أَبُو الْفَرَجِ الْأَصْفَهَانِيُّ عَنْ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النُّعْمَانِ فَنَادَمْتُهُ وَأَكَلْتُ مَعَهُ فَبَيْنَا أَنَا عَلَى ذَلِكَ مَعَهُ فِي قُبَّةٍ إِذَا رَجُلٌ يَرْتَجِزُ حَوْلَهَا:

أَصُمَّ أَمْ يَسْمَعُ رَبُّ الْقُبَّهْ يَا أَوْهَبُ النَّاسِ لِعِيسٍ صُلْبَهْ
ضرّابة بالمشغر الأذيّه ذَاتِ هِبَابٍ فِي يَدَيْهَا خُلْبَهْ
فِي لَاحِبٍ كَأَنَّهُ الْأَطِبَّهْ (١)
فَقَالَ النُّعْمَانُ: أَلَيْسَ بِأَبِي أُمَامَةَ؟ (كُنْيَةُ النَّابِغَةِ) قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَأَذِنُوا لَهُ فَدَخَلَ.
وَالِانْتِقَالُ مِنْ أُسْلُوبِ الْحَدِيثِ بِطَرِيقِ الْغَائِبِ الْمُبْتَدَأِ مِنْ قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ إِلَى
قَوْلِهِ: مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ، إِلَى أُسْلُوبِ طَرِيقِ الْخِطَابِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، فَنٌّ بَدِيعٌ مِنْ فُنُونِ نَظْمِ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى فِي عِلْمِ الْأَدَبِ الْعَرَبِيِّ وَالْبَلَاغَةِ الْتِفَاتًا. وَفِي ضَابِطِ أُسْلُوبِ الِالْتِفَاتِ رَأْيَانِ لِأَئِمَّةِ علم البلاغة:
أحد هما رَأْيُ مَنْ عَدَا السَّكَّاكِيِّ مِنْ أَئِمَّةِ الْبَلَاغَةِ وَهُوَ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بَعْدَ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْ ذَات بِأحد طَرِيق ثَلَاثَةٍ مِنْ تَكَلُّمٍ أَوْ غَيْبَةٍ أَوْ خِطَابٍ يَنْتَقِلُ فِي كَلَامِهِ ذَلِكَ فَيُعَبِّرُ عَنْ تِلْكَ الذَّاتِ بِطَرِيقٍ آخَرَ مِنْ تِلْكَ الثَّلَاثَةِ، وَخَالَفَهُمُ السَّكَّاكِيُّ فَجَعَلَ مُسَمَّى الِالْتِفَاتِ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْ ذَاتٍ بِطَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ التَّكَلُّمِ أَوِ الْخِطَابِ أَوِ الْغَيْبَةِ عادلا عَن أحد هما الَّذِي هُوَ الْحَقِيقُ بِالتَّعْبِيرِ فِي ذَلِكَ الْكَلَامِ إِلَى طَرِيقٍ آخَرَ مِنْهَا.
وَيَظْهَرُ أَثَرُ الْخِلَافِ بَيْنَ الْجُمْهُورِ وَالسَّكَّاكِيِّ فِي الْمُحَسِّنِ الَّذِي يُسَمَّى بِالتَّجْرِيدِ فِي عِلْمِ الْبَدِيعِ مِثْلَ قَوْلِ عَلْقَمَةَ بْنِ عَبْدَةَ فِي طَالِعِ قَصِيدَتِهِ:
طَحَا بِكَ قَلْبٌ فِي الْحِسَانِ طَرُوبُ
مُخَاطِبًا نَفْسَهُ عَلَى طَرِيقَةِ التَّجْرِيدِ، فَهَذَا لَيْسَ بِالْتِفَاتٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَهُوَ مَعْدُودٌ مِنَ الِالْتِفَاتِ عِنْدَ السَّكَّاكِيِّ، فَتَسْمِيَةُ الِالْتِفَاتِ الْتِفَاتًا عَلَى رَأْيِ الْجُمْهُورِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ عُدُولَ الْمُتَكَلِّمِ عَنِ الطَّرِيقِ الَّذِي سَلَكَهُ إِلَى طَرِيقٍ آخَرَ يُشْبِهُ حَالَةَ النَّاظِرِ إِلَى شَيْءٍ ثُمَّ يَلْتَفِتُ عَنْهُ، وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ الْتِفَاتًا عَلَى رَأْيِ السَّكَّاكِيِّ فَتَجْرِي عَلَى اعْتِبَارِ الْغَالِبِ مِنْ صُوَرِ الِالْتِفَاتِ دُونَ صُورَةِ التَّجْرِيدِ، وَلَعَلَّ السَّكَّاكِيَّ الْتَزَمَ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ لِأَنَّهَا تَقَرَّرَتْ مِنْ قَبْلِهِ فَتَابَعَ هُوَ الْجُمْهُورَ فِي هَذَا الِاسْمِ. وَمِمَّا يَجِبُُُ
_________
(١) الْهمزَة فِي قَوْله: أَصمّ للاستفهام الْمُسْتَعْمل فِي التَّنْبِيه. والمشغر: آلَة الشّغَار أَي الطَّرْد وَهُوَ يَعْنِي ذَنْب الْبَعِير. والأذبة- بِكَسْر الذَّال الْمُعْجَمَة- جمع ذُبَابَة. والخلبة- بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون اللَّام حَلقَة من لِيف. واللاحب: الطَّرِيق وَهُوَ مُتَعَلق بقوله هباب. والأطبة- جمع طباب- وَهُوَ الشرَاك يجمع بَين الأديمين.
فَأَمَّا فِي الْأَضْحَى فَيُزَادُ عَلَى مَا يُذْكَرُ فِي الْفِطْرِ التَّكْبِيرُ عَقِبَ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ مِنْ يَوْمِ الْأَضْحَى إِلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنَ الْيَوْمِ الرَّابِعِ مِنْهُ، وَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ [الْبَقَرَة: ٢٠٣].
[١٨٦]
[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ١٨٦]
وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٦)
الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمَلِ السَّابِقَةِ الْمُتَعَاطِفَةِ أَيْ لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا...
وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الْبَقَرَة: ١٨٥]، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى خِطَابِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْدَهُ لِأَنَّهُ فِي مَقَامِ تَبْلِيغٍ فَقَالَ: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي، أَيِ الْعِبَادَ الَّذِينَ كَانَ الْحَدِيثُ مَعَهُمْ، وَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَتَدْعُونِ فَأَسْتَجِيبُ لَكُمْ إِلَّا أَنَّهُ عَدَلَ عَنْهُ لِيَحْصُلَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ تَعْظِيمُ شَأْنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ يَسْأَلُهُ الْمُسْلِمُونَ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْإِشَارَةُ إِلَى جَوَابِ مَنْ عَسَى أَنْ يَكُونُوا سَأَلُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَيْفِيَّةِ الدُّعَاءِ هَلْ يَكُونُ جَهْرًا أَوْ سِرًّا، وَلِيَكُونَ
نَظْمُ الْآيَةِ مُؤْذِنًا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ أَمَرَهُمْ بِمَا يَجِبُ لَهُ عَلَيْهِمْ أَكْرَمَهُمْ فَقَالَ: وَإِذَا سَأَلُوا عَنْ حَقِّهِمْ عَلَيَّ فَإِنِّي قَرِيبٌ مِنْهُمْ أُجِيبُ دَعْوَتَهُمْ، وَجُعِلَ هَذَا الْخَيْرُ مُرَتَّبًا عَلَى تَقْدِيرِ سُؤَالِهِمْ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُمْ يَهْجِسُ هَذَا فِي نُفُوسِهِمْ بَعْدَ أَنْ يَسْمَعُوا الْأَمْرَ بِالْإِكْمَالِ وَالتَّكْبِيرِ وَالشُّكْرِ أَنْ يَقُولُوا: هَلْ لَنَا جَزَاءً عَلَى ذَلِكَ؟ وَأَنَّهُمْ قَدْ يَحْجِمُونَ عَنْ سُؤَالِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ أَدَبًا مَعَ اللَّهِ تَعَالَى فَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: وَإِذا سَأَلَكَ الصَّرِيحُ بِأَنَّ هَذَا سَيَقَعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.
وَاسْتِعْمَالُ مِثْلِ هَذَا الشَّرْطِ مَعَ مَادَّةِ السُّؤَالِ لِقَصْدِ الِاهْتِمَامِ بِمَا سَيُذْكَرُ بَعْدَهُ اسْتِعْمَالٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْبُلَغَاءِ قَالَ عَلْقَمَةُ:
فَإِنْ تَسْأَلُونِي بِالنِّسَاءِ فَإِنَّنِي خَبِيرٌ بِأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ
وَالْعُلَمَاءُ يَفْتَتِحُونَ الْمَسَائِلَ الْمُهِمَّةَ فِي كُتُبِهِمْ بِكَلِمَةِ (فَإِنْ قُلْتَ) وَهُوَ اصْطِلَاحُ «الْكَشَّافِ». وَيُؤَيِّدُ هَذَا تَجْرِيدُ الْجَوَابِ مِنْ كَلِمَةِ قُلْ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي مَوَاقِعِ السُّؤَالِ مِنَ الْقُرْآن نَحْو يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ [الْبَقَرَة: ١٨٩]، وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ [الْبَقَرَة: ٢٢٠]، مَعَ مَا فِي هَذَا النَّظْمِ الْعَجِيبِ مِنْ زِيَادَةِ إِخْرَاجِ الْكَلَامِ فِي صُورَةِ الْحُكْمِ الْكُلِّيِّ إِذْ جَاءَ بِحُكْمٍ عَامٍّ
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ: تَرَوْنَهُمْ- بِتَاء الْخِطَابِ- وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ:
عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنْ وأُخْرى كافِرَةٌ، أَوْ مِنْ فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَيْ مِثْلَيْ عَدَدِ الْمَرْئِيِّينَ. إِنْ كَانَ الرَّاءُونَ هُمُ الْمُشْرِكِينَ، أَوْ مِثْلَيْ عَدَدِ الرَّائِينَ، إِنْ كَانَ الرَّاءُونَ هُمُ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ كِلَيْهِمَا جَرَى ضَمِيرُهُ عَلَى الْغَيْبَةِ وَكِلْتَا الرُّؤْيَتَيْنِ قَدْ وَقَعَتْ يَوْمَ بَدْرٍ. وَكُلُّ فِئَةٍ عَلِمَتْ رُؤْيَتَهَا وَتُحُدِّيَتْ بِهَاتِهِ الْآيَةِ. وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ يَكُونُ الْعُدُولُ عَن التَّعْبِير بفئتكم وَفِئَتِهِمْ إِلَى قَوْلِهِ: فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ، لِقَصْدِ صُلُوحِيَّةِ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ لِكِلْتَا الْفِئَتَيْنِ، فَيُفِيدُ اللَّفْظُ آيَتَيْنِ عَلَى التَّوْزِيعِ، بِطَرِيقَةِ التَّوْجِيهِ.
وَ «رَأْيَ الْعَيْنِ» مَصْدَرٌ مُبَيِّنٌ لِنَوْعِ الرُّؤْيَةِ: إِذْ كَانَ «فِعْلُ رَأَى» يَحْتَمِلُ الْبَصَرَ وَالْقَلْبَ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى الْعَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يسْتَعْمل مصدرا لرَأى الْقَلْبِيَّةِ، كَيْفَ وَالرَّأْيُ اسْمٌ لِلْعَقْلِ، وَتُشَارِكُهَا فِيهَا رَأَى الْبَصْرِيَّةُ، بِخِلَافِ الرُّؤْيَةِ فَخَاصَّةٌ بِالْبَصَرِيَّةِ.
وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ تَذْيِيلٌ لِأَنَّ تِلْكَ الرُّؤْيَةَ كَيْفَمَا فُسِّرَتْ تَأْيِيدٌ لِلْمُسْلِمِينَ، قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ
لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا
[الْأَنْفَال: ٤٤].
[١٤]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ١٤]
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤)
زُيِّنَ.
اسْتِئْنَافٌ نَشَأَ عَنْ قَوْلِهِ: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ [آل عمرَان: ١٠] إِذْ كَانَتْ إِضَافَةُ أَمْوَالٍ وَأَوْلَادٍ إِلَى ضَمِيرِ «هُمْ» دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهَا مَعْلُومَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ. قُصِدَ مِنْهُ عِظَةُ الْمُسْلِمِينَ أَلَّا يَغْتَرُّوا بِحَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَتُعْجِبَهُمْ زِينَةُ الدُّنْيَا، وَتُلْهِيَهُمْ عَنِ التَّهَمُّمِ بِمَا بِهِ الْفَوْزُ فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّ التَّحْذِيرَ مِنَ الْغَايَاتِ يَسْتَدْعِي التَّحْذِيرَ مِنَ الْبِدَايَاتِ. وَقَدْ صُدِّرَ هَذَا الْوَعْظُ وَالتَّأْدِيبُ بِبَيَانِ مَدْخَلِ هَذِهِ الْحَالَةِ إِلَى النُّفُوسِ، حَتَّى يَكُونُوا عَلَى أَشَدِّ الْحَذَرِ مِنْهَا لِأَنَّ مَا قَرَارَتُهُ النَّفْسُ يَنْسَابُ إِلَيْهَا مَعَ الْأَنْفَاسِ.
جَزَى اللَّهُ الْمَصَائِبَ كُلَّ خَيْرٍ عَرَفْتُ بِهَا عَدُوِّي مِنْ صديقي
وَمَا صدق مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ هُوَ اشْتِبَاهُ الْمُؤْمِنِ وَالْمُنَافِقِ فِي ظَاهِرِ الْحَالِ.
وَحَرْفَا (عَلَى) الْأَوَّلُ وَالثَّانِي، فِي قَوْلِهِ: مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ، وَهُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ مَعْنَى مَجْرُورِهَا وَيَتَبَيَّنُ الْوَصْفُ الْمُبْهَمُ فِي الصِّلَةِ بِمَا وَرَدَ بَعْدَ (حَتَّى) من قَوْله:
عَلى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ، فَيُعْلَمُ أَنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ هُوَ عَدَمُ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْخَبِيثِ وَالطَّيِّبِ.
وَمَعْنَى مَا كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ نَفْيُ هَذَا عَنْ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا لِلَّهِ نَفْيًا مُؤَكَّدًا بِلَامِ الْجُحُودِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ [آل عمرَان:
٧٩] إِلَخْ...
فَقَوْلُهُ: عَلى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ أَيْ مِنَ اخْتِلَاطِ الْمُؤْمِنِ الْخَالِصِ وَالْمُنَافِقِ، فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: أَنْتُمْ عَلَيْهِ مُخَاطَبٌ بِهِ الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ بِاعْتِبَارِ مَنْ فِيهِمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ.
وَالْمُرَادُ بِالْمُؤْمِنِينَ الْمُؤْمِنُونَ الْخُلَّصِ مِنَ النِّفَاقِ، وَلِذَلِكَ عَبَّرَ عَنْهُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَغَيَّرَ الْأُسْلُوبَ لِأَجْلِ ذَلِكَ، فَلَمْ يَقُلْ: لِيَذَرَكُمْ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِضَمِيرِ الْخِطَابِ أَكْثَرُ مِنَ الْمُرَادِ بِلَفْظِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ غَايَةٌ لِلْجُحُودِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِ: مَا كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُفِيدُ أَنَّ هَذَا الْوَذْرَ لَا تَتَعَلَّقُ بِهِ إِرَادَةُ اللَّهِ بَعْدَ وَقْتِ الْإِخْبَارِ وَلَا وَاقِعًا مِنْهُ تَعَالَى إِلَى أَنْ يَحْصُلَ تَمْيِيزُ الْخَبِيثِ مِنَ الطَّيِّبِ، فَإِذَا حَصَلَ تَمْيِيزُ الْخَبِيثِ مِنَ الطَّيِّبِ صَارَ هَذَا الْوَذْرَ مُمْكِنًا، فَقَدْ تَتَعَلَّقُ الْإِرَادَةُ بِحُصُولِهِ وَبِعَدَمِ حُصُولِهِ، وَمَعْنَاهُ رُجُوع إِلَى حَال الِاخْتِيَارِ بَعْدَ الْإِعْلَامِ بِحَالَةِ الِاسْتِحَالَةِ.
وَلِحَتَّى اسْتِعْمَالٌ خَاصٌّ بَعْدَ نَفْيِ الْجُحُودِ، فَمَعْنَاهَا تَنْهِيَةُ الِاسْتِحَالَةِ: ذَلِكَ أَنَّ الْجُحُودَ أَخَصُّ مِنَ النَّفْيِ لِأَنَّ أَصْلَ وَضْعِ الصِّيغَةِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَ لَامِ الْجُحُودِ مُنَافٍ لِحَقِيقَةِ اسْمِ كَانَ الْمَنْفِيَّةِ، فَيَكُونُ حُصُولُهُ كَالْمُسْتَحِيلِ، فَإِذَا غَيَّاهُ الْمُتَكَلِّمُ بِغَايَةٍ كَانَتْ تِلْكَ الْغَايَةُ غَايَةً لِلِاسْتِحَالَةِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنَ الْجُحُودِ، وَلَيْسَتْ
وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ أَبِي عُبَيْدَةَ: «عَسَى مِنَ اللَّهِ إِيجَابٌ» وَقَوْلُ كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ: أَنَّ عَسَى
وَلَعَلَّ فِي الْقُرْآنِ لِلْيَقِينِ، وَمُرَادُهُمْ إِذَا أُسْنِدَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِخِلَافِ نَحْوِ قَوْلِهِ: وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً [الْكَهْف: ٢٤].
وَمِثْلُ هَذَا مَا قَالُوهُ فِي وُقُوعِ حَرْفِ (إِنْ) الشَّرْطِيَّةِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، مَعَ أَنَّ أَصْلَهَا أَنْ تَكُونَ لِلشَّرْطِ الْمَشْكُوكِ فِي حُصُولِهِ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ حُكْمَ هَذِهِ الْآيَةِ انْقَضَى يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ لِأَنَّ الْهِجْرَةَ كَانَتْ وَاجِبَةً لِمُفَارَقَةِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَأَعْدَاءِ الدِّينِ، وَلِلتَّمَكُّنِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ دُونَ حَائِلٍ يَحُولُ عَنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا صَارَتْ مَكَّةُ دَارَ إِسْلَامٍ سَاوَتْ غَيْرَهَا، وَيُؤَيِّدُهُ
حَدِيثُ: «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ»
فَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَبْقَوْنَ فِي أَوْطَانِهِمْ إِلَّا الْمُهَاجِرِينَ يَحْرُمُ عَلَيْهِمُ الرُّجُوعُ إِلَى مَكَّةَ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «اللَّهُمَّ أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ وَلَا تَرُدُّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ»
قَالَهُ بَعْدَ أَنْ فُتِحَتْ مَكَّةُ. غَيْرَ أَنَّ الْقِيَاسَ عَلَى حُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ يَفْتَحُ لِلْمُجْتَهِدِينَ نَظَرًا فِي أَحْكَامِ وُجُوبِ الْخُرُوجِ مِنَ الْبَلَدِ الَّذِي يُفْتَنُ فِيهِ الْمُؤْمِنُ فِي دِينِهِ، وَهَذِهِ أَحْكَام يجمعها ستّة أَحْوَالٍ:
الْحَالَةُ الْأُولَى: أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُ بِبَلَدٍ يُفْتَنُ فِيهِ فِي إِيمَانِهِ فَيُرْغَمُ عَلَى الْكُفْرِ وَهُوَ يَسْتَطِيعُ الْخُرُوجَ، فَهَذَا حُكْمُهُ حُكْمُ الَّذِينَ نَزَلَتْ فِيهِمُ الْآيَةُ، وَقَدْ هَاجَرَ مُسْلِمُونَ مِنَ الْأَنْدَلُسِ حِينَ أَكْرَهَهُمُ النَّصَارَى عَلَى التَّنَصُّرِ، فَخَرَجُوا عَلَى وُجُوهِهِمْ فِي كُلِّ وَادٍ تَارِكِينَ أَمْوَالَهُمْ وَدِيَارَهُمْ نَاجِينَ بِأَنْفُسِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ، وَهَلَكَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ فِي الطَّرِيقِ وَذَلِكَ فِي سَنَةِ ٩٠٢ وَمَا بَعْدَهَا إِلَى أَنْ كَانَ الْجَلَاءُ الْأَخِيرُ سَنَةَ ١٠١٦.
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ بِبَلَدِ الْكُفْرِ غَيْرَ مَفْتُونٍ فِي إِيمَانِهِ وَلَكِنْ يَكُونُ عُرْضَةً لِلْإِصَابَةِ فِي نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ بِأَسْرٍ أَوْ قَتْلٍ أَوْ مُصَادَرَةِ مَالٍ، فَهَذَا قَدْ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلضُّرِّ وَهُوَ حَرَامٌ بِلَا نِزَاعٍ، وَهَذَا مُسَمَّى الْإِقَامَةِ بِبَلَدِ الْحَرْبِ الْمُفَسَّرَةِ بِأَرْضِ الْعَدُوِّ.
الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ بِبَلَدٍ غَلَبَ عَلَيْهِ غَيْرُ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا أَنَّهُمْ لَمْ يَفْتِنُوا النَّاسَ فِي إِيمَانِهِمْ وَلَا فِي عِبَادَاتِهِمْ وَلَا فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ، وَلَكِنَّهُ بِإِقَامَتِهِ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ إِذَا عَرَضَ لَهُ حَادِثٌ مَعَ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْبَلَدِ الَّذِينَ هُمْ
النُّفُوسَ جُبِلَتْ عَلَى حُبِّ الْبَقَاءِ وَعَلَى حُبِّ إِرْضَاءِ الْقُوَّةِ الْغَضَبِيَّةِ، فَإِذَا عَلِمَ عِنْدَ الْغَضَبِ أَنَّهُ إِذَا قَتَلَ فَجَزَاؤُهُ الْقَتْلُ ارْتَدَعَ، وَإِذَا طَمِعَ فِي أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ دُونَ الْقَتْلِ أَقْدَمَ عَلَى إِرْضَاءِ قُوَّتِهِ الْغَضَبِيَّةِ، ثُمَّ عَلَّلَ نَفْسَهُ بِأَنَّ مَا دُونُ الْقِصَاصِ يُمْكِنُ الصَّبْرُ عَلَيْهِ وَالتَّفَادِي مِنْهُ. وَقَدْ كَثُرَ ذَلِكَ عِنْدَ الْعَرَبِ وَشَاعَ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، قَالَ قَائِلُهُمْ، وَهُوَ قَيْسُ بْنُ زُهَيْرٍ الْعَبْسِيُّ:
شَفَيْتُ النَّفْسَ مِنْ حَمْلِ بْنِ بَدْرٍ وَسَيْفِي مِنْ حُذَيْفَةَ قَدْ شَفَانِي
وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يَا أُولِي الْأَلْبابِ [الْبَقَرَة: ١٧٩].
وَمَعْنَى التَّشْبِيهِ فِي قَوْلِهِ: فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً حَثُّ جَمِيعِ الْأُمَّةِ عَلَى تَعَقُّبِ قَاتِلِ النَّفْسِ وَأَخْذِهِ أَيْنَمَا ثُقِفَ وَالِامْتِنَاعِ مِنْ إِيوَائِهِ أَوِ السَّتْرِ عَلَيْهِ، كُلٌّ مُخَاطَبٌ عَلَى حَسَبِ مَقْدِرَتِهِ وَبِقَدْرِ بَسْطَةِ يَدِهِ فِي الْأَرْضِ، مِنْ وُلَاةِ الْأُمُورِ إِلَى عَامَّةِ النَّاسِ. فَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ التَّشْبِيهِ تَهْوِيلُ الْقَتْلِ وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ أَنَّهُ قَدْ قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَابِلٌ لِلْعَفْوِ مِنْ خُصُوصِ أَوْلِيَاءِ الدَّمِ دُونَ بَقِيَّةِ النَّاسِ. عَلَى أَنَّ فِيهِ مَعْنًى نَفْسَانِيًّا جَلِيلًا، وَهُوَ أَنَّ الدَّاعِيَ الَّذِي يَقْدُمُ بِالْقَاتِلِ عَلَى الْقَتْلِ يَرْجِعُ إِلَى تَرْجِيحِ إِرْضَاءِ الدَّاعِي النَّفْسَانِيِّ النَّاشِئِ عَنِ الْغَضَبِ وَحُبِّ الِانْتِقَامِ عَلَى دَوَاعِي احْتِرَامِ الْحَقِّ وَزَجْرِ النَّفْسِ وَالنَّظَرِ فِي عَوَاقِبِ الْفِعْلِ مِنْ نُظُمِ الْعَالَمِ، فَالَّذِي كَانَ مِنْ حِيلَتِهِ تَرْجِيحُ ذَلِكَ الدَّاعِي الطَّفِيفِ عَلَى جُمْلَةِ هَذِهِ الْمَعَانِي الشَّرِيفَةِ فَذَلِكَ ذُو نَفْسٍ يُوشِكُ أَنْ تَدْعُوَهُ دَوْمًا إِلَى هَضْمِ الْحُقُوقِ، فَكُلَّمَا سَنَحَتْ لَهُ الْفُرْصَةُ
قَتَلَ، وَلَوْ دَعَتْهُ أَنْ يَقْتُلَ النَّاسَ جَمِيعًا لَفَعَلَ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْمَقْصِدَ مِنَ التَّشْبِيهِ تَوْجِيهَ حُكْمِ الْقِصَاصِ وَحَقِّيَّتِهِ، وَأَنَّهُ مَنْظُورٌ فِيهِ لِحَقِّ الْمَقْتُولِ بِحَيْثُ لَوْ تَمَكَّنَ لَمَا رَضِيَ إِلَّا بِجَزَاءِ قَاتِلِهِ بِمِثْلِ جُرْمِهِ فَلَا يَتَعَجَّبُ أَحَدٌ مِنْ حُكْمِ الْقِصَاصِ قَائِلًا: كَيْفَ نُصْلِحُ الْعَالَمَ بِمِثْلِ مَا فَسَدَ بِهِ، وَكَيْفَ نُدَاوِي الدَّاءَ بِدَاءٍ آخَرَ، فَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ قَاتِلَ النَّفْسِ عِنْدَ وَلِيِّ الْمَقْتُولِ كَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا. وَقَدْ ذُكِرَتْ وُجُوهٌ فِي بَيَانِ مَعْنَى التَّشْبِيهِ لَا يَقْبَلُهَا النَّظَرُ.
وَمَعْنَى وَمَنْ أَحْياها مَنِ اسْتَنْقَذَهَا مِنَ الْمَوْتِ، لِظُهُورِ أَنَّ الْإِحْيَاءَ بَعْدَ الْمَوْتِ
قَلْبِيًّا فَإِنَّهُ يَجِيءُ كَمَا يَجِيءُ فِعْلُ الرُّؤْيَةِ فَيَكُونُ مُعَلَّقًا عَنِ الْعَمَلِ بِالِاسْتِفْهَامِ، أَيْ تَأَمَّلْ جَوَابَ قَوْلِ الْقَائِلِ: «كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ» تَجِدُهُ جَوَابًا وَاضِحًا بَيِّنًا.
وَلِأَجْلِ هَذَا التَّحَقُّقِ مِنْ خَبَرِ حَشْرِهِمْ عَبَّرَ عَنْ كَذِبِهِمُ الَّذِي يَحْصُلُ يَوْمَ الْحَشْرِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي فِي قَوْلِهِ: كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ.
وَفِعْلُ (كَذَبَ) يُعَدَّى بِحَرْفِ (عَلَى) إِلَى مَنْ يُخْبِرُ عَنْهُ الْكَاذِبُ كَذِبًا مِثْلَ تَعْدِيَتِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ،
وَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُعْتَمِدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ
، وَأَمَّا تَعْدِيَتُهُ إِلَى مَنْ يُخْبِرُهُ الْكَاذِبُ خَبَرًا كَذِبًا فَبِنَفْسِهِ، يُقَالُ: كَذَبَكَ، إِذَا أَخْبَرَكَ بِكَذِبٍ.
وَضَلَّ بِمَعْنَى غَابَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ [السَّجْدَة: ١٠]، أَيْ غُيِّبْنَا فِيهَا بِالدَّفْنِ. وَمَا مَوْصُولَةٌ ويَفْتَرُونَ صِلَتُهَا، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، أَيْ يَخْتَلِقُونَهُ وَمَا صَدَّقَ ذَلِكَ هُوَ شُرَكَاؤُهُمْ. وَالْمُرَادُ: غَيْبَةُ شَفَاعَتِهِمْ وَنَصْرِهِمْ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَأْمُولُ مِنْهُمْ فَلَمَّا لَمْ يَظْهَرْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ نَزَّلَ حُضُورَهُمْ مَنْزِلَةَ الْغَيْبَةِ، كَمَا يُقَالُ: أُخِذْتَ وَغَابَ نَصِيرُكَ، وَهُوَ حَاضر.
[٢٥]
[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : آيَة ٢٥]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٥)
عَطَفَ جُمْلَةً ابْتِدَائِيَّةً عَلَى الْجُمَلِ الِابْتِدَائِيَّةِ الَّتِي قَبْلَهَا مِنْ قَوْلِهِ: الَّذِينَ خَسِرُوا
أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ
[الْأَنْعَام: ٢٠].
وَالضَّمِير الْمَجْرُور بِمن التَّبْعِيضِيَّةِ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ الْحَدِيثُ مَعَهُمْ وَعَنْهُمُ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الْأَنْعَام: ١]، أَيْ وَمِنَ الْمُشْرِكِينَ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ. وَقَدِ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى أَحْوَالِ خَاصَّةِ عقلائهم الَّذين يربأون بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ أَنْ يُقَابِلُوا دَعْوَةَ

[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : الْآيَات ١٥٥ إِلَى ١٥٧]

وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (١٥٦) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (١٥٧)
جُمْلَةُ: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ [الْأَنْعَام: ١٥٤]. وَالْمعْنَى: آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَأَنْزَلْنَا هَذَا الْكِتَابَ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ [الْأَنْعَام: ١٥٤] إِلَخْ...
وَافْتِتَاحُ الْجُمْلَةِ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ، وَبِنَاءُ الْفِعْلِ عَلَيْهِ، وَجَعْلُ الْكِتَابِ الَّذِي حَقُّهُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولَ: أَنْزَلْناهُ مُبْتَدَأً، كُلُّ ذَلِكَ لِلِاهْتِمَامِ بِالْكِتَابِ وَالتَّنْوِيهِ بِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٩٢].
وَتَفْرِيعُ الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِهِ عَلَى كَوْنِهِ مُنَزَّلًا مِنَ اللَّهِ، وَكَوْنِهِ مُبَارَكًا، ظَاهِرٌ: لِأَنَّ مَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَتَرَدَّدُ أَحَدٌ فِي اتِّبَاعِهِ.
وَالِاتِّبَاعُ أُطْلِقَ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا فِيهِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ [الْأَنْعَام: ٥٠]، وَقَوْلِهِ: اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ

[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : آيَة ٥٧]

وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧)
جُمْلَةُ: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ [الْأَعْرَاف: ٥٤] وَقَدْ حَصَلَتِ الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ آخِرِ الْجُمَلِ الْمُعْتَرِضَةِ وَبَيْنَ الْجُمْلَةِ الْمُعْتَرَضِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا عُطِفَتْ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ قُرْبَ رَحْمَتِهِ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ذَكَرَ بَعْضًا مِنْ رَحْمَتِهِ الْعَامَّةِ وَهُوَ الْمَطَرُ. فَذِكْرُ إِرْسَالِ الرِّيَاحِ هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَهَمُّ لِأَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى عِظَمِ الْقُدْرَةِ وَالتَّدْبِيرِ، وَلِذَلِكَ جَعَلْنَاهُ مَعْطُوفًا عَلَى جُمْلَةِ: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ [الْأَعْرَاف: ٥٤] أَوْ عَلَى جُمْلَةِ: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الْأَعْرَاف: ٥٤]. وَذِكْرُ بَعْضِ الْأَحْوَالِ الْمُقَارَنَةِ لِإِرْسَالِ الرِّيَاحِ يَحْصُلُ مِنْهُ إِدْمَاجُ الِامْتِنَانِ فِي الِاسْتِدْلَالِ وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي أَنَّ الرِّيَاحَ لَا تُرْسَلُ إِلَّا لِلتَّبْشِيرِ بِالْمَطَرِ، وَلَا أَنَّ الْمَطَرَ لَا يَنْزِلُ إِلَّا عَقِبَ إِرْسَالِ الرِّيَاحِ، إِذْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ تَعْلِيمَ حَوَادِثِ الْجَوِّ، وَإِذْ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَا يَقْتَضِي انْحِصَارَ الْمُلَازَمَةِ وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِبِشَارَةِ الْمُؤْمِنِينَ بِإِغْدَاقِ الْغَيْثِ عَلَيْهِمْ وَنِذَارَةِ الْمُشْرِكِينَ بِالْقَحْطِ وَالْجُوعِ كَقَوْلِهِ وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ مَاء غَدَقاً [الْجِنّ: ١٦]- وَقَوْلِهِ- فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ [الدُّخان: ١٠].
وَأُطْلِقَ الْإِرْسَالُ عَلَى الِانْتِقَالِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ، فَإِرْسَالُ الرِّيَاحِ هُبُوبُهَا مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي تَهُبُّ فِيهِ وَوُصُولُهَا، وَحَسَّنَ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةَ أَنَّ الرِّيحَ مُسَخَّرَةٌ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي يُرِيدُ اللَّهُ هُبُوبَهَا فِيهِ فَشُبِّهَتْ بِالْعَاقِلِ الْمُرْسَلِ إِلَى جِهَةٍ مَا، وَمِنْ بَدَائِعِ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ أَنَّ الرِّيحَ لَا تُفَارِقُ كُرَةَ الْهَوَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٤].
فَتَصْرِيفُ الرِّيَاحِ مِنْ جِهَةٍ إِلَى جِهَةٍ أَشْبَهُ بِالْإِرْسَالِ مِنْهُ بِالْإِيجَادِ.
فَمَعْنَى إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ إِنْ تُطَارِدْهُ وَتُهَاجِمْهُ. مُشْتَقٌّ مِنَ الْحَمْلِ الَّذِي هُوَ الْهُجُومُ عَلَى أَحَدٍ لِقِتَالِهِ، يُقَالُ حَمَلَ فُلَانٌ عَلَى الْقَوْمِ حَمْلَةً شَعْوَاءَ أَوْ حَمْلَةً مُنْكَرَةً. وَقَدْ أَغْفَلَ الْمُفَسِّرُونَ تَوْضِيحَهُ، وَأَغْفَلَ الرَّاغِبُ فِي «مُفْرَدَاتِ الْقُرْآنِ» هَذَا الْمَعْنَى لِهَذَا الْفِعْلِ.
فَهَذَا تَشْبِيهُ تَمْثِيلٍ مُرَكَّبٌ مُنْتَزَعَةٌ فِيهِ الْحَالَةُ الْمُشَبَّهَةُ وَالْحَالَةُ الْمُشَبَّهُ بِهَا مِنْ مُتَعَدِّدٍ،
وَلَمَّا ذَكَرَ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ فِي شَقِّ الْحَالَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا، تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ لَهَا مُقَابِلٌ فِي الْحَالَةِ الْمُشَبَّهَةِ، وَتَتَقَابَلُ أَجْزَاءُ هَذَا التَّمْثِيلِ بِأَنْ يُشَبَّهَ الضَّالُّ بِالْكَلْبِ، وَيُشَبَّهَ شَقَاؤُهُ وَاضْطِرَابُ أَمْرِهِ فِي مُدَّةِ الْبَحْثِ عَنِ الدِّينِ بِلَهَثِ الْكَلْبِ فِي حَالَةِ تَرْكِهِ فِي دَعَةٍ، تَشْبِيهَ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ، وَيُشَبَّهَ شَقَاؤُهُ فِي إِعْرَاضِهِ عَنِ الدِّينِ الْحَقِّ عِنْدَ مَجِيئِهِ بِلَهَثِ الْكَلْبِ فِي حَالَةِ طَرْدِهِ وَضَرْبِهِ تَشْبِيهَ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ. وَقَدْ أَغْفَلَ هَذَا الَّذِينَ فَسَّرُوا هَذِهِ الْآيَةَ فَقَرَّرُوا التَّمْثِيلَ بِتَشْبِيهِ حَالَةٍ بَسِيطَةٍ بِحَالَةٍ بَسِيطَةٍ فِي مُجَرَّدِ التَّشْوِيهِ أَو الخسة. فيؤول إِلَى أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ تَشْبِيهِهِ بِالْكَلْبِ إِظْهَارُ خِسَّةِ الْمُشَبَّهِ، كَمَا دَرَجَ عَلَيْهِ فِي «الْكَشَّافِ»، وَلَوْ كَانَ هَذَا هُوَ الْمُرَادَ لَمَا كَانَ لِذِكْرِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ كَبِيرُ جَدْوَى، بَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى أَنَّهُ لِتَشْوِيهِ الْحَالَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا، لِتَكْتَسِبَ الْحَالَةُ الْمُشَبَّهَةُ تَشْوِيهًا، وَذَلِكَ تَقْصِيرٌ فِي حَقِّ التَّمْثِيلِ.
وَالْكَلْبُ حَيَوَانٌ مِنْ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ ذُو أَنْيَابٍ وَأَظْفَارٍ كَثِيرُ النَّبْحِ فِي اللَّيْلِ قَلِيلُ النَّوْمِ فِيهِ كَثِيرُ النَّوْمِ فِي النَّهَارِ، يَأْلَفُ مَنْ يُعَاشِرُهُ ويحرس مَكَانَهُ مِنَ الطَّارِقِينَ الَّذِينَ لَا يَأْلَفُهُمْ، وَيَحْرُسُ الْأَنْعَامَ الَّتِي يُعَاشِرُهَا، وَيَعْدُو عَلَى الذِّئَابِ، وَيَقْبَلُ التَّعْلِيمَ، لِأَنَّهُ ذَكِيٌّ.
وَيَلْهَثُ إِذَا أَتْعَبَ أَوِ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحَرُّ، وَيَلْهَثُ بِدُونِ ذَلِكَ، لِأَنَّ فِي خِلْقَتِهِ ضِيقًا فِي مَجَارِي النَّفَسِ يَرْتَاحُ لَهُ بِاللَّهَثِ.
وَجُمْلَةُ: إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْكَلْبِ وَالْخِطَابُ فِي تَحْمِلْ وَتَتْرُكْ لِمُخَاطَبٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَالْمَعْنَى إِنْ يَحْمِلْ عَلَيْهِ حَامِلٌ، أَوْ يَتْرُكْهُ تَارِكٌ.
وَاللَّهَثُ: سُرْعَةُ التَّنَفُّسِ مَعَ امْتِدَادِ اللِّسَانِ لِضِيقِ النَّفَسِ، وَفِعْلُهُ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَبِكَسْرِهَا، وَمُضَارِعُهُ بِفَتْحِهَا لَا غَيْرَ، وَالْمَصْدَرُ اللَّهَثُ بِفَتْحِ اللَّامِ وَالْهَاءِ وَيُقَالُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَيْهِ فَشَكَاهُ مُعَاوِيَةُ إِلَى عُثْمَانَ، فَاسْتَجْلَبَهُ مِنَ الشَّامِ وَخَشِيَ أَبُو ذَرٍّ الْفِتْنَةَ فِي الْمَدِينَةِ فَاعْتَزَلَهَا وَسَكَنَ الرَّبْذَةَ وَثَبَتَ عَلَى رَأْيِهِ وَقَوْلِهِ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَبَشِّرْهُمْ دَاخِلَةٌ عَلَى خَبَرِ الْمَوْصُولِ، لِتَنْزِيلِ الْمَوْصُولِ مَنْزِلَةَ الشَّرْطِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى تَعْلِيلِ الصِّلَةِ فِي الْخَبَرِ، فَضَمِيرُ الْجَمْعِ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ وَيَجُوزُ كَوْنُ الضَّمِيرِ عَائِدًا إِلَى الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ. وَالْفَاءُ لِلْفَصِيحَةِ بِأَنْ يَكُونَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ آكِلِي الْأَمْوَالِ الصَّادِّينَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَذَكَرَ الْكَانِزِينَ، أَمَرَ رَسُولَهُ بِأَنْ يُنْذِرَ جَمِيعَهُمْ بِالْعَذَابِ، فَدَلَّتِ الْفَاءُ عَلَى شَرْطٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: إِذَا عَلِمْتَ أَحْوَالَهُمْ هَذِهِ فَبِشِّرْهُمْ، وَالتَّبْشِيرُ مُسْتَعَارٌ لِلْوَعِيدِ عَلَى طَريقَة التهكّم.
[٣٥]
[سُورَة التَّوْبَة (٩) : آيَة ٣٥]
يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (٣٥)
انْتَصَبَ يَوْمَ يُحْمى على الظَّرْفِيَّة لعذاب [التَّوْبَة: ٣٤]، لِمَا فِي لَفْظِ عَذَابٍ مِنْ مَعْنَى يُعَذَّبُونَ. وَضَمِيرُ عَلَيْها عَائِدٌ إِلَى الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ [التَّوْبَة: ٣٤] بِتَأْوِيلِهِمَا بِالدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ، أَوْ عَائِدٌ إِلَى أَمْوالَ النَّاسِ [التَّوْبَة: ٣٤] والذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ [التَّوْبَة: ٣٤]، إِنْ كَانَ الضَّمِيرُ فِي قَوْله: فَبَشِّرْهُمْ [التَّوْبَة: ٣٤] عَائِدًا إِلَى الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ والَّذِينَ يَكْنِزُونَ [التَّوْبَة: ٣٤].
وَالْحَمْيُ شِدَّةُ الْحَرَارَةِ. يُقَالُ: حَمِيَ الشَّيْءُ إِذَا اشْتَدَّ حَرُّهُ.
وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِعَلَى عَائِدٌ إِلَى الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ [التَّوْبَة: ٣٤] بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا دَنَانِيرُ أَوْ دَرَاهِمُ، وَهِيَ مُتَعَدِّدَةٌ وَبُنِيَ الْفِعْلُ لِلْمَجْهُولِ لِعَدَمِ تَعَلُّقِ الْغَرَضِ بِالْفَاعِلِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: يَوْمَ يَحْمِي الْحَامُونَ عَلَيْهَا، وَأُسْنِدَ الْفِعْلُ الْمَبْنِيُّ لِلْمَجْهُولِ إِلَى الْمَجْرُورِ لِعَدَمِ تَعَلُّقِ الْغَرَضِ بِذِكْرِ الْمَفْعُولِ الْمَحْمِيِّ لِظُهُورِهِ: إِذْ هُوَ النَّارُ الَّتِي تُحْمَى، وَلِذَلِكَ لَمْ يُقْرَنْ بِعَلَامَةِ التَّأْنِيثِ، عُدِّيَ بِعَلَى الدَّالَّةِ عَلَى الِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ لِإِفَادَةِ أَنَّ الْحَمْيَ تَمَكَّنَ مِنَ الْأَمْوَالِ بِحَيْثُ تَكْتَسِبُ حَرَارَةَ الْمَحْمِيِّ كُلَّهَا، ثُمَّ أُكِدَّ مَعْنَى التَّمَكُّنِ بِمَعْنَى الظَّرْفِيَّةِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: فِي نارِ جَهَنَّمَ فَصَارَتِ الْأَمْوَالُ مَحْمِيَّةً عَلَيْهَا النَّارُ وَمَوْضُوعَةً فِي النَّارِ.
فَسَاوَوُا الصُّمَّ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ فِي ذَلِكَ، وَهَذِهِ اسْتِعَارَةٌ مُصَرَّحَةٌ إِذْ جَعَلَهُمْ نَفْسَ الصُّمِّ.
وَبُنِيَ عَلَى ذَلِكَ اسْتِفْهَامٌ عَنِ التَّمَكُّنِ مِنْ إِسْمَاعِ هَؤُلَاءِ الصُّمِّ وَهَدْيِ هَؤُلَاءِ الْعُمْيِ مَعَ أَنَّهُمْ قَدْ ضَمُّوا إِلَى صَمَمِهِمْ عَدَمَ الْعَقْلِ وَضَمُّوا إِلَى عَمَاهُمْ عَدَمَ التَّبَصُّرِ. وَهَذَانِ الِاسْتِفْهَامَانِ مُسْتَعْمَلَانِ فِي التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِهِمْ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَى دَعْوَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَعْقِلُونَهَا، وَإِذْ يَنْظُرُونَ أَعْمَالَهُ وَسِيرَتَهُ وَلَا يَهْتَدُونَ بِهَا، فَلَيْسَ فِي هَذَيْنِ الِاسْتِفْهَامَيْنِ مَعْنَى الْإِنْكَارِ عَلَى مُحَاوَلَةِ النَّبِيءِ إِبْلَاغَهُمْ وَهَدْيَهُمْ لِأَنَّ الْمَقَامَ يَنْبُو عَنْ ذَلِكَ.
وَهَذِهِ الْمَعَانِي الْمَجَازِيَّةُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَقَامِ وَالْقَرَائِنِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنِ الِاسْتِفْهَامَانِ إِنْكَارًا، وَلِذَلِكَ لَا يُتَوَهَّمُ إِشْكَالٌ بِأَنَّ مَوْقِعَ (لَوِ) الْوَصْلِيَّةُ هُنَا بَعْدَ مَا هُوَ بِمَعْنَى النَّفْيِ بِحَيْثُ تَنْتَقِضُ الْمُبَالَغَةُ الَّتِي اجْتُلِبَتْ لَهَا (لَوِ) الْوَصْلِيَّةُ، بَلِ الْمَعْنَى بِالْعَكْسِ.
وَفِي هَذَيْنِ الِاسْتِفْهَامَيْنِ تَرْشِيحٌ لِاسْتِعَارَةِ الصُّمِّ وَالْعُمْيِ لِهَؤُلَاءِ الْكَافِرِينَ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ نُفُوسَهُمْ مَفْطُورَةً عَلَى الْمُكَابَرَةِ وَالْعِنَادِ وَبَغْضَاءِ مَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَحَسَدِهِ كَانَتْ هَاتِهِ الْخِصَالُ حَوَائِلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ التَّأَثُّرِ بِالْمَسْمُوعَاتِ وَالْمُبْصَرَاتِ فَجِيءَ بِصِيغَةِ الِاسْتِفْهَامِ التَّعْجِيبِيِّ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى تَقَوِّي الْخَبَرَ بِتَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ بِقَوْلِهِ: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ وَقَوْلُهُ: أَفَأَنْتَ تَهْدِي دُونَ أَنْ يُقَالَ: أتسمع الصم وتَهْدِي الْعُمْيَ، فَكَانَ هَذَا التَّعْجِيبُ مؤكدا مقوى.
و (لَو) فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ كانُوا لَا يَعْقِلُونَ وَقَوْلِهِ: وَلَوْ كانُوا لَا يُبْصِرُونَ، وَصْلِيَّةٌ دَالَّةٌ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الْأَحْوَالِ، وَهِيَ الَّتِي يَكُونُ الَّذِي بَعْدَهَا أَقْصَى مَا يُعَلَّقُ بِهِ الْغَرَضُ.
وَلِذَلِكَ يُقَدِّرُونَ لِتَفْسِيرِ مَعْنَاهَا جُمْلَةً قَبْلَ جُمْلَةِ (لَوْ) مَضْمُونُهَا ضِدَّ الْجُمْلَةِ الَّتِي دَخَلَتْ عَلَيْهَا (لَوْ)، فَيُقَالُ هُنَا: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ لَوْ كَانُوا يَعْقِلُونَ بَلْ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ.
وَلَمَّا كَانَ الْغَرَضُ هُنَا التَّعْجِيبَ مِنْ حَالِهِمْ إِذْ لَمْ يَصِلُوا إِلَى الْهُدَى كَانَ عَدَمُ فَهْمِهِمْ وَعَدَمُ تَبَصُّرِهِمْ كِنَايَةً عَنْ كَوْنِهِمْ لَا يَعْقِلُونَ وَكَوْنِهِمْ لَا بَصَائِرَ لَهُمْ. فَمَعْنَى: لَا يَعْقِلُونَ
لِلْمُوَافِقِ، فَبَعْدَ أَنْ نَهَاهُمْ عَنِ الطُّغْيَانِ نَهَاهُمْ عَنِ التَّقَارُبِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لِئَلَّا يُضِلُّوهُمْ وَيُزِلُّوهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ.
والَّذِينَ ظَلَمُوا هُمُ الْمُشْرِكُونَ. وَهَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ فِي سَدِّ ذَرَائِعِ الْفَسَادِ الْمُحَقَّقَةِ أَوِ الْمَظْنُونَةِ.
وَالْمَسُّ: مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِصَابَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ فِي آخِرِ الْأَعْرَافِ [٢٠١]، وَالْمُرَادُ: نَارُ الْعَذَابِ فِي جَهَنَّمَ.
وَجُمْلَةُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ حَالٌ، أَيْ لَا تَجِدُونَ مَنْ يَسْعَى لِمَا يَنْفَعُكُمْ.
وثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ، أَيْ وَلَا تَجِدُونَ مَنْ يَنْصُرُكُمْ، أَيْ مِنْ يُخَفِّفُ عَنْكُمْ مَسَّ عَذَابِ النَّارِ أَوْ يُخْرِجُكُمْ مِنْهَا.
ومِنْ دُونِ اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِأَوْلِيَاءَ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى الْحُمَاةِ وَالْحَائِلِينَ.
وَقَدْ جَمَعَ قَوْلُهُ: وَلا تَطْغَوْا [هود: ١١٢] وَقَوْلُهُ: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أَصْلَيِ الدِّينِ، وَهُمَا: الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَتَقَدَّمَ آنِفًا قَوْلُ الْحَسَنِ: «جَعَلَ اللَّهُ الدَّين بَين لائين وَلا تَطْغَوْا، وَلَا تركنوا».
[١١٤]
[سُورَة هود (١١) : آيَة ١١٤]
وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (١١٤)
انْتَقَلَ مِنْ خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى خطاب النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذَا الْخِطَابُ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْأُمَّةِ بِقَرِينَةِ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ مِنَ الْوَاجِبَاتِ عَلَى جَمِيعِ
وَاشْتَمَلَتْ مِنَ الْأَغْرَاضِ على أَنَّهَا ابتدئت بِالتَّنْبِيهِ إِلَى إِعْجَازِ الْقُرْآنِ، وَبِالتَّنْوِيهِ بِشَأْنِهِ، وَأَنَّهُ أُنْزِلَ لِإِخْرَاجِ النَّاسِ مِنَ الضَّلَالَةِ. وَالِامْتِنَانِ بِأَنْ جَعَلَهُ بِلِسَانِ الْعَرَبِ. وَتَمْجِيدِ اللَّهِ
تَعَالَى الَّذِي أَنْزَلَهُ وَوَعِيدِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِهِ وبمن أُنْزِلَ عَلَيْهِ.
وَإِيقَاظِ الْمُعَانِدِينَ بِأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ بِدَعًا مِنَ الرُّسُلِ. وَأَنَّ كَوْنَهُ بَشَرًا أَمْرٌ غَيْرُ مُنَافٍ لِرِسَالَتِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كَغَيْرِهِ مِنَ الرُّسُلِ.
وَضَرَبَ لَهُ مَثَلًا بِرِسَالَةِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِلَى فِرْعَوْنَ لِإِصْلَاحِ حَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَتَذْكِيرِهِ قَوْمَهُ بِنِعَمِ اللَّهِ وَوُجُوبِ شُكْرِهَا وَمَوْعِظَتِهِ إِيَّاهُمْ بِمَا حَلَّ بِقَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَمَنْ بَعْدِهِمْ وَمَا لَاقَتْهُ رُسُلُهُمْ مِنَ التَّكْذِيبِ.
وَكَيْفَ كَانَتْ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ.
وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى تَفَرُّدِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ بِدَلَائِلَ مَصْنُوعَاتِهِ وَذِكْرِ الْبَعْثِ وَتَحْذِيرِ الْكُفَّارِ مِنْ تَغْرِيرِ قَادَتِهِمْ وَكُبَرَائِهِمْ بِهِمْ مِنْ كَيْدِ الشَّيْطَان وَكَيف يتبرأون مِنْهُمْ يَوْمَ الْحَشْرِ وَوَصْفِ حَالِهِمْ وَحَالِ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَئِذٍ وَفَضْلِ كَلِمَةِ الْإِسْلَامِ وَخُبْثِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ ثُمَّ التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِ قَوْمٍ كَفَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ وَأَوْقَعُوا مَنْ تَبِعَهُمْ فِي دَارِ الْبَوَارِ بِالْإِشْرَاكِ وَالْإِيمَاءِ إِلَى مُقَابَلَتِهِ بِحَالِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَعَدِّ بَعْضِ نِعَمِهِ على النَّاس تَفْضِيلًا ثُمَّ جَمْعِهَا إِجْمَالًا.
وَمَسُّ الضُّرِّ: حُلُولُهُ. اسْتُعِيرَ الْمَسُّ لِلْحُصُولِ الْخَفِيفِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى ضِيقِ صَبْرِ الْإِنْسَانِ بِحَيْثُ إِنَّهُ يَجْأَرُ إِلَى اللَّهِ بِحُصُولِ أَدْنَى شَيْءٍ مِنَ الضُّرِّ لَهُ. وَتَقَدَّمَ اسْتِعْمَالُ الْمَسِّ فِي الْإِصَابَةِ الْخَفِيفَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ فِي سُورَة الْأَنْعَام [١٧].
وتَجْئَرُونَ تَصْرُخُونَ بِالتَّضَرُّعِ. وَالْمَصْدَرُ: الْجُؤَارُ، بِصِيغَةِ أَسْمَاءِ الْأَصْوَاتِ.
وَأَتْبَعَ هَذِهِ بِنِعْمَةٍ أُخْرَى وَهِيَ نِعْمَةُ كَاشِفِ الضُّرِّ عَنِ النَّاسِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ الْآيَةَ.
وثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتَبِيِّ كَمَا هُوَ شَأْنُهَا فِي عَطْفِ الْجُمَلِ. وَجِيءَ بِحَرْفِ ثُمَّ لِأَنَّ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ أَبْعَدُ فِي النَّظَرِ مِنْ مَضْمُونِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا فَإِنَّ الْإِعْرَاضَ عَنِ الْمُنْعِمِ بِكَشْفِ الضُّرِّ وَإِشْرَاكِ غَيْرِهِ بِهِ فِي الْعِبَادَةِ أَعْجَبُ حَالًا وَأَبْعَدُ حُصُولًا مِنَ اللَّجَأِ إِلَيْهِ عِنْدَ الشِّدَّةِ.
وَالْمَقْصُودُ تَسْجِيلُ كُفْرَانِ الْمُشْرِكِينَ، وَإِظْهَارُ رَأْفَةِ اللَّهِ بِالْخَلْقِ بِكَشْفِ الضُّرِّ عَنْهُمْ عِنْدَ الْتِجَائِهِمْ إِلَيْهِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ مِنْ أُولَئِكَ مَنْ يُشْرِكُ بِهِ وَيَسْتَمِرُّ عَلَى شِرْكِهِ بَعْدَ كَشْفِ الضُّرِّ عَنْهُ.
وإِذا الْأُولَى مُضَمَّنَةٌ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَهِيَ ظَرْفٌ. وإِذا الثَّانِيَةُ فُجَائِيَّةٌ. وَالْإِتْيَانُ بِحَرْفِ الْمُفَاجَأَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى إِسْرَاعِ هَذَا الْفَرِيقِ بِالرُّجُوعِ إِلَى الشِّرْكِ وَأَنَّهُ لَا يَتَرَيَّثُ إِلَى أَنْ يَبْعُدَ الْعَهْدُ بِنِعْمَةِ كَشْفِ الضُّرِّ عَنْهُ بِحَيْثُ يُفْجَأُونَ بِالْكُفْرِ دُفْعَةً دُونَ أَنْ يَتَرَقَّبَهُ مِنْهُمْ مُتَرَقِّبٌ، فَكَانَ الْفَرِيقُ الْمَعْنِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ فريق الْمُشْركين.
[٥٥]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٥٥]
لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٥٥)
لَامُ التَّعْلِيلِ مُتَعَلِّقَةٌ بِفعل يُشْرِكُونَ [سُورَة النَّحْل: ٥٤] الَّذِي هُوَ مِنْ جَوَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ [سُورَة النَّحْل: ٥٤]. وَالْكُفْرُ هُنَا كُفْرُ النِّعْمَةِ، وَلِذَلِكَ
عَلَّقَ بِهِ قَوْلَهُ تَعَالَى:

[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧) : الْآيَات ٧٦ إِلَى ٧٧]

وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لَا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (٧٦) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (٧٧)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ [الْإِسْرَاء: ٧٣] تِعْدَادًا لِسَيِّئَاتِ أَعْمَالِهِمْ.
وَالضَّمَائِرُ مُتَّحِدَةٌ.
وَالِاسْتِفْزَازُ: الْحَمْلُ عَلَى التَّرَحُّلِ، وَهُوَ اسْتِفْعَالٌ مِنْ فَزَّ بِمَعْنَى بَارَحَ الْمَكَانَ، أَيْ كَادُوا أَنْ يَسْعَوْا أَنْ تَكُونَ فَازًّا، أَيْ خَارِجًا مِنْ مَكَّةَ. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى هَذَا الْفِعْلِ عِنْدَ قَوْلِهِ:
وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ فِي هَذِه السُّورَة الْإِسْرَاء [٦٤]. وَالْمَعْنَى: كَادُوا أَنْ يُخْرِجُوكَ مِنْ بَلَدِكَ. وَذَلِكَ بِأَنْ هَمُّوا بِأَنْ يُخْرِجُوهُ كُرْهًا ثُمَّ صَرَفَهُمُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ لِيَكُونَ خُرُوجُهُ بِغَيْرِ إِكْرَاهٍ حِينَ خَرَجَ مُهَاجِرًا عَنْ غَيْرِ عِلْمٍ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمُ ارْتَأَوْا بَعْدَ زَمَانٍ أَنْ يُبْقُوهُ بَيْنَهُمْ حَتَّى يَقْتُلُوهُ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْأَرْضِ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ، أَيْ مِنْ أَرْضِكَ وَهِيَ مَكَّةُ.
وَقَوْلُهُ: لِيُخْرِجُوكَ تَعْلِيلٌ لِلِاسْتِفْزَازِ، أَيِ اسْتِفْزَازًا لِقَصْدِ الْإِخْرَاجِ.
وَالْمُرَادُ بِالْإِخْرَاجِ: مُفَارَقَةُ الْمَكَانِ دُونَ رُجُوعٍ. وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ جُعِلَ عِلَّةً لِلِاسْتِفْزَازِ لِأَنَّ الِاسْتِفْزَازَ أَعَمُّ مِنَ الْإِخْرَاجِ.
وَجُمْلَةُ وَإِذاً لَا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَإِنْ كادُوا، أَوْ هِيَ اعْتِرَاضٌ فِي آخِرِ الْكَلَامِ، فَتَكُونُ الْوَاوُ لِلِاعْتِرَاضِ وَ (إِذًا) ظَرْفًا لِقَوْلِهِ: لَا يَلْبَثُونَ وَهِي (إِذا) الْمُلَازِمَةُ الْإِضَافَةِ إِلَى الْجُمْلَةِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (إِذَا) حَرْفَ جَوَابٍ وَجَزَاءٍ لِكَلَامٍ سَابِقٍ. وَهِيَ الَّتِي نُونُهَا حَرْفٌ مِنَ الْكَلِمَةِ وَلَكِنْ كَثُرَتْ كِتَابَتُهَا بِأَلِفٍ فِي صُورَةِ الِاسْمِ
وكَمْ خَبَرِيَّةُ عَنْ كَثْرَةِ الْعَدَدِ.
وَالْقَرْنُ: الْأُمَّةُ وَالْجِيلُ. وَيُطْلَقُ عَلَى الزَّمَانِ الَّذِي تَعِيشُ فِيهِ الْأُمَّةُ، وَشَاعَ تَقْدِيرُهُ بِمِائَةِ سَنَةٍ. ومِنْ بَيَانِيَّةٌ، وَمَا بَعْدَهَا تَمْيِيزُ كَمْ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ إِنْكَارِيٌّ، وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبَعًا لِقَوْلِهِ: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ أَيْ مَا تُحِسُّ، أَيْ مَا تَشْعُرُ بِأَحَدٍ مِنْهُمْ. وَالْإِحْسَاسُ:
الْإِدْرَاكُ بِالْحِسِّ، أَيْ لَا تَرَى مِنْهُمْ أَحَدًا.
وَالرِّكْزُ: الصَّوْتُ الْخَفِيُّ، وَيُقَالُ: الرِّزُّ، وَقَدْ رُوِيَ بِهِمَا قَوْلُ لَبِيدٍ:
وَتَوَجَّسَتْ رِكْزَ الْأَنِيسِ فَرَاعَهَا عَن ظهر عيب وَالْأَنِيسُ سَقَامُهَا
وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ اضْمِحْلَالِهِمْ، كُنِّيَ بِاضْمِحْلَالِ لَوَازِمِ الْوُجُودِ عَنِ اضْمِحْلَالِ وَجُودِهِمْ.
بِالتَّهَيُّؤِ لِلِقَاءِ الْغَيْرِ وَذَلِكَ هُوَ
إِطْلَاقُهُ فِي قَوْلِهِ: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ. فَفِي قَوْلِهِ: بِأَلْسِنَتِكُمْ تَشْبِيهُ الْخَبَرِ بِشَخْصٍ وَتَشْبِيهُ الرَّاوِي لِلْخَبَرِ بِمَنْ يَتَهَيَّأُ وَيَسْتَعِدُّ لِلِقَائِهِ اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ فَجُعِلَتِ الْأَلْسُنُ آلَةً لِلتَّلَقِّي عَلَى طَرِيقَةٍ تَخْيِيلِيِّةٍ بِتَشْبِيهِ الْأَلْسُنِ فِي رِوَايَةِ الْخَبَرِ بِالْأَيْدِي فِي تَنَاوُلِ الشَّيْءِ. وَإِنَّمَا جُعِلَتِ الْأَلْسُنُ آلَةً لِلتَّلَقِّي مَعَ أَنَّ تَلَقِّيَ الْأَخْبَارِ بِالْأَسْمَاعِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ هَذَا التَّلَقِّي غَايَتُهُ التَّحَدُّثُ بِالْخَبَرِ جُعِلَتِ الْأَلْسُنُ مَكَانَ الْأَسْمَاعِ مَجَازًا بِعَلَاقَةِ الْأَيْلُولَةِ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِحِرْصِهِمْ عَلَى تَلَقِّي هَذَا الْخَبَرِ فَهُمْ حِينَ يَتَلَقَّوْنَهُ يُبَادِرُونَ بِالْإِخْبَارِ بِهِ بِلَا تَرَوٍّ وَلَا تَرَيُّثٍ. وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِالتَّوْبِيخِ أَيْضًا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ فَوَجْهُ ذِكْرِ بِأَفْواهِكُمْ مَعَ أَنَّ الْقَوْلَ لَا يَكُونُ بِغَيْرِ الْأَفْوَاهِ أَنَّهُ أُرِيدَ التَّمْهِيدُ لِقَوْلِهِ: مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ، أَيْ هُوَ قَوْلٌ غَيْرُ مُوَافِقٍ لِمَا فِي الْعِلْمِ وَلَكِنَّهُ عَنْ مُجَرَّدِ تَصَوُّرٍ لِأَنَّ أَدِلَّةَ الْعِلْمِ قَائِمَةٌ بِنَقِيضِ مَدْلُولِ هَذَا الْقَوْلِ فَصَارَ الْكَلَامُ مُجَرَّدَ أَلْفَاظٍ تَجْرِي عَلَى الْأَفْوَاهِ.
وَفِي هَذَا مِنَ الْأَدَبِ الْأَخْلَاقِيِّ أَنَّ الْمَرْءَ لَا يَقُولُ بِلِسَانِهِ إِلَّا مَا يَعْلَمُهُ وَيَتَحَقَّقُهُ وَإِلَّا فَهُوَ أَحَدُ رَجُلَيْنِ: أَفِنُ الرَّأْيِ يَقُولُ الشَّيْءَ قَبْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ الْأَمْرُ فَيُوشِكُ أَنْ يَقُولَ الْكَذِبَ فَيَحْسَبُهُ النَّاسُ كَذَّابًا.
وَفِي الْحَدِيثِ: بِ «حَسْبُ الْمَرْءِ مِنَ الْكَذِبِ أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ»
، أَوْ رَجُلٌ مُمَوِّهٌ مُرَاءٍ يَقُولُ مَا يَعْتَقِدُ خِلَافَهُ قَالَ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ [الْبَقَرَة: ٢٠٤] وَقَالَ: كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصَّفّ: ٣].
هَذَا فِي الْخَبَرِ وَكَذَلِكَ الشَّأْنُ فِي الْوَعْدِ فَلَا يَعِدُ إِلَّا بِمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يَسْتَطِيعُ الْوَفَاءَ بِهِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أخلف، وَإِذا ائْتمن خَانَ»
. وَزَادَ فِي تَوْبِيخِهِمْ بِقَوْلِهِ: وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ، أَيْ تَحْسَبُونَ الْحَدِيثَ بِالْقَذْفِ أَمْرًا هَيِّنًا. وَإِنَّمَا حَسِبُوهُ هَيِّنًا لِأَنَّهُمُ اسْتَخَفُّوا الْغِيبَةَ وَالطَّعْنَ فِي النَّاسِ اسْتِصْحَابًا لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي مُدَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ إِذْ لَمْ يَكُنْ
وَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ لَمَّا رَأَوْا أَشْرَاطَ الْعَذَابِ الَّذِي تَوَعَّدَهُمْ بِهِ صَالِحٌ وَلِذَلِكَ لَمْ يَنْفَعْهُمُ النَّدَمُ لِأَنَّ الْعَذَابَ قَدْ حَلَّ بِهِمْ سَرِيعًا، فَلِذَلِكَ عَطَفَ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ عَلَى نادِمِينَ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ.
وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً الْآيَة.
[١٦٠- ١٦٤]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ١٦٠ إِلَى ١٦٤]
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (١٦٠) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٦١) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٦٢) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٦٣) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٤)
الْقَوْلُ فِي مَوْقِعِهَا كَالْقَوْلِ فِي سَابِقَتِهَا، وَالْقَوْلُ فِي تَفْسِيرِهَا كَالْقَوْلِ فِي نَظِيرَتِهَا.
وَجعل لوط أَخًا لِقَوْمِهِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ نَسَبِهِمْ وَإِنَّمَا كَانَ نَزِيلًا فِيهِمْ، إِذْ كَانَ قَوْمُ لُوطٍ مَنْ أَهْلِ فِلَسْطِينَ مِنَ الْكَنْعَانِيِّينَ، وَكَانَ لُوطٌ عِبْرَانِيًّا وَهُوَ ابْنُ أَخِي إِبْرَاهِيمَ وَلَكِنَّهُ لَمَّا اسْتَوْطَنَ بِلَادَهُمْ وَعَاشَرَ فِيهِمْ وَحَالَفَهُمْ وَظَاهَرَهُمْ جُعِلَ أَخًا لَهُمْ كَقَوْلِ سُحَيْمٍ عَبْدِ بَنِي الْحَسْحَاسِ:
أَخُوكُمْ وَمَوْلَى خَيْرِكُمْ وَحَلِيفُكُمْ وَمَنْ قَدْ ثَوَى فِيكُمْ وَعَاشَرَكُمْ دَهْرًا
يَعْنِي نَفْسَهُ يُخَاطِبُ مَوَالِيَهُ بَنِي الْحَسْحَاسِ. وَقَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَإِخْوانُ لُوطٍ [ق: ١٣]. وَهَذَا مِنْ إِطْلَاقِ الْأُخُوَّةِ عَلَى مُلَازَمَةِ الشَّيْءِ وَمُمَارَسَتِهِ كَمَا قَالَ:
أخور الْحَرْبِ لَبَّاسًا إِلَيْهَا جِلَالَهَا إِذَا عَدِمُوا زَادًا فَإِنَّكَ عَاقِرُ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ [الْإِسْرَاء: ٢٧].
[١٦٥، ١٦٦]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ١٦٥ إِلَى ١٦٦]
أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (١٦٥) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (١٦٦)
هُوَ فِي الِاسْتِئْنَافِ كَقَوْلِه أَتُتْرَكُونَ [الشُّعَرَاء: ١٤٦] فِي قِصَّةِ ثَمُودَ. وَالْإِتْيَانُ: كِنَايَةٌ.
وَالذُّكْرَانَ: جَمْعُ ذَكَرٍ وَهُوَ ضِدُّ الْأُنْثَى. وَقَوْلُهُ: مِنَ الْعالَمِينَ الْأَظْهَرُ فِيهِ أَنَّهُ فِي
وَالْفَرَحُ يُطْلَقُ عَلَى السُّرُورِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَفَرِحُوا بِها فِي يُونُسَ [٢٢]. وَيُطْلَقُ عَلَى الْبَطَرِ وَالِازْدِهَاءِ، وَهُوَ الْفَرَحُ الْمُفْرِطُ الْمَذْمُومُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [٢٦] وَهُوَ التَّمَحُّضُ لِلْفَرَحِ. وَالْفَرَحُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُوَ الْمُفْرِطُ مِنْهُ، أَيِ الَّذِي تَمْحَضَّ للتعلق بمتاع الدُّنْيَا وَلَذَّاتِ النَّفْسِ بِهِ لِأَنَّ الِانْكِبَابَ عَلَى ذَلِكَ يُمِيتُ مِنَ النَّفْسِ الِاهْتِمَامَ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالْمُنَافَسَةِ لِاكْتِسَابِهَا فَيَنْحَدِرُ بِهِ التَّوَغُّلُ فِي الْإِقْبَالِ عَلَى اللَّذَّاتِ إِلَى حَضِيضِ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْكَمَالِ النَّفْسَانِيِّ وَالِاهْتِمَامِ بِالْآدَابِ الدِّينِيَّةِ، فَحُذِفَ الْمُتَعَلِّقُ بِالْفِعْلِ لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى لَا تَفْرَحْ بِلَذَّاتِ الدُّنْيَا مُعْرِضًا عَنِ الدِّينِ وَالْعَمَلِ لِلْآخِرَةِ كَمَا أَفْصَحَ عَنْهُ قَوْلُهُ وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ. وَأَحْسَبُ أَنَّ الْفَرَحَ إِذَا لَمْ يَعْلَقْ بِهِ شَيْءٌ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ صَارَ سَجِيَّةَ الْمَوْصُوفِ فَصَارَ مُرَادًا بِهِ الْعُجْبُ وَالْبَطَرُ. وَقَدْ أُشِيرَ إِلَى بَيَانِ الْمَقْصُودِ تَعْضِيدًا لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ بِقَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ، أَيِ الْمُفْرِطِينَ فِي الْفَرَحِ فَإِنَّ صِيغَةَ (فَعِلٍ) صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى تَعْلِيلِ النَّهْيِ، فَالْجُمْلَةُ عِلَّةٌ لِلَّتِي قَبْلَهَا، وَالْمُبَالَغَةُ فِي الْفَرَحِ تَقْتَضِي شِدَّةَ الْإِقْبَالِ عَلَى مَا يُفْرَحُ بِهِ وَهِيَ تَسْتَلْزِمُ الْإِعْرَاضَ عَنْ غَيْرِهِ فَصَارَ النَّهْيُ عَنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ رَمْزًا إِلَى الْإِعْرَاضِ عَنِ الْجِدِّ وَالْوَاجِبِ فِي ذَلِكَ.
وَابْتِغَاءُ الدَّارِ الْآخِرَةِ طَلَبُهَا، أَيْ طَلَبُ نَعِيمِهَا وَثَوَابِهَا. وَعَلِقَ بِفِعْلِ الِابْتِغَاءِ قَوْلُهُ فِيما آتاكَ اللَّهُ بِحَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ، أَيِ اطْلُبْ بِمُعْظَمِهِ وَأَكْثَرِهِ. وَالظَّرْفِيَّةُ مَجَازِيَّةٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَغَلْغُلِ ابْتِغَاءِ الدَّارِ الْآخِرَةِ فِي مَا آتَاهُ اللَّهُ وَمَا آتَاهُ هُوَ كُنُوزُ الْمَالِ، فَالظَّرْفِيَّةُ هُنَا كَالَّتِي فِي
قَوْلِهِ تَعَالَى وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ [النِّسَاء: ٥] أَيْ مِنْهَا وَمُعْظَمِهَا، وَقَوْلِ سَبْرَةَ بْنِ عَمْرٍو الْفَقْعَسِيِّ:
نُحَابِي بِهَا أَكْفَاءَنَا وَنُهِينُهَا وَنَشْرَبُ فِي أَثْمَانِهَا وَنُقَامِرُ
أَيِ اطْلُبْ بِكُنُوزِكَ أَسْبَابَ حُصُولِ الثَّوَابِ بِالْإِنْفَاقِ مِنْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا أَوْجَبَهُ وَرَغَّبَ فِيهِ مِنَ الْقُرْبَانِ وَوُجُوهِ الْبِرِّ.
وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا.
جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْحَافَّتَيْنِ بِهَا، وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ.
الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ مُدَاوَمَةِ الْفِكْرِ بِالْحُزْنِ لِأَجْلِ كُفْرِهِمْ لِأَنَّهُ إِذَا قَلَعَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ انْتَفَى إِحْزَانُ كُفْرِهِمْ إِيَّاهُ. وَقَرَأَ نَافِعٌ يَحْزُنْكَ- بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَكَسْرِ الزَّايِ- مُضَارِعُ أَحْزَنَهُ إِذَا جَعَلَهُ حَزِينًا. وَقَرَأَ الْبَقِيَّةُ يَحْزُنْكَ- بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَضَمِّ الزَّايِ- مُضَارِعُ حَزَنَهُ بِذَلِكَ الْمَعْنَى، وَهُمَا لُغَتَانِ: الْأُولَى لُغَةُ تَمِيمٍ، وَالثَّانِيَةُ لُغَةُ قُرَيْشٍ، وَالْأُولَى أَقْيَسُ وَكِلْتَاهُمَا فُصْحَى وَلُغَةُ تَمِيمٍ مِنَ اللُّغَاتِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ وَهِيَ لُغَةُ عُلْيَا تَمِيمٍ وَهُمْ بَنُو دَارِمٍ كَمَا
تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدِّمَةِ السَّادِسَةِ. وَزَعَمَ أَبُو زَيْدٍ وَالزَّمَخْشَرِيُّ: أَنَّ الْمُسْتَفِيضَ أَحْزَنَ فِي الْمَاضِي وَيُحْزِنُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، يُرِيدَانِ الشَّائِعَ عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ، وَالْقِرَاءَةُ رِوَايَةٌ وَسُنَّةٌ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [١٣] إِنِّي لَيَحْزُنُنِي وَفِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٣٣] قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ.
وَجُمْلَةُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِلنَّهْيِ، وَهِيَ أَيْضًا تَمْهِيدٌ لِوَعْدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ اللَّهَ يَتَوَلَّى الِانْتِقَامَ مِنْهُمُ الْمَدْلُولَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ فَنُنَبِّئُهُمْ مُفَرَّعًا عَلَى جُمْلَةِ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ كِنَايَةً عَنِ الْمُجَازَاةِ اسْتُعْمِلَ الْإِنْبَاءُ وَأُرِيدَ لَازِمُهُ وَهُوَ الْإِظْهَارُ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا، فَمَوْقِعُ حَرْفِ إِنَّ هُنَا مُغْنٍ عَنْ فَاءِ التَّسَبُّبِ كَمَا فِي قَوْلِ بَشَّارٍ:
إِنَّ ذَاكَ النَّجَاحِ فِي التبكير وبِذاتِ الصُّدُورِ: هِيَ النَّوَايَا وَأَعْرَاضُ النَّفْسِ مِنْ نَحْوِ الْحِقْدِ وَتَدْبِيرِ الْمَكْرِ وَالْكُفْرِ.
وَمُنَاسَبَتُهُ هُنَا أَنَّ كُفْرَ الْمُشْرِكِينَ بَعْضُهُ إِعْلَانٌ وَبَعْضُهُ إِسْرَارٌ قَالَ تَعَالَى: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ [الْملك: ١٣]، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ فِي سُورَة الْأَنْفَال [٤٣].
[٢٤]
[سُورَة لُقْمَان (٣١) : آيَة ٢٤]
نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (٢٤)
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ قَوْلَهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا [لُقْمَان: ٢٣] يُثِيرُ فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ سُؤَالًا عَنْ عَدَمِ تَعْجِيلِ الْجَزَاءِ إِلَيْهِمْ، فَبَيَّنَ بِأَنَّ اللَّهَ يُمْهِلُهُمْ زَمَنًا ثُمَّ يُوقِعُهُمْ
وَفِي بُحْبُوحَةِ الْعَيْشِ أَحَادِيثَ، أَيْ لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ فَصَارَ وُجُودُهُمْ فِي الْأَخْبَارِ وَالْقِصَصِ وَأَبَادَهُمُ اللَّهُ حِينَ تَفَرَّقُوا بَعْدَ سَيْلِ الْعَرِمِ فَكَانَ ذَلِكَ مُسْرِعًا فِيهِمْ بِالْفَنَاءِ بِالتَّغَرُّبِ فِي الْأَرْضِ وَالْفَاقَةِ وَتَسَلُّطِ الْعَوَادِي عَلَيْهِمْ فِي الطرقات كَمَا ستعلمه. وَفِعْلُ الْجَعْلِ يَقْتَضِي تَغْيِيرًا وَلَمَّا عَلَقَ
بِذَوَاتِهِمُ انْقَلَبَتْ مِنْ ذَوَاتٍ مُشَاهَدَةٍ إِلَى كَوْنِهَا أَخْبَارًا مَسْمُوعَةً. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ هَلَكُوا وَتَحَدَّثَ النَّاسُ بِهِمْ. وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِمْ: دَخَلُوا فِي خَبَرِ كَانَ، وَإِلَّا فَإِنَّ الْأَحَادِيث لَا يَخْلُو مِنْهَا أَحَدٌ وَلَا جَمَاعَةٌ. وَقَدْ يَكُونُ فِي الْمَدْحِ كَقَوْلِهِ:
هَاذِي قُبُورُهُمْ وَتِلْكَ قُصُورُهُمْ وَحَدِيثُهُمْ مُسْتَوْدَعُ الْأَوْرَاقِ
أَوْ أُرِيدَ: فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ اعْتِبَارٍ وَمَوْعِظَةٍ، أَيْ فَأَصَبْنَاهُمْ بِأَمْرٍ غَرِيبٍ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَتَحَدَّثَ بِهِ النَّاسُ فَيَكُونُ أَحادِيثَ مَوْصُوفًا بِصِفَةٍ مُقَدَّرَةٍ دَلَّ عَلَيْهَا السِّيَاقُ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً [الْكَهْف: ٧٩]، أَيْ كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها [الْكَهْف: ٧٩].
وَالتَّمْزِيقُ: تَقْطِيعُ الثَّوْبِ قِطَعًا، اسْتُعِيرَ هُنَا لِلتَّفْرِيقِ تَشْبِيهًا لِتَفْرِيقِ جَامِعَةِ الْقَوْمِ شَذَرَ مَذَرَ بِتَمْزِيقِ الثَّوْبِ قِطَعًا.
وكُلَّ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْمُمَزَّقِ كُلِّهِ، فَاكْتَسَبَ مَعْنَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ مِنْ إِضَافَتِهِ إِلَى الْمَصْدَرِ.
وَمَعْنَى كُلَّ كَثِيرَةُ التَّمْزِيقِ لِأَنَّ (كُلًّا) تَرِدُ كَثِيرًا بِمَعْنَى الْكَثِيرِ لَا بِمَعْنَى الْجَمِيعِ، قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ [يُونُس: ٩٧] وَقَالَ النَّابِغَةُ:
بِهَا كُلُّ ذَيَّالٍ وَأَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى التَّفَرُّقِ الشَّهِيرِ الَّذِي أُصِيبَتْ بِهِ قَبِيلَةُ سَبَأٍ إِذْ حَمَلَهُمْ خَرَابُ السَّدِّ وَقُحُولَةُ الْأَرْضِ إِلَى مُفَارَقَةِ تِلْكَ الْأَوْطَانِ مُفَارَقَةً وَتَفْرِيقًا ضَرَبَتْ بِهِ الْعَرَبُ الْمَثَلَ فِي قَوْلِهِمْ: ذَهَبُوا، أَوْ تَفَرَّقُوا أَيْدِي سَبَا، أَوْ آيَادِيَ سَبَا، بِتَخْفِيفِ هَمْزَةِ سَبَأٍ لِتَخْفِيفِ الْمَثَلِ.
وَفِي «لِسَانِ الْعَرَبِ» فِي مَادَّةِ (يَدي) قَالَ الْعمريّ: لَمْ يَهْمِزُوا سَبَا لِأَنَّهُمْ جَعَلُوهُ مَعَ مَا قَبْلَهُ بِمَنْزِلَةِ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ. هَكَذَا وَلَعَلَّهُ الْتِبَاسٌ أَوْ تَحْرِيفٌ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْمَعَرِّيُّ عَدَمَ إِظْهَارِ الْفَتْحَةِ عَلَى يَاءِ «أَيَادِي» أَوْ «أَيْدِي»
فَيَصْلُحُ جَسَدُهُ لُطْفًا مِنْ رَبِّهِ بِهِ بَعْدَ أَنْ أَجْرَى لَهُ حَادِثًا لِتَأْدِيبِهِ، شَأْنُ الرَّبِّ مَعَ عَبِيدِهِ أَنْ يُعْقِبَ الشِّدَّةَ بِالْيُسْرِ.
وَهَذَا حَدَثٌ لَمْ يَعْهَدْ مَثِيلَهُ مِنَ الرُّسُلِ وَلِأَجْلِهِ
قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيِرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى»
، يُرِيدُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسَهُ إِذْ لَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ أَحَدًا آخَرَ إِذْ لَا يَخْطُرُ بِالْبَالِ أَنْ يَقُولَهُ أَحَدٌ غَيْرُ الْأَنْبِيَاءِ. وَالْمَعْنَى نَفْيُ الْأَخْيَرِيَّةِ فِي وَصْفِ النُّبُوءَةِ، أَيْ لَا يَظُنَّنَّ أَحَدٌ أَنَّ فِعْلَةَ يُونُسَ تَسْلُبُ عَنْهُ النُّبُوءَةَ.
فَذَلِكَ مثل
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ»
، أَيْ فِي أَصْلِ النُّبُوءَةِ لَا فِي دَرَجَاتِهَا فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ [الْبَقَرَة: ٢٥٣] وَقَالَ: وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيئِينَ عَلى بَعْضٍ [الْإِسْرَاء: ٥٥].
وَاعْلَمْ أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ ذِكْرِ يُونُسَ هُنَا تَسْلِيَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَلْقَاهُ مَنْ ثِقَلِ الرِّسَالَةِ بِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ أَثْقَلَ الرُّسُلَ مِنْ قَبْلِهِ فَظَهَرَتْ مرتبَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَبْرِهِ عَلَى ذَلِكَ وَعدم تذمّره ولإعلام جَمِيعِ النَّاسِ بِأَنَّهُ مَأْمُورٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِمُدَاوَمَةِ الدَّعْوَةِ لِلدِّينِ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَلُومُونَهُ عَلَى إِلْحَاحِهِ عَلَيْهِمْ وَدَعْوَتِهِ إِيَّاهُمْ فِي مُخْتَلَفِ الْأَزْمَانِ وَالْأَحْوَالِ وَيَقُولُونَ: لَا تَغْشَنَا فِي مَجَالِسِنَا فَمن جَاءَك فمنّا فَاسْمَعْهُ، كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رسالاته [الْمَائِدَة: ٦٧] فَلِذِكْرِ قِصَّةِ يُونُسَ أَثَرٌ مِنْ مَوْعِظَةِ التَّحْذِيرِ مِنَ الْوُقُوعِ فِيمَا وَقع فِيهِ يُونُس مِنْ غَضَبِ رَبِّهِ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ [الْقَلَم: ٤٨، ٤٩].
وَلْيَعْلَمِ النَّاسُ أَنَّ اللَّهَ إِذَا اصْطَفَى أَحَدًا لِلرِّسَالَةِ لَا يُرَخِّصُ لَهُ فِي الْفُتُورِ عَنْهَا وَلَا يَنْسَخُ أَمْرَهُ بِذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَل رسالاته.
اخْتِلَافِ جَزَاء الْفَرِيقَيْنِ وَهَذَا الْإِيمَاءُ إِدْمَاجٌ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ.
وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا عَاطِفَةٌ الْجُمْلَةَ عَلَى الْجُمْلَةِ بِتَقْدِيرِ: وَمَا يَسْتَوِي الَّذِينَ آمَنُوا.
وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَلَا الْمُسِيءُ عَاطِفَةٌ الْمُسِيءُ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا عَطَفَ الْمُفْرَدِ عَلَى الْمُفْرَدِ، فَالْعَطْفُ الْأَوَّلُ عَطْفُ الْمَجْمُوعِ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ [الْحَدِيد: ٣].
وَإِنَّمَا قَدَّمَ ذِكْرَ الْأَعْمَى عَلَى ذِكْرِ الْبَصِيرِ مَعَ أَنَّ الْبَصَرَ أَشْرَفُ مِنَ الْعَمَى بِالنِّسْبَةِ لِذَاتٍ وَاحِدَةٍ، وَالْمُشَبَّهَ بِالْبَصِيرِ أَشْرَفُ مِنَ الْمُشَبَّهِ بِالْأَعْمَى إِذِ الْمُشَبَّهُ بالبصير الْمُؤْمِنُونَ، فَقدم ذَكَرَ تَشْبِيهَ الْكَافِرِينَ مُرَاعَاةً لِكَوْنِ الْأَهَمِّ فِي الْمَقَامِ بَيَانَ حَالِ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي الْآيَاتِ إِذْ هُمُ الْمَقْصُودُ بِالْمَوْعِظَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ فَإِنَّمَا رَتَّبَ فِيهِ ذِكْرَ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى عَكْسِ تَرْتِيبِهِ فِي التَّشْبِيهِ بِالْأَعْمَى وَالْبَصِيرِ اهْتِمَامًا بِشَرَفِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَأُعِيدَتْ (لَا) النَّافِيَةُ بَعْدَ وَاوِ الْعَطْفِ عَلَى النَّفْيِ، وَكَانَ الْعَطْفُ مُغْنِيًا عَنْهَا فإعادتها لإِفَادَة تَأْكِيدَ نَفْيِ الْمُسَاوَاةِ وَمَقَامُ التَّوْبِيخِ يَقْتَضِي الْإِطْنَابَ، وَلِذَلِكَ تُعَدُّ (لَا) فِي مِثْلِهِ زَائِدَةً كَمَا فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ»، وَكَانَ الظَّاهِرُ أَنْ تَقَعَ (لَا) قَبْلَ (الَّذِينَ آمَنُوا)، فَعَدَلَ عَنْ ذَلِكَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ عَدَمُ مُسَاوَاةِ الْمُسِيءِ لِمَنْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ، وَأَنَّ ذِكْرَ الَّذِينَ آمَنُوا قَبْلَ الْمُسِيءِ لِلِاهْتِمَامِ بِالَّذِينَ آمَنُوا وَلَا مُقْتَضِيَ لِلْعُدُولِ عَنْهُ بَعْدَ أَنْ قُضِيَ حَقُّ الاهتمام بالذين سبق الْكَلَامُ لِأَجْلِ تَمْثِيلِهِمْ، فَحَصَلَ فِي الْكَلَامِ اهْتِمَامَانِ.
وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا فِي سُورَةِ فَاطِرٍ فِي أَرْبَعِ جُمَلٍ: اثْنَتَيْنِ قُدِّمَ فِيهِمَا جَانِبُ تَشْبِيهِ الْكَافِرِينَ، وَاثْنَتَيْنِ قُدِّمَ فِيهِمَا تَشْبِيهُ جَانِبِ الْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ [فاطر: ١٩- ٢٢].
وقَلِيلًا حَالٌ مِنْ أَكْثَرَ النَّاسِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى قَبْلَهُ:
انْتِقَاصٍ يُنَافِي الْكَمَالَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْإِلَهِيَّةِ. وَالْكَلَامُ بَعْدَ أَمِ اسْتِفْهَامٌ، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ كَمَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ:
وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ. وَمَحَلُّ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ الْإِنَاثَ مَكْرُوهَةٌ عِنْدَهُمْ فَكَيْفَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ أَبْنَاءً إِنَاثًا وَهَلَّا جَعَلُوهَا ذُكُورًا. وَلَيْسَتْ لَهُمْ مَعْذِرَةٌ عَنِ الْفَسَادِ الْمُنْجَرِّ إِلَى معتقدهم بالطريقين لِأَنَّ الْإِبْطَالَ الْأَوَّلَ نَظَرِيٌّ يَقِينِيٌّ وَالْإِبْطَالُ الثَّانِي جَدَلِيٌّ بَدِيهِيٌّ قَالَ تَعَالَى: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى [النَّجْم: ٢١، ٢٢]. فَهَذِهِ حُجَّةٌ نَاهِضَةٌ عَلَيْهِمْ لِاشْتِهَارِهَا بَيْنَهُمْ.
وَلَمَّا ادَّعَتْ سَجَاحُ بِنْتُ الْحَارِثِ النُّبُوءَةَ فِي بَنِي تَمِيمٍ أَيَّامَ الرِّدَّةِ وَكَانَ قَدِ ادَّعَى النُّبُوءَةَ قَبْلَهَا مُسَيْلِمَةُ الْحَنَفِيُّ، وَالْأَسْوَدُ الْعَنْسِيُّ، وَطَلِيحَةُ بْنُ خُوَيْلِدٍ الْأَسَدِيُّ، قَالَ عُطَارِدُ بْنُ حَاجِبٍ التَّمِيمِيُّ:
أَضْحَتْ نَبِيئَتُنَا أُنْثَى نَطِيفُ بِهَا وَأَصْبَحَتْ أَنْبِيَاءُ النَّاسِ ذُكْرَانَا
وَأُوثِرَ فِعْلُ اتَّخَذَ هُنَا لِأَنَّهُ يَشْمَلُ الِاتِّخَاذَ بِالْوِلَادَةِ، أَيْ بِتَكْوِينِ الِانْفِصَالِ عَنْ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْمُزَاوَجَةِ مَعَ سَرَوَاتِ الْجِنِّ، وَيَشْمَلُ مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ وَهُوَ التَّبَنِّي فَعَلَى كِلَا الْفَرْضَيْنِ يَتَوَجَّهُ إِنْكَارُ أَنْ يَكُونَ مَا هُوَ لِلَّهِ أَدْوَنَ مِمَّا هُوَ لَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ [النَّحْل: ٦٢]. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا قَوْلُهُ: وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ، فَهَذَا ارْتِقَاءٌ فِي إِبْطَالِ مُعْتَقَدِهِمْ بِإِبْطَالِ فَرْضِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَبَنَّى الْمَلَائِكَةَ، سَدًّا عَلَى الْمُشْرِكِينَ بَابَ التَّأَوُّلِ وَالتَّنَصُّلِ مِنْ فَسَادِ نِسْبَتِهِمُ الْبَنَاتِ إِلَى اللَّهِ، فَلَعَلَّهُمْ يَقُولُونَ: مَا أَرَدْنَا إِلَّا التَّبَنِّيَ، كَمَا تَنَصَّلُوا حِينَ دَمَغَتَهُمْ بَرَاهِينُ بُطْلَانِ إِلَهِيَّةِ الْأَصْنَامِ فَقَالُوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: ٣]، وَقَالُوا: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يُونُس: ١٨].
وَاعْلَمْ أَنَّ مَا تُؤْذِنُ بِهِ أَمِ حَيْثُمَا وَقَعَتْ مِنْ تَقْدِيرِ اسْتِفْهَامٍ بَعْدَهَا هُوَ هُنَا اسْتِفْهَامٌ فِي مَعْنَى الْإِنْكَارِ وَتَسَلُّطُ الْإِنْكَارِ عَلَى اتِّخَاذِ الْبَنَاتِ مَعَ عَدَمِ تَقَدُّمِ ذِكْرِ الْبَنَاتِ لِكَوْنِ الْمَعْلُومِ مِنْ جَعْلِ الْمُشْرِكِينَ لِلَّهِ جُزْءًا أَنَّ الْمَجْعُولَ جُزْءًا لَهُ هُوَ الْمَلَائِكَةُ وَأَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا، فَذَلِكَ مَعْلُومٌ مِنْ كَلَامِهِمْ. وَجُمْلَةُ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ.
وَالنَّفْيُ الْحَاصِلُ مِنْ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ مُنْصَبٌّ إِلَى قَيْدِ الْحَالِ، فَحَصَلَ
وَقِيلَ: الْمُرَادُ كَفُّ أَيْدِي الْإِعْرَابِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ بَنِي أَسَدٍ وَغَطَفَانَ وَكَانُوا أَحْلَافًا لِيَهُودِ خَيْبَرَ وَجَاءُوا لِنُصْرَتِهِمْ لَمَّا حَاصَرَ الْمُسْلِمُونَ خَيْبَرَ فَأَلْقَى اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَنَكَصُوا.
وَقِيلَ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ بَعَثُوا أَرْبَعِينَ رَجُلًا لِيُصِيبُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ فَأَسَرَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، وَهُوَ مَا سَيَجِيءُ فِي قَوْلِهِ: وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ [الْفَتْح: ٢٤]. وَقِيلَ: كَفَّ أَيْدِيَ الْيَهُودِ عَنْكُمْ، أَيْ عَن أهلكم وذاريكم إِذْ كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَهْجُمُوا عَلَى الْمَدِينَةِ فِي مُدَّةِ غَيْبَةِ مُعْظَمِ أَهْلِهَا فِي الْحُدَيْبِيَةِ، وَهَذَا الْقَوْلُ لَا يُنَاسِبُهُ إِطْلَاقُ لَفْظِ النَّاسِ فِي غَالِبِ مُصْطَلَحِ الْقُرْآنِ.
وَالْكَفُّ: مَنْعُ الْفَاعِلِ مِنْ فِعْلٍ أَرَادَهُ أَوْ شَرَعَ فِيهِ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنِ اسْمِ الْكَفِّ الَّتِي هِيَ الْيَدُ لِأَنَّ أَصْلَ الْمَنْعِ أَنْ يَكُونَ دَفْعًا بِالْيَدِ، وَيُقَالُ: كَفَّ يَدَهُ عَنْ كَذَا، إِذَا مَنَعَهُ مِنْ تَنَاوُلِهِ بِيَدِهِ.
وَأُطْلِقَ الْكَفُّ هُنَا مَجَازًا عَلَى الصَّرْفِ، أَيْ قَدَّرَ اللَّهُ كَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ بِأَنْ أَوْجَدَ أَسْبَابَ صَرْفِهِمْ عَنْ أَنْ يَتَنَاوَلُوكُمْ بِضُرٍّ سَوَاءٌ نَوَوْهُ أَوْ لَمْ يَنْوُوهُ، وَإِطْلَاقُ الْفِعْلِ عَلَى تَقْدِيرِهِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ حِينَ لَا يَكُونُ لِلتَّعْبِيرِ عَنِ الْمَعَانِي الْإِلَهِيَّةِ فِعْلٌ مُنَاسِبٌ لَهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَإِن اللُّغَة بيّنت عَلَى مُتَعَارَفِ النَّاسِ مُخَاطِبَاتِهِمْ وَطَرَأَتْ مُعْظَمُ الْمَعَانِي الْإِلَهِيَّةِ بِمَجِيءِ الْقُرْآنِ فَتُغَيَّرُ عَنِ الشَّأْنِ الْإِلَهِيِّ بِأَقْرَبِ الْأَفْعَالِ إِلَى مَعْنَاهُ.
وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً.
الظَّاهِرُ أَنَّ الْوَاوَ عَاطِفَةٌ وَأَنَّ مَا بَعْدَ الْوَاوِ عِلَّةٌ كَمَا تَقْتَضِي لَامُ كَيْ فَتَعِيَّنَ أَنَّهُ تَعْلِيلٌ لِشَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ قَبْلَهُ فِي اللَّفْظِ أَوْ عَطْفٌ عَلَى تَعْلِيلٍ سَبَقَهُ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى بَعْضِ التَّعْلِيلَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ قَوْلِهِ: لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ [الْفَتْح: ٤] أَوْ مِنْ قَوْلِهِ:
لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ [الْفَتْح: ٥] وَمَا بَينهمَا اعتراضا وَهُوَ وَإِنْ طَالَ فَقَدِ
اقْتَضَتْهُ التَّنَقُّلَاتُ الْمُتَنَاسِبَاتُ. وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِمَصَالِحَ لَهُمْ مِنْهَا ازْدِيَادُ إِيمَانِهِمْ وَاسْتِحْقَاقُهُمُ الْجَنَّةَ وَتَكْفِيرُ سَيِّئَاتِهِمْ
خَوْفٍ. وَ (عَسِرٌ) : صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مِنَ الْعُسْرِ وَهُوَ الشِّدَّةُ وَالصُّعُوبَةُ. وَوَصْفُ الْيَوْمِ بِ عَسِرٌ وَصْفٌ مَجَازِيٌّ عَقْلِيٌّ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ زَمَانًا لِأُمُورٍ عَسِرَةٍ شَدِيدَةٍ مِنْ شِدَّةِ الْحِسَابِ وَانْتِظَارِ الْعَذَابِ.
وَأَبْهَمَ شَيْءٍ نُكُرٍ لِلتَّهْوِيلِ، وَذَلِكَ هُوَ أَهْوَالُ الْحِسَابِ وَإِهَانَةُ الدَّفْعِ وَمُشَاهَدَةُ مَا أُعِدَّ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ.
وَانْتَصَبَ خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُقدر فِي يَدْعُ الدَّاعِ وَإِمَّا مِنْ ضَمِيرِ يَخْرُجُونَ مُقَدَّمًا عَلَى صَاحِبِهِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ خُشَّعاً بِصِيغَةِ جَمْعِ خَاشِعٍ.
وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ وَخَلَفٌ خَاشِعًا بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: «لَكَ فِي أَسْمَاءِ الْفَاعِلِينَ إِذَا تَقَدَّمَتْ عَلَى الْجَمَاعَةِ التَّوْحِيدُ وَالتَّذْكِيرُ نَحْوُ خَاشِعًا أَبْصَارُهُمْ. وَلَكَ التَّوْحِيدُ وَالتَّأْنِيثُ نَحْوُ قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ وَلَكَ الْجَمْعُ نَحْوُ خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ اه.
وأَبْصارُهُمْ فَاعِلُ خُشَّعاً وَلَا ضَيْرَ فِي كَوْنِ الْوَصْفِ الرَّافِعِ لِلْفَاعِلِ عَلَى صِيغَةِ الْجَمْعِ لِأَنَّ الْمَحْظُورَ هُوَ لِحَاقُ عَلَامَةِ الْجَمْعِ وَالتَّثْنِيَةِ لِلْفِعْلِ إِذَا كَانَ فَاعِلُهُ الظَّاهِرُ جَمْعًا أَوْ مُثَنًّى، وَلَيْسَ الْوَصْفُ كَذَلِكَ، كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الرَّضِيُّ عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْوَصْفُ جَمْعًا مُكَسَّرًا، وَكَانَ جَارِيًا عَلَى مَوْصُوفٍ هُوَ جَمْعٌ، فَرَفْعُ الِاسْم الظَّاهِر الْوَصْف الْمَجْمُوعِ أَوْلَى مِنْ رَفْعِهِ بِالْوَصْفِ الْمَجْمُوعِ الْمُفْرَدِ عَلَى مَا اخْتَارَهُ الْمُبَرِّدُ وَابْنُ مَالِكٍ كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
وُقُوفًا بِهَا صَحْبِي عَلَيَّ مَطِيُّهُمْ وَشَاهَدَ هَذَا الْقُرَّاءُ.
وَقَوْلُهُ: يَقُولُ الْكافِرُونَ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِوَصْفِهِمْ بِهَذَا الْوَصْفِ الذَّمِيمِ وَفِيهِ تَفْسِيرُ الضَّمَائِرِ السَّابِقَةِ.
وَالْأَجْدَاثُ: جَمْعُ جَدَثٍ وَهُوَ الْقَبْرُ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ خُرُوجَ النَّاسِ إِلَى الْحَشْرِ مِنْ مَوَاضِعِ دَفْنِهِمْ فِي الْأَرْضِ، كَمَا قَالَ: مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى [طه: ٥٥]
فَيَكُونُ الْمَقْصُودُ الْأَهَمُّ مِنَ الْقِصَّةِ هُوَ مَا تَفَرَّعَ عَلَى ذِكْرِهَا مِنْ قَوْلِهِ: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ. وَيُنَاسِبُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ تَحْذِيرًا مِنْ مُخَالَفَةِ أَمر الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِبْرَةً بِمَا عَرَضَ لَهُمْ مِنَ الْهَزِيمَةِ يَوْمَ أُحُدٍ لَمَّا خَالَفُوا أَمْرَهُ مِنْ عَدَمِ ثَبَاتِ الرُّمَاةِ فِي مَكَانِهِمْ.
وَقَدْ تَشَابَهَتِ الْقِصَّتَانِ فِي أَنَّ الْقَوْمَ فَرُّوا يَوْمَ أُحُدٍ كَمَا فَرَّ قَوْمُ مُوسَى يَوْمَ أَرِيحَا، وَفِي أَنَّ الرُّمَاةَ الَّذِينَ أَمَرَهُمْ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يَبْرَحُوا مَكَانَهُمْ «وَلَوْ تَخَطَّفَنَا الطَّيْرُ» وَأَنْ يَنْضَحُوا عَنِ الْجَيْشِ بِالنِّبَالِ خَشْيَةَ أَنْ يَأْتِيَهُ الْعَدُوُّ مِنْ خَلْفِهِ لَمْ يَفْعَلُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ وَعَصَوْا أَمْرَ أَمِيرِهِمْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُبَيْرٍ وَفَارَقُوا مَوْقِفَهُمْ طَلَبًا لِلْغَنِيمَةِ فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ هَزِيمَةِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ.
وَالْوَاوُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عَطْفُ تَحْذِيرٍ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ عَلَى النَّهْيِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصَّفّ: ٢] الْآيَةَ.
وَيَتْبَعُ ذَلِكَ تَسْلِيَة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا حَصَلَ مِنْ مُخَالَفَةِ الرُّمَاةِ حَتَّى تَسَبَّبُوا فِي هَزِيمَةِ النَّاسِ.
وإِذْ مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: اذْكُرْ، وَلَهُ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ، أَيِ اذْكُرْ لَهُمْ أَيْضا وَقت قَوْله مُوسَى لِقَوْمِهِ أَوِ اذْكُرْ لَهُمْ مَعَ هَذَا النَّهْيِ وَقْتَ مُوسَى لِقَوْمِهِ.
وَابْتِدَاءُ كَلَامِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِ يَا قَوْمِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ شَأْنَ قَوْمِ الرَّسُولِ أَنْ يُطِيعُوهُ بَلْهَ أَنْ لَا يُؤْذُوهُ. فَفِي النِّدَاءِ بِوَصْفِ قَوْمِ تَمْهِيدٌ لِلْإِنْكَارِ فِي قَوْلِهِ: لِمَ تُؤْذُونَنِي.
وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ، أَيْ إِنْكَارِ أَنْ يَكُونَ لِلْإِذَايَةِ سَبَبٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ.
وَقَدْ جَاءَتْ جُمْلَةُ الْحَالِ مِنْ قَوْلِهِ: وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ مُصَادِفَةَ الْمَحَلِّ مِنَ التَّرَقِّي فِي الْإِنْكَار.
وقَدْ لِتَحْقِيقِ مَعْنَى الْحَالِيَّةِ، أَيْ وَعِلْمُكُمْ بِرِسَالَتِي عَنِ اللَّهِ أَمْرٌ مُحَقَّقٌ لِمَا
يَطْمَعُ عَنِ التَّظَاهُرِ بِالطَّمَعِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ [التَّوْبَة: ٦٤] أَيْ يَتَظَاهَرُونَ بِأَنَّهُمْ يَحْذَرُونَ.
وَأُسْنِدَ الطَّمَعُ إِلَى كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ دُونَ أَنْ يُقَالَ: أَيَطْمَعُونَ أَنْ يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ، تَصْوِيرًا لِحَالِهِمْ بِأَنَّهَا حَالُ جَمَاعَةٍ يُرِيدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ لِتَسَاوِيهِمْ، يَرَوْنَ أَنْفُسَهُمْ سَوَاءً فِي ذَلِكَ، فَفِي قَوْلِهِ: كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ تَقْوِيَةُ التَّهَكُّمِ بِهِمْ.
ثُمَّ بُنِيَ عَلَى التَّهَكُّمِ مَا يُبْطِلُ مَا فُرِضَ لِحَالِهِمْ بِمَا بُنِيَ عَلَيْهِ التَّمْثِيلُ التَّهَكُّمِيُّ بِكَلِمَةِ الرَّدْعِ وَهِيَ كَلَّا أَيْ لَا يَكُونُ ذَلِكَ. وَذَلِكَ انْتِقَالٌ مِنَ الْمَجَازِ إِلَى الْحَقِيقَةِ وَمِنَ التَّهَكُّمِ بِهِمْ إِلَى تَوْبِيخِهِمْ دَفْعًا لِتَوَهُّمِ مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ الْكَلَامَ السَّابِقَ لَمْ يَكُنْ تَهَكُّمًا.
وَهُنَا تَمَّ الْكَلَامُ عَلَى إِثْبَاتِ الْجَزَاءِ.
إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (٤٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٤١).
كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا لِلِانْتِقَالِ مِنْ إِثْبَاتِ الْجَزَاءِ إِلَى الِاحْتِجَاجِ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ إِبْطَالًا لِشُبْهَتِهِمُ الْبَاعِثَةِ عَلَى إِنْكَارِهِ، وَهُوَ الْإِنْكَارُ الَّذِي ذُكِرَ إِجْمَالًا بِقَوْلِهِ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً [المعارج: ٦، ٧] فَاحْتُجَّ عَلَيْهِمْ بِالنَّشْأَةِ الْأُولَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ [الْوَاقِعَة: ٦٢] فَالْخَبَرُ بِقَوْلِهِ: إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِ مَعْنَاهُ وَهُوَ إِثْبَاتُ إِعَادَةِ خَلْقِهِمْ بَعْدَ فَنَائِهِمْ.
فَهَذَا مِنْ تَمَامِ الْخِطَابِ الْمُوَجَّهِ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنْ يَبْلُغَ إِلَى أَسْمَاعِ الْمُشْرِكِينَ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.
وَالْمَعْنَى: أَنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ حَتَّى صَارَتْ إِنْسَانًا عَاقِلًا مُنَاظِرًا فَكَذَلِكَ نُعِيدُ خَلْقَهُ بِكَيْفِيَّةٍ لَا يعلمونها.
فَمَا صدق (مَا يَعْلَمُونَ) هُوَ مَا يَعْلَمُهُ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ أَنَّهُ كُوِّنَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ مِنْ نُطْفَةٍ وَعَلَقَةٍ، وَلَكِنَّهُمْ عَلِمُوا هَذِهِ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَأَلْهَاهُمُ التَّعَوُّدُ بِهَا عَنِ التَّدَبُّرِ فِي دَلَالَتِهَا عَلَى إِمْكَانِ إِعَادَةِ الْمُكَوَّنِ مِنْهَا بِتَكْوِينٍ آخَرَ.

[سُورَة الانفطار (٨٢) : آيَة ٩]

كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (٩)
كَلَّا رَدْعٌ عَمَّا هُوَ غُرُورٌ بِاللَّهِ أَوْ بِالْغُرُورِ مِمَّا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ [الانفطار: ٦] من حصور مَا يَغُرُّ الْإِنْسَانَ بالشرك وَمن إغراضه عَنْ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْكُفْرِ، أَوْ مِنْ كَوْنِ حَالَةِ الْمُشْرِكِ كَحَالَةِ الْمَغْرُورِ كَمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْوَجْهَيْنِ فِي الْإِنْكَارِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِ:
مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ وَالْمَعْنَى: إِشْرَاكُكَ بِخَالِقِكَ بَاطِلٌ وَهُوَ غُرُورٌ، أَوْ كَالْغُرُورِ.
وَيَكُونُ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ إِضْرَابًا انْتِقَالِيًّا مِنْ غَرَضِ التَّوْبِيخِ وَالزَّجْرِ عَلَى الْكُفْرِ إِلَى ذِكْرِ جُرْمٍ فَظِيعٍ آخَرَ، وَهُوَ التَّكْذِيبُ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَيَشْمَلُهُ التَّوْبِيخُ بِالزَّجْرِ بِسَبَبِ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ على توبيخ وجزر لِأَنَّ بَلْ لَا تَخْرُجُ عَنْ مَعْنَى الْعَطْفِ أَيِ الْعَطْفُ فِي الْغَرَضِ لَا فِي نِسْبَةِ الْحُكْمِ. وَلِذَلِكَ يَتْبَعُ الْمَعْطُوفَ بِهَا الْمُفْرَدُ فِي إِعْرَابِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فَيَقُولُ النَّحْوِيُّونَ: إِنَّهَا تُتْبَعُ فِي اللَّفْظِ لَا فِي الْحُكْمِ، أَيْ هُوَ اتِّبَاعُ مُنَاسَبَةٍ فِي الْغَرَضِ لَا اتِّبَاعٍ فِي النِّسْبَةِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَلَّا إِبْطَالًا لِوُجُودِ مَا يَغُرُّ الْإِنْسَانَ أَنْ يُشْرِكَ بِاللَّهِ، أَيْ لَا عُذْرَ لِلْإِنْسَانِ فِي الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ إِذْ لَا يُوجَدُ مَا يَغُرُّهُ بِهِ.
وَيَكُونُ قَوْلُهُ: بَلْ تُكَذِّبُونَ إِضْرَابًا إِبْطَالِيًّا، وَمَا بَعْدَ بَلْ بَيَانًا لِمَا جَرَّأَهُمْ عَلَى الْإِشْرَاكِ وَإِنَّهُ لَيْسَ غُرُورًا إِذْ لَا شُبْهَةَ لَهُمْ فِي الْإِشْرَاكِ حَتَّى تَكُونَ الشُّبْهَةُ كَالْغُرُورِ، وَلَكِنَّهُمْ أَصَرُّوا عَلَى الْإِشْرَاك لأَنهم حسبوا أَنْفُسَهُمْ فِي مَأْمَنٍ مِنْ تَبِعَتِهِ فَاخْتَارُوا الِاسْتِمْرَارَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ هَوَى أنفسهم، وَلم يعبأوا بِأَنَّهُ بَاطِلٌ صُرَاحٌ فَهُمْ يكذبُون بالجزاء فَذَلِك سَبَّبَ تَصْمِيمُ جَمِيعهم على الشّرك مَعَ تَفَاوُتِ مَدَارِكِهِمُ الَّتِي لَا يَخْفَى عَلَى بَعْضِهَا بُطْلَانُ كَوْنِ الْحِجَارَةِ آلِهَةً، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ مَا كَانُوا يَرَوْنَ الْعَذَابَ إِلَّا عَذَابَ الدُّنْيَا.
وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ إِنْكَارَ الْبَعْثِ هُوَ جِمَاعُ الْإِجْرَامِ، وَنَظِيرُ هَذَا الْوَجْهِ وَقَعَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَما لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ فِي سُورَةِ الِانْشِقَاقِ


الصفحة التالية
Icon