وَأَهَمُّهُ مَا كَانَ عَنْ مَحَبَّةٍ لِأَنَّهُ يُرْضِي نَفْسَ فَاعِلِهِ قَالَ:
أَهَابُكِ إِجْلَالًا وَمَا بِكِ قُدْرَةٌ | عَلَيَّ وَلَكِنْ مِلْءُ عَيْنٍ حَبِيبُهَا |
تَعْصِي الْإِلَهَ وَأَنْتَ تُظْهِرُ حُبَّهُ | هَذَا لَعَمْرِي فِي الْقِيَاسِ بَدِيعُ |
لَوْ كَانَ حُبُّكَ صَادِقًا لَأَطَعْتَهُ | إِنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ |
أَنْتَ الْحَبِيبُ وَلَكِنِّي أَعُوذُ بِهِ | مِنْ أَنْ أَكُونَ مُحِبًّا غَيْرَ مَحْبُوبِ |
الْمَانَوِيَّةُ مِنَ الْمَجُوسِ الْمَعْبُودِ (أَهْرُمُنْ) وَهُوَ عِنْدَهُمْ رَبُّ الشَّرِّ وَالضُّرِّ وَيَرْمُزُونَ إِلَيْهِ بِعُنْصُرِ الظُّلْمَةِ وَأَنَّهُ تَوَلَّدَ مِنْ خَاطِرِ سُوءٍ خَطَرَ لِلرَّبِّ (يَزْدَانَ) إِلَهِ الْخَيْرِ، قَالَ الْمَعَرِّيُّ:
فَكَّرَ يَزْدَانُ عَلَى غِرَّةٍ | فَصِيغَ مِنْ تَفْكِيرِهِ أَهْرُمُنْ |
وَأَنَا أَرَى اسْتِدْلَالَهُ بِوُرُودِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاعْبُدِ اللَّهَ لَا يَلِيقُ بِمَقَامِهِ الْعِلْمِيِّ إِذْ لَا يُظَنُّ أَنَّ مَحَامِلَ الْكَلَامِ مُتَمَاثِلَةً فِي كُلِّ مَقَامٍ، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِنَّمَا لَمْ تُفْصَلْ عَنْ جُمْلَةِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ بِطَرِيقَةِ تَعْدَادِ الْجُمَلِ مَقَامِ التَّضَرُّعِ وَنَحْوِهِ مِنْ مَقَامَاتِ التَّعْدَادِ وَالتَّكْرِيرِ كُلًّا أَوْ بَعْضًا لِلْإِشَارَةِ إِلَى خُطُورِ الْفِعْلَيْنِ جَمِيعًا فِي إِرَادَةِ الْمُتَكَلِّمِينَ بِهَذَا التَّخْصِيصِ، أَيْ نَخُصُّكَُُ
وَتُحْجِمُونَ أُخْرَى كَمَنْ يُحَاوِلُ خِيَانَةً فَيَكُونُ كَالتَّمْثِيلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُخادِعُونَ [الْبَقَرَة: ٩].
وَالْمَعْنَى هُنَا أَنَّكُمْ تُلْجِئُونَهَا لِلْخِيَانَةِ أَوْ تَنْسُبُونَهَا لَهَا، وَقِيلَ: الِاخْتِيَانُ أَشَدُّ مِنَ الْخِيَانَةِ كَالِاكْتِسَابِ وَالْكَسْبِ كَمَا فِي «الْكَشَّافِ» قُلْتُ: وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ
[النِّسَاء: ١٠٧].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ الْأَمْرُ لِلْإِبَاحَةِ، وَلَيْسَ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَالْآنَ إِشَارَةً إِلَى تَشْرِيعِ الْمُبَاشَرَةِ حِينَئِذٍ بَلْ مَعْنَاهُ فَالْآنَ اتَّضَحَ الْحُكْمُ فَبَاشِرُوهُنَّ وَلَا تَخْتَانُوا أَنْفُسَكُمْ.
وَالِابْتِغَاءُ الطَّلَبُ، وَمَا كَتَبَهُ اللَّهُ: مَا أَبَاحَهُ مِنْ مُبَاشَرَةِ النِّسَاءِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الصِّيَامِ أَوِ اطْلُبُوا مَا قَدَّرَ اللَّهُ لَكُمْ مِنَ الْوَلَدِ تَحْرِيضًا لِلنَّاسِ عَلَى مُبَاشَرَةِ النِّسَاءِ عَسَى أَنْ يَتَكَوَّنَ النَّسْلُ مِنْ ذَلِكَ وَذَلِكَ لِتَكْثِيرِ الْأُمَّةِ وَبَقَاءِ النَّوْعِ فِي الْأَرْضِ.
وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ.
عَطَفَ عَلَى بَاشِرُوهُنَّ، وَالْخَيْطُ سِلْكُ الْكَتَّانِ أَوِ الصُّوفِ أَوْ غَيْرِهِمَا يُلْفَقُ بِهِ بَيْنَ الثِّيَابِ بِشَدِّهِ بِإِبْرَةٍ أَوْ مَخِيطٍ، يُقَالُ خَاطَ الثَّوْبَ وَخَيَّطَهُ. وَفِي خَبَرِ قُبُورِ بَنِي أُمَيَّةَ أَنَّهُمْ وَجَدُوا مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَبْرِهِ كَالْخَيْطِ، وَالْخَيْطُ هُنَا يُرَادُ بِهِ الشُّعَاعُ الْمُمْتَدُّ فِي الظَّلَامِ وَالسَّوَادُ الْمُمْتَدُّ بِجَانِبِهِ قَالَ أَبُو دُؤَادٍ مِنْ شُعَرَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ:
فَلَمَّا أَضَاءَتْ لَنَا سَدْفَةٌ (١) | وَلَاحَ مِنَ الصُّبْحِ خَيْطٌ أَنَارَا |
_________
(١) السدفة الضَّوْء بلغَة قيس والظلمة بلغَة تَمِيم فَهِيَ من الأضداد فِي الْعَرَبيَّة.
الْآيَاتِ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [٥]، وَقَدْ لَا تَتَعَلَّقُ شَهَوَاتُ أَهْلِ الْمُدُنِ بِشِدَّةِ الْإِقْبَالِ عَلَى الْأَنْعَامِ لَكِنَّهُمْ يُحِبُّونَ مَشَاهِدَهَا، وَيُعْنَوْنَ بِالِارْتِيَاحِ إِلَيْهَا إِجْمَالًا.
وَالْحَرْثِ أَصْلُهُ مَصْدَرُ حَرَثَ الْأَرْضَ إِذَا شَقَّهَا بِآلَةٍ لِيَزْرَعَ فِيهَا أَوْ يَغْرِسَ، وَأُطْلِقَ هَذَا الْمَصْدَرُ عَلَى الْمَحْرُوثِ فَصَارَ يُطْلَقُ عَلَى الْجَنَّاتِ وَالْحَوَائِطِ وَحُقُولِ الزَّرْعِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٢٣] وَعِنْدَ قَوْلِهِ: وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ [الْبَقَرَة: ٧١] فِيهَا.
وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا إِلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَأَفْرَدَ كَافَ الْخِطَابِ لِأَنَّ الْخطاب للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، عَلَى أَنَّ عَلَامَةَ الْمُخَاطَبِ الْوَاحِدِ هِيَ الْغَالِبُ فِي الِاقْتِرَانِ بِأَسْمَاءِ الْإِشَارَةِ لِإِرَادَةِ الْبُعْدِ، وَالْبُعْدُ هُنَا بُعْدٌ مَجَازِيٌّ بِمَعْنَى الرِّفْعَةِ وَالنَّفَاسَةِ.
وَالْمَتَاعُ مُؤْذِنٌ بِالْقِلَّةِ وَهُوَ مَا يُسْتَمْتَعُ بِهِ مُدَّةً.
وَمَعْنَى وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ أَنَّ ثَوَابَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ. وَالْمَآبُ: الْمَرْجِعُ، وَهُوَ هُنَا مَصْدَرٌ، مَفْعَلٌ من آب يؤوب، وَأَصْلُهُ مَأْوَبٌ نُقِلَتْ حَرَكَةُ الْوَاوِ إِلَى الْهَمْزَةِ، وَقُلِبَتِ الْوَاوُ أَلِفًا، وَالْمُرَادُ بِهِ الْعَاقِبَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.
[١٥- ١٧]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ١٥ إِلَى ١٧]
قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (١٥) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٦) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (١٧)
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، فَإِنَّهُ نَشَأَ عَنْ قَوْلِهِ: زُيِّنَ لِلنَّاسِ [آل عمرَان: ١٤] الْمُقْتَضِي أَنَّ الْكَلَامَ مَسُوقٌ مَسَاقَ الْغَضِّ مِنْ هَذِهِ الشَّهَوَاتِ. وَافْتَتَحَ الِاسْتِئْنَافَ بِكَلِمَةِ قُلْ لِلِاهْتِمَامِ بالمقول، والمخاطب بقل
فِي ذَلِكَ كُلِّهِ هُوَ اللَّهُ، فَهُوَ يَرِثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، أَيْ يَسْتَمِرُّ مُلْكُهُ عَلَيْهِمَا بَعْدَ زَوَالِ الْبَشَرِ كُلِّهِمُ الْمُنْتَفِعِينَ بِبَعْضِ ذَلِكَ، وَهُوَ يَمْلِكُ مَا فِي ضمنهما تَبَعًا لَهُمَا، وَهُوَ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُ النَّاسُ مِنْ بُخْلٍ وَصَدَقَةٍ، فَالْآيَةُ مَوْعِظَةٌ وَوَعِيدٌ وَوَعْدٌ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَازِمُ قَوْله: خَبِيرٌ.
[١٨١، ١٨٢]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ١٨١ إِلَى ١٨٢]
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ مَا قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (١٨١) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٨٢)
اسْتِئْنَافُ جُمْلَةِ لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ لِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ الْبُخْلِ لِأَنَّهُمْ قَالُوهُ فِي مَعْرِضِ دَفْعِ التَّرْغِيبِ فِي الصَّدَقَاتِ، وَالَّذِينَ قَالُوا ذَلِكَ هُمُ الْيَهُودُ، كَمَا هُوَ صَرِيحٌ آخِرَ الْآيَةِ فِي قَوْلِهِ: وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَقَائِلُ ذَلِكَ: قِيلَ هُوَ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ الْيَهُودِيُّ، حَبْرُ الْيَهُودِ، لَمَّا سَمِعَ قَوْلَهُ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [الْبَقَرَة: ٢٤٥] فَقَالَ حُيَيٌّ: إِنَّمَا يَسْتَقْرِضُ الْفَقِيرُ الْغَنِيَّ، وَقِيلَ: قَالَهُ فَنِحَاصُ بْنُ عَازُورَاءَ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ بِسَبَبِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَ أَبَا بَكْرٍ إِلَى يَهُودِ قَيْنُقَاعَ يَدْعُوهُمْ، فَأَتَى بَيْتَ الْمِدْرَاسِ فَوَجَدَ جَمَاعَةً مِنْهُمْ قَدِ اجْتَمَعُوا عَلَى فنحَاص حَبْرهمْ، فَدَعَاهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ فَنِحَاصُ: مَا بِنَا إِلَى اللَّهِ مِنْ حَاجَةٍ، وَإِنَّهُ إِلَيْنَا لَفَقِيرٌ وَلَوْ كَانَ غَنِيًّا لَمَا اسْتَقْرَضَنَا أَمْوَالَنَا كَمَا يَزْعُمُ صَاحِبُكُمْ، فَغَضِبَ أَبُو بَكْرٍ وَلَطَمَ فَنِحَاصَ وَهَمَّ بِقَتْلِهِ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. وَشَاعَ قَوْلُهُمَا فِي الْيَهُودِ.
وَقَوْلُهُ: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ تَهْدِيدٌ، وَهُوَ يُؤْذِنُ بِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ جَرَاءَةٌ عَظِيمَةٌ، وَإِنْ كَانَ الْقَصْدُ مِنْهَا التَّعْرِيضَ بِبُطْلَانِ كَلَامِ الْقُرْآنِ، لِأَنَّهُمْ أَتَوْا بِهَاتِهِ الْعِبَارَةِ بِدُونِ مُحَاشَاةٍ، وَلِأَنَّ الِاسْتِخْفَافَ بِالرَّسُولِ وَقُرْآنِهِ إِثْمٌ عَظِيمٌ وَكُفْرٌ عَلَى كُفْرٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ سَمِعَ الْمُسْتَعْمَلَ فِي لَازِمِ مَعْنَاهُ، وَهُوَ التَّهْدِيدُ عَلَى كَلَامٍ فَاحِشٍ، إِذْ قَدْ عَلِمَ أَهْلُ الْأَدْيَانِ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ
النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ صَيَّرَ الصَّلَاةَ ذَاتَ الْأَرْبَعِ الرَّكَعَاتِ ذَاتَ رَكْعَتَيْنِ. وَأَجْمَلَتِ الْآيَةُ فَلَمْ تُعَيِّنِ الصَّلَوَاتِ الَّتِي يَعْتَرِيهَا الْقَصْرُ، فَبَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ بِأَنَّهَا الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ وَالْعِشَاءُ. وَلَمْ تَقْصُرِ الصُّبْحَ لِأَنَّهَا تَصِيرُ رَكْعَةً وَاحِدَةً فَتَكُونُ غَيْرَ صَلَاةٍ، وَلَمْ تَقْصُرِ الْمَغْرِبَ لِئَلَّا تَصِيرَ شَفْعًا فَإِنَّهَا وِتْرُ النَّهَارِ، وَلِئَلَّا تَصِيرَ رَكْعَةً وَاحِدَةً كَمَا قُلْنَا فِي الصُّبْحِ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ أَشَارَتْ إِلَى قَصْرِ الصَّلَاةِ الرُّبَاعِيَّةِ فِي السَّفَرِ، وَيَظْهَرُ مِنْ أُسْلُوبِهَا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ قَصْرَ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ شُرِعَ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَقِيلَ: فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْ سَنَةِ اثْنَتَيْنِ، وَقِيلَ: بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا. وَقَدْ رَوَى أَهْلُ الصَّحِيحِ قَوْلَ عَائِشَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: فُرِضَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ وَزِيدَتْ صَلَاةُ الْحَضَرِ، وَهُوَ حَدِيثٌ بَيِّنٌ وَاضِحٌ. وَمَحْمَلُ الْآيَةِ عَلَى مُقْتَضَاهُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا فَرَضَ الصَّلَاةَ رَكْعَتَيْنِ فَتَقَرَّرَتْ كَذَلِكَ فَلَمَّا صَارَتِ الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ وَالْعِشَاءُ أَرْبَعًا نُسِخَ مَا كَانَ مِنْ عَدَدِهَا، وَكَانَ ذَلِكَ فِي مَبْدَأِ الْهِجْرَةِ، وَإِذْ قَدْ كَانَ أَمْرُ النَّاسِ مُقَامًا عَلَى حَالَةِ الْحَضَرِ وَهِيَ الْغَالِبُ عَلَيْهِمْ، بَطَلَ إِيقَاعُ الصَّلَوَاتِ الْمَذْكُورَاتِ رَكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا غَزَوْا خَفَّفَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَأَذِنَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا تِلْكَ الصَّلَوَاتِ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، فَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ وَقَالَ: أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ وَإِنَّمَا قَالَتْ عَائِشَةُ «أُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ» حَيْثُ لَمْ تَتَغَيَّرْ عَنِ الْحَالَةِ الْأُولَى، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يُصَلُّوهَا تَامَّةً فِي السَّفَرِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ قَوْلِهَا وَبَيْنَ الْآيَةِ.
وَقَوْلُهُ: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا شَرْطٌ دَلَّ عَلَى تَخْصِيصِ الْإِذْنِ بِالْقَصْرِ بِحَالِ الْخَوْفِ مِنْ تَمَكُّنِ الْمُشْرِكِينَ مِنْهُمْ وَإِبْطَالِهِمْ عَلَيْهِمْ صَلَاتَهُمْ، وَأَنَّ اللَّهَ أَذِنَ فِي الْقَصْرِ لِتَقَعَ الصَّلَاةُ عَنِ اطْمِئْنَانٍ، فَالْآيَةُ هَذِهِ خَاصَّةٌ بِقَصْرِ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْخَوْفِ، وَهُوَ الْقَصْرُ الَّذِي لَهُ هَيْئَةٌ خَاصَّةٌ فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، وَهَذَا رَأْيُ مَالِكٍ، يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا أَخْرَجَهُ فِي «الْمُوَطَّأِ» :
أَنَّ رَجُلًا مِنْ آلِ خَالِدِ بْنِ أُسَيْدٍ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ «إِنَّا نَجِدُ صَلَاةَ الْخَوْفِ وَصَلَاةَ الْحَضَرِ فِي الْقُرْآنِ وَلَا نَجِدُ صَلَاةَ السَّفَرِ»، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: «يَا ابْنَ أَخِي إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ إِلَيْنَا
مُحَمَّدًا وَلَا نَعْلَمُ شَيْئًا فَإِنَّمَا نَفْعَلُ كَمَا رَأَيْنَاهُ يَفْعَلُ»، يَعْنِي أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَقَرَّ السَّائِلَ وَأَشْعَرَهُ بِأَنَّ صَلَاةَ السَّفَرِ ثَبَتَتْ بِالسُّنَّةِ، وَكَذَلِكَ كَانَتْ تَرَى عَائِشَةُ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ خَاصَّةٌ بِالْخَوْفِ، فَكَانَا يُكْمِلَانِ الصَّلَاةَ فِي السَّفَرِ. وَهَذَا
وَصَاحِبُ «الْكَشَّافِ» جَعَلَهُ هُنَا بِمَعْنَى الْمَشْيِ، فَجَعَلَ فَساداً حَالًا أَوْ مَفْعُولًا لِأَجْلِهِ، وَلَقَدْ نَظَرَ إِلَى أَنَّ غَالِبَ عَمَلِ الْمُحَارِبِ هُوَ السَّعْيُ وَالتَّنَقُّلُ، وَيَكُونُ الْفِعْلُ مُنَزَّلًا مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ. وَجَوَّزَ أَنْ يَكُونَ سَعَى بِمَعْنَى أَفْسَدَ، فَجَعَلَ فَساداً مَفْعُولًا مُطْلَقًا. وَلَا يُعْرَفُ اسْتِعْمَالُ سَعَى بِمَعْنَى أَفْسَدَ.
وَالْفَسَادُ: إِتْلَافُ الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ، فَالْمُحَارِبُ يقتل الرجل لأحد مَا عَلَيْهِ مِنَ الثِّيَابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
ويُقَتَّلُوا مُبَالَغَةٌ فِي يُقْتَلُوا، كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
فِي أَعْشَارِ قَلْبٍ مُقَتَّلٍ قُصِدَ مِنَ الْمُبَالَغَةِ هُنَا إِيقَاعُهُ بِدُونِ لِينٍ وَلَا رِفْقٍ تَشْدِيدًا عَلَيْهِمْ، وَكَذَلِكَ الْوَجْهُ فِي قَوْلِهِ يُصَلَّبُوا.
وَالصَّلْبُ: وَضْعُ الْجَانِي الَّذِي يُرَادُ قَتْلُهُ مَشْدُودًا عَلَى خَشَبَةٍ ثُمَّ قَتْلُهُ عَلَيْهَا طَعْنًا بِالرُّمْحِ فِي مَوْضِعِ الْقَتْلِ. وَقِيلَ: الصَّلْبُ بَعْدَ الْقَتْلِ. وَالْأَوَّلُ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالثَّانِي مَذْهَبُ أَشْهَبَ وَالشَّافِعِيِّ.
ومِنْ فِي قَوْلِهِ مِنْ خِلافٍ ابْتِدَائِيَّةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ، فَهِيَ قَيْدٌ لِلْقَطْعِ، أَيْ أنّ الْقطع يبتدىء فِي حَالِ التَّخَالُفِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمَقْطُوعَ هُوَ الْعُضْوُ الْمُخَالِفُ فَتَعَيَّنَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَقْطُوعٍ آخَرَ وَإِلَّا لَمْ تُتَصَوَّرِ الْمُخَالَفَةُ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عُضْوٌ مَقْطُوعٌ سَابِقٌ فَقَدْ تَعَذَّرَ التَّخَالُفُ فَيَكُونُ الْقَطْعُ لِلْعُضْوِ الْأَوَّلِ آنِفًا ثُمَّ تَجْرِي الْمُخَالَفَةُ فِيمَا بَعْدُ. وَقَدْ عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ: مِنْ خِلافٍ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ مِنَ الْمُحَارِبِ إِلَّا يَدٌ وَاحِدَةٌ أَوْ رِجْلٌ وَاحِدَةٌ وَلَا يُقْطَعُ يَدَاهُ أَوْ رِجْلَاهُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يُتَصَوَّرْ مَعْنًى لِكَوْنِ الْقَطْعِ مِنْ خِلَافٍ. فَهَذَا التَّرْكِيبُ مِنْ بَدِيعِ الْإِيجَازِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ كَوْنَ الْقَطْعِ مِنْ خِلَافٍ تَيْسِيرٌ وَرَحْمَةٌ،
لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْكَنُ لحركة بَقِيَّة الْجهد بَعْدَ الْبُرْءِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَتَوَكَّأَ بِالْيَدِ الْبَاقِيَةِ عَلَى عُودٍ بِجِهَةِ الرِّجْلِ الْمَقْطُوعَةِ.
الْمَقَامُ. وَكَذَلِكَ النَّأْيُ عَنْهُ مَعْنَاهُ النَّأْيُ عَنِ اسْتِمَاعِهِ، أَيْ هُمْ يَنْهَوْنَ النَّاسَ عَنِ اسْتِمَاعِهِ وَيَتَبَاعَدُونَ عَنِ اسْتِمَاعِهِ. قَالَ النَّابِغَةُ:
لَقَدْ نَهَيْتُ بَنِي ذُبْيَانَ عَنْ أُقُرٍ | وَعَنْ تَرَبُّعِهِمْ فِي كُلِّ أَصْفَارِ |
وَبَيْنَ قَوْلِهِ: يَنْهَوْنَ- ويَنْأَوْنَ الْجِنَاسُ الْقَرِيبُ مِنَ التَّمَامِ.
وَالْقَصْرُ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ يُفِيدُ قَلْبَ اعْتِقَادِهِمْ لِأَنَّهُمْ يَظُنُّونَ بِالنَّهْيِ وَالنَّأْيِ عَنِ الْقُرْآنِ أَنَّهُمْ يَضُرُّونَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِئَلَّا يَتَّبِعُوهُ وَلَا يَتَّبِعَهُ النَّاسُ، وَهُمْ إِنَّمَا يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ بِدَوَامِهِمْ عَلَى الضَّلَالِ وَبِتَضْلِيلِ النَّاسِ، فَيَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ وَأَوْزَارَ النَّاسِ، وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَأَنَّ مَا أَرَادُوا بِهِ نِكَايَتَهُ
إِنَّمَا يَضُرُّونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ.
وَأَصْلُ الْهَلَاكِ الْمَوْتُ. وَيُطْلَقُ عَلَى الْمَضَرَّةِ الشَّدِيدَةِ لِأَنَّ الشَّائِعَ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّ الْمَوْتَ أَشَدُّ الضُّرِّ. فَالْمُرَادُ بِالْهَلَاكِ هُنَا مَا يَلْقَوْنَهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْقَتْلِ وَالْمَذَلَّةِ عِنْدَ نَصْرِ الْإِسْلَامِ وَفِي الْآخِرَةِ مِنَ الْعَذَابِ.
وَالنَّأْيُ: الْبُعْدُ. وَهُوَ قَاصِرٌ لَا يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ إِلَّا بِحَرْفِ جَرٍّ، وَمَا وَرَدَ مُتَعَدِّيًا بِنَفْسِهِ فَذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الْحَذْفِ وَالْإِيصَالِ فِي الضَّرُورَةِ.
وَعَقَّبَ قَوْلَهُ: وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ بِقَوْلِهِ: وَما يَشْعُرُونَ زِيَادَةً فِي تَحْقِيقِ الْخَطَأِ فِي اعْتِقَادِهِمْ، وَإِظْهَارًا لِضَعْفِ عُقُولِهِمْ مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعُدُّونَ أَنْفُسَهُمْ قَادَةً لِلنَّاسِ، وَلِذَلِكَ فَالْوَجْهُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَما يَشْعُرُونَ لِلْعَطْفِ لَا لِلْحَالِ لِيُفِيدَ ذَلِكَ كَوْنَ مَا بَعْدَهَا مَقْصُودًا بِهِ الْإِخْبَارُ الْمُسْتَقِلُّ لِأَنَّ النَّاسَ يَعُدُّونَهُمْ أعظم عقلائهم.
[٢٧، ٢٨]
[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : الْآيَات ٢٧ إِلَى ٢٨]
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يَا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧) بَلْ بَدا لَهُمْ مَا كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ إِذْ يُنَاسِبُهُ مَعْنَى الْمُتَعَدِّي لِأَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى إِعْرَاضِهِمْ وَعَلَى صَدِّهِمُ النَّاسَ عَنِ الْآيَاتِ، فَإِنَّ تَكْذِيبَهُمْ بِالْآيَاتِ يَتَضَمَّنُ إِعْرَاضَهُمْ عَنْهَا فَنَاسَبَ أَنْ يَكُونَ صَدْفُهُمْ هُوَ صَرْفُهُمُ النَّاسَ.
وسُوءَ الْعَذابِ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ، وَسُوءُهُ أَشَدُّهُ وَأَقْوَاهُ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ [النَّحْل: ٨٨]. فَقَوْلُهُ: عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ هُوَ مُضَاعَفَةُ الْعَذَابِ، أَيْ شِدَّتُهُ.
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ عَذَابُ الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ وَالذُّلِّ، وَعَذَابُ الْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ جَزَاءَهُمْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُكَذِّبُوا تَكْذِيبًا عَنْ دَعْوَةٍ مُجَرَّدَةٍ، بَلْ كَذَّبُوا بَعْدَ أَنْ جَاءَتْهُمُ الْآيَات البيّنات.
و (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ: أَيْ بِصَدْفِهِمْ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْآيَاتِ إِعْرَاضًا مُسْتَمِرًّا لَمْ يدعوا راغبه فَكَانَ هُنَا مُفِيدَةٌ لِلِاسْتِمْرَارِ مِثْلُ: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [النِّسَاء: ٩٦].
[١٥٨]
[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : آيَة ١٥٨]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٥٨)
اسْتِئْنَافٌ بياني نَشأ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ [الْأَنْعَام: ١٥٧] الْآيَةَ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ الْوَعِيدَ وَيَحْتَمِلُ التَّهَكُّمَ، كَمَا سَيَأْتِي. فَإِنْ كَانَ هَذَا وَعِيدًا وتهديدا فَهُوَ ناشىء
عَنْ جُمْلَةِ: سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا [الْأَنْعَام: ١٥٧] لِإِثَارَتِهِ سُؤَالَ سَائِلٍ يَقُولُ:
مَتَى يَكُونُ جَزَاؤُهُمْ، وَإِنْ كَانَ تَهَكُّمًا بِهِمْ عَلَى صَدْفِهِمْ عَنِ الْآيَاتِ الَّتِي جَاءَتْهُمْ، وَتَطَلُّعِهِمْ إِلَى آيَاتٍ أَعْظَمَ مِنْهَا فِي اعْتِقَادهم، فَهُوَ ناشىء عَنْ جُمْلَةِ:
رُوعِيَ قَوْلُهُ: أَقَلَّتْ سَحاباً أَيْ:
سُقْنَاهُ بِتِلْكَ الرِّيحِ إِلَى بَلَدٍ، فَيَكُونُ تَمْثِيلًا لِحَالَةِ دَفْعِ الرِّيحِ السَّحَابَ بِحَالَةِ سَوْقِ السَّائِقِ
الدَّابَّةَ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِبَلَدٍ لَامُ الْعِلَّةِ، أَيْ لِأَجْلِ بَلَدٍ مَيِّتٍ، وَفِي هَذِهِ اللَّامِ دَلَالَةٌ عَلَى الْعِنَايَةِ الرَّبَّانِيَّةِ بِذَلِكَ الْبَلَدِ فَلِذَلِكَ عَدَلَ عَنْ تَعْدِيَةِ (سُقْنَاهُ) بِحَرْفِ (إِلَى).
وَالْبَلَدُ: السَّاحَةُ الْوَاسِعَةُ مِنَ الْأَرْضِ.
وَالْمَيِّتُ: مَجَازٌ أُطْلِقَ عَلَى الْجَانِبِ الَّذِي انْعَدَمَ مِنْهُ النَّبَاتُ، وَإِسْنَادُ الْمَوْتِ الْمَجَازِيِّ إِلَى الْبَلَدِ هُوَ أَيْضًا مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، لِأَنَّ الْمَيِّتَ إِنَّمَا هُوَ نَبَاتُهُ وَثَمَرُهُ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ التَّشْبِيهُ فِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى.
وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِالْبَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَأَخْرَجْنا بِهِ يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْبَلَدِ، فَيَكُونُ الْبَاءُ بِمَعْنَى (فِي) وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْمَاءِ فَيَكُونُ الْبَاءُ لِلْآلَةِ.
وَالِاسْتِغْرَاقُ فِي كُلِّ الثَّمَراتِ اسْتِغْرَاقٌ حَقِيقِيٌّ، لِأَنَّ الْبَلَدَ الْمَيِّتَ لَيْسَ مُعَيَّنًا بَلْ يَشْمَلُ كُلَّ بَلَدٍ مَيِّتٍ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْمَطَرُ، فَيَحْصُلُ مِنْ جَمِيعِ أَفْرَادِ الْبَلَدِ الْمَيِّتِ جَمِيعُ الثَّمَرَاتِ قَدْ أَخْرَجَهَا اللَّهُ بِوَاسِطَةِ الْمَاءِ، وَالْبَلَدُ الْوَاحِدُ يُخْرِجُ ثَمَرَاتِهِ الْمُعْتَادَةَ فِيهِ، فَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى ذَلِكَ الْبَلَدِ خَاصَّةً فَاجْعَلِ اسْتِغْرَاقَ كُلِّ الثَّمَرَاتِ اسْتِغْرَاقًا عُرْفِيًّا، أَيْ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ الْمَعْرُوفَةِ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ وَحَرْفُ (مِنْ) لِلتَّبْعِيضِ.
وَجُمْلَةُ: كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى مُعْتَرِضَةٌ اسْتِطْرَادًا لِلْمَوْعِظَةِ وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى تَقْرِيبِ الْبَعْثِ الَّذِي يَسْتَبْعِدُونَهُ، وَالْإِشَارَةُ بِ (كَذَلِكَ) إِلَى الْإِخْرَاجِ الْمُتَضَمِّنِ لَهُ فِعْلُ فَأَخْرَجْنا بِاعْتِبَارِ مَا قَبْلَهُ مِنْ كَوْنِ الْبَلَدِ مَيِّتًا، ثُمَّ إِحْيَائِهِ أَيْ إِحْيَاءِ مَا فِيهِ مِنْ أَثَرِ الزَّرْعِ وَالثَّمَرِ، فَوَجْهُ الشَّبَهِ هُوَ إِحْيَاءٌ بَعْدَ مَوْتٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ لِذَلِكَ الْإِحْيَاءِ كَيْفِيَّةً قَدَّرَهَا اللَّهُ وَأَجْمَلَ ذِكْرَهَا لِقُصُورِ الْإِفْهَامِ عَنْ تَصَوُّرِهَا.
وَجُمْلَةُ: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ مستأنفة، والرّجاء ناشىء عَنِ الْجُمَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ قَوْلِهِ:
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ لِأَنَّ
يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الِاسْتِعَارَةُ فِي ذَرَأْنا وَهُوَ تَكَلُّفٌ رَاعَى بِهِ قَوَاعِدَ الِاعْتِزَالِ فِي خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَفِي نِسْبَةِ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى الْمَفْعُولِ فِي قَوْلِهِ: لِجَهَنَّمَ كَثِيراً لِيَظْهَرَ تَعَلُّقُهُ بِ ذَرَأْنا.
وَمَعْنَى خَلْقِ الْكَثِيرِ لِأَعْمَالِ الشَّرِّ الْمُفْضِيَةِ إِلَى النَّارِ: أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ كَثِيرًا فَجَعَلَ فِي نُفُوسِهِمْ قُوًى مِنْ شَأْنِهَا إِفْسَادُ مَا أَوْدَعَهُ فِي النَّاسِ مِنِ اسْتِقَامَةِ الْفِطْرَةِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [الْأَعْرَاف: ١٧٢] وَهِيَ قُوَى الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ فَخَلْقُهَا أَشَدُّ سُلْطَانًا عَلَى نُفُوسِهِمْ مِنَ الْقُوَّةِ الْفِطْرِيَّةِ الْمُسَمَّاةِ الْحِكْمَةَ، فَجُعِلَتِ الشَّهْوَةُ وَالْغَضَبُ الْمُسَمَّيْنَ بِالْهَوَى تَغْلِبُ قُوَّةَ الْفِطْرَةِ، وَهِيَ الْحِكْمَةُ وَالرَّشَادُ، فَتُرَجِّحُ نُفُوسُهُمْ دَوَاعِي الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ فَتَتْبَعُهَا وَتُعْرِضُ عَنِ الْفِطْرَةِ، فَدَلَائِلُ الْحَقِّ قَائِمَةٌ فِي نُفُوسِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ يَنْصَرِفُونَ عَنْهَا لِغَلَبَةِ الْهَوَى عَلَيْهِمْ فَبِحَسَبِ خِلْقَةِ نُفُوسِهِمْ غَيْرَ ذَاتِ عَزِيمَةٍ عَلَى مُقَاوَمَةِ الشَّهَوَاتِ: جُعِلُوا كَأَنَّهُمْ خُلِقُوا لِجَهَنَّمَ، وَكَأَنَّهُمْ لَمْ تَخْلُقْ فِيهِمْ دَوَاعِي الْحَقِّ فِي الْفِطْرَةِ.
وَالْجِنُّ خَلْقٌ غَيْرُ مَرْئِيٍّ لَنَا، وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ أَنَّهُمْ عُقَلَاءُ، وَأَنَّهُمْ مَطْبُوعُونَ عَلَى مَا خُلِقُوا لِأَجْلِهِ مِنْ نَفْعٍ أَوْ ضُرٍّ، وَخَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَمِنْهُمُ الشَّيَاطِينُ، وَهَذَا الْخَلْقُ لَا قِبَلَ لَنَا بِتَفْصِيلِ نِظَامِهِ وَلَا كَيْفِيَّاتِ تَلَقِّيهِ لِمُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُ.
وَقَوْلُهُ: لَهُمْ قُلُوبٌ حَالٌ أَوْ صِفَةٌ لِخُصُوصِ الْإِنْسِ، لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ لَهُمْ: قُلُوبٌ،
وَعُقُولٌ، وَعُيُونٌ وَآذَانٌ، وَلَمْ يُعْرَفْ لِلْجِنِّ مِثْلُ ذَلِكَ، وَقَدْ قَدَّمَ الْجِنَّ عَلَى الْإِنْسِ فِي الذِّكْرِ، لِيَتَعَيَّنَ كَوْنُ الصِّفَاتِ الْوَارِدَةِ مِنْ بَعْدُ صِفَاتٍ لِلْإِنْسِ وَبِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ.
والقلوب اسْمٌ لِمَوْقِعِ الْعُقُولِ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٧].
وَالْفِقْهُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٦٥].
وَمَعْنَى نَفْيِ الْفِقْهِ وَالْإِبْصَارِ والسمع عَن آلالتها الْكَائِنَةِ فِيهِمْ أَنَّهُمْ عَطَّلُوا أَعْمَالَهَا بِتَرْكِ اسْتِعْمَالِهَا فِي أَهَمِّ مَا تَصْلُحُ لَهُ: وَهُوَ مَعْرِفَةُ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْخَيْرُ الْأَبَدِيُّ،
مَظَاهِرُ بِحَسَبِ سِمَتِهِ مِنَ الْأَرْضِ وَانْطِبَاعِ ضَوْءِ الشَّمْسِ عَلَى الْمِقْدَارِ الْبَادِي مِنْهُ لِلْأَرْضِ. وَلِأَنَّ الْمَنَازِلَ الَّتِي يَحِلُّ فِيهَا بِعَدَدِ لَيَالِي الشَّهْرِ هِيَ مَنَازِلُ فَرْضِيَّةٌ بِمَرْأَى الْعَيْنِ عَلَى حَسَبِ مُسَامَتَتِهِ الْأَرْضَ مِنْ نَاحِيَةِ إِحْدَى تِلْكَ الْكُتَلِ مِنَ الْكَوَاكِبِ، الَّتِي تَبْدُو لِلْعَيْنِ مُجْتَمِعَةً، وَهِيَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَهَا أَبْعَادٌ مُتَفَاوِتَةٌ لَا تَآلُفَ بَيْنَهَا وَلَا اجْتِمَاعَ، وَلِأَنَّ طُلُوعَ الْهِلَالِ فِي مِثْلِ الْوَقْتِ الَّذِي طَلَعَ فِيهِ قَبْلَ أَحَدَ عَشَرَ طُلُوعًا مِنْ أَيِّ وَقْتٍ ابْتُدِئَ مِنْهُ الْعَدُّ مِنْ أَوْقَاتِ الْفُصُولِ، إِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ أَحْوَالٍ أَرْضِيَّةٍ.
فَلَا جَرَمَ كَانَ نِظَامُ الْأَشْهُرِ الْقَمَرِيَّةِ وَسَنَتِهَا حَاصِلًا مِنْ مَجْمُوعِ نِظَامِ خَلْقِ الْأَرْضِ وَخَلْقِ السَّمَاوَاتِ، أَيِ الْأَجْرَامِ السَّمَاوِيَّةِ وَأَحْوَالِهَا فِي أَفْلَاكِهَا، وَلِذَلِكَ ذُكِرَتِ الْأَرْضُ
وَالسَّمَاوَاتُ مَعًا.
وَهَذِهِ الْأَشْهَرُ مَعْلُومَةٌ بِأَسْمَائِهَا عِنْدَ الْعَرَبِ، وَقَدِ اصْطَلَحُوا عَلَى أَنْ جَعَلُوا ابْتِدَاءَ حِسَابِهَا بَعْدَ مَوْسِمِ الْحَجِّ، فَمَبْدَأُ السُّنَّةِ عِنْدَهُمْ هُوَ ظُهُورُ الْهِلَالِ الَّذِي بَعْدَ انْتِهَاءِ الْحَجِّ وَذَلِكَ هِلَالُ الْمُحَرَّمِ، فَلِذَلِكَ كَانَ أَوَّلَ السَّنَةِ الْعَرَبِيَّةِ شَهْرُ الْمُحَرَّمِ بِلَا شَكٍّ، أَلَا تَرَى قَوْلَ لَبِيَدٍ:
حَتَّى إِذَا سَلَخَا جُمَادَى سِتَّةً | جَزْءًا فَطَالَ صِيَامُهُ وَصِيَامُهَا |
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ اثْنا عَشَرَ بِفَتْحِ شِينِ عَشَرَ وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ اثْنا عَشَرَ بِسُكُونِ عَيْنِ عَشَرَ مَعَ مَدِّ أَلِفِ اثْنَا مُشْبَعًا.
وَالْأَرْبَعَةُ الْحُرُمُ هِيَ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَهُمْ: ثَلَاثَةٌ مِنْهَا مُتَوَالِيَةٌ لَا اخْتِلَافَ فِيهَا بَيْنَ الْعَرَبِ وَهِيَ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ، وَالرَّابِعُ فَرْدٌ وَهُوَ رَجَبٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعَرَبِ، إِلَّا رَبِيعَةَ فَهُمْ يَجْعَلُونَ الرَّابِعَ رَمَضَانَ وَيُسَمُّونَهُ رَجَبًا، وَأَحْسَبُ أَنَّهُمْ يَصِفُونَهُ بِالثَّانِي مِثْلَ رَبِيعٍ وَجُمَادَى، وَلَا اعْتِدَادَ بِهَؤُلَاءِ لِأَنَّهُمْ شَذُّوا كَمَا لَمْ يُعْتَدَّ بِالْقَبِيلَةِ الَّتِي كَانَتْ تُحِلُّ أَشْهُرَ السَّنَةِ كُلِّهَا، وَهِيَ قُضَاعَةُ. وَقَدْ بَيَّنَ إِجْمَالَ هَذِه الْآيَة ا
لنَبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِقَوْلِهِ: مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ «ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ»
وَجُمْلَةُ: يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي نَحْشُرُهُمْ.
وَالتَّعَارُفُ: تَفَاعُلٌ مِنْ عَرَفَ، أَيْ يَعْرِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ مَنْ كَانَ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا وَيَعْرِفُهُ الْآخَرُ كَذَلِكَ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْحَالِ كَالْمَقْصُودِ مَنْ ذِكْرِ حَالَةِ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ لِتَصْوِيرِ أَنَّهُمْ حُشِرُوا عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا فِي أَجْسَامِهِمْ وَإِدْرَاكِهِمْ زِيَادَةً فِي بَيَانِ إِبْطَالِ إِحَالَتِهِمُ الْبَعْثَ بِشُبْهَةِ أَنَّهُ يُنَافِي تَمَزُّقَ الْأَجْسَامِ فِي الْقُبُورِ وَانْطِفَاءَ الْعُقُولِ بِالْمَوْتِ.
فَظَهَرَ خُسْرَانُهُمْ يَوْمَئِذٍ بِأَنَّهُمْ نَفَوُا الْبَعْثَ فَلَمْ يَسْتَعِدُّوا لِيَوْمِهِ بِقَبُولِ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
[٤٦]
[سُورَة يُونُس (١٠) : آيَة ٤٦]
وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا يَفْعَلُونَ (٤٦)
كَانَ ذِكْرُ تَكْذِيبِهِمُ الَّذِي جَاءَ فِي صَدْرِ السُّورَةِ بِقَوْلِهِ: قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هَذَا لسحر مُبين [يُونُس: ٢]، ثُمَّ الْوَعِيدِ عَلَيْهِ بِعَذَابٍ يَحُلُّ بِهِمْ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِالْوَعِيدِ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ إِلَى قَوْلِهِ: لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [يُونُس: ١١- ١٤] مُنْذِرًا
بِتَرَقُّبِ عَذَابٍ يَحُلُّ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا كَمَا حَلَّ بِالْقُرُونِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَكَانَ مَعْلُومًا مِنْ خُلُقِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْفَتُهُ بِالنَّاسِ وَرَغْبَتُهُ أَنْ يَتِمَّ هَذَا الدِّينُ وَأَنْ يَهْتَدِيَ جَمِيعُ الْمَدْعُوِّينَ إِلَيْهِ، فَرُبَّمَا كَانَ النَّبِيءُ يَحْذَرُ أَنْ يَنْزِلَ بِهِمْ عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ فَيَفُوتَ اهْتِدَاؤُهُمْ. وَكَانَ قَوْلُهُ: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [يُونُس: ١١] تَصْرِيحًا بِإِمْكَانِ اسْتِبْقَائِهِمْ وَإِيمَاءً إِلَى إِمْهَالِهِمْ. جَاءَ هَذَا الْكَلَامُ بَيَانًا لِذَلِكَ وَإِنْذَارًا بِأَنَّهُمْ إِنْ أُمْهِلُوا فَأُبْقِيَ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مُفْلِتِينَ مِنَ الْمَصِيرِ إِلَى عِقَابِ الْآخِرَةِ حِينَ يَرْجِعُونَ إِلَى تَصَرُّفِ اللَّهِ دُونَ حَائِلٍ.
يَكُونَ تَفْرِيعًا عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ [هود: ١١٢] وَالْآيَةُ تَفْرِيعٌ عَلَى الْأَمْرِ بِالِاسْتِقَامَةِ وَالنَّهْيِ عَنِ الطُّغْيَانِ وَعَنِ الرُّكُونِ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا، إِذِ الْمَعْنَى: وَلَا تَكُونُوا كَالْأُمَمِ مِنْ قَبِلِكُمْ إِذْ عَدِمُوا مَنْ يَنْهَاهُمْ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ تَكْذِيبِ الرُّسُلِ فَأَسْرَفُوا فِي غَلْوَائِهِمْ حَتَّى حَلَّ عَلَيْهِمْ غَضَبُ اللَّهِ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ، فَإِنْ تَرَكْتُمْ مَا أُمِرْتُمْ بِهِ كَانَ حَالُكُمْ كَحَالِهِمْ، وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى أُتِيَ بِفَاءِ التَّفْرِيعِ لِأَنَّهُ فِي مَوْقِعِ التَّفْصِيلِ وَالتَّعْلِيلِ لِجُمْلَةِ فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ [هود: ١١٢] وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا كَأَنَّهُ قِيلَ: وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّينَهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ فَلَوْلَا كَانَ مِنْهُمْ بَقِيَّةٌ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَى آخِرِهِ، أَيْ فَاحْذَرُوا أَنْ تَكُونُوا كَمَا كَانُوا فَيُصِيبُكُمْ مَا أَصَابَهُمْ، وَكُونُوا مُسْتَقِيمِينَ وَلَا تَطْغَوْا وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الظَّالِمِينَ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ، فَغَيَّرَ نَظْمَ الْكَلَامِ إِلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ الَّذِي فِي الْآيَةِ لِتَفَنُّنِ فَوَائِدِهِ وَدَقَائِقِهِ وَاسْتِقْلَالِ أَغْرَاضِهِ مَعَ كَونهَا آئلة إِلَى غَرَضٍ يُعَمِّمُهَا. وَهَذَا مِنْ أَبْدَعِ أَسَالِيبِ الْإِعْجَازِ الَّذِي هُوَ كَرَدِّ الْعَجْزِ عَلَى الصَّدْرِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ وَلَا ظُهُورِ قَصْدٍ.
وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا الْمَعْنى
قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَأَتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلَافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ»
. وَ (لَوْلَا) حَرْفُ تَحْضِيضٍ بِمَعْنَى (هَلَّا). وَتَحْضِيضُ الْفَائِتِ لَا يُقْصَدُ مِنْهُ إِلَّا تَحْذِيرُ غَيْرِهِ مِنْ أَنْ يَقَعَ فِيمَا وَقَعُوا فِيهِ وَالْعِبْرَةُ بِمَا أَصَابَهُمْ.
وَالْقُرُونُ: الْأُمَمُ. وَتَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْأَنْعَامِ.
وَالْبَقِيَّةُ: الْفَضْلُ وَالْخَيْرُ. وَأُطْلِقَ عَلَى الْفَضْلِ الْبَقِيَّةُ كِنَايَةً غَلَبَتْ فَسَارَتْ مَسْرَى الْأَمْثَالِ لِأَنَّ شَأْنَ الشَّيْءِ النَّفِيسِ أَنَّ صَاحِبَهُ لَا يُفَرِّطُ فِيهِ.
وَبَقِيَّةُ النَّاسِ: سَادَتُهُمْ وَأَهْلُ الْفَضْلِ مِنْهُمْ، قَالَ رُوَيْشِدُ بْنُ كَثِيرٍ الطَّائِيُّ:
إِنْ تُذْنِبُوا ثُمَّ تَأْتِينِي بَقِيَّتُكُمْ | فَمَا عَلَيَّ بِذَنْبٍ مِنْكُمْ فَوْتُ |
إِنَّ السَّفَاهَةَ طَاهَا مِنْ شَمَائِلِكُمْ | لَا بَارَكَ اللَّهُ فِي الْقَوْمِ الْمَلَاعِينِ |
وَقِيلَ: هِيَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَعْنَى الْقَسَمِ.
وَرُوِيَتْ فِي ذَلِكَ آثَارٌ وَأَخْبَارٌ ذَكَرَ بَعْضَهَا عِيَاضٌ فِي «الشِّفَاءِ». وَيَجْرِي فِيهَا قَوْلُ مَنْ جَعَلَ جَمِيعَ هَذِهِ الْحُرُوفِ مُتَّحِدَةً فِي الْمَقْصُودِ مِنْهَا. كَقَوْلِ مَنْ قَالَ: هِيَ أَسْمَاءٌ لِلسُّوَرِ الْوَاقِعَةِ فِيهَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَإِنَّمَا غَرَّهُمْ بِذَلِكَ تَشَابُهٌ فِي النُّطْقِ فَلَا نُطِيلُ بِرَدِّهَا. وَكَذَلِكَ لَا الْتِفَاتَ إِلَى قَوْلِ مَنْ زَعَمُوا أَنَّهُ مِنْ أَسمَاء النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
إِلَى آخِرِهِ. فَرِوَايَةُ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ أَثْبَتُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ جُدْعَانَ عَنِ الْحَسَنِ، لِأَنَّ ابْنَ جُدْعَانَ وَاسْمُهُ عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ قَالَ فِيهِ أَحْمَدُ وَأَبُو زُرْعَةَ: لَيْسَ بِالْقَوِيِّ.
وَقَالَ فِيهِ ابْنُ خُزَيْمَةَ: سَيِّءُ الْحِفْظِ، وَقَدْ كَانَ اخْتَلَطَ فَيَنْبَغِي عَدَمُ اعْتِمَادِ مَا انْفَرَدَ بِهِ مِنَ الزِّيَادَةِ. وَرَوَى ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: أُنْزِلَ أَوَّلُ هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ فِي سَفَرٍ، وَلَمْ يُسْنِدْهُ ابْنُ عَطِيَّةَ.
وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الْغَزْنَوِيِّ أَنَّهُ قَالَ: سُورَةُ الْحَجِّ مِنْ أَعَاجِيبِ السُّوَرِ نَزَلَتْ لَيْلًا
وَنَهَارًا، سَفَرًا وَحَضَرًا، مَكِّيًّا وَمَدَنِيًّا، سِلْمِيًّا وَحَرْبِيًّا، نَاسِخًا وَمَنْسُوخًا، مُحْكَمًا وَمُتَشَابِهًا.
وَقَدْ عُدَّتِ السُّورَةَ الْخَامِسَةَ وَالْمِائَةَ فِي عِدَادِ نُزُولِ سُوَرِ الْقُرْآنِ فِي رِوَايَةِ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ النُّورِ وَقَبْلَ سُورَةِ الْمُنَافِقِينَ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهَا عِنْدَهُ مَدَنِيَّةٌ كُلُّهَا لِأَنَّ سُورَةَ النُّورِ وَسُورَةَ الْمُنَافِقِينَ مَدَنِيَّتَانِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُتَوَقَّفَ فِي اعْتِمَادِ هَذَا فِيهَا.
وَعُدَّتْ آيَاتُهَا عِنْدَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ: سَبْعًا وَسَبْعِينَ. وَعَدَّهَا أَهْلُ الشَّامِ: أَرْبَعًا وَسَبْعِينَ. وَعَدَّهَا أَهْلُ الْبَصْرَةِ: خَمْسًا وَسَبْعِينَ. وَعَدَّهَا أَهْلُ الْكُوفَةِ: ثَمَانًا وَسَبْعِينَ.
وَمِنْ أَغْرَاضِ هَذِهِ السُّورَةِ:
- خِطَابُ النَّاسِ بِأَمْرِهِمْ أَنْ يَتَّقُوا اللَّهَ وَيَخْشَوْا يَوْمَ الْجَزَاءِ وَأَهْوَالَهُ.
- وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى نَفْيِ الشِّرْكِ وَخِطَابِ الْمُشْرِكِينَ بِأَنْ يُقْلِعُوا عَنِ الْمُكَابَرَةِ فِي الِاعْتِرَافِ بِانْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ وَعَنِ الْمُجَادَلَةِ فِي ذَلِكَ اتِّبَاعًا لِوَسَاوِسِ الشَّيَاطِينِ، وَأَنَّ الشَّيَاطِينَ لَا تُغْنِي عَنْهُمْ شَيْئًا وَلَا يَنْصُرُونَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ.
فَمُقْتَضَى الشَّرْطِ أَنَّهُ يَكُونُ كَافِرًا وَبِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: قَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ (١) :«سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: مَنْ سَبَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ أُدِّبَ، وَمَنْ سَبَّ عَائِشَةَ قُتِلَ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَمَنْ سَبٍّ عَائِشَةَ فَقَدْ خَالَفَ الْقُرْآنَ وَمَنْ خَالَفَ الْقُرْآنَ قُتِلَ» اهـ. يُرِيدُ بِالْمُخَالَفَةِ إِنْكَارَ مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ نَصًّا وَهُوَ يَرَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَوْدِ لِمِثْلِهِ فِي قَضِيَّةِ الْإِفْكِ لِأَنَّ اللَّهَ بَرَّأَهَا بِنُصُوصٍ لَا تَقْبَلُ التَّأْوِيلَ، وَتَوَاتَرَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ عَائِشَةَ. وَذَكَرَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ عَنِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِكُفْرٍ. وَأَمَّا السَّبُّ بِغَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ مُسَاوٍ لِسَبِّ غَيْرِهَا مِنْ أَصْحَاب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ أَيْ يَجْعَلُهَا لَكُمْ وَاضِحَةَ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَقْصُودِ وَالْآيَاتُ:
آيَاتُ الْقُرْآنِ النَّازِلَةُ فِي عُقُوبَةِ الْقَذْفِ وَمَوْعِظَةِ الْغَافِلِينَ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ.
وَمُنَاسَبَةُ التَّذْكِيرِ بِصِفَتَيِ الْعِلْمِ وَالْحكمَة ظَاهِرَة.
[١٩]
[سُورَة النُّور (٢٤) : آيَة ١٩]
إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ
_________
(١) هِشَام بن عمار السّلمِيّ الدِّمَشْقِي الْحَافِظ الْمُقْرِئ الْخَطِيب. سمع مَالِكًا وخالقا. وَثَّقَهُ ابْن معِين.
توفّي سنة/ ٢٤٥/ هـ. وعاش اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين سنة. لم يترجمه عِيَاض فِي «الْمُسْتَدْرك» وَلَا ابْن فَرِحُونَ فِي «الديباج»، فَالظَّاهِر أَنه لم يكن من أَتبَاع مَالك. وَقد ذكره الذَّهَبِيّ فِي «الكاشف» والمزي فِي «تَهْذِيب الْكَمَال».
بِاللَّامِ. وَعَنِ الزَّجَّاجِ: جَاءَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ اسْمَ الْمَدِينَةِ الَّتِي أُرْسِلَ إِلَيْهَا شُعَيْبٌ كَانَ لَيْكَةَ. وَعَنْ أَبِي عُبَيْدٍ: وَجَدْنَا فِي بَعْضِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ أَنَّ لَيْكَةَ اسْمُ الْقَرْيَةِ وَالْأَيْكَةُ الْبِلَادُ كُلُّهَا كَمَكَّةَ وَبَكَّةَ.
وَهَذَا مِنَ التَّغْيِيرِ لِأَجْلِ التَّسْمِيَةِ، كَمَا سَمَّوْا شُمْسًا بِضَمِّ الشِّينِ لِيَكُونَ عَلَمًا وَأَصْلُهُ الشَّمْسُ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ. وَالتَّغْيِيرُ لِأَجْلِ النَّقْلِ إِلَى الْعِلْمِيَّةِ وَارِدٌ بِكَثْرَةٍ، ذَكَرَهُ ابْنُ جِنِّيٍّ فِي «شَرْحِ مُشْكِلِ الْحَمَاسَةِ» عِنْدَ قَوْلِ تَأَبَّطَ شَرًّا:
إِنِّي لَمُهْدٍ مِنْ ثَنَائِي فَقَاصِدٌ | بِهِ لِابْنِ عَمِّ الصِّدْقِ شَمْسِ بْنِ مَالِكٍ |
وَلَيْسَ ذَلِكَ لِمُجَرَّدِ نَقْلِ حَرَكَةِ الْهَمْزَةِ عَلَى اللَّامِ كَمَا تَوَهَّمَهُ النَّحَّاسُ، وَلَا لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ اغْتِرَارٌ بِخَطِّ الْمُصْحَفِ كَمَا تَعَسَّفَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» عَلَى عَادَتِهِ فِي الِاسْتِخْفَافِ بِتَوْهِيمِ الْقُرَّاءِ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ الِاعْتِمَادَ فِي الْقِرَاءَاتِ عَلَى الرِّوَايَةِ قَبْلَ نَسْخِ الْمَصَاحِفِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ السَّادِسَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ فَلَا تَتَّبِعُوا الْأَوْهَامَ الْمُخْطِئَةَ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي أَنَّ أَصْحَابَ لَيْكَةَ هُمْ مَدْيَنُ أَوْ هُمْ قَوْمٌ آخَرُونَ سَاكِنُونَ فِي لَيْكَةَ جِوَارِ مَدْيَنَ أُرْسِلَ شُعَيْبٌ إِلَيْهِمْ وَإِلَى أَهْلِ مَدْيَنَ. وَإِلَى هَذَا مَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنَ وَهْبٍ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ حَازِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: أُرْسِلَ شُعَيْبٌ إِلَى أُمَّتَيْنِ: إِلَى قَوْمِهِ مِنْ أَهْلِ مَدْيَنَ وَإِلَى أَصْحَابِ الْأَيْكَةِ. وَقَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ: أُرْسِلَ شُعَيْبٌ إِلَى قَوْمِهِ أَهْلِ مَدْيَنَ وَإِلَى أَهْلِ الْبَادِيَةِ وَهُمْ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ.
وَفِي «تَفْسِيرِ ابْنِ كَثِيرٍ» : رَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ بِسَنَدِهِ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ قَوْمَ مَدْيَنَ وَأَصْحَابَ الْأَيْكَةِ أُمَّتَانِ بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمَا شُعَيْبًا النَّبِيءَ»
، وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: هَذَا غَرِيبٌ، وَفِي رَفْعِهِ نَظَرٌ، وَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ. وروى ابْن جريج عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَصْحَابَ الْأَيْكَةِ هُمْ أَهْلُ مَدْيَنَ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ أَهْلَ الْأَيْكَةِ قَبِيلَةٌ غَيْرُ مَدْيَنَ فَإِنَّ مَدْيَنَ هُمْ أَهْلُ نَسَبِ شُعَيْبٍ وَهُمْ ذَرِّيَّةُ مَدْيَنَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ مِنْ زَوْجِهِ «قَطُورَةَ» سَكَنَ مَدْيَنُ فِي شَرْقِ بَلَدِ الْخَلِيلِ كَمَا فِي التَّوْرَاةِ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّهُ وَجَدَهُ بَلَدًا مَأْهُولًا بِقَوْمٍ فَهُمْ إِذَنْ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ فَبَنَى مَدْيَنُ وَبَنُوهُ الْمَدِينَةَ وَتَرَكُوا الْبَادِيَةَ لِأَهْلِهَا وَهُمْ سُكَّانُ الْغَيْضَةِ.
أَنَّهُ لَمْ يُقَصِّرْ عَنْ شَيْءٍ مِنْ سِيرَتِهِ وَلَمْ يَتَّعِظْ بِتِلْكَ الْمَوَاعِظِ وَلَا زَمَنًا قَصِيرًا بَلْ أَعْقَبَهَا بِخُرُوجِهِ هَذِهِ الْخِرْجَةَ الْمَلِيئَةَ صَلَفًا وَازْدِهَاءً. فَالتَّقْدِيرُ: قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي فَخَرَجَ، أَيْ رَفَضَ الْمَوْعِظَةَ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ. وَتَعْدِيَةُ (خَرَجَ) بِحَرْفِ عَلى لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى النُّزُولِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ خُرُوجٌ مُتَعَالٍ مُتَرَفِّعٌ، وفِي زِينَتِهِ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ (خَرَجَ).
وَالزِّينَةُ: مَا بِهِ جَمَالُ الشَّيْءِ وَالتَّبَاهِي بِهِ مِنَ الثِّيَابِ وَالطِّيبِ وَالْمَرَاكِبِ وَالسِّلَاحِ وَالْخَدَمِ، وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ فِي سُورَةِ النُّورِ [٣١]. وَإِنَّمَا فُصِلَتْ جُمْلَةُ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَلَمْ تُعْطَفْ لِأَنَّهَا تَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الزِّينَةُ مِنْ أَنَّهَا مِمَّا يَتَمَنَّاهُ الرَّاغِبُونَ فِي الدُّنْيَا. وَذَلِكَ جَامِعٌ لِأَحْوَالِ الرَّفَاهِيَةِ وَعَلَى أَخْصَرِ وَجْهٍ لِأَنَّ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا لَهُمْ أَمْيَالٌ مُخْتَلِفَةٌ وَرَغَبَاتٌ مُتَفَاوِتَةٌ فَكُلٌّ يَتَمَنَّى أُمْنِيَةً مِمَّا تَلَبَّسَ بِهِ قَارُونُ مِنَ الزِّينَةِ، فَحَصَلَ هَذَا الْمَعْنَى مَعَ حُصُولِ الْإِخْبَارِ عَنِ انْقِسَامِ قَوْمِهِ إِلَى مُغْتَرِّينَ بِالزَّخَارِفِ الْعَاجِلَةِ عَنْ غَيْرِ عِلْمٍ، وَإِلَى عُلَمَاءَ يُؤْثِرُونَ الْآجِلَ عَلَى الْعَاجِلِ، وَلَوْ عُطِفَتْ جُمْلَةُ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ بِالْوَاو وبالفاء لَفَاتَتْ هَذِهِ الْخُصُوصِيَّةُ الْبَلِيغَةُ فَصَارَتِ الْجُمْلَةُ إِمَّا خَبَرًا مِنْ جُمْلَةِ الْأَخْبَارِ عَنْ حَالِ قَوْمِهِ، أَوْ جُزْءَ خَبَرٍ مِنْ قِصَّتِهِ.
والَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا لما قوبلوا ب الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [الْقَصَص: ٨٠] كَانَ الْمَعْنِيُّ بِهِمْ عَامَّةَ النَّاسِ وَضُعَفَاءَ الْيَقِينِ الَّذِينَ تُلْهِيهِمْ زَخَارِفُ الدُّنْيَا عَمَّا يَكُونُ فِي مَطَاوِيهَا مِنْ سُوءِ الْعَوَاقِبِ فَتَقْصُرُ بَصَائِرُهُمْ عَنِ التَّدَبُّرِ إِذَا رَأَوْا زِينَةَ الدُّنْيَا فَيَتَلَهَّفُونَ عَلَيْهَا وَلَا يَتَمَنَّوْنَ غَيْرَ حُصُولِهَا فَهَؤُلَاءِ وَإِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ إِلَّا أَنَّ إِيمَانَهُمْ ضَعِيفٌ فَلِذَلِكَ عَظُمَ فِي عُيُونِهِمْ مَا عَلَيْهِ قَارُونُ مِنَ الْبَذَخِ فَقَالُوا إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ أَيْ إنَّهُ لَذُو بَخْتٍ وَسَعَادَةٍ.
وَأَصْلُ الْحَظِّ: الْقِسْمُ الَّذِي يُعْطَاهُ الْمَقْسُومُ لَهُ عِنْدَ الْعَطَاءِ، وَأُرِيدَ بِهِ هُنَا مَا قُسِمَ لَهُ مِنْ نَعِيمِ الدُّنْيَا.
وَالتَّوْكِيدُ فِي قَوْلِهِ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ كِنَايَةٌ عَنِ التَّعَجُّبِ حَتَّى كَأَنَّ السَّامِعَ يُنْكِرُ حَظَّهُ فَيُؤَكِّدُهُ الْمُتَكَلِّمُ
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ تَذْيِيلٌ، فَهُوَ لِعِزَّتِهِ لَا يَغْلِبُهُ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ عَدَمَ الْحَاجَةِ
إِلَى الْقُرْآنِ يَنْتَظِرُونَ انْفِحَامَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ لِحِكْمَتِهِ لَا تَنْحَصِرُ كَلِمَاتُهُ لِأَنَّ الْحِكْمَةَ الْحَقَّ لَا نِهَايَةَ لَهَا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِرَفْعِ وَالْبَحْرُ عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ الِاسْمِيَّةَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَالْوَاوَ وَاوُ الْحَالِ وَهِيَ حَال من مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ، أَيْ: تِلْكَ الْأَشْجَارُ كَائِنَةٌ فِي حَالِ كَوْنِ الْبَحْرِ مِدَادًا لَهَا، وَالْوَاوُ يَحْصُلُ بِهَا مِنَ الرَّبْطِ وَالِاكْتِفَاءِ عَنِ الضَّمِيرِ لِدَلَالَتِهَا عَلَى الْمُقَارَنَةِ.
وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ وَالْبَحْرُ- بِالنَّصْبِ- عَطْفًا عَلَى اسْم (إنّ).
[٢٨]
[سُورَة لُقْمَان (٣١) : آيَة ٢٨]
مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٢٨)
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا [لُقْمَان: ٢٣] لِأَنَّهُ كُلَّمَا ذَكَرَ أَمْرَ الْبَعْثِ هَجَسَ فِي نُفُوسِ الْمُشْرِكِينَ اسْتِحَالَةُ إِعَادَةِ الْأَجْسَامِ بَعْدَ اضْمِحْلَالِهَا فَيَكْثُرُ فِي الْقُرْآنِ تَعْقِيبُ ذِكْرِ الْبَعْثِ بِالْإِشَارَةِ إِلَى إِمْكَانِهِ وَتَقْرِيبِهِ. وَكَانُوا أَيْضًا يَقُولُونَ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَنَا أَطْوَارًا نُطْفَةً ثُمَّ عَلَقَةً ثُمَّ مُضْغَةً ثُمَّ لَحْمًا وَعَظْمًا فَكَيْفَ يَبْعَثُنَا خَلْقًا جَدِيدًا فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ وَكَيْفَ يُحْيِي جَمِيعَ الْأُمَمِ والأجيال الَّتِي تضمنتها الْأَرْضُ فِي الْقُرُونِ الْكَثِيرَةِ، وَكَانَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ وَأَبُو الْأَسَدِ- أَوْ أَبُو الْأَسَدَيْنِ- وَنُبَيْهٌ، وَمُنَبِّهٌ، ابْنَا الْحَجَّاجِ مِنْ بَنِي سَهْمٍ، يَقُولُونَ ذَلِكَ وَرُبَّمَا أَسَرَّ بِهِ بَعْضُهُمْ. وَضَمِيرَا الْمُخَاطَبِينَ مُرَادٌ بِهِمَا جَمِيعُ الْخَلْقِ فَهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْجِنْسِ، أَيْ مَا خَلْقُ جَمِيعِ النَّاسِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلَا بَعْثُهُمْ، أَيْ خَلْقُهُمْ ثَانِيَ مَرَّةٍ إِلَّا كَخَلْقِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّ خَلْقَ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ هَذَا الْخَلْقَ الْعَجِيبَ دَالٌّ عَلَى تَمَامِ قُدْرَةِ الْخَالِقِ تَعَالَى فَإِذَا كَانَ كَامِلُ الْقُدْرَةِ اسْتَوَى فِي جَانِبِ قُدْرَتِهِ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ وَالْبَدْءُ وَالْإِعَادَةُ.
وَفِي قَوْلِهِ مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ الْتِفَاتٌ مِنَ الْغِيبَةِ إِلَى الْخِطَابِ لِقَصْدِ مُجَابَهَتِهِمْ بِالِاسْتِدْلَالِ الْمُفْحِمِ.
وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ صَدَّقَ بِتَشْدِيدِ الدَّالِ بِمَعْنَى حَقَّقَ ظَنَّهُ عَلَيْهِمْ حِينَ انْخَدَعُوا لِوَسْوَسَتِهِ فَهُوَ لَمَّا وَسْوَسَ لَهُمْ ظَنَّ أَنَّهُمْ يُطِيعُونَهُ فَجَدَّ فِي الْوَسْوَسَةِ حَتَّى اسْتَهْوَاهُمْ فَحَقَّقَ ظَنَّهُ عَلَيْهِمْ.
وَفِي (عَلَى) إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ عَمَلَ إِبْلِيسَ كَانَ مِنْ جِنْسِ التَّغَلُّبِ وَالِاسْتِعْلَاءِ عَلَيْهِمْ.
وَقَوْلُهُ: فَاتَّبَعُوهُ تَفْرِيعٌ وَتَعْقِيبٌ عَلَى فِعْلِ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ أَيْ تَحَقَّقَ ظَنُّهُ حِينَ انْفَعَلُوا لِفِعْلِ وَسْوَسَتِهِ فَبَادَرُوا إِلَى الْعَمَلِ بِمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْإِشْرَاكِ وَالْكُفْرَانِ.
وإِلَّا فَرِيقاً اسْتِثْنَاءٌ مِنْ ضَمِيرِ الرَّفْعِ فِي فَاتَّبَعُوهُ وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ إِنْ كَانَ ضَمِيرُ «اتَّبَعُوهُ» عَائِدًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَأَمَّا إِنْ كَانَ عَائِدًا عَلَى أَهْلِ سَبَإٍ فَيُحْتَمَلُ الِاتِّصَالُ إِنْ كَانَ فيهم مُؤمنين وَإِلَّا فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، أَيْ لَمْ يَعْصِهِ فِي ذَلِكَ إِلَّا فَرِيقٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، أَوِ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ أَهْلِ سَبَإٍ. فَلَعَلَّ فِيهِمْ طَائِفَةً مُؤْمِنِينَ مِمَّنْ نَجَوْا قَبْلَ إِرْسَالِ سَيْلِ الْعَرِمِ.
وَالْفَرِيقُ: الطَّائِفَةُ مُطْلَقًا، وَاسْتِثْنَاؤُهَا مِنْ ضَمِيرِ الْجَمَاعَةِ يُؤْذِنُ بِأَنَّهُمْ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ لِلْبَقِيَّةِ، وَإِلَّا فَإِنَّ الْفَرِيقَ يَصْدُقُ بِالْجَمَاعَةِ الْكَثِيرَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ [الْأَعْرَاف: ٣٠].
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْمُؤْمِنِينَ لِلِاسْتِغْرَاقِ ومِنَ تَبْعِيضِيَّةٌ، أَيْ إِلَّا فَرِيقًا هُمْ بَعْضُ جَمَاعَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْأَزْمَانِ وَالْبُلْدَانِ.
وَقَوْلُهُ: وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ أَيْ مَا كَانَ لِلشَّيْطَانِ مِنْ سُلْطَانٍ عَلَى الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ.
وَفِعْلُ كانَ فِي النَّفْيِ مَعَ مِنْ الَّتِي تُفِيدُ الِاسْتِغْرَاقَ فِي النَّفْيِ يُفِيدُ انْتِفَاءَ السُّلْطَانِ، أَيِ الْمُلْكِ وَالتَّصْرِيفِ لِلشَّيْطَانِ، أَيْ لَيْسَتْ لَهُ قُدْرَةٌ ذَاتِيَّةٌ هُوَ مُسْتَقِلٌّ بِهَا يَتَصَرَّفُ بِهَا فِي الْعَالَمِ كَيْفَ يَشَاءُ لِأَنَّ تِلْكَ الْقُدْرَةَ خَاصَّةٌ بِاللَّهِ تَعَالَى.
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا لِنَعْلَمَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ عِلَلٍ. فَيُفِيدُ أَنَّ تَأْثِيرَ وَسْوَسَتِهِ فِيهِمْ كَانَ بِتَمْكِينٍ مِنَ اللَّهِ، أَيْ لَكِنْ جَعَلْنَا الشَّيْطَانَ سَبَبًا يَتَوَجَّهُ إِلَى عُقُولِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ فَتُخَامِرُهَا وَسْوَسَتُهُ فَيَتَأَثَّرُ مِنْهَا فَرِيقٌ وَيَنْجُو مِنْهَا فَرِيقٌ بِمَا أَوْدَعَ اللَّهُ فِي هَؤُلَاءِ
تَضَمَّنَتْهُ جُمْلَةُ اسْتِفْهَامِ كَيْفَ تَحْكُمُونَ فَإِنَّ كَيْفَ اسْمُ اسْتِفْهَامٍ عَنِ الْحَالِ وَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ تَحْكُمُونَ قُدِّمَتْ لِأَجْلِ صَدَارَةِ الِاسْتِفْهَامِ. وَجُمْلَةُ تَحْكُمُونَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ لَكُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا لَكُمْ فَحَصَلَ اسْتِفْهَامَانِ: أَحَدُهُمَا عَنِ الشَّيْءِ الَّذِي حَصَلَ لَهُمْ فَحَكَمُوا هَذَا الْحُكْمَ. وَثَانِيهِمَا عَنِ الْحَالَةِ الَّتِي اتَّصَفُوا بِهَا لَمَّا حُكِيَ هَذَا الْحُكْمُ الْبَاطِلُ. وَهَذَا إِيجَازُ حَذْفٍ إِذِ التَّقْدِيرُ: مَا لَكَمَ تَحْكُمُونَ هَذَا الْحُكْمَ، كَيْفَ تَحْكُمُونَهُ. وَحُذِفَ مُتَعَلَّقُ تَحْكُمُونَ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْتِفْهَامَانِ مِنْ كَوْنِ مَا حَكَمُوا بِهِ مُنْكَرًا يَحِقُّ الْعَجَبُ مِنْهُ فَكِلَا الِاسْتِفْهَامَيْنِ إِنْكَارٌ وَتَعْجِيبٌ.
وَفَرَّعَ عَلَيْهِ الِاسْتِفْهَامَ الْإِنْكَارِيَّ عَنْ عَدَمِ تَذَكُّرِهِمْ، أَيِ اسْتِعْمَالُ ذُكْرِهِمْ- بِضَمِّ الذَّالِ وَهُوَ الْعَقْلُ- أَيْ فَمُنْكَرٌ عَدَمُ تَفَهُّمِكُمْ فِيمَا يَصْدُرُ مِنْ حُكْمِكُمْ.
وأَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ إِضْرَابٌ انْتِقَالِيٌّ فَ أَمْ مُنْقَطِعَةٌ بِمَعْنَى (بَلْ) الَّتِي مَعْنَاهَا الإضراب الصَّالح للإضراب الْإِبْطَالِيُّ وَالْإِضْرَابُ الِانْتِقَالِيُّ. وَالسُّلْطَانُ: الْحُجَّةُ. وَالْمُبِينُ:
الْمُوَضِّحُ لِلْحَقِّ. وَالِاسْتِفْهَامُ الَّذِي تَقْتَضِيهِ أَمْ بَعْدَهَا إِنْكَارِيُّ أَيْضًا. فَالْمَعْنَى: مَا لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ، أَيْ عَلَى مَا قُلْتُمْ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ.
وَتَفَرَّعَ عَلَى إِنْكَارِ أَنْ تَكُونَ لَهُمْ حُجَّةٌ بِمَا قَالُوا أَنْ خُوطِبُوا بالإتيان بِكِتَاب من عِنْد الله عَلَى ذَلِكَ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ فِيمَا زَعَمُوا، أَي فَإِنْ لَمْ تَأْتُوا بِكُتَّابٍ عَلَى ذَلِكَ فَأَنْتُمْ غَيْرُ صَادِقِينَ. وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: فَأْتُوا
أَمْرُ تَعْجِيزٍ مِثْلَ قَوْلِهِ: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [الْبَقَرَة: ٢٣].
وَإِضَافَةُ الْكِتَابِ إِلَيْهِمْ عَلَى مَعْنَى الْمَفْعُولِيَّةِ، أَيْ كِتَابٍ مُرْسَلٍ إِلَيْكُمْ. وَمُجَادَلَتُهُمْ بِهَذِهِ
الْجُمَلِ الْمُتَفَنَّنَةِ رُتِّبَتْ عَلَى قَانُونِ الْمُنَاظَرَةِ فَابْتَدَأَهُمْ بِمَا يُشْبِهُ الِاسْتِفْسَارَ عَنْ دَعْوَيَيْنِ:
دَعْوَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ، وَدَعْوَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ إِنَاثٌ بِقَوْلِهِ: فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً [الصافات: ١٤٩، ١٥٠].
بِالدُّعَاءِ تَعْلِيلًا يُفِيدُ التَّحْذِيرَ مِنْ إِبَايَةِ دُعَاءِ اللَّهِ حِينَ الْإِقْبَالِ عَلَى دُعَاءِ الْأَصْنَامِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا [غَافِر: ١٢] وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ لَا يَضْرَعُونَ إِلَى اللَّهِ إِلَّا إِذَا لَمْ يَتَوَسَّمُوا اسْتِجَابَةَ شُرَكَائِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ [الْإِسْرَاء: ٦٧]. وَمَعْنَى التَّعْلِيلِ لِلْأَمْرِ بِالدُّعَاءِ بِهَذَا التَّحْذِيرِ: أَنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ لِعِبَادِهِ مَا يُفْضِي بِهِمْ إِلَى الْعَذَابِ، قَالَ تَعَالَى: وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ [الزمر:
٧] فَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى طَلَبِ اللَّهِ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ يَدْعُوَهُ فِي حَاجَاتِهِمْ.
وَمَشْرُوعِيَّةُ الدُّعَاءِ لَا خِلَافَ فِيهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ يَنْفَعُ فِي رَدِّ
الْقَدَرِ أَوْ لَا؟ وَهُوَ خِلَافٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُعْتَزِلَةِ. وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ تَأَوَّلُوا مَعْنَى أَسْتَجِبْ لَكُمْ، وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٨٦]، وَفِي الْإِتْيَانِ بِالْمَوْصُولِ إِيمَاءٌ إِلَى التَّعْلِيلِ.
وداخِرِينَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ سَيَدْخُلُونَ أَيْ أَذِلَّةً، دَخَرَ كَمَنَعَ وَفَرِحَ: صَغُرَ وَذَلَّ، وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ: سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [٤٨].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سَيَدْخُلُونَ بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَضَمِّ الْخَاءِ. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَفَتْحِ الْخَاءِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلنَّائِبِ، أَيْ سَيُدْخِلُهُمْ مَلَائِكَةُ الْعَذَاب جَهَنَّم.
[٦١]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : آيَة ٦١]
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (٦١)
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْجَلَالَةِ بَدَلًا مِنْ رَبُّكُمُ فِي وَقالَ رَبُّكُمُ [غَافِر: ٦٠] أَتْبَعَ رَبُّكُمُ بِالِاسْمِ الْعَلَمِ لِيُقْضَى بِذَلِكَ حَقَّانِ: حَقُّ اسْتِحْقَاقِهِ أَنْ يُطَاعَ بِمُقْتَضَى الرُّبُوبِيَّةِ وَالْعُبُودِيَّةِ، وَحَقُّ اسْتِحْقَاقِهِ الطَّاعَةَ لِصِفَاتِ كَمَالِهِ الَّتِي يَجْمَعُهَا اسْمُ الذَّاتِ. وَلِذَلِكَ لَمْ يُؤْتَ مَعَ وَصْفِ الرَّبِّ الْمُتَقَدِّمِ بِشَيْءٍ مِنْ ذِكْرِ نِعَمِهِ وَلَا كَمَالَاتِهِ اجْتِزَاءً بِمُقْتَضَى حَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ، وَذَكَرَ مَعَ الِاسْمِ الْعَلَمِ بَعْضَ إِنْعَامِهِ وَإِفْضَالِهِ ثُمَّ وَصَفَ الِاسْمَ بِالْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ إِشَارَةً إِلَى بَعْضِ صِفَاتِهِ، وَإِيمَاءً إِلَى وَجْهِ الْأَمْرِ بِعِبَادَتِهِ، وَتَكون الْجُمْلَة استنئافا بَيَانِيًّا نَاشِئًا عَنْ تَقْوِيَةِ الْأَمْرِ بِدُعَائِهِ.
وَقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ [الْأَعْرَاف: ٢٠٦] وَمِنْهُ
قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَحَاجَّ آدَمُ وَمُوسَى عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ»
الْحَدِيثَ، فَالْعِنْدِيَّةُ مَجَازٌ وَالْقَرِينَةُ هِيَ شَأْن من أضيف إِلَيْهِ عِنْدَ.
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ عِبادُ الرَّحْمنِ بِعَيْنٍ وَمُوَحَّدَةٍ بَعْدَهَا أَلْفٌ ثُمَّ دَالٌ مَضْمُومَةٌ عَلَى مَعْنَى:
الَّذِينَ هُمْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ، فَالْإِضَافَةُ إِلَى اسْم الرحمان تُفِيدُ تَشْرِيفَهُمْ قَالَ تَعَالَى: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٢٦] وَالْعُبُودِيَّةُ عُبُودِيَّةٌ خَاصَّةٌ وَهِيَ عُبُودِيَّةُ الْقُرْبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَذَّبُوا عَبْدَنا [الْقَمَر: ٩].
وَجُمْلَة أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ وَجُمْلَةِ وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ [الزخرف: ٢٠].
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِهَمْزَتَيْنِ أُولَاهُمَا مَفْتُوحَةٌ وَالْأُخْرَى مَضْمُومَةٌ وَسُكُونِ شِينِ أَشَهِدُوا مَبْنِيًّا لِلنَّائِبِ وَكَيْفِيَّةُ أَدَاءِ الْهَمْزَتَيْنِ يَجْرِي عَلَى حُكْمِ الْهَمْزَتَيْنِ فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَالْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ وَهُوَ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ. وَجِيءَ بِصِيغَةِ النَّائِبِ عَنِ الْفَاعِلِ دُونَ صِيغَةِ الْفَاعِلِ لِأَنَّ الْفَاعِلَ مَعْلُومٌ أَنَّهُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ الْعَالَمَ الْعُلْوِيَّ الَّذِي كَانَ فِيهِ خَلْقُ الْمَلَائِكَةِ لَا يَحْضُرُهُ إِلَّا مَنْ أَمَرَ اللَّهُ بِحُضُورِهِ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا
وَرَدَ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ مِنْ قَوْلِ كُلِّ مَلَكٍ مُوَكَّلٍ بِبَابٍ مِنْ أَبْوَابِ السَّمَاوَاتِ لِجِبْرِيلَ حِينَ يَسْتَفْتِحُ» مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ:
جِبْرِيلُ، قَالَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ قَالَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: مَرْحَبًا وَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ وَفَتَحَ لَهُ»
. وَالْمَعْنَى: أَأَشْهَدَهُمُ اللَّهُ خَلْقَ الْمَلَائِكَةِ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْكَهْف: ٥١].
وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ فَشِينٍ مَفْتُوحَةٍ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ، فَالْهَمْزَةُ لِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِ دَخَلَتْ عَلَى فِعْلِ شَهِدَ، أَيْ مَا حَضَرُوا خَلْقَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ [الصافات: ١٥٠].
وَجُمْلَةُ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ من جملَة أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ لِأَنَّ
وَيَكُونُ لِمَنْ بعد الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جُيُوشِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى حَسَبِ تَمَسُّكِهِمْ بوصايا الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَأْتِي زمَان يَغْزُو فآم مِنَ النَّاسِ فَيُقَالُ: فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ النَّبِيءَ؟ فَيُقَالُ: نَعَمْ، فَيُفْتَحُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَأْتِي زَمَانٌ فَيُقَالُ: فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ أَصْحَابَ النَّبِيءَ؟ فَيُقَالُ: نَعَمْ فَيُفْتَحُ ثُمَّ يَأْتِي زَمَانٌ فَيُقَالُ: فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ مَنْ صَاحَبَ النَّبِيءِ؟ فَيُقَالُ: نَعَمْ فَيُفْتَحُ»
. وَمَعْنَى خَلَتْ مَضَتْ وَسَبَقَتْ مِنْ أَقْدَمِ عُصُورِ اجْتِلَادِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ قَبْلُ مَحْذُوفٌ نُوِيَ مَعْنَاهُ دُونَ لَفْظِهِ، أَيْ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ دَالٌّ عَلَى لَفْظِهِ وَلَكِنْ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَعْنَى الْكَلَامِ، فَلِذَلِكَ بُنِيَ قَبْلُ عَلَى الضَّمِّ. وَفَائِدَةُ هَذَا الْوَصْفِ الدَّلَالَةُ عَلَى اطِّرَادِهَا وَثَبَاتِهَا.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ ذَلِكَ سُنَّةُ اللَّهِ مَعَ الرُّسُلِ قَالَ تَعَالَى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة: ٢١].
وَلما وصف تِلْكَ السُّنَّةُ بِأَنَّهَا رَاسِخَةٌ فِيمَا مَضَى أَعْقَبَ ذَلِكَ بِوَصْفِهَا بِالتَّحَقُّقِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ تَعْمِيمًا لِلْأَزْمِنَةِ بِقَوْلِهِ: وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا لِأَنَّ اطِّرَادَ ذَلِكَ النَّصْرِ فِي مُخْتَلَفِ الْأُمَمِ وَالْعُصُورِ وَإِخْبَارَ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ عَلَى لِسَانِ رُسُلِهِ وَأَنْبِيَائِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ
تَأْيِيدَ أَحْزَابِهِ فَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ كَائِنٌ أَنْ يَحُولَ دُونَ إِرَادَةِ الله تَعَالَى.
[٢٤]
[سُورَة الْفَتْح (٤٨) : آيَة ٢٤]
وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٢٤)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ [الْفَتْح: ٢٠] وَهَذَا كَفٌّ غَيْرُ الْكَفِّ الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ: وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ.
وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ لِإِفَادَةِ التَّخْصِيصِ، أَيِ الْقَصْرِ، أَيْ لَمْ
وَالتَّفْجِيرُ: إِسَالَةُ الْمَاءِ، يُقَالُ: تَفَجَّرَ الْمَاءُ، إِذَا سَالَ، قَالَ تَعَالَى: حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الْإِسْرَاء: ٩٠].
وَتَعْدِيَةُ فَجَّرْنَا إِلَى اسْمِ الْأَرْضِ تَعْدِيَةٌ مَجَازِيَّةٌ إِذْ جَعَلَتِ الْأَرْضَ مِنْ كَثْرَةِ عُيُونِهَا كَأَنَّهَا عَيْنٌ تَتَفَجَّرُ. وَفِي هَذَا إِجْمَالٌ جِيءَ مِنْ أَجْلِهِ بِالتَّمْيِيزِ لَهُ بِقَوْلِهِ: عُيُوناً لِبَيَانِ هَذِهِ النِّسْبَةِ، وَقَدْ جَعَلَ هَذَا مُلْحَقًا بِتَمْيِيزِ النِّسْبَةِ لِأَنَّهُ مُحَوَّلٌ عَنِ الْمَفْعُولِ إِذِ الْمَعْنَى: وَفَجَّرْنَا عُيُونَ الْأَرْضِ، وَهُوَ مِثْلُ الْمُحَوَّلِ عَنِ الْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً [مَرْيَم: ٤]، أَيْ شَيْبُ الرَّأْسِ إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَنُكْتَةُ ذَلِكَ وَاحِدَةٌ. قَالَ فِي «الْمِفْتَاحِ» :
«إِسْنَادُ الِاشْتِعَالِ إِلَى الرَّأْسِ لِإِفَادَةِ شُمُولِ الاشتعال الرَّأْس إِذْ وزان اشْتَعَلَ شَيْبُ الرَّأْسِ، وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وِزَانَ اشْتَعَلَتِ النَّارُ فِي بَيْتِي وَاشْتَعَلَ بَيْتِي نَارًا» اه.
وَالْتِقَاءُ الْمَاءِ: تَجْمُّعُ مَاءِ الْأَمْطَارِ مَعَ مَاءِ عُيُونِ الْأَرْضِ فَالِالْتِقَاءُ مُسْتَعَارٌ لِلِاجْتِمَاعِ، شَبَّهَ الْمَاءَ النَّازِلَ مِنَ السَّمَاءِ وَالْمَاءَ الْخَارِجَ مِنَ الْأَرْضِ بِطَائِفَتَيْنِ جَاءَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ مَكَانٍ فَالْتَقَتَا فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ كَمَا يَلْتَقِي الْجَيْشَانِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْماءُ لِلْجِنْسِ. وَعُلِمَ مِنْ إِسْنَادِ الِالْتِقَاءِ أَنَّهُمَا نَوْعَانِ مِنَ الْمَاءِ مَاءُ الْمَطَرِ وَمَاءُ الْعُيُونِ.
وعَلى مِنْ قَوْلِهِ: عَلى أَمْرٍ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى (فِي) كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها [الْقَصَص: ١٥]، وَقَوْلِ الْفَرَزْدَقِ:
عَلَى حَالَةٍ لَوْ أَنَّ فِي الْبَحْرِ حَاتِمًا | عَلَى جُودِهِ لَضَنَّ بِالْمَاءِ حَاتِمُ |
وَمَعْنَى التَّمَكُّنِ: شِدَّةُ الْمُطَابَقَةِ لِمَا قُدِرَ، وَأَنَّهُ لَمْ يَحِدْ عَنْهُ قَيْدَ شَعَرَةٍ.
وَالْأَمْرُ: الْحَالُ وَالشَّأْنُ وَتَنْوِينُهُ لِلتَّعْظِيمِ.
وَوَصْفُ الْأَمْرَ بِأَنَّهُ قَدْ قُدِرَ، أَيْ أُتْقِنَ وَأُحْكِمَ بِمِقْدَارٍ، يُقَالُ: قَدَرَهُ
النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لِي خَمْسَةُ أَسْمَاءٍ: أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَنَا أَحْمَدُ، وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ، وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي وَأَنَا الْعَاقِبُ»
(١) فَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ أَطْلَقَ الْأَسْمَاءَ عَلَى مَا يَشْمَلُ الِاسْمَ الْعَلَمَ وَالصِّفَةَ الْخَاصَّةَ بِهِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّغْلِيبِ. وَقَدْ رُوِيَتْ لَهُ أَسْمَاءٌ غَيْرُهَا اسْتَقْصَاهَا أَبُو بَكْرٍ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْعَارِضَة» و «القبس».
فَالَّذِي نُوقِنُ بِهِ أَنَّ مَحْمَلَ قَوْلِهِ: اسْمُهُ أَحْمَدُ يَجْرِي عَلَى جَمِيعِ مَا تَحْمِلُهُ جُزْءَا هَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنَ الْمَعَانِي.
فَأَمَّا لَفْظُ «اسْمٍ» فَأَشْهَرُ اسْتِعْمَالِهِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ ثَلَاثَةُ اسْتِعْمَالَاتٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْمُسَمَّى. قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الِاسْم هُوَ المسمّى. وَنَسَبَ ثَعْلَبٌ إِلَى سِيبَوَيْهِ أَنَّ الِاسْمَ غَيْرُ الْمُسَمَّى (أَيْ إِذَا أُطْلِقَ لَفْظُ اسْمٍ فِي الْكَلَامِ فَالْمَعْنَى بِهِ مُسَمَّى ذَلِكَ الِاسْمِ) لَكِنْ جَزَمَ ابْنُ السَّيِّدِ الْبَطَلْيَوْسِيُّ فِي كِتَابِهِ الَّذِي جَعَلَهُ فِي مَعَانِيَ الِاسْمِ هَلْ هُوَ عَيْنُ الْمُسَمَّى، أَنَّهُ وَقَعَ فِي بَعْضِ مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِ سِيبَوَيْهِ أَنَّ الِاسْمَ هُوَ الْمُسَمَّى، وَوَقَعَ فِي بَعْضِهَا أَنَّهُ غَيْرُ الْمُسَمَّى، فَحَمَلَهُ ابْنُ السَّيِّدِ الْبَطَلْيَوْسِيُّ عَلَى أَنَّهُمَا إِطْلَاقَانِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِاخْتِلَافٍ فِي كَلَامِ سِيبَوَيْهِ، وَتَوَقَّفَ أَبُو الْعَبَّاسِ ثَعْلَبٌ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: لَيْسَ لِي فِيهِ قَوْلٌ.
وَلِمَا فِي هَذَا الِاسْتِعْمَالِ مِنْ الِاحْتِمَالِ بَطُلَ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ.
الِاسْتِعْمَالُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ بِمَعْنَى شُهْرَةٍ فِي الْخَيْرِ وَأَنْشَدَ ثَعْلَبٌ:
لِأَعْظَمِهَا قَدْرًا وَأَكْرَمِهَا أَبًا | وَأَحْسَنِهَا وَجْهًا وَأَعْلَنِهَا سُمَى |
الِاسْتِعْمَالُ الثَّالِثُ: أَنْ يُطْلَقَ عَلَى لَفْظِ جُعِلَ دَالًّا عَلَى ذَاتٍ لِتُمَيَّزَ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ أَمْثَالِهَا، وَهَذَا هُوَ الْعَلَمُ.
وَنَحْنُ نَجْرِي عَلَى أَصْلِنَا فِي حَمْلِ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ عَلَى جَمِيعِ الْمَعَانِي الَّتِي يَسْمَحُ بِهَا
_________
(١) وَقع هَذَا الحَدِيث مُرْسلا فِي أَكثر الرِّوَايَات عَن مَالك وَوَقع فِي رِوَايَة معن بن عِيسَى، وَأبي مُصعب الزُّهْرِيّ، وَعبد الله بن نَافِع عَن مَالك أنّ مُحَمَّد بن جُبَير رَوَاهُ عَن أَبِيه فَهُوَ مُسْند.
وَ (حَتَّى) مُتَعَلِّقَةٌ بِ (ذَرْهُمْ) لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى، أَمْهِلْهُمْ وَانْتَظِرْهُمْ، فَإِنَّ الْيَوْمَ الَّذِي وُعِدُوهُ هُوَ يَوْمُ النُّشُورِ حِينَ يُجَازَوْنَ عَلَى اسْتِهْزَائِهِمْ وَكُفْرِهِمْ، فَلَا يَكُونُ غَايَةً لِ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا وَالْغَايَةُ هُنَا كِنَايَةٌ عَنْ دَوَامِ تَرْكِهِمْ.
وَإِضَافَةُ (يَوْم) إِلَى ضميرهم لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُلاقُوا بِأَلِفٍ بَعْدَ اللَّامِ مِنَ الْمُلَاقَاةِ. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ بِدُونِ أَلِفٍ مِنَ اللِّقَاءِ.
وَاللِّقَاءُ: مُجَازٌ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ: فَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ هُوَ مَجَازٌ مِنْ جِهَتَيْنِ لِأَنَّ الْيَوْمَ لَا يَلْقَى وَلَا يُلْقَى. وَعَلَى قِرَاءَةِ أَبِي جَعْفَرٍ هُوَ مَجَازٌ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّ اللِّقَاءَ إِنَّمَا يَقَعُ بَيْنَ الذَّوَاتِ.
ويَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ بَدَلٌ مِنْ يَوْمَهُمُ لَيْسَ ظَرْفًا.
وَالْخُرُوجُ: بُرُوزُ أَجْسَادِهِمْ مِنَ الْأَرْضِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَخْرُجُونَ بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَهُ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِضَمِّهَا عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ.
والْأَجْداثِ: جَمَعُ جَدَثٍ بِفَتْحَتَيْنِ وَهُوَ الْقَبْرُ، وَالْقَبْرُ: حَفِيرٌ يُجْعَلُ لِمُوَارَاةِ الْمَيِّتِ.
وَضَمِيرُ يَخْرُجُونَ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْركين الْمخبر عَنهُ بِالْأَخْبَارِ السَّابِقَةِ. وَجَمِيعُهُمْ قَدْ دُفِنُوا فِي قُبُورٍ أَوْ وُضِعُوا فِي قَلِيبِ بَدْرٍ.
وَالنَّصْبُ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ: الصَّنَمُ، وَيُقَالُ: نُصُبٌ بِضَمَّتَيْنِ، وَوَجْهُ تَسْمِيَتِهِ نُصُبًا أَنَّهُ يُنْصَبُ لِلْعِبَادَةِ، قَالَ الْأَعْشَى:
وَذَا النُّصُبَ الْمَنْصُوبَ لَا تَنْسُكَنَّهُ | وَلَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ وَاللَّهَ فَاعْبُدَا |
وَجُمْلَةُ وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ يَصْلَوْنَها، أَيْ يَصْلَوْنَ حَرَّهَا وَلَا يُفَارِقُونَهَا، أَيْ وَهُمْ خَالِدُونَ فِيهَا.
وَجِيءَ بِقَوْلِهِ وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ جُمْلَةً اسْمِيَّةً دُونَ أَنْ يُقَالَ: وَمَا يَغِيبُونَ عَنْهَا، أَوْ وَمَا يُفَارِقُونَهَا، لِإِفَادَةِ الِاسْمِيَّةِ الثَّبَاتَ سَوَاءٌ فِي الْإِثْبَاتِ أَوِ النَّفْيِ، فَالثَّبَاتُ حَالَةٌ لِلنِّسْبَةِ الْخَبَرِيَّةِ سَوَاءٌ كَانَتْ نِسْبَةَ إِثْبَاتٍ أَوْ نِسْبَةَ نَفْيٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٧].
وَزِيَادَةُ الْبَاءِ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ.
وَتَقْدِيمُ عَنْها عَلَى مُتَعَلِّقِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِالْمَجْرُورِ، وَلِلرِّعَايَةِ على الفاصلة.
[١٧]
[سُورَة الانفطار (٨٢) : آيَة ١٧]
وَما أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (١٧)
يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالِيَّةً، وَالْوَاوُ وَاوُ الْحَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُعْتَرِضَةً إِذَا جُعِلَ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً [الانفطار: ١٩] بَدَلًا مِنْ يَوْمَ الدِّينِ الْمَنْصُوبِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ كَمَا سَيَأْتِي.
وَمَا أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ: تَرْكِيبٌ مُرَكَّبٌ مِنْ مَا الاستفهامية وَفعل الدارية الْمُعَدَّى بِالْهَمْزَةِ فَصَارَ فَاعِلُهُ مَفْعُولًا زَائِدًا عَلَى مَفْعُولَيْ دَرَى، وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ: أَعْلَمُ وَأَرَى، فَالْكَافُ مَفْعُولُهُ الْأَوَّلُ، وَقَدْ عُلِّقَ عَلَى الْمَفْعُولَيْنِ الْآخَرَيْنِ بِ مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةِ الثَّانِيَةِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ الْأَوَّلُ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً عَنْ تَعْظِيمِ أَمْرِ الْيَوْمِ وَتَهْوِيلِهِ بِحَيْثُ يَسْأَلُ الْمُتَكَلِّمُ مَنْ يَسْمَعُهُ عَنِ الشَّيْءِ الَّذِي يحصّل لَهُ الدارية بِكُنْهِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ لَا تَصِلُ إِلَى كُنْهِهِ دِرَايَةُ دَارٍ.
وَالِاسْتِفْهَامُ الثَّانِي حَقِيقِيّ، أَي سئال سَائِلٍ عَنْ حَقِيقَةِ يَوْمِ الدِّينِ كَمَا تَقُولُ: عَلِمْتُ هَلْ زِيدٌ قَائِمٌ، أَيْ عَلِمْتُ جَوَابَ هَذَا السُّؤَالِ.
وَمِثْلُ هَذَا التَّرْكِيبِ مِمَّا جَرَى مَجْرَى الْمَثَلِ فَلَا يُغَيَّرُ لَفْظُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مُسْتَوْفًى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ [الحاقة: ٣].
الصفحة التالية