الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَدُونَ الْغَضَبِ الْكَرَاهِيَةُ فَقَدْ
وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «وَيَكْرَهُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ»
، وَيُقَابِلُهُمَا الرِّضَى وَالْمَحَبَّةُ وَكُلُّ ذَلِكَ غَيْرُ الْمَشِيئَةِ وَالْإِرَادَةِ بِمَعْنَى التَّقْدِير والتكوين، وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [الزمر: ٧] وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ [الْأَنْعَام: ١١٢] وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً [يُونُس: ٩٩] وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْغَضَبَ عِنْدَ حُكَمَاءِ الْأَخْلَاقِ مَبْدَأٌ مِنْ مَجْمُوعِ الْأَخْلَاقِ الثَّلَاثَةِ الْأَصْلِيَّةِ الَّتِي يُعَبَّرُ عَنْ جَمِيعِهَا بِالْعَدَالَةِ وَهِيَ: الْحِكْمَةُ وَالْعِفَّةُ وَالشَّجَاعَةُ، فَالْغَضَبُ مَبْدَأُ الشَّجَاعَةِ إِلَّا أَنَّ الْغَضَبَ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ مَبْدَأٍ نَفْسَانِيٍّ لِأَخْلَاقٍ كَثِيرَةٍ مُتَطَرِّفَةٍ وَمُعْتَدِلَةٍ فَيُلَقِّبُونَ بِالْقُوَّةِ الْغَضَبِيَّةِ مَا فِي الْإِنْسَانِ مِنْ صِفَاتِ السَّبُعِيَّةِ وَهِيَ حُبُّ الْغَلَبَةِ وَمِنْ فَوَائِدِهَا دَفْعُ مَا يَضُرُّهُ وَلَهَا حَدُّ اعْتِدَالٍ وَحَدُّ انْحِرَافٍ فَاعْتِدَالُهَا الشَّجَاعَةُ وَكِبَرُ الْهِمَّةِ، وَثَبَاتُ الْقَلْبِ فِي الْمَخَاوِفِ، وَانْحِرَافُهَا إِمَّا بِالزِّيَادَةِ فَهِيَ التَّهَوُّرُ وَشِدَّةُ الْغَضَبِ مِنْ شَيْءٍ قَلِيلٍ وَالْكِبْرُ وَالْعُجْبُ وَالشَّرَاسَةُ وَالْحِقْدُ وَالْحَسَدُ وَالْقَسَاوَةُ، أَوْ بِالنُّقْصَانِ فَالْجُبْنُ وَخَوْرُ النَّفْسِ وَصِغَرُ الْهِمَّةِ فَإِذَا أُطْلِقَ الْغَضَبُ لُغَةً انْصَرَفَ إِلَى بَعْضِ انْحِرَافِ الْغَضَبِيَّةِ، وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ جَوَامِعِ
كَلِمِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ أَوْصِنِي قَالَ: لَا تَغْضَبْ فَكَرَّرَ مِرَارًا فَقَالَ: لَا تَغْضَبْ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
وَسُئِلَ بَعْضُ مُلُوكِ الْفُرْسِ بِمَ دَامَ مُلْكُكُمْ؟ فَقَالَ: لِأَنَّا نُعَاقِبُ عَلَى قَدْرِ الذَّنْبِ لَا عَلَى قَدْرِ الْغَضَبِ. فَالْغَضَبُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُوَ الْغَضَبُ لِلنَّفْسِ لِأَنَّهُ يَصْدُرُ عَنْهُ الظُّلْمُ وَالْعُدْوَانُ، وَمِنَ الْغَضَبِ مَحْمُودٌ وَهُوَ الْغَضَبُ لِحِمَايَةِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَخُصُوصًا الدِّينِيَّةِ وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ النَّبِيءَ كَانَ لَا يَغْضَبُ لِنَفْسِهِ فَإِذَا انْتُهِكَتْ حُرْمَةٌ مِنْ حُرُمَاتِ اللَّهِ غَضِبَ لِلَّهِ.
وَقَوْلُهُ: وَلَا الضَّالِّينَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ كَمَا هُوَ مُتَبَادِرٌ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، قَالَ مَكِّيُّ ابْن أَبِي طَالِبٍ إِنَّ دُخُولَ (لَا) لِدَفْعِ تَوَهُّمِ عَطْفِ (الضَّالِّينَ) عَلَى (الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ)، وَهُوَ تَوْجِيهٌ بَعِيدٌ فَالْحَقُّ أَنَّ (لَا) مَزِيدَةٌ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ لَفْظِ (غَيْرِ) عَلَى طَرِيقَةِ الْعَرَبِ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَى مَا فِي حَيِّزِ النَّفْيِ نَحْوَ قَوْلِهِ: أَنْ تَقُولُوا مَا جاءَنا مِنْ
بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ
[الْمَائِدَة: ١٩] وَهُوَ أُسْلُوبٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَقَالَ السَّيِّدُ فِي «حَوَاشِي الْكَشَّافِ» لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ أَنَّ الْمَنْفِيَّ هُوَ الْمَجْمُوعُ فَيُجَوِّزَ ثُبُوتَ أَحَدِهِمَا، وَلَمَّا كَانَتْ غَيْرُ فِي مَعْنَى النَّفْيِ أُجْرِيَتْ إِعَادَةُ النَّفْيِ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا، وَلَيْسَتْ زِيَادَةُ (لَا) هُنَا كَزِيَادَتِهَا فِي نَحْوِ: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ [الْأَعْرَاف: ١٢] كَمَا تَوَهَّمَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ لِأَنَّ
كَانَ دَخَلَ ذَلِكَ الْبَيْتَ مِنْ بَابِهِ اقْتِدَاءً برَسُول الله فقاله لَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِمْ دَخَلْتَ وَأَنْتَ قَدْ أَحْرَمْتَ؟ فَقَالَ لَهُ الْأَنْصَارِيُّ: دَخَلْتَ أَنْتَ فَدَخَلْتُ بِدُخُولِكَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي أَحْمَسُ فَقَالَ لَهُ الْأَنْصَارِيُّ: وَأَنَا دِينِي دينك رضيت بهداك فَنَزَلَتِ الْآيَةُ
، فَظَاهِرُ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ الرَّسُولَ نَهَى غَيْرَ الْحُمْسِ عَنْ تَرْكِ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ حَتَّى نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي إِبْطَالِهِ،
وَفِي «تَفْسِيرِ ابْنِ جَرِيرٍ وَابْنِ عَطِيَّةَ» عَنِ السُّدِّيِّ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ بَابًا وَهُوَ مُحْرِمٌ وَكَانَ مَعَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ فَوَقَفَ الرَّجُلُ وَقَالَ: إِنِّي أَحْمَسُ فَقَالَ لَهُ الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: وَأَنَا أَحْمَسُ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ
، فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تَقْتَضِي أَنَّ النَّبِيءَ أَعْلَنَ إِبْطَالَ دُخُولِ الْبُيُوتِ مِنْ ظُهُورِهَا.
وَأَنَّ الْحُمْسَ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا يَدْخُلُونَ الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا، وَأَقُولُ: الصَّحِيحُ مِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: كَانَتِ الْأَنْصَارُ إِذَا حَجُّوا فَجَاءُوا لَا يَدْخُلُونَ مِنْ أَبْوَابِ بُيُوتِهِمْ وَلَكِنْ مِنْ ظُهُورِهَا فَجَاءَ رَجُلٌ فَدَخَلَ مِنْ بَابه فكأنّه عبّر بِذَلِكَ هَذِهِ الْآيَةُ، وَرِوَايَةُ السُّدِّيِّ وَهْمٌ، وَلَيْسَ فِي الصَّحِيحِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَمَرَ بِذَلِكَ وَلَا يُظَنُّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَسِيَاقُ الْآيَةِ يُنَافِيهِ.
وَقَوْلُهُ: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى الْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [الْبَقَرَة: ١٧٧].
واتَّقى فِعْلٌ مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَنِ اتَّصَفَ بِالتَّقْوَى الشَّرْعِيَّةِ بِامْتِثَالِ الْمَأْمُورَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمَنْهِيَّاتِ.
وَجَرُّ بِأَنْ تَأْتُوا بِالْبَاءِ الزَّائِدَةِ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ بِلَيْسَ، وَمُقْتَضَى تَأْكِيدِ النَّفْيِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ هَذَا الْمَنْفِيَّ مِنَ الْبِرِّ ظَنًّا قَوِيًّا فَلِذَلِكَ كَانَ مُقْتَضَى حَالِهِمْ أَنْ يُؤَكَّدَ نَفْيُ هَذَا الظَّنِّ.
وَقَوْلُهُ: وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها مَعْطُوفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَيْسَ الْبِرُّ عَطْفَ الْإِنْشَاءِ عَلَى الْخَبَرِ الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى الْإِنْشَاءِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَيْسَ الْبِرُّ فِي مَعْنَى النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ فَكَانَ كَعَطْفِ أَمْرٍ عَلَى نَهْيٍ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ يَتَعَيَّنُ أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ فِي سَنَةَ خَمْسٍ حِينَ أَزْمَعَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخُرُوجَ إِلَى الْعُمْرَةِ فِي ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ خَمْسٍ مِنَ الْهِجْرَةِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ نَوَى أَنْ يَحُجَّ
وَمِنْهَا أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى مُخَالَفَةِ الْإِسْلَامِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُ بَغْيًا مِنْهُمْ وَحَسَدًا، مَعَ ظُهُورِ أَحَقِّيَّتِهِ عِنْدَ عُلَمَائِهِمْ وَأَحْبَارِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [الْبَقَرَة: ١٤٦، ١٤٧]، وَقَالَ تَعَالَى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [الْبَقَرَة: ١٠٩] أَيْ أَعْرَضُوا عَنِ الْإِسْلَامِ، وَصَمَّمُوا عَلَى الْبَقَاءِ عَلَى دِينِهِمْ، وَوَدُّوا لَوْ يَرُدُّونَكُمْ إِلَى الشِّرْكِ أَوْ إِلَى مُتَابَعَةِ دِينِهِمْ حَسَدًا عَلَى مَا جَاءَكُمْ مِنَ الْهُدَى بَعْدَ أَنْ تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ.
وَلِأَجْلِ أَنْ يَسْمَحَ نَظْمُ الْآيَةِ بِهَذِهِ الْمَعَانِي، حُذِفَ مُتَعَلِّقُ الِاخْتِلَافِ فِي قَوْلِهِ:
اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لِيَشْمَلَ كُلَّ اخْتِلَافٍ مِنْهُمْ: مِنْ مُخَالَفَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا فِي الدِّينِ الْوَاحِدِ، وَمُخَالَفَةِ أَهْلِ كُلِّ دِينٍ لِأَهْلِ الدِّينِ الْآخَرِ، وَمُخَالَفَةِ جَمِيعِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ فِي صِحَّةِ الدِّينِ.
وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ الْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ لِذَلِكَ.
وَجُعِلَ «بَغْيًا» عَقِبَ قَوْلِهِ: «مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ» لِيَتَنَازَعهُ كُلٌّ مِنْ فِعْلِ (اخْتَلَفَ) وَمِنْ لَفْظِ (الْعِلْمُ).
وَأُخِّرَ بَيْنَهُمْ عَنْ جَمِيعِ مَا يَصْلُحُ لِلتَّعْلِيقِ بِهِ: لِيَتَنَازَعهُ كُلٌّ مِنْ فِعْلِ (اخْتَلَفَ) وَفِعْلِ (جَاءَهُمْ) وَلَفْظِ (الْعِلْمُ) وَلَفْظِ (بَغْيًا).
وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ أَوْسَعُ مَعَانِيَ مِنْ مَعَانِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢١٣] وَقَوْلِهِ:
وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ فِي سُورَةِ الْبَيِّنَةِ [٤] كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي ذَيْنِكَ الْمَوْضِعَيْنِ لِاخْتِلَافِ الْمَقَامَيْنِ.
فَاخْتِلَافُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَشْمَلُ اخْتِلَافَهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ: أَيِ اخْتِلَافَ أَهْلِ كُلِّ مِلَّةٍ فِي أُمُور دينهَا، وَهَذَا هُوَ الَّذِي تشعر بهَا صِيغَةُ اخْتَلَفَ كَاخْتِلَافِ الْيَهُودِ بَعْدَ مُوسَى غَيْرَ مَرَّةٍ، وَاخْتِلَافِهِمْ بَعْدَ سُلَيْمَانَ إِلَى مَمْلَكَتَيْنِ: مَمْلَكَةِ إِسْرَائِيلَ، وَمَمْلَكَةِ يَهُوذَا، وَكَيْفَ صَارَ لِكُلِّ مَمْلَكَةٍ مِنَ الْمَمْلَكَتَيْنِ تَدَيُّنٌ يُخَالِفُ تَدَيُّنَ الْأُخْرَى، وَكَذَلِكَ
وَمَعْنَى مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلًا أَيْ خَلْقًا بَاطِلًا، أَوْ مَا خَلَقْتَ هَذَا فِي حَالِ أَنَّهُ بَاطِلٌ، فَهِيَ حَالٌ لَازِمَةُ الذِّكْرِ فِي النَّفْيِ وَإِنْ كَانَتْ فَضْلَةً فِي الْإِثْبَاتِ، كَقَوْلِهِ: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ [الدُّخان: ٣٨] فَالْمَقْصُودُ نَفْيُ عَقَائِدِ مَنْ يُفْضِي اعْتِقَادُهُمْ إِلَى أَنَّ هَذَا الْخَلْقَ بَاطِلٌ أَوْ خُلِّيَ عَنِ الْحِكْمَةِ، وَالْعَرَبُ تَبْنِي صِيغَةَ النَّفْيِ عَلَى اعْتِبَارِ سَبْقِ الْإِثْبَاتِ كَثِيرًا.
وَجِيءَ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ فِي حِكَايَةِ قَوْلِهِمْ: فَقِنا عَذابَ النَّارِ لِأَنَّهُ تَرَتَّبَ عَلَى الْعِلْمِ بِأَنَّ هَذَا الْخَلْقَ حَقٌّ، وَمِنْ جُمْلَةِ الْحَقِّ أَنْ لَا يَسْتَوِيَ الصَّالِحُ وَالطَّالِحُ، وَالْمُطِيعُ وَالْعَاصِي، فَعَلِمُوا أَنَّ لِكُلٍّ مُسْتَقَرًّا مُنَاسِبًا فَسَأَلُوا أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ الْمُجَنَّبِينَ عَذَابَ النَّارِ.
وَقَوْلُهُمْ: رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ مَسُوقٌ مَسَاقُ التَّعْلِيلِ لِسُؤَالِ الْوِقَايَةِ مِنَ النَّار، كَمَا توذن بِهِ (إِنَّ) الْمُسْتَعْمَلَةُ لِإِرَادَةِ الِاهْتِمَامِ إِذْ لَا مَقَامَ لِلتَّأْكِيدِ هُنَا. وَالْخِزْيُ مَصْدَرُ خَزِيَ يَخْزَى بِمَعْنَى ذَلَّ وَهَانَ بِمَرْأًى مِنَ النَّاسِ، وَأَخْزَاهُ أذلّه على رُؤُوس الْأَشْهَادِ، وَوَجْهُ تَعْلِيلِ طَلَبِ الْوِقَايَةِ مِنَ النَّارِ بِأَنَّ دُخُولَهَا خِزْيٌ بَعْدَ الْإِشَارَة إِلَى مُوجب ذَلِكَ الطَّلَبِ بِقَوْلِهِمْ: عَذابَ النَّارِ أَنَّ النَّارَ مَعَ مَا فِيهَا مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ فِيهَا قَهْرٌ لِلْمُعَذَّبِ وَإِهَانَةٌ عَلَنِيَّةٌ، وَذَلِكَ مَعْنًى مُسْتَقِرٌّ فِي نُفُوسِ النَّاسِ، وَمِنْهُ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ [بالشعراء: ٨٧] وَذَلِكَ لِظُهُورِ وَجْهِ الرَّبْطِ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، أَيْ مَنْ يَدْخُلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ. وَالْخِزْيُ لَا تُطِيقُهُ الْأَنْفُسُ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَأْوِيلٍ تَأَوَّلُوهُ عَلَى مَعْنَى فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ
خِزْيًا عَظِيمًا. وَنَظَّرَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» بِقَوْلِ رُعَاةِ الْعَرَبِ: «مَنْ أَدْرَكَ مَرْعَى الصَّمَّانِ فَقَدْ أَدْرَكَ» أَيْ فَقَدْ أدْرك مرعى مخصبا لِئَلَّا يَكُونَ مَعْنَى الْجَزَاءِ ضَرُورِيَّ الْحُصُولِ مِنَ الشَّرْطِ فَلَا تَظْهَرُ فَائِدَةٌ لِلتَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ، لِأَنَّهُ يُخَلِّي الْكَلَامَ عَنِ الْفَائِدَةِ حِينَئِذٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ [آل عمرَان: ١٨٥].
وَلِأَجْلِ هَذَا أَعْقَبُوهُ بِمَا فِي الطِّبَاعِ التَّفَادِي بِهِ عَنِ الْخِزْيِ وَالْمَذَلَّةِ بِالْهَرَعِ إِلَى أَحْلَافِهِمْ وَأَنْصَارِهِمْ، فَعَلِمُوا أَنْ لَا نَصِيرَ فِي الْآخِرَةِ لِلظَّالِمِ فَزَادُوا بِذَلِكَ
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ١١٤]
لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١١٤)لَمْ تَخْلُ الْحَوَادِثُ الَّتِي أَشَارَتْ إِلَيْهَا الْآيُ السَّابِقَةُ، وَلَا الْأَحْوَالُ الَّتِي حَذَّرَتْ مِنْهَا، مِنْ تَنَاجٍ وَتَحَاوُرٍ، سِرًّا وَجَهْرًا، لِتَدْبِيرِ الْخِيَانَاتِ وَإِخْفَائِهَا وَتَبْيِيتِهَا، لِذَلِكَ كَانَ الْمَقَامُ حَقِيقًا بِتَعْقِيبِ جَمِيعِ ذَلِكَ بِذِكْرِ النَّجْوَى وَمَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَعْلِيمًا وَتَرْبِيَةً وَتَشْرِيعًا، إِذِ النَّجْوَى مِنْ أَشْهَرِ الْأَحْوَالِ الْعَارِضَةِ لِلنَّاسِ فِي مُجْتَمَعَاتِهِمْ، لَا سِيَّمَا فِي وَقْتِ ظُهُورِ الْمُسْلِمِينَ بِالْمَدِينَةِ، فَقَدْ كَانَ فِيهَا الْمُنَافِقُونَ وَالْيَهُودُ وَضُعَفَاءُ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَانَ التَّنَاجِي فَاشِيًا لِمَقَاصِدَ مُخْتَلِفَةٍ، فَرُبَّمَا كَانَ يُثِيرُ فِي نُفُوسِ الرَّائِينَ لِتِلْكَ الْمُنَاجَاةِ شَكًّا، أَيْ خَوْفًا، إِذْ كَانَ الْمُؤْمِنُونَ فِي حَالِ مُنَاوَاةٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، فَلِذَلِكَ تَكَرَّرَ النَّهْيُ عَنِ النَّجْوَى فِي الْقُرْآنِ نَحْوَ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى [المجادلة: ٨] الْآيَاتِ، وَقَوْلُهُ: إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى [الْإِسْرَاء: ٤٧] وَقَوْلُهُ: وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ [الْبَقَرَة: ١٤]، فَلِذَلِكَ ذَمَّ اللَّهُ النَّجْوَى هُنَا أَيْضًا، فَقَالَ: لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ. فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا لِإِفَادَةِ حُكْمِ النَّجْوَى، وَالْمُنَاسَبَةُ قَدْ تَبَيَّنَتْ.
وَالنَّجْوَى مَصْدَرٌ، هِيَ الْمُسَارَّةُ فِي الْحَدِيثِ، وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ النَّجْوِ، وَهُوَ الْمَكَانُ الْمُسْتَتِرُ الَّذِي الْمُفْضِي إِلَيْهِ يَنْجُو مِنْ طَالِبِهِ، وَيُطْلَقُ النَّجْوَى عَلَى الْمُنَاجِينَ، وَفِي الْقُرْآنِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى، وَهُوَ- وَصْفٌ بِالْمَصْدَرِ- وَالْآيَةُ تَحْتَمِلُ الْمَعْنَيَيْنِ.
وَالضَّمِيرُ الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِ نَجْوى ضَمِيرُ جَمَاعَةِ النَّاسِ كُلِّهِمْ، نَظِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ إِلَى قَوْلِهِ: وَما يُعْلِنُونَ فِي سُورَةِ هُودٍ [٥]، وَلَيْسَ عَائِدًا إِلَى مَا عَادَتْ إِلَيْهِ الضَّمَائِرُ الَّتِي قَبْلَهُ فِي قَوْلِهِ: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ
[النِّسَاء: ١٠٨] إِلَى هُنَا لِأَنَّ الْمَقَامَ مَانِعٌ مِنْ عَوْدِهِ إِلَى تِلْكَ الْجَمَاعَةِ إِذْ لَمْ تَكُنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا فِيمَا يَخْتَصُّ بِقَضِيَّتِهِمْ، فَلَا عُمُومَ لَهَا يَسْتَقِيمُ مَعَهُ الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ. وَعَلَى هَذَا فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ تَرْبِيَةٌ اجْتِمَاعِيَّةٌ دَعَتْ إِلَيْهَا الْمُنَاسَبَةُ، فَإِنَّ شَأْنَ الْمُحَادَثَاتِ
أَنْ تَزْعُمَ أَنَّ لَهُ فَاعِلًا قَدْ نُقِلَ عَنْهُ الْفِعْلُ فَجُعِلَ لِلْهَوَى وَلِلْوَجْهِ» اه. وَلَقَدْ وَهِمَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ (١) فِي تَبْيِينِ كَلَامِ عَبْدِ الْقَاهِرِ فَطَفِقَ يَجْلِبُ الشَّوَاهِدَ الدَّالَّةَ عَلَى أَنَّ أَفْعَالًا قَدْ أُسْنِدَتْ لِفَاعِلٍ مُجَازِيٍّ مَعَ أَنَّ فَاعِلَهَا الْحَقِيقِيَّ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، فَإِنَّ الشَّيْخَ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ يَبْحَثُ عَنِ الْفَاعِلِ الَّذِي يُسْنَدُ إِلَيْهِ الْفِعْلُ حَقِيقَةً فِي عُرْفِ النَّاسِ مِنْ مُؤْمِنِينَ وَكَافِرِينَ. وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ: «إِذَا أَنْتَ نَقَلْتَ الْفِعْلَ إِلَيْهِ» أَيْ أَسْنَدْتَهُ إِلَيْهِ.
وَمَعْنَى الْمُسَارَعَةِ فِي الْكُفْرِ إِظْهَارُ آثَارِهِ عِنْدَ أَدْنَى مُنَاسَبَةٍ وَفِي كُلِّ فُرْصَةٍ، فَشَبَّهَ إِظْهَارَهُ الْمُتَكَرِّرَ بِإِسْرَاعِ الْمَاشِي إِلَى الشَّيْءِ، كَمَا يُقَالُ: أَسْرَعَ إِلَيْهِ الشَّيْبُ، وَقَوْلُهُ: إِذَا نُهِيَ السَّفِيهُ جَرَى إِلَيْهِ. وعدّي بفي الدَّالَّةِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْإِسْرَاعَ مَجَازٌ بِمَعْنَى التَّوَغُّلِ، فَيَكُونُ (فِي) قَرِينَةَ الْمَجَازِ، كَقَوْلِهِمْ: أَسْرَعَ الْفَسَادُ فِي الشَّيْءِ، وَأَسْرَعَ الشَّيْبُ فِي رَأْسِ فُلَانٍ. فَجَعَلَ الْكُفْرَ بِمَنْزِلَةِ الظَّرْفِ وَجَعَلَ تَخَبُّطَهُمْ فِيهِ وَشِدَّةَ مُلَابَسَتِهِمْ إِيَّاهُ بِمَنْزِلَةِ جَوَلَانِ الشَّيْءِ فِي الظَّرْفِ جَوَلَانًا بِنَشَاطٍ وَسُرْعَةٍ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ [الْمَائِدَة: ٦٢]، وَقَوْلُهُ: نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ [الْمُؤْمِنُونَ: ٥٦]، أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ [الْمُؤْمِنُونَ: ٦١]. فَهِيَ اسْتِعَارَةٌ مُتَكَرِّرَةٌ فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ. وَسَيَجِيءُ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهَا وَهُوَ قَوْلُهُ: يُسارِعُونَ فِيهِمْ [الْمَائِدَة: ٥٢].
وَقَوْلُهُ: مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ إِلَخْ بَيَانٌ لِلَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ. وَالَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ هُمُ الْمُنَافِقُونَ.
وَقَوْلُهُ: وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا وَالْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا.
وَقَوْلُهُ: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: هُمْ سَمَّاعُونَ
_________
(١) فِي كِتَابه «نِهَايَة الإيجاز».
وَالْمُرَادُ بِ الَّذِي يَقُولُونَ أَقْوَالَهُمُ الدَّالَّةَ عَلَى عَدَمِ تَصْدِيقِهِمُ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ [الْأَنْعَام: ٣٤]، فَعَدَلَ عَنْ ذِكْرِ اسْمِ التَّكْذِيبِ وَنَحْوِهِ إِلَى اسْمِ الْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ تَنْزِيهًا لِلرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- عَنْ ذِكْرِ هَذَا اللَّفْظِ الشَّنِيعِ فِي جَانِبِهِ تَلَطُّفًا مَعَهُ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ لَيَحْزُنُكَ- بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ-. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ- بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الزَّايِ- يُقَالُ: أَحْزَنْتَ الرَّجُلَ- بِهَمْزَةِ تَعْدِيَةٍ لِفِعْلِ حَزَنَ، وَيُقَالُ: حَزَنْتُهُ أَيْضًا.
وَعَنِ الْخَلِيلِ: أَنَّ حَزَنْتُهُ، مَعْنَاهُ جَعَلْتُ فِيهِ حُزْنًا كَمَا يُقَالُ: دَهَنْتُهُ. وَأَمَّا التَّعْدِيَةُ فَلَيْسَتْ إِلَّا بِالْهَمْزَةِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: حَزَنْتُ الرَّجُلَ، أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا، وَأَحْزَنْتُهُ، أَقْيَسُ. والَّذِي يَقُولُونَ هُوَ قَوْلُهُمْ سَاحِرٌ، مَجْنُونٌ، كَاذِبٌ، شَاعِرٌ. فَعَدَلَ عَنْ تَفْصِيلِ قَوْلِهِمْ إِلَى إِجْمَالِهِ إِيجَازًا أَوْ تَحَاشِيًا عَنِ التَّصْرِيحِ بِهِ فِي جَانِبِ الْمُنَزَّهِ عَنْهُ.
وَالضَّمِيرُ الْمَجْعُولُ اسْمَ (إِنَّ) ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَاللَّامُ لَامُ الْقَسَمِ، وَفعل لَيَحْزُنُكَ
فعل الْقَسَمِ، والَّذِي يَقُولُونَ فَاعِلُهُ، وَاللَّامُ فِي لَيَحْزُنُكَ لَامُ الِابْتِدَاء، وَجُمْلَة لَيَحْزُنُكَ خَبَرُ إِنَّ، وَضَمَائِرُ الْغَيْبَةِ رَاجِعَةٌ إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قَوْلِهِ «ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ».
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّهُمْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّعْلِيلِ، وَالْمُعَلَّلُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:
قَدْ نَعْلَمُ، أَيْ فَلَا تَحْزَنْ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ، أَيْ لِأَنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ. وَيَجُوزُ كَوْنُهَا لِلْفَصِيحَةِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَإِنْ كَانَ يُحْزِنُكَ ذَلِكَ لِأَجْلِ التَّكْذِيبِ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ، فَاللَّهُ قَدْ سَلَّى رَسُولَهُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِأَنْ أَخْبَرَهُ بِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يُكَذِّبُونَهُ وَلَكِنَّهُمْ أَهْلُ جُحُودٍ وَمُكَابَرَةٍ. وَكَفَى بِذَلِكَ تَسْلِيَةً. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى قَدْ نَعْلَمُ، أَيْ فَعِلْمُنَا بِذَلِكَ يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ أَنَّا نُثَبِّتُ فُؤَادَكَ وَنَشْرَحُ صَدْرَكَ بِإِعْلَامِكَ أَنَّهُمْ لَا يكذبُونَك، وَإِن نُذَكِّرَكَ بِسُنَّةِ الرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ، وَنُذَكِّرَكَ بِأَنَّ الْعَاقِبَةَ هِيَ نَصْرُكَ كَمَا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ لَا يُكَذِّبُونَكَ،- بِسُكُونِ الْكَافِ وَتَخْفِيفِ الذَّالِ-. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِفَتْحِ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ الذَّالِ-. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ إِنَّ أَكْذَبَ وَكَذَّبَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، أَيْ نَسَبَهُ إِلَى الْكَذِبِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَكْذَبَهُ، وَجَدَهُ كَاذِبًا،
مِنَ اللَّهِ، وَأَنَّهُ جَعَلَهُ دِينًا قَيِّمًا عَلَى قَوَاعِدِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِلَّا أَنَّهُ زَائِد عَلَيْهِ بِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ إِذْ هَدَاهُ إِلَى ذَلِكَ الصِّرَاطِ الَّذِي هُوَ سَبِيلُ النَّجَاةِ. وَافْتُتِحَ الْخَبَرُ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِأَنَّ الْخِطَابَ لِلْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ.
وَتَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ بِالْإِضَافَةِ لِلِاعْتِزَازِ بمربوبية الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَتَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أَضَلَّهُمْ أَرْبَابُهُمْ، وَلَوْ وَحَّدُوا الرَّبَّ الْحَقِيقَ بِالْعِبَادَةِ لَهَدَاهُمْ.
وَقَوْلُهُ: هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ تَمْثِيلِيَّةٌ: شَبَّهَتْ هَيْئَةَ الْإِرْشَادِ إِلَى الحقّ المبلّغ إِلَى النّجاة بِهَيْئَةِ مَنْ يَدُلُّ السَّائِرَ عَلَى الطَّرِيقِ الْمُبَلِّغَةِ لِلْمَقْصُودِ.
وَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الْهِدَايَةِ وَبَيْنَ الصِّرَاطِ تَامَّةٌ، لِأَنَّ حَقِيقَة الْهِدَايَة التّعريف بِالطَّرِيقِ، يُقَالُ: هُوَ هَادٍ خِرِّيتٌ، وَحَقِيقَةُ الصِّرَاطِ الطَّرِيقُ الْوَاسِعَةُ. وَقَدْ صَحَّ أَنْ تُسْتَعَارَ الْهِدَايَةُ لِلْإِرْشَادِ وَالتَّعْلِيمِ، وَالصِّرَاطُ لِلدِّينِ الْقَوِيمِ، فَكَانَ تَشْبِيهًا مُرَكَّبًا قَابِلًا لِلتَّفْكِيكِ وَهُوَ أَكْمَلُ أَحْوَالِ التَّمْثِيلِيَّةِ.
وَوُصِفَ الصِّرَاطُ بِالْمُسْتَقِيمِ، أَيِ الَّذِي لَا خَطَأَ فِيهِ وَلَا فَسَادَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ [الْأَنْعَام: ١٥٣]، وَالْمَقْصُودُ إِتْمَامُ هَيْئَةِ التَّشْبِيهِ بِأَنَّهُ دِينٌ لَا يَتَطَرَّقُ مُتَّبِعَهُ شَكٌّ فِي نَفْعِهِ كَمَا لَا يَتَرَدَّدُ سَالِكُ الطَّرِيقِ الْوَاسِعَةِ الَّتِي لَا انْعِطَافَ فِيهَا وَلَا يَتَحَيَّرُ فِي أَمْرِهِ.
وَفِي قَوْلِهِ: دِيناً تَجْرِيدٌ لِلِاسْتِعَارَةِ مُؤْذِنٌ بِالْمُشَبَّهِ، وَانْتَصَبَ عَلَى الْحَالِ مِنْ:
صِراطٍ لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ.
وَالدِّينُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمرَان: ١٩] وَهُوَ السِّيرَةُ الَّتِي يَتَّبِعُهَا النَّاسُ.
الْإِغْرَاقُ، وَالْإِنْجَاءُ وَاقِعٌ بَعْدَهُ، وَلِيَتَأَتَّى هَذَا التَّقْدِيمُ عُطِفَ فِعْلُ الْإِنْجَاءِ بِالْوَاوِ الْمُفِيدَةِ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ، دُونَ الْفَاءِ.
وَقَوْلُهُ: فِي الْفُلْكِ مُتَعَلِّقٌ بِمَعْنَى قَوْلِهِ: مَعَهُ لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ: اسْتَقَرُّوا مَعَهُ فِي الْفُلْكِ، وَبِهَذَا التَّعْلِيقِ عُلِمَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ فِي الْفُلْكِ مَعْشَرًا، وَأَنَّهُمْ كَانُوا مُصَدِّقِينَ لَهُ، فَكَانَ هَذَا التَّعْلِيقٌ إِيجَازًا بَدِيعًا.
وَالْفُلْكُ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٤].
وَالَّذِينَ مَعَهُ هُمُ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ، وَسَنَذْكُرُ تَعْيِينَهُمْ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قِصَّتِهِ فِي سُورَةِ هُودٍ.
وَالْإِتْيَانُ بِالْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ: وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا دُونَ أَنْ يُقَالَ: وَأَغْرَقْنَا سَائِرَهُمْ، أَوْ بَقِيَّتَهُمْ، لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ الصِّلَةُ مِنْ وَجْهِ تَعْلِيلِ الْخَبَرِ فِي قَوْلِهِ: وَأَغْرَقْنَا أَيْ أَغْرَقْنَاهُمْ لِأَجْلِ تَكْذِيبِهِمْ.
وَجُمْلَةُ: إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ تَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْعِلَّةِ لِجُمْلَةِ أَغْرَقْنَا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَرْفُ (إِنَّ) لِأَنَّ حَرْفَ (إِنَّ) هُنَا لَا يُقْصَدُ بِهِ رَدُّ الشَّكِّ وَالتَّرَدُّدِ، إِذْ لَا شَكَّ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مِنَ الْحَرْفِ الدَّلَالَةُ عَلَى الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ، وَمِنْ شَأْنِ (إِنَّ) إِذَا جَاءَتْ لِلِاهْتِمَامِ أَنْ تَقُومَ مَقَامَ فَاءِ التَّفْرِيعِ، وَتُفِيدَ التَّعْلِيلَ وَرَبْطَ الْجُمْلَةِ بِالَّتِي قَبْلَهَا. فَفَصْلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ كَلَا فَصْلٍ.
وعَمِينَ جَمْعُ عَمٍ جَمْعُ سَلَامَةٍ بِوَاوٍ وَنُونٍ. وَهُوَ صِفَةٌ عَلَى وَزْنِ فَعِلٍ مِثْلُ أَشِرٍ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْعَمَى، وَأَصْلُهُ فُقْدَانُ الْبَصَرِ، وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى فُقْدَانِ الرَّأْيِ النَّافِعِ، وَيُقَالُ:
عَمَى الْقَلْبِ، وَقَدْ غُلِّبَ فِي الْكَلَامِ تَخْصِيصُ الْمَوْصُوفِ بِالْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ بِالصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ لِدَلَالَتِهَا عَلَى ثُبُوتِ الصِّفَةِ، وَتُمَكِّنُهَا بِأَنْ تَكُونَ سَجِيَّةً وَإِنَّمَا يَصْدُقُ ذَلِكَ فِي فَقْدِ الرَّأْيِ، لِأَنَّ الْمَرْءَ يُخْلَقُ عَلَيْهِ غَالِبًا، بِخِلَافِ فَقْدِ الْبَصَرِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى هُنَا عَمِينَ وَلَمْ يَقُلْ عُمْيًا كَمَا
وَأَجَلُ غَيْرِهِمْ مِنَ النَّاسِ فَيَكُونُ تَخْوِيفًا مِنْ يَوْمِ الْجَزَاءِ.
وَمِنْ بَدِيعِ نَظْمِ هَذِهِ الْآيَاتِ: أَنَّهُ لَمَّا أُرِيدَ التَّبَصُّرُ وَالتَّفَكُّرُ فِي ثُبُوتِ الْحَقَائِقِ وَالنَّسَبِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ جِيءَ مَعَ فِعْلَيِ الْقَلْبِ بِصِيغَةِ الْقَضِيَّةِ وَالْخَبَرِ فِي قَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ [الْأَعْرَاف: ١٨٤] وَقَوْلِهِ: وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ وَلَمَّا أُرِيدَ التَّبَصُّرُ وَالتَّفَكُّرُ فِي صِفَاتِ الذَّاتِ جُعِلَ فِعْلُ الْقَلْبِ مُتَعَلِّقًا بِأَسْمَاءِ الذَّوَاتِ فِي قَوْلِهِ:
أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ.
ثُمَّ فَرَّعَ عَلَى التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ تَوْبِيخَهُمْ وَالْإِنْكَارَ عَلَيْهِمْ بطريقة الِاسْتِفْهَام التعجيبي الْمُفِيدِ لِلِاسْتِبْعَادِ بِقَوْلِهِ: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ فَهُوَ تَعْجِيبٌ مَشُوبٌ بِاسْتِبْعَادٍ لِلْإِيمَانِ بِمَا أَبْلَغَ إِلَيْهِمُ اللَّهُ بِلِسَانِ رَسُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَمَا نَصَبَ لَهُمْ مِنَ الْآيَاتِ فِي أَصْنَافِ الْمَخْلُوقَاتِ، فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ قَدْ بَلَغَ مُنْتَهَى الْبَيَانِ قَوْلًا وَدَلَالَةً بِحَيْثُ لَا مَطْمَعَ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ أَدَلَّ مِنْهُ.
وَ (أَيْ) هُنَا اسْمٌ أُشْرِبَ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ، وَأَصْلُهُ اسْمٌ مُبْهَمٌ يُفَسِّرُهُ مَا يُضَافُ هُوَ إِلَيْهِ، وَهُوَ اسْمٌ لِحِصَّةٍ مُتَمَيِّزَةٍ عَمَّا يُشَارِكُهَا فِي نَوْعٍ مِنْ جِنْسٍ أَوْ صِفَةٍ، فَإِذَا أُشْرِبَ (أَيْ) مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ، كَانَ لِلسُّؤَالِ عَنْ تَعْيِينِ مُشَارِكٍ لِغَيْرِهِ فِي الْوَصْفِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِمَا تُضَافُ إِلَيْهِ (أَيْ) طلبا لتعيينه، فالمسؤول عَنْهُ بِهَا مُسَاوٍ لِمُمَاثِلٍ لَهُ مَعْرُوفٍ فَقَوْلُهُ: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ سُؤَالٌ عَنِ الْحَدِيثِ الْمَجْهُولِ الْمُمَاثِلِ لِلْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ بَيْنَ السَّائِلِ وَالْمَسْئُولِ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى (أَيٍّ) عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ فِي سُورَةِ الْقَلَمِ [٥، ٦].
وَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْكَارِ، أَيْ لَا يُؤْمِنُونَ بِشَيْءٍ مِنَ الْحَدِيثِ بَعْدَ هَذَا الْحَدِيثِ.
وَحَقِيقَةُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ الْخَبَرُ وَالْقِصَّةُ الْحَادِثَةُ هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ [الذاريات: ٢٤] وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى الْأَمْرِ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَصِيرَ حَدِيثًا وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ.
ف «الحَدِيث» هُنَا إِنْ حُمِلَ عَلَى حَقِيقَتِهِ جَازَ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْقُرْآنُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ [الطّور: ٣٤] فَيَكُونُ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: بَعْدَهُ بِمَعْنَى بَعْدَ الْقُرْآنِ، أَيْ بَعْدَ نُزُولِهِ، وَجَازَ أَنْ يُرَادَ بِهِ دَعْوَى مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرِّسَالَةَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَكِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ يُنَاسِبُ قَوْلَهُ: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ [الْأَعْرَاف: ١٨٤].
ذَلِكَ الطَّلَبَ
بِالِالْتِصَاقِ بِالْأَرْضِ، وَالتَّمَكُّنِ مِنَ الْقُعُودِ، فَيَأْبَى النُّهُوضَ فَضْلًا عَنِ السَّيْرِ.
وَقَوْلُهُ: إِلَى الْأَرْضِ كَلَامٌ مُوَجَّهٌ بَدِيعٌ: لِأَنَّ تَبَاطُؤَهُمْ عَنِ الْغَزْوِ، وَتَطَلُّبَهُمُ الْعُذْرَ، كَانَ أَعْظَمُ بَوَاعِثِهِ رَغْبَتَهُمُ الْبَقَاءَ فِي حَوَائِطِهِمْ وَثِمَارِهِمْ، حَتَّى جَعَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مَعْنَى اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ: مِلْتُمْ إِلَى أَرْضِكُمْ وَدِيَارِكُمْ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا إِنْكَارِيٌ تَوْبِيخِيٌ، إِذْ لَا يَلِيقُ ذَلِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ.
ومِنَ فِي مِنَ الْآخِرَةِ لِلْبَدَلِ: أَيْ كَيْفَ تَرْضَوْنَ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا بَدَلًا عَنِ الْآخِرَةِ.
وَمِثْلُ ذَلِكَ لَا يُرْضَى بِهِ وَالْمُرَادُ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَبِالْآخِرَةِ: مَنَافِعُهُمَا، فَإِنَّهُمْ لَمَّا حَاوَلُوا التَّخَلُّفَ عَنِ الْجِهَادِ قَدْ آثَرُوا الرَّاحَةَ فِي الدُّنْيَا عَلَى الثَّوَابِ الْحَاصِلِ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي الْآخِرَةِ.
وَاخْتِيرَ فِعْلُ رَضِيتُمْ دُونَ نَحْوِ آثَرْتُمْ أَوْ فَضَّلْتُمْ: مُبَالَغَةً فِي الْإِنْكَارِ، لِأَنَّ فِعْلَ (رَضِيَ بِكَذَا) يَدُلُّ عَلَى انْشِرَاحِ النَّفْسِ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فِي حَدِيثِ الْغَارِ «فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ».
وَالْمَتَاعُ: اسْمُ مَصْدَرِ تَمَتَّعَ، فَهُوَ الِالْتِذَاذُ وَالتَّنَعُّمُ، كَقَوْلِهِ: مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ [عبس: ٣٢] وَوَصْفُهُ بِ قَلِيلٌ بِمَعْنَى ضَعِيفٍ وَدَنِيءٍ اسْتُعِيرَ الْقَلِيلُ لِلتَّافِهِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَتَاعُ هُنَا مُرَادًا بِهِ الشَّيْءُ الْمُتَمَتَّعُ بِهِ، مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ عَلَى الْمَفْعُولِ، كَالْخَلْقِ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ فَالْإِخْبَارُ عَنْهُ بِالْقَلِيلِ حَقِيقَةٌ.
وَحَرْفُ فِي مِنْ قَوْلِهِ: فِي الْآخِرَةِ دَالٌّ عَلَى مَعْنَى الْمُقَايَسَةِ، وَقَدْ جَعَلُوا الْمُقَايَسَةَ مِنْ مَعَانِي فِي كَمَا فِي «التسهيل» و «الْمُغنِي»، وَاسْتَشْهَدُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ أَخْذًا مِنَ «الْكَشَّافِ» وَلَمْ يَتَكَلَّمْ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى شَارِحُوهُمَا وَلَا شَارِحُو «الْكَشَّافِ»، وَقَدْ تَكَرَّرَ نَظِيرُهُ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [٢٦] وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ،
وَقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ «مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا كَمَثَلِ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ فِي الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجِعُ»
وَهُوَ فِي التَّحْقِيقِ (مِنْ) الظَّرْفِيَّةُ الْمَجَازِيَّةُ: أَيْ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا إِذَا أُقْحِمَ فِي خَيْرَاتِ الْآخِرَةِ كَانَ قَلِيلًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى كَثْرَةِ خَيْرَاتِ الْآخِرَةِ، فَلَزِمَ أَنَّهُ مَا ظَهَرَتْ قلّته إلّا عِنْد مَا قِيسَ بِخَيْرَاتٍ عَظِيمَةٍ وَنُسِبَ إِلَيْهَا، فَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْمُقَايَسَةَ مَعْنًى حَاصِلٌ لِاسْتِعْمَالِ حَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ، وَلَيْسَ مَعْنًى مَوْضُوعًا لَهُ حرف (فِي).
بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى مَعَ تَغْلِيبِ الْمُذَكَّرِ عَلَى الْمُؤَنَّثِ، وَعَبَّرَ عَن الْإِسْرَار المستقبلي بِلَفْظِ الْمَاضِي تَنْبِيهًا عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ قَدْ مَضَى، وَالْمَعْنَى: وَسَيُسِرُّونَ النَّدَامَةَ قَطْعًا.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ.
وَالنَّدَامَةُ: النَّدَمُ، وَهُوَ أَسَفٌ يَحْصُلُ فِي النَّفْسِ عَلَى تَفْوِيتِ شَيْءٍ مُمْكِنٍ عَمَلُهُ فِي الْمَاضِي، وَالنَّدَمُ مِنْ هَوَاجِسِ النَّفْسِ، فَهُوَ أَمْرٌ غَيْرُ ظَاهِرٍ وَلَكِنَّهُ كَثِيرٌ، أَيْ يَصْدُرُ عَنْ صَاحِبِهِ قَوْلٌ أَوْ فِعْلٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَإِذَا تَجَلَّدَ صَاحِبُ النَّدَمِ فَلَمْ يُظْهِرْ قَوْلًا وَلَا فِعْلًا فَقَدْ أَسَرَّ النَّدَامَةَ، أَيْ قَصَرَهَا عَلَى سِرِّهِ فَلَمْ يُظْهِرْهَا بِإِظْهَارِ بَعْضِ آثَارِهَا، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ شِدَّةِ الْهَوْلِ فَإِنَّمَا أَسَرُّوا النَّدَامَةَ لِأَنَّهُمْ دُهِشُوا لِرُؤْيَةِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ فَلَمْ يُطِيقُوا صُرَاخًا وَلَا عَوِيلًا.
وَجُمْلَةُ: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَأَسَرُّوا مُسْتَأْنَفَةً.
وَمَعْنَى: قُضِيَ بَيْنَهُمْ قُضِيَ فِيهِمْ، أَيْ قُضِيَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ بِالْعَدْلِ، فَالْقَضَاءُ بِالْعَدْلِ وَقَعَ فِيهِمْ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُ قُضِيَ بَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ وَآخَرَ لِأَنَّ الْقَضَاءَ هُنَا لَيْسَ قَضَاءَ نِزَاعٍ وَلَكِنَّهُ قَضَاءُ زَجْرٍ وَتَأْنِيبٍ، إِذْ لَيْسَ الْكَلَامُ هُنَا إِلَّا عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ صِنْفٌ وَاحِدٌ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ [يُونُس: ٤٧] فَإِنَّ ذَلِكَ قَضَاءٌ بَيْنَ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ وَبَيْنَ الرُّسُلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ [الْأَعْرَاف: ٦، ٧].
وَجُمْلَةُ: وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ حَالية.
[٥٥، ٥٦]
[سُورَة يُونُس (١٠) : الْآيَات ٥٥ إِلَى ٥٦]
أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٥٥) هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٥٦)
تَذْيِيلُ تَنْهِيَةٍ لِلْكَلَامِ الْمُتَعَلِّقِ بِصِدْقِ الرَّسُولِ وَالْقُرْآنِ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْوَعِيدِ وَتَرَقُّبِ يَوْمِ الْبَعْثِ وَيَوْمِ نُزُولِ الْعَذَابِ بِالْمُشْرِكِينَ. وَقَدِ اشْتَمَلَ هَذَا التَّذْيِيلُ عَلَى مُجْمَلِ تَفْصِيلِ ذَلِكَ الْغَرَضِ، وَعَلَى تَعْلِيلِهِ بِأَنَّ من هَذِه شؤونه لَا يَعْجِزُ عَنْ تَحْقِيقِ مَا أَخْبَرَ بِوُقُوعِهِ.
وَعَدَدُ آيِهَا مِائَةٌ وَإِحْدَى عَشْرَةَ آيَةً بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِ الْعَدَدِ فِي الْأَمْصَارِ.
مِنْ مَقَاصِدِ هَذِهِ السُّورَةِ
رَوَى الْوَاحِدِيُّ وَالطَّبَرِيُّ يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ قَالَ:
أُنْزِلَ الْقُرْآنُ فَتَلَاهُ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى أَصْحَابِهِ زَمَانًا، فَقَالُوا (أَيِ الْمُسْلِمُونَ بِمَكَّةَ) :
يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ قَصَصْتَ عَلَيْنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [سُورَة يُوسُف: ١، ٢] الْآيَاتِ الثَّلَاثَ.
فَأَهَمُّ أَغْرَاضِهَا: بَيَانُ قِصَّةِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَعَ إِخْوَتِهِ، وَمَا لَقِيَهُ فِي حَيَاتِهِ، وَمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْعِبَرِ مِنْ نَوَاحٍ مُخْتَلِفَةٍ.
وَفِيهَا إِثْبَاتُ أَنَّ بَعْضَ الْمَرَائِي قَدْ يَكُونُ إِنْبَاءً بِأَمْرٍ مُغَيَّبٍ، وَذَلِكَ مِنْ أُصُولِ النُّبُوءَاتِ وَهُوَ مِنْ أُصُولُ الْحِكْمَةِ الْمَشْرِقِيَّةِ كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً [سُورَة يُوسُف: ٤] الْآيَاتِ.
وَأَنَّ تَعْبِيرَ الرُّؤْيَا عِلْمٌ يَهَبُهُ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ صَالِحِي عِبَادِهِ.
وَتَحَاسُدُ الْقَرَابَةِ بَيْنَهُمْ.
وَلُطْفُ اللَّهِ بِمَنْ يَصْطَفِيهِ مِنْ عباده.
وَالْعبْرَة بِحَسب الْعَوَاقِبِ، وَالْوَفَاءِ، وَالْأَمَانَةِ، وَالصِّدْقِ، وَالتَّوْبَةِ.
وَسُكْنَى إِسْرَائِيلَ وَبَنِيهِ بِأَرْضِ مصر.
وتسلية النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا لَقِيَهُ يَعْقُوبُ وَيُوسُفُ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- مِنْ آلِهِمْ مِنَ الْأَذَى.
وَقد لَقِي النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ آلِهِ أَشَدَّ مَا لَقِيَهُ مِنْ بُعَدَاءِ كَفَّارِ قَوْمِهِ، مِثْلَ عَمِّهِ أَبِي لَهَبٍ، وَالنَّضِرِ بْنِ الْحَارِثِ،
وَجَعَلُوا الشَّكَّ قَوِيًّا فَلِذَلِكَ عُبِّرَ عَنْهُ بِأَنَّهُمْ مَظْرُوفُونَ فِيهِ، أَيْ هُوَ مُحِيطٌ بِهِمْ وَمُتَمَكِّنٌ كَمَالَ التَّمَكُّنِ.
ومُرِيبٍ تَأْكِيد لِمَعْنى لَفِي شَكٍّ، والمريب: المتوقع فِي الرَّيْبِ، وَهُوَ مُرَادِفُ الشَّكِّ، فَوَصْفُ الشَّكِّ بِالْمُرِيبِ مِنْ تَأْكِيدِ مَاهِيَّتِهِ، كَقَوْلِهِمْ: لَيْلٌ أَلْيَلُ، وَشِعْرٌ شَاعِرٌ.
وَحُذِفَتْ إِحْدَى النُّونَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّا تَخْفِيفًا تَجَنُّبًا لِلثِّقَلِ النَّاشِئِ مِنْ وُقُوعِ نُونَيْنِ آخَرِينِ بَعْدُ فِي قَوْلِهِ: تَدْعُونَنا اللَّازِمُ ذِكْرُهُمَا، بِخِلَافِ آيَةِ سُورَةِ هُودٍ [٦٢] وَإِنَّنا لَفِي
شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا
إِذْ لَمْ يَكُنْ مُوجِبٌ لِلتَّخْفِيفِ لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ فِيهَا بِقَوْلِهِ: تَدْعُونا وَاحِدٌ.
[١٠]
[سُورَة إِبْرَاهِيم (١٤) : آيَة ١٠]
قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٠)
قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى.
اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ. وَمَوْرِدُ الْإِنْكَارِ هُوَ وُقُوعُ الشَّكِّ فِي وُجُودِ اللَّهِ، فَقُدِّمَ مُتَعَلِّقُ الشَّكِّ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، وَلَوْ قَالَ: أَشُكُّ فِي اللَّهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ هَذَا الْوَقْعُ، مِثْلَ قَوْلِ الْقَطَامِيِّ:
أَكُفْرًا بَعْدَ رَدِّ الْمَوْتِ عَنِّي | وَبَعْدَ عَطَائِكَ الْمِائَةَ الرَّتَاعَا |
وَعُلِّقَ اسْمُ الْجَلَالَةِ بِالشَّكِّ، وَالِاسْمُ الْعَلَمُ يَدُلُّ عَلَى الذَّاتِ. وَالْمُرَادُ إِنْكَارُ وُقُوعِ الشَّكِّ فِي أَهَمِّ الصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَهِيَ صِفَةُ التَّفَرُّدِ بِالْإِلَهِيَّةِ، أَيْ صِفَةُ الْوَحْدَانِيَّةِ.
وَأُتْبِعَ اسْمُ الْجَلَالَةِ بِالْوَصْفِ الدَّالِّ عَلَى وُجُودِهِ وَهُوَ وُجُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الدَّالُّ عَلَى أَنَّ لَهُمَا خَالِقًا حَكِيمًا لِاسْتِحَالَةِ صُدُورِ تِلْكَ الْمَخْلُوقَاتِ
مِنْ شَيْءٍ [سُورَة الرّوم: ٤٠]. وَإِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ دُونَ الْإِضْمَارِ الَّذِي هُوَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِقَصْدِ التَّنْوِيهِ بِالْخَبَرِ إِذِ افْتُتِحَ بِهَذَا الِاسْمِ، وَلِأَنَّ دَلَالَةَ الِاسْمِ الْعَلَمِ أَوْضَحُ وَأَصْرَحُ. فَهُوَ مُقْتَضَى مَقَامِ تَحْقِيقِ الِانْفِرَادِ بِالْخَلْقِ وَالْإِنْعَامِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ شُرَكَائِهِمْ، لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ يُقِرُّونَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ فَاعِلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ.
وَإِحْيَاءُ الْأَرْضِ: إِخْرَاجُ مَا فِيهِ الْحَيَاةُ، وَهُوَ الْكَلَأُ وَالشَّجَرُ. وَمَوْتُهَا ضِدُّ ذَلِكَ، فَتَعْدِيَةُ فِعْلِ (أَحْيَا) إِلَى الْأَرْضِ تَعْدِيَةٌ مَجَازِيَّةٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٤]، وَتَقَدَّمَ وَجْهُ الْعِبْرَةِ فِي آيَةِ نزُول الْمَطَر هُنَا لَك.
وَجُمْلَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً مُسْتَأْنَفَةٌ. وَالتَّأْكِيدُ بِ إِنَّ وَلَامِ الِابْتِدَاءِ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَهْتَدِ بِذَلِكَ إِلَى الْوَحْدَانِيَّةِ يُنْكِرُونَ أَنَّ الْقَوْمَ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ ذَلِكَ قَدْ عَلِمُوا دَلَالَتَهُ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ، أَيْ يُنْكِرُونَ صَلَاحِيَةَ ذَلِكَ لِلِاسْتِدْلَالِ.
وَالْإِتْيَانُ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ دُونَ الضَّمِيرِ لِيَكُونَ مَحَلُّ الْآيَةِ جَمِيعَ الْمَذْكُورَاتِ مِنْ إِنْزَالِ الْمَطَرِ وَإِحْيَاءِ الْأَرْضِ بِهِ وَمَوْتِهَا مِنْ قَبْلِ الْإِحْيَاءِ.
وَالْكَلَامُ فِي «قَوْمٍ يَسْمَعُونَ» كَالْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ آنِفًا: لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [سُورَة النَّحْل:
٦٤].
وَالسَّمْعُ: هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِ مَعْنَاهُ عَلَى سَبِيلِ الْكِنَايَةِ، وَهُوَ سَمَاعُ التَّدَبُّرِ
وَالْإِنْصَافِ لِمَا تَدَبَّرُوا بِهِ. وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَمْ يَفْهَمُوا دَلَالَةَ ذَلِكَ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ. وَلِذَلِكَ اخْتِيرَ وَصْفُ السَّمْعِ هُنَا الْمُرَادُ مِنْهُ الْإِنْصَافُ وَالِامْتِثَالُ لِأَنَّ دَلَالَةَ الْمَطَرِ وَحَيَاةَ الْأَرْضِ بِهِ مَعْرُوفَةٌ مَشْهُورَةٌ وَدَلَالَةُ ذَلِكَ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى ظَاهِرَةٌ لَا يَصُدُّ عَنْهَا إِلَّا المكابرة.
الرُّوحَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، أَيْ أَنَّهُ كَائِنٌ عَظِيمٌ مِنَ الْكَائِنَاتِ الْمُشَرَّفَةِ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّهُ مِمَّا اسْتَأْثر الله بِعِلْمِهِ. فَلَفْظُ أَمْرِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادِفَ الشَّيْءِ. فَالْمَعْنَى: الرُّوحُ بَعْضُ الْأَشْيَاءِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي هِيَ لِلَّهِ، فَإِضَافَةُ أَمْرِ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ عَلَى مَعْنَى لَامِ الِاخْتِصَاصِ، أَيْ أَمْرٍ اخْتُصَّ بِاللَّهِ اخْتِصَاصَ عِلْمٍ.
وَ (مِنْ) لِلتَّبْعِيضِ، فَيَكُونُ هَذَا الْإِطْلَاقُ كَقَوْلِهِ: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى: ٥٢]. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ أَمْرَ التَّكْوِينِ، فَإِمَّا أَنْ يُرَادَ نَفْسُ الْمَصْدَرِ وَتَكُونَ (مِنْ) ابْتِدَائِيَّةً كَمَا فِي قَوْله: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النَّحْل: ٤٠]، أَيِ الرَّوْحُ يَصْدُرُ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ بِتَكْوِينِهِ أَوْ يُرَادُ بِالْمَصْدَرِ مَعْنَى الْمَفْعُولِ مِثْلُ الْخَلْقِ وَ (مِنْ) تَبْعِيضِيَّةٌ، أَيِ الرَّوْحُ بَعْضُ مَأْمُورَاتِ اللَّهِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالرُّوحِ جِبْرِيلَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، أَيِ الرَّوْحُ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الَّذِينَ يَأْمُرُهُمُ اللَّهُ بِتَبْلِيغِ الْوَحْيِ، وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ لَمْ تَكُنِ الْآيَةُ جَوَابًا عَنْ سُؤَالِهِمْ.
وَرَوَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْأَحْكَامِ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: «لَمْ يَأْتِهِ فِي ذَلِكَ جَوَابٌ» اهـ. أَيْ أَنَّ قَوْلَهُ: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي لَيْسَ جَوَابًا بِبَيَانِ مَا سَأَلُوا عَنْهُ وَلَكِنَّهُ صَرْفٌ عَنِ اسْتِعْلَامِهِ وَإِعْلَامٌ لَهُمْ بِأَنَّ هَذَا مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي لَمْ يُؤْتَوْهُ. وَالِاحْتِمَالَاتُ كُلُّهَا مُرَادَةٌ، وَهِيَ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ. وَفِيهَا رَمْزٌ إِلَى تَعْرِيفِ الرُّوحِ تَعْرِيفًا بِالْجِنْسِ وَهُوَ رَسْمٌ.
وَجُمْلَةُ وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ أَنْ يَقُولَهُ لِلسَّائِلِينَ فَيَكُونُ الْخِطَابُ لِقُرَيْشٍ أَوْ لِلْيَهُودِ الَّذِينَ لَقَّنُوهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَذْيِيلًا أَوِ اعْتِرَاضًا فَيَكُونُ الْخِطَابُ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لِلْخِطَابِ، وَالْمُخَاطَبُونَ مُتَفَاوِتُونَ فِي الْقَلِيلِ
الْمُسْتَثْنَى مِنَ الْمُؤْتَى مِنَ الْعِلْمِ. وَأَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلْمُسْلِمِينَ.
وَالْمُرَادُ بِالْعِلْمِ هُنَا الْمَعْلُومُ، أَيْ مَا شَأْنُهُ أَنْ يُعْلَمَ أَوْ مِنْ مَعْلُومَاتِ اللَّهِ. وَوَصْفُهُ بِالْقَلِيلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُعْلَمَ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ وَالْحَقَائِقِ.
وَفِي «جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ» قَالُوا (أَيِ الْيَهُودُ) :«أُوتِينَا عِلْمًا كَثِيرًا التَّوْرَاةَ
وَأَحْسَنُ مِنْهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يُقَالَ هُوَ أَمْرٌ لِمُوسَى بِأَنْ يَطْوِيَ الْوَادِيَ وَيَصْعَدَ إِلَى أَعْلَاهُ لِتَلَقِّي الْوَحْيِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مُوسَى صَعِدَ أَعْلَى الْوَادِي. وَقِيلَ: هُوَ بِمَعْنَى الْمُقَدَّسِ تَقْدِيسَيْنِ، لِأَنَّ الطَّيَّ هُوَ جَعْلُ الثَّوْبِ عَلَى شِقَّيْنِ، وَيَجِيءُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ تَجْعَلَ التَّثْنِيَةَ كِنَايَةً عَنِ التَّكْرِيرِ وَالتَّضْعِيفِ مِثْلَ: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ [الْملك: ٤]. فَالْمَعْنَى: الْمُقَدَّسُ تَقْدِيسًا شَدِيدًا. فَاسْمُ الْمَصْدَرِ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ مُبَيِّنٌ لِلْعَدَدِ، أَيِ الْمُقَدَّسِ تَقْدِيسًا مُضَاعَفًا.
وَالظَّاهِرُ عِنْدِي: أَنَّ طُوىً اسْمٌ لِصِنْفٍ مِنَ الْأَوْدِيَةِ يَكُونُ ضَيِّقًا بِمَنْزِلَةِ الثَّوْبِ الْمَطْوِيِّ أَوْ غَائِرًا كَالْبِئْرِ الْمَطْوِيَّةِ، وَالْبِئْرُ تُسَمَّى طَوِيًّا. وَسُمِّيَ وَادٍ بِظَاهِرِ مَكَّةَ (ذَا طُوًى) بِتَثْلِيثِ الطَّاءِ، وَهُوَ مَكَانٌ يُسَنُّ لِلْحَاجِّ أَوِ الْمُعْتَمِرِ الْقَادِمِ إِلَى مَكَّةَ أَنْ يَغْتَسِلَ عِنْدَهُ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي (طُوَى) هَلْ يَنْصَرِفُ أَوْ يُمْنَعُ مِنَ الصَّرْفِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ أَوْ لِأَنَّهُ مَعْدُولٌ عَنْ طَاوٍ، مِثْلُ عُمَرَ عَنْ عَامِرٍ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ طُوىً بِلَا تَنْوِينٍ عَلَى مَنْعِهِ مِنَ الصَّرْفِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ مُنَوَّنًا، لِأَنَّهُ اسْمُ وَادٍ مُذَكَّرٌ.
وَقَوْلُهُ وَأَنَا اخْتَرْتُكَ أَخْبَرَ عَنِ اخْتِيَارِ اللَّهِ تَعَالَى مُوسَى بِطَرِيقِ الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ الْمُفِيدِ تَقْوِيَةَ الْحُكْمِ، لِأَنَّ الْمَقَامَ لَيْسَ مَقَامَ إِفَادَةِ التَّخْصِيصِ، أَيِ الْحَصْرِ نَحْوَ: أَنَا سَعَيْتُ فِي حَاجَتِكَ، وَهُوَ يُعْطِي الْجَزِيلَ. وَمُوجِبُ التَّقَوِّي هُوَ غَرَابَةُ الْخَبَرِ وَمُفَاجَأَتُهُ بِهِ دَفْعًا لِتَطَرُّقِ الشَّكِّ فِي نَفْسِهِ.
وَالِاخْتِيَارُ: تَكَلَّفَ طَلَبِ مَا هُوَ خَيْرٌ. وَاسْتُعْمِلَتْ صِيغَةُ التَّكَلُّفِ فِي مَعْنَى إِجَادَةِ طَلَبِ الْخَيْرِ.
فَإِذَا نَزَلَ فِيهِ مَاءُ الرَّجُلِ وَهُوَ النُّطْفَةُ بَعْدَ انْتِهَاءِ سِيلَانِ دَمِ الْحَيْضِ لُقِّحَتْ فِيهِ الْبَيْضَةُ وَاخْتَلَطَتْ أَجْزَاؤُهَا بِأَجْزَاءِ النُّطْفَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى جُرْثُومَاتٍ ذَاتِ حَيَاةٍ وَتَمْكُثُ مَعَ الْبَيْضَةِ مُتَحَرِّكَةً مِقْدَارَ سَبْعَةِ أَيَّامٍ تَكُونُ الْبَيْضَةُ فِي أَثْنَائِهَا تتطور بالشكل بِشِبْهِ تَقْسِيمٍ مِنْ أَثَرِ ضَغْطٍ طَبِيعِيٍّ. وَفِي نِهَايَةِ تِلْكَ الْمُدَّةِ تَصِلُ الْبَيْضَةُ إِلَى الرَّحِمِ وَهُنَالِكَ تَأْخُذُ فِي التَّشَكُّلِ، وَبَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا تَصِيرُ الْبَيْضَةُ عَلَقَةً فِي حَجْمِ نَمْلَةٍ كَبِيرَةٍ طُولُهَا من ١٢ إِلَى ١٤ مليمتر، ثُمَّ يَزْدَادُ تَشَكُّلُهَا فَتَصِيرُ قِطْعَةً صَغِيرَةً مِنْ لَحْمٍ هِيَ الْمُسَمَّاةُ (مُضْغَةً) طُولُهَا ثَلَاثَةُ سَنْتِيمِتْرَ تلوح فِيهَا تشكلات الْوَجْهِ وَالْأَنْفِ خَفِيَّةً جِدًّا كَالْخُطُوطِ، ثُمَّ يَزْدَادُ التَّشَكُّلُ يَوْمًا فَيَوْمًا إِلَى أَنْ يَسْتَكْمِلَ الْجَنِينُ مُدَّتَهُ فَيَنْدَفِعَ لِلْخُرُوجِ وَهُوَ الْوِلَادَةُ.
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ صِفَةُ مُضْغَةٍ. وَذَلِكَ تَطَوُّرٌ مِنْ تطورات المضغة. أَشَارَ إِلَى أَطْوَارِ تَشَكُّلِ تِلْكَ الْمُضْغَةِ فَإِنَّهَا فِي أَوَّلِ أَمْرِهَا تَكُونُ غَيْرَ مُخَلَّقَةٍ، أَيْ غَيْرُ ظَاهِرٍ فِيهَا شَكْلُ الْخِلْقَةِ، ثُمَّ تَكُونُ مُخَلَّقَةً، وَالْمُرَادُ تَشْكِيلُ الْوَجْهِ ثُمَّ الْأَطْرَافِ، وَلِذَلِكَ
لَمْ يُذْكَرْ مِثْلُ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ عِنْدَ ذِكْرِ النُّطْفَةِ وَالْعَلَقَةِ، إِذْ لَيْسَ لَهُمَا مِثْلُ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ بِخِلَافِ الْمُضْغَةِ. وَإِذْ قَدْ جُعِلَتِ الْمُضْغَةُ مِنْ مَبَادِئِ الْخَلْقِ تَعَيَّنَ أَنَّ كلا الوصفين لَا زمَان لِلْمُضْغَةِ، فَلَا يَسْتَقِيمُ تَفْسِيرُ مَنْ فَسَّرَ غَيْرَ الْمُخَلَّقَةِ بِأَنَّهَا الَّتِي لَمْ يُكْمِلْ خَلْقُهَا فَسَقَطَتْ.
وَالتَّخْلِيقُ: صِيغَةٌ تَدُلُّ عَلَى تَكْرِيرِ الْفِعْلِ، أَيْ خَلْقًا بَعْدَ خَلْقٍ، أَيْ شَكْلًا بَعْدَ شَكْلٍ.
وَقَدَّمَ ذِكْرَ الْمُخَلَّقَةِ عَلَى ذِكْرِ غير المخلقة على خِلَافَ التَّرْتِيبِ فِي الْوُجُودِ لِأَنَّ الْمُخَلَّقَةَ أَدْخَلُ فِي الِاسْتِدْلَالِ، وَذَكَرَ بَعْدَهُ غَيْرَ الْمُخَلَّقَةِ
فَقُلْ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ. فَإِذَا رُدَّ عَلَيْكَ السَّلَامُ فَقُلْ: أَأَدْخُلُ، فَإِنْ أُذِنَ لَكَ فَادْخُلْ».
وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ الِاسْتِئْذَانَ وَاجِبٌ وَأَنَّ السَّلَامَ وَاجِبٌ غَيْرَ أَنَّ سِيَاقَ الْآيَةِ لِتَشْرِيعِ الِاسْتِئْذَانِ. وَأَمَّا السَّلَامُ فَتَقَرَّرَتْ مَشْرُوعِيَّتُهُ مِنْ قَبْلُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَكُنْ خَاصًّا بِحَالَةِ دُخُولِ الْبُيُوتِ فَلَمْ يَكُنْ لِلسَّلَامِ اخْتِصَاصٌ هُنَا وَإِنَّمَا ذُكِرَ مَعَ الِاسْتِئْذَانِ لِلْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِ مَعَ الِاسْتِئْذَانِ لِئَلَّا يُلْهِيَ الِاسْتِئْذَانُ الطَّارِقَ فَيَنْسَى السَّلَامَ أَوْ يَحْسَبَ الِاسْتِئْذَانَ كَافِيًا عَنِ السَّلَامِ. قَالَ الْمَازِرِيُّ فِي كِتَابِ «الْمُعْلِمِ عَلَى صَحِيحِ مُسْلِمٍ» : الِاسْتِئْذَانُ مَشْرُوعٌ. وَقَالَ ابْنُ
الْعَرَبِيِّ فِي «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» قَالَ جَمَاعَةٌ: الِاسْتِئْذَانُ فَرْضٌ وَالسَّلَامُ مُسْتَحَبٌّ. وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ: الِاسْتِئْذَانُ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ. وَلَمْ يُفْصِحْ عَنْ حُكْمِ الِاسْتِئْذَانِ سِوَى فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي «الرِّسَالَةِ» : الِاسْتِئْذَانُ وَاجِبٌ فَلَا تَدْخُلْ بَيْتًا فِيهِ أَحَدٌ حَتَّى تَسْتَأْذِنَ ثَلَاثًا فَإِنْ أَذِنَ لَكَ وَإِلَّا رَجَعْتَ. وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي «الْمُقَدِّمَاتِ» : الِاسْتِئْذَانُ وَاجِبٌ.
وَحَكَى أَبُو الْحَسَنِ الْمَالِكِيُّ فِي «شَرْحِ الرِّسَالَةِ» الْإِجْمَاعَ عَلَى وُجُوبِ الِاسْتِئْذَانِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ» : الِاسْتِئْذَانُ مَشْرُوعٌ. وَهِيَ كَلِمَةُ الْمَازِرِيِّ فِي «شَرْحِ مُسْلِمٍ».
وَأَقُولُ: لَيْسَ قَرْنُ الِاسْتِئْذَانِ بِالسَّلَامِ فِي الْآيَةِ بِمُقْتَضٍ مُسَاوَاتَهُمَا فِي الحكم إِذا كَانَتْ هُنَالِكَ أَدِلَّةٌ أُخْرَى تُفَرِّقُ بَيْنَ حُكْمَيْهِمَا وَتِلْكَ أَدِلَّةٌ مِنَ السُّنَّةِ، وَمِنَ الْمَعْنَى فَإِنَّ فَائِدَةَ الِاسْتِئْذَانِ دَفْعُ مَا يُكْرَهُ عَنِ الْمَطْرُوقِ الْمَزُورِ وَقَطْعُ أَسْبَابِ الْإِنْكَارِ أَوِ الشَّتْمِ أَوِ الْإِغْلَاظِ فِي الْقَوْلِ مَعَ سَدِّ ذَرَائِعِ الرِّيبِ وَكُلُّهَا أَوْ مَجْمُوعُهَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الِاسْتِئْذَانِ.
وَأَمَّا فَائِدَةُ السَّلَامِ مَعَ الِاسْتِئْذَانِ فَهِيَ تَقْوِيَةُ الْأُلْفَةِ الْمُتَقَرِّرَةِ فَلَا تَقْتَضِي أَكْثَرَ مِنْ تَأَكُّدِ الِاسْتِحْبَابِ. فَالْقُرْآنُ أَمَرَ بِالْحَالَةِ الْكَامِلَةِ وَأَحَالَ تَفْصِيلَ أَجْزَائِهَا عَلَى تَبْيِينِ السُّنَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النَّحْل: ٤٤].
وَقَدْ أُجْمِلَتْ حِكْمَةُ الِاسْتِئْذَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أَيْ ذَلِكُمْ الِاسْتِئْذَانُ خَيْرٌ لَكُمْ، أَيْ فِيهِ خَيْرٌ لَكُمْ وَنَفْعٌ فَإِذَا تَدَبَّرْتُمْ عَلِمْتُمْ مَا فِيهِ مِنْ خَيْرٍ لَكُمْ كَمَا هُوَ الْمَرْجُوُّ مِنْكُمْ.
بِحَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَلَوْ ذُكِرَتِ الْوَاوُ لَجَازَ كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [٤] إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ.
وَعَبَّرَ عَنِ الرُّسُلِ بِصِفَةِ الْإِنْذَارِ لِأَنَّهُ الْمُنَاسِبُ للتهديد بالإهلاك.
[٢٠٩]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : آيَة ٢٠٩]
ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (٢٠٩)
أَيْ هَذِهِ ذِكْرَى، فَذِكْرَى فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ دَلَّتْ عَلَيْهِ قَرِينَةُ السِّيَاقِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ [٣٥] بَلاغٌ أَيْ هَذَا بَلَاغٌ، وَفِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ [٥٢] هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَفِي سُورَةِ ص [٤٩] هَذَا ذِكْرٌ. وَالْمَعْنَى: هَذِهِ ذِكْرَى لَكُمْ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ. وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ أَحْسَنُ الْوُجُوهِ فِي مَوْقِعِ قَوْلِهِ: ذِكْرى وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الزَّجَّاجِ وَالْفَرَّاءِ وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي تَقْدِيرِ الْمَحْذُوفِ قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: لَيْسَ فِي الشُّعَرَاءِ وَقْفٌ تَامٌّ إِلَّا قَوْلَهُ: إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ [الشُّعَرَاء: ٢٠٨].
وَقَدْ تَرَدَّدَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي مَوْقِعِ قَوْلِهِ: ذِكْرى بِوُجُوهٍ جَعَلَهَا جَمِيعًا عَلَى اعْتِبَارِ قَوْلِهِ: ذِكْرى تَكْمِلَةً لِلْكَلَامِ السَّابِقِ وَهِيَ غَيْرُ خَلِيَّةٍ عَنْ تَكَلُّفٍ. وَالذِّكْرَى: اسْمُ مَصْدَرِ ذَكَّرَ.
وَجُمْلَةُ: وَما كُنَّا ظالِمِينَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً على ذِكْرى أَي نذكّركم وَلَا نظلم، وَأَن تكون حَالا من الضَّمِير الْمُسْتَتر فِي ذِكْرى لِأَنَّهُ كَالْمَصْدَرِ يَقْتَضِي مُسْنَدًا إِلَيْهِ، وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَمُفَادُ وَما كُنَّا ظالِمِينَ الْإِعْذَارُ لِكَفَّارِ قُرَيْشٍ وَالْإِنْذَارُ بِأَنَّهُمْ سَيَحِلُّ بِهِمْ هَلَاكٌ.
وَحَذْفُ مَفْعُولِ ظالِمِينَ لِقَصْدِ تَعْمِيمِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الْكَهْف: ٤٩].
[٢١٠- ٢١٢]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ٢١٠ إِلَى ٢١٢]
وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (٢١٠) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (٢١١) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (٢١٢)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ [الشُّعَرَاء: ١٩٢] وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ اسْتَدْعَاهُ تَنَاسُبُ الْمَعَانِي وَأَخْذُ بَعْضِهَا بِحُجَزِ بَعْضٍ تَفَنُّنًا فِي الْغَرَضِ. وَهَذَا رَدٌّ عَلَى
قِلَّةِ الْعِلْمِ فَكَيْفَ يَتَطَلَّعُونَ إِلَى عِلْمِ أَعْظَمِ حَوَادِثِ هَذَا الْعَالَمِ وَهُوَ حَادِثُ فَنَائِهِ وَانْقِرَاضِهِ وَاعْتِيَاضِهِ بِعَالَمِ الْخُلُودِ. وَهَذَا النَّفْيُ لِلدِّرَايَةِ بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ عَنْ كُلِّ نَفْسٍ فِيهِ كِنَايَةٌ عَنْ إِثْبَاتِ الْعِلْمِ بِمَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَالْعِلْمُ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ فِيهَا كُلُّ نَفْسٍ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَحَصَلَتْ إِفَادَةُ اخْتِصَاصِ اللَّهِ تَعَالَى بِهَذَيْنِ الْعِلْمَيْنِ فَكَانَا فِي ضميمة مَا انْتَظَمَ مَعَهُمَا مِمَّا تَقَدَّمَهُمَا.
وَعَبَّرَ فِي جَانِبِ نَفْيِ مَعْرِفَةِ النَّاسِ بِفِعْلِ الدِّرَايَةِ لِأَنَّ الدِّرَايَةَ عِلْمٌ فِيهِ مُعَالَجَةٌ لِلِاطِّلَاعِ عَلَى الْمَعْلُومِ وَلِذَلِكَ لَا يُعَبَّرُ بِالدِّرَايَةِ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يُقَالُ: اللَّهُ يَدْرِي كَذَا، فَيُفِيدُ:
انْتِفَاءَ عِلْمِ النَّاسِ بَعْدَ الْحِرْصِ عَلَى عِلْمِهِ. وَالْمَعْنَى: لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى بِقَرِينَةِ مُقَابَلَتِهِمَا بِقَوْلِهِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحامِ. وَقَدْ عَلَّقَ فِعْلَ الدِّرَايَةِ عَنِ الْعَمَلِ فِي مَفْعُولَيْنِ بِوُقُوعِ الِاسْتِفْهَامَيْنِ بَعْدَهُمَا، أَيْ مَا تَدْرِي هَذَا السُّؤَالَ، أَيْ جَوَابَهُ. وَقَدْ حَصَلَ إِفَادَةُ اخْتِصَاصِ اللَّهِ تَعَالَى بِعِلْمِ هَذِهِ الْأُمُورِ الْخَمْسَةِ بِأَفَانِينَ بَدِيعَةٍ مِنْ أَفَانِينِ الْإِيجَازِ الْبَالِغِ حَدَّ الْإِعْجَازِ.
وَلُقِّبَتْ هَذِهِ الْخَمْسَةُ فِي كَلَامِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَفَاتِحِ الْغَيْبِ وَفُسِّرَ بِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ [الْأَنْعَام: ٥٩].
فَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَفَاتِحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ» ثُمَّ قَرَأَ: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ
الْآيَةَ،
وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «... فِي خَمْسٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عَلِمُ السَّاعَةِ جَوَابًا عَنْ سُؤَالِ جِبْرِيلَ: مَتَى السَّاعَةُ؟... »
. وَمَعْنَى حَصْرِ مَفَاتِحِ الْغَيْبِ فِي هَذِهِ الْخَمْسَةِ: أَنَّهَا هِيَ الْأُمُورُ الْمُغَيَّبَةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِأَحْوَالِ النَّاسِ فِي هَذَا الْعَالَمِ وَأَنَّ التَّعْبِيرَ عَنْهَا بِالْمَفَاتِحِ أَنَّهَا تَكُونُ مَجْهُولَةً لِلنَّاسِ فَإِذَا وَقَعَتْ فَكَأَنَّ وُقُوعَهَا فَتْحٌ لِمَا كَانَ مُغْلَقًا وَأَمَّا بَقِيَّةُ أَحْوَالِ النَّاسِ فَخَفَاؤُهَا عَنْهُمْ مُتَفَاوِتٌ وَيُمْكِنُ لِبَعْضِهِمْ تَعْيِينُهَا مِثْلُ تَعْيِيِنِ يَوْمِ كَذَا لِلزِّفَافِ وَيَوْمِ كَذَا لِلْغَزْوِ وَهَكَذَا مَوَاقِيتُ الْعِبَادَاتِ وَالْأَعْيَادِ، وَكَذَلِكَ مُقَارَنَاتُ الْأَزْمِنَةِ مِثْلَ: يَوْمِ كَذَا مَدْخَلُ الرَّبِيعِ فَلَا تَجِدُ مُغَيَّبَاتٍ لَا قِبَلَ لِأَحَدٍ بِمَعْرِفَةِ وُقُوعِهَا مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ فِي هَذَا الْعَالَمِ غَيْرَ هَذِهِ الْخَمْسَةِ فَأَمَّا فِي الْعَوَالِمِ الْأُخْرَى وَفِي الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ فَالْمُغَيَّبَاتُ عَنْ عِلْمِ النَّاسِ كَثِيرَةٌ وَلَيْسَتْ لَهَا مَفَاتِحُ عِلْمٍ فِي هَذَا الْعَالَمِ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ إِثْبَاتُ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى منكريها من الْعَرَب وَإِثْبَات عمومها على
مُنْكِرِيهَا مِنَ الْيَهُودِ.
فَإِنَّ كَافَّةً مِنْ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ وَوَقَعَتْ هُنَا حَالًا مِنَ «النَّاسِ» مُسْتَثْنًى مِنْ عُمُومِ الْأَحْوَالِ وَهِيَ حَالٌ مُقَدَّمَةٌ عَلَى صَاحِبِهَا الْمَجْرُورِ بِالْحَرْفِ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٠٨]، وَعِنْدَ قَوْلِهِ: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ [٣٦]. وَذَكَرْنَا أَنَّ التَّحْقِيقَ: أَنَّ كَافَّةً يُوصَفُ بِهِ الْعَاقِلُ وَغَيْرُهُ وَأَنَّهُ تَعْتَوِرُهُ وُجُوهُ الْإِعْرَابِ كَمَا هُوَ مُخْتَارُ الزَّمَخْشَرِيِّ وَشَهِدَ لَهُ الْقُرْآنُ وَالِاسْتِعْمَالُ خِلَافًا لِابْنِ هِشَامٍ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ»، وَأَنَّ مَا شُدِّدَ بِهِ التَّنْكِيرُ عَلَى الزَّمَخْشَرِيِّ تَهْوِيلٌ وَتَضْيِيقٌ فِي الْجَوَازِ. وَالتَّقْدِيرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ إِلَّا كَافَّةً. وَقَدَّمَ الْحَالَ عَلَى صَاحِبِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَا لِأَنَّهَا تَجْمَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرِسَالَتِهِ كُلِّهِمْ.
وَتَقْدِيمُ الْحَالِ عَلَى الْمَجْرُورِ جَائِزٌ عَلَى رَأْيِ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ وَإِنْ أَبَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ هُنَا وَجَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ تَقْدِيمِ الْمَجْرُورِ عَلَى حَرْفِ الْجَرِّ فَجَعَلَ كَافَّةً نَعْتًا لِمَحْذُوفٍ، أَيْ إِرْسَالَهُ كَافَّةً، أَيْ عَامَّةً. وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِ ابْنُ مَالِكٍ فِي «التَّسْهِيلِ» وَقَالَ: قَدْ جَوَّزَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ وَابْنُ كَيْسَانَ. وَقُلْتُ: وَجَوَّزَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالرَّضِيُّ.
وَجَعَلَ الزَّجَّاجُ كَافَّةً هُنَا حَالًا مِنَ الْكَافِ فِي أَرْسَلْناكَ وَفَسَّرَهُ بِمَعْنَى جَامِعٍ لِلنَّاسِ فِي الْإِنْذَارِ وَالْإِبْلَاغِ، وَتَبِعَهُ أَبُو الْبَقَاءِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَحَقُّ التَّاءِ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ أَنْ تَكُونَ لِلْمُبَالَغَةِ كَتَاءِ الْعَلَّامَةِ وَالرَّاوِيَةِ وَكَذَلِكَ تَقْدِيمُ الْمُسْتَثْنَى لِلْغَرَضِ أَيْضًا.
وَقَدِ اشْتَرَكَ الزَّجَّاجُ وَالزَّمَخْشَرِيُّ هُنَا فِي إِخْرَاجِ كَافَّةً عَنْ مَعْنَى الْوَصْفِ بِإِفَادَةِ الشُّمُولِ الَّذِي هُوَ شُمُولٌ جُزْئِيٌّ فِي غَرَضٍ مُعَيَّنٍ إِلَى مَعْنَى الْجَمْعِ الْكُلِّيِّ الْمُسْتَفَادِ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ. وَهَذَا كَمَنْ يَعْمِدُ إِلَى (كُلٍّ) فَيَقُولُ: إِنَّكَ كُلٌّ لِلنَّاسِ، أَيْ جَامِعٌ لِلنَّاسِ أَوْ يَعْمِدُ إِلَى (عَلَى) الدَّالَّةِ عَلَى الِاسْتِعْلَاءِ الْجُزْئِيِّ فَيَسْتَعْمِلُهَا بِمَعْنَى الِاسْتِعْلَاءِ الْكُلِّيِّ فَيَقُولُ: إِيَّاكَ وَعَلَى، يُرِيدُ إِيَّاكَ وَالِاسْتِعْلَاءَ.
والبشير النَّذِيرُ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً فِي سُورَة الْبَقَرَةِ
وَلَا كَانَتْ لَهَا الرَّوْعَةُ الَّتِي تُحِسُّ بِهَا وَيَرُوقُكَ مَوْرِدُهَا عَلَى نَفْسِكَ وَطَبْعِكَ إِلَّا لِمَجِيئِهَا عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ».
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي اخْتِيَارِ هَذَا التَّمْثِيلِ الْبَدِيعِ مَعْنًى بَدِيعًا مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ الْعَذَابَ الَّذِي وُعِدُوهُ هُوَ مَا أَصَابَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ مِنْ قَتْلٍ وَأَسْرٍ عَلَى طَريقَة التورية.
[١٧٨- ١٧٩]
[سُورَة الصافات (٣٧) : الْآيَات ١٧٨ إِلَى ١٧٩]
وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٩)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ [الصافات: ١٧٧] الْآيَةَ لِأَنَّ مَعْنَى الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا الْوَعْدُ بِأَنَّ اللَّهَ سَيَنْتَقِمُ مِنْهُمْ فَعَطَفَ عَلَيْهِ أمره رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ لَا يَهْتَمَّ بِعِنَادِهِمْ.
وَهَذِهِ نَظِيرُ الَّتِي سَبَقَتْهَا الْمُفَرَّعَةِ بِالْفَاءِ فَلِذَلِكَ يَحْصُلُ مِنْهَا تَأْكِيدُ نَظِيرَتِهَا، عَلَى أَنَّهُ قَدْ
يَكُونُ هَذَا التَّوَلِّي غَيْرَ الْأَوَّلِ وَإِلَى حِينٍ آخَرَ وَإِبْصَارٍ آخَرَ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَوَلٍّ عَمَّنْ يَبْقَى مِنَ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ حُلُولِ الْعَذَابِ الَّذِي اسْتُعْجِلُوهُ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حِينًا مِنْ أَوْقَاتِ الدُّنْيَا فَهُوَ إِنْذَارٌ بِفَتْحِ مَكَّةَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِلَى حِينٍ مِنْ أَحْيَانِ الْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا جَعَلَ ذَلِكَ غَايَةً لتولي النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمْ لِأَنَّ تَوَلِّيَهُ الْعَذَابَ عَنْهُمْ غَايَةٌ لتولي النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمْ لِأَنَّ تَوَلِّيَهُ عَنْهُمْ مُسْتَمِرٌّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَإِنَّ مُدَّةَ لحاق النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرَّفِيقِ الْأَعْلَى لَمَّا كَانَتْ مُتَّصِلَةً بِتَوَلِّيهِ عَنْهُمْ جُعِلَتْ تِلْكَ الْمُدَّةُ كَأَنَّهَا ظَرْفٌ لِلتَّوَلِّي يَنْتَهِي بِحِينِ إِحْضَارِهِمْ لِلْعِقَابِ، فَيكون قَوْله:
حَتَّى حِينٍ مُرَادًا بِهِ الْأَبَدُ.
وَحُذِفَ مَفْعُولُ وَأَبْصِرْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِدَلَالَةِ مَا فِي نظيرها عَلَيْهِ.
[١٨٠- ١٨٢]
[سُورَة الصافات (٣٧) : الْآيَات ١٨٠ إِلَى ١٨٢]
سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٢)
خطاب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَذْيِيلًا لِخِطَابِهِ الْمُبْتَدَأِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ [الصافات: ١٤٩] الْآيَةَ. فَإِنَّهُ خُلَاصَةٌ جَامِعَةٌ لِمَا حَوَتْهُ مِنْ تَنْزِيهِ اللَّهِ وَتَأْيِيدِهِ رُسُلَهُ. وَهَذِهِ الْآيَةُ فَذْلَكَةٌ لِمَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ السُّورَةُ مِنَ الْأَغْرَاضِ جَمَعَتْ تَنْزِيهَ اللَّهِ وَالثَّنَاءَ عَلَى
التَّعْلِيلِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَى (إِلَى) لِأَنَّ الْغَايَةَ الْمُقَدَّرَةَ مِنَ اللَّهِ تُشْبِهُ الْعِلَّةَ فِيمَا يُفْضِي إِلَيْهَا، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ الْحَجِّ.
وَقَوْلُهُ: وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى عَطْفٌ عَلَى لِتَكُونُوا شُيُوخاً أَيْ لِلشَّيْخُوخَةِ غَايَةٌ
وَهِيَ الْأَجَلُ الْمُسَمَّى أَيِ الْمَوْتُ فَلَا طَوْرَ بَعْدَ الشَّيْخُوخَةِ. وَأَمَّا الْأَجَلُ الْمُقَدَّرُ لِلَّذِينَ يَهْلِكُونَ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغُوا الشَّيْخُوخَةَ فَقَدِ اسْتُفِيدَ مِنْ قَوْلِهِ: وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ أَنَّ مِنْ قَبْلِ بَعْضِ هَذِهِ الْأَطْوَارِ، أَيْ يُتَوَفَّى قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ طِفْلًا وَهُوَ السَّقْطُ أَوْ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ الْأَشُدَّ، أَوْ يُتَوَفَّى قَبْلَ أَنْ يَكُونَ شَيْخًا. وَلِتَعَلُّقِهِ بِمَا يَلِيهِ خَاصَّةً عُطِفَ عَلَيْهِ بِالْوَاوِ وَلَمْ يُعْطَفْ بِ (ثُمَّ) كَمَا عُطِفَتِ الْمَجْرُورَاتُ الْأُخْرَى، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ انْقِرَاضَ الْأَجْيَالِ وَخَلَقَهَا بِأَجْيَالٍ أُخْرَى، فَالْحَيُّ غَايَتُهُ الْفَنَاءُ وَإِنْ طَالَتْ حَيَاتُهُ، وَلَمَّا خَلَقَهُ على حَالَة تؤول إِلَى الْفَنَاءِ لَا مَحَالَةَ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ مِنْ جُمْلَةِ الْغَايَاتِ فِي ذَلِكَ الْخَلْقِ أَنْ يَبْلُغُوا أَجَلًا.
وَبُنِيَ قَبْلُ عَلَى الضَّمِّ عَلَى نِيَّةِ مَعْنَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ مِنْ قَبْلِ مَا ذُكِرَ. وَالْأَشُدُّ:
الْقُوَّةُ فِي الْبَدَنِ، وَهُوَ مَا بَيْنَ ثَمَان عشرَة سنة إِلَى الثَلَاثِينَ وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [٢٢].
وَشُيُوخٌ: جَمْعُ شَيْخٍ، وَهُوَ مَنْ بَلَغَ سِنَّ الْخَمْسِينَ إِلَى الثَّمَانِينَ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهذا بَعْلِي شَيْخاً فِي سُورَةِ هُودٍ [٧٢]. وَيَجُوزُ فِي (شُيُوخٍ) ضَمُّ الشِّينِ. وَبِهِ قَرَأَ نَافِع وَأَبُو عَمْرو وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ وَخَلَفٌ. وَيَجُوزُ كَسْرُ الشِّينِ وَبِهِ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ.
وَقَوْلُهُ: وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ عَطْفٌ عَلَى وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى أَيْ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَا أَرَادَهُ اللَّهُ مِنْ خَلْقِ الْإِنْسَانِ عَلَى الْحَالَةِ الْمُبَيَّنَةِ، أَنْ تَكُونَ فِي تِلْكَ الْخِلْقَةِ دَلَالَةٌ لِآحَادِهِ عَلَى وُجُودِ هَذَا الْخَالِقِ الْخَلْقَ الْبَدِيعَ، وَعَلَى انْفِرَادِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ، وَعَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ لَا يَسْتَحِقُّ وَصْفَ الْإِلَهِيَّةِ، فَمَنْ عَقَلَ ذَلِكَ مِنَ النَّاسِ فَقَدِ اهْتَدَى إِلَى مَا أُرِيدَ مِنْهُ وَمَنْ لَمْ يَعْقِلْ ذَلِكَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ عَدِيمِ الْعَقْلِ. وَلِأَجْلِ هَذِهِ النُّكْتَةِ لَمْ يُؤْتَ
مِنْ أَوْحَالِ الشِّرْكِ وَالضَّلَالِ إِلَى مَنَاهِجِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَاتِّبَاعِ أَفْضَلِ الرُّسُلِ وَأَفْضَلِ الشَّرَائِعِ، فَيَجْبُرَ لِأُمَّةٍ مِنْ عَقِبِ إِبْرَاهِيمَ مَا فَرَّطُوا فِيهِ مِنَ الِاقْتِدَاءِ بِأَبِيهِمْ حَتَّى يَكْمُلَ لِدَعْوَتِهِ شَرَفُ الِاسْتِجَابَةِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا زِيَادَةُ الْإِمْهَالِ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ [الْأَنْعَام: ١٥٥- ١٥٧].
وَيَسْتَرْوِحُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ إِلَى قَوْله: وَآباءَهُمْ [الزخرف: ٢٨، ٢٩] أَنَّ آبَاء النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَمُودِ نَسَبِهِ لَمْ يَكُونُوا مُضْمِرِينَ الشِّرْكَ وَأَنَّهُمْ بَعْضٌ مِنْ عَقِبِ إِبْرَاهِيمَ الَّذِينَ بَقِيَتْ كَلِمَتُهُ فِيهِمْ وَلَمْ يَجْهَرُوا بِمُخَالَفَةِ قَوْمِهِمُ اتِّقَاءَ الْفِتْنَةِ. وَلَا
عَجَبَ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ تَغْيِيرَ الْمُنْكَرِ إِنَّمَا وَجَبَ بِالشَّرْعِ وَلَمْ يَكُنْ لديهم شرع.
[٣٠]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٣٠]
وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (٣٠)
تَعْجِيبٌ مِنْ حَالِ تَغَافُلِهِمْ، أَيْ قَدْ كَانَ لَهُمْ بَعْضُ الْعُذْرِ قَبْلَ مَجِيء الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنِ لِأَنَّ لِلْغَفَلَاتِ الْمُتَقَادِمَةِ غِشَاوَةً تُصَيِّرُ الْغَفْلَةُ جَهَالَةً، فَكَانَ الشَّأْنُ أَنْ يَسْتَيْقِظُوا لَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ فَيَتَذَكَّرُوا كَلِمَةَ أَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ، وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا:
هَذَا سِحْرٌ، أَيْ قَالُوا لِلرَّسُولِ: هَذَا سَاحِرٌ، فَازْدَادُوا رَيْنًا عَلَى رَيْنٍ.
فَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ لَا فِي إِفَادَةِ صُدُورِ هَذَا الْقَوْلِ مِنْهُمْ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ لَهُمْ وَلِلْمُسْلِمِينَ.
وَقَصَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُؤْيَاهُ عَلَى أَصْحَابِهِ فَاسْتَبْشَرُوا بِهَا وَعَبَرُوهَا أَنَّهُمْ دَاخِلُونَ إِلَى مَكَّةَ بِعُمْرَتِهِمُ الَّتِي خَرَجُوا لِأَجْلِهَا، فَلَمَّا جَرَى الصُّلْحُ وَتَأَهَّبَ النَّاسُ إِلَى الْقُفُولِ أَثَارَ بَعْضُ الْمُنَافِقِينَ ذِكْرَ الرُّؤْيَا فَقَالُوا: فَأَيْنَ الرُّؤْيَا فو الله مَا دَخَلْنَا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَلَا حَلَقْنَا وَقَصَّرْنَا؟
فَقَالَ لَهُمْ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ الْمَنَامَ لَمْ يَكُنْ مُوَقَّتًا بِوَقْتٍ وَأَنَّهُ سَيُدْخَلُ وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ. وَالْمَعْنَى أَنْ رُؤْيَا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقٌّ وَأَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيْهِ بِهَا وَأَنَّهَا وَإِنْ لَمْ تَقَعْ فِي تِلْكَ الْقَضِيَّةِ فَسَتُحَقَّقُ بَعْدَ ذَلِكَ وَكَأَنَّ الْحِكْمَةَ فِي إِرَاءَةِ الله رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَك الرُّؤْيَا أَيَامَئِذٍ وَفِي إِخْبَار الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ بِهَا: أَنَّ اللَّهَ أَدْخَلَ بِذَلِكَ عَلَى قُلُوبِهِمُ الثِّقَةَ بِقُوَّتِهِمْ وَتَرْبِيَةَ الْجَرَاءَةِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي دِيَارِهِمْ فَتَسْلَمُ قُلُوبُهُمْ مِنْ مَاءِ الْجُبْنِ فَإِنَّ الْأَمْرَاضَ النَّفْسِيَّةَ إِذَا اعْتَرَتِ النُّفُوسَ لَا تَلْبَثُ أَنْ تَتْرُكَ فِيهَا بَقَايَا الدَّاءِ زَمَانًا كَمَا تَبْقَى آثَارُ الْمَرَضِ فِي الْعُضْوِ الْمَرِيضِ بَعْدَ النَّقَاهَةِ زَمَانًا حَتَّى تَرْجِعَ إِلَى الْعُضْوِ قُوَّتُهُ الْأُولَى بَعْدَ مُدَّةِ مُنَاسِبَةٍ.
وَتَوْكِيدُ الْخَبَرِ بِحَرْفِ (قَدْ) لِإِبْطَالِ شُبْهَةِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ قَالُوا: فَأَيْنَ الرُّؤْيَا؟
وَمَعْنَى صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا أَنَّهُ أَرَاهُ رُؤْيَا صَادِقَةً لِأَنَّ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ فَآلَتْ إِلَى مَعْنَى الْخَبَرِ فَوُصِفَتْ بِالصِّدْقِ لِذَلِكَ. وَهَذَا تَطْمِينٌ لَهُمْ بِأَنَّ ذَلِكَ سَيَكُونُ لَا مَحَالَةَ وَهُوَ فِي حِينِ نُزُولِ الْآيَةِ لَمَّا يَحْصُلْ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: إِنْ شاءَ اللَّهُ.
وَتَعْدِيَةُ صَدَقَ إِلَى مَنْصُوبٍ ثَانٍ بَعْدَ مَفْعُولِهِ مِنَ النَّصْبِ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ الْمُسَمَّى بِالْحَذْفِ وَالْإِيصَالِ، أَيْ حَذْفِ الْجَارِّ وَإِيصَالِ الْفِعْلِ إِلَى الْمَجْرُورِ بِالْعَمَلِ فِيهِ النَّصْبَ.
وَأَصْلُ الْكَلَامِ: صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ فِي الرُّؤْيَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الْأَحْزَاب: ٢٣].
وَالْبَاءُ فِي بِالْحَقِّ لِلْمُلَابَسَةِ وَهُوَ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ وَقَعَ صِفَةً لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ صِدْقًا مُلَابِسًا الْحَقَّ، أَوْ وُقُوعٍ حَالًا صِفَةً لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ صِدْقًا مُلَابِسًا وَقَعَ حَالًا مِنَ الرُّؤْيَا.
وَ (بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ) إِضْرَابٌ عَنْ مَا أنكروه بقَوْلهمْ: أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا أَي لم ينزل الذّكر عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ فِيمَا ادَّعَاهُ، بطر متكبر.
و (الأشر) بِكَسْرِ الشِّينِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ: اسْمُ فَاعِلِ أَشِرَ، إِذَا فَرِحَ وَبَطَرَ، وَالْمَعْنَى:
هُوَ مُعْجَبٌ بِنَفْسِهِ مُدَّعٍ مَا لَيْسَ فِيهِ.
[٢٦]
[سُورَة الْقَمَر (٥٤) : آيَة ٢٦]
سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (٢٦)
مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ تَقْدِيرُهُ: قُلْنَا لِنَذِيرِهِمُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ [الْقَمَر: ٢٣] فَإِنَّ النُّذُرَ تَقْتَضِي نَذِيرًا بِهَا وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ [الْقَمَر: ٢٧] وَذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ آنِفًا: فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ [الْقَمَر: ٢٥] كَلَامٌ أَجَابُوا بِهِ نِذَارَةَ صَالِحٍ إِيَّاهُمُ الْمُقَدَّرَةَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذَّبَتْ ثَمُودُ
بِالنُّذُرِ
[الْقَمَر: ٢٣]، وَبِذَلِكَ انْتَظَمَ الْكَلَامُ أَتَمَّ انْتِظَامٍ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سَيَعْلَمُونَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ سَتَعْلَمُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ وَهِيَ تَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا حِكَايَةَ كَلَامٍ مِنَ اللَّهِ لِصَالِحٍ عَلَى تَقْدِيرِ: قُلْنَا لَهُ: قُلْ لَهُمْ، فَفِيهِ حَذْفُ قَوْلٍ. وَيُحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا مِنَ اللَّهِ لَهُمْ بِتَقْدِيرِ: قُلْنَا لَهُمْ سَتَعْلَمُونَ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى جَعْلِ الْجُمْلَةِ مُعْتَرِضَةً.
وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: غَداً الزَّمَنُ الْمُسْتَقْبَلُ الْقَرِيبُ كَقَوْلِهِمْ فِي الْمَثَلِ: إِنَّ مَعَ الْيَوْمِ غَدًا، أَيْ إِنَّ مَعَ الزَّمَنِ الْحَاضِرِ زَمَنًا مُسْتَقْبَلًا. يُقَالُ فِي تَسْلِيَةِ النَّفْسِ مِنْ ظُلْمِ ظَالِمٍ وَنَحْوِهِ، وَقَالَ الطِّرِمَّاحُ:
وَقَبْلَ غَدٍ يَا وَيْحَ قَلْبِي مِنْ غَدٍ | إِذَا رَاحَ أَصْحَابِي وَلَسْتُ بِرَائِحِ |
وَالْمُرَادُ بِهِ فِي الْآيَةِ يَوْمُ نُزُولِ عَذَابِهِمُ الْمُسْتَقْرَبِ.
وَتَبْيِينُهُ فِي قَوْله: إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ [الْقَمَر: ٢٧] إِلَخْ، أَيْ حِينَ يَرَوْنَ الْمُعْجِزَةَ
هَذَا خِطَابٌ آخَرُ لِلْمُؤْمِنِينَ تَكْمِلَةً لِمَا تَضَمَّنَهُ الْخِطَابُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ إِلَى قَوْلِهِ: وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الصَّفّ: ١٠، ١١] الْآيَةَ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ الْخِطَابِ، فَجَاءَ هَذَا الْخِطَابُ الثَّانِي تَذْكِيرًا بِأُسْوَةٍ عَظِيمَةٍ مِنْ أَحْوَالِ الْمُخْلِصِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ السَّابِقِينَ وَهُمْ أَصْحَابُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ قِلَّةِ عَدَدِهِمْ وَضَعْفِهِمْ.
فَأَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِنَصْرِ الدِّينِ وَهُوَ نَصْرٌ غَيْرُ النَّصْرِ الَّذِي بِالْجِهَادِ لِأَنَّ ذَلِكَ تَقَدَّمَ التَّحْرِيضُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ [الصَّفّ: ١١] الْآيَةَ وَوَعْدُهُمْ عَلَيْهِ بِأَنْ يَنْصُرَهُمُ اللَّهُ، فَهَذَا النَّصْرُ الْمَأْمُورُ بِهِ هُنَا نَصْرُ دِينِ اللَّهِ الَّذِي آمَنُوا بِهِ بِأَنْ يَبُثُّوهُ وَيَثْبُتُوا عَلَى الْأَخْذِ بِهِ دُونَ اكْتِرَاثٍ بِمَا يُلَاقُونَهُ مِنْ أَذًى مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، قَالَ تَعَالَى: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ
الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [آل عمرَان: ١٨٦].
وَهَذَا هُوَ الَّذِي شَبَّهَ بِنَصْرِ الْحَوَارِيِّينَ دِينَ اللَّهِ الَّذِي جَاءَ بِهِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّ عِيسَى لَمْ يُجَاهِدْ مَنْ عَانَدُوهُ، وَلَا كَانَ الْحَوَارِيُّونَ مِمَّنْ
وَهَذَا وَعْدٌ بِخَيْرِ الْآخِرَةِ ورتب عَلَيْهِ وَعدا بِخَيْرِ الدُّنْيَا بِطَرِيقِ جَوَابِ الْأَمْرِ، وَهُوَ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ الْآيَةَ.
وَكَانُوا أَهْلَ فِلَاحَةٍ فَوَعَدَهُمْ بِنُزُولِ الْمَطَرِ الَّذِي بِهِ السَّلَامَةُ مِنَ الْقَحْطِ وَبِالزِّيَادَةِ فِي الْأَمْوَالِ.
والسَّماءَ: هُنَا الْمَطَرُ، وَمِنْ أَسْمَاءِ الْمَطَرِ السَّمَاءُ.
وَفِي حَدِيث «الْمُوَطَّأ» و «الصَّحِيحَيْنِ» عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ: أَنَّهُ قَالَ: «صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلِ»
الْحَدِيثَ. وَقَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جَعْفَرٍ:
إِذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بِأَرْضِ قَوْمٍ | رَعَيْنَاهُ وَإِنْ كَانُوا غِضَابًا |
وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنْ يَتْبَعَ بَعْضُ الْأَمْطَارِ بَعْضًا.
وَمِدْرَارٌ، زِنَةُ مُبَالَغَةٍ، وَهَذَا الْوَزْنُ لَا تَلْحَقُهُ عَلَامَةُ التَّأْنِيثِ إِلَّا نَادِرًا كَمَا فِي قَوْلِ سَهْلِ بْنِ مَالِكٍ الْفَزَارِيِّ:
أَصْبَحَ يَهْوَى حُرَّةً مِعْطَارَةَ فَلِذَلِكَ لَمْ تُلْحَقُ التَّاءُ هُنَا مَعَ أَنَّ اسْمَ السَّمَاءِ مُؤَنَّثٌ.
وَالْإِرْسَالُ: مُسْتَعَارٌ لِلْإِيصَالِ وَالْإِعْطَاءِ، وَتَعْدِيَتُهُ بِ عَلَيْكُمْ لِأَنَّهُ إِيصَالٌ مِنْ عُلُوٍّ كَقَوْلِهِ: وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ [الْفِيل: ٣].
و (أَمْوَال) : جَمْعُ مَالٍ وَهُوَ يَشْمَلُ كُلَّ مَكْسَبٍ يَبْذُلُهُ الْمَرْءُ فِي اقْتِنَاءِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ.
وَالْمُرَادُ بِالْجَنَّاتِ فِي قَوْلِهِ: وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ النَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ، لِأَنَّ الْجَنَّاتِ تَحْتَاجُ إِلَى السَّقْيِ.
وَإِعَادَةُ فِعْلِ يَجْعَلْ بَعْدَ وَاوِ الْعَطْفِ فِي قَوْلِهِ: وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً لِلتَّوْكِيدِ اهْتِمَامًا بِشَأْنِ الْمَعْطُوفِ لِأَنَّ الْأَنْهَارَ قِوَامُ الْجَنَّاتِ وَتَسْقِي الْمَزَارِعَ وَالْأَنْعَامَ.
تَكْذِيبًا يُسَاوِي اعْتِقَادَ أَنَّهُ مِنْ وَضْعِ الْبَشَرِ، فَهَؤُلَاءِ وَإِنْ لَمْ يَقُولُوا الْقُرْآنُ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ فَظَنُّهُمْ فِي الْقُرْآنِ يُسَاوِي ظَنَّ الْمُشْرِكِينَ فَنُزِّلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ يَقُولُهُ.
وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْقَصْرَ ادِّعَائِيًّا وَلَا تَلْتَفِتَ إِلَى تَنْزِيلِ مَنْ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ.
وَمَعْنَى الِادِّعَاءِ أَنَّ مَنْ لَمْ يُؤْثَرْ عَنْهُمُ الْقَوْلُ فِي الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ قَدْ جُعِلَ تَكْذِيبُهُمْ بِيَوْمِ الدِّينِ كَلَا تَكْذِيبٍ مُبَالَغَةً فِي إِبْطَالِ تَكْذِيبِ الْمُشْرِكِينَ بِيَوْمِ الدِّينِ.
وَجُمْلَةُ: إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ صِفَةٌ لِمُعْتَدٍ أَوْ حَالٌ مِنْهُ.
وَالْآيَاتُ هُنَا الْقُرْآنُ وَأَجْزَاؤُهُ لِأَنَّهَا الَّتِي تُتْلَى وَتُقْرَأُ.
وَالْأَسَاطِيرُ: جَمْعُ أُسْطُورَةٍ وَهِيَ الْقِصَّةُ، وَالْأَكْثَرُ أَنْ يُرَادَ الْقِصَّةُ الْمُخْتَرَعَةُ الَّتِي لَمْ تَقَعْ وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يُنَظِّرُونَ قِصَصَ الْقُرْآنِ بِقِصَّةِ رُسْتُمَ، وَإِسْفِنْدِيَارَ، عِنْدَ الْفُرْسِ، وَلَعَلَّ الْكَلِمَةَ مُعَرَّبَةٌ عَنِ الرُّومِيَّةِ، وَتُقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٢٥].
وَالْمُرَادُ بِالْأَوَّلِينَ الْأُمَمُ السَّابِقَةُ لِأَنَّ الْأَوَّلَ يُطْلَقُ عَلَى السَّابِقِ عَلَى وَجْهِ التَّشْبِيهِ بِأَنَّهُ أَوَّلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ثَانٍ بَعْدَهُ وَإِنْ كَانَ هُوَ قَدْ سَبَقَتْهُ أَجْيَالٌ، وَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَصِفُونَ الْقُرْآنَ بِذَلِكَ لِمَا سَمِعُوا فِيهِ مِنَ الْقِصَصِ الَّتِي سِيقَتْ إِلَيْهِمْ مَسَاقَ الْمَوْعِظَةِ وَالِاعْتِبَارِ، فَحَسِبُوهَا مِنْ قِصَصِ الْأَسْمَارِ. وَاقْتَصَرُوا عَلَى ذَلِكَ دُونَ مَا فِي أَكْثَرِ الْقُرْآنِ مِنَ الْحَقَائِقِ الْعَالِيَةِ وَالْحِكْمَةِ، بُهْتَانًا مِنْهُمْ.
وَمِمَّنْ كَانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ وَكَانَ قَدْ كَتَبَ قِصَّةَ رُسْتُمَ وَقِصَّةَ إِسْفِنْدِيَارَ وَجَدَهَا فِي الْحِيرَةِ فَكَانَ يُحَدِّثُ بِهَا فِي مَكَّةَ وَيَقُولُ: أَنَا أَحْسَنُ حَدِيثًا مِنْ مُحَمَّدٍ فَإِنَّمَا يُحَدِّثُكُمْ بِأَسَاطِيرِ الْأَوَّلِينَ.
وَلَيْسَ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ خُصُوصَهُ لِأَنَّ كَلِمَةَ كُلُّ مُعْتَدٍ ظَاهِرٌ فِي عَدَمِ التَّخْصِيصِ.
[١٤- ١٧]
[سُورَة المطففين (٨٣) : الْآيَات ١٤ الى ١٧]
كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (١٦) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (١٧)
كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) كَلَّا اعْتِرَاضٌ بِالرَّدْعِ وَبَيَانٌ لَهُ، لِأَنَّ كَلَّا رَدْعٌ لِقَوْلِهِمْ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، أَيْ أَنَّ قَوْلَهُمْ