محتويات هَذِه السُّورَة
هَذِهِ السُّورَةُ مُتَرَامِيَةٌ أَطْرَافُهَا، وَأَسَالِيبُهَا ذَاتُ أَفْنَانٍ، قَدْ جَمَعَتْ مِنْ وَشَائِجِ أَغْرَاضِ السُّوَرِ مَا كَانَ مِصْدَاقًا لِتَلْقِيبِهَا فُسْطَاطَ الْقُرْآنِ، فَلَا تَسْتَطِيعُ إِحْصَاءَ مُحْتَوَيَاتِهَا بِحُسْبَانٍ، وَعَلَى النَّاظِرِ أَنْ يَتَرَقَّبَ تَفَاصِيلَ مِنْهَا فِيمَا يَأْتِي لَنَا مِنْ تَفْسِيرِهَا، وَلَكِنَّ هَذَا لَا يُحْجِمُ بِنَا
عَنِ التَّعَرُّضِ إِلَى لَائِحَاتٍ مِنْهَا، وَقَدْ حِيكَتْ بِنَسْجِ الْمُنَاسَبَاتِ وَالِاعْتِبَارَاتِ الْبَلَاغِيَّةِ مِنْ لُحْمَةٍ مُحْكَمَةٍ فِي نَظْمِ الْكَلَامِ، وَسُدًى مَتِينٍ مِنْ فَصَاحَةِ الْكَلِمَاتِ.
وَمُعْظَمُ أَغْرَاضِهَا يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ يُثْبِتُ سُمُوَّ هَذَا الدِّينِ عَلَى مَا سَبَقَهُ وَعُلُوَّ هَدْيِهِ وَأُصُولَ تَطْهِيرِهِ النُّفُوسَ، وَقِسْمٌ يُبَيِّنُ شَرَائِعَ هَذَا الدِّينِ لِأَتْبَاعِهِ وَإِصْلَاحِ مُجْتَمَعِهِمْ.
وَكَانَ أُسْلُوبُهَا أَحْسَنَ مَا يَأْتِي عَلَيْهِ أُسْلُوبٌ جَامِعٌ لِمَحَاسِنِ الْأَسَالِيبِ الْخِطَابِيَّةِ، وَأَسَالِيبِ الْكُتُبِ التَّشْرِيعِيَّةِ، وَأَسَالِيبِ التَّذْكِيرِ وَالْمَوْعِظَةِ، يَتَجَدَّدُ بِمِثْلِهِ نَشَاطُ السَّامِعِينَ بِتَفَنُّنِ الْأَفَانِينِ، وَيَحْضُرُ لَنَا مِنْ أَغْرَاضِهَا أَنَّهَا ابْتُدِئَتْ بِالرَّمْزِ إِلَى تَحَدِّي الْعَرَبِ الْمُعَانِدِينَ تَحَدِّيًا إِجْمَالِيًّا بِحُرُوفِ التَّهَجِّي الْمُفْتَتَحِ بِهَا رَمْزًا يَقْتَضِي اسْتِشْرَافَهُمْ لِمَا يَرِدُ بَعْدَهُ وَانْتِظَارَهُمْ لِبَيَانِ مَقْصِدِهِ، فَأَعْقَبَ بِالتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْقُرْآنِ فَتَحَوَّلَ الرَّمْزُ إِيمَاءً إِلَى بَعْضِ الْمَقْصُودِ مِنْ ذَلِكَ الرَّمْزِ لَهُ أَشَدُّ وَقْعٍ عَلَى نُفُوسِهِمْ فَتَبْقَى فِي انْتِظَارِ مَا يَتَعَقَّبُهُ مِنْ صَرِيحِ التَّعْجِيزِ الَّذِي سَيَأْتِي بَعْدَ قَوْلِهِ:
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [الْبَقَرَة: ٢٣]. فَعَدَلَ بِهِمْ إِلَى ذَاتِ جِهَةِ التَّنْوِيهِ بِفَائِقِ صِدْقِ هَذَا الْكِتَابِ وَهَدْيِهِ، وَتَخَلَّصَ إِلَى تَصْنِيفِ النَّاسِ تُجَاهَ تَلَقِّيهِمْ هَذَا الْكِتَابِ وَانْتِفَاعِهِمْ بِهَدْيِهِ أَصْنَافًا أَرْبَعَةً (وَكَانُوا قَبْلَ الْهِجْرَةِ صِنْفَيْنِ) بِحَسَبِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ فِي ذَلِكَ التَّلَقِّي. وَإِذْ قَدْ كَانَ أَخَصُّ الْأَصْنَافِ انْتِفَاعًا بِهَدْيِهِ هُمُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْغَيْبِ الْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ- يَعْنِي الْمُسْلِمِينَ- ابْتُدِئَ بِذِكْرِهِمْ، وَلَمَّا كَانَ أَشَدُّ الْأَصْنَافِ عِنَادًا وَحِقْدًا صِنْفَا الْمُشْرِكِينَ الصُّرَحَاءِ وَالْمُنَافِقِينَ لُفَّ الْفَرِيقَانِ لَفًّا وَاحِدًا فَقُورِعُوا بِالْحُجَجِ الدَّامِغَةِ وَالْبَرَاهِينِ السَّاطِعَةِ، ثُمَّ خَصَّ بِالْإِطْنَابِ صِنْفَ أَهْلِ النِّفَاقِ تَشْوِيهًا لِنِفَاقِهِمْ وَإِعْلَانًا لِدَخَائِلِهِمْ وَرَدِّ مَطَاعِنِهِمْ، ثُمَّ كَانَ خَاتِمَةُ مَا قُرِعَتْ بِهِ أُنُوفُهُمْ صَرِيحَ التَّحَدِّي الَّذِي رَمَزَ إِلَيْهِ بَدْءًا تَحَدِّيًا يُلْجِئُهُمْ إِلَى الِاسْتِكَانَةِ وَيُخْرِسُ أَلْسِنَتَهُمْ عَنِ التَّطَاوُلِ وَالْإِبَانَةِ، وَيُلْقِي فِي قَرَارَاتِ أَنْفُسِهِمْ مَذَلَّةَ الْهَزِيمَةِ وَصِدْقَ الرَّسُولِ الَّذِي تَحَدَّاهُمْ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ رَدِّ
وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢).
الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ الَّتِي أَفَادَتِ الْأَمْرَ بِتَتَبُّعِ الْمُقَاتِلِينَ بِالتَّقْتِيلِ حَيْثُمَا حَلُّوا سَوَاءٌ كَانُوا مُشْتَبِكِينَ بِقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ أَمْ كَانُوا فِي حَالَةِ تَنَقُّلٍ أَوْ تَطَلُّعٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ لِأَنَّ أَحْوَالَ الْمُحَارِبِ لَا تَنْضَبِطُ وَلَيْسَتْ فِي الْوَقْتِ سَعَةٌ لِلنَّظَرِ فِي نَوَايَاهُ وَالتَّوَسُّمِ فِي أَغْرَاضِهِ، إِذْ قد يبادره إِلَى اغْتِيَالِ عَدُوِّهِ فِي حَالِ تَرَدُدِّهِ وَتَفَكُّرِهِ، فَخَصَّ الْمَكَانَ الَّذِي عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِنْ عُمُومِ الْأَمْكِنَةِ الَّتِي شَمِلَهَا قَوْلُهُ: حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ أَيْ إِنْ ثَقِفْتُمُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ غَيْرَ مُشْتَبِكِينَ فِي قِتَالٍ مَعَكُمْ فَلَا تَقْتُلُوهُمْ، وَالْمَقْصِدُ مِنْ هَذَا حِفْظُ حُرْمَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ لَهُ بِقَوْلِهِ: مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً [آل عمرَان: ٩٧]، فَاقْتَضَتِ الْآيَةُ مَنْعَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَتَدُلُّ عَلَى مَنْعِهِمْ مِنْ أَنْ يَقْتُلُوا أَحَدًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ دُونَ قِتَالٍ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
بِدَلَالَةِ لَحْنِ الْخِطَابِ أَوْ فَحْوَى الْخِطَابِ.
وَجُعِلَتْ غَايَةَ النَّهْيِ بِقَوْلِهِ: حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ أَيْ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ فَاقْتُلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، لِأَنَّهُمْ خَرَقُوا حُرْمَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَلَوْ تُرِكَتْ مُعَامَلَتُهُمْ بِالْمِثْلِ لَكَانَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى هَزِيمَةِ الْمُسْلِمِينَ. فَإِنْ قَاتَلُوا الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَادَ أَمْرُ الْمُسْلِمِينَ بِمُقَاتَلَتِهِمْ إِلَى مَا كَانَ قَبْلَ هَذَا النَّهْيِ فَوَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قِتَالُهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَقَتْلُ مَنْ ثُقِفُوا مِنْهُمْ كَذَلِكَ.
وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاقْتُلُوهُمْ تَنْبِيهٌ عَلَى الْإِذْنِ بِقَتْلِهِمْ حِينَئِذٍ وَلَوْ فِي غَيْرِ اشْتِبَاكٍ مَعَهُمْ بِقِتَالٍ، لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ مِنْ أَنْ يَتَّخِذُوا حُرْمَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَسِيلَةً لَهَزْمِ الْمُسْلِمِينَ.
وَلِأَجْلِ ذَلِكَ جَاءَ التَّعْبِيرُ بِقَوْلِهِ: فَاقْتُلُوهُمْ لِأَنَّهُ يَشْمَلُ الْقَتْلَ بِدُونِ قِتَالٍ وَالْقَتْلَ بِقِتَالٍ.
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ قاتَلُوكُمْ أَيْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَاقْتُلُوهُمْ هُنَالِكَ، أَيْ فَاقْتُلُوا مَنْ ثَقِفْتُمْ مِنْهُمْ حِينَ الْمُحَارَبَةِ، وَلَا يَصُدُّكُمُ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ عَنْ تَقَصِّي آثَارِهِمْ لِئَلَّا يَتَّخِذُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَام ملْجأ يلجؤون إِلَيْهِ إِذَا انْهَزَمُوا.
وَقَدِ احْتَارَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فِي انْتِظَامِ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ قَوْلِهِ: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الْبَقَرَة: ١٩٠] إِلَى قَوْلِهِ هُنَا- كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ حَتَّى لَجَأَ بَعْضُهُمْ إِلَى دَعْوَى نَسْخِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ
تَسْهُلَ الْمُجَادَلَةُ، وَتُخْتَصَرَ الْمُقَاوَلَةُ، وَيَسْهُلَ عَرْضُ الْمُتَشَكِّكِينَ أَنْفُسَهُمْ عَلَى هَذِهِ الْحَقِيقَةِ، لِيَعْلَمُوا مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الدِّيَانَةِ. وبيّنت هَذِهِ الْكَلِمَةُ أَنَّ هَذَا الدِّينَ يُتَرْجِمُ عَنْ حَقِيقَةِ اسْمِهِ فَإِنَّ اسْمَهُ الْإِسْلَامُ، وَهُوَ مُفِيدٌ مَعْنًى مَعْرُوفًا فِي لُغَتِهِمْ يَرْجِعُ إِلَى الْإِلْقَاءِ وَالتَّسْلِيمِ، وَقَدْ حُذِفَ مَفْعُولُهُ وَنُزِّلَ الْفِعْل منزلَة الْفِعْلُ اللَّازِمِ فَعُلِمَ أَنَّ الْمَفْعُولَ حُذِفَ لِدَلَالَةِ مَعْنَى الْفَاعِلِ عَلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: أَسْلَمْتُنِي أَيْ أَسْلَمْتُ نَفَسِي، فَبَيَّنَ هُنَا هَذَا الْمَفْعُولَ الْمَحْذُوفَ مِنِ اسْمِ الْإِسْلَامِ لِئَلَّا يَقَعَ فِيهِ الْتِبَاسٌ أَوْ تَأْوِيلٌ لِمَا لَا يُطَابِقُ الْمُرَادَ، فَعَبَّرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: (وَجْهِيَ) أَيْ نَفْسِي: لِظُهُورِ أَلَّا يَحْسُنَ مَحْمَلُ الْوَجْهِ هُنَا عَلَى الْجُزْءِ الْمَعْرُوفِ مِنَ الْجَسَدِ، وَلَا يُفِيدُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ، بَلِ الْمَعْنَى الْبَيِّنُ هُوَ أَنْ يُرَادَ بِالْوَجْهِ كَامِلُ الذَّاتِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [الْقَصَص: ٨٨].
وَإِسْلَامُ النَّفْسِ لِلَّهِ مَعْنَاهُ إِسْلَامُهَا لِأَجْلِهِ وَصَيْرُورَتُهَا مِلْكًا لَهُ، بِحَيْثُ يَكُونُ جَمِيعُ أَعْمَالِ النَّفْسِ فِي مَرْضَاةِ اللَّهِ، وَتَحْتَ هَذَا مَعَانٍ جَمَّةٌ هِيَ جِمَاعُ الْإِسْلَامِ: نَحْصُرُهَا فِي عَشَرَةٍ:
الْمَعْنَى الْأَوَّلُ: تَمَامُ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ بِأَلَّا يُعْبَدَ غَيْرُ اللَّهِ، وَهَذَا إِبْطَالٌ لِلشِّرْكِ لِأَنَّ الْمُشْرِكَ بِاللَّهِ غَيْرَ اللَّهِ لَمْ يُسْلِمْ نَفسه لله بَلْ أَسْلَمَ بَعْضَهَا.
الْمَعْنَى الثَّانِي: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يَلْحَظُ فِي عَمَلِهِ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَا يُرَائِي وَلَا يُصَانِعُ فِيمَا لَا يُرْضِي اللَّهَ وَلَا يُقَدِّمُ مَرْضَاةَ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَرْضَاةِ اللَّهِ.
الثَّالِثُ: إِخْلَاصُ الْقَوْلِ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يَقُولُ مَا لَا يَرْضَى بِهِ اللَّهُ، وَلَا يَصْدُرُ عَنْهُ قَوْلٌ إِلَّا فِيمَا أَذِنَ اللَّهُ فِيهِ أَنْ يُقَالَ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى تَجِيءُ الصَّرَاحَةُ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، عَلَى حَسَبِ الْمَقْدِرَةِ وَالْعِلْمِ، وَالتَّصَدِّي لِلْحُجَّةِ لِتَأْيِيدِ مُرَادِ اللَّه تَعَالَى، وَهِيَ صِفَةٌ امْتَازَ بِهَا الْإِسْلَامُ، وَيَنْدَفِعُ بِهَذَا الْمَعْنَى النِّفَاقُ، وَالْمَلَقُ، قَالَ تَعَالَى فِي ذِكْرِ رَسُولِهِ:
وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [يس: ٨٦].
الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ سَاعِيًا لِتَعَرُّفِ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ النَّاسِ، لِيُجْرِيَ أَعْمَالَهُ عَلَى وَفْقِهِ، وَذَلِكَ بِالْإِصْغَاءِ إِلَى دَعْوَةِ الرُّسُلِ الْمُخْبِرِينَ بِأَنَّهُمْ مُرْسَلُونَ مِنَ اللَّهِ، وَتَلَقِّيهَا بِالتَّأَمُّلِ فِي وُجُودِ صِدْقِهَا، وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الدَّعَاوَى الْبَاطِلَةِ، بِدُونِ تَحَفُّزٍ لِلتَّكْذِيبِ، وَلَا
وَمَعْنَى نَفْيِ إِضَاعَةِ عَمَلِهِمْ نَفْيُ إِلْغَاءِ الْجَزَاءِ عَنْهُ: جَعْلُهُ كَالضَّائِعِ غَيْرِ الْحَاصِلِ فِي يَدِ صَاحِبِهِ.
فَنَفْيُ إِضَاعَةِ الْعَمَلِ وَعْدٌ بِالِاعْتِدَادِ بِعَمَلِهِمْ وَحُسْبَانِهِ لَهُمْ، فَقَدْ تَضَمَّنَتِ الِاسْتِجَابَةُ تَحْقِيقَ عَدَمِ إِضَاعَةِ الْعَمَلِ تَطْمِينًا لِقُلُوبِهِمْ مِنْ وَجَلِ عَدَمِ الْقَبُولِ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ أَرَادُوا مِنْ قَوْلِهِمْ: وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ [آل عمرَان: ١٩٤] تَحْقِيقَ قَبُولِ أَعْمَالِهِمْ وَالِاسْتِعَاذَةِ مِنَ الْحَبَطِ.
وَقَوْلُهُ: مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَيَانٌ لِعَامِلٍ وَوَجْهُ الْحَاجَةِ إِلَى هَذَا الْبَيَانِ هُنَا أَنَّ الْأَعْمَالَ الَّتِي أَتَوْا بِهَا أَكْبَرُهَا الْإِيمَانُ، ثُمَّ الْهِجْرَةُ، ثُمَّ الْجِهَادُ، وَلَمَّا كَانَ الْجِهَادُ أَكْثَرَ تَكَرُّرًا خِيفَ أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّ النِّسَاءَ لَا حَظَّ لَهُنَّ فِي تَحْقِيقِ الْوَعْدِ الَّذِي وَعَدَ اللَّهُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ، فَدَفَعَ هَذَا بِأَنَّ لِلنِّسَاءِ حَظَّهُنَّ فِي ذَلِكَ فَهُنَّ فِي الْإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ يُسَاوِينَ الرِّجَالَ، وَهُنَّ لَهُنَّ حَظُّهُنَّ فِي ثَوَابِ الْجِهَادِ لِأَنَّهُنَّ يَقُمْنَ عَلَى الْمَرْضَى وَيُدَاوِينَ الْكَلْمَى، وَيَسْقِينَ
الْجَيْشَ، وَذَلِكَ عَمَلٌ عَظِيمٌ بِهِ اسْتِبْقَاءُ نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ، فَهُوَ لَا يُقْصَرُ عَنِ الْقِتَالِ الَّذِي بِهِ إِتْلَافُ نُفُوسِ عَدُوِّ الْمُؤْمِنِينَ.
وَقَوْلُهُ: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ (مِنْ) فِيهِ اتِّصَالِيَّةٌ أَيْ بَعْضُ الْمُسْتَجَابِ لَهُمْ مُتَّصِلٌ بِبَعْضٍ، وَهِيَ كَلِمَةٌ تَقُولُهَا الْعَرَبُ بِمَعْنَى أَنَّ شَأْنَهُمْ وَاحِدٌ وَأَمْرَهُمْ سَوَاءٌ. قَالَ تَعَالَى:
الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ [التَّوْبَة: ٦٧] إِلَخْ... وَقَوْلُهُمْ: هُوَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ، وَفِي عَكْسِهِ يَقُولُونَ كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ:
فَإِنِّي لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي وَقَدْ حَمَلَهَا جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى مَعْنَى أَنَّ نِسَاءَكُمْ وَرِجَالَكُمْ يَجْمَعُهُمْ أَصْلٌ وَاحِدٌ، وَعَلَى هَذَا فَمَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَوْقِعُ التَّعْلِيلِ لِلتَّعْمِيمِ فِي قَوْلِهِ: مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى أَيْ لِأَنَّ شَأْنَكُمْ وَاحِدٌ، وَكُلٌّ قَائِمٌ بِمَا لَوْ لَمْ يَقُمْ بِهِ لَضَاعَتْ مَصْلَحَةُ الْآخَرِ، فَلَا جَرَمَ أَنْ كَانُوا سَوَاءً فِي تَحْقِيقِ وَعْدِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَعْمَالُهُمْ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ [النِّسَاء: ٣٢].

[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ١١٧ إِلَى ١٢١]

إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (١١٧) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (١١٨) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (١١٩) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢٠) أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (١٢١)
كَانَ قَوْلُهُ: إِنْ يَدْعُونَ بَيَانًا لِقَوْلِهِ: فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً [النِّسَاء: ١١٦]، وَأَيُّ ضَلَالٍ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يُشْرِكَ أَحَدٌ بِاللَّهِ غَيْرَهُ ثُمَّ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ شُرَكَاءَهُ إِنَاثٌ، وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ الْأُنْثَى أَضْعَفُ الصِّنْفَيْنِ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ. وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ هَذَا صَادِرًا مِنَ الْعَرَبِ، وَقَدْ عَلِمَ النَّاسُ حَالَ الْمَرْأَةِ بَيْنَهُمْ، وَقَدْ حَرَمُوهَا مِنْ حُقُوقٍ كَثِيرَةٍ وَاسْتَضْعَفُوهَا. فَالْحَصْرُ فِي قَوْلِهِ: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ لِأَنَّهُ أَعْجَبُ أَحْوَالِ إِشْرَاكِهِمْ، وَلِأَنَّ أَكْبَرَ آلِهَتِهِمْ يَعْتَقِدُونَهَا أُنْثَى وَهِيَ: اللَّاتُ، وَالْعُزَّى، وَمَنَاةُ، فَهَذَا كَقَوْلِكَ لَا عَالِمَ إِلَّا زِيدٌ.
وَكَانَتِ الْعُزَّى لِقُرَيْشٍ، وَكَانَتْ مَنَاةُ لِلْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مُعْظَمَ الْمُعَانِدِينَ لِلْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ كَانُوا مِنْ هَذَيْنِ الْحَيَّيْنِ: مُشْرِكُو قُرَيْشٍ هُمْ أَشَدُّ النَّاسِ عداء لِلْإِسْلَامِ:
ومنافقوا الْمَدِينَةِ وَمُشْرِكُوهَا أَشَدُّ النَّاسِ فِتْنَةً فِي الْإِسْلَامِ.
وَمَعْنَى وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً أَنَّ دَعْوَتَهُمُ الْأَصْنَامَ دَعْوَةٌ لِلشَّيْطَانِ، وَالْمُرَادُ جِنْسُ الشَّيْطَانِ، وَإِنَّمَا جُعِلُوا يَدْعُونَ الشَّيْطَانَ لِأَنَّهُ الَّذِي سَوَّلَ لَهُمْ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ.
وَالْمَرِيدُ: الْعَاصِي وَالْخَارِجُ عَنِ الْمَلِكِ، وَفِي الْمَثَلِ «تَمَرَّدَ مَارِدٌ وَعَزَّ الْأَبْلَقُ» اسْمَا حِصْنَيْنِ لِلسَّمَوْأَلِ، فَالْمَرِيدُ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مُشْتَقَّةٌ مِنْ مَرُدَ- بِضَمِّ الرَّاءِ- إِذَا عَتَا فِي الْعِصْيَانِ.
وَجُمْلَةُ لَعَنَهُ اللَّهُ صِفَةٌ لِشَيْطَانٍ، أَيْ أَبْعَدَهُ وَتَحْتَمِلُ الدُّعَاءَ عَلَيْهِ، لَكِنَّ الْمَقَامَ يَنْبُو
عَنِ الِاعْتِرَاضِ بِالدُّعَاءِ فِي مِثْلِ هَذَا السِّيَاقِ. وَعَطْفُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِ يَزِيدُ احْتِمَالَ
بَيْنَهُمْ، وَسَبَبُ مُعَامَلَتِهِمْ بِنَقِيضِ قَصْدِهِمْ مِنَ الِاخْتِبَارِ أَوْ مُحَاوَلَةِ مُصَادَفَةِ الْحُكْمِ لِهَوَاهُمْ يَقْتَضِي الْإِعْرَاضَ عَنْهُمْ لِئَلَّا يُعَرَّضَ الْحُكْمُ النَّبَوِيُّ لِلِاسْتِخْفَافِ. وَكَانَ ابْتِدَاءُ التَّخْيِيرِ فِي لَفْظِ الْآيَةِ بِالشِّقِّ الْمُقْتَضِي أَنَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْحُكْمَ بَيْنَهُمْ أَوْلَى. وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ بَعْدُ وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ أَيْ بِالْحَقِّ، وَهُوَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ بِالْحَدِّ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً فَذَلِكَ تطمين للنّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِئَلَّا يَقُولَ فِي نَفْسِهِ: كَيْفَ أُعْرِضُ عَنْهُمْ، فَيَتَّخِذُوا ذَلِكَ حُجَّةً عَلَيْنَا. يَقُولُونَ: رَكَنَّا إِلَيْكُمْ وَرَضِينَا بِحُكْمِكُمْ فَأَعْرَضْتُمْ عَنَّا فَلَا نَسْمَعُ دَعْوَتَكُمْ مِنْ بَعْدُ. وَهَذَا مِمَّا يَهْتَمُّ بِهِ النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ يَؤُولُ إِلَى تَنْفِيرِ رُؤَسَائِهِمْ دَهْمَاءَهُمْ مِنْ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ فَطَمَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَا تَنْشَأُ عَنْهُ مَضَرَّةٌ. وَلَعَلَّ فِي هَذَا التَّطْمِينِ إِشْعَارًا بِأَنَّهُمْ لَا طَمَعَ فِي إِيمَانِهِمْ فِي كُلِّ حَالٍ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالضُّرِّ ضُرَّ الْعَدَاوَةِ أَوِ الْأَذَى لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَهْتَمُّ بِهِ النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَخْشَاهُ مِنْهُمْ، خِلَافًا لِمَا فَسَّرَ بِهِ الْمُفَسِّرُونَ هُنَا.
وَتَنْكِيرُ شَيْئاً لِلتَّحْقِيرِ كَمَا هُوَ فِي أَمْثَالِهِ، مِثْلَ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ لِأَنَّهُ فِي نِيَّةِ الْإِضَافَةِ إِلَى مَصْدَرٍ، أَيْ شَيْئًا مِنَ الضُّرِّ، فَهُوَ نَائِبٌ عَنِ الْمَصْدَرِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي مَوْقِعِ كَلِمَةِ شَيْءٍ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٥٥].
وَالْآيَةُ تَقْتَضِي تَخْيِيرَ حُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ إِذَا حَكَّمُوهُمْ لِأَنَّ إِبَاحَةَ ذَلِكَ التَّخْيِيرِ لِغَيْرِ الرَّسُولِ مِنَ الْحُكَّامِ مُسَاوٍ إِبَاحَتَهُ لِلرَّسُولِ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَفِي مَسْأَلَةِ حُكْمِ حُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ فِي خُصُومَاتِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ دَلَّ الِاسْتِقْرَاءُ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ إِذَا تَنَازَعَ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ حُكَّامُ مِلَّتِهِمْ، فَإِذَا تَحَاكَمُوا إِلَى حُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنْ كَانَ مَا حَدَثَ مِنْ قَبِيلِ الظُّلْمِ كَالْقَتْلِ وَالْغَصْبِ وَكُلِّ مَا يَنْتَشِرُ مِنْهُ فَسَادٌ فَلَا
وَهُوَ كَلَامٌ جَامِعٌ لِتَفَاصِيلِ مَا حَلَّ بِالْمُكَذِّبِينَ، وَبِكَيْفَ كَانَ نَصْرُ اللَّهِ رُسُلَهُ. وَذَلِكَ فِي تَضَاعِيفِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ فِي ذَلِكَ.
وَالْقَوْلُ فِي جاءَكَ كَالْقَوْلِ فِي أَتاهُمْ نَصْرُنا، فَهُوَ مَجَازٌ فِي بُلُوغِ ذَلِكَ وَإِعْلَامِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ.
وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ نَبَإِ إِمَّا اسْمٌ بِمَعْنَى (بَعْضٍ) فَتَكُونُ فَاعِلًا مُضَافَة إِلَى النبأ، وَهُوَ نَاظِرٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ [غَافِر:
٧٨]. وَالْأَحْسَنُ أَنْ تُجْعَلَ صِفَةً لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: لَقَدْ جَاءَكَ نَبَأٌ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ.
وَالنَّبَأُ الْخَبَرُ عَنْ أَمْرٍ عَظِيمٍ، قَالَ تَعَالَى: عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ [النَّبَأ: ١، ٢]، وَقَالَ: قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ [ص: ٦٧، ٦٨]، وَقَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٦٧] لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ.
[٣٥]
[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : آيَة ٣٥]
وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٥)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ [الْأَنْعَام: ٣٣]، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحْزِنُهُ مَا يَقُولُونَهُ فِيهِ مِنَ التَّكْذِيبِ بِهِ وَبِالْقُرْآنِ حُزْنًا عَلَى جَهْلِ قَوْمِهِ بِقَدْرِ النَّصِيحَةِ وَإِنْكَارِهِمْ فَضِيلَةَ صَاحِبِهَا، وَحُزْنًا مِنْ جَرَّاءِ الْأَسَفِ عَلَيْهِمْ مِنْ دَوَامِ ضَلَالِهِمْ شَفَقَةً عَلَيْهِمْ، وَقَدْ سَلَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْحُزْنِ الْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ [الْأَنْعَام: ٣٣] وَسَلَّاهُ عَنِ الثَّانِي بِقَوْلِهِ: وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ الْآيَةَ.
وكَبُرَ كَكَرُمَ، كِبَرًا كَعِنَبٍ: عَظُمَتْ جُثَّتُهُ. وَمَعْنَى كَبُرَ هُنَا شَقَّ عَلَيْكَ. وَأَصْلُهُ عِظَمُ الْجُثَّةِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ مَجَازًا فِي الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ الثَّقِيلَةِ لِأَنَّ عِظَمَ الْجُثَّةِ يَسْتَلْزِمُ الثِّقَلَ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ مَجَازًا فِي مَعْنَى (شَقَّ) لِأَنَّ الثقيل يشق جمله. فَهُوَ مَجَازٌ مُرْسَلٌ بِلُزُومَيْنِ.
وَجِيءَ فِي هَذَا الشَّرْطِ بِحَرْفِ (إِنْ) الَّذِي يَكْثُرُ وُرُودُهُ فِي الشَّرْطِ الَّذِي لَا يُظَنُّ
«مَا
زَالَتْ أُكْلَةُ خَيْبَرَ تَعْتَادُنِي كُلَّ عَامٍ حَتَّى كَانَ هَذَا أَوَانَ قَطْعِ أَبْهَرِي»

(١).
وَبِقَوْلِهِ: وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ تَحَقَّقَ مَعْنَى الْإِسْلَامِ الَّذِي أَصْلُهُ الْإِلْقَاءُ بِالنَّفْسِ إِلَى الْمُسْلَمِ لَهُ، وَهُوَ الْمَعْنَى الَّذِي اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ: فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٢٠]، وَهُوَ مَعْنَى الْحَنِيفِيَّةِ الَّذِي حَكَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ: إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ كَمَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٣١].
وَقَوْلُهُ: رَبِّ الْعالَمِينَ صِفَةٌ تُشِيرُ إِلَى سَبَبِ اسْتِحْقَاقِهِ أَنْ يَكُونَ عَمَلُ مَخْلُوقَاتِهِ لَهُ لَا لغيره، لأنّ غَيره لَيْسَ لَهُ عَلَيْهِمْ نِعْمَةُ الْإِيجَادِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ [١] :
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ.
وَجُمْلَةُ: لَا شَرِيكَ لَهُ حَالٌ مِنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ مُصَرِّحَةٌ بِمَا أَفَادَهُ جَمْعُ التَّوْكِيدِ مَعَ لَامِ الْمِلْكِ مِنْ إِفَادَةِ الْقَصْرِ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الصِّفَةِ وَالْحَالِ الرَّدُّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمْ مَا أَخْلَصُوا عَمَلَهُمْ لِلَّذِي خَلَقَهُمْ، وَبِأَنَّهُمْ أَشْرَكُوا مَعَهُ غَيْرَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ: وَمَحْيايَ- بِسُكُونِ الْيَاءِ الثّانية- إِجْرَاء للوصل مَجْرَى الْوَقْفِ وَهُوَ نَادِرٌ فِي النَّثْرِ، وَالرِّوَايَةُ عَنْ نَافِعٍ أَثْبَتَتْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ النُّدْرَةَ لَا تُنَاكِدُ الْفَصَاحَةِ وَلَا يَرِيبُكَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ: «أَنَّهَا شَاذَّةٌ عَنِ الْقِيَاسِ لِأَنَّهَا جَمَعَتْ بَيْنَ سَاكِنَيْنِ لِأَنَّ سُكُونَ الْأَلِفِ قَبْلَ حَرْفٍ سَاكِنٍ لَيْسَ مِمَّا يَثْقُلُ فِي النُّطْقِ نَحْوَ عَصَايْ، وَرُؤْيَايْ، وَوَجْهُ إِجْرَاءِ الْوَصْلِ مَجْرَى الْوَقْفِ هُنَا إِرَادَةُ التَّخْفِيفِ لِأَنَّ تَوَالِيَ يَائَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ
_________
(١) الْأَبْهَر- بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الْبَاء وَفتح الْهَاء عرق فِي الْقلب.
وَقَدْ تَشَابَهَتْ أَقْوَالُ قَوْمِ هُودٍ وَأَقْوَالُ قَوْمِ نُوحٍ فِي تَكْذِيبِ الرَّسُولِ لِأَنَّ ضَلَالَةَ الْمُكَذِّبِينَ مُتَّحِدَةٌ، وَشُبُهَاتِهِمْ مُتَّحِدَةٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ [الْبَقَرَة: ١١٨] فَكَأَنَّهُمْ لَقَّنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ [الذاريات: ٥٣].
[٦٧، ٦٨]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : الْآيَات ٦٧ إِلَى ٦٨]
قالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٧) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (٦٨)
فُصِلَتْ جُمْلَةُ: قالَ لِأَنَّهَا عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهَا آنِفًا وَفِيمَا مَضَى.
وَتَفْسِيرُ الْآيَةِ تَقَدَّمَ فِي نَظِيرِهَا آنِفًا فِي قِصَّةِ نُوحٍ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ فِي قِصَّةِ نُوحٍ وَأَنْصَحُ لَكُمْ [الْأَعْرَاف: ٦٢] وَقَالَ فِي هَذِهِ وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ فَنُوحٌ قَالَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُقْلِعٍ عَنِ النُّصْحِ لِلْوَجْهِ الَّذِي تَقَدَّمَ، وَهُودٌ قَالَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نُصْحَهُ لَهُمْ وَصْفٌ ثَابِتٌ فِيهِ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُ، وَأَنَّ مَا زَعَمُوهُ سَفَاهَةً هُوَ نُصْحٌ.
وَأُتْبِعَ ناصِحٌ بِ آمِّينَ وَهُوَ الْمَوْصُوفُ بِالْأَمَانَةِ لِرَدِّ قَوْلِهِمْ لَهُ: لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ [الْأَعْرَاف: ٦٦] لِأَنَّ الْأَمِينَ هُوَ الْمَوْصُوفُ بِالْأَمَانَةِ، وَالْأَمَانَةُ حَالَةٌ فِي الْإِنْسَانِ تَبْعَثُهُ عَلَى حِفْظِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ حَقٍّ لِغَيْرِهِ، وَتَمْنَعُهُ مِنْ إِضَاعَتِهِ، أَوْ جَعْلِهِ لِنَفْعِ نَفْسِهِ، وَضِدُّهَا الْخِيَانَةُ.
وَالْأَمَانَةُ مِنْ أَعَزِّ أَوْصَافِ الْبَشَرِ، وَهِيَ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُسْلِمِينَ،
وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَ لَهُ»
وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ الْأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جِذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ- ثُمَّ قَالَ- يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الْأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ- إِلَى أَنْ قَالَ- فَيُقَالُ: إِنَّ فِي بَنِي فُلَانٍ رَجُلًا أَمِينًا وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ مَا أَعْقَلَهُ وَمَا أَظْرَفَهُ وَمَا أَجْلَدَهُ وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ»
فَذَكَرَ الْإِيمَانَ فِي مَوْضِعِ الْأَمَانَةِ. وَالْكَذِبُ مِنَ الْخِيَانَةِ،
وَمَعْنَى اللَّامِ يُنَاسِبُ أَحَدَ مَعْنَيَيِ الْإِجْلَاءِ، وَهُوَ الْإِظْهَارُ، لِأَنَّهُ الَّذِي إِذَا حَصَلَ تَمَّ كَشْفُ أَمْرِهَا، وَتَحَقَّقَ النَّاسُ أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى إِجْلَائِهَا كَانَ عَالِمًا بِوَقْتِ حُلُولِهَا.
وَفُصِلَتْ جُمْلَةُ: لَا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ لِأَنَّهَا تَتَنَزَّلُ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا مَنْزِلَةَ التَّأْكِيدِ وَالتَّقْرِيرِ.
وَقُدِّمَ الْمَجْرُورُ وَهُوَ لِوَقْتِها عَلَى فَاعِلِ يُجَلِّيها الْوَاقِعِ اسْتِثْنَاءً مُفْرَغًا لِلِاهْتِمَامِ بِهِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ تَجْلِيَةَ أَمْرِهَا تَكُونُ عِنْدَ وَقْتِ حُلُولِهَا لِأَنَّهَا تَأْتِي بَغْتَةً.
وَجُمْلَةُ: ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مُعْتَرِضَةٌ لِقَصْدِ الْإِفَادَةِ بِهَوْلِهَا، وَالْإِيمَاءِ إِلَى حِكْمَةِ إِخْفَائِهَا.
وَفِعْلُ ثَقُلَتْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِمُجَرَّدِ الْإِخْبَارِ بِشِدَّةِ، أَمْرِهَا كَقَوْلِهِ: وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَعْجِيبًا بِصِيغَةِ فَعُلَ- بِضَمِّ الْعَيْنِ- فَتُقَدَّرُ الضَّمَّةُ ضَمَّةَ تَحْوِيلِ الْفِعْلِ لِلتَّعْجِيبِ، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ ضَمَّةٌ أَصْلِيَّةٌ فِي الْفِعْلِ، فَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ [الْكَهْف: ٥].
وَالثِّقَلُ مُسْتَعَارٌ لِلْمَشَقَّةِ كَمَا يُسْتَعَارُ الْعِظَمُ وَالْكِبَرُ، لِأَنَّ شِدَّةَ وَقْعِ الشَّيْءِ فِي النُّفُوسِ وَمَشَقَّتِهِ عَلَيْهَا تخيّل لمن خلت بِهِ أَنَّهُ حَامِلٌ شَيْئًا ثَقِيلًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل: ٥] أَيْ شَدِيدًا تَلَقِّيهِ وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَوَصْفُ السَّاعَةِ بِالثِّقَلِ بِاعْتِبَارِ مَا هُوَ مَظْرُوفٌ فِي وَقْتِهَا مِنَ الْحَوَادِثِ، فَوَصْفُهَا بِذَلِكَ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، وَالْقَرِينَةُ وَاضِحَةٌ، وَهِيَ كَوْنُ الثِّقَلِ بِمَعْنَى الشِّدَّةِ لَا يَكُونُ وَصْفًا لِلزَّمَانِ، وَلَكِنَّهُ وَصْفٌ لِلْأَحْدَاثِ، فَإِذَا أُسْنِدَ إِلَى الزَّمَانِ، فَإِسْنَادُهُ إِلَيْهِ إِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِهِ ظَرْفًا لِلْأَحْدَاثِ، كَقَوْلِهِ: وَقالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ
[هود: ٧٧].
وَثِقَلُ السَّاعَةِ أَيْ شِدَّتُهَا هُوَ عِظَمُ مَا يَحْدُثُ فِيهَا مِنَ الْحَوَادِثِ الْمَهُولَةِ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، مِنْ تَصَادُمِ الْكَوَاكِبِ، وَانْخِرَامِ سِيَرِهَا، وَمِنْ زَلَازِلِ الْأَرْضِ وَفَيَضَانِ الْبَرَاكِينِ، وَالْبِحَارِ، وَجَفَافِ الْمِيَاهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَنْشَأُ عَنِ اخْتِلَالِ النظام الَّذِي مَكَان عَلَيْهِ سَيْرُ الْعَالَمِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ يُحْدِثُ شِدَّةً عَظِيمَةً عَلَى كُلِّ ذِي إِدْرَاكٍ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْغَارِ لِلْعَهْدِ، لِغَارٍ يَعْلَمُهُ الْمُخَاطَبُونَ، وَهُوَ الَّذِي اخْتَفَى فِيهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ حِينَ خُرُوجِهِمَا مُهَاجِرَيْنِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَهُوَ غَارٌ فِي جَبَلِ ثَوْرٍ خَارِجَ مَكَّةَ إِلَى جَنُوبِيِّهَا، بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ نَحْوَ خَمْسَةِ أَمْيَالٍ، فِي طَرِيقٍ جَبَلِيٍّ.
وَالْغَارُ الثُّقْبُ فِي التُّرَابِ أَوِ الصَّخْرِ.
وإِذْ الْمُضَافَةُ إِلَى جُمْلَةِ يَقُولُ بَدَلٌ مِنْ إِذْ الْمُضَافَةِ إِلَى جُمْلَةِ هُما فِي الْغارِ بَدَلَ اشْتِمَالٍ.
وَالصَّاحِبُ هُوَ ثانِيَ اثْنَيْنِ وَهُوَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ. وَمَعْنَى الصَّاحِبِ: الْمُتَّصِفُ
بِالصُّحْبَةِ، وَهِيَ الْمَعِيَّةُ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ، وَمِنْهُ سُمِّيَتِ الزَّوْجَةُ صَاحِبَةً، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٠١]. وَهَذَا الْقَوْلُ صَدَرَ مِنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ حِينَ كَانَا مُخْتَفِيَيْنِ فِي غَارِ ثَوْرٍ، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ حَزِينًا إِشْفَاقًا عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَشْعُرَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ، فَيُصِيبُوهُ بِمَضَرَّةٍ، أَوْ يُرْجِعُوهُ إِلَى مَكَّةَ.
وَالْمَعِيَّةُ هُنَا: مَعِيَّةُ الْإِعَانَةِ وَالْعِنَايَةِ، كَمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ مُوسَى وَهَارُونَ: قالَ لَا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما [طه: ٤٦]- وَقَوْلِهِ- إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ [الْأَنْفَال:
١٢].
فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
التَّفْرِيعُ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ السَّكِينَةَ أُنْزِلَتْ عَقِبَ الْحُلُولِ فِي الْغَارِ، وَأَنَّهَا مِنَ النَّصْرِ، إِذْ هِيَ نَصْرٌ نَفْسَانِيٌّ، وَإِنَّمَا كَانَ التَّأْيِيدُ بِجُنُودٍ لَمْ يَرَوْهَا نَصْرًا جُثْمَانِيًّا. وَلَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ نُزُولُ السَّكِينَةِ عَقِبَ قَوْلِهِ: لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا بَلْ إِنَّ قَوْلَهُ ذَلِكَ هُوَ مِنْ آثَارِ سَكِينَةِ اللَّهِ الَّتِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ، وَتِلْكَ السَّكِينَةُ هِيَ مَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِ نَصْرِ اللَّهِ إِيَّاهُ، فَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ حِينَ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَحِينَ كَانَ فِي الْغَارِ، وَحِينَ قَالَ لِصَاحِبِهِ: لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا. فَتِلْكَ
الْمُفَسِّرِينَ. وَمِنَ
الْمُحَقِّقِينَ مَنْ جَعَلَهُ قَيْدًا لِ هُدىً وَرَحْمَةٌ نَاظِرًا إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَة:
٢] فَإِنَّهُ لَمْ يَجْعَلْهُ هُدًى لِغَيْرِ الْمُتَّقِينَ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ.
وَالْوَجْهُ أَنَّ كَوْنَهُ مَوْعِظَةً وَصْفٌ ذَاتِيٌّ لَهُ، لِأَنَّ الْمَوْعِظَةَ هِيَ الْكَلَامُ الْمُحَذِّرُ مِنَ الضُّرِّ وَلِهَذَا عُقِّبَتْ بِقَوْلِهِ: مِنْ رَبِّكُمْ فَكَانَتْ عَامَّةً لِمَنْ خُوطِبَ بِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ. وَأَمَّا كَوْنُهُ شِفَاءً فَهُوَ فِي ذَاتِهِ صَالِحٌ لِلشِّفَاءِ لَكِن الشِّفَاءَ بِالدَّوَاءِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا لِمَنِ اسْتَعْمَلَهُ.
وَأَمَّا كَوْنُهُ هُدًى وَرَحْمَةً فَإِنَّ تَمَامَ وَصْفِ الْقُرْآنِ بِهِمَا يَكُونُ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ حَصَلَتْ لَهُ حَقِيقَتُهُمَا، وَأَمَّا لِمَنْ لَمْ تَحْصُلْ لَهُ آثَارُهُمَا، فَوَصْفُ الْقُرْآنِ بِهِمَا بِمَعْنَى صَلَاحِيَتِهِ لِذَلِكَ، وَهُوَ الْوَصْفُ بِالْقُوَّةِ فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْمَنْطِقِ. وَقَدْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى بِأَنَّهُ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الْإِسْرَاء: ٨٢]، وَصَرَّحَ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ [٢] بِأَنَّهُ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ، فَالْأَظْهَرُ أَنَّ قَيْدَ لِلْمُؤْمِنِينَ رَاجِعٌ إِلَى هُدىً وَرَحْمَةٌ مَعًا إِلَى قَاعِدَةِ الْقَيْدِ الْوَارِدِ بَعْدَ مُفْرَدَاتِ، وَأَمَّا رُجُوعُهُ إِلَى شِفاءٌ فَمُحْتَمَلٌ، لِأَنَّ وَصْفَ شِفاءٌ قَدْ عُقِّبَ بِقَيْدِ لِما فِي الصُّدُورِ فَانْقَطَعَ عَنِ الْوَصْفَيْنِ اللَّذَيْنِ بَعْدَهُ، وَلِأَنَّ تَعْرِيفَ الصُّدُورِ بِاللَّامِ يَقْتَضِي الْعُمُومَ، فَلْيُحْمَلِ الشِّفَاءُ عَلَى مَعْنَى الدَّوَاءِ الَّذِي هُوَ صَالِحٌ لِلشِّفَاءِ لِلَّذِي يَتَنَاوَلُهُ. وَهُوَ إِطْلَاقٌ كَثِيرٌ. وَصُدِّرَ بِهِ فِي «اللِّسَان» و «الْقَامُوس»، وَجَعَلُوا مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي شَأْنِ الْعَسَلِ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ [النَّحْل: ٦٩].
وَأَمَّا تَعْلِيقُ فِعْلِ الْمَجِيءِ بِضَمِيرِ النَّاسِ فِي قَوْلِهِ: قَدْ جاءَتْكُمْ فَبِاعْتِبَارِ كَوْنِهِمُ الْمَقْصُودَ بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ فِي الْجُمْلَةِ. ثُمَّ وَقَعَ التَّفْصِيلُ بِالنِّسْبَةِ لِمَا اخْتَلَفَتْ فِيهِ أَحْوَالُ تَلَقِّيهِمْ وَانْتِفَاعِهِمْ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا [يُونُس: ٥٨] أَيِ الْمُؤْمِنُونَ. وَعَبَّرَ عَنِ الْهُدَى بِالْفَضْلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً
[النِّسَاء: ١٧٤، ١٧٥] فَعَمَّمَ فِي مَجِيءِ الْبُرْهَانِ وَإِنْزَالِ النُّورِ جَمِيعَ النَّاسِ، وَخَصَّصَ فِي الرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ وَالْهِدَايَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهَذَا مُنْتَهَى الْبَلَاغَةِ وَصِحَّة التَّقْسِيم.
[٥٨]
[سُورَة يُونُس (١٠) : آيَة ٥٨]
قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٥٨)
يَتَفَرَّعُ عَلَى كَوْنِ الْقُرْآنِ هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ تَنْبِيهُهُمْ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ
وَتَقْدِيمُ الضَّمِيرِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ يُفِيدُ الِاخْتِصَاصَ، أَيْ نَحْنُ نَقُصُّ لَا غَيْرُنَا، رَدًّا عَلَى مَنْ يَطْعَنُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [سُورَة النَّحْل: ١٠٣] وَقَوْلِهِمْ: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها [سُورَة الْفرْقَان: ٥]- وَقَوْلِهِمْ: يُعَلِّمُهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَامَةِ اسْمُهُ الرَّحْمَانُ. وَقَوْلُ النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ الْمُتَقَدِّمُ دِيبَاجَةُ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ.
وَفِي هَذَا الِاخْتِصَاصِ تَوَافُقٌ بَيْنَ جُمْلَةِ الْبَدَلِ وَالْجُمْلَةِ الْمُبْدَلِ مِنْهَا فِي تَأْكِيدِ كَوْنِ الْقُرْآنِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْمُفَادِ بِقَوْلِهِ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا [سُورَة يُوسُف: ٢].
وَمَعْنَى نَقُصُّ نُخْبِرُ الْأَخْبَارَ السَّالِفَةَ. وَهُوَ مَنْقُولٌ مِنْ قَصَّ الْأَثَرَ إِذَا تَتَبَّعَ مَوَاقِعَ الْأَقْدَامِ لِيَتَعَرَّفَ مُنْتَهَى سَيْرِ صَاحِبِهَا. وَمَصْدَرُهُ: الْقَصُّ بِالْإِدْغَامِ، وَالْقَصَصُ بِالْفَكِّ. قَالَ
تَعَالَى: فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً [سُورَة الْكَهْف: ٦٤]. وَذَلِكَ أَنَّ حِكَايَةَ أَخْبَارِ الْمَاضِينَ تُشْبِهُ اتِّبَاعَ خُطَاهُمْ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ سَمُّوا الْأَعْمَالَ سِيرَةً وَهِيَ فِي الْأَصْلِ هَيْئَةُ السَّيْرِ، وَقَالُوا: سَارَ فُلَانٌ سِيرَةَ فُلَانٍ، أَيْ فَعَلَ مِثْلَ فِعْلِهِ، وَقَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ هَذَا الْإِطْلَاقِ الْمَجَازِيِّ وَبَيْنَ قَصِّ الْأَثَرِ فَخَصُّوا الْمُجَازِيَّ بِالصَّدْرِ الْمُفَكَّكِ وَغَلَّبُوا الْمَصْدَرَ الْمُدْغَمَ عَلَى الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ مَعَ بَقَاءِ الْمَصْدَرِ الْمُفَكَّكِ أَيْضًا كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً.
فَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ هُنَا إِمَّا مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ مُبَيِّنٌ لِنَوْعِ فِعْلِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْقَصَصُ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ وَإِرَادَةِ الْمَفْعُولِ، كَالْخَلْقِ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ، وَهُوَ إِطْلَاقٌ لِلْقَصَصِ شَائِعٌ أَيْضًا. قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ [سُورَة يُوسُف: ١١١]. وَقَدْ يَكُونُ وَزْنُ فَعَلٍ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَالنَّبَأِ وَالْخَبَرِ بِمَعْنَى الْمُنَبَّأِ بِهِ وَالْمُخْبَرِ بِهِ، وَمِثْلُهُ الْحَسَبُ وَالنَّقَضُ.
وَجُعِلَ هَذَا الْقَصَصُ أَحْسَنَ الْقَصَصِ لِأَنَّ بَعْضَ الْقَصَصِ لَا يَخْلُو عَنْ حُسْنٍ تَرْتَاحُ لَهُ النُّفُوسُ. وَقَصَصُ الْقُرْآنِ أَحْسَنُ مِنْ قَصَصِ غَيْرِهِ مِنْ جِهَةِ حُسْنِ نَظْمِهِ وَإِعْجَازِ أُسْلُوبِهِ وَبِمَا يَتَضَمَّنُهُ مِنَ الْعِبَرِ وَالْحِكَمِ، فَكُلُّ قَصَصٍ فِي الْقُرْآنِ هُوَ أَحْسَنُ الْقَصَصِ فِي بَابِهِ، وَكُلُّ قِصَّةٍ فِي الْقُرْآنِ هِيَ أَحْسَنُ مِنْ كُلِّ مَا يَقُصُّهُ
الَّذِينَ كَفَرُوا رُسُلَهُمْ تَكْذِيبًا قَاطِعًا وَتَوَقَّعَ الرُّسُلُ أَذَاةَ قَوْمِهِمْ إِيَّاهُمْ شَأْنَ الْقَاطِعِ بِكَذِبِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنَ اللَّهِ، وَلِأَنَّهُم قد بدأوهم بِالْأَذَى كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُمْ: وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى مَا آذَيْتُمُونا. أَظْهَرَ الرُّسُلُ لِقَوْمِهِمْ أَنَّهُمْ غَيْرُ غَافِلِينَ عَنْ ذَلِكَ وَأَنَّهُمْ يَتَلَقَّوْنَ مَا عَسَى أَنْ يُوَاجِهَهُمْ بِهِ الْمُكَذِّبُونَ مِنْ أَذًى بِتَوَكُّلِهِمْ عَلَى اللَّهِ هُمْ وَمَنْ آمن مَعَهم فابتدأوا بِأَنْ أَمَرُوا الْمُؤْمِنِينَ بِالتَّوَكُّلِ تَذْكِيرًا لَهُمْ لِئَلَّا يَتَعَرَّضَ إِيمَانُهُمْ إِلَى زَعْزَعَةِ الشَّكِّ حِرْصًا عَلَى ثَبَاتِ الْمُؤْمِنِينَ،
كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: «أَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْن الْخَطَّابِ»
. وَفِي ذَلِكَ الْأَمْرِ إِيذَانٌ بِأَنَّهُم لَا يعبأون بِمَا يُضْمِرُهُ لَهُمُ الْكَافِرُونَ مِنَ الْأَذَى، كَقَوْلِ السَّحَرَةِ لِفِرْعَوْنَ حِينَ آمَنُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ [سُورَة الشُّعَرَاء: ٥٠].
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ مُؤُذِنٌ بِالْحَصْرِ وَأَنَّهُمْ لَا يَرْجُونَ نَصْرًا مِنْ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى لِضَعْفِهِمْ وَقِلَّةِ نَاصِرِهِمْ. وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُمْ وَاثِقُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ.
وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ بِالْوَاوِ عَطْفَ الْإِنْشَاءِ عَلَى الْخَبَرِ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ رابطة لجملة (ليتوكل الْمُؤْمِنُونَ) بِمَا أَفَادَهُ
تَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ. وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ عَجِبْتُمْ مِنْ قِلَّةِ اكْتِرَاثِنَا بِتَكْذِيبِكُمْ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، وَإِنْ خَشِيتُمْ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّهُمْ لَنْ يَضِيرَهُمْ عَدُوُّهُمْ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [٢٣].
وَالتَّوَكُّلُ: الِاعْتِمَادُ وَتَفْوِيضُ التَّدْبِيرِ إِلَى الْغَيْرِ ثِقَةٌ بِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَصْلُحُ، فَالتَّوَكُّلُ عَلَى اللَّهِ تَحَقَّقَ أَنَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَنْفَعُ أَوْلِيَاءَهُ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى التَّوَكُّلِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٥٩].
وَجُمْلَةُ وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ اسْتِدْلَالٌ عَلَى صِدْقِ رَأْيِهِمْ فِي تَفْوِيضِ
الْعَرَبُ الْحَلْبَ عَلَى عَصِيرِ الْخَمْرِ وَالنَّبِيذِ، قَالَ حَسَّانٌ يَذْكُرُ الْخَمْرَ الْمَمْزُوجَةَ وَالْخَالِصَةَ:
كِلْتَاهُمَا حَلَبَ الْعَصِيرَ فَعَاطِنِي بِزُجَاجَةٍ أَرْخَاهُمَا لِلْمَفْصِلِ
وَيُشِيرُ إِلَى كَوْنِهِمَا عِبْرَتَيْنِ مِنْ نَوْعٍ مُتَقَارِبٍ جَعْلُ التَّذْيِيلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً عَقِبَ ذِكْرِ السَّقْيَيْنِ دُونَ أَنْ يُذَيِّلَ سَقْيَ الْأَلْبَانِ بِكَوْنِهِ آيَةً، فَالْعِبْرَةُ فِي خلق تِلْكَ الثِّمَارِ صَالِحَةً لِلْعَصْرِ وَالِاخْتِمَارِ، وَمُشْتَمِلَةً عَلَى مَنَافِعَ لِلنَّاسِ وَلَذَّاتٍ. وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. فَهَذَا مُرْتَبِطٌ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْعِبْرَةِ بِخَلْقِ النَّبَاتِ وَالثَّمَرَاتِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ [سُورَة النَّحْل: ١١] الْآيَةَ.
وَجُمْلَةُ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً إِلَخْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ.
وَ (مِنْ) فِي الْمَوْضِعَيْنِ ابْتِدَائِيَّةٌ، فَالْأُولَى مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلِ نُسْقِيكُمْ الْمُقَدَّرِ، وَالثَّانِيَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلِ تَتَّخِذُونَ. وَلَيْسَتِ الثَّانِيَةُ تَبْعِيضِيَّةً، لِأَنَّ السَّكَرَ لَيْسَ بَعْضَ الثَّمَرَاتِ، فَمَعْنَى الِابْتِدَاءِ يَنْتَظِمُ كِلَا الْحَرْفَيْنِ.
وَالسَّكَرُ- بِفَتْحَتَيْنِ-: الشَّرَابُ الْمُسْكِرُ.
وَهَذَا امْتِنَانٌ بِمَا فِيهِ لَذَّتُهُمُ الْمَرْغُوبَةُ لَدَيْهِمْ وَالْمُتَفَشِّيَةُ فِيهِمْ (وَذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ وَتَحْرِيمُ الْخَمْرِ نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ) فَالِامْتِنَانُ حِينَئِذٍ بِمُبَاحٍ.
وَالرِّزْقُ: الطَّعَامُ، وَوُصِفَ بِ حَسَناً لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَنَافِعِ، وَذَلِكَ التَّمْرُ وَالْعِنَبُ
لِأَنَّهُمَا حُلْوَانِ لَذِيذَانِ يُؤْكَلَانِ رَطْبَيْنِ وَيَابِسَيْنِ قَابِلَانِ لِلِادِّخَارِ، وَمِنْ أَحْوَالِ عَصِيرِ الْعِنَبِ أَنْ يَصِيرَ خَلًّا وَرُبًّا.
وَجُمْلَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ تَكْرِيرٌ لِتَعْدَادِ الْآيَةِ لِأَنَّهَا آيَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ.
وَمَعْنَى الِاجْتِمَاعِ: الِاتِّفَاقُ وَاتِّحَادُ الرَّأْيِ، أَيْ لَوْ تَوَارَدَتْ عُقُولُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ عَلَى أَنْ يَأْتِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَمَا أَتَوْا بِمِثْلِهِ. فَهُوَ اجْتِمَاعُ الرَّأْيِ لَا اجْتِمَاعُ التَّعَاوُنِ، كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْمُبَالَغَةُ فِي قَوْلِهِ بَعْدَهُ: وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً.
وَذِكْرُ الْجِنِّ مَعَ الْإِنْسِ لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ، كَمَا يُقَالُ: «لَوِ اجْتَمَعَ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ»، وَأَيْضًا لَأَنَّ الْمُتَحَدَّيْنَ بِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ الْجِنَّ يَقْدِرُونَ عَلَى الْأَعْمَالِ الْعَظِيمَةِ.
وَالْمُرَادُ بِالْمُمَاثَلَةِ لِلْقُرْآنِ: الْمُمَاثَلَةُ فِي مَجْمُوعِ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ وَالْمَعَانِي وَالْآدَابِ وَالشَّرَائِعِ، وَهِيَ نَوَاحِي إِعْجَازِ الْقُرْآنِ اللَّفْظِيِّ وَالْعِلْمِيِّ.
وَجُمْلَةُ لَا يَأْتُونَ جَوَابُ الْقَسَمِ الْمُوَطَّأِ لَهُ بِاللَّامِ. وَجَوَابُ (إِنِ) الشَّرْطِيَّةِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ جَوَابُ الْقَسَمِ.
وَجُمْلَةُ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً فِي مَوْقِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ لَا يَأْتُونَ.
وَ (لَوْ) وَصْلِيَّةٌ، وَهِيَ تُفِيدُ أَنَّ مَا بَعْدَهَا مَظِنَّةُ أَنْ لَا يَشْمَلَهُ مَا قَبْلَهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهَا عِنْدَ قَوْلِهِ: وَلَوِ افْتَدى بِهِ فِي سُورَة آلِ عِمْرَانَ [٩١].
وَالظَّهِيرُ: الْمُعِينُ. وَالْمَعْنَى: وَلَوْ تَعَاوَنَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ لَمَا أَتَوْا بِمِثْلِهِ فَكَيْفَ بِهِمْ إِذَا حَاوَلُوا ذَلِكَ مُتَفَرِّقِينَ.
وَفَائِدَةُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ تَأْكِيدُ مَعْنَى الِاجْتِمَاعِ الْمَدْلُولِ بِقَوْلِهِ: لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ أَنَّهُ اجْتِمَاعٌ تَظَافَرَ عَلَى عَمَلٍ وَاحِدٍ وَمَقْصِدٍ وَاحِدٍ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ مُفْحِمَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ فِي التَّحَدِّي بإعجاز الْقُرْآن.
وَفُرِّعَ عَلَى كَوْنِهَا آتِيَةً وَأَنَّهَا مُخْفَاةٌ التَّحْذِيرُ مِنْ أَنْ يَصُدَّهُ عَنِ الْإِيمَانِ بِهَا قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ بِوُقُوعِهَا اغْتِرَارًا بِتَأَخُّرِ ظُهُورِهَا، فَالتَّفْرِيعُ عَلَى قَوْلِهِ أَكادُ أُخْفِيها أَوْقَعُ لِأَنَّ ذَلِكَ الْإِخْفَاءَ هُوَ الَّذِي يُشَبِّهُ بِهِ الَّذِينَ أَنْكَرُوا الْبَعْثَ عَلَى النَّاسِ، قَالَ تَعَالَى: فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً [الْإِسْرَاء: ٥١] وَقَالَ: وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ [الجاثية: ٣٢].
وَصِيغَ نَهْيُ مُوسَى عَنِ الصَّدِّ عَنْهَا فِي صِيغَةِ نَهْيِ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِالسَّاعَةِ عَنْ أَنْ يُصَدَّ مُوسَى عَنِ الْإِيمَانِ بِهَا، مُبَالَغَةً فِي نَهْيِ مُوسَى عَنْ أَدْنَى شَيْءٍ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ بِالسَّاعَةِ، لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَّهَ الْكَلَامَ إِلَيْهِ وَكَانَ النَّهْيُ نَهْيَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِ عَنْ أَنْ يَصُدَّ مُوسَى، عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ نَهْيُ مُوسَى عَنْ مُلَابَسَةِ صَدِّ الْكَافِرِ عَنِ الْإِيمَانِ بِالسَّاعَةِ، أَيْ لَا تَكُنْ لَيِّنَ الشَّكِيمَةِ لِمَنْ يَصُدَّكَ وَلَا تُصْغِ إِلَيْهِ فَيَكُونُ لِينُكَ لَهُ مُجَرِّئًا إِيَّاهُ عَلَى أَنْ يَصُدَّكَ، فَوَقَعَ النَّهْيُ عَنِ الْمُسَبَّبِ. وَالْمُرَادُ النَّهْيُ عَنِ السَّبَبِ، وَهَذَا الْأُسْلُوبُ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِمْ: لَا أَعْرِفَنَّكَ تَفْعَلُ كَذَا وَلَا أَرَيَنَّكَ هَاهُنَا.
وَزِيَادَةُ وَاتَّبَعَ هَواهُ لِلْإِيمَاءِ بِالصِّلَةِ إِلَى تَعْلِيلِ الصَّدِّ، أَيْ لَا دَاعِيَ لَهُمْ لِلصَّدِّ عَنِ الْإِيمَانِ بِالسَّاعَةِ إِلَّا اتِّبَاعَ الْهَوَى دُونَ دَلِيلٍ وَلَا شُبْهَةٍ، بَلِ الدَّلِيلُ يَقْتَضِي الْإِيمَانَ بِالسَّاعَةِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى.
وَفُرِّعَ عَلَى النَّهْيِ أَنَّهُ إِنْ صُدَّ عَنِ الْإِيمَانِ بِالسَّاعَةِ رَدِيَ، أَيْ هَلَكَ. وَالْهَلَاكُ مُسْتَعَارٌ لِأَسْوَأِ الْحَالِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي سُورَةِ بَرَاءَة [٤٢].
والتفريع ناشىء عَن ارْتِكَابِ الْمَنْهِيِّ لَا عَلَى النَّهْيِ، وَلِذَلِكَ جِيءَ بِالتَّفْرِيعِ بِالْفَاءِ وَلَمْ يَقَعْ بِالْجَزَاءِ الْمَجْزُومِ، فَلَمْ يَقُلْ: تَرْدَ، لِعَدَمِ صِحَّةِ
وَهَذَا ارْتِقَاءٌ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْإِحْيَاءِ بَعْدَ الْمَوْتِ بِقِيَاسِ التَّمْثِيلِ لِأَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ بِحَالَةٍ مُشَاهَدَةٍ فَلِذَلِكَ افْتُتِحَ بِفِعْلِ الرُّؤْيَةِ، بِخِلَافِ الِاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِ الْإِنْسَانِ فَإِنَّ مَبْدَأَهُ غَيْرُ مُشَاهَدٍ فَقِيلَ فِي شَأْنِهِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ الْآيَةَ. وَمَحَلُّ الِاسْتِدْلَالِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:
فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ، فَهُوَ مُنَاسِبٌ قَوْلَهُ فِي الِاسْتِدْلَالِ الْأَوَّلِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ، فَهُمُودُ الْأَرْضِ بِمَنْزِلَةِ مَوْتِ الْإِنْسَانِ وَاهْتِزَازُهَا وَإِنْبَاتُهَا بَعْدَ ذَلِكَ يُمَاثِلُ الْإِحْيَاءَ بَعْدَ الْمَوْتِ.
وَالْهُمُودُ: قَرِيبٌ مِنَ الْخُمُودِ، فَهُمُودُ الْأَرْضِ جَفَافُهَا وَزَوَالُ نَبْتِهَا، وَهُمُودُ النَّارِ خُمُودُهَا.
وَالِاهْتِزَازُ: التَّحَرُّكُ إِلَى أَعْلَى، فَاهْتِزَازُ الْأَرْضِ تَمْثِيلٌ لِحَالِ ارْتِفَاعِ تُرَابِهَا بِالْمَاءِ وَحَالِ ارْتِفَاعِ وَجَهِهَا بِمَا عَلَيْهِ مِنَ الْعُشْبِ بِحَالِ الَّذِي يَهْتَزُّ وَيَتَحَرَّكُ إِلَى أَعْلَى.
وَرَبَتْ: حَصَلَ لَهَا رُبُوٌّ- بِضَمِّ الرَّاءِ وَضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ- وَهُوَ ازْدِيَادُ الشَّيْءِ يُقَالُ: رَبَا يَرْبُو رُبُوًّا، وَفُسِّرَ هُنَا بِانْتِفَاخِ الْأَرْضِ مِنْ تَفَتُّقِ النَّبْتِ وَالشَّجَرِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَرَبَأَتْ بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَ الْمُوَحَّدَةِ، أَيِ ارْتَفَعَتْ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: رَبَأَ بِنَفْسِهِ عَنْ كَذَا، أَيِ ارْتَفَعَ مَجَازًا، وَهُوَ فِعْلٌ مُشْتَقٌّ مِنِ اسْمِ الرَّبِيئَةِ وَهُوَ الَّذِي يَعْلُو رَبْوَةً مِنَ الْأَرْضِ لِيَنْظُرَ هَلْ مِنْ عَدُوٍّ يَسِيرُ إِلَيْهِمْ.
وَالزَّوْجُ: الصِّنْفُ مِنَ الْأَشْيَاءِ. أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ الزَّوْجِ تَشْبِيهًا لَهُ بِالزَّوْجِ مِنَ الْحَيَوَانِ وَهُوَ صِنْفُ الذَّكَرِ وَصِنْفُ الْأُنْثَى، لِأَنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِنْ أَحَدِ الصِّنْفَيْنِ يَقْتَرِنُ بِالْفَرْدِ مِنَ الصِّنْفِ الْآخَرِ فَيَصِيرُ زَوْجًا فَيُسَمَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا زَوْجًا بِهَذَا الْمَعْنَى، ثُمَّ شَاعَ إِطْلَاقُهُ عَلَى أَحَدِ الصِّنْفَيْنِ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى كُلِّ نَوْعٍ وَصِنْفٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَكَرًا وَلَا أُنْثَى، فَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى أَنْوَاعِ النَّبَاتِ.
لِوَضْعِ مَتَاعِهِ بدَلَالَةِ لَحْنِ الْخَطَابِ.
وَكَذَلِكَ يَشْمَلُ دُخُولَ الْمُسَافِرِ وَإِنْ كَانَ لَا مَتَاعَ لَهُ لِقَصْدِ التَّظَلُّلِ أَوِ الْمَبِيتِ بِدَلَالَةِ لَحْنِ الْخِطَابِ أَوْ الْقِيَاسِ.
وَقَدْ فُسِّرَ الْمَتَاعُ بِالْمَصْدَرِ، أَيِ التَّمَتُّعُ وَالِانْتِفَاعُ. قَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ: كُلُّ مَنَافِعِ الدُّنْيَا مَتَاعٌ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: هَذَا شَرْحٌ حَسَنٌ مِنْ قَوْلِ إِمَامٍ مِنْ أَيِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِلُّغَةِ، وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ فِي «الْكَشَّافِ». وَنَوَّهَ بِهَذَا التَّفْسِيرِ أَبُو بَكْرٍ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فَيَكُونُ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ مَنْ لَا مَنْفَعَةَ لَهُ فِي دُخُولِهَا لَا يُؤْذَنُ لَهُ فِي دُخُولِهَا لِأَنَّهُ يَضِيقُ عَلَى أَصْحَابِ الِاحْتِيَاجِ إِلَى بِقَاعِهَا.
وَجُمْلَةُ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّحْذِيرِ مِنْ تَجَاوُزِ مَا أَشَارَتْ إِلَيْهِ الْآيَةُ مِنَ الْقُيُودِ وَهِيَ كَوْنُ الْبُيُوتِ غَيْرَ مَسْكُونَةٍ وَكَون الدَّاخِل مُحْتَاجا إِلَى دُخُولِهَا بَلْهَ أَنْ يَدْخُلَهَا بِقَصْدِ التَّجَسُّسِ عَلَى قُطَّانِهَا أَوْ بِقَصْدِ أَذَاهُمْ أَوْ سَرقَة مَتَاعهمْ.
[٣٠]
[سُورَة النُّور (٢٤) : آيَة ٣٠]
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (٣٠)
أَعْقَبَ حُكْمَ الِاسْتِئْذَانِ بِبَيَانِ آدَابِ مَا تَقْتَضِيهِ الْمُجَالَسَةُ بَعْدَ الدُّخُولِ وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ الدَّاخِلُ إِلَى الْبَيْتِ مُحَدِّقًا بَصَرَهُ إِلَى امْرَأَةٍ فِيهِ بَلْ إِذَا جَالَسَتْهُ الْمَرْأَةُ غَضَّ بَصَرَهُ وَاقْتَصَرَ عَلَى الْكَلَامِ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهَا إِلَّا النَّظَرَ الَّذِي يَعْسُرُ صَرْفُهُ.
وَلَمَّا كَانَ الْغَضُّ التَّامُّ لَا يُمْكِنُ جِيءَ فِي الْآيَةِ بِحَرْفِ مِنْ الَّذِي هُوَ لِلتَّبْعِيضِ إِيمَاءٌ إِلَى ذَلِكَ إِذْ مِنَ الْمَفْهُومِ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِالْغَضِّ فِيهِ هُوَ مَا لَا يَلِيقُ تَحْدِيقُ النَّظَرِ إِلَيْهِ وَذَلِكَ يَتَذَكَّرُهُ الْمُسْلِمُ مِنِ اسْتِحْضَارِهِ أَحْكَامَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فِي هَذَا الشَّأْنِ فَيَعْلَمُ أَنَّ غَضَّ الْبَصَرِ مَرَاتِبٌ: مِنْهُ وَاجِبٌ وَمِنْهُ دُونُ ذَلِكَ، فَيَشْمَلُ غَضُّ الْبَصَرِ عَمَّا اعْتَادَ النَّاسُ كَرَاهِيَةَ التَّحَقُّقِ فِيهِ كَالنَّظَرِ إِلَى خَبَايَا الْمَنَازِلِ، بِخِلَافِ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ فَقَدْ
جَاءَ فِي حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ حِينَ
فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [٢٤]. وَالْجَنَاحُ لِلطَّائِرِ بِمَنْزِلَةِ الْيَدَيْنِ لِلدَّوَابِّ، وَبِالْجَنَاحَيْنِ يَكُونُ الطَّيَرَانُ.
ومِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَيَانٌ لِمَنِ اتَّبَعَكَ فَإِنَّ الْمُرَادَ الْمُتَابَعَةُ فِي الدِّينِ وَهِيَ الْإِيمَانُ.
وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا الْبَيَانِ التَّنْوِيهُ بِشَأْنِ الْإِيمَانِ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لَهُمْ لِأَجْلِ إِيمَانِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الْأَنْعَام: ٣٨] وَجَبْرٍ لِخَاطِرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ قَرَابَتِهِ. وَلِذَلِكَ لَمَّا نَادَى فِي دُعَائِهِ صَفِيَّةَ قَالَ: «عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ» وَلَمَّا نَادَى فَاطِمَةَ قَالَ:
«بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ» تَأْنِيسًا لَهُمَا، فَهَذَا مِنْ خَفْضِ الْجَنَاحِ، وَلَمْ يُقَلْ مِثْلَ ذَلِكَ لِلْعَبَّاسِ لِأَنَّهُ كَانَ يَوْمئِذٍ مُشْركًا.
[٢١٦]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : آيَة ٢١٦]
فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢١٦)
تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشُّعَرَاء: ٢١٤] أَي فَإِن عَصَوْا أَمْرَكَ الْمُسْتَفَادَ مِنَ الْأَمْرِ بِالْإِنْذَارِ، أَيْ فَإِنْ عَصَاكَ عَشِيرَتُكَ فَمَا عَلَيْكَ إِلَّا أَنْ تَتَبَرَّأَ مِنْ عَمَلِهِمْ، وَهَذَا هُوَ مَثَارُ
قَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ فِي دَعْوَتِهِ: «غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبَلَالِهَا»
فَالتَّبَرُّؤُ إِنَّمَا هُوَ مِنْ كُفْرِهِمْ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ صِلَتِهِمْ لِأَجْلِ الرَّحِمِ وَإِعَادَةِ النُّصْحِ لَهُمْ كَمَا قَالَ:
قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الشورى: ٢٣]. وَإِنَّمَا أُمِرَ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ ذَلِكَ لِإِظْهَارِ أَنَّهُمْ أَهْلٌ لِلتَّبَرُّؤِ مِنْ أَعْمَالِهِمْ فَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى إِضْمَارِ ذَلِكَ فِي نَفسه.
[٢١٧- ٢٢٠]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ٢١٧ إِلَى ٢٢٠]
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٢١٧) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٨) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٢١٩) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٢٢٠)
وَعَطَفَ الْأَمْرَ بِالتَّوَكُّلِ بِفَاءِ التَّفْرِيعِ فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ وَابْنِ عَامِرٍ وَأَبِي جَعْفَرٍ فَيَكُونُ تَفْرِيعًا عَلَى: فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [الشُّعَرَاء: ٢١٦] تَنْبِيهًا عَلَى الْمُبَادَرَةِ بِالْعَوْذِ مِنْ شَرِّ أُولَئِكَ الْأَعْدَاءِ وَتَنْصِيصًا عَلَى اتِّصَالِ التَّوَكُّلِ بِقَوْلِهِ: إِنِّي بَرِيءٌ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَتَوَكَّلْ بِالْوَاوِ وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ، أَيْ قُلْ: إِنِّي بَرِيءٌ وَتَوَكَّلْ، وَعَطْفُهُ عَلَى الْجَوَابِ يَقْتَضِي تَسَبُّبَهُ عَلَى الشَّرْطِ كَتَسَبُّبِ الْجَوَابِ وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ الْبِدَارَ بِهِ، فَمَآلُ الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ وَإِنِ اخْتَلَفَ طَرِيقُ انْتِزَاعِهِ.
الْإِيمَانِ وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُمْ مَوْقِعَ الْمُبَاغَتَةِ وَالتَّعَجُّبِ، وَتَقَدَّمَ التَّرْكُ الْمَجَازِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لَا يُبْصِرُونَ أَوَائِلَ الْبَقَرَةِ [١٧].
وأَنْ يَقُولُوا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ الَّذِي هُوَ لَامُ التَّعْلِيلِ. وَالتَّقْدِيرُ:
لِأَجْلِ أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا.
وَجُمْلَةُ وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ حَالٌ، أَي لَا يحسبوا أَنَّهُمْ سَالِمُونَ مِنَ الْفِتْنَةِ إِذَا آمَنُوا.
وَالْفِتَنُ وَالْفُتُونُ: فَسَادُ حَالِ النَّاسِ بِالْعُدْوَانِ وَالْأَذَى فِي الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَهْلِينَ.
وَالِاسْمُ: الْفِتْنَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٠٢].
وَبِنَاءُ فِعْلَيْ يُتْرَكُوا... ويُفْتَنُونَ لِلْمَجْهُولِ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْ ذِكْرِ الْفَاعِلِ لِظُهُورِ أَنَّ الْفَاعِلَ قَوْمٌ لَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ، أَيْ أَنْ يُتْرَكُوا خَالِينَ عَنْ فُتُونِ الْكَافِرِينَ إِيَّاهُمْ لِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ مِنَ الْأَحْدَاثِ قُبَيْلَ نُزُولِهَا، وَلِمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ دَأْبِ النَّاسِ أَنْ يُنَاصِبُوا الْعَدَاءَ مَنْ خَالَفَهُمْ
فِي مُعْتَقَدَاتِهِمْ وَمَنْ تَرَفَّعَ عَنْ رَذَائِلِهِمْ. وَالْمَعْنَى: أَحَسِبَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا أَنْ يَتْرُكَهُمْ أَعْدَاءُ الدِّينِ دُونَ أَنْ يَفْتِنُوهُمْ. وَمَنْ فَسَّرُوا الْفُتُونَ هُنَا بِمَا شَمِلَ التَّكَالِيفَ الشَّاقَّةَ مِثْلَ الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ قَدِ ابْتَعَدُوا عَنْ مَهْيَعِ الْمَعْنَى وَاللَّفْظِ وَنَاكَدُوا مَا تَفَرَّعَ عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ [العنكبوت: ٣].
وَإِنَّمَا لَمْ نُقَدِّرْ فَاعِلَ يُتْرَكُوا ويُفْتَنُونَ أَنَّهُ الله تَعَالَى تحاشا مَعَ التَّشَابُهِ مَعَ وُجُودِ مَنْدُوحَةٍ عَنْهُ.
وَهَذِهِ الْفِتْنَةُ مَرَاتِبُ أَعْظَمُهَا التَّعْذِيبُ كَمَا فُعِلَ بِبِلَالٍ، وَعَمَّارِ بْنِ يَاسر وأبويه.
[٣]
[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ٣]
وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (٣)
انْتِقَالٌ إِلَى التَّنْوِيهِ بِالْفُتُونِ لِأَجْلِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ بِأَنَّهُ سُنَّةُ اللَّهِ فِي سَالِفِ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَتَأْكِيدُ الْجُمْلَةِ بِلَامِ الْقَسَمِ وَحَرْفِ التَّحْقِيقِ لِتَنْزِيلِ الْمُؤْمِنِينَ حِينَ اسْتَعْظَمُوا مَا نَالَهُمْ
فَلَمَّا عَرَفْتُ الْيَأْسَ مِنْهُ وَقَدْ بَدَتْ أَيَادِي سَبَا الْحَاجَاتِ لِلْمُتَذَكِّرِ
فَأَضَافَ مَجْمُوعَ (أَيَادِي سَبَا) وَهُوَ كَالْمُفْرَدِ لِأَنَّهُ جَرَى مَجْرَى الْمَثَلِ إِلَى الْحَاجَاتِ.
وَقَالَ بَعْضُ رُجَّازِهِمْ:
أَنَا ابْنُ عَمِّ اللَّيْلِ وَابْنُ خَالِهِ إِذَا دُجًى دَخَلْتُ فِي سِرْبَالِهِ
فَأَضَافَ (ابْنُ عَمِّ) إِلَى لَفْظِ (اللَّيْلِ)، وَأَضَافَ (ابْنُ خَالٍ) إِلَى ضَمِيرِ (اللَّيْلِ) عَلَى مَعْنَى أَنَا مُخَالِطُ اللَّيْلِ، وَلَا يُرِيدُ إِضَافَةَ عَمٍّ وَلَا خَالٍ إِلَى اللَّيْلِ. وَمِنْ هَذَا اسْمُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسِ الرُّقَيَّاتِ، فَالْمُضَافُ إِلَى (الرُّقَيَّاتِ) هُوَ مَجْمُوعُ الْمُرَكَّبِ إِمَّا (عَبْدُ اللَّهِ)، أَوِ (ابْنُ قَيْسٍ)
لَا أَحَدُ مُفْرَدَاتِهِ. وَهَذِهِ الْإِضَافَةُ قَرِيبَةٌ مِنْ إِضَافَةِ الْعَدَدِ الْمُرَكَّبِ إِلَى مَنْ يُضَافُ إِلَيْهِ مَعَ بَقَاءِ اسْمِ الْعَدَدِ عَلَى بِنَائِهِ كَمَا تَقُولُ: أَعْطِهِ خَمْسَةَ عَشْرَةَ.
وَتُسَمَّى هَذِهِ السُّورَةُ أَيْضًا سُورَةَ الْمَضَاجِعِ لِوُقُوعِ لَفْظِ الْمَضاجِعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ [السَّجْدَة: ١٦].
وَفِي «تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ» عَنْ «مُسْنَدِ الدَّارِمِيِّ» أَنَّ خَالِدَ بْنَ مَعْدَانَ (١) سَمَّاهَا: الْمُنْجِيَةَ.
قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلًا يَقْرَؤُهَا مَا يَقْرَأُ شَيْئًا غَيْرَهَا، وَكَانَ كَثِيرَ الْخَطَايَا فَنَشَرَتْ جَنَاحَهَا وَقَالَتْ: رَبِّ اغْفِرْ لَهُ فَإِنَّهُ كَانَ يُكْثِرُ مِنْ قِرَاءَتِي فَشَفَّعَهَا الرَّبُّ فِيهِ وَقَالَ: اكْتُبُوا لَهُ بِكُلِّ خَطِيئَةٍ حَسَنَةً وَارْفَعُوا لَهُ دَرَجَةً اهـ. وَقَالَ الطَّبَرَسِيُّ: تُسَمَّى (سُورَةَ سَجْدَةِ لُقْمَانَ) لِوُقُوعِهَا بَعْدَ سُورَةِ لُقْمَانَ لِئَلَّا تَلْتَبِسَ بِسُورَةِ (حم السَّجْدَةِ)، أَيْ كَمَا سَمَّوْا سُورَةَ (حم السَّجْدَةِ) وَهِيَ سُورَةُ فُصِّلَتْ (سُورَةَ سَجْدَةِ الْمُؤْمِنِ) لِوُقُوعِهَا بَعْدَ سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ فِي إِطْلَاقِ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ وَإِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ اسْتِثْنَاءُ ثَلَاثِ آيَاتٍ مَدَنِيَّةٍ وَهِيَ: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ
_________
(١) خَالِد بن معدان الكلَاعِي الْحِمصِي أَبُو عبد الله من فُقَهَاء التَّابِعين. توفّي سنة ثَلَاث أَو أَربع أَو ثَمَان وَمِائَة، روى عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة مُرْسلا.
بِسُورَةٍ مِثْلِهِ فَلَمْ يَفْعَلُوا، وَلَوْ كَانُوا يَنْبِزُونَهُ بِنَقْصٍ أَوْ سَخَفٍ لَقَالُوا: نَحْنُ نَتَرَفَّعُ عَنْ مُعَالَجَةِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ.
وَمَعْنَى بَيْنَ يَدَيْهِ الْقَرِيبُ مِنْهُ سَوَاءً كَانَ سَابِقًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ [سبأ: ٤٦]
وَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُعِثْتُ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ»
(١) أَمْ كَانَ جَائِيًا بَعْدَهُ كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٥٠]. وَلَيْسَ مُرَادًا هُنَا لِأَنَّهُ غَيْرُ مَفْرُوضٍ وَلَا مُدَّعًى.
وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ.
أُرْدِفَتْ حِكَايَاتُ أَقْوَالِهِمْ وَكُفْرَانِهِمْ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ أَصْنَافِهَا بِذِكْرِ جَزَائِهِمْ وَتَصْوِيرِ فَظَاعَتِهِ بِمَا فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ الْآيَةَ مِنَ الْإِبْهَامِ الْمُفِيدِ لِلتَّهْوِيلِ. وَالْمُنَاسَبَةُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ [سبأ: ٢٩] فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ أَلْقَمَهُمُ الْحَجَرَ بِقَوْلِهِ: قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ [سبأ: ٣٠] الَخْ أَتْبَعَهُ بِتَصْوِيرِ حَالِهِمْ فِيهِ.
وَالْخِطَابُ فِي وَلَوْ تَرى لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لِتَلَقِّي الْخِطَابِ مِمَّنْ تَبْلُغُهُ هَذِهِ الْآيَةُ، أَيْ
وَلَوْ يَرَى الرَّائِي هَذَا الْوَقْتَ.
وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ لِلتَّهْوِيلِ وَهُوَ حَذْفٌ شَائِعٌ. وَتَقْدِيرُهُ: لَرَأَيْتَ أَمْرًا عَجَبًا.
وإِذِ ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِ تَرى أَيْ لَوْ تَرَى فِي الزَّمَانِ الَّذِي يُوقَفُ فِيهِ الظَّالِمُونَ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِمْ.
والظَّالِمُونَ: الْمُشْرِكُونَ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَان: ١٣] وَتَقَدَّمَ قَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٢٧]، وَقَدْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ إِيقَافٌ جَمَعَ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَالَّذِينَ دَعَوْهُمْ إِلَى الْإِشْرَاكِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَيَوْمَ
_________
(١) رَوَاهُ أَحْمد فِي «مُسْنده» وَأَبُو يعلى وَالطَّبَرَانِيّ.
وَذِكْرُ أَوَّلِ غَوَايَةٍ حَصَلَتْ وَأَصْلِ كُلِّ ضَلَالَةٍ وَهِيَ غَوَايَةُ الشَّيْطَانِ فِي قِصَّةِ السُّجُودِ لِآدَمَ.
وَقَدْ جَاءَتْ فَاتِحَتُهَا مُنَاسِبَةً لِجَمِيعِ أَغْرَاضِهَا إِذِ ابْتُدِئَتْ بِالْقَسَمِ بِالْقُرْآنِ الَّذِي كَذَّبَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ، وَجَاءَ الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ وَكُلُّ مَا ذُكِرَ فِيهَا مِنْ أَحْوَالِ الْمُكَذِّبِينَ سَبَبُهُ اعْتِزَازُهِمْ وَشِقَاقُهُمْ، وَمِنْ أَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ سَبَبُهُ ضِدُّ ذَلِكَ، مَعَ مَا فِي الِافْتِتَاحِ بِالْقَسَمِ مِنَ التَّشْوِيقِ إِلَى مَا بَعْدَهُ فَكَانَتْ فَاتِحَتُهَا مُسْتَكْمِلَةً خَصَائِصَ حسن الِابْتِدَاء.
[١]
[سُورَة ص (٣٨) : آيَة ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١)
ص الْقَوْلُ فِي هَذَا الْحَرْفِ كَالْقَوْلِ فِي نَظَائِرِهِ مِنَ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ الْوَاقِعَةِ فِي أَوَائِلِ
بَعْضِ السُّوَرِ بِدُونِ فَرْقٍ أَنَّهَا مَقْصُودَةٌ لِلتَّهَجِّي تَحَدِّيًا لِبُلَغَاءِ الْعَرَبِ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ وَتَوَرُّكًا عَلَيْهِمْ إِذْ عَجَزُوا عَنْهُ وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْعَدِّ عَلَى أَنَّ ص لَيْسَ بِآيَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ بَلْ هِيَ فِي مَبْدَأِ آيَةٍ إِلَى قَوْلِهِ: ذِي الذِّكْرِ وَإِنَّمَا لَمْ تُعَدَّ ص آيَةً لِأَنَّهَا حَرْفٌ وَاحِدٌ كَمَا لَمْ يعد ق [ق: ١] ون [الْقَلَم: ١] آيَةً.
وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ.
الْوَاوُ لِلْقَسَمِ أَقْسَمَ بِالْقُرْآنِ قَسَمَ تَنْوِيهٍ بِهِ. وَوُصِفَ بِ ذِي الذِّكْرِ لِأَنَّ ذِي تُضَافُ إِلَى الْأَشْيَاءِ الرَّفِيعَةِ فتجري على متصف مَقْصُودٍ التَّنْوِيهُ بِهِ.
والذِّكْرِ: التَّذْكِيرُ، أَيْ تَذْكِيرُ النَّاسِ بِمَا هُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالذِّكْرِ ذِكْرُ اللِّسَانِ وَهُوَ عَلَى مَعْنَى: الَّذِي يُذَكِّرُ، بِالْبِنَاءِ لِلنَّائِبِ، أَيْ وَالْقُرْآنِ الْمَذْكُورِ، أَيِ الْمَمْدُوحِ الْمُسْتَحَقِّ الثَّنَاءَ عَلَى أَحَدِ التَّفْسِيرَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ [الْأَنْبِيَاء: ١٠] أَيْ شَرَفُكُمْ.
وَقَدْ تَرَدَّدَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَعْيِينِ جَوَابِ الْقَسَمِ عَلَى أَقْوَالٍ سَبْعَةٍ أَوْ ثَمَانِيَةٍ وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِيهِ هُنَا أَحَدُ وَجْهَيْنِ: أَوَّلُهُمَا أَنْ يَكُونَ مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ حَرْفُ ص فَإِنَّ الْمَقْصُودَ
تَصَرُّفِهِ فِي الْآخِرَةِ لِنَهْيِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْإِحْرَاقِ بِالنَّارِ،
وَقَوْلِهِ: «إِنَّمَا يُعَذِّبُ بِهَا رَبُّ الْعِزَّةِ»
. وَجُمْلَةُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ أَعْناقِهِمْ أَوْ مِنْ ضَمِيرِ يَعْلَمُونَ. وَالسَّحْبُ: الْجَرُّ، وَهُوَ يَجْمَعُ بَيْنَ الْإِيلَامِ وَالْإِهَانَةِ. وَالْحَمِيمُ: أَشَدُّ الْحَرِّ.
وَ (ثُمَّ) عَاطِفَةٌ جُمْلَةَ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ عَلَى جُمْلَةِ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ. وَشَأْنُ (ثُمَّ) إِذَا عَطَفَتِ الْجُمَلَ أَنْ تَكُونَ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ وَذَلِكَ أَنَّ احْتِرَاقَهُمْ بِالنَّارِ أَشَدُّ فِي تَعْذِيبِهِمْ مِنْ سَحْبِهِمْ عَلَى النَّارِ، فَهُوَ ارْتِقَاءٌ فِي وَصْفِ التَّعْذِيبِ الَّذِي أُجْمِلَ بِقَوْلِهِ: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وَالسَّجْرُ بِالنَّارِ حَاصِلٌ عَقِبَ السَّحْبِ سَوَاءٌ كَانَ بِتَرَاخٍ أَمْ بِدُونِهِ.
وَالسَّجْرُ: مَلْءُ التَّنُّورِ بِالْوَقُودِ لِتَقْوِيَةِ النَّارِ فِيهِ، فَإِسْنَادُ فِعْلِ يُسْجَرُونَ إِلَى ضمير هم إِسْنَادٌ مَجَازِيٌّ لِأَنَّ الَّذِي يُسْجَرُ هُوَ مَكَانُهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ، فَأُرِيدَ بِإِسْنَادِ الْمَسْجُورِ إِلَيْهِمُ الْمُبَالَغَةُ فِي تَعَلُّقِ السَّجْرِ بِهِمْ، أَوْ هُوَ اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ بِتَشْبِيهِهِمْ بِالتَّنُّورِ فِي اسْتِقْرَارِ النَّارِ بِبَاطِنِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ [الْحَج: ٢٠].
[٧٣- ٧٦]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : الْآيَات ٧٣ إِلَى ٧٦]
ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٧٣) مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ (٧٤) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (٧٥) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٦)
(ثُمَّ) هَذِهِ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ يُقَالُ لَهُمْ قَبْلَ دُخُولِ النَّارِ، بِدَلِيلِ أَنَّ مِمَّا وَقَعَ فِي آخِرِ الْقَوْلِ: ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ، وَدُخُولُ أَبْوَابِ جَهَنَّمَ قَبْلَ السَّحْبِ فِي حَمِيمِهَا وَالسَّجْرِ فِي نَارِهَا. وَهَذَا الْقِيلُ ارْتِقَاءٌ فِي تَقْرِيعِهِمْ

[٣٣- ٣٥]

[سُورَة الزخرف (٤٣) : الْآيَات ٣٣ إِلَى ٣٥]
وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (٣٣) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (٣٤) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (٣٥)
وَلَوْلا حَرْفُ امْتِنَاعٍ لِوُجُودٍ، أَيْ حَرْفُ شَرْطٍ دَلَّ امْتِنَاعُ وُقُوعِ جَوَابِهَا لِأَجْلِ وُقُوعِ شَرْطِهَا، فَيَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ امْتِنَاعَ وُقُوعِ أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً، أَيْ أَرَادَ الِاحْتِرَازَ مِنْ مَضْمُونِ شَرْطِهَا.
لَمَّا تَقَرَّرَ أَنَّ مِنْ خُلُقِهِمْ تَعْظِيمَ الْمَالِ وَأَهْلِ الثَّرَاءِ وَحُسْبَانَهُمْ ذَلِكَ أَصْلَ الْفَضَائِلِ وَلَمْ يَهْتَمُّوا بِزَكَاءِ النُّفُوسِ، وَكَانَ اللَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جَعْلَهُمُ الْمَالَ سَبَبَ الْفَضْلِ بِإِبْطَالَيْنِ، بِقَوْلِهِ:
أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ [الزخرف: ٣٢] وَقَوله: وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [الزخرف: ٣٢]، أَعْقَبَ ذَلِكَ بِتَعْرِيفِهِمْ أَنَّ الْمَالَ وَالْغِنَى لَا حَظَّ لَهُمَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ اللَّهَ أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ وَجَعَلَ لِلْأَشْيَاءِ حَقَائِقَهَا وَمَقَادِيرَهَا فَكَثِيرًا مَا يَكُونُ الْمَالُ لِلْكَافِرِينَ
وَمَنْ لَا خَلَاقَ لَهُمْ مِنَ الْخَيْرِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمَالَ قِسْمَةٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى النَّاسِ جَعَلَ لَهُ أَسْبَابًا نَظَمَهَا فِي سِلْكِ النُّظُمِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَجَعَلَ لَهَا آثَارًا مُنَاسِبَةً لَهَا، وَشَتَّانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَوَاهِبِ النُّفُوسِ الزَّكِيَّةِ وَالسَّرَائِرِ الطَّيِّبَةِ، فَالْمَالُ فِي الْغَالِبِ مَصْدَرٌ لِإِرْضَاءِ الشَّهَوَاتِ وَمَرْصَدٌ لِلتَّفَاخُرِ وَالتَّطَاوُلِ. وَأَمَّا مَوَاهِبُ النُّفُوسِ الطَّيِّبَةِ فَمَصَادِرُ لِنَفْعِ أَصْحَابِهَا وَنَفْعِ الْأُمَّةِ، فَفِي أَهْلِ الشَّرِّ أَغْنِيَاءُ وَفُقَرَاءُ وَفِي أَهْلِ الْخَيْرِ أَمْثَالُ ذَلِكَ، فَظَهَرَ التَّبَايُنُ بَيْنَ آثَارِ كَسْبِ الْمَالِ وَأَثَارِ الْفَضَائِلِ النَّفْسَانِيَّةِ.
وَيَحْصُلُ مِنْ هَذَا التَّحْقِيرِ لِلْمَالِ إِبْطَالٌ ثَالِثٌ لِمَا أَسَّسُوا عَلَيْهِ قَوْلَهُمْ: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: ٣١]، فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ عَطْفٌ على جملَة وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [الزخرف: ٣٢].
وَالنَّاسُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ جَمِيعُ النَّاسِ، فَيَكُونَ التَّعْرِيفُ لِلِاسْتِغْرَاقِ، أَيْ جَمِيعُ الْبَشَرِ. وَالْأُمَّةُ: الْجَمَاعَةُ مِنَ الْبَشَرِ الْمُتَمَيِّزَةِ عَنْ غَيْرِهَا بِاتِّحَادٍ فِي نَسَبٍ أَوْ دِينٍ أَوْ
فَتًى غَيْرَ مَحْجُوبِ الْغِنَى عَنْ صَدِيقِهِ وَلَا مُظْهِرَ الشَّكْوَى إِذَا النَّعْلُ زَلَّتِ (١)
إِذْ لَمْ يَقُلْ: هُوَ فَتًى.
وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْأَظْهَرُ هُنَا إِذْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ إِفَادَةَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ بَيَانُ رَسُولِ اللَّهِ مَنْ هُوَ بَعْدَ أَنْ أَجْرَى عَلَيْهِ مِنَ الْأَخْبَارِ مِنْ قَوْلِهِ: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ [الْفَتْح: ٢٧] إِلَى قَوْلِهِ: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [الْفَتْح: ٢٨] فَيُعْتَبَرُ السَّامِعُ كَالْمُشْتَاقِ إِلَى بَيَانِ: مَنْ هَذَا الْمُتَحَدَّثُ عَنْهُ بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ؟ فَيُقَالُ لَهُ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، أَيْ هُوَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. وَهَذَا مِنَ الْعِنَايَةِ وَالِاهْتِمَامِ بِذكر مناقبه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَتُعْتَبَرُ الْجُمْلَةُ الْمَحْذُوفُ مُبْتَدَؤُهَا مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا. وَفِيهِ وُجُوهٌ أُخَرُ لَا تَخْفَى، وَالْأَحْسَنُ مِنْهَا هَذَا.
وَفِي هَذَا نِدَاءٌ عَلَى إِبْطَالِ جَحُودِ الْمُشْرِكِينَ رِسَالَتَهُ حِينَ امْتَنَعُوا مِنْ أَنْ يُكْتَبَ فِي صَحِيفَةِ الصُّلْحِ «هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. وَقَالُوا: لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا صَدَدْنَاكَ عَنِ الْبَيْتِ».
وَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ مَعَهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً وأَشِدَّاءُ خَبَرًا عَنْهُ وَمَا بَعْدَهُ إِخْبَارٌ.
وَالْمَقْصُودُ الثَّنَاءُ عَلَى أَصْحَابِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمَعْنَى مَعَهُ: الْمُصَاحَبَةُ الْكَامِلَةُ بِالطَّاعَةِ وَالتَّأْيِيدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ. وَالْمُرَادُ: أَصْحَابُهُ كُلُّهُمْ لَا خُصُوصُ أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ.
وَإِنْ كَانُوا هُمُ الْمَقْصُودَ ابْتِدَاءً فَقَدْ عُرِفُوا بِصِدْقِ مَا عَاهَدُوا عَلَيْهِ اللَّهَ، وَلِذَلِكَ لَمَّا
انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ حُنَيْنٍ قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمَطْلَبِ نَادِ يَا أَصْلَ السَّمُرَةِ
. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَالَّذِينَ مَعَهُ عَطْفًا عَلَى رَسُولَهُ مِنْ قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ [التَّوْبَة: ٣٣]. وَالتَّقْدِيرُ: وَأَرْسَلَ الَّذِينَ مَعَهُ، أَيْ أَصْحَابَهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِرْسَالِ مَا يَشْمَلُ الْإِذْنَ لَهُمْ بِوَاسِطَة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
_________
(١) البيتان لعبر الله بن الزبير (بِفَتْح الزَّاي وَكسر الْمُوَحدَة) الْأَسدي.
وَالْهَشِيمُ: مَا يَبِسَ وَجَفَّ مِنَ الْكَلَأِ وَمِنَ الشَّجَرِ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْهَشْمِ وَهُوَ الْكَسْرُ لِأَنَّ الْيَابِسَ مِنْ ذَلِكَ يَصِيرُ سَرِيعَ الِانْكِسَارِ. وَالْمُرَادُ هُنَا شَيْءٌ خَاصٌّ مِنْهُ وَهُوَ مَا جَفَّ مِنْ أَغْصَانِ الْعِضَاةِ وَالشَّوْكِ وَعَظِيمِ الْكَلَأِ كَانُوا يَتَّخِذُونَ مِنْهُ حَظَائِرَ لِحِفْظِ أَغْنَامِهِمْ مِنَ الرِّيحِ وَالْعَادِيَةِ وَلِذَلِكَ أُضِيفَ الْهَشِيمُ إِلَى الْمُحْتَظِرِ. وَهُوَ بِكَسْرِ الظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ: الَّذِي يَعْمَلُ الْحَظِيرَةَ وَيَبْنِيهَا، وَذَلِكَ بِأَنَّهُ يَجْمَعُ الْهَشِيمَ وَيُلْقِيهِ عَلَى الْأَرْضِ لِيَرْصِفَهُ بَعْدَ ذَلِكَ سِيَاجًا
لِحَظِيرَتِهِ فَالْمُشَبَّهُ بِهِ هُوَ الْهَشِيمُ الْمَجْمُوعُ فِي الْأَرْضِ قَبْلَ أَنْ يُسَيَّجَ وَلِذَلِكَ قَالَ: كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ وَلَمْ يَقُلْ: كَهَشِيمِ الْحَظِيرَةِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالتَّشْبِيهِ حَالَتُهُ قَبْلَ أَنْ يُرْصَفَ وَيُصَفَّفَ وَقَبْلَ أَنْ تُتَّخَذَ مِنْهُ الْحَظِيرَةُ.
وَالْمُحْتَظِرِ: مُفْتَعِلٌ مِنَ الْحَظِيرَةِ، أَيْ مُتَكَلِّفُ عَمَلِ الْحَظِيرَةِ.
وَالْقَوْلُ فِي تَعْدِيَةِ أَرْسَلْنا إِلَى ضمير ثَمُودُ [الْقَمَر: ٢٣] كَالْقَوْلِ فِي أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً [الْقَمَر: ١٩].
[٣٢]
[سُورَة الْقَمَر (٥٤) : آيَة ٣٢]
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٣٢)
تَكْرِيرٌ ثَانٍ بَعْدَ نَظِيرَيْهِ السَّالِفَيْنِ فِي قِصَّةِ قَوْمِ نُوحٍ وَقِصَّةِ عَادٍ تَذْيِيلًا لِهَذِهِ الْقِصَّةِ كَمَا ذُيِّلَتْ بِنَظِيرَيْهِ الْقِصَّتَانِ السَّالِفَتَانِ اقْتَضَى التَّكْرِيرَ مَقَامُ الْاِمْتِنَانِ وَالْحَثِّ عَلَى التَّدَبُّرِ بِالْقُرْآنِ لِأَنَّ التَّدَبُّرَ فِيهِ يَأْتِي بِتَجَنُّبِ الضَّلَالِ وَيُرْشِدُ إِلَى مَسَالِكِ الِاهْتِدَاءِ فَهَذَا أَهَمُّ مِنْ تَكْرِيرِ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ [الْقَمَر: ٣٠] فَلذَلِك أوثر.
[٣٣- ٣٥]
[سُورَة الْقَمَر (٥٤) : الْآيَات ٣٣ إِلَى ٣٥]
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (٣٣) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (٣٤) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (٣٥)
الْقَوْلُ فِي مُفْرَدَاتِهِ كَالْقَوْلِ فِي نَظَائِرِهِ، وَقِصَّةُ قَوْمِ لُوطٍ تَقَدَّمَتْ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَغَيْرِهَا.
إِسْرَائِيلَ وَكَفْرَ بَعْضُ وَإِنَّمَا اسْتَجَابَ لَهُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَدَدٌ قَلِيلٌ فَقَدْ جَاءَ فِي إِنْجِيلِ (لُوقَا) أَنَّ أَتْبَاعَ عِيسَى كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهِ: فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ التَّوْطِئَةُ لِقَوْلِهِ:
فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ وَالتَّأْيِيدُ النَّصْر وَالتَّقْوِيَةُ، أَيَّدَ اللَّهُ أَهْلَ النَّصْرَانِيَّةِ بِكَثِيرٍ مِمَّنِ اتَّبَعَ النَّصْرَانِيَّةَ بِدَعْوَةِ الْحَوَارِيِّينَ وَأَتْبَاعِهِمْ مِثْلَ بُولِسَ.
وَإِنَّمَا قَالَ: فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَقُلْ: فَأَيَّدْنَاهُمْ لِأَنَّ التَّأْيِيدَ كَانَ لِمَجْمُوعِ الْمُؤْمِنِينَ بِعِيسَى لَا لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْهُمْ إِذْ قَدْ قُتِلَ مِنْ أَتْبَاعِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَمُثِّلَ بِهِمْ وَأُلْقُوا إِلَى السِّبَاعِ فِي الْمَشَاهِدِ الْعَامَّةِ تَفْتَرِسُهُمْ، وَكَانَ مِمَّنْ قُتِلَ مِنَ الْحَوَارِيِّينِ الْحَوَارِيُّ الْأَكْبَرُ الَّذِي سَمَّاهُ عِيسَى بُطْرُسَ، أَيِ الصَّخْرَةَ فِي ثَبَاتِهِ فِي اللَّهِ.
وَيَزْعُمُونَ أَنَّ جُثَّتَهُ فِي الْكَنِيسَةِ الْعُظْمَى فِي رُومَةَ الْمَعْرُوفَةُ بِكَنِيسَةِ الْقِدِّيسِ بُطْرُسَ وَالْحُكْمُ عَلَى الْمَجْمُوعِ فِي مِثْلِ هَذَا شَائِعٌ كَمَا تَقُولُ: نَصَرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ مَعَ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ قُتِلَ. وَالْمَقْصُودُ نَصْرُ الدِّينِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ وَعْدُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ أُمِرُوا أَن يَكُونُوا أنصارا لله بِأَنَّ اللَّهَ مُؤَيِّدُهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ.
وَالْعَدُوُّ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ، قَالَ تَعَالَى: وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ [الْكَهْف: ٥٠] وَتَقَدَّمَ
عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ فِي سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ [١].
وَالظَّاهِرُ: هُوَ الْغَالِبُ، يُقَالُ: ظَهَرَ عَلَيْهِ، أَيْ غَلَبَهُ، وَظَهَرَ بِهِ أَيْ غَلَبَ بِسَبَبِهِ، أَيْ بِإِعَانَتِهِ وَأَصْلُ فِعْلِهِ مُشْتَقٌّ مِنَ الِاسْمِ الْجَامِدِ. وَهُوَ الظَّهْرُ الَّذِي هُوَ الْعَمُودُ الْوَسَطُ مِنْ جَسَدِ الْإِنْسَانِ وَالدَّوَابِّ لِأَنَّ بِالظَّهْرِ قُوَّةَ الْحَيَوَانِ. وَهَذَا مِثْلُ فِعْلِ (عَضَدَ) مُشْتَقًّا مِنَ الْعَضُدِ. وَ (أَيَّدَ) مُشْتَقًّا مِنَ الْيَدِ وَمِنْ تَصَارِيفِهِ ظَاهَرَ عَلَيْهِ وَاسْتَظْهَرَ وَظَهِيرٌ لَهُ قَالَ تَعَالَى: وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ [التَّحْرِيم: ٤]. فَمَعْنَى ظاهِرِينَ أَنَّهُمْ مَنْصُورُونَ لِأَنَّ عَاقِبَةَ النَّصْرِ كَانَتْ لَهُمْ فَتَمَكَّنُوا مِنَ الْحُكْمِ فِي الْيَهُودِ الْكَافِرِينَ بِعِيسَى وَمَزَّقُوهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ.
وَقَوْلُهُ: وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً صَالِحٌ لِاعْتِبَارِ الْقَمَرِ مِنَ السَّمَاوَاتِ، أَيْ الْكَوَاكِبُ عَلَى الِاصْطِلَاحِ الْقَدِيمِ الْمَبْنِيِّ عَلَى الْمُشَاهَدَةِ، لِأَنَّ ظَرْفِيَّةَ (فِي) تَكُونُ لِوُقُوعِ الْمَحْوِيِّ فِي حَاوِيَةٍ مِثْلَ الْوِعَاءِ، وَتَكُونُ لِوُقُوعِ الشَّيْءِ بَيْنَ جَمَاعَتِهِ، كَمَا
فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ «وَتَبْقَى هَذِهِ الْأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا»
، وَقَوْلُ النُّمَيْرِيِّ:
تَضَوَّعَ مِسْكًا بَطْنُ نُعْمَانَ أَنْ مَشَتْ بِهِ زَيْنَبُ فِي نِسْوَةٍ خَفِرَاتِ
والْقَمَرَ كَائِنٌ فِي السَّمَاءِ الْمُمَاسَّةِ لِلْأَرْضِ وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِالسَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَبْعَادِهَا.
وَقَوْلُهُ: وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً هُوَ بِتَقْدِيرِ: وَجَعَلَ الشَّمْسَ فِيهِنَّ سِرَاجًا، وَالشَّمْسُ مِنَ الْكَوَاكِبِ.
وَالْإِخْبَارُ عَنِ الْقَمَرِ بِأَنَّهُ نُورٌ مُبَالَغَةٌ فِي وَصْفِهِ بِالْإِنَارَةِ بِمَنْزِلَةِ الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ.
وَالْقَمَر ينير ضوؤه الْأَرْضَ إِنَارَةً مُفِيدَةً بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ نُجُومِ اللَّيْلِ فَإِنَّ إِنَارَتَهَا لَا تُجْدِي الْبَشَرَ.
وَالسِّرَاجُ: الْمِصْبَاحُ الزَّاهِرُ نُورُهُ الَّذِي يُوقَدُ بِفَتِيلَةٍ فِي الزَّيْتِ يُضِيءُ الْتِهَابُهَا الْمُعَدَّلُ بِمِقْدَارِ بَقَاءِ مَادَّةِ الزَّيْتِ تغمرها.
والإخبار بِهِ عَنِ الشَّمْسِ مِنَ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ وَهُوَ تَشْبِيهٌ، وَالْقَصْدُ مِنْهُ تَقْرِيبُ الْمُشَبَّهِ مِنْ إِدْرَاكِ السَّامِعِ، فَإِنَّ السِّرَاجَ كَانَ أَقْصَى مَا يُسْتَضَاءُ بِهِ فِي اللَّيْلِ وَقَلَّ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَتَّخِذُهُ وَإِنَّمَا كَانُوا يَرَوْنَهُ فِي أَدْيِرَةِ الرُّهْبَانِ أَوْ قُصُورِ الْمُلُوكِ وَأَضْرَابِهِمْ، قَالَ امْرُؤ الْقَيْس:
يضي سَنَاهُ أَوْ مَصَابِيحَ رَاهِبٍ أَمَالَ الذَّبَالَ بِالسَّلِيطِ الْمُفَتَّلِ
وَوَصَفُوا قَصْرَ غُمْدَانَ بِالْإِضَاءَةِ عَلَى الطَّرِيقِ لَيْلًا.
وَلَمْ يُخْبَرْ عَنِ الشَّمْسِ بِالضِّيَاءِ كَمَا فِي آيَةِ سُورَةِ يُونُسَ [٥] هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ وَهُوَ الْإِضَاءَةُ، فَلَعَلَّ إِيثَارَ السِّرَاجِ هُنَا لِمُقَارَبَةِ تَعْبِيرِ نُوحٍ فِي لُغَتِهِ، مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ، لِأَنَّ الْفَوَاصِلَ الَّتِي قَبْلَهَا جَاءَتْ عَلَى حُرُوفٍ صَحِيحَةٍ وَلَوْ قِيلَ: ضِيَاءٌ لَصَارَتِ الْفَاصِلَةُ هَمْزَةً وَالْهَمْزَةُ قَرِيبَةٌ مِنْ حُرُوفِ الْعِلَّةِ فَيَثْقُلُ الْوَقْفُ عَلَيْهَا.
مَضْمُونُهَا قَسِيمًا لِمَضْمُونِ شَبِيهِهَا فَتَحْصُلُ مُقَابَلَةُ وَعِيدِ الْفُجَّارِ بِوَعْدِ الْأَبْرَارِ وَمِنْ عَادَةِ الْقُرْآنِ تَعْقِيبُ الْإِنْذَارِ بِالتَّبْشِيرِ وَالْعَكْسُ لِأَنَّ النَّاسَ رَاهِبٌ وَرَاغِبٌ فَالتَّعَرُّضُ لِنَعِيمِ الْأَبْرَارِ إِدْمَاجٌ اقْتَضَتْهُ الْمُنَاسَبَةُ وَإِنْ كَانَ الْمَقَامُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ مَقَامَ إِنْذَارٍ.
وَيَكُونُ الْمُتَكَلِّمُ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَاحِدًا وَجَّهَ كَلَامَهُ لِلْفُجَّارِ الَّذِينَ لَا يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ، وَأَعْقَبَهُ بِتَوْجِيهِ كَلَامٍ لِلْأَبْرَارِ الَّذِينَ هُمْ بِضِدِّ ذَلِكَ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَاتُ مُعْتَرِضَةً مُتَّصِلَةً بِحَرْفِ الرَّدْعِ عَلَى أَوْضَحِ الْوَجْهَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ فِيهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمَحْكِيِّ بِالْقَوْلِ فِي: ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [المطففين: ١٧] فَتَكُونُ مَحْكِيَّةً بِالْقَوْلِ الْمَذْكُورِ مُتَّصِلَةً بِالْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا وَبِحَرْفِ الْإِبْطَالِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْقَائِلُونَ لَهُمْ: هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ عَلَى وَجْهِ التَّوْبِيخِ، أَعْقَبُوا تَوْبِيخَهُمْ بِوَصْفِ نَعِيمِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْبَعْثِ تَنْدِيمًا لِلَّذِينَ أَنْكَرُوهُ وَتَحْسِيرًا لَهُمْ عَلَى مَا أَفَاتُوهُ مِنَ الْخَيْرِ.
والْأَبْرارِ: جَمْعُ بَرٍّ بِفَتْحِ الْبَاءِ، وَهُوَ الَّذِي يَعْمَلُ الْبِرَّ، وَتَقَدَّمَ فِي السُّورَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ.
وَالْقَوْلُ فِي الْكِتَابِ وَمَظْرُوفِيَّتِهِ فِي عِلِّيِّينَ، كَالْقَوْلِ فِي إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ [المطففين: ٧].
وَعِلِّيُّونَ: جَمْعُ عِلِّيٍّ، وَعِلِّيٌّ عَلَى وَزْنِ فِعِّيلٍ مِنَ الْعُلُوِّ، وَهُوَ زِنَةُ مُبَالِغَةٍ فِي الْوَصْفِ جَاءَ عَلَى صُورَةِ جَمْعِ الْمُذَكَّرِ السَّالِمِ وَهُوَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي أُلْحِقَتْ بِجَمْعِ الْمُذَكَّرِ السَّالِمِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ.
وَعَنِ الْفَرَّاءِ أَنَّ عِلِّيِّينَ لَا وَاحِدَ لَهُ. يُرِيدُ: أَنَّ عِلِّيِّينَ لَيْسَ جَمْعَ (عِلِّيٍّ) وَلَكِنَّهُ عَلَمٌ عَلَى مَكَانِ الْأَبْرَارِ فِي الْجَنَّةِ إِذْ لَمْ يُسْمَعْ عَنِ الْعَرَبِ (عِلِّيٌّ) وَإِنَّمَا قَالُوا: عِلِّيَّةٌ لِلْغُرْفَةِ، وَعِلِّيُّونَ عَلَمٌ بِالْغَلَبَةِ لِمَحَلَّةِ الْأَبْرَارِ.
وَاشْتُقَّ هَذَا الِاسْمُ مِنَ الْعُلُوِّ، وَهُوَ عُلُوٌّ اعْتِبَارِيٌّ، أَيْ رِفْعَةٌ فِي مَرَاتِبِ الشَّرَفِ وَالْفَضْلِ، وَصِيغَ عَلَى صِيغَةِ جَمْعِ الْمُذَكَّرِ لِأَنَّ أَصْلَ تِلْكَ الصِّيغَةِ أَنْ تُجْمَعَ بِهَا أَسْمَاءُ الْعُقَلَاءِ وَصِفَاتُهُمْ، فَاسْتُكْمِلَ لَهُ صِيغَةُ جَمْعِ الْعُقَلَاءِ الذُّكُورِ إِتْمَامًا لِشَرَفِ الْمَعْنَى بِاسْتِعَارَةِ الْعُلُوِّ وَشَرَفِ النَّوْعِ بِإِعْطَائِهِ صِيغَةَ التَّذْكِيرِ.


الصفحة التالية
Icon