فَالْيَهُودُ تَمَرَّدُوا عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ وَأَحْبَارِهِمْ غَيْرَ مَرَّةٍ وَبَدَّلُوا الشَّرِيعَةَ عَمْدًا فَلَزِمَهُمْ وَصْفُ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَعَلِقَ بِهِمْ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ. وَالنَّصَارَى ضَلُّوا بَعْدَ الْحَوَارِيِّينَ وَأَسَاءُوا فَهْمَ مَعْنَى التَّقْدِيسِ فِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَزَعَمُوهُ ابْنَ اللَّهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ قَالَ تَعَالَى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ [الْمَائِدَة: ٧٧]. وَفِي وَصْفِ الصِّرَاطِ الْمَسْئُولِ فِي قَوْلِهِ: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ بِالْمُسْتَقِيمِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ وَاضِحُ الْحُجَّةِ قَوِيمُ الْمَحَجَّةِ لَا يَهْوِي أَهْلُهُ إِلَى هُوَّةِ الضَّلَالَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً [الْأَنْعَام: ١٦١] وَقَالَ: وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الْأَنْعَام: ١٥٣]، عَلَى تَفَاوُتٍ فِي مَرَاتِبِ إِصَابَةِ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى وَلِذَلِكَ
قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ اجْتَهَدَ وَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَمَنِ اجْتَهَدَ وَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ»
وَلَمْ يَتْرُكْ بَيَانُ الشَّرِيعَةِ مَجَارِيَ اشْتِبَاهٍ بَيْنَ الْخِلَافِ الَّذِي تُحِيطُ بِهِ دَائِرَةُ الْإِسْلَامِ وَالْخِلَافِ الَّذِي يَخْرُجُ بِصَاحِبِهِ عَنْ مُحِيطِ الْإِسْلَامِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ [النَّمْل: ٧٩].
وَاخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي حَرَكَةِ هَاءِ الضَّمِيرِ مِنْ قَوْلِهِ: أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ، وَقَوْلِهِ: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ، وَمَا ضَاهَاهُمَا مِنْ كُلِّ ضَمِيرِ جَمْعٍ وَتَثْنِيَةِ مُذَكَّرٍ وَمُؤَنَّثٍ لِلْغَائِبِ وَقَعَ بَعْدَ يَاءٍ سَاكِنة، فالجمهور قرأوها بِكَسْرِ الْهَاءِ تَخَلُّصًا مِنَ الثِّقَلِ لِأَنَّ الْهَاءَ حَاجِزٌ غَيْرُ حَصِينٍ فَإِذَا ضُمَّتْ بَعْدَ الْيَاءِ فَكَانَ ضَمَّتُهَا قَدْ وَلِيَتِ الْكَسْرَةَ أَوِ الْيَاءَ السَّاكِنَةَ وَذَلِكَ ثَقِيلٌ وَهَذِهِ لُغَةُ قَيْسٍ وَتَمِيمٍ وَسَعْدِ بْنِ بَكْرٍ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ عَلَيْهُمْ وَإِلَيْهُمْ وَلَدَيْهُمْ فَقَطْ بِضَمِّ الْهَاءِ وَمَا عَدَاهَا بِكَسْرِ الْهَاءِ نَحْوُ إِلَيْهِمَا وَصَيَاصِيهِمْ وَهِيَ لُغَةُ قُرَيْشٍ وَالْحِجَازِيِّينَ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ كُلَّ ضَمِيرٍ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مِمَّا قَبْلَ الْهَاءِ فِيهِ يَاءٌ سَاكِنَةٌ بِضَمِّ الْهَاءِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا هُنَا فَلَا نُعِيدُ ذِكْرَهُ فِي أَمْثَالِهِ وَهُوَ مِمَّا يَرْجِعُ إِلَى قَوَاعِدِ عِلْمِ الْقِرَاءَاتِ فِي هَاءِ الضَّمِيرِ.
وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي حَرَكَةِ مِيمِ ضَمِيرِ الْجَمْعِ الْغَائِبِ الْمُذَكَّرِ فِي الْوَصْلِ إِذَا وَقَعَتْ قَبْلَ متحرك فالجمهور قرأوا: عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ بِسُكُونِ الْمِيمِ وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَقَالُونُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ بِضَمَّةٍ مُشَبَّعَةٍ: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَهِي لُغَة بعض الْعَرَبِ
وَعَلَيْهَا قَوْلُ لَبِيدٍ:
وَهُمُو فَوَارِسُهَا وَهُمْ حُكَّامُهَا
فَجَاءَ بِاللُّغَتَيْنِ، وَقَرَأَ وَرْشٌ بِضَمِّ الْمِيمِ وَإِشْبَاعِهَا إِذَا وَقَعَ بَعْدَ الْمِيمِ هَمْزٌ دُونَ نَحْوِ:
غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَأَجْمَعَ الْكُلُّ عَلَى إِسْكَانِ الْمِيمِ فِي الْوَقْفِ.
النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمْرَةِ الْقَضَاءِ سَنَةَ سِتٍّ وَتَوَقُّعُ الْمُسْلِمِينَ غَدْرَ الْمُشْرِكِينَ بِالْعَهْدِ، وَهُوَ قِتَالٌ مُتَوَقَّعٌ لِقَصْدِ الدِّفَاعِ لِقَوْلِهِ: الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ، وَهَذِهِ الْآيَةُ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْقِتَالِ وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا فِي [سُورَةِ الْحَجِّ: ٣٩] وَرَجَّحَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ بِأَنَّهَا مَكِّيَّةٌ وَآيَةُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَدَنِيَّةٌ. وَقَدْ ثَبَتَ
فِي «الصَّحِيحِ» أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَرْسَلَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ فَأَرْجَفَ بِأَنَّهُمْ قَتَلُوهُ فَبَايَعَ النَّاسُ وَالرَّسُول عَلَى الْمَوْتِ فِي قِتَالِ الْعَدُوِّ ثُمَّ انْكَشَفَ الْأَمْرُ عَنْ سَلَامَةِ عُثْمَان.
ونزول هذهف الْآيَاتِ عَقِبَ الْآيَاتِ الَّتِي أَشَارَتْ إِلَى الْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ وَالَّتِي نَرَاهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ الْخُرُوجِ إِلَى الْحُدَيْبِيَةِ يُنْبِئُ بِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا قد أضمروا ضد النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ ثُمَّ أَعْرَضُوا عَنْ ذَلِكَ لَمَّا رَأَوْا تَهَيُّؤَ الْمُسْلِمِينَ لِقِتَالِهِمْ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا
تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ
[الْبَقَرَة: ١٩١] إِرْشَادٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِمَا فِيهِ صَلَاحٌ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا انْقَضَتِ الْآيَاتُ الْمُتَكَلِّمَةُ عَنِ الْقِتَالِ عَادَ الْكَلَامُ إِلَى الْغَرَضِ الَّذِي فَارَقَتْهُ وَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [الْبَقَرَة: ١٩٦]، الْآيَاتِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ ضَرْبُ مُدَّةٍ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ لَا يُقَاتِلُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ الْآخَرَ فَخَافَ الْمُسْلِمُونَ عَامَ عُمْرَةِ الْقَضَاءِ أَنْ يَغْدِرَ بِهِمُ الْمُشْرِكُونَ إِذَا حَلُّوا بِبَلَدِهِمْ وَأَلَّا يَفُوا لَهُمْ فَيَصُدُّوهُمْ عَنِ الْعُمْرَةِ فَأُمِرُوا بِقِتَالِهِمْ إِنْ هُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ.
وَهَذَا إِذْنٌ فِي قِتَالِ الدِّفَاعِ لِدَفْعِ هُجُومِ الْعَدُوِّ ثُمَّ نَزَلَتْ بَعْدَهَا آيَةُ بَرَاءَةٌ: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً [التَّوْبَة: ٣٦] نَاسِخَةٌ لِمَفْهُومِ هَذِهِ الْآيَةِ عِنْدَ مَنْ يَرَى نَسْخَ الْمَفْهُومِ وَلَا يَرَى الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ نَسْخًا، وَهِيَ أَيْضًا نَاسِخَةٌ لَهَا عِنْدَ مَنْ يَرَى الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ نَسْخًا وَلَا يَرَى نَسْخَ الْمَفْهُومِ، وَهِيَ وَإِنْ نَزَلَتْ لِسَبَبٍ خَاصٍّ فَهِيَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ حَالٍ يُبَادِئُ الْمُشْرِكُونَ فِيهِ الْمُسْلِمِينَ بِالْقِتَالِ، لِأَنَّ السَّبَبَ لَا يُخَصَّصُ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمُجَاهِدٍ أَنَّ هَاتِهِ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ لَمْ تُنْسَخْ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمُ الَّذِينَ هُمْ مُتَهَيِّئُونَ لِقِتَالِكُمْ أَيْ لَا تُقَاتِلُوا الشُّيُوخَ وَالنِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ، أَيِ الْقَيْدُ لِإِخْرَاجِ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُقَاتِلِينَ لَا لِإِخْرَاجِ الْمُحَاجِزِينَ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْكُفَّارُ كُلُّهُمْ، فَإِنَّهُمْ بِصَدَدِ أَنْ يُقَاتِلُوا. ذَكَرَهُ فِي «الْكَشَّافِ»، أَيْ فَفِعْلُ يُقاتِلُونَكُمْ مُسْتَعْمل فِي مُقَارنَة الْفِعْلِ وَالتَّهَيُّؤِ لَهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ تَرَكَ خَيْراً [الْبَقَرَة: ١٨٠].
وَالْمُقَاتَلَةُ مُفَاعَلَةٌ وَهِيَ حُصُولُ الْفِعْلِ مِنْ جَانِبَيْنِ، وَلَمَّا كَانَ فِعْلُهَا وَهُوَ الْقَتْلُ لَا يُمْكِنُ حُصُولُهُ مِنْ جَانِبَيْنِ لِأَنَّ أَحَدَ الْجَانِبَيْنِ إِذَا قُتِلَ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُقْتَلَ كَانَتِ الْمُفَاعَلَةُ فِي هَذِهِ الْمَادَّةِ
اخْتِلَافًا عِلْمِيًّا فَرْعِيًّا، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا اخْتِلَافًا يَنْقُضُ أُصُولَ دِينِهِمْ بَلْ غَايَةُ الْكُلِّ الْوُصُولُ إِلَى الْحَقِّ مِنَ الدِّينِ، وَخِدْمَةُ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ، فَبَنُو إِسْرَائِيلَ عَبَدُوا الْعِجْلَ وَالرَّسُولُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ، وَعَبَدُوا آلِهَةَ الْأُمَمِ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَالنَّصَارَى عَبَدُوا مَرْيَمَ وَالْمَسِيحَ، وَنَقَضُوا أُصُولَ التَّوْحِيدِ، وَادَّعَوْا حُلُولَ الْخَالِقِ فِي الْمَخْلُوقِ. فَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ لَمَّا قَالَ أَحَدُ أَهْلِ التَّصَوُّفِ مِنْهُمْ كَلَامًا يُوهِمُ الْحُلُولَ حَكَمَ علماؤهم بقتْله.
[٢٠]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ٢٠]
فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٢٠)
تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ [آل عمرَان: ١٩] الْآيَةَ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ دِينٌ قَدْ أَنْكَرُوهُ، وَاخْتِلَافُهُمْ فِي أَدْيَانِهِمْ يُفْضِي بِهِمْ إِلَى مُحَاجَّةِ الرَّسُولِ فِي تَبْرِيرِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ، وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى أَقَلِّ مِمَّا جَاءَ بِهِ دِينُ الْإِسْلَامِ.
وَالْمُحَاجَّةُ مفاعلة وَلم يجىء فِعْلُهَا إِلَّا بِصِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ. وَمَعْنَى الْمُحَاجَّةِ الْمُخَاصَمَةُ، وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِ فِعْلِ حَاجَّ فِي معنى المخاطمة بِالْبَاطِلِ: كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَحاجَّهُ قَوْمُهُ [الْأَنْعَام: ٨٠] وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٥٨].
فَالْمَعْنَى: فَإِن خاصموك خَاصم مُكَابَرَةٍ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ.
وَضَمِيرُ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ حَاجُّوكَ عَائِدٌ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ فِي الْكَلَامِ، بَلْ مَعْلُومٌ مِنَ الْمَقَامِ، وَهُوَ مَقَامُ نُزُولِ السُّورَةِ، أَعْنِي قَضِيَّةَ وَفْدِ نَجْرَانَ فَإِنَّهُمُ الَّذِينَ اهْتَمَّوْا بِالْمُحَاجَّةِ حِينَئِذٍ. فَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَقَدْ تَبَاعَدَ مَا بَيْنَهُمْ وَبَين النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، فَانْقَطَعَتْ مُحَاجَّتُهُمْ، وَأَمَّا الْيَهُودُ فَقَدْ تَظَاهَرُوا بِمُسَالَمَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَدِينَة.
وَقد لَقَّنَ اللَّهُ رَسُولَهُ أَنْ يُجِيبَ مُجَادَلَتَهُمْ بِقَوْلِهِ: أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَالْوَجْهُ أُطْلِقَ عَلَى النَّفْسِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [الْقَصَص: ٨٨] أَيْ ذَاتَهُ.
وَأَرَادُوا مِنَ السَّيِّئَاتِ مَا كَانَ فِيهِ حَقُّ النَّاسِ، فَلِذَلِكَ سَأَلُوا تَكْفِيرَهَا عَنْهُمْ. وَقِيلَ هُوَ مُجَرَّدُ تَأْكِيدٍ، وَهُوَ حَسَنٌ، وَقِيلَ أَرَادُوا مِنَ الذُّنُوبِ الْكَبَائِرَ وَمِنَ السَّيِّئَاتِ الصَّغَائِرَ لِأَنَّ اجْتِنَابَ الْكَبَائِرِ يُكَفِّرُ الصَّغَائِرَ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الذَّنْبَ أَدَلُّ عَلَى الْإِثْمِ مِنَ السَّيِّئَةِ.
وَسَأَلُوا الْوَفَاةَ مَعَ الْأَبْرَارِ، أَيْ أَنْ يَمُوتُوا عَلَى حَالَةِ الْبِرِّ، بِأَنْ يُلَازِمَهُمُ الْبِرُّ إِلَى الْمَمَاتِ وَأَنْ لَا يَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ، فَإِذَا مَاتُوا كَذَلِكَ مَاتُوا مِنْ جُمْلَةِ الْأَبْرَارِ. فَالْمَعِيَّةُ هُنَا مَعِيَّةٌ اعْتِبَارِيَّةٌ، وَهِيَ الْمُشَارَكَةُ فِي الْحَالَةِ الْكَامِلَةِ، وَالْمَعِيَّةُ مَعَ الْأَبْرَارِ أَبْلَغُ فِي الِاتِّصَافِ بِالدَّلَالَةِ، لِأَنَّهُ بِرٌّ يُرْجَى دَوَامُهُ وَتَزَايُدُهُ لِكَوْنِ صَاحِبِهِ ضِمْنُ جَمْعٍ يَزِيدُونَهُ إِقْبَالًا عَلَى الْبِرِّ بِلِسَانِ الْمَقَالِ وَلِسَانِ الْحَالِ.
ولمّا سَأَلُوا أَسبَاب الْمَثُوبَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَرَقَّوْا فِي السُّؤَالِ إِلَى طَلَبِ تَحْقِيقِ الْمَثُوبَةِ، فَقَالُوا: وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ.
وَتَحْتَمِلُ كَلِمَةُ (عَلَى) أَنْ تَكُونَ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ الْوَعْدِ، وَمَعْنَاهَا التَّعْلِيلُ فَيَكُونُ الرُّسُلُ هُمُ الْمَوْعُودُ عَلَيْهِمْ، وَمَعْنَى الْوَعْدِ عَلَى الرُّسُلِ أَنَّهُ وَعْدٌ عَلَى تَصْدِيقِهِمْ فَتَعَيَّنَ تَقْدِيرُ مُضَافٍ، وَتَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ (عَلَى) ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا، أَيْ وَعْدًا كَائِنًا عَلَى رُسُلِكَ أَيْ، مُنَزَّلًا عَلَيْهِمْ، وَمُتَعَلِّقُ الْجَارِّ فِي مِثْلِهِ كَوْنٌ غَيْرُ عَامٍّ بَلْ هُوَ كَوْنٌ خَاصٌّ، وَلَا ضَيْرَ فِي ذَلِكَ إِذَا قَامَتِ الْقَرِينَةُ، وَمَعْنَى (عَلَى) حِينَئِذٍ الِاسْتِعْلَاءُ الْمَجَازِيُّ، أَوْ تُجْعَلُ (عَلَى) ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا حَالًا مِنْ مَا وَعَدْتَنا أَيْضًا، بِتَقْدِيرِ كَوْنٍ عَامٍّ لَكِنْ مَعَ تَقْدِيرِ مُضَافٍ إِلَى رُسُلِكَ، أَيْ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِكَ.
وَالْمَوْعُودُ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ أَوْ عَلَى التَّصْدِيقِ بِهِمُ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ ثَوَابُ الْآخِرَةِ وَثَوَابُ الدُّنْيَا: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ [آل عمرَان: ١٤٨] وَقَوْلِهِ: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ [النُّور:
٥٥] الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ [الْأَنْبِيَاء: ١٠٥]. وَالْمُرَادُ بِالرُّسُلِ فِي قَوْلِهِ: عَلى رُسُلِكَ خُصُوصُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُطْلِقَ عَلَيْهِ وَصْفُ «رُسُلٍ» تَعْظِيمًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ [إِبْرَاهِيم: ٤٧]. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ [الْفرْقَان: ٣٧].
وَأَمَّا الْقِسْمُ الَّذِي أَخْرَجَهُ الِاسْتِثْنَاءُ فَهُوَ مُبَيَّنٌ فِي ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: الصَّدَقَةُ، وَالْمَعْرُوفُ، وَالْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ. وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ لَوْ لَمْ تُذْكَرْ لَدَخَلَتْ فِي الْقَلِيلِ مِنْ نَجْوَاهُمُ الثَّابِتِ لَهُ الْخَيْرُ، فَلَمَّا ذُكِرَتْ بِطَرِيقِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلِمْنَا أَنَّ نَظْمَ الْكَلَامِ جَرَى عَلَى أُسْلُوبٍ بَدِيعٍ فَأَخْرَجَ مَا فِيهِ الْخَيْرُ مِنْ نَجْوَاهُمُ ابْتِدَاءً بِمَفْهُومِ الصِّفَةِ، ثُمَّ أُرِيدُ الِاهْتِمَامُ بِبَعْضِ هَذَا الْقَلِيلِ مِنْ نَجْوَاهُمْ، فَأُخْرِجَ مِنْ كَثِيرِ نَجْوَاهُمْ بِطَرِيقِ الِاسْتِثْنَاءِ، فَبَقِيَ مَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ نَجْوَاهُمْ، وَهُوَ
الْكَثِيرُ، مَوْصُوفًا بِأَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ وَبِذَلِكَ يَتَّضِحُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُتَّصِلٌ، وَأَنْ لَا دَاعِيَ إِلَى جَعْلِهِ مُنْقَطِعًا. وَالْمَقْصِدُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ الِاهْتِمَامُ وَالتَّنْوِيهُ بِشَأْنِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، وَلَوْ تَنَاجَى فِيهَا مَنْ غَالِبُ أَمْرِهِ قَصْدُ الشَّرِّ.
وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ إِلَخْ وَعْدٌ بِالثَّوَابِ عَلَى فِعْلِ الْمَذْكُورَاتِ إِذَا كَانَ لِابْتِغَاءِ مَرْضَاةِ اللَّهِ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كَوْنَهَا خَيْرًا وَصْفٌ ثَابِتٌ لَهَا لِمَا فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ، وَلِأَنَّهَا مَأْمُورٌ بِهَا فِي الشَّرْعِ، إِلَّا أَنَّ الثَّوَابَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا عَنْ فِعْلِهَا ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ كَمَا
فِي حَدِيثِ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»
. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: (نُؤْتِيهِ) - بِنُونِ الْعَظَمَةِ- عَلَى الِالْتِفَاتِ مِنَ الْغَيْبَةِ فِي قَوْله: مَرْضاتِ اللَّهِ إِلَى التَّكَلُّمِ.
وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو، وَحَمْزَةُ، وَخَلَفٌ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى ظَاهِرِ قَوْلِهِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ.
[١١٥]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ١١٥]
وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (١١٥)
عَطْفٌ عَلَى وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ [النِّسَاء: ١١٤] بِمُنَاسَبَةِ تَضَادِّ الْحَالَيْنِ.
وَالْمُشَاقَّةُ: الْمُخَالَفَةُ الْمَقْصُودَةُ، مُشْتَقَّةٌ مِنَ الشِّقِّ لِأَنَّ الْمُخَالِفَ كَأَنَّهُ يَخْتَارُ شِقًّا يَكُونُ فِيهِ غَيْرَ شِقِّ الْآخَرِ.
فَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِهِ مِنْ بَعْدِ مَا آمَنَ بِالرَّسُولِ فَتَكُونُ الْآيَةُ وَعِيدًا لِلْمُرْتَدِّ. وَمُنَاسَبَتُهَا هُنَا أَنَّ بَشِيرَ بْنَ أُبَيْرِقٍ صَاحِبَ الْقِصَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ،
هَوَاهُمْ عَصَوْهُ، أَيْ هُمْ أَتْبَاعٌ لِقَوْمٍ مُتَسَتِّرِينَ هُمُ الْقَوْمُ الْآخَرُونَ، وَهُمْ أَهْلُ خَيْبَرَ وَأَهْلُ فَدَكَ الَّذِينَ بَعَثُوا بِالْمَسْأَلَةِ وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ مِنْهُم النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَاللَّامُ فِي لِقَوْمٍ لِلتَّقْوِيَةِ لِضَعْفِ اسْمِ الْفَاعِلِ عَنِ الْعَمَلِ فِي الْمَفْعُولِ.
وَجُمْلَةُ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ صفة ثَانِيَة لِقَوْمٍ آخَرِينَ أَوْ حَالٌ، وَلَك أَنْ تَجْعَلَهَا حَالًا مِنَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي تَحْرِيفِ الْكَلِمِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٤٦]، وَأَنَّ التَّحْرِيفَ الْمَيْلُ إِلَى حَرْفٍ، أَيْ جَانِبٍ، أَيْ نَقْلُهُ مِنْ مَوْضِعِهِ إِلَى طَرَفٍ آخَرَ.
وَقَالَ هُنَا مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ، وَفِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٤٦] عَنْ مَواضِعِهِ، لِأَنَّ آيَةَ سُورَةِ النِّسَاءِ فِي وَصْفِ الْيَهُودِ كُلِّهِمْ وَتَحْرِيفِهِمْ فِي التَّوْرَاةِ. فَهُوَ تَغْيِيرُ كَلَامِ التَّوْرَاةِ بِكَلَامٍ آخَرَ عَنْ جَهْلٍ أَوْ قَصْدٍ أَوْ خَطَأٍ فِي تَأْوِيلِ مَعَانِي التَّوْرَاةِ أَوْ فِي أَلْفَاظِهَا. فَكَانَ إِبْعَادًا لِلْكَلَامِ عَنْ مَوَاضِعِهِ، أَيْ إِزَالَةً لِلْكَلَامِ الْأَصْلِيِّ سَوَاءٌ عُوِّضَ بِغَيْرِهِ أَوْ لَمْ يُعَوَّضْ. وَأَمَّا هَاتِهِ الْآيَةُ فَفِي ذِكْرِ طَائِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ أَبْطَلُوا الْعَمَلَ بِكَلَامٍ ثَابِتٍ فِي التَّوْرَاةِ إِذْ أَلْغَوْا حُكْمَ الرَّجْمِ الثَّابِتَ فِيهَا دُونَ تَعْوِيضِهِ بِغَيْرِهِ مِنَ الْكَلَامِ، فَهَذَا أَشَدُّ جُرْأَةً مِنَ التَّحْرِيفِ الْآخَرِ، فَكَانَ قَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ أَبْلَغَ فِي تَحْرِيفِ الْكَلَامِ، لِأَنَّ لَفْظَ (بَعْدَ) يَقْتَضِي أَنَّ مَوَاضِعَ الْكَلِمِ مُسْتَقِرَّةٌ وَأَنَّهُ أُبْطِلَ الْعَمَلُ بِهَا مَعَ بَقَائِهَا قَائِمَةً فِي كِتَابِ التَّوْرَاةِ.
وَالْإِشَارَةُ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا إِلَى الْكَلِمِ الْمُحَرَّفِ. وَالْإِيتَاءُ هُنَا: الْإِفَادَةُ كَقَوْلِهِ: وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ [الْبَقَرَة: ٢٥١].
وَالْأَخْذُ: الْقَبُولُ، أَيْ إِنْ أُجِبْتُمْ بِمِثْلِ مَا تَهْوَوْنَ فَاقْبَلُوهُ وَإِنْ لَمْ تُجَابُوهُ فَاحْذَرُوا قَبُولَهُ. وَإِنَّمَا قَالُوا: فَاحْذَرُوا، لِأَنَّهُ يَفْتَحُ عَلَيْهِمُ الطَّعْنَ فِي أَحْكَامِهِمُ الَّتِي مَضَوْا عَلَيْهَا وَفِي حُكَّامِهِمُ الْحَاكِمِينَ بِهَا.
وَإِرَادَةُ اللَّهِ فِتْنَةَ الْمَفْتُونِ قَضَاؤُهَا لَهُ فِي الْأَزَلِ، وَعَلَامَةُ ذَلِكَ التَّقْدِيرِ عَدَمُ
فِيكُمْ وَأَصْدَقُكُمْ حَدِيثًا حَتَّى إِذَا رَأَيْتُمُ الشَّيْبَ فِي صُدْغَيْهِ قُلْتُمْ سَاحِرٌ وَقُلْتُمْ كَاهِنٌ وَقُلْتُمْ شَاعِرٌ وقلتم مَجْنُون وو الله مَا هُوَ بِأُولَئِكُمْ». وَلِأَنَّ الْآيَاتِ الَّتِي جَاءَ بِهَا لَا يَمْتَرِي أَحَدٌ فِي أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَلِأَنَّ دَلَائِلَ صِدْقِهِ بَيِّنَةٌ وَاضِحَةٌ وَلَكِنَّكُمْ ظَالِمُونَ.
وَالظَّالِمُ هُوَ الَّذِي يَجْرِي عَلَى خِلَافِ الْحَقِّ بِدُونِ شُبْهَةٍ. فَهُمْ يُنْكِرُونَ الْحَقَّ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُ الْحَقُّ، وَذَلِكَ هُوَ الْجُحُودُ. وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِذَلِكَ وَهُوَ أَعْلَمُ بِسَرَائِرِهِمْ.
وَنَظِيرُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا [النَّمْل: ١٤] فَيَكُونُ فِي الْآيَةِ احْتِبَاكٌ. وَالتَّقْدِيرُ: فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَا يُكَذِّبُونَ الْآيَاتِ وَلَكِنَّهُمْ يَجْحَدُونَ بِالْآيَاتِ وَيَجْحَدُونَ بِصِدْقِكَ، فَحَذَفَ مِنْ كُلٍّ لِدَلَالَةِ الْآخَرِ.
وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ نَاجِيَةَ بْنِ كَعْبٍ التَّابِعِيِّ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا نُكَذِّبُكَ وَلَكِنْ نُكَذِّبُ مَا جِئْتَ بِهِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ. وَلَا أَحْسَبُ هَذَا هُوَ سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ. لِأَنَّ أَبَا جَهْلٍ إِنْ كَانَ قَدْ قَالَ ذَلِكَ فَقَدْ أَرَادَ الِاسْتِهْزَاءَ، كَمَا قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْعَارِضَةِ» : ذَلِكَ أَنَّهُ التَّكْذِيبُ بِمَا جَاءَ بِهِ تَكْذِيبٌ لَهُ لَا مَحَالَةَ، فَقَوْلُهُ: لَا نُكَذِّبُكَ، اسْتِهْزَاءٌ بإطماع التَّصْدِيق.
[٣٤]
[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : آيَة ٣٤]
وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ [الْأَنْعَام: ٣٣] أَوْ عَلَى جُمْلَةِ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الْأَنْعَام: ٣٣]. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ وَاوَ الْحَالِ مِنَ الْكَلَامِ الْمَحْذُوفِ قَبْلَ الْفَاءِ، أَيْ فَلَا تَحْزَنْ، أَوْ إِنْ أَحْزَنَكَ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَالْحَالُ قَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ. وَالْكَلَامُ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ تَسْلِيَةٌ وَتَهْوِينٌ وَتَكْرِيمٌ بِأَنَّ إِسَاءَةَ أَهْلِ الشِّرْكِ لِمُحَمَّدٍ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- هِيَ دُونَ مَا أَسَاءَ الْأَقْوَامُ إِلَى الرُّسُلِ مِنْ قَبْلِهِ فَإِنَّهُمْ كَذَّبُوا بِالْقَوْلِ وَالِاعْتِقَادِ وَأَمَّا قَوْمُهُ فَكَذَّبُوا بِالْقَوْلِ فَقَطْ. وَفِي الْكَلَامِ أَيْضًا تَأَسٍّ لِلرَّسُولِ بِمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ.
قَرَنُوهَا بَهَاءِ التَّأْنِيثِ لَمَّا صَيَّرُوهَا اسْمًا لِلدِّينِ، وَلِذَلِكَ قَالَ الرَّاغِبُ: الْمِلَّةُ كَالدِّينِ، ثُمَّ قَالَ: «وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الدِّينِ أَنَّ الْمِلَّةَ لَا تُضَافُ إِلَّا إِلَى النَّبِيءِ الَّذِي تُسْنَدُ إِلَيْهِ نَحْوَ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، مِلَّةِ آبَائِي، وَلَا تُوجَدُ مُضَافَةً إِلَى اللَّهِ وَلَا إِلَى آحَاد الْأُمَّةِ، وَلَا تُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي جُمْلَةِ الشَّرِيعَةِ دُونَ آحَادِهَا لَا يُقَالُ الصَّلَاةُ مِلَّةُ اللَّهِ» أَيْ وَيُقَالُ: الصَّلَاةُ دِينُ اللَّهِ ذَلِكَ أَنَّهُ يُرَاعَى فِي لَفْظِ الملّة أنّها مملول مِنَ اللَّهِ فَهِيَ تُضَافُ لِلَّذِي أُمِلَّتْ عَلَيْهِ.
وَمَعْنَى كَوْنِ الْإِسْلَامِ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ: أَنَّهُ جَاءَ بِالْأُصُولِ الَّتِي هِيَ شَرِيعَةُ إِبْرَاهِيمَ وَهِيَ:
التَّوْحِيدُ، وَمُسَايَرَةُ الْفِطْرَةِ، وَالشُّكْرُ، وَالسَّمَاحَةُ، وَإِعْلَانُ الْحَقِّ، وَقَدْ بَيَّنْتُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ
تَعَالَى: مَا كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٦٧].
وَالْحَنِيفُ: الْمُجَانِبُ لِلْبَاطِلِ، فَهُوَ بِمَعْنَى الْمُهْتَدِي، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٣٥]. وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ.
وَجُمْلَةُ: وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَطْفٌ عَلَى الْحَالِ مِنْ إِبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، لِأَنَّ الْمُضَافَ هُنَا كَالْجَزَاءِ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي آيَةِ سُورَة الْبَقَرَة.
[١٦٢، ١٦٣]
[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : الْآيَات ١٦٢ إِلَى ١٦٣]
قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣)
اسْتِئْنَافٌ أَيْضًا، يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ التَّفْرِيعِ عَنِ الْأَوَّلِ، إِلَّا أَنَّهُ اسْتُؤْنِفَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ غَرَضٌ مُسْتَقِلٌّ مُهِمٌّ فِي ذَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ مُتَفَرِّعًا عَنْ غَيْرِهِ، وَحَاصِلُ مَا تَضَمَّنَهُ هُوَ الْإِخْلَاصُ لِلَّهِ فِي الْعِبَادَةِ، وَهُوَ مُتَفَرِّعٌ عَنِ التَّوْحِيدِ،
(٦٦)
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَطْفُ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ بِأَنْ يُقَدَّرَ بَعْدَ وَاوِ الْعَطْفِ «أَرْسَلْنَا» لِدَلَالَةِ حَرْفِ (إِلَى) عَلَيْهِ، مَعَ دَلَالَةِ سَبْقِ نَظِيرِهِ فِي الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا، وَالتَّقْدِيرُ وَأَرْسَلْنَا إِلَى عَادٍ، فَتَكُونُ الْوَاوُ لِمُجَرَّدِ الْجَمْعِ اللَّفْظِيِّ مِنْ عَطْفِ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ وَلَيْسَ مِنْ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ: عَطَفَتِ الْوَاوُ هُوداً على نُوحاً [الْأَعْرَاف: ٥٩]، فَتكون الْوَاو نائية عَنِ الْعَامِلِ وَهُوَ أَرْسَلْنا [الْأَعْرَاف: ٥٩]، وَالتَّقْدِيرُ: «لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ وَهُودًا أَخَا عَادٍ إِلَيْهِمْ وَقُدِّمَتْ (إِلَى) فَهُوَ مِنَ الْعَطْفِ عَلَى مَعْمُولَيْ عَامِلٍ وَاحِدٍ، وَتَقْدِيمُ (إِلَى) اقْتَضَاهُ حُسْنُ نَظْمِ الْكَلَامِ فِي عَوْدِ الضَّمَائِرِ، وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَحْسَنُ.
وَقُدِّمَ الْمَجْرُورُ عَلَى الْمَفْعُولِ الْأَصْلِيِّ لِيَتَأَتَّى الْإِيجَازُ بِالْإِضْمَارِ حَيْثُ أُرِيدَ وَصْفُ هُودٍ بِأَنَّهُ مِنْ إِخْوَةِ عَادٍ وَمن صَمِيمِهِمْ، مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى إِعَادَةِ لَفْظِ عَادٍ، وَمَعَ تَجَنُّبِ عَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَى مُتَأَخِّرٍ لَفْظًا وَرُتْبَةً، فَقِيلَ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا وهُوداً بَدَلٌ أَوْ بَيَانٌ مِنْ أَخاهُمْ.
وَعَادٌ أُمَّةٌ عَظِيمَةٌ مِنَ الْعَرَبِ الْعَارِبَةِ الْبَائِدَةِ، وَكَانُوا عَشْرَ قَبَائِلَ، وَقِيلَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ قَبِيلَةً وَهُمْ أَبْنَاءُ عَادِ بْنِ عُوصٍ، وَعُوصٌ هُوَ ابْنُ إِرَمِ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، كَذَا اصْطَلَحَ الْمُؤَرِّخُونَ.
وَهُودٌ اخْتُلِفَ فِي نَسَبِهِ، فَقِيلَ: هُوَ مِنْ ذُرِّيَّةِ عَادٍ، فَقَالَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا: هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحِ بْنِ الْخُلُودِ بْنِ عَادٍ، وَقِيلَ: هُوَ مِنْ ذُرِّيَّةِ سَامٍ جَدِّ عَادٍ، وَلَيْسَ مِنْ ذُرِّيَّةِ عَادٍ،
وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا قَالُوا هُوَ هُودُ بْنُ شَالِخِ بْنِ أَرْفَخْشَدَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، وَذَكَرَ الْبَغَوِيُّ عَنْ عَلِيٍّ: أَنَّ قَبْرَ هُودٍ بِحَضْرَمَوْتَ فِي كَثِيبٍ أَحْمَرَ، وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ: أَنَّ قَبْرَ هُودٍ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ وَزَمْزَمَ.
وَعَادٌ أُرِيدَ بِهِ الْقَبِيلَةُ وَسَاغَ صَرْفُهُ لِأَنَّهُ ثُلَاثِيٌّ سَاكِنُ الْوَسَطُ، وَكَانَتْ مَنَازِلُ عَادٍ بِبِلَادِ الْعَرَبِ بِالشِّحْرِ- بِكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ- مِنْ أَرض الْيمن وَحضر موت وَعُمَانَ وَالْأَحْقَافِ، وَهِيَ الرِّمَالُ
فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٧٠] وَتَفْسِيرُ «طُغْيَانَ» ويَعْمَهُونَ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٥].
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ: نَذَرُهُمْ بِالنُّونِ وَبِالرَّفْعِ، عَلَى أَنَّهُ عَطْفُ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ: بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ وَالْجَزْمِ، عَلَى أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى مَوْضِعِ فَلا هادِيَ لَهُ وَهُوَ جَوَابُ الشَّرْطِ.
وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَعَاصِمٌ، وَيَعْقُوبُ: بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ وَبِالرَّفْعِ وَالْوَجْه ظَاهر.
[١٨٧]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : آيَة ١٨٧]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (١٨٧)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ يَذْكُرُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ ضَلَالِهِمْ وَمُحَاوَلَةِ تعجيزهم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَعْيِينِ وَقْتِ السَّاعَةِ.
وَمُنَاسِبَةُ هَذَا الِاسْتِئْنَافِ هِيَ التَّعَرُّضُ لِتَوَقُّعِ اقْتِرَابِ أَجَلِهِمْ فِي قَوْلِهِ: وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ [الْأَعْرَاف: ١٨٥] سَوَاءٌ أَفُسِّرَ الْأَجَلُ بِأَجَلِ إِذْهَابِ أَهْلِ الشِّرْكِ مِنَ الْعَرَبِ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ الِاسْتِئْصَالُ، أَمْ فُسِّرَ بِأَجَلِهِمْ وَأَجَلِ بَقِيَّةِ النَّاسِ وَهُوَ قِيَامُ السَّاعَة، فَإِن الْكَلَام عَلَى السَّاعَةِ مُنَاسَبَةً لِكِلَا الْأَجَلَيْنِ.
وَقَدْ عُرِفَ مِنْ شِنْشَنَةِ الْمُشْرِكِينَ إِنْكَارُهُمُ، الْبَعْثَ وَتَهَكُّمُهُمْ بِالرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامِ مِنْ أَجْلِ إِخْبَارِهِ عَنِ الْبَعْثِ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ [سبأ: ٧، ٨]، وَقَدْ جَعَلُوا يسْأَلُون النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ السَّاعَةِ وَوَقْتِهَا تَعْجِيزًا لَهُ، لِتَوَهُّمِهِمْ أَنَّهُ لَمَّا أَخْبَرَهُمْ بِأَمْرِهَا فَهُوَ يَدَّعِي الْعِلْمَ بِوَقْتِهَا وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ [سبأ: ٢٩، ٣٠].
وَالْأَلِيمُ الْمُؤْلِمُ، فَهُوَ فَعِيلٌ مَأْخُوذٌ مِنَ الرُّبَاعِيِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ [لُقْمَان: ٢]، وَقَوْلِ عَمْرو بن معديكرب:
أَمِنْ رَيْحَانَةَ الدَّاعِي السَّمِيعِ أَيِ الْمُسْمَعِ.
وَكُتِبَ فِي الْمَصَاحِفِ إِلَّا مِنْ قَوْلِهِ: إِلَّا تَنْفِرُوا بِهَمْزَةٍ بَعْدَهَا لَامْ أَلِفْ عَلَى كَيْفِيَّةِ النُّطْقِ بِهَا مُدْغَمَةً، وَالْقِيَاسُ أَنْ يُكْتَبَ (إِنْ لَا) بِنُونٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ ثُمَّ لَامْ أَلِفْ.
وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي يُعَذِّبْكُمْ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ لِتَقَدُّمِهِ فِي قَوْلِهِ: فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التَّوْبَة: ٣٨]. وَتَنْكِيرُ قَوْماً لِلنَّوْعِيَّةِ إِذْ لَا تَعَيُّنَ لِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ ضَرُورَةَ أَنَّهُ مُعَلَّقٌ عَلَى شَرْطِ عَدَمِ النَّفِيرِ وَهُمْ قَدْ نَفَرُوا لَمَّا اسْتُنْفِرُوا إِلَّا عَدَدًا غَيْرَ كَثِيرٍ وَهُمُ الْمُخَلَّفُونَ.
ويَسْتَبْدِلْ يُبَدِّلْ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلتَّأْكِيدِ وَالْبَدَلُ هُوَ الْمَأْخُوذُ عِوَضًا كَقَوْلِهِ: وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ [الْبَقَرَة: ١٠٨] أَيْ وَيَسْتَبْدِلْ بِكُمْ غَيْرَكُمْ.
وَالضَّمِيرُ فِي تَضُرُّوهُ عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ يُعَذِّبْكُمْ وَالْوَاوُ لِلْحَالِ: أَيْ يُعَذِّبْكُمْ وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ فِي حَالِ أَنْ لَا تَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا بِقُعُودِكُمْ، أَيْ يُصِبْكُمُ الضُّرُّ وَلَا يُصِبِ الَّذِي اسْتَنْفَرَكُمْ فِي سَبِيلِهِ ضُرٌّ، فَصَارَ الْكَلَامُ فِي قُوَّةِ الْحَصْرِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: إِلَّا تَنْفِرُوا لَا تَضُرُّوا إِلَّا أَنْفُسَكُمْ.
وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تَذْيِيلٌ لِلْكَلَامِ لِأَنَّهُ يُحَقِّقُ مَضْمُونَ لَحَاقِ الضُّرِّ بِهِمْ لِأَنَّهُ قَدِيرٌ عَلَيْهِمْ فِي جُمْلَةِ كُلِّ شَيْءٍ، وَعَدَمُ لَحَاقِ الضُّرِّ بِهِ لِأَنَّهُ قَدِيرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَدَخَلَتِ الْأَشْيَاءُ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا الضُّرُّ.
[٤٠]
[سُورَة التَّوْبَة (٩) : آيَة ٤٠]
إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٠)
إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا.
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِقَوْلِهِ: وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التَّوْبَة: ٣٩] لِأَنَّ نَفْيَ أَنْ يَكُونَ قُعُودُهُمْ عَنِ النَّفِيرِ مُضِرًّا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، يُثِيرُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ سُؤَالًا عَنْ
وَوَقَعَ الِاسْتِدْرَاكُ بِقَوْلِهِ: وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ لِأَنَّ الْجُمْلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُ أُرِيدَ بِهِمَا الرَّدُّ عَلَى مُعْتَقِدِي خِلَافَهُمَا فَصَارَتَا فِي قُوَّةِ نَفْيِ الشَّكِّ عَنْ مَضْمُونِهِمَا، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لَا شَكَّ يَحِقُّ فِي ذَلِكَ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ فَلِذَلِكَ يَشُكُّونَ.
وَتَقْيِيدُ نَفْيِ الْعِلْمِ بِالْأَكْثَرِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ يَجْحَدُهُ مُكَابَرَةً، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ [يُونُس: ٤٠]. فَضَمِيرُ أَكْثَرَهُمْ لِلْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ فِيمَا تقدم.
[٥٧]
[سُورَة يُونُس (١٠) : آيَة ٥٧]
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٥٧)
اسْتِئْنَافٌ أَوِ اعْتِرَاضٌ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِابْتِدَاءِ غَرَضٌ جَدِيدٌ وَهُوَ خِطَابُ جَمِيعِ النَّاسِ بِالتَّعْرِيفِ بِشَأْنِ الْقُرْآنِ وَهَدْيِهِ، بَعْدَ أَنْ كَانَ الْكَلَامُ فِي جِدَالِ الْمُشْرِكِينَ وَالِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ بِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَأَنَّ الْآتِيَ بِهِ صَادِقٌ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ تَهْدِيدِهِمْ وَتَخْوِيفِهِمْ مِنْ عَاقِبَةِ تَكْذِيبِ الْأُمَمِ رُسُلَهَا، وَمَا ذُيِّلَ بِهِ ذَلِكَ مِنَ الْوَعِيدِ وَتَحْقِيقِ مَا تُوُعِّدُوا بِهِ، فَالْكَلَامُ الْآنَ مُنْعَطِفٌ إِلَى الْغَرَضِ الْمُفْتَتَحِ بِقَوْلِهِ: وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ إِلَى قَوْلِهِ: وَلَوْ كانُوا لَا يُبْصِرُونَ [يُونُس: ٣٧- ٤٣]. فَعَادَ الْكَلَامُ إِلَى خِطَابِ جَمِيعِ النَّاسِ لِمَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْمَنَافِعِ الصَّالِحَةِ لَهُمْ، وَالْإِشَارَةِ إِلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي مِقْدَارِ الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَلِذَلِكَ
كَانَ الْخِطَابُ هُنَا عَامًّا لِجَمِيعِ النَّاسِ وَلَمْ يَأْتِ فِيهِ مَا يَقْتَضِي تَوْجِيهَهُ لِخُصُوصِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ ضَمَائِرَ تَعُودُ إِلَيْهِمْ أَوْ أَوْصَافٍ لَهُمْ أَوْ صِلَاتِ مَوْصُولٍ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَلَيْسَ فِي الْخِطَابِ بِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْقُرْآنَ مَوْعِظَةٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ وَإِنَّمَا انْتَفَعَ بِمَوْعِظَتِهِ الْمُؤْمِنُونَ فَاهْتَدَوْا وَكَانَ لَهُمْ رَحْمَةً.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلْمُشْرِكِينَ بِنَاءً عَلَى الْأَكْثَرِ فِي خِطَابِ الْقُرْآنِ بِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ فَيَكُونَ ذِكْرُ الثَّنَاءِ عَلَى الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ إِدْمَاجًا وَتَسْجِيلًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ
أَشْبَعُ لِلسَّامِعِ، فَجَاءَتْ هَذِهِ السُّورَةُ عَلَى أُسْلُوبِ اسْتِيعَابِ الْقِصَّةِ تَحَدِّيًا لَهُمْ بِالْمُعَارَضَةِ.
عَلَى أَنَّهَا مَعَ ذَلِكَ قَدْ طَوَتْ كَثِيرًا مِنَ الْقِصَّةِ مِنْ كُلِّ مَا لَيْسَ لَهُ كَبِيرُ أَثَرٍ فِي الْعِبْرَةِ.
وَلِذَلِكَ تَرَى فِي خِلَالِ السُّورَةِ وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ [سُورَة يُوسُف: ٥٦] مَرَّتَيْنِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ [سُورَة يُوسُف: ٧٦] فَتِلْكَ عِبَرٌ مِنْ أَجْزَاءِ الْقِصَّةِ.
وَمَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ فِي أَقْوَالِ الصَّالِحِينَ كَقَوْلِهِ: عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ [سُورَة يُوسُف: ٦٧]، وَقَوْلِهِ: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [سُورَة يُوسُف: ٩٠].
[١]
[سُورَة يُوسُف (١٢) : آيَة ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (١)
الر.
تقدم الْكَلَام على نظاير الر وَنَحْوهَا فِي أوّل سُورَة الْبَقَرَة.
تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ.
الْكَلَام على تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ مَضَى فِي سُورَةِ يُونُسَ. وَوُصِفَ الْكِتَابُ هُنَا بِ الْمُبِينِ وَوُصِفَ بِهِ فِي طَالِعَةِ سُورَة يُونُس بالحكيم لِأَنَّ ذِكْرَ وَصْفِ إِبَانَتِهِ هُنَا أَنْسَبُ، إِذْ كَانَتِ الْقِصَّةُ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا هَذِهِ السُّورَةُ مُفَصَّلَةً مُبَيِّنَةً لِأَهَمِّ مَا جَرَى فِي مُدَّةِ
يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِمِصْرَ. فَقِصَّةُ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً لِلْعَرَبِ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ إِجْمَالًا وَلَا تَفْصِيلًا، بِخِلَافِ قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ: هُودٍ، وَصَالِحٍ، وَإِبْرَاهِيمَ، وَلُوطٍ، وَشُعَيْبٍ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ أَجْمَعِينَ-، إِذْ كَانَتْ مَعْرُوفَةً لَدَيْهِمْ إِجْمَالًا، فَلِذَلِكَ كَانَ الْقُرْآنُ مُبَيِّنًا إِيَّاهَا وَمُفَصِّلًا.
قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ.
أَرَادُوا إِفْحَامَ الرُّسُلِ بِقَطْعِ الْمُجَادَلَةِ النَّظَرِيَّةِ، فَنَفَوُا اخْتِصَاصَ الرُّسُلِ بِشَيْءٍ زَائِدٍ فِي صُورَتِهِمُ الْبَشَرِيَّةِ يُعْلَمُ بِهِ أَنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ بِأَنْ جَعَلَهُمْ رُسُلًا عَنْهُ، وَهَؤُلَاءِ الْأَقْوَامُ يَحْسَبُونَ أَنَّ هَذَا أَقْطَعُ لِحُجَّةِ الرُّسُلِ لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ قَوْمِهِمْ مَحْسُوسَةٌ لَا تَحْتَاجُ إِلَى تَطْوِيلٍ فِي الِاحْتِجَاجِ، فَلِذَلِكَ طَالَبُوا رُسُلَهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِحُجَّةٍ مَحْسُوسَةٍ تُثْبِتُ أَنَّ اللَّهَ اخْتَارَهُمْ لِلرِّسَالَةِ عَنْهُ، وَحُسْبَانُهُمْ بِذَلِكَ التَّعْجِيزُ.
فَجُمْلَةُ تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَهِيَ قَيْدٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَصْرُ فِي جُمْلَةِ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا مِنْ جَحْدِ كَوْنِهِمْ رُسُلًا مِنَ اللَّهِ بِالدِّينِ الَّذِي جَاءُوهُمْ بِهِ مُخَالِفًا لِدِينِهِمُ الْقَدِيمِ، فَبِذَلِكَ الِاعْتِبَارِ كَانَ مَوْقِعُ التَّفْرِيعِ لِجُمْلَةِ فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ لِأَنَّ مُجَرَّدَ كَوْنِهِمْ بَشَرًا لَا يَقْتَضِي مُطَالَبَتَهُمْ بِالْإِتْيَانِ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ وَإِنَّمَا اقْتَضَاهُ أَنَّهُمْ جَاءُوهُمْ بِإِبْطَالِ دِينِ قَوْمِهِمْ، وَهُوَ مَضْمُونُ مَا أُرْسِلُوا بِهِ.
وَقَدْ عَبَّرُوا عَنْ دِينِهِمْ بِالْمَوْصُولِيَّةِ لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ الصِّلَةُ مِنَ التَّنْوِيهِ بِدِينِهِمْ بِأَنَّهُ مُتَقَلَّدُ آبَائِهِمُ الَّذِينَ يَحْسَبُونَهُمْ مَعْصُومِينَ مِنَ اتِّبَاعِ الْبَاطِلِ، وَلِلْأُمَمِ تَقْدِيسٌ لِأَسْلَافِهَا فَلِذَلِكَ عَدَلُوا عَنْ أَنْ يَقُولُوا: تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَنْ دِينِنَا.
وَالسُّلْطَانُ: الْحُجَّةُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٧١].
الْمُبِينُ الْوَاضِحُ الَّذِي لَا احْتِمَالَ فِيهِ لِغَيْرِ مَا دلّ عَلَيْهِ.
وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِمَّا فِي بُطُونِهِ ابْتِدَائِيَّةٌ، لِأَنَّ اللَّبَنَ يُفْرَزُ عَنِ الْعَلَفِ الَّذِي فِي الْبُطُون. وَمَا صدق «مَا فِي بُطُونِهِ» الْعَلَفُ. وَيَجُوزُ جَعْلُهَا تَبْعِيضِيَّةً وَيكون مَا صدق «مَا فِي بُطُونِهِ» هُوَ اللَّبَنُ اعْتِدَادًا بِحَالَةِ مُرُورِهِ فِي دَاخِلِ الْأَجْهِزَةِ الْهَضْمِيَّةِ قَبْلَ انْحِدَارِهِ فِي الضَّرْعِ.
ومِنْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ زَائِدَةٌ لِتَوْكِيدِ التَّوَسُّطِ، أَيْ يُفْرَزُ فِي حَالَةٍ بَيْنَ حَالَتَيِ الْفَرْثِ وَالدَّمِ.
وَوَقَعَ الْبَيَانُ بِ نُسْقِيكُمْ دُونَ أَنْ يُقَالَ: تَشْرَبُونَ أَوْ نَحْوُهُ، إِدْمَاجًا لِلْمِنَّةِ مَعَ الْعِبْرَةِ.
وَوَجْهُ الْعِبْرَةِ فِي ذَلِكَ أَنَّ مَا تَحْتَوِيهِ بُطُونُ الْأَنْعَامِ مِنَ الْعَلَفِ وَالْمَرْعَى يَنْقَلِبُ بِالْهَضْمِ فِي الْمَعِدَةِ، ثُمَّ الْكَبِدِ، ثُمَّ غُدَدِ الضَّرْعِ، مَائِعًا يُسْقَى وَهُوَ مُفْرَزٌ مِنْ بَيْنِ إِفْرَازِ فَرْثٍ وَدَمٍ.
وَالْفَرْثُ: الْفَضَلَاتُ الَّتِي تَرَكَهَا الْهَضْمُ الْمُعْدِي فَتَنْحَدِرُ إِلَى الْأَمْعَاءِ فَتَصِيرُ فَرْثًا.
وَالدَّمُ: إِفْرَازٌ تَفْرِزُهُ الْكَبِدُ مِنَ الْغِذَاءِ الْمُنْحَدِرِ إِلَيْهَا وَيَصْعَدُ إِلَى الْقَلْبِ فَتَدْفَعُهُ حَرَكَة الْقلب الميكانيكية إِلَى الشَّرَايِينِ وَالْعُرُوقِ وَيَبْقَى يَدُورُ كَذَلِكَ بِوَاسِطَةِ الْقَلْبِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [٣].
وَمَعْنَى كَونِ اللَّبَنِ مِنْ بَيْنِ الْفَرْثِ وَالدَّمِ أَنَّهُ إِفْرَازٌ حَاصِلٌ فِي حِينِ إِفْرَازِ الدَّمِ وَإِفْرَازِ الْفَرْثِ. وَعَلَاقَتُهُ بِالْفَرْثِ أَنَّ الدَّمَ الَّذِي يَنْحَدِرُ فِي عُرُوقِ الضَّرع يمرّ بجوار الْفَضَلَاتِ الْبَوْلِيَّةِ وَالثُّفْلِيَّةِ، فَتُفْرِزُهُ غُدَدُ الضَّرْعِ لَبَنًا كَمَا تُفْرِزُهُ غُدَدُ الْكُلْيَتَيْنِ بَوْلًا بِدُونِ مُعَالَجَةٍ زَائِدَةٍ، وَكَمَا تُفْرِزُ تَكَامِيشُ الْأَمْعَاءِ ثُفْلًا بِدُونِ مُعَالَجَةٍ بِخِلَافِ إِفْرَازِ غُدَدِ الْمَثَانَةِ لِلْمَنِيِّ لِتَوَقُّفِهِ عَلَى مُعَالَجَةٍ يَنْحَدِرُ بِهَا الدَّمُ إِلَيْهَا.
وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ اللَّبَنَ يَتَمَيَّعُ مِنْ بَيْنِ طَبَقَتَيْ فَرْثٍ وَدَمٍ، وَإِنَّمَا الَّذِي أَوْهَمَ ذَلِكَ مَنْ تَوَهَّمَهُ حَمْلُهُ بَيْنِ عَلَى حَقِيقَتِهَا مِنْ ظَرْفِ الْمَكَانِ، وَإِنَّمَا هِيَ
وَالْفُقَهَاءِ مِنْهُمْ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْعَوَاصِمِ»، وَالنَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ مُسْلِمٍ» : أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَا تَصُدُّ الْعُلَمَاءَ عَنِ الْبَحْثِ عَنِ الرُّوحِ لِأَنَّهَا نَزَلَتْ لِطَائِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنَ الْيَهُودِ وَلَمْ يُقْصَدْ بِهَا الْمُسْلِمُونَ. فَقَالَ جُمْهُورُ
الْمُتَكَلِّمِينَ: إِنَّهَا مِنَ الْجَوَاهِرِ الْمُجَرَّدَةِ، وَهُوَ غَيْرُ بَعِيدٍ عَنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ: هِيَ مِنَ الْأَجْسَامِ اللَّطِيفَةِ وَالْأَرْوَاحُ حَادِثَةٌ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ قَوْلُ أَرِسْطَالِيسَ. وَقَالَ قُدَمَاءُ الْفَلَاسِفَةِ: هِيَ قَدِيمَةٌ. وَذَلِكَ قَرِيبٌ مِنْ مُرَادِهِمْ فِي الْقَوْلِ بِقِدَمِ الْعَالَمِ. وَمَعْنَى كَوْنِهَا حَادِثَةً أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى. فَقِيلَ: الْأَرْوَاحُ مَخْلُوقَةٌ قَبْلَ خَلْقِ الْأَبْدَانِ الَّتِي تُنْفَخُ فِيهَا، وَهُوَ الْأَصَحُّ الْجَارِي عَلَى ظَوَاهِرِ كَلَامِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهِيَ مَوْجُودَةٌ مِنَ الْأَزَلِ كَوُجُودِ الْمَلَائِكَةِ وَالشَّيَاطِينِ، وَقِيلَ: تُخْلَقُ عِنْدَ إِرَادَةِ إِيجَادِ الْحَيَاةِ فِي الْبَدَنِ الَّذِي تُوضَعُ فِيهِ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْأَرْوَاحَ بَاقِيَةٌ بَعْدَ فَنَاءِ أَجْسَادِهَا وَأَنَّهَا تَحْضُرُ يَوْم الْحساب.
[٨٦، ٨٧]
[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧) : الْآيَات ٨٦ إِلَى ٨٧]
وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (٨٦) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (٨٧)
هَذَا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفاءٌ [الْإِسْرَاء: ٨٢] الْآيَةَ أَفْضَتْ إِلَيْهِ الْمُنَاسَبَةُ فَإِنَّهُ لَمَّا تَضَمَّنَ قَوْلُهُ: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الْإِسْرَاء: ٨٥] تَلْقِينَ كَلِمَةِ عِلْمٍ جَامِعَةٍ، وَتَضَمَّنَ أَنَّ الْأُمَّةَ أُوتِيَتْ عِلْمًا وَمُنِعَتْ عِلْمًا، وَأَنَّ عِلْمَ النُّبُوءَةِ مِنْ أَعْظَمِ مَا أُوتِيَتْهُ، أَعْقَبَ ذَلِكَ بِالتَّنْبِيهِ إِلَى الشُّكْرِ عَلَى نِعْمَةِ الْعِلْمِ دَفْعًا لِغُرُورِ النَّفْسِ، لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالْأَشْيَاءِ يُكْسِبُهَا إِعْجَابًا بِتَمَيُّزِهَا عَمَّنْ دُونَهَا فِيهِ، فَأُوقِظَتْ إِلَى أَنَّ الَّذِي مَنَحَ الْعِلْمَ قَادِرٌ عَلَى سَلْبِهِ، وَخُوطِبَ بِذَلِكَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ عِلْمَهُ أَعْظَمُ عِلْمٍ، فَإِذَا كَانَ وُجُودُ عِلْمِهِ خَاضِعًا لِمَشِيئَةِ اللَّهِ فَمَا الظَّنُّ بِعِلْمِ غَيْرِهِ، تَعْرِيضًا لِبَقِيَّةِ الْعُلَمَاءِ. فَالْكَلَامُ صَرِيحُهُ تَحْذِيرٌ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ
وَهَذَا الِاسْمُ هُوَ عَلَمُ الرَّبِّ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ. وَاسْمُهُ تَعَالَى فِي اللُّغَةِ الْعَبْرَانِيَّةِ (يَهْوَهْ) أَوْ (أَهْيَهْ) الْمَذْكُورُ فِي الْإِصْحَاحِ الثَّالِثِ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ فِي التَّوْرَاةِ، وَفِي الْإِصْحَاحِ السَّادِسِ. وَقَدْ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ فِي مَوَاضِعَ مِنَ التَّوْرَاةِ مِثْلِ الْإِصْحَاحِ الْحَادِي وَالثَلَاثِينَ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ فِي الْفَقْرَة الثَّامِنَة عشرَة، والإصحاح الثَّانِي وَالثَّلَاثِينَ فِي الْفِقْرَةِ السَّادِسَةَ عَشَرَةَ. وَلَعَلَّهُ مِنْ تَعْبِيرِ الْمُتَرْجِمِينَ وَأَكْثَرُ تَعْبِيرِ التَّوْرَاةِ إِنَّمَا هُوَ الرَّبُّ أَوِ الْإِلَهُ.
وَلَفْظُ (أَهْيَهْ) أَوْ (يَهْوَهْ) قَرِيبُ الْحُرُوفِ مِنْ كَلِمَةِ إِلَهٍ فِي الْعَرَبِيَّةِ.
وَيُقَالُ: إِنَّ اسْمَ الْجَلَالَةِ فِي الْعِبْرَانِيَّةِ «لَاهُمْ». وَلَعَلَّ الْمِيمَ فِي آخِرِهِ هِيَ أَصْلُ التَّنْوِينِ فِي إِلَهٍ.
وَتَأْكِيدُ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِدَفْعِ الشَّكِّ عَنْ مُوسَى نَزَلَ مَنْزِلَةَ الشَّاكِّ لِأَنَّ غَرَابَةَ الْخَبَرِ تُعَرِّضُ السَّامِعَ لِلشَّكِّ فِيهِ.
وَتَوْسِيطُ ضَمِيرَ الْفَصْلِ بِقَوْلِهِ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لِزِيَادَةِ تَقْوِيَةِ الْخَبَرِ، وَلَيْسَ بِمُفِيدٍ لِلْقَصْرِ، إِذْ لَا مُقْتَضَى لَهُ هُنَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْإِخْبَارُ بِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ هُوَ الْمُسَمَّى اللَّهُ، فَالْحَمْلُ حَمْلُ مُوَاطَاةٍ لَا حَمْلُ اشْتِقَاقٍ. وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [الْمَائِدَة: ٧٢].
وَجُمْلَةُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا خَبَرٌ ثَانٍ عَنِ اسْمِ (إِنَّ). وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ حُصُولُ الْعِلْمِ لِمُوسَى بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى.
ثُمَّ فُرِّعَ عَلَى ذَلِكَ الْأَمْرُ بِعِبَادَتِهِ. وَالْعِبَادَةُ تَجْمَعُ مَعْنَى الْعَمَلِ الدَّالِّ عَلَى التَّعْظِيمِ مِنْ قَوْلٍ وَفِعْلٍ وَإِخْلَاصٍ بِالْقَلْبِ. وَوَجْهُ التَّفْرِيعِ أَنَّ انْفِرَادَهُ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ يَقْتَضِي اسْتِحْقَاقَهُ أَنْ يُعْبَدَ.
وَخُصَّ مِنَ الْعِبَادَاتِ بِالذِّكْرِ إِقَامَةُ الصَّلَاةِ لِأَنَّ الصَّلَاةَ تَجْمَعُ أَحْوَالَ الْعِبَادَةِ. وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ: إِدَامَتُهَا، أَيْ عَدَمُ الْغَفْلَةِ عَنْهَا.
وَمِنْهُ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ: الْمَهْرُ الْمُسَمَّى، أَيِ الْمُعَيَّنُ مِنْ نَقْدٍ مَعْدُودٍ أَوْ عَرَضٍ مَوْصُوفٍ، وَقَوْلُ الْمُوَثِّقِينَ: وَسَمَّى لَهَا مِنَ الصَّدَاقِ كَذَا وَكَذَا.
وَلِكُلِّ مَوْلُودٍ مُدَّةٌ مُعَيَّنَةٌ عِنْدَ اللَّهِ لِبَقَائِهِ فِي رَحِمِ أُمِّهِ قَبْلَ وَضْعِهِ. وَالْأَكْثَرُ اسْتِكْمَالُ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ وَتِسْعَةِ أَيَّامٍ، وَقَدْ يَكُونُ الْوَضْعُ أَسْرَعَ مِنْ تِلْكَ الْمُدَّةِ لِعَارِضٍ، وَكُلٌّ مُعَيَّنٌ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ فِي [سُورَةِ الْبَقَرَةِ: ٢٨٢].
وَعَطَفَ جُمْلَةَ ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا بِحَرْفِ (ثُمَّ) لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ فَإِنَّ إِخْرَاجَ الْجَنِينِ هُوَ الْمَقْصُودُ. وَقَوْلُهُ طِفْلًا حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ نُخْرِجُكُمْ، أَيْ حَالَ كَوْنِكُمْ أَطْفَالًا. وَإِنَّمَا أَفْرَدَ طِفْلًا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ الْجِنْسُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْجَمْعِ.
وَجُمْلَةُ ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ مُرْتَبِطَةٌ بِجُمْلَةِ ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ارْتِبَاطَ الْعِلَّةِ بِالْمَعْلُولِ، وَاللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ. وَالْمُعَلَّلُ فِعْلُ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا.
وَإِذ قَدْ كَانَتْ بَيْنَ حَال الطِّفْلِ وَحَالِ بُلُوغِ الْأَشُدِّ أَطْوَارٌ كَثِيرَةٌ عُلِمَ أَنَّ بُلُوغَ الْأَشُدِّ هُوَ الْعِلَّةُ الْكَامِلَةُ لِحِكْمَةِ إِخْرَاجِ الطِّفْلِ. وَقَدْ أُشِيرَ إِلَى مَا قَبْلَ بُلُوغِ الْأَشُدِّ وَمَا بَعْدَهُ بِقَوْلِهِ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ.
وَحَرْفُ (ثُمَّ) فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ تَأْكِيدٌ لِمِثْلِهِ فِي قَوْلِهِ ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا. هَذَا مَا ظَهَرَ لِي فِي اتِّصَالِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِمَا قَبْلَهَا وَلِلْمُفَسِّرِينَ تَوْجِيهَاتٌ غَيْرُ سَالِمَةٍ مِنَ التَّعَقُّبِ ذَكَرَهَا الْأُلُوسِيُّ.
وَإِنَّمَا جُعِلَ بُلُوغُ الْأَشُدِّ عِلَّةً لِأَنَّهُ أَقْوَى أَطْوَارِ الْإِنْسَانِ وَأَجْلَى مَظَاهِرِ مَوَاهِبِهِ فِي الْجِسْمِ وَالْعَقْلِ وَهُوَ الْجَانِبُ الْأَهَمُّ كَمَا أَوْمَأَ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ بَعْدَ هَذَا لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً فَجَعَلَ «الْأَشُدَّ» كَأَنَّهُ الْغَايَةُ الْمَقْصُودَةُ مِنْ تَطْوِيرِهِ.
وَمَعْنَى أَزْكى لَكُمْ أَنَّهُ أَفْضَلُ وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ يَأْذَنُوا عَلَى كَرَاهِيَةٍ. وَفِي هَذَا أَدَبٌ عَظِيمٌ وَهُوَ تَعْلِيمُ الصَّرَاحَةِ بِالْحَقِّ دُونَ الْمُوَارَبَةِ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَذًى. وَتَعْلِيمُ قَبُولِ الْحَقِّ لِأَنَّهُ أَطْمَنُ لِنَفْسِ قَابِلِهِ مِنْ تَلَقِّي مَا لَا يُدْرَى أَهُوَ حَقٌّ أَمْ مُوَارَبَةٌ، وَلَوِ اعْتَادَ النَّاسُ التَّصَارُحَ بِالْحَقِّ بَيْنَهُمْ لَزَالَتْ عَنْهُمْ ظُنُونُ السُّوءِ بِأَنْفُسِهِمْ.
وَأَمَّا السُّكُوتُ فَهُوَ مَا بَيَّنَ حُكْمَهُ حَدِيثُ أَبِي مُوسَى. وَفِعْلُ تُسَلِّمُوا مَعْنَاهُ تَقُولُوا:
السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَهُوَ مِنَ الْأَفْعَالِ الْمُشْتَقَّةِ مِنْ حِكَايَةِ الْأَقْوَالِ الْوَاقِعَةِ فِي الْجُمَلِ مِثْلُ: رَحَّبَ وَأَهَّلَ، إِذَا قَالَ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا، وَحَيَّا، إِذَا قَالَ: حَيَّاكَ الله، وجزّأ إِذْ قَالَ لَهُ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا. وَسَهَّلَ، إِذَا قَالَ: سَهْلًا، أَيْ حَلَلْتَ سَهْلًا. قَالَ الْبُعَيْثُ بْنُ حُرَيْثٍ:
فَقُلْتُ لَهَا أَهْلًا وَسَهْلًا وَمَرْحَبًا فَرَدَّتْ بِتَأْهِيلٍ وَسَهْلٍ وَمَرْحَبِ
وَفِي الْحَدِيثِ: «تُسَبِّحُونَ وَتُحَمِّدُونَ وَتُكَبِّرُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ»
. وَهِيَ قَرِيبَةٌ مِنَ النَّحْتِ مِثْلُ: بَسْمَلَ، إِذا قَالَ: باسم اللَّهِ، وَحَسْبَلَ، إِذَا قَالَ: حَسْبُنَا اللَّهُ.
وعَلى أَهْلِها يَتَعَلَّقُ بِ تُسَلِّمُوا لِأَنَّهُ أَصْلُهُ مِنْ بَقِيَّةِ الْجُمْلَةِ الَّتِي صِيغَ مِنْهَا الْفِعْلُ الَّتِي أَصْلُهَا: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، كَمَا يُعَدَّى رَحَّبَ بِهِ، إِذَا قَالَ: مَرْحَبًا بِكَ، وَكَذَلِكَ أَهَّلَ بِهِ وَسَهَّلَ بِهِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الْأَحْزَاب:
٥٦].
وَصِيغَةُ التَّسْلِيمِ هِيَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ. وَقَدْ علمهَا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ، وَنَهَى أَبَا جُزَيٍّ الْهُجَيْمِيَّ عَنْ أَنْ يَقُولَ: عَلَيْكَ السَّلَامُ. وَقَالَ لَهُ: إِنَّ عَلَيْكَ السَّلَامُ تَحِيَّةَ الْمَيِّتِ ثَلَاثًا، أَيِ
الِابْتِدَاءُ بِذَلِكَ. وَأَمَّا الرَّدُّ فَيَقُولُ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ- بِوَاوِ الْعَطْفِ وَبِذَلِكَ فَارَقَتْ تَحِيَّةُ الْمَيِّتِ- وَرَحْمَةُ اللَّهِ. أَخْرَجَ ذَلِكَ التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابِ الِاسْتِئْذَانِ. وَتَقَدَّمَ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ
ذَلِكَ كَالْفَذْلَكَةِ لِمَا قَبْلَهُ وَهُوَ بِعُمُومِهِ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ التَّذْيِيلِ.
وَالْمَعْزُولُ: الْمُبْعَدُ عَنْ أَمْرٍ فَهُوَ فِي عُزْلَةٍ عَنْهُ. وَفِي هَذَا إِبْطَالٌ لِلْكَهَانَةِ مَنْ أَصْلِهَا وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الِاتِّصَالِ بِالْقُوَى الرُّوحِيَّةِ فِي سَالِفِ الزَّمَانِ فَقَدْ زَالَ ذَلِكَ مُنْذُ ظُهُور الْإِسْلَام.
[٢١٣]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : آيَة ٢١٣]
فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (٢١٣)
لَمَّا وَجَّهَ الْخِطَابَ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ [الشُّعَرَاء: ١٩٣، ١٩٤] إِلَى هُنَا، فِي آيَاتٍ أَشَادَتْ بِنُزُولِ الْقُرْآنِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقَّقَتْ صِدْقَهُ بِأَنَّهُ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ السَّالِفِينَ وَشَهِدَ بِهِ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَنْحَى عَلَى الْمُشْرِكِينَ
بِإِبْطَالِ مَا أَلْصَقُوهُ بِالْقُرْآنِ مِنْ بُهْتَانِهِمْ، لَا جَرَمَ اقْتَضَى ذَلِكَ ثُبُوتَ مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ. وَأَصْلُ ذَلِكَ هُوَ إِبْطَالُ دِينِ الشِّرْكِ الَّذِي تَقَلَّدَتْهُ قُرَيْشٌ وَغَيْرُهَا وَنَاضَلَتْ عَلَيْهِ بِالْأَكَاذِيبِ فَنَاسَبَ أَنْ يَتَفَرَّعَ عَلَيْهِ النَّهْيُ عَنِ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ وَالتَّحْذِيرِ مِنْهُ.
فَقَوْلُهُ: فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ خِطَابٌ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ فَيَعُمُّ كُلَّ مَنْ يَسْمَعُ هَذَا الْكَلَامَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ مُوَجَّهًا إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ الْمُبَلِّغُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى فَلِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا النَّهْيِ وَقَعَ تَوْجِيهُهُ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ تَحَقُّقِ أَنَّهُ مُنْتَهٍ عَنْ ذَلِكَ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ لِلَّذِينِ هُمْ مُتَلَبِّسُونَ بِالْإِشْرَاكِ، وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ [الزمر: ٦٥]. وَالْمَقْصُودُ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ الْخِطَابِ غَيْرُهُ مِمَّنْ يَبْلُغُهُ الْخِطَابُ.
فَالْمَعْنَى: فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونُوا مِنَ الْمُعَذَّبِينَ. وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ سَيُعَذَّبُونَ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ غير مُشْرِكين.
[٢١٤]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : آيَة ٢١٤]
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤)
عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ [الشُّعَرَاء:
١٩٣، ١٩٤]، فَهُوَ تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْخَاصِّ. وَوَجْهُ الِاهْتِمَامِ أَنَّهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِقَبُولِ
الْمُشْرِكِينَ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ فَجَزِعَ عَلَيْهِ أَبُوهُ وَامْرَأَتُهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ.
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ
السُّورَةَ كُلَّهَا نَزَلَتْ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ
. وَقِيلَ: إِنَّ آيَةَ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ [العنكبوت: ١٠] نَزَلَتْ فِي نَاسٍ مِنْ ضَعَفَةِ الْمُسْلِمِينَ بِمَكَّةَ كَانُوا إِذَا مَسَّهُمْ أَذًى مِنَ الْكُفَّارِ وَافَقُوهُمْ فِي بَاطِنِ الْأَمْرِ وَأَظْهَرُوا لِلْمُسْلِمِينَ أَنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا عَلَى إِسْلَامِهِمْ كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ تَفْسِيرِهَا.
وَقَالَ فِي «الْإِتْقَانِ» : وَيُضَمُّ إِلَى مَا اسْتُثْنِيَ مِنَ الْمَكِّيِّ فِيهَا قَوْلُهُ تَعَالَى وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا [العنكبوت: ٦٠] لِمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ كَانُوا بِمَكَّةَ بِالْمُهَاجَرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَقَالُوا كَيْفَ نَقْدَمُ بَلَدًا لَيْسَتْ لَنَا فِيهِ مَعِيشَةٌ فَنَزَلَتْ وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا [العنكبوت: ٦٠].
وَقِيلَ: هَذِهِ السُّورَةُ آخِرُ مَا نَزَلَ بِمَكَّةَ وَهُوَ يُنَاكِدُ بِظَاهِرِهِ جَعْلَهُمْ هَذِهِ السُّورَةَ نَازِلَةً قَبْلَ سُورَةِ الْمُطَفِّفِينَ. وَسُورَةُ الْمُطَفِّفِينَ آخِرُ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ. وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ ابْتِدَاءَ نُزُولِ سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ قَبْلَ ابْتِدَاءِ نُزُولِ سُورَةِ الْمُطَفِّفِينَ ثُمَّ نَزَلَتْ سُورَةُ الْمُطَفِّفِينَ كُلُّهَا فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ تَنْزِلُ فِيهَا سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ ثُمَّ تَمَّ بَعْدَ ذَلِكَ جَمِيعُ هَذِهِ السُّورَةِ.
وَهَذِهِ السُّورَةُ هِيَ السُّورَة الْخَامِسَة والثامنون فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ سُوَرِ الْقُرْآنِ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الرُّومِ وَقَبْلَ سُورَةِ الْمُطَفِّفِينَ، وَسَيَأْتِي عِنْدَ ذِكْرِ سُورَةِ الرُّومِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ الْعَنْكَبُوتَ نَزَلَتْ فِي أَوَاخِرِ سَنَةِ إِحْدَى قَبْلَ الْهِجْرَةِ فَتَكُونُ مِنْ أُخْرَيَاتِ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ بِحَيْثُ لَمْ يَنْزِلْ بَعْدَهَا بِمَكَّةَ إِلَّا سُورَةُ الْمُطَفِّفِينَ.
وَآيَاتُهَا تِسْعٌ وَسِتُّونَ بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِ الْعَدَدِ مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ.
أَغْرَاضُ هَذِهِ السُّورَةِ
افْتِتَاحُ هَذِهِ السُّورَةِ بِالْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ يُؤْذِنُ بِأَنَّ مِنْ أَغْرَاضِهَا تَحَدِّي الْمُشْرِكِينَ بِالْإِتْيَانِ بِمِثْلِ سُورَةٍ مِنْهُ كَمَا بَيَّنَّا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَجِدَالُ الْمُشْرِكِينَ فِي أَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ الْأَصْلُ فِيمَا حَدَثَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ مِنَ الْأَحْدَاثِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِالْفِتْنَةِ فِي قَوْلِهِ هُنَا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ [العنكبوت: ٢]. فَتَعَيَّنَ أَنَّ أَوَّلَ أَغْرَاضِ
الْمَقَالَةُ. وَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ فِي يَقُولُونَ تُفِيدُ التَّعْجِيبَ مِنْ مَقَالَتِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ [هود: ٧٤] مَعَ إِفَادَتِهَا تَكَرُّرَ ذَلِكَ الْقَوْلِ مِنْهُمْ وَتَجَدُّدَهُ.
وَجُمْلَةُ قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ إِلَى آخِرِهَا مَسُوقَةٌ مَسَاقَ الْجَوَابِ عَنْ مَقَالَتِهِمْ وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ وَلَمْ تُعْطَفْ، عَلَى طَرِيقَةِ حِكَايَةِ الْمُحَاوَرَاتِ فِي الْقُرْآنِ، وَهَذَا الْجَوَابُ جَرَى عَلَى طَرِيقَةِ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ، أَيْ أَنَّ الْأَهَمَّ لِلْعُقَلَاءِ أَنْ تَتَوَجَّهَ هِمَمُهُمْ إِلَى تَحَقُّقِ وُقُوعِ الْوَعْدِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي عَيَّنَهُ اللَّهُ لَهُ وَإِنَّهُ لَا يُؤَخِّرُهُ شَيْءٌ وَلَا يُقَدِّمُهُ، وَحَسَّنَ هَذَا الْأُسْلُوبَ أَنَّ سُؤَالَهُمْ إِنَّمَا أَرَادُوا بِهِ الْكِنَايَةَ عَنِ انْتِفَاءِ وُقُوعِهِ.
وَفِي هَذَا الْجَوَابِ تَعْرِيضٌ بِالتَّهْدِيدِ فَكَانَ مُطَابِقًا لِلْمَقْصُودِ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ، وَلِذَلِكَ زِيدَ فِي الْجَوَابِ كَلِمَةُ لَكُمْ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ هَذَا الْمِيعَادَ مُنْصَرِفٌ إِلَيْهِمُ ابْتِدَاءً.
وَضَمِيرُ جَمْعِ الْمُخَاطَبِ فِي قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ إِمَّا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَعَهُ جَمَاعَةً يُخْبِرُونَ بِهَذَا الْوَعْدِ، وَإِمَّا الْخِطَابُ مُوَجَّهٌ لِلْمُسْلِمِينَ.
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي هَذَا الْوَعْدِ لِلِاسْتِخْفَافِ وَالتَّحْقِيرِ كَقَوْلِ قَيْسِ بْنِ الْخَطِيمِ:
مَتَى يَأْتِ هَذَا الْمَوْت لَا يلف حَاجَةٌ لِنَفْسِي إِلَّا قَدْ قَضَيْتُ قَضَاءَهَا
وَجَوَابُ: كُنْتُمْ صادِقِينَ دَلَّ عَلَيْهِ السُّؤَالُ، أَيْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَعَيِّنُوا لَنَا مِيقَاتَ هَذَا الْوَعْدِ. وَهَذَا كَلَامٌ صَادِرٌ عَنْ جَهَالَةٍ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ الصِّدْقِ فِي الْإِخْبَارِ بِشَيْءٍ أَنْ يَكُونَ الْمُخْبِرُ عَالِمًا بِوَقْتِ حُصُولِهِ وَلَوْ فِي الْمُضِيِّ فَكَيْفَ بِهِ فِي الِاسْتِقْبَالِ.
وَخُولِفَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ فِي الْجَوَابِ مِنَ الْإِتْيَانِ بِضَمِيرِ الْوَعْدِ الْوَاقِعِ فِي كَلَامِهِمْ إِلَى الْإِتْيَانِ بَاسِمٍ ظَاهِرٍ وَهُوَ مِيعادُ يَوْمٍ لِمَا فِي هَذَا الِاسْمِ النَّكِرَةِ مِنَ الْإِبْهَامِ الَّذِي يُوَجِّهُ نُفُوسَ السَّامِعِينَ إِلَى كُلِّ وَجْهٍ مُمْكِنٍ فِي مَحْمَلِ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ يَوْمُ الْبَعْثِ أَوْ يَوْمًا آخَرَ يَحِلُّ فِيهِ عَذَاب على أيمة الْكُفْرِ وَزُعَمَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ يَوْمُ بَدْرٍ وَلَعَلَّ الَّذِينَ قُتِلُوا يَوْمَئِذٍ هُمْ أَصْحَابُ مَقَالَةِ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَأَفَادَ تَنْكِيرُ يَوْمٍ تَهْوِيلًا وَتَعْظِيمًا بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ.
وَالْمِيعَادُ: مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ لِلْوَعْدِ فَإِضَافَتُهُ إِلَى ظَرْفِهِ بَيَانِيَّةٌ. وَيَجُوزُ كَوْنُهُ مُسْتَعْمَلًا
وَوَصْفُ الْمُرْسَلِينَ يَشْمَلُ الْأَنْبِيَاءَ وَالْمَلَائِكَةَ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ مُرْسَلُونَ فِيمَا يَقُومُونَ بِهِ مِنْ تَنْفِيذِ أَمْرِ اللَّهِ.
رَوَى الْقُرْطُبِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» بِسَنَدِهِ إِلَى يَحْيَى بْنِ يَحْيَى التَّمِيمِيِّ النَّيْسَابُورِيِّ إِلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ وَلَا مَرَّتَيْنِ يَقُولُ آخِرَ صِلَاتِهِ أَوْ حِينَ يَنْصَرِفُ: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ.
وَمِنَ الْمَرْوِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكْتَالَ بِالْمِكْيَالِ الْأَوْفَى مِنَ الْأَجْرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلْيَقُلْ آخِرَ مَجْلِسِهِ حِينَ يُرِيدُ أَنْ يَقُومَ سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ
، وَفِي بَعْضِ أَسَانِيدِهِ أَنَّهُ رَفَعَهُ إِلَى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَصِحَّ»
.
عَنِ الْقَائِلِ أَسْرَعُ أَعْمَالِ الْإِنْسَانِ وَأَيْسَرُ، وَقَدِ اخْتِيرَ لِتَقْرِيبِ ذَلِكَ أَخْصَرُ فِعْلٍ وَهُوَ كُنْ الْمُرَكَّبُ مِنْ حَرْفَيْنِ متحرك وَسَاكن.
[٦٩- ٧٢]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : الْآيَات ٦٩ إِلَى ٧٢]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (٦٩) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٧٠) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (٧٢)
بُنِيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ عَلَى إِبْطَالِ جَدَلِ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ جِدَالَ التَّكْذِيبِ وَالتَّوَرُّكِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ إِذْ كَانَ مِنْ أَوَّلِهَا قَوْلُهُ: مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا [غَافِر: ٤] وَتَكَرَّرَ ذَلِكَ خَمْسَ مَرَّاتٍ فِيهَا، فَنَبَّهَ عَلَى إِبْطَالِ جِدَالِهِمْ فِي مُنَاسَبَاتِ الْإِبْطَالِ كُلِّهَا إِذِ ابْتُدِئَ بِإِبْطَالِهِ عَلَى الْإِجْمَالِ عَقِبَ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ مِنْ أَوَّلِهَا بِقَوْلِهِ: مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا [غَافِر: ٤] ثُمَّ بِإِبْطَالِهِ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ [غَافِر: ٣٥]، ثُمَّ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ [غَافِر: ٥٦] ثُمَّ بِقَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ.
وَذَلِكَ كُلُّهُ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْبَاعِثَ لَهُمْ عَلَى الْمُجَادَلَةِ فِي آيَاتِ اللَّهِ هُوَ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنْ إِبْطَالِ الشِّرْكِ فَلِذَلِكَ أَعْقَبَ كُلَّ طَرِيقَةٍ مِنْ طَرَائِقِ إِبْطَالِ شِرْكِهِمْ بِالْإِنْحَاءِ عَلَى جِدَالِهِمْ فِي آيَاتِ اللَّهِ، فَجُمْلَةُ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لِلتَّعْجِيبِ
مِنْ حَالِ انْصِرَافِهِمْ عَنِ التَّصْدِيقِ بَعْدَ تِلْكَ الدَّلَائِلِ الْبَيِّنَةِ. وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّقْرِيرِ وَهُوَ مَنْفِيٌّ لَفْظًا، وَالْمُرَادُ بِهِ: التَّقْرِيرُ عَلَى الْإِثْبَاتِ، كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ، مِنْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ:
قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٦٠].
وَالرُّؤْيَةُ عِلْمِيَّةٌ، وَفِعْلُهَا مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ بِالِاسْتِفْهَامِ بِ أَنَّى يُصْرَفُونَ، و (أَنَّى) بِمَعْنَى (كَيْفَ)، وَهِيَ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّعْجِيبِ مِثْلَ قَوْلِهِ:
فَالتَّعْرِيفُ فِي الْقَرْيَتَيْنِ لِلْعَهْدِ، جَعَلُوا عِمَادَ التَّأَهُّلِ لِسِيَادَةِ الْأَقْوَامِ أَمْرَيْنِ: عَظَمَةُ الْمُسَوَّدِ، وَعَظَمَةُ قَرْيَتِهِ، فَهُمْ لَا يَدِينُونَ إِلَّا مَنْ هُوَ مِنْ أَشْهَرِ الْقَبَائِلِ فِي أَشْهَرِ الْقُرَى لِأَنَّ الْقُرَى هِيَ مأوى شؤون الْقَبَائِلِ وَتَمْوِينِهِمْ وَتِجَارَتِهِمْ، وَالْعَظِيمُ:
مستعار لصَاحب السؤدد فِي قَوْمِهِ، فَكَأَنَّهُ عَظِيمُ الذَّاتِ.
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ عَنَوْا بِعَظِيمِ مَكَّةَ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيَّ، وَبِعَظِيمِ الطَّائِفِ حَبِيبَ بْنَ عَمْرٍو الثَّقَفِيَّ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُمْ عَنَوْا بِعَظِيمِ مَكَّةَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَبِعَظِيمِ الطَّائِفِ كِنَانَةُ بْنُ عَبْدِ يَالِيلٍ. وَعَنْ قَتَادَةَ عَنَوُا الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ وَعُرْوَةَ بْنَ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيَّ.
ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ قَالُوا هَذَا اللَّفْظُ الْمَحْكِيُّ عَنْهُمْ فِي الْقُرْآن وَلم يسموا شَخْصَيْنِ مُعَيَّنَيْنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ سَمَّوْا شَخْصَيْنِ وَوَصَفُوهُمَا بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ، فَاقْتَصَرَ الْقُرْآنُ عَلَى ذِكْرِ الْوَصْفَيْنِ إِيجَازًا مَعَ التَّنْبِيهِ عَلَى مَا كَانُوا يُؤَهِّلُونَ بِهِ الِاخْتِيَارَ لِلرِّسَالَةِ تَحْمِيقًا لِرَأْيِهِمْ.
وَكَانَ الرَّجُلَانِ اللَّذَانِ عَنَوْهُمَا ذَوَيْ مَالٍ لِأَنَّ سَعَةَ الْمَالِ كَانَتْ مِنْ مُقَوِّمَاتِ وَصْفِ السُّؤْدَدِ كَمَا حُكِيَ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَوْلُهُمْ: وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ [الْبَقَرَة: ٢٤٧].
[٣٢]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٣٢]
أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٣٢)
إِنْكَارٌ عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف:
٣١]، فَإِنَّهُمْ لَمَّا نَصَّبُوا أَنْفُسَهُمْ مَنْصِبَ مَنْ يَتَخَيَّرُ أَصْنَافَ النَّاسِ لِلرِّسَالَةِ عَنِ اللَّهِ، فَقَدْ جَعَلُوا لِأَنْفُسِهِمْ ذَلِكَ لَا لِلَّهِ، فَكَانَ مِنْ مُقْتَضَى قَوْلِهِمْ أَنَّ الِاصْطِفَاءَ لِلرِّسَالَةِ بِيَدِهِمْ، فَلِذَلِكَ قُدِّمَ ضَمِيرُ هُمْ الْمَجْعُولُ مُسْنَدًا إِلَيْهِ، عَلَى مُسْنَدٍ فِعْلِيٍّ لِيُفِيدَ مَعْنَى الِاخْتِصَاصِ فَسَلَّطَ الْإِنْكَارَ عَلَى هَذَا الْحَصْرِ إِبْطَالًا لِقَوْلِهِمْ وَتَخْطِئَةً لَهُمْ فِي تَحَكُّمِهِمْ.
وَالْمَوْعُودُ بِهِ صَادِقٌ بِدُخُولِهِمْ مَكَّةَ بِالْعُمْرَةِ سَنَةَ سَبْعٍ وَهِيَ عُمْرَةُ الْقَضِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ دَخَلُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ آمِنِينَ وَحَلَقَ بَعْضُهُمْ وَقَصَّرَ بَعْضٌ غَيْرَ خَائِفِينَ إِذْ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ، وَذَلِكَ أَقْرَبُ دُخُولٍ بَعْدَ هَذَا الْوَعْدِ، وَصَادِقٌ بِدُخُولِهِمُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ عَامَ حِجَّةِ الْوَدَاعِ، وَعَدَمُ الْخَوْفِ فِيهِ أَظْهَرُ. وَأَمَّا دُخُولُهُمْ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ فَلَمْ يَكُونُوا فِيهِ مُحْرِمِينَ.
قَالَ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» بَعْدَ أَنْ سَاقَ حَدِيثَ قَتْلِ ابْنِ خَطَلٍ يَوْمَ الْفَتْحِ (وَلَمْ يَكُنْ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ مُحْرِمًا وَاللَّهُ أعلم).
ومُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ آمِنِينَ وَعَطَفَ عَلَيْهِ وَمُقَصِّرِينَ وَالتَّحْلِيقُ وَالتَّقْصِيرُ كِنَايَةٌ عَنِ التَّمَكُّنِ مِنْ إِتْمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَذَلِكَ مِنِ اسْتِمْرَارِ الْأَمْنِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ حَكَتْ مَا رَآهُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رُؤْيَاهُ، أَيْ يَحْلِقُ مَنْ رَامَ الْحَلْقَ وَيُقَصِّرُ مَنْ رَامَ التَّقْصِيرَ، أَيْ لَا يُعْجِلُهُمُ الْخَوْفُ عَنِ الْحَلْقِ فَيَقْتَصِرُوا عَلَى التَّقْصِيرِ.
وَجُمْلَةُ لَا تَخافُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُؤَكِّدَةً لِ آمِنِينَ تَأْكِيدًا بِالْمُرَادِفِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْأَمْنَ كَامِلٌ مُحَقَّقٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالًا مُؤَسَّسَةً عَلَى أَنَّ آمِنِينَ مَعْمُولٌ لِفِعْلِ تَدْخُلُّنَ وَأَنَّ لَا تَخافُونَ مَعْمُولٌ لِ آمِنِينَ، أَيْ آمَنِينَ أَمْنَ مَنْ لَا يَخَافُ، أَيْ لَا تَخَافُونَ غَدْرًا. وَذَلِكَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُمْ يَكُونُونَ أَشَدَّ قُوَّةً مِنْ عَدُوِّهِمُ الَّذِي أَمنهم، وَهَذَا يومىء إِلَى حِكْمَةِ تَأْخِيرِ دُخُولِهِمْ مَكَّةَ إِلَى عَامٍ قَابِلٍ حَيْثُ يَزْدَادُونَ قُوَّةً وَاسْتِعْدَادًا وَهُوَ أَظْهَرُ فِي دُخُولِهِمْ عَامَ حِجَّةِ الْوَدَاعِ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا لِتَفْرِيعِ الْأَخْبَارِ لَا لِتَفْرِيعِ الْمُخْبَرِ بِهِ لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ سَابِقٌ عَلَى دُخُولِهِمْ وَعَلَى الرُّؤْيَا الْمُؤْذِنَةِ بِدُخُولِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ [الْفَتْح: ١٨].
وَفِي إِيثَارِ فِعْلِ جَعَلَ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ دُونَ أَنْ يَقُولَ: فَتَحَ لَكُمْ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا أَوْ نَحْوَهُ إِفَادَةُ أَنَّ هَذَا الْفَتْحَ أَمْرُهُ عَجِيبٌ مَا كَانَ لِيَحْصُلَ مِثْلُهُ لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ كَوَّنَهُ.
وَصِيغَةُ الْمَاضِي فِي جَعَلَ لِتَنْزِيلِ الْمُسْتَقْبَلِ الْمُحَقَّقِ مَنْزِلَةَ الْمَاضِي، أَوْ لِأَنَّ جَعَلَ بِمَعْنَى قَدَّرَ. وَدون هُنَا بِمَعْنَى غير، وَمن (م) ابْتِدَائِيَّةٌ أَوْ
وَضَمِيرُ لَهُمْ عَائِدٌ إِلَى الْمُكَذِّبِينَ مِنْهُمْ بِقَرِينَةِ إِسْنَادِ التَّكْذِيبِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَاسْمُ الْفَاعِلِ من قَوْله: مُرْسِلُوا النَّاقَةِ مُسْتَعْمَلٌ فِي الِاسْتِقْبَالِ مَجَازًا بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ، فَعدل عَن أَنْ يُقَالَ: سَنُرْسِلُ، إِلَى صِيغَةِ اسْم الْفَاعِل الْحَقِيقَة فِي الْحَالِ لِتَقْرِيبِ زَمَنِ الِاسْتِقْبَالِ مِنْ زَمَنِ الْحَالِ.
وَالِارْتِقَابُ: الِانْتِظَارُ، ارْتَقَبَ مِثْلُ: رَقَبَ، وَهُوَ أَبْلَغُ دَلَالَةً مِنْ رَقَبَ، لِزِيَادَةِ الْمَبْنَى فِيهِ.
وَعُدِّيَ الِارْتِقَابُ إِلَى ضَمِيرِهِمْ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ يَقْتَضِيهِ الْكَلَامُ لِأَنَّهُ لَا يَرْتَقِبُ ذَوَاتَهُمْ وَإِنَّمَا يَرْتَقِبُ أَحْوَالًا تَحْصُلُ لَهُمْ. وَهَذِهِ طَرِيقَةُ إِسْنَادِ أَوْ تَعْلِيقِ الْمُشْتَقَّاتِ الَّتِي مَعَانِيهَا لَا تُسْنَدُ إِلَى الذَّوَاتِ فَتَكُونُ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ اخْتِصَارًا فِي الْكَلَامِ اعْتِمَادًا عَلَى ظُهُورِ الْمَعْنَى. وَذَلِكَ مِثْلُ إِضَافَةِ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ إِلَى الذَّوَاتِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [الْمَائِدَة: ٣]. وَالْمَعْنَى: فَارْتَقِبْ مَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنَ الْفِتْنَةِ عِنْدَ ظُهُورِ النَّاقَةِ.
وَالِاصْطِبَارُ: الصَّبْرُ الْقَوِيُّ، وَهُوَ كَالِارْتِقَابِ أَيْضًا أَقْوَى دَلَالَةً مِنَ الصَّبْرِ، أَيِ اصْبِرْ صَبْرًا لَا يَعْتَرِيهِ مَلَلٌ وَلَا ضَجَرٌ، أَيِ اصْبِرْ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ وَلَا تَأْيَسْ مِنَ النَّصْرِ عَلَيْهِمْ، وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ اصْطَبِرْ لِيَعُمَّ كُلَّ حَالٍ تَسْتَدْعِي الضَّجَرَ. وَالتَّقْدِيرُ: وَاصْطَبِرْ عَلَى أَذَاهُمْ وَعَلَى مَا تَجِدُهُ فِي نَفْسِكَ مِنَ انْتِظَارِ النَّصْرِ.
وَجُمْلَةُ وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جملَة إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْوَعْدَ بِخَلْقِ آيَةِ النَّاقَةِ يَقْتَضِي كَلَامًا مَحْذُوفًا، تَقْدِيرُهُ: فَأَرْسَلْنَا لَهُمُ النَّاقَةَ وَقُلْنَا نَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ عَلَى طَرِيقَةِ الْعَطْفِ وَالْحَذْفِ فِي قَوْلِهِ: فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ
اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ
[الشُّعَرَاء: ٦٣]، وَإِنْ كَانَ حَرْفُ الْعَطْفِ مُخْتَلِفًا، وَمِثْلُ هَذَا الْحَذْفِ كَثِيرٌ فِي إِيجَازِ الْقُرْآنِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْماءَ لِلْعَهْدِ، أَيْ مَاءِ الْقَرْيَةِ الَّذِي يَسْتَقُونَ مِنْهُ، فَإِنَّ لِكُلٍّ مَحَلَّةٍ يَنْزِلُهَا قَوْمٌ مَاءً لِسُقْيَاهُمْ وَقَالَ تَعَالَى: وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ [الْقَصَص: ٢٣].
وَأَخْبَرَ عَنِ الْمَاءِ بِأَنَّهُ قِسْمَةٌ. وَالْمُرَادُ مَقْسُومٌ فَهُوَ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْمَصْدَرِ لِلتَّأْكِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ.
وَالتَّشْبِيهُ لِقَصْدِ التَّنْظِيرِ وَالتَّأَسِّي فَقَدْ صَدَقَ الْحَوَارِيُّونَ وَعْدَهُمْ وَثَبَتُوا عَلَى الدِّينِ وَلَمْ تُزَعْزِعْهُمُ الْفِتَنُ وَالتَّعْذِيبُ.
وَ (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ كَقَوْلِ عِيسَى وَقَوْلِ الْحَوَارِيِّينَ. وَفِيهِ حَذْفُ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ:
لِكَوْنِ قَوْلِ عِيسَى وَقَوْلِ الْحَوَارِيِّينَ. فَالتَّشْبِيهُ بِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ قَوْلُ عِيسَى وَجَوَابُ الْحَوَارِيِّينَ لِأَنَّ جَوَابَ الْحَوَارِيِّينَ بِمَنْزِلَةِ الْكَلَامِ الْمُفَرَّعِ عَلَى دَعْوَةِ عِيسَى وَإِنَّمَا تُحْذَفُ الْفَاءُ فِي مِثْلِهِ مِنَ الْمُقَاوَلَاتِ وَالْمُحَاوَرَاتِ لِلِاخْتِصَارِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣٠].
وَقَوْلُ عِيسَى مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ اسْتِفْهَامٌ لِاخْتِبَارِ انْتِدَابِهِمْ إِلَى نَصْرِ دِينِ اللَّهِ مَعَهُ نَظِيرَ قَول طرفَة:
إِن الْقَوْمُ قَالُوا مَنْ فَتًى خِلْتُ إِنَّنِي عُنِيتُ فَلَمْ أَكْسَلْ وَلَمْ أَتَبَلَّدِ
وَإِضَافَةُ أَنْصارَ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ وَهُوَ عِيسَى بِاعْتِبَارِهِمْ أَنْصَارَ دَعْوَتِهِ.
وإِلَى اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِ أَنْصارِي. وَمَعْنَى إِلَى الِانْتِهَاءُ الْمَجَازِيِّ، أَيْ
عِقَابًا، وَإِنَّ نُكْتَةَ الِاكْتِفَاءِ بِالتَّعَجُّبِ مِنْ عَدَمِ رَجَاءِ الثَّوَابِ: أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَقْصِدَهُ أَهْلُ الرَّشَادِ وَالتَّقْوَى.
وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : إِذْ صَدَّرَ بِقَوْلِهِ: مَا لَكُمْ لَا تَكُونُونَ عَلَى حَالٍ تَأْمُلُونَ فِيهَا تَعْظِيمَ اللَّهِ إِيَّاكُمْ فِي دَارِ الثَّوَابِ.
وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ كِنَايَةً تَلْوِيحِيَّةً عَنْ حَثِّهِمْ عَلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ الَّذِي يَسْتَلْزِمُ رَجَاءَ ثَوَابِهِ وَخَوْفَ عِقَابِهِ لِأَنَّ مَنْ رَجَا تَعْظِيمَ اللَّهِ إِيَّاهُ آمَنَ بِهِ وَعَبَدَهُ وَعَمِلَ الصَّالِحَاتِ.
وَعَلَى تَأْوِيلِ مَعْنَى الرَّجَاءِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ: مَعْنَى لَا تَرْجُونَ لَا تُبَالُونَ لِلَّهِ عَظَمَةً، قَالَ قُطْرُبٌ: هَذِهِ لُغَةٌ حِجَازِيَّةٌ لِمُضَرَ وَهُذَيْلٍ وَخُزَاعَةَ يَقُولُونَ: لَمْ أَرْجُ أَيْ لَمْ أُبَالِ، وَقَالَ الْوَالِبِيُّ وَالْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَعْنَى لَا تَرْجُونَ لَا تَعْلَمُونَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: لَا تَرَوْنَ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْهَا نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ، فَأَجَابَهُ أَنَّ الرَّجَاءَ بِمَعْنَى الْخَوْفِ، وَأَنْشَدَ قَوْلَ أَبِي ذُؤَيْبٍ:
إِذَا لَسَعَتْهُ النَّحْلُ لَمْ يَرْجُ لَسْعَهَا وَحَالَفَهَا فِي بَيْتِ نُوبٍ عَوَاسِلُ
أَيْ لَمْ يَخَفْ لَسْعَهَا وَاسْتَمَرَّ عَلَى اشْتِيَارِ الْعَسَلِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّمَا يُوضَعُ الرَّجَاءُ مَوْضِعَ الْخَوْفِ لِأَنَّ مَعَ الرَّجَاءِ طَرَفًا مِنَ الْخَوْفِ مِنَ النَّاسِ وَمِنْ ثَمَّ اسْتُعْمِلَ الْخَوْفُ بِمَعْنَى الْعِلْمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ الْآيَة [الْبَقَرَة: ٢٢٩]، وَالْمَعْنَى: لَا تَخَافُونَ عَظَمَةَ اللَّهِ وَقُدْرَتَهُ بِالْعُقُوبَةِ.
وَعَلَى تَأْوِيلِ الْوَقَارِ قَالَ قَتَادَةُ: الْوَقَارُ: الْعَاقِبَةُ، أَيْ مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ عَاقِبَةً، أَيْ عَاقِبَةَ الْإِيمَانِ، أَيْ أَنَّ الْكَلَامَ كِنَايَةٌ عَنِ التَّوْبِيخِ عَلَى تَرْكِهِمُ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ، وَجَعَلَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ: الْوَقَارَ بِمَعْنَى الثَّبَاتِ، قَالَ: وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [الْأَحْزَاب:
٣٣] أَيْ اثْبُتْنَ، وَمَعْنَاهُ مَا لَكُمْ لَا تُثْبِتُونَ وَحْدَانِيَّةَ اللَّهِ.
وَتَتَرَكَّبُ مِنْ هَذَيْنِ التَّأْوِيلَيْنِ مَعَانٍ أُخْرَى مِنْ كَوْنِ الْوَقَارِ مُسْندًا فِي التَّقْدِير إِلَى فَاعِلِهِ أَوْ إِلَى مَفْعُولِهِ، وَهِيَ لَا تَخْفَى.
وَأَمَّا قَوْلُهُ لِلَّهِ فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِ تَرْجُونَ، وَيَجُوزُ فِي بَعْضِ التَّأْوِيلَاتِ الْمَاضِيَةِ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِ وَقاراً: إِمَّا تَعَلُّقَ فَاعِلِ الْمَصْدَرِ بِمَصْدَرِهِ فَتَكُونُ اللَّامُ
التَّدَبُّرِ فِي الْآيَاتِ حَتَّى صَارَ الْإِعْرَاضُ وَالْعِنَادُ خُلُقًا مُتَأَصِّلًا فِيهِمْ فَلَا تَفْهَمُ عُقُولُهُمْ دَلَالَةَ الْأَدِلَّةِ عَلَى مَدْلُولَاتِهَا.
رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ وَتَابَ صُقِلَ قَلْبُهُ فَإِنَّ عَادَ زِيِدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ عَلَى قَلْبِهِ وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ: كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ»
قَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَمَجِيءُ يَكْسِبُونَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ دُونَ الْمَاضِي لِإِفَادَةِ تَكَرُّرِ ذَلِكَ الْكَسْبِ وَتَعَدُّدِهِ فِي الْمَاضِي.
وَفِي ذِكْرِ فِعْلِ كانُوا دُونَ أَنْ يُقَالَ: مَا يَكْسِبُونَ، إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ: مَا كَسَبُوهُ فِي أَعْمَارِهِمْ مِنَ الْإِشْرَاكِ قَبْلَ مَجِيءِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مَنَاطَ تَكْلِيفٍ أَيَّامَئِذٍ.
فَهُمْ مُخَالِفُونَ لِمَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرَائِعُ السَّالِفَةُ وَتَوَاتَرَ وَشَاعَ فِي الْأُمَمِ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ عَلَى قَوْلِ الْأَشْعَرِيِّ وَأَهْلِ السُّنَّةِ فِي تَوْجِيهِ مُؤَاخَذَةِ أَهْلِ الْفَتْرَةِ بِذَنْبِ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ حَسْبَمَا اقْتَضَتْهُ الْأَدِلَّةُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَوْ مُخَالِفُونَ لِمُقْتَضَى دَلَالَةِ الْعَقْلِ الْوَاضِحَةِ عَلَى قَوْلِ الْمَاتْرِيدِيِّ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَلَحِقَ بِذَلِكَ مَا اكْتَسَبُوهُ مِنْ وَقْتِ مَجِيءِ الْإِسْلَامِ إِلَى أَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فَهِيَ مُدَّةٌ لَيْسَتْ بِالْقَصِيرَةِ.
وكَلَّا الثَّانِيَةُ تَأْكِيدٌ لِ كَلَّا الْأُولَى زِيَادَةً فِي الرَّدْعِ لِيَصِيرَ تَوْبِيخًا.
إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (١٦) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (١٧).
جُمْلَةُ: إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا ابْتِدَائِيَّةٌ وَقَدِ اشْتَمَلَتِ الْجُمْلَةُ وَمَعْطُوفَاهَا عَلَى أَنْوَاعٍ ثَلَاثَةٍ مِنَ الْوَيْلِ وَهِيَ الْإِهَانَةُ، وَالْعَذَابُ، وَالتَّقْرِيعُ مَعَ التَّأْيِيسِ مِنَ الْخَلَاصِ مِنَ الْعَذَابِ.
فَأَمَّا الْإِهَانَةُ فَحَجْبُهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ، وَالْحَجْبُ هُوَ السَّتْرُ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْمَنْعِ مِنَ


الصفحة التالية
Icon