أَرْبَابِهَا أَوْ عَنْ وَرَثَتِهِمْ، وَمِنْهَا أَكْلُ أَمْوَالِ الْيَتَامَى، وَأَمْوَالِ الْأَوْقَافِ وَالصَّدَقَاتِ.
وَسَبِيلُ اللَّهِ طَرِيقُهُ اسْتُعِيرَ لِدِينِهِ الْمُوَصِّلِ إِلَيْهِ، أَيْ إِلَى رِضَاهُ، وَالصَّدُّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الْإِعْرَاضُ عَنْ مُتَابَعَةِ الدِّينِ الْحَقِّ فِي خَاصَّةِ النَّفْسِ، وَإِغْرَاءِ النَّاسِ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ ذَلِكَ.
فَيَكُونُ هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِأَحْكَامِ دِينِهِمْ إِذْ يُغَيِّرُونَ الْعَمَلَ بِهَا، وَيُضَلِّلُونَ الْعَامَّةَ فِي حَقِيقَتهَا حتّى يعملوا بِخِلَافِهَا، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُتَّبِعُونَ لِدِينِهِمْ، وَيَكُونُ ذَلِكَ أَيْضًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ إِذْ يُنْكِرُونَ نُبُوءَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُعْلِمُونَ أَتْبَاعَ مِلَّتِهِمْ أَنَّ الْإِسْلَامَ لَيْسَ بدين الحقّ.
وَالْأَجَل مَا فِي الصَّدِّ مِنْ مَعْنَى صَدِّ الْفَاعِلِ نَفْسَهُ أَتَتْ صِيغَةُ مُضَارِعِهِ بِضَمِّ الْعَيْنِ:
اعْتِبَارًا بِأَنَّهُ مُضَاعَفٌ مُتَعَدٍّ، وَلذَلِك لم يجىء فِي الْقُرْآنِ إِلَّا مَضْمُومَ الصَّادِ وَلَوْ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي لَا يُرَادُ فِيهَا أَنَّهُ يَصُدُّ غَيْرَهُ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ
فَأَشْعَرَ لَفْظُ أَكْثَرُهُمْ بِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَعْلَمُ بُطْلَانَ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَلَكِنَّهُمْ يَتَّبِعُونَهَا مُشَايَعَةً لِقَوْمِهِمْ وَمُكَابَرَةً لِلْحَقِّ، وَكَذَلِكَ حَالُهُمْ فِي التَّكْذِيبِ بِنِسْبَةِ الْقُرْآنِ إِلَى اللَّهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَيَكْتُمُ إِيمَانَهُ مُكَابَرَةً وَعَدَاءً، وَمِنْهُمْ
مَنْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَيُكَذِّبُونَ عَنْ تَقْلِيدٍ لِكُبَرَائِهِمْ.
وَالْفَرِيقَانِ مُشْتَرِكَانِ فِي التَّكْذِيبِ فِي الظَّاهِرِ كَمَا أَنْبَأَتْ عَنْهُ (مِنِ) التَّبْعِيضِيَّةُ، وَضَمِيرُ الْجَمْعِ عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَتْ إِلَيْهِ ضَمَائِرُ أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ [يُونُس: ٣٨] فَمَعْنَى يُؤْمِنُ بِهِ يصدق بحقيقته فِي نَفْسِهِ وَلَكِنَّهُ يَظْهَرُ تَكْذِيبُهُ جَمْعًا بَيْنَ إِسْنَادِ الْإِيمَانِ إِلَيْهِمْ وَبَيْنَ جَعْلِهِمْ بَعْضًا مِنَ الَّذِينَ يَقُولُونَ افْتَراهُ.
وَاخْتِيَارُ الْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى اسْتِمْرَارِ الْإِيمَانِ بِهِ مِنْ بَعْضِهِمْ مَعَ الْمُعَانَدَةِ، وَاسْتِمْرَارِ عَدَمِ الْإِيمَانِ بِهِ مِنْ بَعْضِهِمْ أَيْضًا.
وَجُمْلَةُ: وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ مُعْتَرِضَةٌ فِي آخِرِ الْكَلَامِ عَلَى رَأْيِ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَعَانِي، وَهِيَ تَعْرِيضٌ بِالْوَعِيدِ وَالْإِنْذَارِ، وَبِأَنَّهُمْ مِنَ الْمُفْسِدِينَ، لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُ مَا ذكر بِالْمُفْسِدِينَ هُنَا إِلَّا لِأَنَّ هَؤُلَاءِ مِنْهُمْ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لذكر بِالْمُفْسِدِينَ مُنَاسَبَةٌ، فَالْمَعْنَى:
وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِهِمْ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ الَّذِينَ هُمْ من زمرتهم.
[٤١]
[سُورَة يُونُس (١٠) : آيَة ٤١]
وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٤١)
لَمَّا كَانَ الْعِلْمُ بِتَكْذِيبِهِمْ حَاصِلًا مِمَّا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَاتِ تَعَيَّنَ أَنَّ التَّكْذِيبَ الْمَفْرُوضَ هُنَا بِوَاسِطَةِ أَدَاةِ الشَّرْطِ هُوَ التَّكْذِيبُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، أَيِ الِاسْتِمْرَارُ عَلَى التَّكْذِيبِ. وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَا تَبَيَّنَ بِهِ صِدْقُ الْقُرْآنِ هُوَ مُثْبِتٌ لِصِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي أَتَى بِهِ، أَيْ إِنْ أَصَرُّوا عَلَى التَّكْذِيبِ بَعْدَ مَا قَارَعْتَهُمْ بِهِ مِنَ الْحُجَّةِ فَاعْلَمْ أَنَّهُمْ لَا تَنْجَعُ فِيهِمُ الْحُجَجُ وَأَعْلِنْ لَهُمْ بِالْبَرَاءَةِ مِنْهُم كَمَا تبرؤوا مِنْكَ.
الْفَرَّاءِ، وَخَامِسُهَا الْقَسَمُ الْمُضْمَرُ، وَسَادِسُهَا اللَّامُ الدَّاخِلَةُ عَلَى جَوَابِ الْقَسَمِ، وَسَابِعُهَا النُّونُ الْمُؤَكِّدَةُ فِي قَوْلِهِ: لَيُوَفِّيَنَّهُمْ.
وَتَوْفِيَةُ أَعْمَالِهِمْ بِمَعْنَى تَوْفِيَةِ جَزَاءِ الْأَعْمَالِ، أَيْ إِعْطَاءُ الْجَزَاءِ وَافِيًا مِنَ الْخَيْرِ عَلَى عَمَلِ الْخَيْرِ وَمِنَ السُّوءِ عَلَى عَمَلِ السُّوءِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ اسْتِئْنَافٌ وَتَعْلِيلٌ لِلتَّوْفِيَةِ لِأَنَّ إِحَاطَةَ الْعِلْمِ بِأَعْمَالِهِمْ مَعَ إِرَادَةِ جَزَائِهِمْ تُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ مُطَابِقًا لِلْعَمَلِ تَمَامَ الْمُطَابَقَةِ. وَذَلِكَ مُحَقّق التوفية.
[١١٢]
[سُورَة هود (١١) : آيَة ١١٢]
فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢)
فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ.
تَرَتَّبَ عَنِ التَّسْلِيَةِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا قَوْلُهُ: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ [هود:
١١٠] وَعَنِ التَّثْبِيتِ الْمُفَادِ بِقَوْلِهِ: فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ [هود: ١٠٩] الْحَضُّ عَلَى الدَّوَامِ عَلَى التَّمَسُّكِ بِالْإِسْلَامِ عَلَى وَجْهٍ قَوِيمٍ. وَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالِاسْتِقَامَةِ لِإِفَادَةِ الدَّوَامِ عَلَى الْعَمَلِ بِتَعَالِيمِ الْإِسْلَامِ، دَوَامًا جِمَاعُهُ الِاسْتِقَامَةُ عَلَيْهِ وَالْحَذَرُ مِنْ تَغْيِيرِهِ.
وَلَمَّا كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي كِتَابِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِنَّمَا جَاءَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ عَطَفَ على أَمر النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِاسْتِقَامَةِ عَلَى كِتَابِهِ أَمْرَ الْمُؤْمِنِينَ بِتِلْكَ الِاسْتِقَامَةِ أَيْضًا، لِأَنَّ الِاعْوِجَاجَ مِنْ دَوَاعِي الِاخْتِلَافِ فِي الْكِتَابِ بِنُهُوضِ فِرَقٍ مِنَ الْأُمَّةِ إِلَى تَبْدِيلِهِ لِمُجَارَاةِ أَهْوَائِهِمْ، وَلِأَنَّ مُخَالَفَةَ الْأُمَّةِ عَمْدًا إِلَى أَحْكَامِ كِتَابِهَا إِنْ هُوَ إِلَّا ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ الِاخْتِلَافِ فِيهِ، لِأَنَّهُ اخْتِلَافُهَا عَلَى أَحْكَامِهِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلَافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ»
، فَلَا جَرَمَ أَنْ كَانَتِ الِاسْتِقَامَةُ حَائِلًا دُونَ ذَلِكَ، إِذِ الِاسْتِقَامَةُ هِيَ الْعَمَلُ بِكَمَالِ الشَّرِيعَةِ بِحَيْثُ لَا يَنْحَرِفُ عَنْهَا قِيدَ شِبْرٍ. وَمُتَعَلِّقُهَا الْعَمَلُ بِالشَّرِيعَةِ
[سُورَة الرَّعْد (١٣) : آيَة ٤٣]
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (٤٣)عَطْفٌ عَلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ جُمْلَةُ وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الرَّعْد: ٤٢] مِنْ التَّعْرِيضِ بِأَنَّ قَوْلَهُمْ: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ [سُورَة الْأَنْعَام: ٣٧] ضَرْبٌ مِنَ الْمَكْرِ بِإِظْهَارِهِمْ
أَنَّهُمْ يَتَطَلَّبُونَ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مُظْهِرِينَ أَنَّهُمْ فِي شكّ من صدقه وهم يبطنون التصميم على التَّكْذِيب. فَذكرت هَذِه الْآيَة أَنهم قَدْ أَفْصَحُوا تَارَاتٍ بِمَا أَبْطَنُوهُ فَنَطَقُوا بِصَرِيحِ التَّكْذِيبِ وَخَرَجُوا مِنْ طَوْرِ الْمَكْرِ إِلَى طَوْرِ الْمُجَاهَرَةِ بِالْكُفْرِ فَقَالُوا: لَسْتَ مُرْسَلًا.
وَقَدْ حُكِيَ قَوْلُهُمْ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَكَرُّرِ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَلِاسْتِحْضَارِ حَالِهِمْ الْعَجِيبَةِ مِنَ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى التَّكْذِيبِ بَعْدَ أَنْ رَأَوْا دَلَائِلَ الصِّدْقِ، كَمَا عَبَّرَ بِالْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ [سُورَة هود: ٣٨] وَقَوْلِهِ: يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ [سُورَة هود: ١١].
وَلَمَّا كَانَتْ مَقَالَتُهُمْ الْمَحْكِيَّةُ هُنَا صَرِيحَةً لَا مُوَارَبَةَ فِيهَا أُمِرَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَوَابٍ لَا جِدَالَ فِيهِ وَهُوَ تَحْكِيمُ اللَّهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ.
وَقَدْ أَمر الرَّسُول- عَلَيْهِ الصَّلَاة والسّلام- بِأَنْ يُجِيبَهُمْ جَوَابَ الْوَاثِقِ بِصِدْقِهِ الْمُسْتَشْهِدِ عَلَى ذَلِكَ بِشَهَادَةِ الصِّدْقِ مِنْ إِشْهَادِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِشْهَادِ الْعَالِمِينَ بِالْكُتُبِ وَالشَّرَائِعِ.
وَلَمَّا كَانَتِ الشَّهَادَة للرسول- عَلَيْهِ الصَّلَاة والسّلام- بِالصِّدْقِ شَهَادَةً عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ كَاذِبُونَ جُعِلَتِ الشَّهَادَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ.
وَإِشْهَادُ اللَّهِ فِي مَعْنَى الْحَلِفِ عَلَى الصِّدْقِ كَقَوْلِ هُودٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ [هود: ٥٤].
وَالْبَاءُ الدَّاخِلَةُ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ الَّذِي هُوَ فَاعِلُ كَفى فِي الْمَعْنَى لِلتَّأْكِيدِ
الْمُنْفَصِلَ الْمَذْكُورَ قَبْلَهُ فِي تَقْدِيرِ مَعْمُولٍ لِفِعْلٍ آخَرَ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: فَإِيَّايَ ارْهَبُوا فَارْهَبُونِ، أَيْ أَمَرْتُكُمْ بِأَنْ تَقْصُرُوا رَهْبَتَكُمْ عَلَيَّ فَارْهَبُونِ امتثالا لِلْأَمْرِ.
[٥٢]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٥٢]
وَلَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (٥٢)
مُنَاسَبَةُ مَوْقِعِ جُمْلَةِ وَلَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَعْدَ جُمْلَةِ وَقالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ [سُورَة النَّحْل: ٥١] أَنَّ الَّذِينَ جَعَلُوا إِلَهَيْنِ جَعَلُوهُمَا النُّورَ وَالظُّلْمَةَ. وَإِذْ كَانَ النُّورُ وَالظُّلْمَةُ مَظْهَرَيْنِ مِنْ مَظَاهِرِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ كَانَ الْمَعْنَى: أَنَّ مَا تَزْعُمُونَهُ إِلَهًا لِلْخَيْرِ وَإِلَهَا لِلشَّرِّ هُمَا مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ يُفِيدُ الْحَصْرَ فَدَخَلَ جَمِيعُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فِي مُفَادِ لَامِ الْمِلْكِ، فَأَفَادَ أَنَّ لَيْسَ لِغَيْرِهِ شَيْءٌ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا. فَانْتَفَى أَنْ يَكُونَ مَعَهُ إِلَهٌ آخَرُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعَهُ إِلَهٌ آخَرُ لَكَانَ لَهُ بَعْضُ الْمَخْلُوقَاتِ إِذْ لَا يُعْقَلُ إِلَهٌ بِدُونِ مَخْلُوقَاتٍ.
وَضَمِيرُ لَهُ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَقالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ.
فَعَطْفُهُ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ [سُورَة النَّحْل: ٥١] لِأَنَّ عَظَمَةَ الْإِلَهِيَّةِ اقْتَضَتِ الرَّهْبَةَ مِنْهُ وَقَصْرَهَا عَلَيْهِ، فَنَاسَبَ أَنْ يُشَارَ إِلَى أَنَّ صِفَةَ الْمَالِكِيَّةِ تَقْتَضِي إِفْرَادَهُ بِالْعِبَادَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَهُ الدِّينُ واصِباً فَالدِّينُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الطَّاعَةَ، مِنْ قَوْلِهِمْ: دَانَتِ الْقَبِيلَةُ لِلْمَلِكِ، أَيْ أَطَاعَتْهُ، فَهُوَ مِنْ مُتَمِّمَاتِ جُمْلَةِ وَلَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، لِأَنَّهُ لَمَّا قَصَرَ الْمَوْجُودَاتِ عَلَى الْكَوْنِ فِي مِلْكِهِ كَانَ حَقِيقًا بِقَصْرِ الطَّاعَةِ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ قَدَّمَ الْمَجْرُورَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى فِعْلِهِ كَمَا وَقَعَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا.
انْتَفَى أَنْ يَفْتِنَهُ الْمُشْرِكُونَ عَنِ الَّذِي أُوحِيَ إِلَيْهِ بِصَرْفِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ عَنْ تَنْفِيذِ فِتْنَتِهِمْ.
وَالْمَعْنَى عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: وَلَوْلَا أَنْ عَصَمْنَاكَ مِنَ الْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ وَأَرَيْنَاكَ أَنَّ مَصْلَحَةَ الشِّدَّةِ فِي الدِّينِ وَالتَّنْوِيهِ بِأَتْبَاعِهِ، وَلَوْ كَانُوا مِنْ ضُعَفَاءِ أَهْلِ الدُّنْيَا، لَا تُعَارِضُهَا مَصْلَحَةُ تَأْلِيفِ قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ، وَلَوْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ رَاضِينَ بِالْغَضَاضَةِ مِنْ أَنْفُسِهِمِ اسْتِئْلَافًا لِلْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّ إِظْهَارَ الْهَوَادَةِ فِي أَمْرِ الدِّينِ تُطْمِعُ الْمُشْرِكِينَ فِي التَّرَقِّي إِلَى سُؤَالِ مَا هُوَ أَبْعَدُ مَدًى مِمَّا سَأَلُوهُ، فَمَصْلَحَةُ مُلَازَمَةِ مَوْقِفِ الْحَزْمِ مَعَهُمْ أَرْجَحُ مِنْ مَصْلَحَةِ مُلَايَنَتِهِمْ وَمُوَافَقَتِهِمْ، أَيْ فَلَا فَائِدَةَ مِنْ ذَلِكَ. وَلَوْلَا ذَلِكَ كُلُّهُ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ قَلِيلًا، أَيْ تَمِيلُ إِلَيْهِمْ، أَيْ تَوَعَّدْتَهُمْ بِالْإِجَابَةِ إِلَى بَعْضِ مَا سَأَلُوكَ اسْتِنَادًا لِدَلِيلِ مَصْلَحَةٍ مَرْجُوحَةٍ وَاضِحَةٍ وَغَفْلَةً عَنْ مَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ خَفِيَّةٍ اغْتِرَارًا بِخِفَّةِ بَعْضِ مَا سَأَلُوهُ فِي جَانِبِ عِظَمِ مَا وَعَدُوا بِهِ مِنْ إِيمَانِهِمْ.
وَالرُّكُونُ: الْمَيْلُ بِالرُّكْنِ، أَيْ بِالْجَانِبِ مِنَ الْجَسَدِ وَاسْتُعْمِلَ فِي الْمُوَافَقَةِ بِعَلَاقَةِ الْقُرْبِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فِي سُورَةِ هُودٍ [١١٣]، كَمَا اسْتُعْمِلَ ضِدُّهُ فِي الْمُخَالَفَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ فِي هَذِه السُّورَة الْإِسْرَاء [٨٣].
وَانْتَصَبَ شَيْئاً عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ لِ تَرْكَنُ، أَيْ شَيْئًا مِنَ الرُّكُونِ. وَوَجْهُ الْعُدُولِ عَنْ مَصْدَرِ تَرْكَنُ طَلَبُ الْخِفَّةِ لِأَنَّ مَصْدَرَ تَرْكَنُ وَهُوَ الرُّكُونُ فِيهِ ثِقَلٌ فَتَرْكُهُ أَفْصَحُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى قَلِيلًا لِأَنَّ تَنْكِيرَ شَيْئاً مُفِيدٌ التَّقْلِيلَ، فَكَانَ فِي ذِكْرِهِ تَهْيِئَةٌ لِتَوْكِيدِ مَعْنَى التَّقْلِيلِ، فَإِنَّ كَلِمَةَ (شَيْءٍ) لتوغلها فِي إِبْهَام جِنْسِ مَا تُضَافُ إِلَيْهِ أَوْ جِنْسِ الْمَوْجُودِ مُطْلَقًا مُفِيدَةٌ لِلتَّقْلِيلِ غَالِبًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً [النِّسَاء: ٢٠].
وَ (إِذَنْ) الثَّانِيَةُ جَزَاءٌ لِ كِدْتَ تَرْكَنُ، وَلِكَوْنِهَا جَزَاءً فُصِلَتْ عَنِ الْعَطْفِ إِذْ لَا مُقْتَضَى لَهُ. فركون النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ غَيْرُ
الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ
[فصلت: ٣١]، وَيَجْعَلُ بَيْنَ أَنْفُسِهِمْ مَوَدَّةً كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ [الْأَعْرَاف: ٤٣].
وَإِيثَارُ الْمَصْدَرِ لِيَفِي بِعِدَّةِ مُتَعَلَّقَاتٍ بِالْوُدِّ. وَفُسِّرَ أَيْضًا جَعْلُ الْوُدِّ بِأَنَّ اللَّهَ يَجْعَلُ لَهُمْ مَحَبَّةً فِي قُلُوبِ أَهْلِ الْخَيْرِ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ عَنِ الدَّرَاوَرْدِيِّ. وَلَيْسَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ عَنْ أَحَدٍ مِمَّنْ رَوَى الْحَدِيثَ عَنْ غَيْرِ قُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ وَلَا عَنْ قُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ، فَهَذِهِ الزِّيَادَةُ إِدْرَاجٌ مِنْ قُتَيْبَةَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ خَاصَّةً.
وَفُسِّرَ أَيْضًا بِأَنَّ اللَّهَ سَيَجْعَلُ لَهُمْ مَحَبَّةً مِنْهُ تَعَالَى، فَالْجَعْلُ هُنَا كَالْإِلْقَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي [طه: ٣٩]. هَذَا أَظْهَرُ الْوُجُوهِ فِي تَفْسِيرِ الْوُدِّ، وَقَدْ ذَهَبَ فِيهِ جَمَاعَاتُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَقْوَالٍ شَتَّى مُتَفَاوِتَةٍ فِي الْقبُول.
[٩٧]
[سُورَة مَرْيَم (١٩) : آيَة ٩٧]
فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (٩٧)
إِيذَانٌ بِانْتِهَاءِ السُّورَةِ، فَإِنَّ شَأْنَ الْإِتْيَانِ بِكَلَامٍ جَامِعٍ بَعْدَ أَفْنَانِ الْحَدِيثِ أَنْ يُؤْذِنَ بِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ سَيَطْوِي بِسَاطَهُ. وَذَلِكَ شَأْنُ التَّذْيِيلَاتِ وَالْخَوَاتِمِ وَهِيَ مَا يُؤْذِنُ بِانْتِهَاءِ الْكَلَامِ.
فَلَمَّا احْتَوَتِ السُّورَةُ عَلَى عِبَرٍ وَقَصَصٍ وَبِشَارَاتٍ وَنُذُرٍ جَاءَ هُنَا فِي التَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ وَبَيَانِ بَعْضِ مَا فِي تَنْزِيلِهِ مِنَ الْحِكَمِ.
فَيَجُوزُ جَعْلُ الْفَاءِ فَصِيحَةً مُؤْذِنَةً بِكَلَامٍ مُقَدَّرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَذْكُورُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: بَلِّغْ مَا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ مَا فِيهِ مِنْ إِبْطَالِ دِينِهِمْ وَإِنْذَارِهِمْ بِسُوءِ الْعَاقِبَةِ فَمَا أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ إِلَّا لِلْبِشَارَةِ وَالنِّذَارَةِ
وَالْمَتَاعُ: مَا يُنْتَفَعُ بِهِ مُدَّةً قَلِيلَةً، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ فِي [سُورَةِ آل عمرَان: ١٩٦- ١٩٧].
[١١٢]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : آيَة ١١٢]
قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى مَا تَصِفُونَ (١١٢)
اسْتِئْنَاف ابتدائي بعد مَا مَضَى مِنْ وَصْفِ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِجْمَالِ أَصْلِهَا وَأَمْرِهِ بِإِنْذَارِهِمْ وَتَسْجِيلِ التَّبْلِيغِ. قَصَدَ مِنْ هَذَا الِاسْتِئْنَافِ التَّلْوِيحَ إِلَى عَاقِبَةِ أَمْرِ هَذَا الدِّينِ الْمَرْجُوَّةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ لِتَكُونَ قِصَّةُ هَذَا الدِّينِ وَصَاحِبِهِ مستوفَاةَ الْمَبْدَأِ وَالْعَاقِبَةِ عَلَى وِزَانِ مَا ذُكِرَ قَبْلَهَا مِنْ قَصَصِ الرُّسُلِ السَّابِقِينَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً [الْأَنْبِيَاء: ٤٨] إِلَى هُنَا.
وَفِي أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى نَبِيئَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالِالْتِجَاءِ إِلَيْهِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ بَعْدَ مَا قَالَ لَهُ: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ [الْأَنْبِيَاء: ١٠٩] رَمْزٌ إِلَى أَنَّهُمْ مُتَوَلُّونَ لَا مَحَالَةَ وَأَنَّ اللَّهَ سَيَحُكْمُ فِيهِمْ بِجَزَاءِ جُرْمِهِمْ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِالْحَقِّ لَا يُغَادِرُهُمْ، وَإِنَّ اللَّهَ فِي إِعَانَتِهِ لِأَن الله إِذا لَقَّنَ عِبَادَهُ دُعَاءً فَقَدْ ضَمِنَ لَهُمْ إِجَابَتَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: رَبَّنا لَا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا [الْبَقَرَة: ٢٨٦] وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَاسْتَجَابَ لِعَبْدِهِ فَحَكَمَ فِي هَؤُلَاءِ
الْمُعَانِدِينَ بِالْحَقِّ يَوْمَ بَدْرٍ.
وَالْمَعْنَى: قُلْ ذَلِكَ بِمَسْمَعٍ مِنْهُمْ إِظْهَارًا لِتَحَدِّيهِ إِيَّاهُمْ بِأَنَّهُ فَوَّضَ أَمْرَهُ إِلَى رَبِّهِ لِيَحُكْمَ فِيهِمْ بِالْحَقِّ الَّذِي هُوَ خَضْدُ شَوْكَتِهِمْ وَإِبْطَالُ دِينِهِمْ، لِأَنَّ اللَّهَ يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ.
الْإِيمَانِ، دَلَالَةً عَلَى أَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِي الْإِيمَانِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يُصَدِّقَ مُؤْمِنٌ عَلَى أَخِيهِ وَأُخْتِهِ فِي الدِّينِ وَلَا مُؤْمِنَةٌ عَلَى أَخِيهَا وَأُخْتِهَا فِي الدِّينِ قَوْلَ عَائِبٍ وَلَا طَاعِنٍ. وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ حَقَّ الْمُؤْمِنِ إِذَا سَمِعَ قَالَةً فِي مُؤْمِنٍ أَنْ يَبْنِيَ الْأَمْرَ فِيهَا عَلَى الظَّنِّ لَا عَلَى الشَّكِّ ثُمَّ يَنْظُرَ فِي قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ وَصَلَاحِيَّةِ الْمَقَامِ فَإِذَا نُسِبَ سوء إِلَى من عُرْفٍ بِالْخَيْرِ ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ إِفْكٌ وَبُهْتَانٌ حَتَّى يَتَّضِحَ الْبُرْهَانُ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ ظَنَّ السَّوْءِ الَّذِي وَقَعَ هُوَ مِنْ خِصَالِ النِّفَاقِ الَّتِي سَرَتْ لِبَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ غُرُورٍ وَقِلَّةِ بَصَارَةٍ فَكَفَى بِذَلِكَ تَشْنِيعًا لَهُ.
وَهَذَا تَوْبِيخٌ عَلَى عَدَمِ إِعْمَالِهِمُ النَّظَرَ فِي تَكْذِيبِ قَوْلٍ يُنَادِي حَالُهُ بِبُهْتَانِهِ وَعَلَى سُكُوتِهِمْ عَلَيْهِ وَعَدَمِ إِنْكَارِهِ.
وَعَطْفُ وَقالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ تَشْرِيعٌ لِوُجُوبِ الْمُبَادَرَةِ بِإِنْكَارِ مَا يَسْمَعُهُ الْمُسْلِمُ مِنَ الطَّعْنِ فِي الْمُسْلِمِ بِالْقَوْلِ كَمَا يُنْكِرُهُ بِالظَّنِّ وَكَذَلِكَ تَغْيِيرُ الْمُنْكَرِ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ.
وَالْبَاءُ فِي بِأَنْفُسِهِمْ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ الظَّنِّ إِلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ هُنَا إِلَى وَاحِدٍ إِذْ هُوَ فِي مَعْنَى الِاتِّهَامِ.
وَالْمُبِينُ: الْبَالِغُ الْغَايَةَ فِي الْبَيَانِ، أَيِ الْوُضُوحِ كَأَنَّهُ لِقُوَّةِ بَيَانِهِ قَدْ صَارَ يبين غَيره.
[١٣]
[سُورَة النُّور (٢٤) : آيَة ١٣]
لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٣)
اسْتِئْنَافٌ ثَانٍ لِتَوْبِيخِ الْعُصْبَةِ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ وَذَمٌّ لَهُمْ. وَ (لَوْلَا) هَذِهِ مِثْلُ (لَوْلَا) السَّابِقَةِ بِمَعْنَى (هَلَّا).
وَالْمَعْنَى: أَنَّ الَّذِي يُخْبِرُ خَبَرًا عَنْ غَيْرِ مُشَاهَدَةٍ يَجِبُ أَنْ يَسْتَنِدَ فِي خَبَرِهِ إِلَى إِخْبَارِ مُشَاهِدٍ، وَيَجِبُ كَوْنُ الْمُشَاهِدِينَ الْمُخْبِرِينَ عَدَدًا يُفِيدُ خَبَرُهُمُ
ظَنِّهِمْ ذَلِكَ، وَسَلَّطَ الْإِنْكَارَ عَلَى فِعْلِ التَّرْكِ لِأَنَّ تَرْكَهُمْ عَلَى تِلْكَ النِّعَمِ لَا يَكُونُ. فَكَانَ إِنْكَارُ حُصُولِهِ مُسْتَلْزِمًا إِنْكَارَ اعْتِقَادِهِ.
وَهَذَا الْكَلَامُ تَعْلِيلٌ لِلْإِنْكَارِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: أَلا تَتَّقُونَ [الشُّعَرَاء: ١٤٢] لِأَنَّ الْإِنْكَارَ
عَلَيْهِمْ دَوَامَ حَالِهِمْ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ مُفَارِقُونَ هَذِهِ الْحَيَاةَ وَصَائِرُونَ إِلَى اللَّهِ.
وَفِيهِ حَثٌّ عَلَى الْعَمَلِ لِاسْتِبْقَاءِ تِلْكَ النِّعَمِ بِأَنْ يَشْكُرُوا اللَّهَ عَلَيْهَا كَمَا قَالَ صَاحِبُ «الْحِكَمِ» «مَنْ لَمْ يَشْكُرِ النِّعَمَ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِزَوَالِهَا وَمَنْ شَكَرَهَا فَقَدْ قَيَّدَهَا بِعِقَالِهَا».
وهاهُنا إِشَارَةٌ إِلَى بِلَادِهِمْ، أَيْ فِي جَمِيعِ مَا تُشَاهِدُونَهُ، وَهَذَا إِيجَازٌ بَدِيعٌ.
وآمِنِينَ حَال مبينَة لِبَعْضِ مَا أجمله قَوْله: فِي مَا هاهُنا. وَذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى نِعْمَةٍ عَظِيمَةٍ لَا يَدُلُّ عَلَيْهَا اسْمُ الْإِشَارَةِ لِأَنَّهَا لَا يُشَارُ إِلَيْهَا وَهِيَ نِعْمَةُ الْأَمْنِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ وَلَا يُتَذَوَّقُ طَعْمُ النِّعَمِ الْأُخْرَى إِلَّا بِهَا.
وَقَوْلُهُ: فِي جَنَّاتٍ يَنْبَغِي أَنْ يُعَلَّقَ بِ آمِنِينَ لِيَكُونَ مَجْمُوعُ ذَلِكَ تَفْصِيلًا لِإِجْمَالِ اسْمِ الْإِشَارَةِ، أَيِ اجْتَمَعَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَرَفَاهِيَةُ الْعَيْشِ. وَالْجَنَّاتُ: الْحَوَائِطُ الَّتِي تُشَجَّرُ بِالنَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ.
وَالطَّلْعُ: وِعَاءٌ يَطْلُعُ مِنَ النَّخْلِ فِيهِ ثَمَرُ النَّخْلَةِ فِي أَوَّلِ أَطْوَارِهِ يَخْرُجُ كَنَصْلِ السَّيْفِ فِي بَاطِنِهِ شَمَارِيخُ الْقِنْوِ، وَيُسَمَّى هَذَا الطَّلْعُ الْكِمُّ (بِكَسْرِ الْكَافِ) وَبَعْدَ خُرُوجِهِ بِأَيَّامٍ يَنْفَلِقُ ذَلِكَ الْوِعَاءُ عَنِ الشَّمَارِيخِ وَهِيَ الْأَغْصَانُ الَّتِي فِيهَا الثَّمَرُ كَحَبٍّ صَغِيرٍ، ثُمَّ يَغْلُظُ وَيَصِيرُ بُسْرًا ثُمَّ تَمْرًا.
وَالْهَضِيمُ: بِمَعْنَى الْمَهْضُومِ، وَأَصْلُ الْهَضْمِ شَدْخُ الشَّيْءِ حَتَّى يَلِينَ، وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِلدَّقِيقِ الضَّامِرِ، كَمَا يُقَالُ: امْرَأَةٌ هَضِيمُ الْكَشْحِ. وَتِلْكَ عَلَامَةٌ عَلَى أَنَّهُ يَخْرُجُ تَمْرًا جَيِّدًا.
وَالنَّخْلُ الَّذِي يُثْمِرُ تَمْرًا جَيِّدًا يُقَالُ لَهُ: النَّخْلُ الْإِنَاثُ وَضِدَّهُ فَحَاحِيلُ، وَهِيَ جُمَعُ فُحَّالٍ (بِضَمِّ الْفَاءِ وَتَشْدِيدِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ) أَيْ ذَكَرٌ، وَطَلْعُهُ غَلِيظٌ وَتَمْرُهُ كَذَلِكَ.
وَخُصَّ النَّخْلُ بِالذِّكْرِ مَعَ أَنَّهُ مِمَّا تَشْمَلُهُ الْجَنَّاتُ لِقَصْدِ بَيَانِ جَوْدَتِهِ بِأَنَّ طَلْعَهُ هَضِيمٌ.
وَلِهَذِهِ الْقِصَّةِ اتِّصَالٌ بِانْتِهَاءِ قِصَّةِ جُنْدِ فِرْعَوْنَ الْمُنْتَهِيَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا [الْقَصَص: ٤٦] الْآيَةَ.
وقارُونَ اسْمٌ مُعَرَبٌ أَصْلُهُ فِي الْعِبْرَانِيَّةِ (قُورَحُ) بِضَمِّ الْقَافِ مُشْبَعَةً وَفَتْحِ الرَّاءِ، وَقَعَ فِي تَعْرِيبِهِ تَغْيِيرُ بَعْضِ حُرُوفِهِ لِلتَّخْفِيفِ، وَأُجْرِيَ وَزْنُهُ عَلَى مُتَعَارَفِ الْأَوْزَانِ الْعَرَبِيَّةِ مِثْلَ طَالُوتَ، وَجَالُوتَ، فَلَيْسَتْ حُرُوفُهُ حُرُوفُ اشْتِقَاقٍ مِنْ مَادَّةِ قَرَنَ.
وَ (قُورَحُ هَذَا ابْنُ عَمِّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ دِنْيَا)، فَهُوَ قُورَحُ بْنُ يَصْهَارَ بْنِ قَهَاتِ بْنِ
لَاوِي بْنِ يَعْقُوبَ. وَمُوسَى هُوَ ابْنُ عِمْرَمَ الْمُسَمَّى عِمْرَانَ فِي الْعَرَبِيَّةِ ابْنِ قَاهِتَ فَيَكُونُ يَصَاهَرُ أَخَا عِمْرَمَ، وَوَرَدَ فِي الْإِصْحَاحِ السَّادِسَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ الْعَدَدِ أَنَّ (قُورَحَ) هَذَا تَأَلَّبَ مَعَ بَعْضِ زُعَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ رَجُلًا مِنْهُمْ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ حِينَ جَعَلَ اللَّهُ الْكِهَانَةَ فِي بَنِي هَارُونَ مِنْ سِبْطِ (لَاوِي) فَحَسَدَهُمْ قُورَحُ إِذْ كَانَ ابْنَ عَمِّهِمْ وَقَالَ لِمُوسَى وَهَارُونَ: مَا بَالُكُمَا تَرْتَفِعَانِ عَلَى جَمَاعَةِ الرَّبِّ إِنَّ الْجَمَاعَةَ مُقَدَّسَةٌ وَالرَّبَّ مَعَهَا فَغَضِبَ اللَّهُ عَلَى قُورَحَ وَأَتْبَاعِهِ وَخَسَفَ بِهِمُ الْأَرْضَ وَذَهَبَتْ أَمْوَالُ (قُورَحَ) كُلُّهَا، وَكَانَ ذَلِكَ حِينَ كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَلَى أَبْوَابِ (أَرِيحَا) قَبْلَ فَتْحِهَا. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ جَعْلَ (قُورَحَ) رَئِيسًا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي مِصْرَ وَأَنَّهُ جَمَعَ ثَرْوَةً عَظِيمَةً.
وَمَا حَكَاهُ الْقُرْآنُ يُبَيِّنُ سَبَبَ نُشُوءِ الْحَسَدِ فِي نَفْسِهِ لِمُوسَى لِأَنَّ مُوسَى لَمَّا جَاءَ بِالرِّسَالَةِ وَخَرَجَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ زَالَ تَأَمُّرُ قارُونَ عَلَى قَوْمِهِ فَحَقَدَ عَلَى مُوسَى. وَقَدْ أَكْثَرَ الْقُصَّاصُ مِنْ وَصْفِ بَذْخَةِ قَارُونَ وَعَظْمَتِهِ مَا لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ. وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ بُرْهَانٍ.
وَتَلَقَّفَهُ الْمُفَسِّرُونَ حَاشَا ابْنَ عَطِيَّةَ.
وَافْتِتَاحُ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِإِفَادَةِ تَأْكِيدِ خَبَرِ إِنَّ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ وَتَعَلَّقَ بِهِ مِمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الْقِصَّةُ وَهُوَ سُوءُ عَاقِبَةِ الَّذِينَ تَغُرُّهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَتَزْدَهِيهِمْ فَلَا يَكْتَرِثُونَ بِشُكْرِ النِّعْمَةِ وَيَسْتَخِفُّونَ بِالدِّينِ، وَيَكْفُرُونَ بِشَرَائِعِ اللَّهِ لِظُهُورِ أَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْ قَارُونَ بِأَنَّهُ مِنْ قَوْمِ مُوسَى لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَتَرَدَّدَ فِيهِ السَّامِعُ حَتَّى يُؤَكَّدَ لَهُ، فَمَصَبُّ التَّأْكِيدِ هُوَ مَا بَعْدَ قَوْلِهِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ الْمُنْتَهِيَةِ بِالْخَسْفِ.
وَانْتَصَبَ ظاهِرَةً وَباطِنَةً عَلَى الْحَالِ عَلَى قِرَاءَةِ نَافِعٍ وَمَنْ مَعَهُ، وَعَلَى الصِّفَةِ عَلَى قِرَاءَةِ الْبَقِيَّةِ.
وَالظَّاهِرَةُ: الْوَاضِحَةُ. وَالْبَاطِنَةُ: الْخَفِيَّةُ وَمَا لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِدَلِيلٍ أَوْ لَا يُعْلَمُ أَصْلًا.
وَأَصْلُ الْبَاطِنَةِ الْمُسْتَقِرَّةُ فِي بَاطِنِ الشَّيْءِ أَيْ دَاخِلِهِ، قَالَ تَعَالَى: باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ [الْحَدِيد: ١٣] فَكَمْ فِي بَدَنِ الْإِنْسَانِ وَأَحْوَالِهِ مِنْ نِعَمٍ يَعْلَمُهَا النَّاسُ أَوْ لَا يَعْلَمُهَا بَعْضُهُمْ، أَوْ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا الْعُلَمَاءُ، أَوْ لَا يَعْلَمُهَا أَهْلُ عَصْرٍ ثُمَّ تَنْكَشِفُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ، وَكِلَا النَّوْعَيْنِ أَصْنَافٌ دِينِيَّةٌ وَدُنْيَوِيَّةٌ.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٢١).
الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ وَاوُ الْحَالِ. وَالْمَعْنَى: قَدْ رَأَيْتُمْ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَأَنْعَمَ عَلَيْكُمْ نِعَمًا ضَافِيَةً فِي حَالِ أَنَّ بَعْضَكُمْ يُجَادِلُ فِي وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَيَتَعَامَى عَنْ دَلَائِلِ وَحْدَانِيَّتِهِ. وَجُمْلَةُ الْحَالِ هُنَا خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِ هَذَا الْفَرِيقِ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْوَاوَ اعْتِرَاضِيَّةً وَالْجُمْلَةَ مُعْتَرِضَةً بَيْنَ جُمْلَةِ أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ وَبَيْنَ جُمْلَةِ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [لُقْمَان: ٢٥].
وَقَوْلُهُ وَمِنَ النَّاسِ مِنَ الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمِنْكُمْ، ومِنَ تَبْعِيضِيَّةٌ. وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْفَرِيقِ: هُمُ الْمُتَصَدُّونَ لِمُحَاجَّةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّمْوِيهِ عَلَى قَوْمِهِمْ مِثْلُ النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزِّبَعْرَى.
وَشَمِلَ قَوْلُهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ مَرَاتِبَ اكْتِسَابِ الْعِلْمِ وَهِيَ إِمَّا:
الِاجْتِهَادُ وَالِاكْتِسَابُ، أَوِ التَّلَقِّي مِنَ الْعَالِمِ، أَوْ مُطَالَعَةُ الْكُتُبِ الصَّائِبَةِ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ
أَوْ لِأَنَّهُ الَّذِي خَلَقَ لَهُمْ تُرْبَةً طَيِّبَةً تَتَوَفَّرُ مَحَاصِيلُهَا عَلَى حَاجَةِ السُّكَّانِ فَتَسْمَحُ لَهُمْ بِتَطَلُّبِ تَرْوِيجِهَا فِي بِلَادٍ أُخْرَى.
وَوَصْفُ ظاهِرَةً أَنَّهَا مُتَقَارِبَةٌ بِحَيْثُ يَظْهَرُ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ وَيَتَرَاءَى بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ.
وَقِيلَ: الظَّاهِرَةُ الَّتِي تَظْهَرُ لِلسَّائِرِ مِنْ بُعْدٍ بِأَنْ كَانَتِ الْقُرَى مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْآكَامِ وَالظِّرَابِ يُشَاهِدُهَا الْمُسَافِرُ فَلَا يَضِلُّ طَرِيقَهَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ مَعْنَى ظاهِرَةً أَنَّهَا خَارِجَةٌ عَنِ الْمُدُنِ فَهِيَ فِي ظَوَاهِرِ الْمُدُنِ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: نَزَلْنَا بِظَاهِرِ الْمَدِينَةِ الْفُلَانِيَّةِ، أَيْ خَارِجًا عَنْهَا. فَقَوْلُهُ: ظاهِرَةً كَتَسْمِيَةِ النَّاسِ إِيَّاهَا بِالْبَادِيَةِ وَبِالضَّاحِيَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ وَأَنْشَدَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ:
فَلَوْ شَهِدَتْنِي مِنْ قُرَيْشٍ عِصَابَةٌ | قُرَيْشُ الْبِطَاحِ لَا قُرَيْشُ الظَّوَاهِرِ |
اهـ. وَهُوَ تَفْسِيرٌ جَمِيلٌ. وَيَكُونُ فِي قَوْلِهِ: ظاهِرَةً عَلَى ذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ وَفْرَةِ الْمُدُنِ حَتَّى إِنَّ الْقُرَى كُلَّهَا ظَاهِرَةٌ مِنْهَا.
وَمَعْنَى تَقْدِيرِ السَّيْرِ فِي الْقُرَى: أَنَّ أَبْعَادَهَا عَلَى تَقْدِيرٍ وَتَعَادُلٍ بِحَيْثُ لَا يَتَجَاوَزُ مِقْدَارٌ مَرْحَلَةً. فَكَانَ الغادي يقبل فِي قَرْيَةٍ وَالرَّائِحُ يَبِيتُ فِي قَرْيَةٍ. فَالْمَعْنَى: قَدَّرْنَا مَسَافَاتِ السَّيْرِ فِي الْقُرَى، أَيْ فِي أَبْعَادِهَا. وَيَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ: فِيها بِفِعْلِ قَدَّرْنا لَا بِالسَّيْرِ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ فِي الْقُرَى وَأَبْعَادِهَا لَا فِي السَّيْرِ إِذْ تَقْدِيرُ السَّيْرِ تَبَعٌ لِتَقْدِيرِ الْأَبْعَادِ.
وَجُمْلَةُ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ قَدَّرْنا أَوْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْهَا.
وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ قَوْلُ التَّكْوِينِ وَهُوَ جَعْلُهَا يَسِيرُونَ فِيهَا. وَصِيغَةُ الْأَمْرِ لِلتَّكْوِينِ.
وَضَمِيرُ فِيها عَائِدٌ إِلَى الْقُرَى، وَالظَّرْفِيَّةُ الْمُسْتَفَادَةُ مِنْ حَرْفِ الظَّرْفِ تَخْيِيلٌ لِمَكْنِيَّةٍ، شَبِهَتِ الْقُرَى لِشِدَّةِ تَقَارُبِهَا بِالظَّرْفِ وَحُذِفَ الْمُشَبَّهُ بِهِ وَرُمِزَ إِلَيْهِ بِحَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ. وَالْمَعْنَى:
سِيرُوا بَيْنَهَا.
وَكَانُوا يَسِيرُونَ غُدُوًّا وَعَشِيًّا فَيَسِيرُونَ الصَّبَاحَ ثُمَّ تَعْتَرِضُهُمْ قَرْيَةٌ فَيُرِيحُونَ فِيهَا
عَلَى أَنَّهُ لَا يَجْرِي فِي مِثْلِهِ اسْتِهَامٌ.
فَلَوْ صَحَّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ شَرْعًا لِمَنْ قَبِلْنَا فَقَدْ نَسَخَهُ إِجْمَاعُ عُلَمَاءِ أُمَّتِنَا.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الِاقْتِرَاعُ عَلَى إِلْقَاءِ الْآدَمِيِّ فِي الْبَحْرِ لَا يَجُوزُ فَكَيْفَ الْمُسْلِمُ فَإِنَّهُ لَا
يَجُوزُ فِيمَنْ كَانَ عَاصِيًا أَنْ يقتل وَلَا أَن يُرْمَى بِهِ فِي النَّارِ وَالْبَحْرِ. وَإِنَّمَا تَجْرِي عَلَيْهِ الْحُدُود وَالتَّعْزِير عَلَى مِقْدَارِ جِنَايَتِهِ. وَظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ الْبَحْرَ إِذَا هَالَ عَلَى الْقَوْمِ فَاضْطَرُّوا إِلَى تَخْفِيفِ السَّفِينَةِ أَنَّ الْقُرْعَةَ تُضْرَبُ عَلَيْهِمْ فَيُطْرَحُ بَعْضُهُمْ تَخْفِيفًا، وَهَذَا فَاسِدٌ فَلَا تُخَفَّفُ بِرَمْيِ بَعْضِ الرِّجَالِ وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ وَإِنَّمَا يَصْبِرُونَ عَلَى قَضَاءِ اللَّهِ.
وَكَانَتْ فِي شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَنَا الْقُرْعَةُ جَائِزَةٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ عَلَى الْعُمُومِ. وَجَاءَتِ الْقُرْعَةُ فِي شَرْعِنَا عَلَى الْخُصُوصِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ:
الْأَوَّلُ: كَانَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ.
الثَّانِي: أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُفِعَ إِلَيْهِ أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ سِتَّةَ أَعْبُدٍ لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمْ فَأَقْرَعَ بَيْنَ اثْنَيْنِ- وَهُمَا مُعَادِلُ الثُّلُثِ- وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً.
الثَّالِثُ: أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَيْهِ فِي مَوَارِيثَ دُرِسَتْ، فَقَالَ: اذْهَبَا وَتَوَخَّيَا الْحَقَّ وَاسْتَهِمَا وَلْيُحْلِلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا صَاحِبَهُ.
وَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي الْقُرْعَةِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ عِنْدَ الْغَزْوِ عَلَى قَوْلَيْنِ: الصَّحِيحُ مِنْهُمَا الِاقْتِرَاعُ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ السَّفَرَ بِجَمِيعِهِنَّ لَا يُمْكِنُ وَاخْتِيَارُ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ إِيثَارٌ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْقُرْعَةُ.
قَالَ الْقَرَافِيُّ فِي «الْفِرَقِ» (٢٤٠) : مَتَى تَعَيَّنَتِ الْمَصْلَحَةُ أَوِ الْحَقُّ فِي جِهَةٍ لَا يَجُوزُ الِاقْتِرَاعُ لِأَنَّ فِي الْقُرْعَةِ ضَيَاعَ الْحَقِّ وَمَتَى تَسَاوَتِ الْحُقُوقُ أَوِ الْمَصَالِحُ فَهَذَا مَوْضِعُ الْقُرْعَةِ دَفْعَا لِلضَّغَائِنِ فَهِيَ مَشْرُوعَةٌ بَيْنَ الْخُلَفَاءِ إِذَا اسْتَوَتْ فِيهِمُ الْأَهْلِيَّة للولاية وَالْأَئِمَّة والمؤذنين إِذْ اسْتَوَوْا وَالتَّقَدُّمُ لِلصَّفِّ الْأَوَّلِ عِنْدَ الِازْدِحَامِ وَتَغْسِيلُ الْأَمْوَاتِ عِنْدَ تَزَاحُمِ الْأَوْلِيَاءِ وَتُسَاوِيهِمْ وَبَيْنَ الْحَاضِنَاتِ وَالزَّوْجَاتِ فِي السَّفَرِ
وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ من جعل مَا صدق: الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ هُنَا الْيَهُودَ، وَجَعَلَهُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النِّسَاء: ٥٤]، وَارْتَقَى بِذَلِكَ إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ أُلْحِقَتْ بِالسُّورَةِ الْمَكِّيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي مُقَدِّمَةِ تَفْسِيرِ السُّورَةِ، وَأَيَّدُوا تَفْسِيرَهُمْ هَذَا بِآثَارٍ لَوْ صَحَّتْ لَمْ تَكُنْ فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ صُلُوحِيَّةِ الْآيَةِ لَأَنْ تُضْرَبَ مَثَلًا لِكُلِّ فَرِيقٍ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ جدالا يدفعهم إِلَيْهِم الْكِبْرُ.
فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ لَمَّا ضَمِنَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَهُ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ يَحْدُوهُمْ إِلَى الْجِدَالِ كِبْرُهُمُ الْمُنْطَوِي عَلَى كَيْدِهِمْ وَأَنَّهُمْ لَا يبلغون من أَضْمَرُوهُ وَمَا يُضْمِرُونَهُ، فَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ أَنْ أَمَرَهُ بِأَنْ يَجْعَلَ اللَّهَ مَعَاذَهُ مِنْهُمْ، أَيْ لَا يَعْبَأُ بِمَا يُبَيِّتُونَهُ، أَيْ قَدِّمْ عَلَى طَلَبِ الْعَوْذِ بِاللَّهِ.
وَحَذَفَ مُتَعَلِّقَ (اسْتَعِذْ) لِقَصْدِ تَعْمِيمِ الِاسْتِعَاذَةِ مِنْ كُلِّ مَا يُخَافُ مِنْهُ.
وَجُمْلَةُ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِالدَّوَامِ عَلَى الِاسْتِعَاذَةِ، أَيْ لِأَنَّهُ الْمُطَّلِعُ عَلَى أَقْوَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ وَأَنْتَ لَا تُحِيطُ عِلْمًا بِتَصَارِيفِ مَكْرِهِمْ وَكَيْدِهِمْ.
وَالتَّوْكِيدُ بِحَرْفِ (إِنَّ)، وَالْحَصْرِ بِضَمِيرِ الْفَصْلِ مُرَاعًى فِيهِ التَّعْرِيضُ بِالْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ وَهُمُ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى إِبْطَالِ مَا يَصْنَعُونَهُ لَا أَنْتَ فَكَيْفَ يَتِمُّ لَهُمْ مَا أضمروه لَك.
[٥٧]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : آيَة ٥٧]
لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٥٧)
مُنَاسَبَةُ اتِّصَالِ هَذَا الْكَلَامِ بِمَا قَبْلَهُ أَنَّ أَهَمَّ مَا جَادَلُوا فِيهِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ هِيَ الْآيَاتُ الْمُثْبِتَةُ لِلْبَعْثِ وَجِدَالُهُمْ فِي إِثْبَاتِ الْبَعْثِ هُوَ أَكْبَرُ شُبْهَةٍ لَهُمْ ضَلَّلَتْ أَنْفُسَهُمْ
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمَرْكُوبِ حِينَمَا يَقُولُ الرَّاكِبُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ مِنْ دَابَّةٍ أَوْ سفينة.
والتسخير: التذييل وَالتَّطْوِيعُ. وَتَسْخِيرُ اللَّهِ الدَّوَابَّ هُوَ خَلْقُهُ إِيَّاهَا قَابِلَةً لِلتَّرْوِيضِ فَاهِمَةً لِمُرَادِ الرَّاكِبِ، وَتَسْخِيرُ الْفُلْكِ حَاصِلٌ بِمَجْمُوعِ خَلْقِ الْبَحْرِ صَالِحًا لَسَبْحِ السُّفُنِ عَلَى مَائِهِ، وَخَلْقِ الرِّيَاحَ تَهُبُّ فَتَدْفَعُ السُّفُنَ عَلَى الْمَاءِ، وَخَلْقِ حِيلَةِ الْإِنْسَانِ لِصُنْعِ الْفُلْكِ، وَرَصْدِ مَهَابِّ الرِّيَاحِ، وَوَضْعِ الْقُلُوعِ وَالْمَجَاذِيفِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَتْ قُوَّةُ الْإِنْسَانِ دُونَ أَنْ تَبْلُغَ اسْتِخْدَامَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْقَوِيَّةِ. وَلِهَذَا عَقَّبَ بَقَوْلِهِ: وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ أَيْ مُطِيقِينَ، أَيْ بِمُجَرَّدِ الْقُوَّةِ الْجَسَدِيَّةِ، أَيْ لَوْلَا التَّسْخِيرُ الْمَذْكُورُ، فَجُمْلَةُ وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ لَنا أَيْ سَخَّرَهَا لَنَا فِي حَالِ ضَعْفِنَا بِأَنْ كَانَ تَسْخِيرُهُ قَائِمًا مَقَامَ الْقُوَّةِ.
وَالْمُقْرِنُ: الْمُطِيقُ، يُقَالُ: أَقْرَنَ، إِذَا أَطَاقَ، قَالَ عَمْرو بن معديكرب:
لَقَدْ عَلِمَ الْقَبَائِلُ مَا عُقَيْلٌ | لَنَا فِي النَّائِبَاتِ بِمُقْرِنِينَا |
وَالِانْقِلَابُ: الرُّجُوعُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي يُفَارِقُهُ. وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ التَّنْزِيهِ عَطْفَ الْخَبَرِ عَلَى الْإِنْشَاءِ. وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِتَوْبِيخِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى كُفْرَانِ نِعْمَةِ اللَّهِ بِالْإِشْرَاكِ وَبِنِسْبَةِ الْعَجْزِ عَنِ الْإِحْيَاءِ بَعْدَ الْمَوْتِ لِأَنَّ الْمَعْنَى: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَشْكُرُوا بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ فَلَمْ تَفْعَلُوا، وَلِمُلَاحَظَةِ هَذَا الْمَعْنَى أَكَّدَ الْخَبَرَ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَقُولُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ كَمَا شَكَرُوا لِلَّهِ مَا سَخَّرَ لَهُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ.
وَالْمَرْوِيُّ أَنَّ الَّذِي بَنَى مَسْجِدًا عَلَى مَكَانِ الشَّجَرَةِ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ الْخَلِيفَةُ الْعَبَّاسِيُّ وَلَكِنْ فِي الْمَسْجِدِ الْمَذْكُورِ حَجَرٌ مَكْتُوبٌ فِيهِ «أَمَرَ عَبْدُ اللَّهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِبِنَاءِ هَذَا الْمَسْجِدِ مَسْجِدِ الْبَيْعَةِ وَأَنَّهُ بُنِيَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَهِيَ تُوَافِقُ مُدَّةَ الْمُتَوَكِّلِ جَعْفَرِ بْنِ الْمُعْتَصِمِ وَقَدْ تَخَرَّبَ فَجَدَّدَهُ الْمُسْتَنْصِرُ الْعَبَّاسِيُّ سَنَةَ ٦٢٩ ثُمَّ جَدَّدَهُ السُّلْطَانُ مَحْمُودُ خَانْ الْعُثْمَانِيُّ سَنَةَ ١٢٥٤ وَهُوَ قَائِمٌ إِلَى الْيَوْمِ.
وَذُكِرَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ لِاسْتِحْضَارِ تِلْكَ الصُّورَةِ تَنْوِيهًا بِالْمَكَانِ فَإِنَّ لِذِكْرِ مَوَاضِعِ الْحَوَادِثِ وَأَزْمَانِهَا مَعَانِيَ تُزِيدُ السَّامِعَ تَصَوُّرًا وَلِمَا فِي تِلْكَ الْحَوَادِثِ مِنْ ذِكْرَى مِثْلِ مَوَاقِعِ الْحُرُوبِ وَالْحَوَادِثِ كَقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ «وَيَوْمُ الْخَمِيسِ وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ اشْتَدَّ برَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعُهُ» الْحَدِيثَ. وَمَوَاقِعُ الْمَصَائِبِ وَأَيَّامُهَا.
وإِذْ ظَرْفٌ يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِ رَضِيَ، أَيْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ الْحِين. وَهَذَا رضى خَاصٌّ، أَي تعلّق رضى اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُمْ بِتِلْكَ الْحَالَةِ.
وَالْفَاء فِي قَوْلِهِ: فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ لَيْسَتْ لِلتَّعْقِيبِ لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ لَيْسَ عَقِبَ رِضَاهُ عَنْهُمْ وَلَا عَقِبَ وُقُوعِ بَيْعَتِهِمْ فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ فَاءً فَصِيحَةً تُفْصِحُ عَنْ كَلَامٍ مُقَدَّرٍ بَعْدَهَا. وَالتَّقْدِيرُ: فَلَمَّا بَايَعُوكَ عَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْكَآبَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْفَاءُ لِتَفْرِيعِ الْأَخْبَارِ بِأَنَّ اللَّهَ عَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ بعد الْإِخْبَار برضى اللَّهُ عَنْهُمْ لِمَا فِي الْإِخْبَارِ بِعِلْمِهِ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ إِظْهَارِ عِنَايَتِهِ بِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّفْرِيعِ قَوْلُهُ:
فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَيَكُونُ قَوْلُهُ: فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ تَوْطِئَةً لَهُ عَلَى وَجْهِ الِاعْتِرَاضِ.
وَالْمَعْنَى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَجْلِ مُبَايَعَتِهِمْ عَلَى نَصْرِكَ فَلَمَّا بَايَعُوا وَتَحَفَّزُوا لِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ وَوَقَعَ الصُّلْحُ حَصَلَتْ لَهُمْ كَآبَةٌ فِي نُفُوسِهِمْ فَأَعْلَمَهُمُ اللَّهُ أَنَّهُ اطَّلَعَ عَلَى مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ تِلْكَ الْكَآبَةِ، وَهَذَا مِنْ عِلْمِهِ الْأَشْيَاءَ بَعْدَ وُقُوعِهَا وَهُوَ مِنْ تَعَلُّقِ عِلْمِ اللَّهِ بِالْحَوَادِثِ بَعْدَ حُدُوثِهَا، أَيْ عِلْمِهِ بِأَنَّهَا وَقَعَتْ وَهُوَ تَعَلُّقٌ حَادِثٌ مِثْلُ التَّعَلُّقَاتِ التَّنْجِيزَيَّةِ. وَالْمَقْصُودُ بِإِخْبَارِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ عَلِمَ مَا حَصَّلَ فِي قُلُوبِهِمُ الْكَآبَةَ عَنْ أَنَّهُ قَدَرَ ذَلِكَ
ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ. ازدجره بِمَعْنَى زَجَرَهُ، وَمَادَّةُ الِافْتِعَالِ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ. وَالدَّالُ بَدَلٌ مِنْ تَاءِ الِافْتِعَالِ الَّتِي تُبْدَلُ بَعْدَ الزَّايِ إِلَّا مِثْلَ ازْدَادَ، أَيْ مَا فِيهِ مَانِعٌ لَهُمْ مِنَ ارْتِكَابِ مَا ارْتَكَبُوهُ.
وَالْمَعْنَى: مَا هُوَ زَاجِرٌ لَهُمْ فَجَعَلَ الِازْدِجَارَ مَظْرُوفًا فِيهِ مَجَازًا لِلْمُبَالَغَةِ فِي مُلَازَمَتِهِ لَهُ عَلَى طَرِيقَةِ التَّجْرِيدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الْأَحْزَاب: ٢١] أَيْ هُوَ أُسْوَةٌ.
وحِكْمَةٌ بالِغَةٌ بَدَلٌ مِنْ مَا، أَيْ جَاءَهُمْ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ.
وَالْحِكْمَةُ: إِتْقَانُ الْفَهْمِ وَإِصَابَةُ الْعَقْلِ. وَالْمُرَادُ هُنَا الْكَلَام الَّذِي تضمن الْحِكْمَةَ وَيُفِيدُ سَامِعَهُ حِكْمَةً، فَوَصْفُ الْكَلَامِ بِالْحِكْمَةِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ كَثِيرُ الِاسْتِعْمَالِ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ
[٢٦٩]، وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً.
وَالْبَالِغَةُ: الْوَاصِلَةُ، أَيْ وَاصِلَةٌ إِلَى الْمَقْصُودِ مُفِيدَةٌ لِصَاحِبِهَا.
وَفَرَّعَ عَلَيْهِ قَوْله: فَما تُغْنِ النُّذُرُ، أَيْ جَاءَهُمْ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ فَلَمْ يُغْنِ ذَلِكَ، أَيْ لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ الْإِقْلَاعُ عَنْ ضَلَالِهِمْ.
وَمَا تَحْتَمِلُ النَّفْيَ، أَيْ لَا تُغْنِي عَنْهُمُ النُّذُرُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَهَذَا تَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ [الْقَمَر: ٦]، فَالْمُضَارِعُ لِلْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ، أَيْ مَا هِيَ مُغْنِيَةٌ، وَيُفِيدُ بِالْفَحْوَى أَنَّ تِلْكَ الْأَنْبَاءَ لَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ فِيمَا مَضَى بِطَرِيقِ الْأَحْرَى، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مَا جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ الِانْزِجَارِ شَيْئًا فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ فَهُوَ لَمْ يُغْنِ عَنْهُمْ فِيمَا مَضَى إِذْ لَوْ أغْنى عَنْهُم لَا رتفع اللَّوْمُ عَلَيْهِمْ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَا اسْتِفْهَامِيَّةً لِلْإِنْكَارِ، أَيْ مَاذَا تُفِيدُ النُّذُرُ فِي أَمْثَالِهِمُ الْمُكَابِرِينَ الْمُصِرِّينَ، أَيْ لَا غِنَاءَ لَهُمْ فِي تِلْكَ الأنباء، فَمَا عَلَى هَذَا فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُول الْمُطلق ل تُغْنِ، وَحُذِفَ مَا أُضِيفَتْ إِلَيْهِ مَا. وَالتَّقْدِيرُ: فَأَيُّ غِنَاءٍ تُغْنِي النُّذُرُ وَهُوَ الْمُخْبِرُ بِمَا يَسُوءُ، فَإِنَّ الْأَنْبَاءَ تَتَضَمَّنُ إِرْسَالَ الرُّسُلِ مِنَ اللَّهِ مُنْذِرِينَ لِقَوْمِهِمْ فَمَا أَغْنَوْهُمْ وَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِهِمْ وَلِأَنَّ الْأَنْبَاءَ فِيهَا الْمَوْعِظَةُ وَالتَّحْذِيرُ مِنْ مِثْلِ صَنِيعِهِمْ فَيَكُونُ
فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ الَّذِي قَالُوهُ وَعْدًا وَعَدُوهُ وَلَمْ يَفُوا بِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا أَخْبَرُوا بِهِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ لَمْ يُطَابِقِ الْوَاقِعَ. وَقَدْ مَضَى اسْتِيفَاءُ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى صَدْرِ السُّورَةِ.
وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنْ تَحْذِيرِهِمْ مِنَ الْوُقُوعِ فِي مِثْلِ مَا فَعَلُوهُ يَوْمَ أُحُدٍ بِطَرِيقِ الرَّمْزِ، وَكِنَايَةٌ عَنِ اللَّوْمِ عَلَى مَا فَعَلُوهُ يَوْمَ أُحُدٍ بِطَرِيقِ التَّلْوِيحِ.
وَتَعْقِيبُ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا [الصَّفّ: ٤] إِلَخْ.
يُؤْذِنُ بِأَنَّ اللَّوْمَ عَلَى وَعْدٍ يَتَعَلَّقُ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَبِذَلِكَ يَلْتَئِمُ مَعْنَى الْآيَةِ مَعَ حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ فِي سَبَبِ النُّزُولِ وَتَنْدَحِضُ رِوَايَاتٌ أُخْرَى رُوِيَتْ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا ذَكَرَهَا فِي «الْكَشَّافِ».
وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالْمُنَافِقِينَ إِذْ يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ بِأَقْوَالِهِمْ وَهُمْ لَا يَعْمَلُونَ أَعْمَالَ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِالْقَلْبِ وَلَا بِالْجَسَدِ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُوَ قَوْلُ الْمُنَافِقِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ نَحْنُ مِنْكُمْ وَمَعَكُمْ ثُمَّ يَظْهَرُ مِنْ أَفْعَالِهِمْ خِلَافُ ذَلِكَ.
وَجُمْلَةُ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ تَصْرِيحًا بِالْمَعْنَى الْمُكَنَّى عَنْهُ بِهَا.
وَهُوَ خَبَرٌ عَنْ كَوْنِ قَوْلِهِمْ: مَا لَا تَفْعَلُونَ أَمْرًا كَبِيرًا فِي جِنْسِ الْمَقْتِ.
وَالْكِبَرُ: مُسْتَعَارٌ لِلشِّدَةِ لِأَنَّ الْكَبِيرَ فِيهِ كَثْرَةٌ وَشِدَّةٌ فِي نَوْعِهِ.
وأَنْ تَقُولُوا فَاعِلُ كَبُرَ.
وَالْمَقْتُ: الْبُغْضُ الشَّدِيدُ. وَهُوَ هُنَا بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ.
وَانْتَصَبَ مَقْتاً عَلَى التَّمْيِيزِ لِجِهَةِ الْكِبَرِ. وَهُوَ تَمْيِيزُ نِسْبَةٍ.
وَالتَّقْدِيرُ: كَبُرَ مَمْقُوتًا قَوْلُكُمْ مَا لَا تَفْعَلُونَهُ.
وَنُظِمَ هَذَا الْكَلَامُ بِطَرِيقَةِ الْإِجْمَالِ ثُمَّ التَّفْصِيلِ بِالتَّمْيِيزِ لِتَهْوِيلِ هَذَا الْأَمْرِ فِي قُلُوبِ السَّامِعِينَ لِكَوْنِ الْكَثِيرِ مِنْهُمْ بِمِظَنَّةِ التَّهَاوُنِ فِي الْحَيْطَةِ مِنْهُ حَتَّى وَقَعُوا فِيمَا وَقَعُوا يَوْمَ أُحُدٍ.
فَفِيهِ وَعِيدٌ عَلَى تَجَدُّدِ مِثْلِهِ، وَزِيدَ الْمَقْصُودُ اهْتِمَامًا بِأَنْ وُصِفَ الْمَقْتُ بِأَنَّهُ عِنْدَ اللَّهِ، أَيْ مَقْتٌ لَا تَسَامُحَ فِيهِ.
الذُّنُوبَ كَحَدِيثِ «مَا يُدْرِيكُمْ مَا بَلَغَتْ بِهِ صَلَاتُهُ».
وَقَدْ حَصَلَ بَيْنَ أُخْرَى هَذِهِ الصِّلَاتِ وَبَيْنَ أُولَاهَا مُحَسِّنُ رَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ.
وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ يُفِيدُ تَقْوِيَةَ الْخَبَرِ مَعَ إِفَادَةِ التَّجَدُّدِ مِنَ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ.
وَلَمَّا أُجْرِيَتْ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الصِّفَاتُ الْجَلِيلَةُ أُخْبِرَ عَنْ جَزَائِهِمْ عَلَيْهَا بِأَنَّهُمْ مُكَرَّمُونَ فِي الْجَنَّةِ.
وَجِيءَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا مَا بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنْ أَجْلِ مَا سَبَقَ قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٥].
وَالْإِكْرَامُ: التَّعْظِيمُ وَحُسْنُ اللِّقَاءِ، أَيْ هُمْ مَعَ جَزَائِهِمْ بِنَعِيمِ الْجَنَّاتِ يُكْرَمُونَ بِحُسْنِ اللِّقَاءِ وَالثَّنَاءِ، قَالَ تَعَالَى: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرَّعْد: ٢٣، ٢٤] وَقَالَ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التَّوْبَة: ٧٢].
وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: فِي جَنَّاتٍ خَبَرًا عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ وَقَوْلُهُ مُكْرَمُونَ خَبَرًا ثَانِيًا.
[٣٦- ٤١]
[سُورَة المعارج (٧٠) : الْآيَات ٣٦ الى ٤١]
فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (٣٦) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (٣٧) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (٣٨) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (٣٩) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (٤٠)
عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٤١)
فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (٣٦) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (٣٧) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (٣٨) كَلَّا فُرِّعَ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ وَتَعْجِيبِيٌّ مِنْ تَجَمُّعِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَهْزِئِينَ بِمَا يَسْمَعُونَ مِنْ وَعْدِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْجَنَّةِ وَوَعِيدِ الْمُشْرِكِينَ بِعَذَابِ جَهَنَّمَ.
فُرِّعَ ذَلِكَ عَلَى مَا أَفَادَهُ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ [المعارج: ٣٥].
وَالْمَعْنَى: أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا مَطْمَعَ لَهُمْ فِي دُخُول الْجنَّة فَمَاذَا يُحَاوِلُونَ بِتَجَمُّعِهِمْ حَوْلَكَ بِمَلَامِحِ اسْتِهْزَائِهِمْ.
وَهَذَا وَإِنْ كَانَ خِطَابًا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالْمَقْصُودُ بِهِ إِبْلَاغُهُ إِلَيْهِمْ فِيمَا يَتْلُو عَلَيْهِمْ
أَيْ لَا يَغُرَّنَّكُمْ غُرُورًا مُتَلَبِّسًا بِشَأْنِ اللَّهِ، أَي مصاحبا لشؤون اللَّهِ مُصَاحِبَةً مَجَازِيَّةً وَلَيْسَتْ هِيَ بَاءَ السَّبَبِيَّةِ كَمَا يُقَالُ: غَرَّهُ بِبَذْلِ الْمَالِ، أَوْ غرّه بالْقَوْل. وَإِذ كَانَتِ الْمُلَابَسَةُ لَا تُتَصَوَّرُ مَاهِيَّتُهَا مَعَ الذَّوَاتِ فَقَدْ تَعَيَّنَ فِي بَاءِ الْمُلَابَسَةِ إِذَا دَخَلَتْ عَلَى اسْمِ ذَاتٍ أَنْ يَكُونَ مَعَهَا تَقْدِيرُ شَأْن من شؤون الذَّاتِ يُفْهَمُ مِنَ الْمَقَامِ، فَالْمَعْنَى هُنَا: مَا غَرَّكَ بِالْإِشْرَاكِ بِرَبِّكَ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ الْآيَةَ فَإِنَّ مُنْكِرَ الْبَعْثِ يَوْمَئِذٍ لَا يَكُونُ إِلَّا مُشْرِكًا.
وَإِيثَارُ تَعْرِيفِ اللَّهِ بِوَصْفِ «رَبِّكَ» دُونَ ذِكْرِ اسْمِ الْجَلَالَةِ لِمَا فِي مَعْنَى الرَّبِّ مِنَ الْمُلْكِ وَالْإِنْشَاءِ وَالرِّفْقِ، فَفِيهِ تَذْكِيرٌ لِلْإِنْسَانِ بِمُوجِبَاتِ اسْتِحْقَاقِ الرَّبِّ طَاعَةَ مَرْبُوبِهِ فَهُوَ تَعْرِيضٌ بِالتَّوْبِيخِ.
وَكَذَلِكَ إِجْرَاءُ وَصْفِ الْكَرِيمِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ لِلتَّذْكِيرِ بِنِعْمَتِهِ عَلَى النَّاسِ وَلُطْفِهِ بِهِمْ فَإِنَّ الْكَرِيمَ حَقِيقٌ بِالشُّكْرِ وَالطَّاعَةِ.
وَالْوَصْفُ الثَّالِثُ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ الصِّلَةُ: فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ جَامِعٌ لِكَثِيرٍ مِمَّا يُؤْذِنُ بِهِ الْوَصْفَانِ الْأَوَّلَانِ فَإِنَّ الْخَلْقَ وَالتَّسْوِيَةَ وَالتَّعْدِيلَ وَتَحْسِينَ الصُّورَةِ مِنَ الرِّفْقِ بِالْمَخْلُوقِ، وَهِيَ نِعَمٌ عَلَيْهِ وَجَمِيعُ ذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِالتَّوْبِيخِ عَلَى كُفْرَانِ نِعْمَتِهِ بِعِبَادَةِ غَيْرِهِ.
وَذُكِرَ عَنْ صَالِحِ بْنِ مِسْمَارٍ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ فَقَالَ: «غَرَّهُ جَهْلُهُ»، وَلَمْ يَذْكُرْ سَنَدًا.
وَتَعْدَادُ الصِّلَاتِ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا قَدْ يُغْنِي عَنْ ذِكْرِ الْبَعْضِ فَإِنَّ التَّسْوِيَةَ حَالَةٌ مِنْ حَالَاتِ الْخَلْقِ، وَقَدْ يُغْنِي ذِكْرُهَا عَنْ ذِكْرِ الْخَلْقِ كَقَوْلِهِ: فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ [الْبَقَرَة:
٢٩] وَلَكِنْ قُصِدَ إِظْهَارُ مَرَاتِبِ النِّعْمَةِ. وَهَذَا مِنَ الْإِطْنَابِ الْمَقْصُودِ بِهِ التَّذْكِيرُ بِكُلِّ صِلَةٍ وَالتَّوْقِيفُ عَلَيْهَا بِخُصُوصِهَا، وَمِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْإِطْنَابِ مَقَامُ التَّوْبِيخِ.
وَالْخَلْقُ: الْإِيجَادُ عَلَى مِقْدَارٍ مَقْصُودٍ.
وَالتَّسْوِيَةُ: جَعْلُ الشَّيْءِ سَوِيًّا، أَيْ قَوِيمًا سَلِيمًا، وَمِنَ التَّسْوِيَةِ جَعْلُ قُوَاهُ وَمَنَافِعِهِ الذَّاتِيَّةِ مُتَعَادِلَةً غَيْرَ مُتَفَاوِتَةٍ فِي آثَارِ قِيَامِهَا بِوَظَائِفِهَا بِحَيْثُ إِذَا اخْتَلَّ بَعْضُهَا