السُّوَرِ أَسْمَاءٌ لِلْمَلَائِكَةِ وَأَنَّهَا إِذَا تُلِيَتْ كَانَتْ كَالنِّدَاءِ لِمَلَائِكَتِهَا فَتُصْغِي أَصْحَابُ تِلْكَ الْأَسْمَاءِ إِلَى مَا يَقُولُهُ التَّالِي بَعْدَ النُّطْقِ بِهَا، فَيَقُولُونَ صَدَقْتَ إِنْ كَانَ مَا بَعْدَهَا خَبَرٌ، وَيَقُولُونَ هَذَا مُؤْمِنٌ حَقًّا نَطَقَ حَقًّا وَأَخْبَرَ بِحَقٍّ فَيَسْتَغْفِرُونَ لَهُ، وَهَذَا لَمْ يَقُلْهُ غَيْرُهُ وَهُوَ دَعْوَى.
الْخَامِسُ أَنَّهَا رُمُوزٌ كُلُّهَا لِأَسْمَاءِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَوْصَافِهِ خَاصَّةً قَالَهُ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ مُلُوكَةَ التُّونِسِيِّ (١) فِي «رِسَالَةٍ» لَهُ قَالَ إِنَّ كُلَّ حَرْفٍ مِنْ حُرُوفِ الْهِجَاءِ فِي فَوَاتِحِ السُّوَرِ مُكَنًّى بِهِ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ أَسْمَائِهِ الْكَرِيمَةِ وَأَوْصَافِهِ الْخَاصَّةِ، فَالْأَلِفُ مُكَنًّى بِهِ عَنْ جُمْلَةِ أَسْمَائِهِ الْمُفْتَتَحَةِ بِالْأَلِفِ كَأَحْمَدَ وَأَبِي الْقَاسِمِ، وَاللَّامُ مُكَنًّى بِهِ عَنْ صِفَاتِهِ مِثْلَ لُبِّ الْوُجُودِ، وَالْمِيمُ مُكَنًّى بِهِ عَنْ مُحَمَّدٍ وَنَحْوَهُ مِثْلَ مُبَشِّرٍ وَمُنْذِرٍ، فَكُلُّهَا مُنَادَى بِحَرْفِ نِدَاءٍ
مُقَدَّرٍ بِدَلِيلِ ظُهُورِ ذَلِكَ الْحَرْفِ فِي يس. وَلَمْ يَعْزُ هَذَا الْقَوْلَ إِلَى أَحَدٍ، وَعَلَّقَ عَلَى هَذِهِ «الرِّسَالَةِ» تِلْمِيذُهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ مُحَمَّدٌ مُعَاوِيَةُ «تَعْلِيقَةً» أَكْثَرَ فِيهَا مِنَ التَّعْدَادِ، وَلَيْسَتْ مِمَّا يَنْثَلِجُ لِمَبَاحِثِهِ الْفُؤَادُ (وَهِيَ وَأَصْلُهَا مَوْجُودَةٌ بِخَزْنَةِ جَامِعِ الزَّيْتُونَةِ بِتُونِسَ عَدَدَ ٥١٤) وَيَرُدُّ هَذَا الْقَوْلَ الْتِزَامُ حَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ وَمَا قَالَه من ظهروه فِي يس مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ:
إِنَّ يس بِمَعْنَى يَا سَيِّدُ وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْيَاءَ فِيهِ حَرْفٌ مِنْ حُرُوفِ الْهِجَاءِ لِأَن الشَّيْخَ نَفْسَهُ عَدَّ يس بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْحُرُوفِ الدَّالَّةِ عَلَى الْأَسْمَاءِ مَدْلُولًا لِنَحْوِ الْيَاءِ من كهيعص [مَرْيَم:
١].
الْقَوْلُ السَّادِسُ أَنَّهَا رُمُوزٌ لِمُدَّةِ دَوَامِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِحِسَابِ الْجُمَلِ (٢) قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ أَخْذًا بِقِصَّةٍ
رَوَاهَا ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَثَّابٍ قَالَ: «جَاءَ أَبُو يَاسِرِ بْنُ أَخْطَبَ وَحُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ وَكَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ عَنِ الم وَقَالُوا هَذَا أَجَلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنَ السِّنِينَ إِحْدَى وَسَبْعُونَ سَنَةً فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ لَهُمْ ص والمر فَقَالُوا اشْتَبَهَ عَلَيْنَا الْأَمْرُ فَلَا نَدْرِي أَبَا لقَلِيل نَأْخُذُ أَمْ بِالْكَثِيرِ؟»
اهـ. وَلَيْسَ فِي جَوَابِ رَسُولِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِعِدَّةِ حُرُوفٍ أُخْرَى مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ الْمُتَقَطِّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ تَقْرِيرٌ لِاعْتِبَارِهَا رُمُوزًا لِأَعْدَادِ مُدَّةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ إِبْطَالَ مَا فَهِمُوهُ بِإِبْطَالِ أَنْ يَكُونَ مُفِيدًا لِزَعْمِهِمْ عَلَى نَحْوِ
_________
(١) كَانَ من الزهاد والمربين درس علوما كَثِيرَة وخاصة الْفَرَائِض والحساب وَله شرحان على «الدرة الْبَيْضَاء» توفى فِي تونس.
(٢) حِسَاب الْجمل بِضَم الْجِيم وَتَشْديد الْمِيم الْمَفْتُوحَة هُوَ جعل أعداد لكل حرف من حُرُوف المعجم من آحَاد وعشرات ومئات وَألف وَاحِد، فَإِذا أُرِيد خطّ رقم حسابي وضع الْحَرْف عوضا عَن الرقم وَقد كَانَ هَذَا الِاصْطِلَاح قَدِيما ووسمت بِهِ عدَّة أناشيد من كتاب دَاوُد واشتهر ترقيم التَّارِيخ بِهِ عِنْد الرومان وَلَعَلَّه نقل إِلَى الْعَرَب مِنْهُم أَو من الْيَهُود. [.....]
وَالْفِتْنَةُ تَقَدَّمَتْ قَرِيبًا. وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا كَالْمُرَادِ بِهَا هُنَالِكَ، وَلَمَّا وَقَعَتْ هُنَا فِي سِيَاقِ النَّفْيِ عَمَّتْ جَمِيعَ الْفِتَنِ فَلِذَلِكَ سَاوَتِ الْمَذْكُورَةُ هُنَا الْمَذْكُورَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ [الْبَقَرَة: ١٩١] فَإِعَادَةُ الْفِتْنَةِ مُنَكَّرَةً هُنَا لَا يَدُلُّ عَلَى الْمُغَايَرَةِ كَمَا هُوَ الشَّائِعُ بَيْنَ الْمُعْرِبِينَ فِي أَنَّ الْمَعْرِفَةَ إِذَا أُعِيدَتْ نَكِرَةً فَهِيَ غَيْرُ الْأُولَى لِأَنَّ وُقُوعَهَا فِي سِيَاقِ النَّفْيِ أَفَادَ الْعُمُومَ فَشَمَلَ جَمِيعَ أَفْرَادِ الْفِتْنَةِ مُسَاوِيًا لِلْفِتْنَةِ الْمُعَرَّفَةِ بِلَامِ الِاسْتِغْرَاقِ إِلَّا أَنَّهُ اسْتِغْرَاقٌ عُرْفِيٌّ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ فَتَقَيَّدَ بِثَلَاثَةِ قُيُودٍ بِالْقَرِينَةِ أَيْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ مِنْهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ فِي أَمْرِ الدِّينِ وَإِلَّا فَقَدَ وَقَعَتْ فِتَنٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْفُسِهِمْ كَمَا
فِي حَدِيثِ: «ثُمَّ فِتْنَةٌ لَا يَبْقَى بَيْتٌ مِنَ الْعَرَبِ إِلَّا دَخَلَتْهُ»
. وَانْتِفَاءُ الْفِتْنَةِ يَتَحَقَّقُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا بِأَنْ يَدْخُلَ الْمُشْرِكُونَ فِي الْإِسْلَام فتنزل فِتْنَتُهُمْ فِيهِ، وَإِمَّا بِأَنْ يُقْتَلُوا جَمِيعًا فَتَزُولَ الْفِتْنَةُ بِفَنَاءِ الْفَاتِنِينَ. وَقَدْ يُفْرَضُ انْتِفَاءُ الْفِتْنَةِ بِظُهُورِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ وَمَصِيرِ الْمُشْرِكِينَ ضُعَفَاءَ أَمَامَ قُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ، بِحَيْثُ يَخْشَوْنَ بَأْسَهُمْ، إِلَّا أَنَّ الْفِتْنَةَ لَمَّا كَانَتْ نَاشِئَةً عَنِ التَّصَلُّبِ فِي دِينِهِمْ وَشِرْكِهِمْ لَمْ تَكُنْ بِالَّتِي تَضْمَحِلُّ عِنْدَ ضَعْفِهِمْ، لِأَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى إِرْضَاءِ الْعَقِيدَةِ يَصْدُرُ حَتَّى مِنَ الضَّعِيفِ كَمَا صَدَرَ مِنَ الْيَهُودِ غَيْرَ مَرَّةٍ فِي الْمَدِينَةِ فِي مِثْلِ قِصَّةِ الشَّاةِ الْمَسْمُومَةِ، وَقَتْلِهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ الْحَارِثِيَّ فِي خَيْبَرَ، وَلِذَلِكَ فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ هُنَا إِلَّا أَحَدَ أَمْرَيْنِ: إِمَّا دُخُولُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ وَإِمَّا إِفْنَاؤُهُمْ بِالْقَتْلِ،
وَقَدْ حَصَلَ كِلَا الْأَمْرَيْنِ فِي الْمُشْرِكِينَ فَفَرِيقٌ أَسْلَمُوا، وَفَرِيقٌ قُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ وَغَيْرِهِ مِنَ الْغَزَوَاتِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: لَا تقبل من مُشْرِكين الْعَرَبِ الْجِزْيَةُ، وَمِنْ ثَمَّ فَسَّرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْفِتْنَةَ هُنَا بِالشِّرْكِ تَفْسِيرًا بِاعْتِبَارِ الْمَقْصُودِ مِنَ الْمَعْنَى لَا بِاعْتِبَارِ مَدْلُولِ اللَّفْظِ.
وَقَوْلُهُ: وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ عَطْفٌ عَلَى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَهُوَ مَعْمُول لِأَن الْمُضْمَرَةِ بَعْدَ (حَتَّى) أَيْ وَحَتَّى يَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ، أَيْ حَتَّى لَا يَكُونَ دِينٌ هُنَالِكَ إِلَّا لِلَّهِ أَيْ وَحْدَهُ.
فَالتَّعْرِيفُ فِي الدِّينِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، لِأَنَّ الدِّينَ مِنْ أَسْمَاءِ الْمَوَاهِي الَّتِي لَا أَفْرَادَ لَهَا فِي الْخَارِجِ فَلَا يَحْتَمِلُ تَعْرِيفُهُ مَعْنَى الِاسْتِغْرَاقِ.
وَاللَّامُ الدَّاخِلَةُ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ لَامُ الِاخْتِصَاصِ أَيْ حَتَّى يَكُونَ جِنْسُ الدِّينِ مُخْتَصًّا بِاللَّهِ تَعَالَى عَلَى نَحْوِ مَا قَرَّرَ فِي قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ [الْفَاتِحَة: ٢]، وَذَلِكَ يَئُولُ إِلَى مَعْنَى الِاسْتِغْرَاقِ وَلَكِنَّهُ لَيْسَ عَيْنَهُ، إِذْ لَا نَظَرَ فِي مِثْلِ هَذَا لِلْأَفْرَادِ، وَالْمَعْنَى: وَيَكُونَ دِينُ الَّذِينَ تُقَاتِلُونَهُمْ خَالِصًا لِلَّهِ لَا حَظَّ لِلْإِشْرَاكِ فِيهِ.
وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢١٧].
وَالْمَعْنَى هُنَا أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا كَانُوا مُتَدَيِّنِينَ يَرْجُونَ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ النَّفْعَ بِهَا فِي الْآخِرَةِ بِالنَّجَاةِ مِنَ الْعِقَابِ، وَالنَّفْعَ فِي الدُّنْيَا بِآثَارِ رِضَا اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ، فَلَمَّا كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ، وَجَحَدُوا نبوءة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصَوَّبُوا الَّذِينَ قَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ وَالَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ، فَقَدِ ارْتَدَّوْا عَنْ دِينِهِمْ فَاسْتَحَقُّوا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ، وَلِذَلِكَ ابْتُدِئَ بِهِ بِقَوْلِهِ:
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ. فَلَا جَرَمَ تَحْبَطُ أَعْمَالُهُمْ فَلَا يَنْتَفِعُونَ بِثَوَابِهَا فِي الْآخِرَةِ، وَلَا بِآثَارِهَا الطَّيِّبَةِ فِي الدُّنْيَا، وَمَعْنَى وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ مَا لَهُمْ مَنْ يُنْقِذُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي أُنْذِرُوا بِهِ.
وَجِيء بِمن الدَّالَّةِ عَلَى تَنْصِيصِ الْعُمُومِ لِئَلَّا يُتْرَكَ لَهُمْ مَدْخَلٌ إِلَى التَّأْوِيل.
[٢٣- ٢٥]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ٢٣ إِلَى ٢٥]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٢٥)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ: لِلتَّعْجِيبِ مِنْ حَالَةِ الْيَهُودِ فِي شِدَّةِ ضَلَالِهِمْ. فَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ:
أَلَمْ تَرَ لِلتَّقْرِيرِ وَالتَّعْجِيبِ، وَقَدْ جَاءَ الِاسْتِعْمَالُ فِي مِثْلِهِ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ دَاخِلًا عَلَى نَفْيِ الْفِعْلِ وَالْمُرَادُ حُصُولُ الْإِقْرَارِ بِالْفِعْلِ لِيَكُونَ التَّقْرِيرُ عَلَى نَفْيِهِ مُحَرِّضًا لِلْمُخَاطَبِ عَلَى الِاعْتِرَافِ بِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يَرْضَى أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَجْهَلُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ

[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ٢٠٠]

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠)
خُتِمَتِ السُّورَةُ بِوِصَايَةٍ جَامِعَةٍ لِلْمُؤْمِنِينَ تُجَدِّدُ عَزِيمَتَهُمْ وَتَبْعَثُ الْهِمَمَ إِلَى دَوَامِ الِاسْتِعْدَادِ لِلْعَدُوِّ كَيْ لَا يُثَبِّطَهُمْ مَا حَصَلَ مِنَ الْهَزِيمَةِ، فَأَمَرَهُمْ بِالصَّبْرِ الَّذِي هُوَ جُمَّاعُ الْفَضَائِلِ وَخِصَالُ الْكَمَالِ، ثُمَّ بِالْمُصَابَرَةِ وَهِيَ الصَّبْرُ فِي وَجْهِ الصَّابِرِ، وَهَذَا أَشَدُّ الصَّبْرِ ثَبَاتًا فِي النَّفْسِ وَأَقْرَبُهُ إِلَى التَّزَلْزُلِ، ذَلِك أَنَّ الصَّبْرَ فِي وَجْهِ صَابِرٍ آخَرَ شَدِيدٌ عَلَى نَفْسِ الصَّابِرِ لِمَا يُلَاقِيهِ مِنْ مُقَاوَمَةِ قِرْنٍ لَهُ فِي الصَّبْرِ قَدْ يُسَاوِيهِ أَوْ يَفُوقُهُ، ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْمُصَابِرَ إِنْ لَمْ يَثْبُتْ عَلَى صَبْرِهِ حَتَّى يَمَلَّ قِرْنُهُ فَإِنَّهُ لَا يَجْتَنِي مِنْ صَبْرِهِ شَيْئًا، لِأَنَّ نَتِيجَةَ الصَّبْرِ تَكُونُ لِأَطْوَلِ الصَّابِرِينَ صَبْرًا، كَمَا قَالَ زُفَرُ بْنُ الْحَارِثِ فِي اعْتِذَارِهِ عَنِ الِانْهِزَامِ:
سَقَيْنَاهُمُ كَأْسًا سَقَوْنَا بِمِثْلِهَا وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْمَوْتِ أَصْبَرَا
فَالْمُصَابَرَةُ هِيَ سَبَبُ نَجَاحِ الْحَرْبِ كَمَا قَالَ شَاعِرُ الْعَرَبِ الَّذِي لَمْ يُعْرَفِ اسْمُهُ:
لَا أَنْتَ مُعْتَادٌ فِي الْهَيْجَا مُصَابَرَةً يَصْلَى بِهَا كُلُّ مَنْ عَادَاكَ نِيرَانَا
وَقَوْلُهُ: وَرابِطُوا أَمْرٌ لَهُمْ بِالْمُرَابَطَةِ، وَهِيَ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الرَّبْطِ، وَهُوَ رَبْطُ الْخَيل للحراسة فِي غَيْرِ الْجِهَادِ خَشْيَةَ أَنْ يَفْجَأَهُمُ الْعَدُوُّ، أَمَرَ اللَّهُ بِهِ الْمُسْلِمِينَ لِيَكُونُوا دَائِمًا عَلَى حَذَرٍ مِنْ عَدُوِّهِمْ تَنْبِيهًا لَهُمْ عَلَى مَا يَكِيدُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ مُفَاجَأَتِهِمْ عَلَى غِرَّةٍ بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ كَمَا قَدَّمْنَاهُ آنِفًا، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُمْ فِي وَقْعَةِ الْأَحْزَابِ فَلَمَّا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِالْجِهَادِ أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَكُونُوا بَعْدَ ذَلِكَ أَيْقَاظًا مِنْ عَدُوِّهِمْ. وَفِي كِتَابِ الْجِهَادِ مِنَ «الْبُخَارِيِّ» : بَابُ فَضْلِ رِبَاطِ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا إِلَخْ. وَكَانَتِ الْمُرَابَطَةُ مَعْرُوفَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَهِيَ رَبْطُ الْفَرَسِ لِلْحِرَاسَةِ فِي الثُّغُورِ أَيِ الْجِهَاتِ الَّتِي يَسْتَطِيعُ الْعَدُوُّ الْوُصُولَ مِنْهَا إِلَى الْحَيِّ مِثْلِ الشِّعَابِ بَيْنَ الْجِبَالِ. وَمَا رَأَيْتُ مَنْ وَصَفَ ذَلِكَ مِثْلَ لَبِيدٍ فِي مُعَلَّقَتِهِ إِذْ قَالَ:
وَلَقَدْ حَمَيْتُ الْحَيَّ تَحْمِلُ شِكَّتِي فُرُطٌ وِشَاحِي إِذْ غَدَوْتُ لِجَامُهَا
فَعَلَوْتُ مُرْتَقَبًا عَلَى ذِي هَبْوَةٍ حَرِجٍ إِلَى إِعْلَامِهِنَّ قَتَامُهَا

(١٢٤)
الْأَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُ: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِلتَّنْوِيهِ بِفَضَائِلِ الْأَعْمَالِ، وَالتَّشْوِيهِ بِمَسَاوِيهَا، وَأَنَّ فِي (لَيْسَ) ضَمِيرًا عَائِدًا عَلَى الْجَزَاءِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: يُجْزَ بِهِ، أَيْ لَيْسَ الْجَزَاءُ تَابِعًا لِأَمَانِيِّ النَّاسِ وَمُشْتَهَاهُمْ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ مُقَدَّرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى تَقْدِيرًا بِحَسَبَ الْأَعْمَالِ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا أَنَّهُ وَقَعَ بَعْدَ تَذْيِيلٍ مُشْعِرٍ بِالنِّهَايَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النِّسَاء: ١٢٢]. وَمِمَّا يُرَجِّحُهُ أَنَّ فِي ذَلِكَ الِاعْتِبَارِ إِبْهَامًا فِي الضَّمِيرِ، ثُمَّ بَيَانا لَهُ بالحملة بَعْدَهُ، وَهِيَ: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَأَنَّ فِيهِ تَقْدِيمُ جُمْلَةِ لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ عَنْ مَوْقِعِهَا الَّذِي يُتَرَقَّبُ فِي آخِرِ الْكَلَامِ، فَكَانَ تَقْدِيمُهَا إِظْهَارًا لِلِاهْتِمَامِ بِهَا، وَتَهْيِئَةً لِإِبْهَامِ الضَّمِيرِ. وَهَذِهِ كُلُّهَا خَصَائِصُ مِنْ طُرُقِ الْإِعْجَازِ فِي النَّظْمِ. وَجُمْلَةُ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ اسْتِئْنَاف بياني ناشىء عَنْ جُمْلَةِ لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ لِأَنَّ السَّامِعَ يَتَسَاءَلُ عَنْ بَيَانِ هَذَا النَّفْيِ الْمُجْمَلِ. وَلِهَذَا الِاسْتِئْنَافُ مَوْقِعٌ مِنَ الْبَلَاغَةِ وَخُصُوصِيَّةٌ تَفُوتُ بِغَيْرِ هَذَا النَّظْمِ الَّذِي فَسَّرْنَاهُ. وَجَعَلَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» الضَّمِيرَ الْمُسْتَتِرَ عَائِدًا عَلَى وَعْدِ اللَّهِ، أَيْ لَيْسَ وَعْدُ اللَّهِ بِأَمَانِيِّكُمْ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ مِنْ تَكْمِلَةِ الْكَلَامِ السَّابِقِ حَالًا مِنْ وَعْدَ اللَّهِ [النِّسَاء: ١٢٢]، وَتَكُونُ جُمْلَةُ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا مَحْضًا.
رَوَى الْوَاحِدِيُّ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ بِسَنَدِهِ إِلَى أَبِي صَالِحٍ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ بِسَنَدِهِ إِلَى مَسْرُوقٍ، وَقَتَادَةَ، وَالسُّدِّيِّ، وَالضَّحَّاكِ، وَبَعْضُ الرِّوَايَاتِ يَزِيدُ عَلَى بَعْضٍ، أَنَّ سَبَبَ
نُزُولِهَا: أَنَّهُ وَقَعَ تَحَاجٌّ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ: الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، كُلُّ فَرِيقٍ يَقُولُ لِلْآخَرَيْنِ: نَحْنُ خَيْرٌ مِنْكُمْ، وَيَحْتَجُّ لِذَلِكَ وَيَقُولُ: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ عَلَى دِينِنَا.
فَأَنْزَلَ اللَّهُ لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ الْآيَات مُبين أَنَّ كُلَّ مَنِ اتَّبَعَ هُدَى اللَّهِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَكُلَّ مَنْ ضَلَّ وَخَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ فَهُوَ مُجَازًى بِسُوءِ عَمِلِهِ، فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْيَهُودِ قَبْلَ بَعْثَةِ عِيسَى وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ هُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا عَلَى دِينِ عِيسَى، فَبَطَلَ قَوْلُ النَّصَارَى: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ عَلَى دِينِنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا بِمُوسَى وَعِيسَى قَبْلَ بَعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، فَبَطَلَ قَوْلُ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ عَلَى دِينِنَا فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ حَكَمًا فَصْلًا بَيْنَ الْفِرَقِ، وَتَعْلِيمًا لَهُمْ أَنْ يَنْظُرُوا فِي تَوَفُّرِ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ، وَتَوَفُّرِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ مَعَهُ، وَلِذَلِكَ جَمَعَ اللَّهُ أَمَانِيَّ الْفِرَقِ الثَّلَاثِ بِقَوْلِهِ:
فَيَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْهُدَى عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مُطْلَقٌ، فَالنُّورُ أَعَمُّ، وَالْعَطْفُ لِأَجْلِ تِلْكَ الْمُغَايَرَةِ بِالْعُمُومِ.
وَالْمُرَادُ بِالنَّبِيِّينَ فَيَجُوزُ أَنَّهُمْ أَنْبِيَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، مُوسَى وَالْأَنْبِيَاءُ الَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِ. فَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ أَسْلَمُوا الَّذِينَ كَانَ شَرْعُهُمُ الْخَاصُّ بِهِمْ كَشَرْعِ الْإِسْلَامِ سَوَاءً، لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَخْصُوصِينَ بِأَحْكَامٍ غَيْرِ أَحْكَامِ عُمُومِ أُمَّتِهِمْ بَلْ هِيَ مُمَاثِلَةٌ لِلْإِسْلَامِ، وَهِيَ الْحَنِيفِيَّةُ الْحَقُّ، إِذْ لَا شَكَّ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كَانُوا عَلَى أَكْمَلِ حَالٍ مِنَ الْعِبَادَةِ وَالْمُعَامَلَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْخَمْرَ مَا كَانَتْ مُحَرَّمَةً فِي شَرِيعَةٍ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَمَعَ ذَلِكَ مَا شَرِبَهَا الْأَنْبِيَاءُ قَطُّ، بَلْ حَرَّمَتْهَا التَّوْرَاةُ عَلَى كَاهِنِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَمَا ظَنُّكَ بِالنَّبِيءِ. وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ وَصِيَّةِ إِبْرَاهِيمَ لِبَنِيهِ بِقَوْلِهِ: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [الْبَقَرَة: ١٣٢] كَمَا تَقَدَّمَ هُنَالِكَ. وَقَدْ قَالَ يُوسُفُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي دُعَائِهِ: تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يُوسُف: ١٠١]. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْوَصْفِ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ أَسْلَمُوا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الْإِشَارَةُ إِلَى شَرَفِ الْإِسْلَامِ وَفَضْلِهِ إِذْ كَانَ دِينَ الْأَنْبِيَاءِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بالنبيئين مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعُبِّرَ عَنْهُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ تَعْظِيمًا لَهُ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ هادُوا لِلْأَجَلِ وَلَيْسَتْ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ يَحْكُمُ إِذِ الْحُكْمُ فِي الْحَقِيقَةِ لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ. وَالَّذِينَ هَادُوا هُمُ الْيَهُودُ، وَهُوَ اسْمٌ يُرَادِفُ مَعْنَى الْإِسْرَائِيلِيِّينَ، إِلَّا أَنَّ أَصْلَهُ يَخْتَصُّ بِبَنِي يَهُوذَا مِنْهُمْ، فَغَلَبَ عَلَيْهِمْ مِنْ بَعْدُ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٦٢].
وَالرَّبَّانِيُّونَ جَمْعُ رَبَّانِيٍّ، وَهُوَ الْعَالِمُ الْمَنْسُوبُ إِلَى الرَّبِّ، أَيْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الرَّبَّانِيُّ نَسَبًا لِلرَّبِّ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، كَمَا قَالُوا: شَعْرَانِيٌّ لِكَثِيرِ الشَّعْرِ، وَلِحْيَانِيٌّ لِعَظِيمِ اللِّحْيَةِ. وَقِيلَ: الرَّبَّانِيُّ الْعَالِمُ الْمُرَبِّي، وَهُوَ الّذي يبتدىء
عَنْكَ فَهُمْ مِثْلَ الْمَوْتَى فَلَا يَسْتَجِيبُونَ، كَقَوْلِهِ: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتى [النَّمْل: ٨٠]. فَحَذَفَ مِنَ الْكَلَامِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، فَإِنَّ الَّذِي لَا يَسْمَعُ قَدْ يَكُونُ فُقْدَانُ سَمْعِهِ مِنْ عِلَّةٍ كَالصَّمَمِ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ عَدَمِ الْحَيَاةِ، كَمَا قَالَ عبد الرحمان بْنُ الْحَكَمِ الثَّقَفِيُّ:
حَتَّى إِذَا أَلْقَتْ يَدًا فِي كَافِرٍ وَأَجَنَّ عَوْرَاتِ الثُّغُورِ ظَلَامُهَا
لَقَدْ أَسْمَعْتَ لَوْ نَادَيْتَ حَيًّا وَلَكِنْ لَا حَيَاةَ لِمَنْ تُنَادِي
فَتَضَمَّنَ عَطْفُ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ تَعْرِيضًا بِأَنَّ هَؤُلَاءِ كَالْأَمْوَاتِ لَا تُرْجَى مِنْهُمُ اسْتِجَابَةٌ. وَتَخَلَّصَ إِلَى وَعِيدِهِمْ بِأَنَّهُ يَبْعَثُهُمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ، أَيْ لَا يُرْجَى مِنْهُمْ رُجُوعٌ إِلَى الْحَقِّ إِلَى أَنْ يُبْعَثُوا، وَحِينَئِذٍ يُلَاقُونَ جَزَاءَ كُفْرِهِمْ. وَالْمَوْتى اسْتِعَارَةٌ لِمَنْ لَا يَنْتَفِعُونَ بِعُقُولِهِمْ وَمَوَاهِبِهِمْ فِي أَهَمِّ الْأَشْيَاءِ، وَهُوَ مَا يُرْضِي اللَّهَ تَعَالَى. ويَبْعَثُهُمُ عَلَى هَذَا حَقِيقَةٌ، وَهُوَ تَرْشِيحٌ لِلِاسْتِعَارَةِ، لِأَنَّ الْبَعْثَ مِنْ مُلَائِمَاتِ الْمُشَبَّهِ بِهِ فِي الْعُرْفِ وَإِنْ كَانَ الْحَيُّ يُخْبَرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ يُبْعَثُ، أَيْ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلَكِنَّ الْعُرْفَ لَا يَذْكُرُ الْبَعْثَ إِلَّا بِاعْتِبَارِ وَصْفِ الْمَبْعُوثِ بِأَنَّهُ مَيِّتٌ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْبَعْثُ اسْتِعَارَةً أَيْضًا لِلْهِدَايَةِ بَعْدَ الضَّلَالِ تَبَعًا لِاسْتِعَارَةِ الْمَوْتِ لِعَدَمِ قَبُولِ الْهُدَى عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمَعْرُوفَيْنِ فِي التَّرْشِيحِ- فِي فَنِّ الْبَيَانِ- مِنْ كَوْنِهِ تَارَةً يَبْقَى عَلَى حَقِيقَتِهِ لَا يَقْصِدُ مِنْهُ إِلَّا تَقْوِيَةَ الِاسْتِعَارَةِ، وَتَارَةً يُسْتَعَارُ مِنْ مُلَائِمِ الْمُشَبَّهِ بِهِ إِلَى شِبْهِهِ مِنْ مُلَائِمِ الْمُشَبَّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً [آل عمرَان: ١٠٣]. فَيَكُونُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي الْكَلَامِ وَعْدٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ بَعْضَ هَؤُلَاءِ الضَّالِّينَ الْمُكَذِّبِينَ سَيَهْدِيهِمُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى الْإِسْلَامِ، وَهُمْ مَنْ لَمْ يَسْبِقْ فِي عِلْمِهِ حِرْمَانُهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ.
فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَكُونُ قَوْلُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ زِيَادَةً فِي التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ. وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي يَكُونُ تَحْرِيضًا لَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ لِيَلْقَوْا جَزَاءَهُ حِينَ يُرْجَعُونَ إِلَى اللَّهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَقْفُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ. وَتَمَّ التَّمْثِيلُ هُنَالِكَ. وَيَكُونُ قَوْلُهُ: ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ اسْتِطْرَادًا تَخَلَّصَ بِهِ إِلَى قرع أسماعهم بِإِثْبَاتِ الْحَشْرِ الَّذِي يَقَعُ بَعْدَ الْبَعْثِ الْحَقِيقِيِّ، فَيَكُونُ الْبَعْثُ فِي قَوْلِهِ: يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ. وَقَرِيبٌ مِنْهُ فِي التَّخَلُّصِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى
فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ
وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ [الْأَنْعَام: ٣١]. وَأَمَّا تَسْمِيَةُ الْإِثْمِ وِزْرًا فَلِأَنَّهُ يُتَخَيَّلُ ثَقِيلًا عَلَى نَفْسِ الْمُؤْمِنِ. فَمَعْنَى لَا تَزِرُ وازِرَةٌ لَا تَحْمِلُ حَامِلَةٌ، أَيْ لَا تَحْمِلُ نَفْسٌ حِينَ تَحْمِلُ حِمْلَ أَيِّ نَفْسٍ أُخْرَى غَيْرَهَا، فَالْمَعْنَى لَا تُغْنِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا تَحْمِلُهُ عَنْهَا، أَيْ كُلُّ نَفْسٍ تَزِرُ وِزْرَ نَفْسِهَا، فَيُفِيدُ أَنَّ وِزْرَ كُلِّ أَحَدٍ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ لَا يَحْمِلُ غَيْرُهُ عَنْهُ شَيْئًا مِنْ وِزْرِهِ الَّذِي وَزَرَهُ وَأَنَّهُ لَا تَبِعَةَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ وِزْرِ غَيْرِهِ مِنْ قَرِيبٍ أَوْ صَدِيقٍ، فَلَا تُغْنِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا، وَلَا تُتَّبَعُ نَفْسٌ بِإِثْمِ غَيْرِهَا، فَهِيَ إِنْ حَمَلَتْ لَا تَحْمِلُ حِمْلَ غَيْرِهَا. وَهَذَا إتْمَام
لِمَعْنى المتاركة.
ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ.
ثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ. وَهَذَا الْكَلَامُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ الْقَوْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَيكون تعقيبا للمتاركة بِمَا فِيهِ تَهْدِيدُهُمْ وَوَعِيدُهُمْ، فَكَانَ مَوْقِعُ ثُمَّ لِأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ أَهَمُّ.
فَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ خِطَابٌ لِلْمُشْرِكِينَ وَكَذَلِكَ الضَّمِيرَانِ فِي قَوْلِهِ:
بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ وَالْمَعْنَى: بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ وَاقِعٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ فِي أَنْفُسِهِمِ اخْتِلَافٌ. فَأُدْمِجَ الْوَعِيدُ بِالْوَعِيدِ. وَقَدْ جَعَلُوا هَذِهِ الْجُمْلَةَ مَعَ الَّتِي قَبْلَهَا آيَةً وَاحِدَةً فِي الْمَصَاحِفِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَقُولُ قَدِ انْتَهَى عِنْدَ قَوْلِهِ: وِزْرَ أُخْرى فَيَكُونُ قَوْلُهُ: ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ اسْتِئْنَافُ كَلَامٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى خطابا للنّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُعَانِدِينَ لَهُ. وَ (ثُمَّ) صَالِحَةٌ لِلِاسْتِئْنَافِ لِأَنَّ الِاسْتِئْنَافَ مُلَائِمٌ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ، وَالْكَلَامُ وَعِيدٌ وَوَعْدٌ أَيْضًا. وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ مَعَ الَّتِي قَبْلَهَا آيَةً وَاحِدَةً.
دَعَاهُ النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» عِنْدَ احْتِضَارِهِ فَقَالُوا لِأَبِي طَالِبٍ: «أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةٍ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ»
. وَاجْتِلَابُ (كَانَ) لِتَدُلَّ عَلَى أَنَّ عِبَادَتَهُمْ أَمْرٌ قَدِيمٌ مَضَتْ عَلَيْهِ الْعُصُورُ.
وَالتَّعْبِيرُ بِالْفِعْلِ وَكَوْنُهُ مُضَارِعًا فِي قَوْلِهِ: يَعْبُدُ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مُتَكَرِّرٌ مِنْ آبَائِهِمْ وَمُتَجَدِّدٌ وَأَنَّهُمْ لَا يَفْتَرُونَ عَنْهُ.
وَمَعْنَى أَجِئْتَنا أَقَصَدْتَ وَاهْتَمَمْتَ بِنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ فَاسْتُعِيرَ فِعْلُ الْمَجِيءِ لِمَعْنَى الِاهْتِمَامِ وَالتَّحَفُّزِ وَالتَّصَلُّبِ، كَقَوْلِ الْعَرَبِ: ذَهَبَ يَفْعَلُ، وَفِي الْقُرْآنِ: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ [المدثر: ١، ٢] وَقَالَ حِكَايَةً عَنْ فِرْعَوْنَ: ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى فَحَشَرَ فَنادى [النازعات: ٢٢، ٢٣] وَفِرْعَوْنُ لَمْ يُفَارِقْ مَجْلِسَ مُلْكِهِ وَإِنَّمَا أُرِيدَ أَنَّهُ أَعْرَضَ وَاهْتَمَّ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُمْ ذَهَبَ يَفْعَلُ كَذَا قَالَ النَّبَهَانِيُّ:
فَإِنْ كُنْتَ سَيِّدَنَا سُدْتَنَا وَإِنْ كُنْتَ لِلْخَالِ فَاذْهَبْ فَخَلْ
فَقَصَدُوا مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُ الْمَجِيءِ زِيَادَةَ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ وَتَسْفِيهَهُ عَلَى اهْتِمَامِهِ بِأَمْرٍ مِثْلِ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ.
ووَحْدَهُ حَالٌ مِنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ وَهُوَ اسْمُ مَصْدَرِ أَوْحَدَهُ: إِذَا اعْتَقَدَهُ وَاحِدًا، فَقِيَاس الْمصدر الإيجاد، وَانْتَصَبَ هَذَا الْمَصْدَرُ عَلَى الْحَالِ: إِمَّا مِنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ بِتَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ بِاسْمِ الْمَفْعُولِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَيْ مُوَحَّدًا أَيْ مَحْكُومًا لَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَقَالَ يُونُسُ:
هُوَ بِمَعْنَى اسْمِ الْفَاعِلِ أَيْ مُوَحِّدِينَ لَهُ فَهُوَ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي لِنَعْبُدَ.
وَتَقَدَّمَ مَعْنَى: وَنَذَرَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٧٠].
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا لِتَفْرِيعِ طَلَبِ تَحْقِيقِ مَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ، وَتَحَدِّيًا لِهُودٍ، وَإِشْعَارًا لَهُ بِأَنَّهُمْ مُوقِنُونَ بِأَنْ لَا صِدْقَ لِلْوَعِيدِ الَّذِي يَتَوَعَّدُهُمْ
مَعْرِفَةِ الْغَيْبِ هُوَ الْإِسْرَاعُ إِلَى الْخَيْرَاتِ الْمُسْتَقْبَلَةِ بِتَهْيِئَةِ أَسْبَابِهَا وَتَقْرِيبِهَا، وَإِلَى التَّجَنُّبِ لِمَوَاقِعِ الْأَضْرَارِ، فَنَفْيُ أَنْ يَمْلِكَ لِنَفْسِهِ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا، يَعُمُّ سَائِرَ أَنْوَاعِ الْمُلْكِ وَسَائِرَ أَنْوَاعِ النَّفْعِ وَالضَّرِّ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ الْعُمُومِ مَا يَكُونُ مِنْهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَهُوَ مِنَ الْغَيْبِ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ مَجْمُوعِ النَّفْعِ وَالضَّرِّ، وَالْأَوْلَى جَعْلُهُ مُتَّصِلًا، أَيْ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُمَلِّكَنِيهِ بِأَنْ يُعَلِّمَنِيهِ وَيُقَدِّرَنِي عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَشَأْ ذَلِكَ لَمْ يُطْلِعْنِي عَلَى مَوَاقِعِهِ وَخَلْقُ الْمَوَانِعِ مِنْ أَسْبَابِ تَحْصِيلِ النَّفْعِ، وَمِنْ أَسْبَابِ اتِّقَاءِ الضُّرِّ، وَحَمْلُهُ عَلَى الِاتِّصَالِ يُنَاسِبُ ثُبُوتَ قُدْرَةٍ لِلْعَبْدِ بِجَعْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِالْكَسْبِ، فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُوَجِّهَ نَفْسَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَى مَعْرِفَةِ شَيْءٍ مُغَيَّبٍ أَطْلَعَهُ عَلَيْهِ لِمَصْلَحَةِ الْأُمَّةِ أَوْ لِإِكْرَامِ الْأُمَّةِ لَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ- إِلَى قَوْلِهِ: لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا [الْأَنْفَال: ٤٤].
وَقَوْلِهِ: وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ إِلَخْ تَكْمِلَةً لِلتَّبَرُّؤِ مِنْ مَعْرِفَةِ الْغَيْبِ، سَوَاءٌ مِنْهُ مَا كَانَ يَخُصُّ نَفْسَهُ وَمَا كَانَ من شؤون غَيْرِهِ.
فَحَصَلَ مِنْ مَجْمُوعِ الْجُمْلَتَيْنِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا، فِي عَالَمِ الشَّهَادَةِ وَفِي عَالَمِ الْغَيْبِ، وَأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا مِنَ الْغَيْبِ، مِمَّا فِيهِ نَفْعُهُ وَضَرُّهُ وَمَا عَدَاهُ.
وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى انْتِفَاءِ عِلْمِهِ بِالْغَيْبِ بِانْتِفَاءِ الِاسْتِكْثَارِ مِنَ الْخَيْرِ، وَتَجَنُّبِ السُّوءِ، اسْتِدْلَالٌ بِأَخَصِّ مَا لَوْ عَلِمَ الْمَرْءُ الْغَيْبَ لَعَلِمَهُ، أَوَّلَ مَا يَعْلَمُ وَهُوَ الْغَيْبُ الَّذِي يُهِمُّ نَفْسَهُ، وَلِأَنَّ اللَّهَ لَوْ أَرَادَ إِطْلَاعَهُ عَلَى الْغَيْبِ لَكَانَ الْقَصْدُ مِنْ ذَلِكَ إكرام الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَكُونُ إِطْلَاعُهُ عَلَى مَا فِيهِ رَاحَتُهُ أَوَّلَ مَا يَنْبَغِي إِطْلَاعُهُ عَلَيْهِ، فَإِذَا انْتَفَى ذَلِكَ كَانَ انْتِفَاءُ غَيره أولى.
ودلي التَّالِي، فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ الشَّرْطِيَّةِ، هُوَ الْمُشَاهَدَةُ مِنْ فَوَاتِ خَيْرَاتٍ دُنْيَوِيَّةٍ لَمْ يَتَهَيَّأْ لِتَحْصِيلِهَا وَحُصُولِ أَسْوَاءٍ دُنْيَوِيَّةٍ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ لَهُمْ إِذْ كَانُوا يتعرضون لَهُ السوء.
وَجُمْلَةُ: إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ مِنْ تَمَامِ الْقَوْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَهِي مستأنفة ستينافا بَيَانِيًّا، نَاشِئًا عَنِ التَّبَرُّؤِ مِنْ أَنْ يَمْلِكَ لِنَفْسِهِ نَفْعًا أَوْ ضَرًّا لِأَنَّ السَّامِعِينَ يَتَوَهَّمُونَ مَا نَفَاهُ عَنْ نَفْسِهِ أخص صِفَات النَّبِي فَمِنْ شَأْنِهِمْ أَنْ يَتَعَجَّبُوا مِنْ نَفْيِهِ ذَلِكَ عَنْ
وَإِبْهَامُ خَيْرٌ لِقَصْدِ تَوَقُّعِ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ شُعَبٍ كَثِيرَةٍ أَهَمُّهَا الِاطْمِئْنَانُ مِنْ أَنْ يَغْزُوَهُمُ الرُّومُ وَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَيْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ الْخَيْرَ وَشُعَبَهُ. وَفِي اخْتِيَارِ فِعْلِ الْعِلْمِ دُونَ الْإِيمَانِ مَثَلًا لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ مِنْ هَذَا الْخَيْرِ مَا يَخْفَى فَيَحْتَاجُ مُتَطَلِّبُ تَعْيِينِ شُعَبِهِ إِلَى إِعْمَالِ النّظر وَالْعلم.
[٤٢]
[سُورَة التَّوْبَة (٩) : آيَة ٤٢]
لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٤٢)
اسْتِئْنَافٌ لِابْتِدَاءِ الْكَلَامِ عَلَى حَالِ الْمُنَافِقِينَ وَغَزْوَةِ تَبُوكَ حِينَ تَخَلَّفُوا وَاسْتَأْذَنَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فِي التَّخَلُّفِ وَاعْتَلُّوا بِعِلَلٍ كَاذِبَة، وَهُوَ ناشىء عَنْ قَوْلِهِ: مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ [التَّوْبَة: ٣٨].
وَانْتُقِلَ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ لِأَنَّ الْمُتَحَدَّثَ عَنْهُمْ هُنَا بَعْضُ الْمُتَثَاقِلِينَ لَا مَحَالَةَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَ هَذَا إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ [التَّوْبَة: ٤٥]. وَمِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ ابْتَدَأَ إِشْعَارُ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ اللَّهَ أَطْلَعَ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى دَخَائِلِهِمْ.
وَالْعَرَضُ مَا يَعْرِضُ لِلنَّاسِ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٦٩] وَقَوْلِهِ: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [٦٧] وَالْمُرَادُ بِهِ الْغَنِيمَةُ.
وَالْقَرِيبُ: الْكَائِنُ عَلَى مَسَافَةٍ قَصِيرَةٍ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي السَّهْلِ حُصُولُهُ. وقاصِداً أَيْ وَسَطًا فِي الْمَسَافَةِ غَيْرَ بَعِيدٍ. وَاسْمُ كَانَ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْخَبَرُ: أَيْ لَوْ كَانَ الْعَرَضُ عَرَضًا قَرِيبًا، وَالسَّفَرُ سَفَرًا مُتَوَسِّطًا، أَوْ: لَوْ كَانَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا.
وَالشُّقَّةُ- بِضَمِّ الشِّينِ- الْمَسَافَةُ الطَّوِيلَةُ.
عَلَيْهِمْ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ حَقًّا بِزَعْمِهِمْ فَمَنِ الَّذِي أَبْلَغَهُمْ تِلْكَ الشَّرَائِعَ عَن الله وَلماذَا تَقَبَّلُوهَا عَمَّنْ شَرَعَهَا لَهُمْ وَلَمْ يُكَذِّبُوهُ وَهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَلْتَزِمُوا ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ فَقَدِ افْتَرَوْا عَلَى اللَّهِ فَلَزِمَهُمْ مَا أَلْصَقُوهُ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلِقَ بِهِمْ وَبَرَّأَ اللَّهُ مِنْهُ رَسُولَهُ، فَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ مِنَ الطَّرِيقِ الْمُسَمَّى بِالْقَلْبِ فِي عِلْمِ الْجَدَلِ.
ثُمَّ إِنَّ اخْتِيَارَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ مِنْ تَشْرِيعِهِمْ فِي خُصُوصِ أَرْزَاقِهِمْ يَزِيدُ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ مُنَاسَبَةً بِآخِرِ الْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهُ لِيَظْهَرَ مَا فِيهِ مِنْ حُسْنِ التَّخَلُّصِ إِلَيْهِ وَذَلِكَ أَنَّ آخِرَ الْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ جُمْلَةُ هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يُونُس: ٥٨]، أَيْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ. وَتِلْكَ الْأَمْوَالُ هِيَ الَّتِي رَزَقَهُمُ اللَّهُ إِيَّاهَا فَجَعَلُوا مِنْهَا حَلَالًا وَمِنْهَا حَرَامًا وَكَفَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِذْ حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ طَيِّبَاتِ مَا أَعْطَاهُمْ رَبُّهُمْ، وَحَسْبُهُمْ بِذَلِكَ شَنَاعَةً بِهِمْ مُلْصَقَةً، وَأَبْوَابًا مِنَ الْخَيْرِ فِي وُجُوهِهِمْ مُغْلَقَةً.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَرَأَيْتُمْ وآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ تَقْرِيرِيٌّ بِاعْتِبَارِ إِلْزَامِهِمْ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَذِنَ لَهُمْ، أَوْ أَنْ يَكُونُوا مُفْتَرِينَ عَلَى اللَّهِ، وَقَدْ شِيبَ التَّقْرِيرُ فِي ذَلِكَ بِالْإِنْكَارِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ.
وَالرُّؤْيَةُ عِلْمِيَّةٌ، وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ هُوَ الْمَفْعُول الأول ل (رَأَيْتُمْ)، وَجُمْلَةُ
فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ إِلَخْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى صِلَةِ الْمَوْصُولِ بِفَاءِ التَّفْرِيعِ، أَيِ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ مفعول ثَان ل (رَأَيْتُمْ)، وَرَابِطُ الْجُمْلَةِ بِالْمَفْعُولِ مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: أَذِنَكُمْ بِذَلِكَ، دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا.
وقُلْ الثَّانِي تَأْكِيدٌ لِ قُلْ الْأَوَّلِ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ الِاسْتِفْهَامِ الْأُولَى وَجُمْلَةِ الِاسْتِفْهَامِ الثَّانِيَةِ لِزِيَادَةِ إِشْرَافِ الْأَسْمَاعِ عَلَيْهِ. وَهِيَ مُعَادَلَةٌ بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ لِأَنَّهَا بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْمَعْمُولَتَيْنِ لِفِعْلِ أَرَأَيْتُمْ. وَفِعْلُ الرُّؤْيَةِ مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ فِي الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِأَنَّ الْأَصَحَّ جَوَازُ التَّعْلِيقِ عَنِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي. وَزَعَمَ الرَّضِيُّ أَنَّ الرُّؤْيَةَ بَصَرِيَّةٌ. وَقَدْ بَسَطْتُ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ الْآيَةُ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ [٥٨، ٥٩].
وأَمْ مُتَّصِلَةٌ وَهِيَ مُعَادِلَةٌ لِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ عَنْ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَحَدَ عَشَرَ- بِفَتْحِ الْعَيْنِ- مِنْ عَشَرَ. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ- بِسُكُونِ الْعَيْنِ-.
وَاسْتَعْمَلَ ضَمِيرَ جَمْعِ الْمُذَكَّرِ لِلْكَوَاكِبِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ فِي قَوْلِهِ: رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ، لِأَنَّ كَوْنَ ذَلِكَ لِلْعُقَلَاءِ غَالِبٌ لَا مُطَّرِدٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْأَصْنَامِ وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ [سُورَة الْأَعْرَاف: ١٩٨]، وَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا [سُورَة النَّمْلُ: ١٨].
وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الْحَالَةُ الْمَرْئِيَّةُ مِنَ الْكَوَاكِبِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ حَالَةَ الْعُقَلَاءِ، وَهِيَ حَالَةُ السُّجُودِ نَزَّلَهَا مَنْزِلَةَ الْعُقَلَاءِ، فَأَطْلَقَ عَلَيْهَا ضَمِيرَ (هُمْ) وَصِيغَةَ جَمْعِهِمْ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى عَامِلِهِ فِي قَوْلِهِ: لِي ساجِدِينَ لِلِاهْتِمَامِ، عَبَّرَ بِهِ عَنْ مَعْنَى تَضَمُّنِهِ كَلَامَ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِلُغَتِهِ يَدُلُّ عَلَى حَالَةٍ فِي الْكَوَاكِبِ مِنَ التَّعْظِيمِ لَهُ تَقْتَضِي الِاهْتِمَامَ بِذِكْرِهِ فَأَفَادَهُ تَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ.
وَابْتِدَاءُ قِصَّةِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِذِكْرِ رُؤْيَاهُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ هيّأ نَفسه للنبوءة فَابْتَدَأَهُ بِالرُّؤْيَا الصَّادِقَةِ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ «أَنَّ أَوَّلَ مَا ابْتُدِئَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ». وَفِي ذَلِكَ تَمْهِيدٌ لِلْمَقْصُودِ مِنَ الْقِصَّةِ وَهُوَ تَقْرِيرُ فَضْلِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنْ طَهَارَةٍ وَزَكَاءِ نَفْسٍ وَصَبْرٍ.
فَذَكَرَ هَذِهِ الرُّؤْيَا فِي صَدْرِ الْقِصَّةِ كَالْمُقَدِّمَةِ وَالتَّمْهِيدِ لِلْقِصَّةِ الْمَقْصُودَةِ.
وَجَعَلَ اللَّهُ تِلْكَ الرُّؤْيَا تَنْبِيهًا لِيُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِعُلُوِّ شَأْنِهِ لِيَتَذَكَّرَهَا كُلَّمَا حَلَّتْ بِهِ ضَائِقَةٌ فَتَطَمَئِنَّ بِهَا نَفْسُهُ أَنَّ عَاقِبَتَهُ طَيِّبَةٌ.
وَإِنَّمَا أَخْبَرَ يُوسُفُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَبَاهُ بِهَاتِهِ الرُّؤْيَا لِأَنَّهُ عَلِمَ بِإِلْهَامٍ أَوْ بِتَعْلِيمٍ سَابِقٍ مِنْ أَبِيهِ أَنَّ لِلرُّؤْيَا تَعْبِيرًا، وَعَلِمَ أَنَّ الْكَوَاكِبَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كِنَايَةٌ
وَمَعْنَى خافَ مَقامِي خَافَنِي، فَلَفْظُ مَقَامٍ مُقْحِمٌ لِلْمُبَالَغَةِ فِي تَعَلُّقِ الْفِعْلِ بِمَفْعُولِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ [الرَّحْمَن: ٤٦]، لِأَنَّ الْمَقَامَ أَصْلُهُ مَكَانُ الْقِيَامِ، وَأُرِيدَ فِيهِ بِالْقِيَامِ مُطْلَقُ الْوُجُودِ لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ تُعْتَبَرُ قَائِمَةً، فَإِذَا قِيلَ خافَ مَقامِي كَانَ فِيهِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ مَا لَيْسَ فِي (خَافَنِي) بِحَيْثُ إِنَّ الْخَوْفَ يَتَعَلَّقُ بِمَكَانِ الْمُخَوَّفِ مِنْهُ. كَمَا يُقَالُ: قَصَّرَ فِي جَانِبِي. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [سُورَة الزمر: ٥٦]. وَكُلُّ ذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ كَقَوْلِ زِيَادٍ الْأَعْجَمِ:
إِنَّ السَّمَاحَةَ وَالْمَرُوءَةَ وَالنَّدَى فِي قُبَّةٍ ضُرِبَتْ عَلَى ابْنِ الْحَشْرَجِ
أَيْ فِي ابْنِ الْحَشْرَجِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى وُجُودِ قُبَّةٍ. وَمِنْهُ مَا
فِي الْحَدِيثِ «إِنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ الرَّحِمَ أَخَذَتْ بِسَاقِ الْعَرْشِ وَقَالَتْ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنَ الْقَطِيعَةِ»
، أَيْ هَذَا الْعَائِذُ بِكَ الْقَطِيعَةَ.
وَخَوْفُ اللَّهِ: هُوَ خَوْفُ غَضَبِهِ لِأَنَّ غَضَبَ اللَّهِ أَمْرٌ مَكْرُوهٌ لَدَى عَبِيدِهِ.
وَعَطَفَ جُمْلَةَ وَخافَ وَعِيدِ عَلَى خافَ مَقامِي مَعَ إِعَادَةِ فِعْلِ خافَ دُونَ اكْتِفَاء بعطف وَعِيدِ عَلَى مَقامِي لِأَنَّ هَذِهِ الصِّلَةَ وَإِنْ كَانَ صَرِيحُهَا ثَنَاءً عَلَى
الْمُخَاطَبِينَ فَالْمُرَادُ مِنْهَا التَّعْرِيضُ بِالْكَافِرِينَ بِأَنَّهُمْ لَا يَخَافُونَ وَعِيدَ اللَّهِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَتْ جُمْلَةُ خافَ مَقامِي تُغْنِي عَنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، فَإِنَّ الْمُشْركين لم يعبأوا بِوَعِيدِ اللَّهِ وَحَسِبُوهُ عَبَثًا، قَالَ تَعَالَى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ [سُورَة الْحَج: ٤٧]، وَلِذَلِكَ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهُمَا فِي سُورَةِ الْبَيِّنَةِ [٨] ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ، لِأَنَّهُ فِي سِيَاقِ ذِكْرِ نَعِيمِ الْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً.
وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي ذِكْرِ إِهْلَاكِ الظَّالِمِينَ وَإِسْكَانِ الْمُؤْمِنِينَ أَرْضَهُمْ فَكَانَ الْمَقَامُ لِلْفَرِيقَيْنِ، فَجُمِعَ فِي جَزَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بإدماج التَّعْرِيض بوعي الْكَافِرِينَ، وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا دَلَالَةً عَلَى أَنَّ مِنْ حَقِّ الْمُؤْمِنِ أَنْ يَخَافَ غَضَبَ رَبِّهِ وَأَنْ يَخَافَ
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ لِلْأَزْهَارِ وَلِلثِّمَارِ غُدَدًا دَقِيقَةً تَفْرِزُ سَائِلًا سُكَّرِيًّا تَمْتَصُّهُ النَّحْلُ وَتَمْلَأُ بِهِ مَا هُوَ كَالْحَوَاصِلِ فِي بُطُونِهَا وَهُوَ يَزْدَادُ حَلَاوَةً فِي بُطُونِ النَّحْلِ بِاخْتِلَاطِهِ بِمَوَادٍّ كِيمْيَائِيَّةٍ مُودَعَةٍ فِي بُطُونِ النَّحْلِ، فَإِذَا رَاحَتْ مِنْ مَرْعَاهَا إِلَى بُيُوتِهَا أَخْرَجَتْ مِنْ أَفْوَاهِهَا مَا حَصَلَ فِي بُطُونِهَا بَعْدَ أَنْ أَخَذَ مِنْهُ جِسْمُهَا مَا يَحْتَاجُهُ لِقُوتِهِ، وَذَلِكَ يُشْبِهُ اجْتِرَارَ الْحَيَوَانِ الْمُجْتَرِّ.
فَذَلِكَ هُوَ الْعَسَلُ.
وَالْعَسَلُ حِينَ الْقَذْفِ بِهِ فِي خَلَايَا الشَّهْدِ يَكُونُ مَائِعًا رَقِيقًا، ثُمَّ يَأْخُذُ فِي جَفَافِ مَا فِيهِ مِنْ رُطُوبَةِ مِيَاهِ الْأَزْهَارِ بِسَبَبِ حَرَارَةِ الشَّمْعِ الْمُرَكَّبِ مِنْهُ الشَّهْدُ وَحَرَارَةِ بَيْتِ النَّحْلِ حَتَّى يصير خائرا، وَيَكُونُ أَبْيَضَ فِي الرَّبِيعِ وَأَسْمَرَ فِي الصَّيْفِ.
وَالسُّلُوكُ: الْمُرُورُ وَسَطَ الشَّيْءِ مِنْ طَرِيقٍ وَنَحْوِهِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [١٢].
وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْأَكْثَرِ مُتَعَدِّيًا كَمَا فِي آيَةِ الْحِجْرِ بِمَعْنَى أَسْلُكُهُ، وَقَاصِرًا بِمَعْنَى مَرَّ كَمَا هُنَا، لِأَنَّ السُّبُلَ لَا تَصْلُحُ لِأَنْ تَكُونَ مَفْعُولَ (سَلَكَ) الْمُتَعَدِّي، فَانْتِصَابُ سُبُلَ هُنَا عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ تَوَسُّعًا.
وَإِضَافَةُ السُّبُلِ إِلَى رَبِّكِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ النَّحْلَ مُسَخَّرَةٌ لِسُلُوكِ تِلْكَ السُّبُلِ لَا يَعْدِلُهَا عَنْهَا شَيْءٌ، لِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تَسْلُكْهَا لَاخْتَلَّ نِظَامُ إِفْرَازِ الْعَسَلِ مِنْهَا.
وذُلُلًا جَمْعُ ذَلُولٍ، أَيْ مُذَلَّلَةٌ مُسَخَّرَةٌ لِذَلِكَ السُّلُوكِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٧١].
وَجُمْلَةُ يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا، لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْخَبَرِ عَنْ إِلْهَامِ النَّحْلِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ يُثِيرُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ الْغَايَةِ مِنْ هَذَا التَّكْوِينِ
الْعَجِيبِ، فَيَكُونُ مَضْمُونُ جُمْلَةِ يَخْرُجُ مِنْ
الْمَفْعُولِ بِاللَّامِ، قَالَ تَعَالَى: وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا [يُوسُف: ١٧] وَقَالَ: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ [العنكبوت:
٢٦]. وَهَذِهِ اللَّامُ مِنْ قَبِيلِ مَا سَمَّاهُ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» لَامَ التَّبْيِينِ. وَغَفَلَ عَنِ التَّمْثِيلِ لَهَا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَنَحْوِهَا، فَإِنَّ مَجْرُورَ اللَّامِ بَعْدَ فِعْلِ نُؤْمِنَ مَفْعُولٌ لَا الْتِبَاسَ لَهُ بِالْفَاعِلِ وَإِنَّمَا تُذْكَرُ اللَّامُ لِزِيَادَةِ الْبَيَانِ وَالتَّوْكِيدِ. وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّهَا لِدَفْعِ الْتِبَاسِ مَفْعُولِ فِعْلِ «آمَنَ» بِمَعْنَى صَدَّقَ بِمَفْعُولِ فِعْلِ (آمَنَ) إِذَا جَعَلَهُ أَمِينًا. وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ فِي سُورَةِ يُونُسَ: [٨٣].
وَالْيَنْبُوعُ: اسْمٌ لِلْعَيْنِ الْكَثِيرَةِ النَّبْعِ الَّتِي لَا يَنْضُبُ مَاؤُهَا. وَصِيغَةُ يَفْعُولٍ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ
غَيْرُ قِيَاسِيَّةٍ، وَالْيَنْبُوعُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ مَادَّةِ النَّبْعِ غَيْرَ أَنَّ الْأَسْمَاءَ الْوَارِدَةَ عَلَى هَذِهِ الصِّيغَةِ مُخْتَلِفَةٌ، فَبَعْضُهَا ظَاهِرٌ اشْتِقَاقُهُ كَالْيَنْبُوعِ وَالْيَنْبُوتِ، وَبَعْضُهَا خَفِيٌّ كَالْيَعْبُوبِ لِلْفَرَسِ الْكَثِيرِ الْجَرْيِ. وَقِيلَ: اشْتُقَّ مِنَ الْعَبِّ الْمَجَازِيِّ. وَمِنْهُ أَسْمَاءٌ مُعَرَّبَةٌ جَاءَ تَعْرِيبُهَا عَلَى وَزْنِ يَفْعُولٍ مِثْلَ يَكْسُومَ اسْمِ قَائِدٍ حَبَشِيٍّ، وَيَرْمُوكَ اسْمِ نَهْرٍ. وَقَدِ اسْتَقْرَى الْحَسَنُ الصَّاغَانِيُّ مَا جَاءَ مِنَ الْكَلِمَاتِ فِي الْعَرَبِيَّةِ عَلَى وَزْنِ يَفْعُولٍ فِي مُخْتَصَرٍ لَهُ مُرَتَّبٍ على حُرُوف المعجم. وَقَالَ السُّيُوطِيُّ فِي «الْمُزْهِرِ» : إِنَّ ابْنَ دُرَيْدٍ عَقَدَ لَهُ فِي «الْجَمْهَرَةِ» بَابًا.
وَالْجَنَّةُ، وَالنَّخِيلُ، وَالْعِنَبُ، وَالْأَنْهَارُ تَقَدَّمَتْ فِي قَوْلِهِ: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٦٦].
وَخَصُّوا هَذِهِ الْجَنَّةَ بِأَنْ تَكُونَ لَهُ، لِأَنَّ شَأْنَ الْجَنَّةِ أَنْ تَكُونَ خَاصَّةً لِمِلْكِ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ، فَأَرَوْهُ أَنَّهُمْ لَا يَبْتَغُونَ مِنْ هَذَا الِاقْتِرَاحِ نَفْعَ أَنْفُسِهِمْ وَلَكِنَّهُمْ يَبْتَغُونَ حُصُولَهُ وَلَوْ كَانَ لِفَائِدَةِ الْمُقْتَرَحِ عَلَيْهِ. وَالْمُقْتَرَحُ هُوَ تَفْجِيرُ الْمَاءِ فِي الْأَرْضِ الْقَاحِلَةِ، وَإِنَّمَا ذَكَرُوا وُجُودَ الْجَنَّةِ تَمْهِيدًا لِتَفْجِيرِ أَنْهَارٍ خِلَالَهَا فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: حَتَّى تُفَجِّرَ لَنَا يَنْبُوعًا يَسْقِي النَّاسَ كُلَّهُمْ، أَوْ تُفَجِّرَ أَنْهَارًا تَسْقِي جَنَّةً وَاحِدَةً تَكُونُ تِلْكَ الْجَنَّةُ وَأَنْهَارُهَا لَكَ. فَنَحْنُ مُقْتَنِعُونَ بِحُصُولِ ذَلِكَ لَا بُغْيَةَ الِانْتِفَاعِ مِنْهُ. وَهَذَا كَقَوْلِهِمْ: أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ.

[سُورَة طه (٢٠) : الْآيَات ٢٢ إِلَى ٢٣]

وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (٢٢) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (٢٣)
هَذِهِ مُعْجِزَةٌ أُخْرَى عَلَّمَهُ اللَّهُ إِيَّاهَا حَتَّى إِذَا تَحَدَّى فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ عَمِلَ مِثْلَ ذَلِكَ أَمَامَ السَّحَرَةِ. فَهَذَا تَمْرِينٌ عَلَى مُعْجِزَةٍ ثَانِيَةٍ مُتَّحِدُ الْغَرَضِ مَعَ إِلْقَاءِ الْعَصَا.
وَالْجَنَاحُ: الْعَضُدُ وَمَا تَحْتَهُ إِلَى الْإِبِطِ. أُطْلِقَ عَلَيْهِ ذَلِكَ تَشْبِيهًا بِجَنَاحِ الطَّائِرِ.
وَالضَّمُّ: الْإِلْصَاقُ، أَيْ أَلْصِقْ يَدَكَ الْيُمْنَى الَّتِي كُنْتَ مُمْسِكًا بِهَا الْعَصَا. وَكَيْفِيَّةُ إِلْصَاقِهَا بِجَنَاحِهِ أَنْ تُبَاشِرَ جِلْدَ جَنَاحِهِ بِأَنْ يُدْخِلَهَا فِي جَيْبِ قَمِيصِهِ حَتَّى تَمَاسَّ بَشَرَةَ جَنْبِهِ، كَمَا فِي آيَةِ سُورَةِ سُلَيْمَانَ: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ [النّمل:
١٢]. جَعَلَ اللَّهُ تَغَيُّرَ لَوْنِ جِلْدِ يَدِهِ مُمَاسَّتِهَا جَنَاحَهُ تَشْرِيفًا لِأَكْثَرِ مَا يُنَاسِبُ مِنْ أَجْزَاءِ جِسْمِهِ بِالْفِعْلِ وَالِانْفِعَالِ.
وبَيْضاءَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ تَخْرُجْ، ومِنْ غَيْرِ سُوءٍ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ بَيْضاءَ.
وَمَعْنَى مِنْ غَيْرِ سُوءٍ مِنْ غَيْرِ مَرَضٍ مِثْلِ الْبَرَصِ وَالْبَهَقِ بِأَنْ تَصِيرَ بَيْضَاءَ ثُمَّ تَعُودَ إِلَى لَوْنِهَا الْمُمَاثِلِ لَوْنَ بَقِيَّةِ بَشَرَتِهِ. وَانْتَصَبَ آيَةً عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ تَخْرُجْ.
وَالتَّعْلِيلُ فِي قَوْلِهِ لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ تَخْرُجْ بَيْضاءَ، فَاللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِ تَخْرُجْ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى نَجْعَلُهَا بَيْضَاءَ فَتَخْرُجُ بَيْضَاءَ أَوْ نُخْرِجُهَا لَكَ بَيْضَاءَ.
وَهَذَا التَّعْلِيلُ رَاجِعٌ إِلَى تَكْرِيرِ
وَالْهُدَى مَصْدَرٌ فِي مَعْنَى الْمُضَافِ إِلَى مَفْعُولِهِ، أَيْ وَلَا هُدًى هُوَ مَهْدِيٌّ بِهِ. وَتِلْكَ مُجَادَلَةُ الْمُقَلِّدِ إِذَا كَانَ مُقَلِّدًا هَادِيًا لِلْحَقِّ مِثْلَ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ، فَهَذَا دُونَ مَرْتَبَةِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِعِلْمٍ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُسْتَغْنَ بِذِكْرِ السَّابِقِ عَنْ ذِكْرِ هَذَا.
وَالْكِتَابُ الْمُنِيرُ: كُتُبُ الشَّرَائِعِ مِثْلُ: التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَهَذَا كَمَا يُجَادِلُ أَهْلُ الْكِتَابِ قَبْلَ مَجِيءِ الْإِسْلَامِ الْمُشْرِكِينَ وَالدَّهْرِيِّينَ فَهُوَ جِدَالٌ بِكِتَابٍ مُنِيرٍ.
وَالْمُنِيرُ: الْمُبَيِّنُ لِلْحَقِّ. شُبِّهَ بِالْمِصْبَاحِ الْمُضِيءِ فِي اللَّيْلِ.
وَيَجِيءُ فِي وَصْفِ كِتابٍ بِصِفَةِ مُنِيرٍ تَعْرِيضٌ بِالنَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ إِذْ كَانَ يُجَادِلُ فِي شَأْنِ الْإِسْلَامِ بِالْمُوَازَنَةِ بَيْنَ كِتَابِ الله الْمُنِير وَبَين كتاب أَخْبَارِ رُسْتَمَ، وَكِتَابِ أَخْبَارِ أَسْفِنْدِيَارَ الْمُظْلِمَةِ الْبَاطِلَةِ.
وَالثَّنْيُ: لَيُّ الشَّيْءِ. يُقَالُ: ثَنَى عِنَانَ فَرَسِهِ، إِذَا لَوَاهُ لِيُدِيرَ رَأْسَ فَرَسِهِ إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي يُرِيدُ أَنْ يُوَجِّهَهُ إِلَيْهَا. وَيُطْلَقُ أَيْضًا الثَّنْيُ عَلَى الْإِمَالَةِ.
وَالْعِطْفُ: الْمَنْكِبُ وَالْجَانِبُ. وثانِيَ عِطْفِهِ تَمْثِيلٌ لِلتَّكَبُّرِ وَالْخُيَلَاءِ. وَيُقَالُ: لَوَى جِيدَهُ، إِذَا أَعْرَضَ تَكَبُّرًا. وَهَذِهِ الصِّفَةُ تنطبق على حَالَة أَبِي جَهْلٍ فَلِذَلِكَ قِيلَ إِنَّهُ الْمُرَادُ هُنَا.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لِيُضِلَّ لِتَعْلِيلِ الْمُجَادَلَةِ، فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِ يُجادِلُ أَيْ غَرَضُهُ مِنَ الْمُجَادَلَةِ الْإِضْلَالُ.
وَسَبِيلُ اللَّهِ: الدِّينُ الْحَقُّ.
الشَّأْنَ أَنْ يَكُونَ لِلْمُسْتَثْنَى جَمِيعُ أَحْوَالِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ. وَتَأَوَّلَهُ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ فِي حَالَةِ الصَّلَاةِ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهَا وَهُوَ تَخْصِيصٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ.
وَنُهِينَ عَنِ التَّسَاهُلِ فِي الْخَمْرَةِ. وَالْخِمَارُ: ثَوْبٌ تَضَعُهُ الْمَرْأَةُ عَلَى رَأْسِهَا لِسَتْرِ شَعْرِهَا وَجِيدِهَا وَأُذُنَيْهَا وَكَانَ النِّسَاءُ رُبَّمَا يُسْدِلْنَ الْخِمَارَ إِلَى ظُهُورِهِنَّ كَمَا تَفْعَلُ نِسَاءُ الْأَنْبَاطِ فَيَبْقَى الْعُنُقُ وَالنَّحْرُ وَالْأُذُنَانِ غَيْرَ مَسْتُورَةٍ فَلِذَلِكَ أُمِرْنَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ. وَالضَّرْبُ: تَمْكِينُ الْوَضْعِ وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٦].
وَالْمَعْنَى: لِيَشْدُدْنَ وَضْعَ الْخُمُرِ عَلَى الْجُيُوبِ، أَيْ بِحَيْثُ لَا يَظْهَرُ شَيْءٌ من بشرة الْجيد.
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ بِخُمُرِهِنَّ لِتَأْكِيدِ اللُّصُوقِ مُبَالَغَةً فِي إِحْكَامِ وَضْعِ الْخِمَارِ عَلَى الْجَيْبِ زِيَادَةً عَلَى الْمُبَالَغَةِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ فِعْلِ يَضْرِبْنَ.
وَالْجُيُوبُ: جَمْعُ جَيْبٍ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَهُوَ طَوْقُ الْقَمِيصِ مِمَّا يَلِي الرَّقَبَةَ. وَالْمَعْنَى:
وَلِيَضَعْنَ خُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِ الْأَقْمِصَةِ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى بَيْنَ مُنْتَهَى الْخِمَارِ وَمَبْدَأِ الْجَيْبِ مَا يَظْهَرُ مِنْهُ الْجِيدُ.
وَقَوْلُهُ: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أُعِيدَ لَفْظُ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ تَأْكِيدًا لِقَوْلِهِ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ الْمُتَقَدِّمِ وَلِيَبْنِيَ عَلَيْهِ الِاسْتِثْنَاءَ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ إِلَخْ الَّذِي مُقْتَضَى ظَاهِرِهِ أَنْ يُعْطَفَ عَلَى إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ لِبُعْدِ مَا بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي، أَيْ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ غَيْرَ الظَّاهِرَةِ إِلَّا لِمَنْ ذَكَرُوا بَعْدَ حَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ لِشِدَّةِ الْحَرَجِ فِي إِخْفَاءِ الزِّينَةِ غَيْرِ الظَّاهِرَةِ فِي أَوْقَاتٍ كَثِيرَةٍ، فَإِنَّ الْمُلَابَسَةَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَبَيْنَ أَقْرِبَائِهَا وَأَصْهَارِهَا الْمُسْتَثْنَيْنَ مُلَابَسَةٌ مُتَكَرِّرَةٌ فَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهَا سَتْرُ زِينَتِهَا فِي أَوْقَاتِهَا كَانَ ذَلِكَ حَرَجًا عَلَيْهَا.
وَذَكَرَتِ الْآيَةُ اثْنَيْ عَشَرَ مُسْتَثْنًى كُلُّهُمْ مِمَّنْ يَكْثُرُ دُخُولُهُمْ. وَسَكَتَتِ الْآيَةُ عَنْ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ هُوَ فِي حُكْمِهِمْ بِحَسَبِ الْمَعْنَى. وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ عِنْدَ الْفَرَاغِ مَنْ ذِكْرِ الْمُصَرَّحِ بِهِمْ فِي الْآيَةِ.
شَاعِرًا، وَأَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ شِعْرًا.
دُونَ تَعَرُّضٍ إِلَى أَنَّهُ تَنْزِيلُ الشَّيَاطِينِ كَمَا جَاءَ فِي ذِكْرِ الْكَهَانَةِ.
وَقَدْ كَانَ نَفَرٌ مِنَ الشُّعَرَاءِ بِمَكَّةَ يَهْجُونَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يُعْنَوْنَ بِمَجَالِسِهِمْ وَسَمَاعِ أَقْوَالِهِمْ وَيَجْتَمِعُ إِلَيْهِمُ الْأَعْرَابُ خَارِجَ مَكَّةَ يَسْتَمِعُونَ أَشْعَارَهُمْ وَأَهَاجِيَهُمْ، أَدْمَجَتِ
الْآيَةُ حَالَ مَنْ يَتَّبِعُ الشُّعَرَاءَ بِحَالِهِمْ تَشْوِيهًا لِلْفَرِيقَيْنِ وَتَنْفِيرًا مِنْهُمَا. وَمِنْ هَؤُلَاءِ: النَّضِرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَهُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ وَمُسَافِعُ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ، وَأَبُو عَزَّةَ الْجُمَحِيُّ، وَابْنُ الزِّبَعْرَى، وَأُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ، وَأَبُو سُفْيَانَ ابْن الْحَارِثِ، وَأُمُّ جَمِيلٍ الْعَوْرَاءُ بِنْتُ حَرْبٍ زَوْجُ أَبِي لَهَبٍ الَّتِي لَقَّبَهَا الْقُرْآنُ: حَمَّالَةَ الْحَطَبِ [المسد: ٤] وَكَانَتْ شَاعِرَةً وَهِيَ الَّتِي قَالَتْ:
مُذَمَّمًا عَصَيْنَا وَأَمْرَهُ أَبَيْنَا وَدِينَهُ قَلَيْنَا فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ نَفْيًا لِلشِّعْرِ أَنْ يَكُونَ مِنْ خُلُقِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَمَّا لِلشُّعَرَاءِ الَّذِينَ تَصَدَّوْا لِهِجَائِهِ.
فَقَوْلُهُ: يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ ذَمٌّ لِأَتْبَاعِهِمْ وَهُوَ يَقْتَضِي ذَمَّ الْمَتْبُوعِينَ بِالْأَحْرَى.
وَالْغَاوِي: الْمُتَّصِفُ بِالْغَيِّ وَالْغَوَايَةُ، وَهِيَ الضَّلَالَةُ الشَّدِيدَةُ، أَيْ يَتَّبِعُهُمْ أَهْلُ الضَّلَالَةِ وَالْبِطَالَةِ الرَّاغِبُونَ فِي الْفِسْقِ وَالْأَذَى. فَقَوْلُهُ: يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ خَبَرٌ، وَفِيهِ كِنَايَةٌ عَنْ تَنْزِيهِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ فَإِنَّ أَتْبَاعَهُ خِيرَةُ قَوْمِهِمْ وَلَيْسَ فِيهِمْ أَحَدٌ مِنَ الْغَاوِينَ، فَقَدِ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَلَى تَنْزِيهِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَنْزِيهِ أَصْحَابِهِ وَعَلَى ذَمِّ الشُّعَرَاءِ وَذَمِّ أَتْبَاعِهِمْ وَتَنْزِيهِ الْقُرْآنِ عَنْ أَنْ يَكُونَ شِعْرًا.
وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ هُنَا يُظْهِرُ أَنَّهُ لِمُجَرَّدِ التَّقَوِّي وَالِاهْتِمَامِ بِالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ لِلَفْتِ السَّمْعِ إِلَيْهِ وَالْمَقَامُ مُسْتَغْنٍ عَنِ الْحَصْرِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانُوا يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ فَقَدِ انْتَفَى أَتْبَاعُهُمْ عَنِ الصَّالِحِينَ لِأَنَّ شَأْنَ الْمَجَالِسِ أَنْ يَتَّحِدَ أَصْحَابُهَا فِي النَّزْعَةِ كَمَا قِيلَ:
عَنِ الْمَرْءِ لَا تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ وَجَعَلَهُ فِي «الْكَشَّافِ» لِلْحَصْرِ، أَيْ لَا يَتَّبِعُهُمْ إِلَّا الْغَاوُونَ، لِأَنَّهُ أَصْرَحُ فِي نَفْيِ اتِّبَاعِ الشُّعَرَاءِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ. وَهَذِهِ طَرِيقَتُهُ بِاطِّرَادٍ فِي تَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ
مُبَيِّنَةٌ لَهَا وَلِذَلِكَ فُصِّلَتْ. وَلَوْلَا هَذَا الْوَقْعُ لَكَانَ حَقُّ الْإِخْبَارِ بِهَا أَنْ يَجِيءَ بِوَاسِطَةِ حَرْفِ الْعَطْفِ.
وَرَجَاءُ لِقَاءِ اللَّهِ: ظَنُّ وُقُوعِ الْحُضُورِ لِحِسَابِ اللَّهِ.
ولِقاءَ اللَّهِ: الْحَشْرُ لِلْجَزَاءِ لِأَنَّ النَّاسَ يَتَلَقَّوْنَ خِطَابَ اللَّهِ الْمُتَعَلِّقَ بِهِمْ، لَهُمْ أَوْ عَلَيْهِمْ، مُبَاشَرَةً بِدُونِ وَاسِطَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة:
٤٦] وَقَوْلِهِ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٢٣].
وأَجَلَ اللَّهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَقْتَ الَّذِي عَيَّنَهُ اللَّهُ فِي عِلْمِهِ لِلْبَعْثِ وَالْحِسَابِ فَيَكُونُ مِنَ الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ، وَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: فَإِنَّهُ لَآتٍ فَعَدَلَ إِلَى الْإِظْهَارِ كَمَا فِي إِضَافَةِ أَجَلَ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُخْلَفُ. وَالْمَقْصُودُ الِاهْتِمَامُ بِالتَّحْرِيضِ عَلَى الِاسْتِعْدَادِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِ أَجَلَ اللَّهِ الْأَجَلَ الَّذِي عَيَّنَهُ اللَّهُ لِنَصْرِ الْمُؤْمِنِينَ وَانْتِهَاءِ فِتْنَةِ الْمُشْرِكِينَ إِيَّاهُمْ بِاسْتِئْصَالِ مَسَاعِيرِ تِلْكَ الْفِتْنَةِ، وَهُمْ صَنَادِيدُ قُرَيْشٍ وَذَلِكَ بِمَا كَانَ مِنَ النَّصْرِ يَوْمَ بَدْرٍ ثُمَّ مَا عَقِبَهُ إِلَى فَتْحِ مَكَّةَ فَيَكُونُ الْكَلَامُ تَثْبِيتًا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ حِينَ اسْتَبْطَأَ الْمُؤْمِنُونَ النَّصْرَ لِلْخَلَاصِ مِنْ فِتْنَةِ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يَعْبُدُوا اللَّهَ لَا يَفْتِنُوهُمْ فِي عِبَادَتِهِ. وَالْمَعْنَى عَلَيْهِ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بِالْبَعْثِ إِيقَانًا يَنْبَعِثُ مِنْ تَصْدِيقِ وَعْدِ اللَّهِ بِهِ فَإِنَّ تَصْدِيقَكُمْ بِمَجِيءِ النَّصْرِ أَجْدَرُ لِأَنَّهُ وَعَدَكُمْ بِهِ، فَ مَنْ شَرْطِيَّةٌ، وَجُعِلَ فِعْلُ الشَّرْطِ فِعْلَ الْكَوْنِ لِلدَّلَالَةِ على تمكن هَذ الرَّجَاءِ مِنْ فَاعِلِ فِعْلِ الشَّرْطِ.
وَلِهَذَا كَانَ قَوْلُهُ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ جَوَابًا لِقَوْلِهِ مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ بِاعْتِبَارِ دَلَالَتِهِ عَلَى الْجَوَابِ الْمُقَدَّرِ لِيَلْتَئِمَ الرَّبْطُ بَيْنَ مَدْلُولِ جُمْلَةِ الشَّرْطِ وَمَدْلُولِ جُمْلَةِ الْجَزَاءِ.
وَلَوْلَا ذَلِكَ لَاخْتَلَّ الرَّبْطُ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ إِذْ يُفْضِي إِلَى مَعْنَى مَنْ لَمْ يَكُنْ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ غَيْرُ آتٍ. وَهَذَا لَا يَسْتَقِيمُ فِي مَجَارِي الْكَلَامِ فَلَزِمَ تَقْدِيرُ شَيْءٍ مِنْ بَابِ دَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ.
وَتَأْكِيدُ جُمْلَةِ الْجَزَاءِ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لِلتَّحْرِيضِ وَالْحَثِّ عَلَى الِاسْتِعْدَادِ لِلِقَاءِ اللَّهِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي لِقَصْدِ تَحْقِيقِ النَّصْرِ الْمَوْعُودِ بِهِ تَنْزِيلًا لِاسْتِبْطَائِهِ مَنْزِلَةَ التَّرَدُّدِ لِقَصْدِ إِذْكَاءِ يَقِينِهِمْ بِمَا وَعَدَ اللَّهُ وَلَا يُوهِنُهُمْ طُولُ الْمُدَّةِ الَّذِي يُضَخِّمُهُ الِانْتِظَارُ. وَبِهَذَا يَظْهَرُ وَقْعُ التَّذْيِيلِ بِوَصْفَيِ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ دُونَ غَيْرِهِمَا من الصِّفَات العلى لِلْإِيمَاءِ بِوَصْفِ السَّمِيعُ إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمِعَ
وَتَخَلُّصًا إِلَى تَصْدِيقِهِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْكِتَابُ الَّذِي جَاءَ بِهِ حَقًّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَهُوَ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا.
وَقَدْ جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أُسْلُوبٍ بَدِيعِ الْإِحْكَامِ إِذْ ثَبَتَ أَنَّ الْكِتَابَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ جَمِيعِ الْكَائِنَاتِ، وَأَنَّهُ يَحِقُّ أَنْ لَا يَرْتَابَ فِيهِ مُرْتَابٌ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الْإِنْكَارِ وَالتَّعْجِيبِ مِنَ الَّذِينَ جَزَمُوا بِأَنَّ الْجَائِيَ بِهِ مُفْتَرٍ عَلَى اللَّهِ، ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِمْ بِإِثْبَاتِ أَنَّهُ الْحَقُّ الْكَامِلُ مِنْ رَبِّ الَّذِي نَسَبُوا إِلَيْهِ افْتِرَاءَهُ فَلَوْ كَانَ افْتَرَاهُ لَقَدِرَ اللَّهُ عَلَى إِظْهَارِ أَمْرِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ [الحاقة: ٤٤- ٤٧]. ثُمَّ جَاءَ بِمَا هُوَ أَنْكَى لِلْمُكَذِّبِينَ وَأَبْلَغُ فِي تَسْفِيهِ أَحْلَامِهِمْ وَأَوْغَلُ فِي النِّدَاءِ عَلَى إِهْمَالِهِمُ النَّظَرَ فِي دَقَائِقِ الْمَعَانِي، فَبَيَّنَ مَا فِيهِ تَذْكِرَةٌ لَهُمْ بِبَعْضِ الْمَصَالِحِ الَّتِي جَاءَ لِأَجْلِهَا هَذَا الْكِتَابُ بِقَوْلِهِ: لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ
قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ
فَقَدْ جَمَعُوا مِنَ الْجَهَالَةِ مَا هُوَ ضِغْثٌ عَلَى إِبَّالَةٍ، فَإِنَّ هَذَا الْكِتَابَ، عَلَى أَنَّ حَقِّيَّتَهُ مُقْتَضِيَةُ الْمُنَافَسَةِ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ وَلَوْ لَمْ يَلْفِتُوا إِلَى تَقَلُّدِهِ وَعَلَى أَنَّهُمْ دَعَوْا إِلَى الْأَخْذِ بِهِ وَذَلِكَ مِمَّا يُوجب التَّأَمُّلُ فِي حَقِّيَّتِهِ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ فَهُمْ كَانُوا أَحْوَجَ إِلَى اتِّبَاعِهِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ تَسْبِقْ لَهُمْ رِسَالَةُ مُرْسَلٍ فَكَانُوا أَبْعَدَ عَنْ طُرُقِ الْهُدَى بِمَا تَعَاقَبَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْقُرُونِ دُونَ دَعْوَةِ رَسُولٍ فَكَانَ ذَلِكَ كَافِيًا فِي حِرْصِهِمْ عَلَى التَّمَسُّكِ بِهِ وَشُعُورِهِمْ بِمَزِيدِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ رَجَاءً مِنْهُمْ أَنْ يَهْتَدُوا، قَالَ تَعَالَى: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها [الْأَنْعَام: ١٥٥- ١٥٧]، فَمَثَلُ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ كَمَثَلِ قَوْلِ الْمَعَرِّيِّ:
هَلْ تَزْجُرَنَّكُمُ رِسَالَةُ مُرْسَلٍ أَمْ لَيْسَ يَنْفَعُ فِي أُولَاكِ أُلُوكُ
وَالْقَوْمُ: الْجَمَاعَةُ الْعَظِيمَةُ الَّذِينَ يَجْمَعُهُمْ أَمْرٌ هُوَ كَالْقِوَامِ لَهُمْ مِنْ نَسَبٍ أَوْ مَوْطِنٍ أَوْ غَرَضٍ تَجَمَّعُوا بِسَبَبِهِ. وَأَكْثَرُ إِطْلَاقِهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ الَّذِينَ يَرْجِعُونَ فِي
كَلَامَهُمْ مِنْ فَرْطِ الْجَزَعِ أَنْ يُؤَاخَذُوا بِمَا يَقُولُهُ الْمُسْتَضْعَفُونَ.
وَحُكِيَ قَوْلُهُمْ هَذَا بِفعل الْمَاضِي لِمُزَاوَجَةِ كَلَامِ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِأَنَّ قَوْلَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا هَذَا بَعْدَ أَنْ كَانَ تَكْمِلَةً لِقَوْلِهِمُ الَّذِي قَاطَعَهُ الْمُسْتَكْبِرُونَ، انْقَلَبَ جَوَابًا عَنْ تَبَرُّؤِ
الْمُسْتَكْبِرِينَ مِنْ أَنْ يَكُونُوا صَدُّوا الْمُسْتَضْعَفِينَ عَنِ الْهُدَى، فَصَارَ لِقَوْلِ الْمُسْتَضْعَفِينَ مَوْقِعَانِ يَقْتَضِي أَحَدُ الْمَوْقِعَيْنِ عَطْفَهُ بِالْوَاوِ، وَيَقْتَضِي الْمَوْقِعُ الْآخَرُ قَرْنَهُ بِحَرْفِ بَلْ وَبِزِيَادَةِ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ. وَأَصْلُ الْكَلَامِ: يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ إِذْ تَأْمُرُونَنَا بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ الَخْ. فَلَمَّا قَاطَعَهُ الْمُسْتَكْبِرُونَ بِكَلَامِهِمْ أُقْحِمَ فِي كَلَامِ الْمُسْتَضْعَفِينَ حَرْفُ بَلْ إِبْطَالًا لِقَوْلِ الْمُسْتَكْبِرِينَ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ [سبأ: ٣٢]. وَبِذَلِكَ أَفَادَ تَكْمِلَةَ الْكَلَامِ السَّابِقِ وَالْجَوَابَ عَنْ تَبَرُّؤِ الْمُسْتَكْبِرِينَ، وَلَوْ لَمْ يَعْطِفْ بِالْوَاوِ لَمَا أَفَادَ إِلَّا أَنَّهُ جَوَابٌ عَنْ كَلَامِ الْمُسْتَكْبِرِينَ فَقَطْ، وَهَذَا مِنْ أَبْدَعِ الْإِيجَازِ.
وبَلْ لِلْإِضْرَابِ الْإِبْطَالِيِّ أَيْضًا إِبْطَالًا لِمُقْتَضَى الْقَصْرِ فِي قَوْلِهِمْ: أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى [سبأ: ٣٢] فَإِنَّهُ وَاقِعٌ فِي حَيِّزِ نَفْيٍ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ الْإِنْكَارِيَّ لَهُ مَعْنَى النَّفْيِ.
ومَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الْإِضَافَةِ عَلَى مَعْنَى (فِي). وَهُنَالِكَ مُضَافٌ إِلَيْهِ وَمَجْرُورٌ مَحْذُوفَانِ دَلَّ عَلَيْهِمَا السِّيَاقُ، أَيْ مَكْرُكُمْ بِنَا.
وَارْتَفَعَ مَكْرُ عَلَى الِابْتِدَاءِ. وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مُقَابَلَةُ هَذَا الْكَلَامِ بِكَلَامِ الْمُسْتَكْبِرِينَ إِذْ هُوَ جَوَابٌ عَنْهُ. فَالتَّقْدِيرُ: بَلْ مَكْرُكُمْ صَدَّنَا، فَيُفِيدُ الْقَصْرَ، أَيْ مَا صَدَّنَا إِلَّا مَكْرُكُمْ، وَهُوَ نَقْضٌ تَامٌّ لِقَوْلِهِمْ: أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى [سبأ: ٣٢] وَقَوْلِهِمْ: بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ [سبأ: ٣٢].
وَالْمَكْرُ: الِاحْتِيَالُ بِإِظْهَارِ الْمَاكِرِ فِعْلَ مَا لَيْسَ بِفَاعِلِهِ لِيُغَرَّ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ فِي آلِ عِمْرَانَ [٥٤].
وَإِطْلَاقُ الْمَكْرِ عَلَى تَسْوِيلِهِمْ لَهُمُ الْبَقَاءَ عَلَى الشِّرْكِ، بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ يُمَوِّهُونَ عَلَيْهِمْ وَيُوهِمُونَهُمْ أَشْيَاءَ كَقَوْلِهِمْ: إِنَّهُ دِينُ آبَائِكُمْ وَكَيْفَ تَأْمَنُونَ غَضَبَ الْآلِهَةِ عَلَيْكُمْ إِذَا
تَدْخُلُ عَلَى: حِينٍ وَأَوَانٍ وَآنٍ (١) يُرِيدُ أَنَّ التَّاء لَا حقة لِأَوَّلِ الِاسْمِ الَّذِي بَعْدَ (لَا) وَلَكِنَّهُ لَمْ يُفَسِّرْ لِدُخُولِهَا مَعْنًى. وَقد
اعتذر الْأَئِمَّة عَنْ وُقُوعِ التَّاءِ مُتَّصِلَةً بِ حِينَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ بِأَنَّ رَسْمَ الْمُصْحَفِ قَدْ يُخَالِفُ الْقِيَاسَ، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِ الْمُصْحَفِ الَّذِي رَآهُ أَبُو عُبَيدٍ مِنَ الْمَصَاحِفِ الْمُعَاصِرَةِ لِذَلِكَ الْمُصْحَفِ وَالْمَرْسُومَةِ بَعْدَهُ. وَالْمَنَاصُ: النَّجَاءُ وَالْفَوْتُ، وَهُوَ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ، يُقَالُ: نَاصَّهُ، إِذَا فَاتَهُ.
وَالْمَعْنَى: فَنَادَوْا مُبْتَهِلِينَ فِي حَالٍ لَيْسَ وَقْتَ نَجَاءٍ وَفَوْتٍ، أَيْ قَدْ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْهَلَاكُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ [غَافِر: ٨٥].
[٤- ٥]
[سُورَة ص (٣٨) : الْآيَات ٤ الى ٥]
وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هَذَا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٤) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجابٌ (٥)
وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ.
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ [ص: ٢] فَهُوَ مِنَ الْكَلَامِ الْوَاقِعِ الْإِضْرَابِ لِلِانْتِقَالِ إِلَيْهِ كَمَا وَقَعَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ [ق: ١، ٢].
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ اسْتَقَرَّ فِي نُفُوسِهِمُ اسْتِحَالَةُ بَعْثَةِ رَسُولٍ مِنْهُمْ فَذَلِكَ سَبَبٌ آخَرُ لِانْصِرَافِهِمْ عَنِ التَّذَكُّرِ بِالْقُرْآنِ.
وَالْعَجَبُ حَقِيقَتُهُ: انْفِعَالٌ فِي النَّفْسِ يَنْشَأُ عَنْ عِلْمٍ بِأَمْرٍ غَيْرِ مُتَرَقِّبٍ وُقُوعُهُ عِنْدَ النَّفْسِ، وَيُطْلَقُ عَلَى إِنْكَارِ شَيْءٍ نَادِرٍ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ بِعَلَاقَةِ اللُّزُومِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ فِي سُورَةِ هُودٍ [٧٣] فَإِنَّ مَحَلَّ الْعِتَابِ هُوَ كَوْنُ امْرَأَةِ إِبْرَاهِيمَ أَحَالَتْ أَنْ تَلِدَ، وَهِيَ عَجُوزٌ وَكَذَلِكَ إِطْلَاقُهُ هُنَا. وَالْمَعْنَى: وَأَنْكَرُوا وأحالوا أَن جَاءَ هم مُنْذِرٌ مِنْهُمْ.
_________
(١) يُشِير إِلَى قَول أبي زبيد:
قَوْلِهِ: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [غَافِر: ٥٥] الْآيَةَ، فَفَرَّعَ هُنَا عَلَى جَمِيعِ مَا سَبَقَ وَمَا تَخَلَّلَهُ مِنْ تَصْرِيحٍ وَتَعْرِيضٍ أَنَّ أَمْرَ اللَّهِ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّبْرِ عَلَى مَا يُلَاقِيهِ مِنْهُمْ، وَهَذَا كَالتَّكْرِيرِ لِقَوْلِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [غَافِر: ٥٥]. وَذَلِكَ أَنَّ نَظِيرَهُ الْمُتَقَدِّمَ وَرَدَ بَعْدَ الْوَعْدِ بِالنَّصْرِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ [غَافِر: ٥١] ثُمَّ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ [غَافِر: ٥٣] الْآيَةَ، فَلَمَّا تَمَّ الْكَلَامُ عَلَى مَا أَخَذَ اللَّهُ بِهِ الْمُكَذِّبِينَ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى ذِكْرِ مَا يَلْقَوْنَهُ فِي الْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ [غَافِر: ٧٠، ٧١] الْآيَاتِ، ثُمَّ أَعْقَبَهُ بِقَوْلِهِ: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ عَوْدًا إِلَى بَدْءٍ إِذِ الْأَمْرُ بِالصَّبْرِ مُفَرَّعٌ عَلَى مَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ: فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ [غَافِر: ٤، ٥] الْآيَاتِ، ثُمَّ
قَوْلُهُ: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ [غَافِر: ١٨] ثُمَّ قَوْلُهُ: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا [غَافِر: ٢١] وَمَا بَعْدَهُ، فَلَمَّا حَصَلَ الْوَعْدُ بِالِانْتِصَافِ مِنْ مُكَذِّبِي النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَعْقَبَ بِقَوْلِهِ: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ فَإِنَّ مُنَاسَبَةَ الْأَمْرِ بِالصَّبْرِ عَقِبَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ تَعْرِيضًا بِالِانْتِصَارِ لَهُ وَلِذَلِكَ فُرِّعَ عَلَى الْأَمْرِ بِالصَّبْرِ الشَّرْطُ الْمُرَدَّدُ بَيْنَ أَنْ يُرِيَهُ بَعْضَ مَا تَوَعَّدَهُمُ اللَّهُ بِهِ وَبَيْنَ أَنْ لَا يَرَاهُ، فَإِنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ حَاصِلٌ عَلَى كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ وَهُوَ مَضْمُونُ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ أَيْ أَنَّهُمْ غَيْرُ مُفْلِتِينَ مِنَ الْعِقَابِ، فَلَا شَكَّ أَنَّ أَحَدَ التَّرْدِيدَيْنِ هُوَ أَنْ يَرَى النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَذَابَهُمْ فِي الدُّنْيَا.
وَلِهَذَا كَانَ لِلتَّأْكِيدِ بِ (إِنَّ) فِي قَوْلِهِ: إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ مَوْقِعُهُ، وَذَلِكَ أَنَّ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤمنِينَ استبطأوا النَّصْرَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ [الْبَقَرَة: ٢١٤] فَنُزِّلُوا مَنْزِلَةَ الْمُتَرَدِّدِ فِيهِ فَأُكِّدَ وَعْدُهُ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ. وَالتَّعْبِيرُ بِالْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: يُرْجَعُونَ لِإِفَادَتِهِ التَّجَدُّدَ فَيُشْعِرُ بِأَنَّهُ رُجُوعٌ إِلَى اللَّهِ فِي الدُّنْيَا.
وَقَوْلُهُ: فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ شَرْطٌ، اقْتَرَنَ حَرْفُ (إِنِ) الشَّرْطِيَّةِ بِحَرْفِ (مَا)
عَنِ التَّدَبُّرِ فِي الدَّعْوَةِ الْقُرْآنِيَّةِ فَكَانَ انْصِرَافُهُمْ سَبَبًا لِأَنْ يُسَخِّرُ اللَّهُ شَيَاطِينَ لَهُمْ تُلَازِمُهُمْ فَلَا تَزَالُ تَصْرِفُهُمْ عَنِ النَّظَرِ فِي الْحَقِّ وَأَدِلَّةِ الرُّشْدِ. وَهُوَ تَسْخِيرٌ اقْتَضَاهُ نِظَامُ تَوَلُّدِ الْفُرُوعِ مِنْ أُصُولِهَا، فَلَا يُتَعَجَّبُ مِنْ عَمَى بَصَائِرِهِمْ عَنْ إِدْرَاكِ الْحَقِّ الْبَيِّنِ، وَهَذَا مِنْ سُنَّةِ الْوُجُودِ فِي تَوَلُّدِ الْأَشْيَاءِ مِنْ عَنَاصِرِهَا فَالضَّلَالُ يَنْمِي وَيَتَوَلَّدُ فِي النُّفُوسِ وَيَتَمَكَّنُ مِنْهَا مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ حَتَّى يَصِيرَ طَبْعًا عَلَى الْقَلْبِ وَأَكِنَّةً فِيهِ وَخَتْمًا عَلَيْهِ وَلَا يَضْعُفُ عَمَلُ الشَّيْطَانِ إِلَّا بِتَكَرُّرِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْحَقِّ وَبِالزَّجْرِ وَالْإِنْذَارِ، فَمِنْ زِنَادِ التَّذْكِيرِ تَنْقَدِحُ شَرَارَاتُ نُورٍ فَرُبَّمَا أَضَاءَتْ فَصَادَفَتْ قُوَّةَ نُورِ
الْحَقِّ حَالَةَ وَهَنِ الشَّيْطَانِ فَتَتَغَلَّبُ الْقُوَّةُ الْمَلَكِيَّةُ عَلَى الْقُوَّةِ الشَّيْطَانِيَّةِ فَيُفِيقُ صَاحِبُهَا مِنْ نَوْمَةِ ضَلَالِهِ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ [الزخرف: ٥] كَمَا تَقَدَّمَ هُنَالِكَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا ارْعَوَى ضَالٌّ عَنْ ضَلَالِهِ وَلَمَا نَفَعَ إِرْشَادُ الْمُرْشِدِينَ فِي نُفُوسِ الْمُخَاطَبِينَ.
فَجُمْلَةُ وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هَذَا سِحْرٌ [الزخرف: ٣٠] الْآيَة.
فجملة وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ تَمْثِيلٌ لِحَالِهِمْ فِي إِظْهَارِهِمْ عَدَمَ فَهْمِ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِمْ: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ [فصلت: ٥] بِحَالِ مَنْ يَعْشُو عَنِ الشَّيْءِ الظَّاهِرِ لِلْبَصَرِ.
ويَعْشُ: مُضَارِعُ عَشَا كَغَزَا عَشْوًا بِالْوَاوِ، إِذَا نَظَرَ إِلَى الشَّيْءِ نَظَرًا غَيْرَ ثَابِتٍ يُشْبِهُ نَظَرَ الْأَعْشَى، وَإِمَّا الْعَشَا بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالشِّينِ فَهُوَ اسْمُ ضَعْفِ الْعَيْنِ عَنْ رُؤْيَةِ الْأَشْيَاءِ، يُقَالُ: عَشَيَ بِالْيَاءِ مِثْلُ عَرَجَ إِذَا كَانَتْ فِي بَصَرِهِ آفَةُ الْعَشَا وَمَصْدُرُهُ عَشَىَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالْقَصْرِ مِثْلُ الْعَرَجِ. وَالْفِعْلُ وَاوِيٌّ عَشَا يَعْشُو، وَيُقَالُ عَشِيَ يَعْشَى إِذَا صَارَ الْعَشَا لَهُ آفَةٌ لِأَنَّ أَفْعَالَ الْأَدْوَاءِ تَأْتِي كَثِيرًا عَلَى فِعْلٍ بِكَسْرِ الْعَيْنِ مِثْلَ مَرَضٍ. وَعَشِيَ يَاؤُهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ لِأَجْلِ كَسْرَةِ صِيغَةِ الْأَدْوَاءِ.
كَزَرْعٍ خَبَرُهُ، وَهُوَ الْمَثَلُ. وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ سِيَاقِ الْآيَةِ فَيَكُونُ مُشِيرًا إِلَى نَحْوِ قَوْلِهِ فِي «إِنْجِيلِ مَتَّى» الْإِصْحَاحِ ١٣ فِقْرَةِ ٣ «هُوَ ذَا الزَّارِعُ قَدْ خَرَجَ لِيَزْرَعَ يَعْنِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَفِيمَا هُوَ يَزْرَعُ سَقَطَ بَعْضٌ عَلَى الطَّرِيقِ فَجَاءَتِ الطُّيُورُ وَأَكَلَتْهُ» إِلَى أَنْ قَالَ «وَسَقَطَ الْآخَرُ عَلَى الْأَرْضِ الْجَيِّدَةِ فَأَعْطَى ثَمَرُهُ بَعْضَ مِائَةٍ وَآخَرُ سِتِّينَ وَآخَرُ ثَلَاثِينَ». قَالَ فِقْرَةً، ثُمَّ قَالَ: «وَأَمَا الْمَزْرُوعُ عَلَى الْأَرْضِ الْجَيِّدَةِ فَهُوَ الَّذِي يَسْمَعُ الْكَلِمَةَ وَيَفْهَمُ، وَهُوَ الَّذِي يَأْتِي بِثَمَرٍ فَيَصْنَعُ بَعْضٌ مِائَةً وَبَعْضٌ سِتِّينَ وَآخَرُ ثَلَاثِينَ». وَهَذَا يَتَضَمَّنُ نَمَاءَ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ وَبِأَنَّهُمْ يَدْعُونَ النَّاسَ إِلَى الدِّينِ حَتَّى يَكْثُرَ الْمُؤْمِنُونَ كَمَا تُنْبِتُ الْحَبَّةُ مِائَةَ سُنْبُلَةٍ وَكَمَا تَنْبُتُ مِنَ النَّوَاةِ الشَّجَرَةُ الْعَظِيمَةُ.
وَفِي قَوْلِهِ: أَخْرَجَ شَطْأَهُ اسْتِعَارَةُ الْإِخْرَاجِ إِلَى تَفَرُّعِ الْفِرَاخِ مِنَ الْحَبَّةِ لِمُشَابَهَةِ التَّفَرُّعِ بِالْخُرُوجِ وَمُشَابَهَةِ الْأَصْلِ الْمُتَفَرَّعِ عَنْهُ بِالَّذِي يُخْرِجُ شَيْئًا مِنْ مَكَانٍ.
وَالشَّطْءُ بِهَمْزَةٍ فِي آخِرِهِ وَسُكُونِ الطَّاءِ: فِرَاخُ الزَّرْعِ وَفُرُوعُ الْحَبَّةِ. وَيُقَالُ: أَشْطَأَ الزَّرْعُ، إِذَا أَخْرَجَ فُرُوعًا. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِسُكُون الطَّاء وبالهمزة وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ شَطْأَهُ بِفَتْحِ الطَّاءِ بَعْدَهَا أَلِفٌ عَلَى تَخْفِيفِ الْهمزَة ألفا.
وفَآزَرَهُ قَوَّاهُ، وَهُوَ مِنَ الْمُؤَازَرَةِ بِالْهَمْزِ وَهِيَ الْمُعَاوَنَةُ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنِ اسْمِ الْإِزَارِ لِأَنَّهُ يَشُدُّ ظَهْرَ الْمُتَّزِرِ بِهِ وَيُعِينُهُ شَدُّهُ عَلَى الْعَمَلِ وَالْحَمْلِ كَذَا قِيلَ. وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي عَكْسُ ذَلِكَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْإِزَارُ مُشْتَقًّا اسْمُهُ مِنْ: آزَرَ، لِأَنَّ الِاشْتِقَاقَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْجَامِدَةِ نَادِرٌ
لَا يُصَار إِلَى ادعائه إِلَّا إِذَا تَعَيَّنَ. وَصِيغَةُ المفاعلة فِي فَآزَرَهُ مُسْتَعَارَةٌ لِقُوَّةِ الْفِعْلِ مِثْلَ قَوْلِهِمْ: عَافَاكَ اللَّهُ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَبارَكَ فِيها [فصلت: ١٠].
وَالضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ فِي فَآزَرَهُ لِلشَّطْءِ، وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ لِلزَّرْعِ، أَيْ قَوَّى الشَّطْءُ أَصْلَهُ.

[سُورَة الْقَمَر (٥٤) : الْآيَات ٤١ إِلَى ٤٢]

وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (٤١) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (٤٢)
لما كَانَت عدوة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ غَيْرَ مُوَجَّهَةٍ إِلَى أُمَّةِ الْقِبْطِ، وَغَيْرَ مُرَادٍ مِنْهَا التَّشْرِيعَ لَهُمْ. وَلَكِنَّهَا مُوَجَّهَةٌ إِلَى فِرْعَوْنَ وَأَهْلِ دَوْلَتِهِ الَّذين بِأَيْدِيهِم تسيير أُمُورُ الْمَمْلَكَةِ الْفِرْعَوْنِيَّةِ، لِيَسْمَحُوا بِإِطْلَاقِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْاِسْتِعْبَادِ، وَيُمَكِّنُوهُمْ مِنَ الْخُرُوجِ مَعَ مُوسَى خَصَّ بِالنُّذُرِ هَنَا آلَ فِرْعَوْنَ، أَيْ فِرْعَوْنَ وَآلِهِ لِأَنَّهُ يَصْدُرُ عَنْ رَأْيِهِمْ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمْ يَسْتَأْثِرْ بِرَدِّ دَعْوَةِ مُوسَى بَلْ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ: أَلا تَسْتَمِعُونَ [الشُّعَرَاء: ٢٥] وَقَالَ: فَماذا تَأْمُرُونَ [الشُّعَرَاء: ٣٥] وَقَالُوا: أَرْجِهْ وَأَخاهُ [الشُّعَرَاء: ٣٦] الْآيَةَ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ أُسْلُوبُ الْإِخْبَارِ عَنْ فِرْعَوْنَ وَمَنْ مَعَهُ مُمَاثِلًا لِأُسْلُوبِ الْإِخْبَارِ عَنْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ لُوطٍ
إِذْ صَدَرَ الْإِخْبَارُ عَنْ أُولَئِكَ بجملة كَذَّبَتْ [الْقَمَر: ١٨]، وَخُولِفَ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ فِرْعَوْنَ فَصَدَرَ بِجُمْلَةِ وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ وَإِنْ كَانَ مَآلُ هَذِهِ الْأَخْبَارِ الْخَمْسَةِ مُتَمَاثِلًا.
وَالْآلُ: الْقَرَابَةُ، وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى مَنْ لَهُ شِدَّةُ اتِّصَالٍ بِالشَّخْصِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ [غَافِر: ٤٦]. وَكَانَ الْمُلُوكُ الْأَقْدَمُونَ يَنُوطُونَ وِزَارَتَهُمْ وَمُشَاوَرَتَهُمْ بِقَرَابَتِهِمْ لِأَنَّهُمْ يَأْمَنُونَ كَيْدَهُمْ.
وَالنُّذُرُ: جَمْعُ نَذِيرٍ: اسْمُ مَصْدَرٍ بِمَعْنَى الْإِنْذَارِ. وَوَجْهُ جَمْعِهِ أَنَّ مُوسَى كَرَّرَ إِنْذَارَهُمْ.
وَالْقَوْلُ فِي تَأْكِيدِ الْخَبَرِ بِالْقَسَمِ كَالْقَوْلِ فِي نَظَائِرِهِ الْمُتَقَدِّمَةِ.
وَإِسْنَادُ التَّكْذِيبِ إِلَيْهِمْ بِنَاءً عَلَى ظَاهِرِ حَالِهِمْ وَإِلَّا فَقَدْ آمَنَ مِنْهُمْ رَجُلٌ وَاحِدٌ كَمَا فِي سُورَةِ غَافِرٍ.
وَجُمْلَةُ كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ لِأَنَّ مَجِيءَ النُّذُرِ إِلَيْهِمْ مُلَابِسٌ لِلْآيَاتِ، وَظُهُورُ الْآيَاتِ مُقَارِنٌ لِتَكْذِيبِهِمْ بِهَا فَمَجِيءُ النُّذُرِ مُشْتَمِلٌ عَلَى التَّكْذِيبِ لِأَنَّهُ مُقَارِنُ مُقَارِنِهِ.
وَقَوْلُهُ: بِآياتِنا إِشَارَةٌ إِلَى آيَاتِ مُوسَى الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
أُخْرَى مِنَ الْقُرْآنِ كَمَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٥٨] قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً وَفِي سُورَةِ سَبَأٍ [٢٨] وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً.
وَالْمُرَادُ بِ الْأُمِّيِّينَ: الْعَرَبُ لِأَنَّ وَصْفَ الْأُمِّيَّةِ غَالِبٌ عَلَى الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ يَوْمَئِذٍ.
وَوَصَفُ الرَّسُولِ بِ مِنْهُمْ، أَيْ لَمْ يَكُنْ غَرِيبًا عَنْهُمْ كَمَا بَعَثَ لُوطًا إِلَى أَهْلِ سَدُومَ وَلَا كَمَا بَعَثَ يُونُسَ إِلَى أَهْلِ نِينَوَى، وَبَعَثَ إِلْيَاسَ إِلَى أَهْلِ صَيْدَا مِنَ الْكَنْعَانِيِّينَ الَّذين يعْبدُونَ بعل، فَ (مِنْ) تَبْعِيضِيَّةٌ، أَيْ رَسُولًا مِنَ الْعَرَبِ.
وَهَذِهِ مِنَّةٌ مُوَجَّهَةٌ لِلْعَرَبِ لِيَشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَى لُطْفِهِ بِهِمْ، فَإِنَّ كَوْنَ رَسُولِ الْقَوْمِ مِنْهُمْ نِعْمَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى نِعْمَةِ الْإِرْشَادِ وَالْهَدْيِ، وَهَذَا اسْتِجَابَةٌ لِدَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [الْبَقَرَة: ١٢٩] فَتَذْكِيرُهُمْ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ اسْتِنْزَالٌ لِطَائِرِ نُفُوسِهِمْ وَعِنَادِهِمْ.
وَفِيهِ تَوَرُّكٌ عَلَيْهِمْ إِذْ أَعْرَضُوا عَنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ فَإِنَّ كَوْنَ الرَّسُولِ مِنْهُمْ وَكِتَابَهُ بِلُغَتِهِمْ هُوَ أَعْوَنُ عَلَى تَلَقِّي الْإِرْشَادِ مِنْهُ إِذْ ينْطَلق بلسانهم ويحملهم عَلَى مَا يُصْلِحُ أَخْلَاقَهُمْ لِيَكُونُوا حَمَلَةَ هَذَا الدِّينِ إِلَى غَيْرِهِمْ.
والْأُمِّيِّينَ: صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ صِيغَةُ جَمْعِ الْعُقَلَاءِ، أَيْ فِي النَّاسِ
الْأُمِّيِّينَ. وَصِيغَة جمع الذُّكُور فِي كَلَامِ الشَّارِعِ تَشْمَلُ النِّسَاءَ بِطَرِيقَةِ التَّغْلِيبِ الِاصْطِلَاحِيِّ، أَيْ فِي الْأُمِّيِّينَ وَالْأُمِّيَّاتِ فَإِنَّ أَدِلَّةَ الشَّرِيعَةِ قَائِمَةٌ عَلَى أَنَّهَا تَعُمُّ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ إِلَّا فِي أَحْكَامٍ مَعْلُومَةٍ.
وَالْأُمِّيُّونَ: الَّذين لَا يقرؤون الْكِتَابَةَ وَلَا يَكْتُبُونَ، وَهُوَ جَمْعُ أُمِّيٍّ نِسْبَةً إِلَى الْأُمَّةِ، يَعْنُونَ بِهَا أُمَّةَ الْعَرَبِ لِأَنَّهُمْ لَا يَكْتُبُونَ إِلَّا نَادرا، فَغلبَتْ هَذَا التَّشْبِيهُ فِي الْإِطْلَاقِ عِنْدَ الْعَرَبِ حَتَّى صَارَتْ تُطْلَقُ عَلَى مَنْ لَا يَكْتُبُ وَلَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ، قَالَ تَعَالَى فِي ذِكْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٧٨].
وَأُوثِرَ التَّعْبِيرُ بِهِ هُنَا تَوَرُّكًا عَلَى الْيَهُودِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقْصِدُونَ بِهِ الْغَضَّ مِنَ الْعَرَبِ وَمن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَهْلًا مِنْهُمْ فَيَقُولُونَ: هُوَ رَسُولُ الْأُمِّيِّينَ وَلَيْسَ رَسُولًا إِلَيْنَا. وَقَدْ
قَالَ ابْن صياد للنَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَالَ لَهُ: «أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ». أَشْهَدُ أَنَّكَ
لِبَعْضٍ:
وَدٌّ، وَسُوَاعٌ، وَيَغُوثُ، وَيَعُوقُ، وَنَسْرٌ، هَذِهِ أَصْنَامُ قَوْمِ نُوحٍ، وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ أَسْمَاءَهَا غَيْرُ جَارِيَةٍ عَلَى اشْتِقَاقِ الْكَلِمَاتِ الْعَرَبِيَّةِ، وَفِي وَاوِ (وَدٍّ) لُغَتَانِ لِلْعَرَبِ مِنْهُمْ مَنْ يَضُمُّ الْوَاوَ، وَبِهِ قَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْتَحُ الْوَاوَ وَكَذَلِكَ قَرَأَ الْبَاقُونَ.
روى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «وَدٌّ وَسُوَاعٌ وَيَغُوثُ وَيَعُوقُ وَنَسْرٌ: أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ أَنْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ فَفَعَلُوا، فَلَمْ تُعْبَدْ حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وَتَنَسَّخَ الْعِلْمُ عُبِدَتْ»، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ: هِيَ أَسْمَاءُ أَبْنَاءِ خَمْسَةٍ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَانُوا عُبَّادًا. وَعَنِ الْمَاوَرْدِيِّ أَنْ وَدًّا أَوَّلُ صَنَمٍ مَعْبُودٍ.
وَالْآيَةُ تَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ الْأَنْصَابَ عُبِدَتْ قَبْلَ الطُّوفَانِ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ هَذِهِ الْأَصْنَامَ أُقِيمَتْ لِبَعْضِ الصُّلَحَاءِ مِنْ أَوْلَادِ آدَمَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانُوا أَصْنَامًا بَيْنَ زَمَنِ آدَمَ وَزَمَنِ نُوحٍ.
وَلَا يَلْتَئِمُ هَذَا مَعَ حُدُوثِ الطُّوفَانِ إِذْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ جَرَفَهَا وَخَلَصَ الْبَشَرُ مِنَ الْإِشْرَاكِ بَعْدَ الطُّوفَانِ، وَمَعَ وُجُودِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ فِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ إِلَى زَمَنِ الْبِعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، فَقَدْ كَانَ فِي دَوْمَةِ الْجَنْدَلِ بِلَادِ كَلْبٍ صَنَمٌ اسْمُهُ (وَدٌّ). قِيلَ كَانَ عَلَى صُورَةِ رَجُلٍ وَكَانَ مِنْ صُفْرٍ وَرَصَاصٍ وَكَانَ عَلَى صُورَةِ امْرَأَةٍ، وَكَانَ لِهُذَيْلٍ صَنَمٌ اسْمُهُ (سُوَاعٌ) وَكَانَ لِمُرَادٍ وَغُطَيْفٍ (بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ وَطَاءٍ مُهْمَلَةٍ) بَطْنٍ مِنْ مُرَادٍ بِالْجَوْفِ عِنْدَ سَبَأٍ صَنَمٌ اسْمُهُ يَغُوثَ، وَكَانَ أَيْضًا لِغَطَفَانَ وَأَخَذَتْهُ (أَنْعُمُ وَأَعْلَى) وَهُمَا مِنْ طَيِّءٍ وَأَهْلُ جَرَشٍ مِنْ مَذْحِجٍ فَذَهَبُوا بِهِ إِلَى مُرَادٍ فَعَبَدُوهُ، ثُمَّ إِنَّ بَنِي نَاجِيَةَ رَامُوا نَزْعَهُ مِنْ أَعْلَى وَأَنْعُمَ فَفَرُّوا بِهِ إِلَى الْحُصَيْنِ أَخِي بَنِي الْحَارِثِ مِنْ خُزَاعَةَ. قَالَ أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ: رَأَيْتُ يَغُوثَ مِنْ رَصَاصٍ وَكَانُوا يَحْمِلُونَهُ عَلَى جَمَلٍ أَحْرَدَ (بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، أَيْ يَخْبِطُ بِيَدَيْهِ إِذَا مَشَى) وَيَسِيرُونَ مَعَهُ وَلَا يُهَيِّجُونَهُ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَبْرُكُ فَإِذَا بَرَكَ نَزَلُوا وَقَالُوا: قَدْ رَضِيَ لَكُمُ الْمَنْزِلَ فَيَضْرِبُونَ عَلَيْهِ بِنَاءً يَنْزِلُونَ حَوْلَهُ.
وَكَانَ يَغُوثُ عَلَى صُورَةِ أَسَدٍ.
وَكَانَ لِهَمْدَانَ صَنَمٌ اسْمُهُ يَعُوقَ وَهُوَ عَلَى صُورَةِ فَرَسٍ، وَكَانَ لِكَهْلَانَ مِنْ سَبَأٍ ثُمَّ تَوَارَثَهُ بَنُوهُ حَتَّى صَارَ إِلَى هَمْدَانَ.
وَقَالَ حَسَّانُ:
يَسْقُونَ مَنْ وَرَدَ الْبَرِيضَ عَلَيْهِمُ بَرَدَى يُصَفِّقُ بِالرَّحِيقِ السَّلْسَلِ
وَتَنَافُسُهُمْ فِي الْخَمْرِ مَشْهُورٌ مِنْ عَوَائِدِهِمْ وَطَفَحَتْ بِهِ أَشْعَارُهُمْ. كَقَوْلِ لَبِيَدٍ:
أَغْلِي السِّبَاءَ بِكُلَّ أَدْكَنِ عَاتِقٍ أَوْ جَوْنَةٍ قُدِحَتْ وَفُضَّ خِتَامُهَا
وتَسْنِيمٍ عَلَمٌ لَعَيْنٍ فِي الْجَنَّةِ مَنْقُولٌ مِنْ مَصْدَرِ سَنَمَ الشَّيْءُ إِذَا جَعَلَهُ كَهَيْئَةِ السَّنَامِ.
وُوَجَّهُوا هَذِهِ التَّسْمِيَةَ بِأَنَّ هَذِهِ الْعَيْنَ تَصُبُّ عَلَى جِنَانِهِمْ مِنْ عُلُوٍّ فَكَأَنَّهَا سَنَامٌ. وَهَذَا الْعَلَمُ عَرَبِيُّ الْمَادَّةِ وَالصِّيغَةِ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا عِنْدَ الْعَرَبِ فَهُوَ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَلِذَا قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ لَمَّا سُئِلَ عَنْهُ: «هَذَا مِمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السَّجْدَة: ١٧]، يُرِيدُ لَا يَعْلَمُونَ الْأَشْيَاءَ وَلَا أَسْمَاءَهَا إِلَّا مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ. وَلِغَرَابَةِ ذَلِكَ احْتِيجَ إِلَى تَبْيِينِهِ بِقَوْلِهِ: عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ، أَيْ حَالُ كَوْنِ التَّسْنِيمِ عينا يشرب مِنْهَا الْمُقَرَّبُونَ.
والْمُقَرَّبُونَ: هُمُ الْأَبْرَارُ، أَيْ فَالشَّارِبُونَ مِنْ هَذَا الْمَاءِ مُقَرَّبُونَ.
وَبَاءُ يَشْرَبُ بِهَا إِمَّا سَبَبِيَّةٌ، وَعُدِّيَ فِعْلُ يَشْرَبُ إِلَى ضَمِيرِ الْعَيْنِ بِتَضْمِينِ يَشْرَبُ مَعْنَى: يَمْزُجُ، لِقَوْلِهِ: وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ أَيْ يَمْزُجُونَ الرَّحِيقَ بِالتَّسْنِيمِ. وَإِمَّا بَاءُ الْمُلَابَسَةِ وَفِعْلُ يَشْرَبُ مُعَدًّى إِلَى مَفْعُولٍ مَحْذُوفٍ وَهُوَ الرَّحِيقُ، أَيْ يَشْرَبُونَ الرَّحِيقَ مُلَابِسِينَ لِلْعَيْنِ، أَيْ مُحِيطِينَ بِهَا وَجَالِسِينَ حَوْلَهَا. أَوِ الْبَاءُ بِمَعْنَى (مِنَ) التَّبْعِيضِيَّةِ وَقَدْ عَدَّهُ الْأَصْمَعِيُّ وَالْفَارِسِيُّ وَابْنُ قُتَيْبَةَ وَابْنُ مَالِكٍ فِي مَعَانِي الْبَاءِ، وَيُنْسَبُ إِلَى الْكُوفِيِّينَ.
وَاسْتَشْهَدُوا لَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِبَيِّنٍ فَإِنَّ الِاسْتِعْمَالَ الْعَرَبِيَّ يَكْثُرُ فِيهِ تَعْدِيَةُ فِعْلِ الشُّرْبِ بِالْبَاءِ دُونَ (مِنْ)، وَلَعَلَّهُمْ أَرَادُوا بِهِ مَعْنَى الْمُلَابَسَةِ، أَوْ كَانَتِ الْبَاءُ زَائِدَةً كَقَوْلِ أَبِي ذُؤَيْبٍ يَصِفُ السَّحَابَ:


الصفحة التالية
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
شَرِبْنَ بِمَاءِ الْبَحْرِ ثُمَّ تَرَفَّعَتْ مَتَى لُجَجٍ خُضْرٍ لَهُنَّ نئيج